هذا بابُالمفعولِ فيه, وهو المُسَمَّى ظَرْفاً
الظرفُ: ما ضُمِّنَ معنَى "في" باطِّرادٍ؛ من اسمِ وَقْتٍ,أو اسْمِ مكانٍ, أو اسْمٍ عرَضَتْ دَلالتُه على أحَدِهما, أو جارٍ مَجْراهُ.
فالمكانُ والزمَانُ كـ "امْكُثْ هنا أَزْمُناً".
والذي عَرَضَتْ دَلالتُه على أحدِهما أربعةٌ: أسماءُ العَدَدِ المُميَّزِة ِبهما كـ: "سِرْتُ عِشرينَ يَوماً, ثَلاِثينَ فَرْسخاً", وما أُفِيدَ به كُليَّةُ أحدِهما أو جُزئيَّتُه كـ: "سرتُ جميعَ اليومِ جميعَ الفرسخِ", أو: "كُلَّ اليومِ كلَّ الفَرْسخِ", أو: "بَعْضَ اليومِ بعضَ الفَرْسخِ", أو: "نِصْفَ اليومِ نِصْفَ الفَرْسَخِ".
وما كانَ صِفةً لأحدِهما كـ: "جَلَسْتُ طَويلاً من الدهْرِ شَرْقِيَّ الدارِ".
وما كانَ مَخْفوضاً بإضافةِ أحدِهما, ثم أُنيبَ عنه بعدَ حذفِه.
والغالبُ في هذا النائبِ أنْ يكونَ مصدراً, وفي المَنوبِ عنه أنْ يكونَ زماناً, ولا بُدَّ من كونِه مُعيَّناً لوقتٍ أو لمقدارٍ, نحوَ: "جِئْتُكَ صلاةَ العصرِ", أو: "قُدُومَ الحاجِّ", و:"أنْتَظِرُكَ حَلْبَ ناقةٍ", أو: "نَحْرَ جَزورٍ".
وقد يكونُ النائبُ اسمَ عَينٍ نحوَ: "لا أكُلِّمُه القَارِظَيْنِ"([1]) والأصْلُ: "مُدَّةَ غَيْبَةِ القارِظَيْنِ".
وقد يكونُ المَنوبُ عنه مكاناً نحوَ: "جَلَسْتُ قُرْبَ زيدٍ"؛ أي: مَكانَ قُرْبِه.
والجاري مجْرَى أحدِهما: ألفاظٌ مسموعةٌ تَوسَّعوا فيها, فنَصَبوها على تَضمِينِ معنَى "في"؛ كقولِهم: "أحَقًّا أنَّكَ ذَاهِبٌ". والأصلُ: أَفِي حَقٍّ. وقد نَطَقوا بذلك قالَ:
256- أَفِي الحَقِّ أَنِّي مُغْرَمٌ بِكِ هَائِمٌ([2]) وهي جاريةٌ مجْرَى ظرفِ الزمانِ دونَ ظَرْفِ المكانِ؛ ولهذا تقَعُ خَبراً عن المصادرِ دونَ الجُثَثِ.
ومثلُه: "غيرَ شَكٍّ", أو: "جَهْدَ رَأْيِي", أو: "ظَنًّا مِنِّي أنَّك َقائِمٌ"([3]).
وخرَجَ عن الحدِّ ثلاثةُ أمورٍ:
أحدُها: نحوُ: {وتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ}([4])، إذا قُدِّرَ بـ"في"؛ فإنَّ النكاحَ ليسَ بواحدٍ مِمَّا ذكَرْنا([5]).
والثاني: نحوُ: {يَخَافُونَ يَوْماً}([6]) ونحوُ: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}([7])؛فإنَّهما ليسَا على معنَى: "في", فانتصابُهما على المفعولِ به, ونَاصِبُ {حَيْثُ} "يَعْلَمُ" محذوفاً؛ لأنَّ اسمَالتفضيلِ لا يَنْصِبُ المَفْعولَ بهِ إجماعاً([8]).
