تفسير قول الله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة...}
قال الله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثةٍ وما من إلهٍ إلا إلهٌ واحدٌ وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذابٌ أليمٌ (73)أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفورٌ رحيمٌ (74) ما المسيح ابن مريم إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقةٌ كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون (75) قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعًا والله هو السميع العليم } [المائدة: 73-76].
تضمنت هذه الآيات الكريمات من الحجج القاطعة، والآيات البينات ما أظهر الله به بطلان ما اعتقدته طوائف من النصارى في عيسى بن مريم وأمه عليهما السلام، واتخاذهم إياهما إلهين من دون الله، وزعمهم أن الله ثالث ثلاثة.
وصرَّف اللهُ الآياتِ في خطابهم تنبيهاً وتعريفاً، وتبصيراً وتذكيراً، وترغيباً وترهيباً، ببيان بديع محكم، وإلزام بالحجة الظاهرة التي لا يردّها إلا مكابرٌ معاند.
ومن تأمّل هذه الآية الآيات بقلب حيّ منيب تبيّن له ما يفيد اليقين ببطلان ما زعمته طوائف كثيرة من النصارى، وبيان ذلك من وجوه:
أحدهما: الحكم بتحقق كفر قائلي هذه المقالة الشنيعة، {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة}.
فحرف (قد) مفيد للتحقيق، واللام مؤكّدة لهذا الحكم.
وهو حكم إلهيّ قُدّم في أوَّل عرض القضيّة ليقذف في نفسِ المخاطَب حكمها، وشناعة جرم أصحابها، وليقطع عليه جميع محاولات البحث عن تخريجٍ لمقالتهم، أو مجالٍ للتسمّح فيها، إذ بيّن الله تعالى أنَّ حكمها الكفرُ المتحقّق الذي لا ريبَ فيه.
والثاني: قوله تعالى: {وما من إلهٍ إلا إله واحد}؛ وهذا نفيٌ قاطع بأسلوب الاستغراق والحصر، (ما) نافية، و(من) للاستغراق، أي ليس في الكون كلّه إلا إله واحد.
وكلّ ما يُدعى من دون الله فإنَّما عُبد بغير حقّ، فالإله الحق لا يكون إلا واحداً، و { لو كان فيهما آلهةٌ إلا الله لفسدتا }، وهذا يبطل التثليث.
والوجه الثالث: قوله تعالى: { وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذابٌ أليمٌ}
وهذا فيه تقريع شديد، وتشنيع على قائلي هذه المقالة الكفرية.
وقال: {ليمسنّ الذين كفروا منهم} ولم يقل: (ليمسنّهم) لتأكيد بيان حكم قائلي هذه المقالة، وليشمل الحكم كلَّ من قال مقالة كفرية منهم غير هذه المقالة؛ فإنَّ ضلاّل النصارى لهم أقوال كفرية أخرى ذكرها الله تعالى عنهم في القرآن؛ فمنهم من قال: إن الله هو المسيح ابن مريم، ومنهم من قال: المسيح ابن الله، ومنهم من قال: إن الله ثلاث ثلاثة.
فهذا الحكم شامل لكلّ مقالاتهم الكفرية.
وقوله: {وإن لم ينتهوا..} فيه فتح لباب النجاة من هذا الكفر وعواقبه ما داموا في دار الحياة الدنيا قبل أن تقبض أرواحهم، وهذا له وقع عظيم على نفس المذنب الذي في قلبه جذوة من محبّة الحقّ وإرادته ليتدارك نفسه، ويسلك سبيل النجاة.
والوجه الرابع: قوله تعالى: { أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه } ؛ وهذا فيه تقريرٌ بأنّهم أذنبوا ذنباً عظيماً بهذه المقالة الكفرية؛ يستجوب التوبة والاستغفار.
وتأمل سعة رحمة الله عز وجل وعظيم حلمه كيف دعاهم - وقد قالوا هذه المقالة الشنيعة - إلى التوبة بأجمل عرضٍ وألطفه:{ أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه } ثم ذكر ما يرغبهم في ذلك ويزيل اليأس والقنوط من قلوبهم إن صدقوا التوبة بقوله: {والله غفورٌ رحيمٌ} كثير المغفرة، واسع المغفرة، لا يستعظمه ذنبٌ أن يغفره، ورحمته وسعت كل شيءٍ، وعمت كل حي، وفي ضمن ذلك وعدهم بالمغفرة والرحمة والعفو عما بدر منهم إن هم تابوا إليه واستغفروه.
فإذا علم العبد ذلك تحركت دواعي الرجوع إلى الله في قلبه، ولم يقنط من رحمة الله عز وجل مهما بلغت ذنوبه.
والوجه الخامس: أنَّ هذا العرض الكريم اللطيف أتى بعد التقريع الشديد ليجتمع في هذه الآيات خطاب الترهيب والترغيب، وخطاب العقل والقلب؛ فبصَّرهم وذكَّرهم، ووعظهم وزجرهم، ثم فتح لهم باب المغفرة والتوبة التي تجبّ ما قبلها؛ فلا يتخلّف عن هذه الدعوة إلا شقيّ محروم، ومعاند مكابر مستحقّ للعذاب الشديد.
