قالَ زَيْنُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ أبِي بَكْرٍ الرَّازِيُّ (ت:666هـ): (
سورة الناس
فإن قيل: كيف خص الناس بالذكر في قوله تعالى: (قل أعوذ بربّ النّاس) وهو رب كل شيء؟
قلنا: إنما خصهم بالذكر تشريفًا لهم وتفضيلا على غيرهم، لأنهم أهل العقل والتمييز، الثاني: إنه لما أمر بالاستعاذة من شرهم ذكر مع ذلك أنه ربهم ليعلم أنه هو الذي يعيذ من شرهم، الثالث: إن الاستعاذة وقعت من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي هو إلههم ومعبودهم، كما يستغيث بعض العبيد إذ اعتراه خطب بسيده ومخدومه وولى أمره.
فإن قيل: هل قوله تعالى: (من الجنّة والنّاس) بيان للذي يوسوس على أن الشيطان الموسوس ضربان جني وإنسي كما قال
تعالى: (شياطين الإنس والجنّ) أو بيان للناس الذي أضيفت الوسوسة إلى صدورهم، والناس المذكورة آخرًا بمعنى الإنس؟
قلنا: قال بعض أئمة التفسير: المراد المعنى الأول، كأنه قال: من شر الوسواس الجني، ومن شر الوسواس الإنسي، فهو استعاذة بالله تعالى من شر الموسوسين من الجنسين، وهو اختيار الزجاج، وفى هذا الوجه إطلاق لفظ الخناس على الإنسي، والنقل أنه اسم للجني.
وقال بعضهم: المراد المعنى الثاني، كأنه قال: من شر الوسواس الجني الذي يوسوس في صدور الناس جنهم وإنسهم، فسمى الجن ناسًا كما
[أنموذج جليل: 602]
سماهم نفرًا ورجالا في قوله تعالى: (أنّه استمع نفرٌ من الجنّ) وقوله تعالى: (يعوذون برجالٍ من الجنّ) فهو استعاذة بالله من شر الوسواس الذي يوسوس في صدور الجن كما يوسوس في صدور الإنس، وهو اختيار الفراء، والمراد بالجنة هنا الشياطين من الجن على الوجه الأول، ومطلق (الجن) على الوجه الثاني، لأن الشيطان منهم هو الذي يوسوس لا غيره، ومطلقهم يوسوس إليه، واختار الزمخشري الوجه الأول، وقال: ما أحق أن اسم الناس ينطلق على الجن، لأن الجن سموا جنًا لاجتنانهم: أي لاستتارهم، والناس سموا ناسًا لظهورهم من الإيناس وهو الإبصار.
كما سموا بشرًا لظهورهم من البشرة، ولو صح هذا الإطلاق لم يكن هذا المجمل مناسبًا لفصاحة القرآن، قال: وأجود منه أن يراد بالناس الأول الناسي كقوله تعالى: (يوم يدع الدّاع). وكما قرئ: (من حيث أفاض النّاس) ثم بين بالجنة والناس، لأن الثقلين هما الجنسان الموصوفان بنسيان حقوق الله عز وجل.
[أنموذج جليل: 603]