والثالثُ: نحوُ: "دَخَلْتُ الدَّارَ", و:"سَكَنْتُ البيتَ", فانتصابُهما إنَّما هو على التوَسُّعِ بإسقاطِ الخافضِ, لا على الظرفيَّةِ؛ فإنَّه لا يَطَّرِدُ تَعدِّي الأفعالِ إلى الدارِ والبيتِ على معنَى "في", لا تقولُ: "صَلَّيْتُ الدَّارَ" ولا "نِمْتُ البيتَ".
فصلٌ: وحكمُه النصْبُ, وناصبُه اللفظُ الدالُّ على المعنَى الواقعِ فيه؛ ولهذا اللفظِ ثلاثُ حالاتٍ:
إحداها: أنْ يكونَ مذكوراً؛ كـ "امْكُثْ هنا أَزْمُناً", وهذا هو الأصلُ([9]).
والثانيةُ: أنْ يكونَ مَحْذوفاً جَوازاً؛ وذلك كقولِكَ: "فَرْسَخَيْنِ". أو: "يَوْمَ الجُمُعةِ". جواباً لمَن قالَ: "كَمْ سِرْتَ"؟ أو: "مَتَى صُمْتَ"؟.
والثالثةُ: أنْ يكونَ محذوفاً وُجوباً, وذلك في سِتِّ مسائلَ, وهي: أنْيقَعَ صِفَةً؛ كـ: "مَرَرْتُ بطَائِرٍ فوقَ غُصْنٍ", أو صِلَةً؛ كـ: "رأيْتُ الذي عندَك", أو حالاً؛ كـ: "رأيتُ الهلالَ بينَ السحابِ", أو خبراً؛ كـ: "زيدٌ عندَكَ", أو مُشتغَلاً عنه؛ كـ: "يومَ الخميسِ صُمْتُ فيهِ", أو مسموعاً بالحذفِ لا غيرُ([10])؛كقولِهم: "حِينَئذٍ الآنَ"([11]) أي: كانَ ذلك حينَئذٍ, واسْمَعِ الآنَ.
فصلٌ: أسماءُ الزمانِ كُلُّها صالحةٌ للانتصابِ على الظرفيَّةِ, سواءٌ في ذلك مُبْهَمُها؛ كحِينٍ ومُدَّةٍ, ومُخَتَصُّها كيومِ الخميسِ, ومَعْدُودُها؛ كيوميْنِ وأُسبوعيْنِ([12]).
والصالِحُ لذلك من أسماءِ المكانِ نوعانِ:
أحَدُهما: المُبْهَمُ([13])،وهو ما افتقَرَ إلى غيرِه في بيانِ صُورَةِ مُسمَّاهُ؛ كأسماءِ الجهاتِ نحوَ: أمامَ ووراءَ ويَمِينَ وشِمَالَ وفَوْقَ وتَحْتَ, وشِبْهُها في الشِّياعِ كناحيةٍ وجانبٍ ومكانٍ, وكأسماءِ المقاديرِ؛ كميلٍ وفَرْسَخٍ وبَرِيدٍ.
والثاني: ما اتحدَتْ مادَّتُه ومادَّةُ عاملِه؛ كـ: "ذَهَبْتُ مَذْهَبَ زَيْدٍ", و:"رَمَيْتُ مَرْمَى عَمْرٍو", وقولِه تعالى: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ للسَّمْعِ}([14]).
وأمَّا قولُهم: "هو مِنِّي مَقْعَدَ القابلةِ", و:"مَزْجَرَ الكلبِ", و:"مَناطَ الثُّرَيَّا". فشاذٌّ؛ إذ التقديرُ: هو مِنِّي مُستقِرٌّ في مَقْعَدِ القابلةِ, فعاملُه الاستقرارُ, ولو أُعْمِلَ في المَقْعَدِ قَعَدَ, وفي المَزْجَرِ زجَرَ وفي المَناطِ نَاطَ, لم يَكُنْ شَاذًّا([15]).