والوجه السادس: تبصيرهم بالأدلّة التي يتبيّن بها كلُّ عاقل بطلان غلوّهم في عيسى ابن مريم وأمّه، من غير أن ينقص قدرهما، ولا أن يسلبهما ما مَنَّ به عليهما من الفضل العظيم، والمنزلة العالية بين عباده، بل أثبت لعيسى الرسالةَ ولأمّه الصديقية.
والوجه السابع: قولـه تعالى:{ ما المسيح ابن مريم إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل } فهو رسولٌ من جملة رسلٍ ماتوا، وهو على إثرهم سيموت، والإله الحق إنما هو الحيّ الذي لا يموت.
والوجه الثامن: أنَّه رسولٌ مكلَّف بأداء الرسالة؛ يأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له؛ كما هو ظاهر مستفيض لديهم من كلامه ووصاياه، ولو كان إلهاً يستحقّ العبادة لأمر بعبادة نفسه لا بعبادة غيره.
والوجه التاسع: أنَّ الرسلَ أعظم الناس عبادة لربّهم وافتقاراً إليه، وهذا أمر معلوم علماً قطعياً من أحوالهم وأخبارهم، والعابد محتاج إلى إلهه الذي يعبده، والمحتاج لا يمكن أن يكون إلهاً، إنما إلههم الله الغنيّ الحميد الذي تحتاج إليه جميع المخلوقات ولا يحتاج إلى أحد.
والوجه العاشر: قوله تعالى: { وأمّه صدّيقةٌ } وفي هذا عدّة من الأدلة:
- أولها: أنه مخلوقٌ كائنٌ بعد أن لم يكن، فلم يوجد إلا بعد ولادة أمه له؛ ومثل هذا لا يصلح أن يكون إلهاً؛ فإنَّ الإله الحق إنما هو الأول الذي ليس قبله شيء.
- الثاني: أنه محتاجٌ في أصل حياته إلى غيره فوجوده إنما كان بواسطة أمه؛ والإله الحق إنما هو الحي القيوم الذي قيام كل شيءٍ به، الغني الحميد الذي لا يحتاج إلى أحدٍ سواه طرفة عينٍ.
- الثالث: أنه مولودٌ؛ والإله الحق إنما هو الصمد الذي لم يلد ولم يولد.
- الرابع: أنه خارجٌ من المكان الذي قد علموا؛ ومثل هذا لا يصلح أن يكون إلهاً؛ فالإله الحق إنما هو القدوس السلام المتنـزه عما لا يليق بجلاله وعظمته.
- الخامس: أنَّ أمّه صدّيقةٌ؛ فهي أَمَةٌ عابدةٌ فقيرةٌ إلى من تعبده، والفقير لا يُنتِج إلا فقيراً.
والوجه الحادي عشر: قوله: { كانا يأكلان الطعام } وفي هذا أدلة عجيبة:
- الأول: أن كونهما يأكلان الطعام دليلٌ على حاجتهما وفقرهما إليه، والفقير المحتاج لا يصلح أن يكون إلهاً.
- الثاني: أن العقلاء قد علموا أن الذي يأكل الطعام له جوفٌ وآلاتٌ تهضم الطعام، وقنواتٌ يسير فيها الطعام، والإله الحق إنما هو الصمد الذي لا جوف له، ولا يحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر.
- الثالث: أن الذي لا يستطيع تصريف الطعام داخل جسده وتسييره في قنواته، وإيصال كل موضعٍ من جسمه ما يحتاج إليه من الغذاء؛ وإنما الذي يسيّره ويصرّفه فيه غيرُه كيف يستطيع أن يدبر شئون الخلائق، ويجيب دعواتهم، ويعلم سرائرهم وأحوالهم؟!!
إنما إلههم الملك القيوم الذي قام بشؤونهم ووسعهم علمه وحفظه ورحمته.
- الرابع: أن العقلاء قد علموا أن الذي يأكل الطعام لا بدَّ له من إخراجه بعد هضمه، والذي تخرج منه هذه الفضلات المستقذرة لا يصلح أن يكون إلهاً؛ بل الإله الحق إنما هو القدوس السلام المتنـزه عن مثل هذا وسائر ما لا يليق بجلاله وقدسيته.
- الخامس: أن الذي يأكل الطعام عرضةٌ لأن يأكل ما يضرّه أو يسيء أكلَ ما فيه نفع فيمرض ويسقم؛ ومثل هذا لا يصلح أن يكون إلهاً.
فهذه الأدلة البينة التي نبّه عليها بقوله تعالى: {كانا يأكلان الطعام} قاطعة ببطلان ما زعموه من إلهيّة عيسى وأمّه.
والوجه الثاني عشر: قوله تعالى بعد هذا البيان البديع: { انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون}، وهذا فيه بيان للسبب الذي صرفهم عن الحقّ بعدما تبيّن لهم، وأنهم مأفوكون بإفكٍ عظيم؛ أضاعوا حياتهم وخسروا سعادتهم باتّباعهم إيّاه.