فصلٌ: الظرفُ نوعانِ:
مُتصَرِّفٌ وهو: ما يُفارِقُ الظرفيَّةَ إلى حالةٍ لا تُشْبِهُها؛ كأنْ يُستعمَلَ مبتدأً أو خبراً أو فاعلاً أو مفعولاً أو مضافاً إليه؛ كاليومِ, تقولُ: "اليَوْمُ يَوْمٌ مُبارَكٌ", و:"أعْجَبَنِي اليومُ", و:"أحْبَبْتُ يومَ قُدُومِكَ", و:"سرتُ نِصْفَ اليومِ".
وغيرُ مُتصَرِّفٍ, وهو نوعانِ: ما لا يُفارِقُ الظرفيَّةَ أصلاً كـ: "قَطُّ وعِوَضُ"([16]) تقولُ: "مَا فَعَلْتُهُ قَطُّ", و:"لا أفْعَلُه عِوَضُ", ومالا يخرُجُ عنها إلاَّ بدخولِ الجارِّ عليه نحوَ: قبلُ وبعدُ ولَدُنْ وعندَ, فيُحْكَمُ عليهنَّ بعدمِ التصَرُّفِ معَ أنَّ "مِن" تدخُلُ عليهنَّ؛ إذ لم يَخرُجْنَ عن الظرفيَّةِ إلاَّ إلى حالةٍ شبيهةٍ بها؛ لأنَّ الظرفَ والجارَّ والمجرورَ أخوانِ.
([1]) القَارِظانِ: مُثَنَّى قَارِظٍ، وأصلُه اسمُ فاعلٍ, فعلُه قَرَظَهُ يَقْرِظُه قَرْظاً؛ بوزنِ ضرَبَه يَضرِبُه ضرْباً, وأصلُ القارظِ: الذي يَجْتَنِي القَرَظَ – بفتحِ القافِ والراءِ جميعاً– وهو ورَقُ شَجَرٍ يُدْبَغُ به الجِلْدُ، ثم أُطْلِقَ "القَارِظانِ" على رَجُليْنِ من عَنَزَةَ, خرَجَ كلُّ واحدٍ منهما يَجْتنِي القَرَظَ فلم يَعُدْ، فضرَبَ العربُ بهما المثلَ للأمرِ المَأْيُوسِ منه، انْظُرْ إلى قولِ أبي ذُؤَيبٍ الهُذَلِيِّ:
فتِلْكَ التي لا يَبْرَحُ القلبَ حُبُّهَا = وَلاَ ذِكْرُها ما أَرْزَمَتْ أُمَّ حَائِلِ
وحَتَّى يَؤُوبَ القَارِظَانِ كِلاهُما = ويُنْشَرَ فِي القَتْلَى كُلَيْبٌ لوَائِلِ
"أرْزَمَتْ: حَنَّتْ وصَوَّتَتْ، وأمَّ حائِلِ: الناقةُ ذاتُ الوَلَدِ، وهي لا تَتْرُكُ الحَنِينَ على وَلَدِها، وكُلَيْبُ بنُ ربيعةَ الذي قَتَلَه جَسَّاسُ بنُ مُرَّةَ, فقامَتْ بسببِ مَقْتلِه حربُ البَسوسِ، وهو لا يعودُ إلى الحياةِ بعدَ مَقْتلِه، ضرَبَ لدوامِ حُبِّه وذِكْرِه إيَّاها ثلاثةَ أمثالٍ: الأوَّلُ: حَنِينُ النَّاقَةِ على وَلَدِها، والثاني: دَوامُ غَيْبةِ كُلَيْبٍ، والثالثُ: دوامُ غَيْبةِ القارظَيْنِ, وقدْ ضرَبَ المثلَ بأحدهما بِشْرُ بنُ أبي خازمٍ في قولِه:
فرَجِّي الخَيْرَ وانْتَظِرِي إِيَابِي = إِذَا مَا القَارِظُ العَنَزِيُّ آبَا
قالَ ابنُ سِيدَه: (وَلا آتِيكَ القَارِظَ العَنَزِيَّ، أي: لا آتِيكَ مَا غابَ القارِظُ العَنَزِيُّ، فأقامَ القَارِظَ العَنَزِيَّ مُقامَ الدهْرِ، ونصَبَه على الظرْفِ، وهذا اتِّساعٌ، وله نَظَائِرُ). اهـ.
([2]) 256-هذا الشاهدُ من كلامِ فائدِ بنِ المُنذِرِ القُشَيْرِيِّ، والذي ذكَرَه المُؤلِّفُ صَدْرُ بيتٍ من الطويلِ، وعَجُزُه قولُه:
*وأَنَّكِ لا خَلٌّ هَوَاكِ وَلاَ خَمْرُ*
اللغةُ: (أَفِي الحَقِّ) هذا الاستعمالُ يدُلُّ على أنَّ "حَقًّا" وإنْ كانَ أصلُها مصدرَ (حَقَّ الشيءُ): إذا ثَبَتَ – قد استُعْمِلَ ظرْفاً؛ بدليلِ دخولِ (فِي) التي يَكُونُ الظرْفُ على معناها، ولكَ في (أنَّ) المُؤكِّدَةِ الواقعةِ بعدَها مذهبانِ: أحدُهما أنْ تجعَلَها هي ومعموليَها في تأويلِ مصدرِ فاعلٍ بالظرفِ أو بالجارِّ والمَجرورِ؛ لاعتمادِه على الاستفهامِ، وهذا أحَدُ وجْهَيْنِ جائزيْنِ عندَ سِيبَوَيْهِ والأخْفَشِ والكُوفِيِّينَ، والثاني: أنْ تجعَلَ الظرفَ أو الجارَّ والمجرورَ مُتعَلِّقاً بمحذوفٍ, خَبرٌ مُقدَّمٌ، وأنَّ ومَعمولَيْها في تأويلِ مَصْدرٍ مرفوعٍ, مبتدأٌ مُؤخَّرٌ، وهذا مذهَبُ الخليلِ بنِ أحمدَ، وهو الوجْهُ الثاني عندَ سِيبَوَيْهِ، ونظيرُه أنْ تقولَ: أغَداً الرَّحِيلُ؟ أو تقولَ: أبعدَ غَدٍ لِقَاؤُنا؟ وسيأتي لهذا الكلامِ مزيدُ إيضاحٍ في بيانِ الاستشهادِ في البيتِ.
الإعرابُ: (أَفِي الحَقِّ) الهمزةُ للاستفهامِ، "في الحَقِّ"، جارٌّ ومجرورٌ مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ, خَبرٌ مُقدَّمٌ, (أَنِّي) أنَّ: حرفُ توكيدٍ ونصبٍ، وياءُ المُتكلِّمِ اسمُه, (مُغْرَمٌ) خبرُ أنَّ, (بِكِ) جارٌّ ومجرورٌ مُتعلِّقٌ بـ"مُغْرَمٌ" (هَائِمٌ) خبرٌ ثانٍ؛ لأنَّ، وأنَّ وما دخَلَتْ عليهِ في تأويلِ مَصْدَرٍ مرفوعٍ, مبتدأٌ مُؤخَّرٌ، على مذهبِ الخليلِ الذي بيانُه في لُغةِ البيتِ, وعلى أحدِ وجهيْنِ من وجوهِ الإعرابِ جائزيْنِ في هذا التركيبِ, (وأنَّكِ) الواوُ حرفُ عطفٍ، أنَّ: حرفُ توكيدٍ ونصبٍ، وضميرُ المخاطَبَةِ اسمُه, (لا) نافيةٌ, (خَلٌّ) خبرُ أنَّ, (لدَيَّ) لَدَى: ظَرْفٌ مُتعَلِّقٌ بمحذوفٍ[يلاحظ أن لدي ليست في الشاهد.فليراجع], صِفةٌ لخَلٍّ، وياءُ المُتكلِّمِ مضافٌ إليهِ, (ولا) الواوُ حرفُ عطفٍ، ولا: زائدةٌ لتأكيدِ النفْيِ, (خَمْرُ) معطوفٌ على خَلٍّ، وأنَّ وما دخَلَتْ عليهِ في تأويلِ مَصْدَرٍ مرفوعٍ مَعْطوفٍ على المصدرِ المُنْسَبِكِ من أنَّ المُؤكِّدِ السابقةِ.
الشاهدُ فيه: اعلَمْ أنَّ بيانَ الاستشهادِ بهذا البيتِ يَسْتَدْعِي أنْ نُقدِّمَ لك إيضاحَ مسألةٍ, حَاصِلُها أنَّه قد ورَدَ عن العربِ نحوُ قولِكَ: "أحَقًّا أنَّكَ فعَلَتْ كذا؟" فمِن ذلك قَوْلُ ابنِ الدُّمَيْنَةِ:
أحَقًّا – عِبادَ اللهِ– أنْ لَسْتُ صَادِراً = وَلاَ وَارِداً إِلاَّ عَلَى رَقِيبُ
وقولُ النابغةِ الجَعْدِيِّ:
ألاَ أَبْلِغْ بَنِي خَلَفٍ رَسُولاً = أحَقًّا أنَّ أخْطَلَكُمْ هَجَانِي
ومن ذلك قولُ الأسودِ بنِ يَعْفُرَ:
أحَقًَّا – بَنِي أبْنَاءِ سلمى بنِ جَنْدَلٍ– = تَهَدُّدُكُمْ إِيَّايَ وَسْطَ المَجَالِسِ
ومن ذلك قولُ المُمَزَّقِ العَبْدِيِّ، واسمُه شاسُ بنُ نَهَارٍ:
أحَقًّا – أَبَيْتَ اللَّعْنَ– أنَّ ابنَ فَرْتَنَا = -عَلَى غَيْرِ إجْرَامٍ– بريقي مشرقي
وقد اتَّفَقَ العلماءُ على أنَّ أصلَ "حَقًّا" مصدرٌ، ثم اخْتَلفوا فيما وراءَ ذلك:
فذهَبَ أبو العبَّاسِ المُبرِّدُ إلى أنَّه باقٍ على مَصْدرِيَّتِه، وذهَبَ الخليلُ وسِيبَوَيْهِ وجمهورُ الكُوفِيِّينَ, وتَبِعَهم مُحقِّقو المتأخِّرينَ؛ مثلُ ابنِ مالكٍ والرَّضِيُّ والمُصَنِّفُ- إلى أنَّه خرَجَ عن مَصْدرِيَّتِه وصارَ ظرْفاً، فانتصابُه عندَ المُبرِّدِ على أنَّه مفعولٌ مُطلَقٌ منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ، وعندَ سِيبَوَيْهِ ومَن تابعَه هو منصوبٌ على أنه ظرفٌ.
والذي ذهَبَ إليه سِيبَوَيْهِ ومَن معَه أوْلَى وأحقُّ بالاتِّباعِ، والذي يدُلُّ على ذلك أمرانِ: الأولُ: أنَّه لو كانَ مصدراً لكانَ المعنَى: أَيَثْبُتُ ثُبوتاً فِعْلُكَ؟ فيكونُ المُتكَلِّمُ مُستفهِماً عن ثُبوتِ هذا الأمرِ وحصولِه، وليسَ هذا هو المرادَ؛ لأنَّه يَعْلَمُ حصولَه، ولكنَّه يُنْكِرُ أنْ يكُونَ حصولُه من الحقِّ الذي هو ضِدُّ الباطِلِ، والثاني: تصريحُ العربِ معَه بـ"في" الدالَّةِ على الظرفيَّةِ؛ كما في هذا البيتِ الذي معَنا، وكما في قولِ أبي زُبَيدٍ الطائيِّ:
أَفِي حَقٍّ مُواسَاتِي أخَاكُمْ = بِمَا لِي ثُمَّ يَظْلِمُنِي السَّرِيسُ
وكما في قولِ الآخرِ:
أفِي الحَقِّ– إنْ دَارُ الرَّبابِ تَبَاعَدَتْ = أوِ انْبَتَّ حَبْلٌ– أنَّ قَلْبَكَ طَائِرُ
و(أنَّ) معَ اسمِها وخبرِها في تأويلِ مصدرٍ اتِّفاقاً، وقد اخْتَلَفوا في إعرابِ هذا المصدرِ في نحوِ: (أَحَقًّا أنَّكَ فَعَلْتَ؟) فذهَبَ المُبرِّدُ إلى أنه فاعلٌ للمصدرِ، وذهَبَ الخليلُ فيما حكاهُ عنه سِيبَوَيْهِ – إلى أنَّ (حَقًّا) ظرفٌ مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ, خَبرٌ مُقدَّمٌ، و(أنَّ) ومَعْموليْها في تأويلِ مصدرٍ, مبتدأٌ مُؤخَّرٌ، وارْتَضَى سِيبَوَيْهِ أنَّه إنْ كانَ (حَقًّا) قد اعْتَمَدَ على استفهامٍ, جازَ أنْ يكُونَ المصدرُ المُؤَوَّلُ فاعلاً به، وأنْ يكُونَ كما ذكَرَ الخليلُ، وإنْ لم يَعْتَمِدْ تَعيَّنَ أنْ يكُونَ (حَقًّا) مُتعَلِّقاً بمحذوفٍ, خَبرٌ مُقدَّمٌ، ومنه تَعْلَمُ ما في كلامِ الشيخِ خالدٍ في تحقيقِ هذه المذاهبِ.
([3]) وذلك إذا قُلْتَ: "جَهْدَ رَأْيِي أنَّكَ قَائِمٌ". فجَهْدَ رَأْيِي: منصوبٌ على الظرفيَّةِ الزمانيَّةِ على إسقاطِ"في"؛ تَوَسُّعاً، والأصْلُ: في جَهْدِ رأْيِي قِيامُكَ، والكلامُ فيه مثلُ الكلامِ في "أحَقًّا أنَّكَ ذاهبٌ", وكذلك إذا قُلْتَ: "غيرَ شَكٍّ أنَّكَ مَرْضِيٌّ الخُلُقِ". أو قلتَ: "ظَنًّا مِنِّي أنَّكَ مُؤَدَّبٌ". فكلٌّ من (غَيْرَ شَكٍّ) و(ظَنًّا مِنِّي) منصوبٌ على الظرفيَّةِ الزمانيَّةِ بتقديرِ "في"؛ تَوسُّعاً، والأصلُ: في غَيْرِ شَكٍّ، وفي ظَنٍّ مِنِّي، والكلامُ فيهما كالكلامِ فيما قبلَهما.
([4]) سورة النساءِ، الآية: 127.
([5]) يريدُ أنَّ النكاحَ الذي يَؤُولُ إليهِ {أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} ليسَ بزَمانٍ ولا مكانٍ، أمَّا إذا كانَ التقديرُ: عن أنْ تَنْكِحُوهُنَّ؛ فإنَّه لا يكونُ مِمَّا نحن بصَدَدِه؛ إذ ليسَ معَه (في), لا لفظاً ولا تقديراً.
([6]) سورة الإنسانِ، الآية: 7.
([7]) سورة الأنعامِ، الآية: 124.
([8]) اعْتَرَضوا على هذا الكلامِ من وجهَيْنِ: الأولُ أنَّ قولَهم: (أفْعَلُ التفضيلِ لا ينصِبُ المفعولَ بهِ إجماعاً). غيرُ مُسَلَّمٍ، وقد قالَ صاحبُ كتابِ (البَديعِ): (غَلِطَ مَن قالَ: إِنَّ اسمَ التفضيلِ لا يَعْمَلُ في المفعولِ به؛ لورودِ السماعِ بذلك؛ كقولِه تعالى: {هُوَ أهْدَى سَبِيلاً}. وليسَ تَمْيِيزاً؛ لأنَّه ليسَ فَاعِلاً في المعنَى, كما هو في: "زَيْدٌ أحْسَنُ وَجْهاً", وقالَ العَبَّاسُ بنُ مِرْداسٍ:
*وأضْرَبُ مِنَّا بالسُّيُوفِ القَوَانِسَا*
والوجْهُ الثاني: أنَّ قولَهم: ("حيثُ" مفعولٌ به, لا ظَرْفٌ). فيه إخراجٌ"حَيْثُ" عن طبيعتِها؛ لأنَّها لا تَتصَرَّفُ، وجعْلُها مَفْعولاً نوعٌ من التصَرُّفِ، ولماذا لا يقالُ: إنَّ المرادَ أنَّه سبحانَه يعلَمُ الفضلَ والطهارةَ والصلاحيةَ التي في مكانِ الرسالةِ؟ فتَبْقَى "حيثُ" ظرفاً على أصلِها.
([9]) وقد يكونُ اللفظُ الدالُّ على المعنَى الواقعِ فيه, فِعْلاً، وقدْ يَكُونُ اسمَ فِعْلٍ، وقد يكونُ مَصْدراً، وقدْ يكونُ وَصْفاً.
([10]) أنكَرَ المُؤلِّفُ في المُغْنِي صِحَّةَ قولِهم: (لا غَيْرُ). وأوجَبَ أنْ يُقالَ: ليسَ غيرُ.
([11]) هذا مثلٌ، يُقالُ لمَن يَذْكُرُ أمْراً تقادَمَ عَهْدُه: (حِينَئذٍ الآنَ). و(حينَ) منصوبٌ لفظاً بفعلٍ محذوفٍ، وهو مضافٌ, و(إذْ) مضافٌ إليه، و(الآنَ) مَبنِيٌّ على الفتحِ في محلِّ نصبٍ بفعلٍ آخرَ محذوفٍ، وتقديرُ الكلامِ: كانَ ما تَذْكُرُه حينَ إذْ كانَ كذا، واسْمَعِ الآنَ ما أقولُه. فهما جُمْلتانِ، وحينَئذٍ مُقتطِعةٌ من جملةٍ، والآنَ مُقتطِعةٌ من جملةٍ أخْرَى، كما سَمِعْتَ في تقديرِ أصلِ الكلامِ.
([12]) عرَّفوا المُختَصَّ من ظرْفِ الزمانِ بأنَّه: ما يقَعُ جواباً لمتَى؛ كيومِ الخميسِ، وعرَّفوا المعدودَ منه بأنه: ما يقَعُ جواباً لـ"كَمْ", كيوميْنِ وثلاثةِ أيَّامٍ، وأسبوعٍ، والمُبْهَمُ منه ما لا يكونُ جَواباً لواحدٍ من السؤاليْنِ المذكوريْنِ، ومثالُه: حينَ ومُدَّةَ ووَقْتَ، وبَقِيَ مِمَّا يَنْتَصِبُ من اسمِ الزمانِ على الظرفيَّةِ ما اشْتُقَّ من المصدرِ؛ كمجلسِ زَيْدٍ ومَقْعَدِهِ، بمعنَى زمانِ جُلوسِه وزَمانِ قُعودِه.
([13]) قالَ أبو البَقاءِ: الإبهامُ يحصُلُ في المكانِ من وجهيْنِ: الأولُ: ألاَّ يَلْزَمَ مُسَمَّاهُ، ألا تَرَى أنَّ خَلْفَكَ قُدَّامٌ لغيرِكَ، وأنَّكَ قدْ تَتحوَّلُ عن تلك الجِهةِ فيَصِيرُ ما كانَ خَلْفَكَ جِهَةً أخْرَى لك؛ لأنَّ الجِهاتِ تَخْتَلِفُ باختلافِ الكائنِ فيها، فهي جهاتٌ له, وهو في وضْعٍ خَاصٍّ، وليسَ لكلِّ واحدةٍ منها حقيقةٌ مُنْفرِدَةٌ بنَفْسِها.
والوجْهُ الثاني: أنَّ هذهِ الجهاتِ ليسَ لها أمَدٌ مَعْلومٌ تَنْتَهِي عندَه، فخَلفَكَ: اسْمٌ لِمَا وراءَ ظَهْرِكَ إلى آخرِ الدنيا، وأمامَكَ: اسمٌ لِمَا قُدَّامَ وَجْهِكَ إلى آخرِ الدنيا، وهَلُمَّ جَرًّا.
([14]) سورة الجِنِّ، الآية: 9.
([15]) فإنْ قُلْتَ: فلماذا صَحَّ نصْبُ اسمِ الزمانِ على الظرفيَّةِ بجميعِ أنواعِه الثلاثةِ التي ذكَرَها المُؤلِّفُ، والرابعِ الذي زِدْتَه عليه؟ ولم يَصِحَّ نصْبُ اسمِ المكانِ إِلاَّ أنْ يكُونَ واحداً مِن النوعيْنِ اللذَيْنِ ذكَرَهما المُؤلِّفُ تَبَعاً لغيرِه من النحاةِ؟
فالجوابُ أنْ نقولَ لك: إنَّكَ تعلَمُ أنَّ الفعلَ مَوْضوعٌ للدَّلالةِ على الحَدَثِ بمادَّتِه؛ أي: حُروفِه التي يَتَألَّفُ منها, ويدُلُّ على الزمانِ بصِيغَتِه – أي: وَزْنِه- فالزمانُ جزءٌ من جزأيْنِ يَتألَّفُ منهما معنَى الفعلِ، وبعبارةٍ أخْرَى فالفعلُ يدُلُّ على الزمانِ بدَلالةِ التضمُّنِ، أمَّا المكانُ فلا يدُلُّ الفعلُ عليهِ, لا بالمطابقةِ, ولا بالتضَمُّنِ، لكنْ لَمَّا كانَ الفعلُ دَالاًّ على الحَدَثِ، وكانَ كُلُّ حَدَثٍ لا بُدَّ أنْ يقَعَ في مكانٍ مَا, لَزِمَ من ذلك أنْ يدُلَّ الفعلُ بدلالةِ الالتزامِ على مكانٍ مُبهَمٍ، فلَمَّا كانتْ دَلالةُ الفعلِ على الزمانِ دَلالةً تَضمُّنيَّةً قَوِيَ على أنْ يعمَلَ في جميعِ أنواعِ الزمانِ، ولَمَّا كانتْ دَلالةُ الفعلِ على المكانِ دَلالةً التزاميَّةً، وكانَ اللازِمُ هو دلالتَه على مكانٍ مُبْهَمٍ، لم يَقْوَ على العملِ إلاَّ في المكانِ المُبْهَمِ الذي يُشْعِرُ هو بهِ، ولَمَّا كانَ اتَّفاقُ اسمِ المكانِ المأخوذِ من المصدرِ معَ الفعلِ العاملِ فيه في أصْلِ المادَّةِ مُقوِيًّا للفعلِ على العملِ في هذا النوعِ- نصَبَه على الظرفيَّةِ المكانيَّةِ أيضاً، فافْهَمْ ذلكَ وتَدبَّرْهُ.
([16]) قَطُّ وعِوَضُ: ظَرْفانِ يَسْتغرقانِ الزمانِ؛ أمَّا قَطُّ فإنَّه يَسْتغرِقُ الماضِيَ، وأمَّا عِوَضُ فإنَّه يَستغرِقُ المستقبلَ، ولا يُستعملانِ إلاَّ بعدَ النفْيِ، وهما مَبنِيَّانِ؛ لشَبَهِهما بالحرفِ، وكانَ بِناؤُهما على حَرَكةٍ تَخَلُّصاً من التقاءِ الساكنيْنِ، وكانَ بِناءُ "قَطُّ" على الضمِّفي بعضِ اللُّغاتِ حَمْلاً على "قبلُ" و"بعدُ"، فأمَّا "عِوَضُ" فإنَّها تُبْنَى على الحركاتِ الثلاثِ؛ إذ لم تَكُنْ مُضافةً.