ولفظ (الإفك) هنا جامع بين معنيين: الكذب العظيم، والصرف عن الحقّ.
فالإفك هو الفِرية الكبيرة.
وتقول العرب: أرض مأفوكة، أي محرومة من المطر قد صُرف المطرُ عنها إلى غيرها.
ويقولون: أُفِكَ الرجُلُ عَن الخيْرِ أَي صُرف عَنهُ؛ فانقلب خائباً.
وبناء فعل {يُؤفكون} لما لم يُسمّ فاعله فيه فائدتان:
إحداهما: إفادة العموم ليشمل أنواع الآفكين الذين أفكوهم عن الحقّ؛ فمنهم من أَفَكَتْه نفسه وهواها المردي، ومنهم من أَفَكَهُ شيطانه، ومنهم من أَفَكَهُ قرناؤه، ومنهم من أَفَكَهُ أئمةُ الكفر من المعظّمين بالباطل.
والفائدة الأخرى: صرف النظر عن الآفك لأن المقصود وعظ المأفوك مهما كان آفكه.
والوجه الثالث عشر: التبكيت في قوله تعالى: {أنّى يؤفكون} ولهذا التبكيت وقع شديد على النفس لمن عقل معناه، إذ كيف يرضى المرء لنفسه أن يُحرم الخير والسعادة بسبب اتّباع من يخادعه ويزيّن له الطريق المفضية إلى النار حتى يدخلها بكذب مفترى وباطل لا حقيقة له يفني حياته في اتّباعه حتى إذا قدم على ربّه وجد أنّه ليس على شيء، وأنّ الذين أفكوه قد غرّوه بالكذب والباطل، وأن داعي الله كان يصدقه وينصح له؛ فلم يسمع منه ولم يستجب له.
والوجه الرابع عشر: عدم النصّ على ذِكْرِ من أَفَكَهُم وصَرَفَهُم عن الحقّ والهدى وما فيه نجاتهم وسعادتهم، ليشمل ذلك كلّ مشترك في تضليلهم وخداعهم وصرفهم عن الحقّ، وليتفكّروا في كلِّ سبب أدّى إلى ضلالهم وانحرافهم عن الصراط المستقيم.
ومن تأمّل ذلك وجد أن أعظم أسباب انحرافهم:
- اتّباعهم لخطوات الشيطان وتضليله.
- واتّباعهم لأهوائهم المردية، ورغباتهم المخزية.
- وإعراضهم عن الحقّ البيّن الذي أتاهم من الله تعالى.
- وطاعتهم لمن من فَسَدَ من أحبارهم ورهبانهم ومعظّميهم الذين زيّنوا لهم تلك المقالات الكفرية وأمروهم باعتقادها واتّباعهم عليها.
فهذه من أعظم الأسباب التي أُفكوا بها عن الحقّ، وخُدِعُوا بها عن سلوك سبيل الفوز والسعادة.
والوجه الخامس عشر: قوله تعالى: { قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعًا} فإنَّ العبد العاقل إنما يعبد من يجلب له النفع ويدفع عنه الضر، وليس هذا لغير الله تعالى؛ فهو النافع الضار، وغيره إنما ضرره ونفعه بمشيئة الله تعالى، وهو مربوبٌ مدبرٌ، ناصيته بيد ربه لا يستقل بنفعٍ ولا ضر؛ فمن الحماقة عبادة من هذا شأنه!!
والوجه السادس عشر: ما دلّت عليه هذا الآية من التنبيه على ما عرفوا من أنَّ اليهود قد همّوا بقتل عيسى عليه السلام، وأنَّ عيسى لم يكن له طاقة بقتالهم ولا بدفعهم عن نفسه ولا تحصين أتباعه منهم، فلم يكن يملك الضرّ لأعدائه ولا النفع لأتباعه، وإنما الذي بيده النفع والضرّ هو الله تعالى، فكيف يزعمون أنّه إله من دون الله أو أنّه ابن الله.
والوجه السابع عشر: قوله تعالى: {والله هو السميع العليم } يسمع دعاءهم ويعلم أحوالهم، ولا يخفى عليه شيءٌ من أمرهم؛ وهذا هو الإله الحق، ليس الذي لا يسمع دعاء عابديه ولا يعلم أحوالهم.
فاستبدال عبادة الله تعالى الذي بيده النفع والضر وهو السميع العليم بعبادة من لا يملك لهم ضرا ولا نفعاً، ولا يسمع دعاءهم ولا يعلم أحوالهم من أعظم الجهل والسفه.
والوجه الثامن عشر: أسلوب الحصر في قوله تعالى: {هو السميع العليم} وهذان الاسمان الجليلان لو تفكّر العباد فيهما لعلموا أنه لا ينبغي أن يعبد غير الله تعالى، فهو الذي وسع سمعه جميع الأصوات، على اختلاف اللغات، وتعدد الدعوات وتزامنها، لا يشغله سمع عن سمع، ولا يخفى عليه شيء، يعلم قصد كلّ داعٍ بدعوته، ومطّلع على حاله ونيّته، ويسمع كلّ ما ينطق به، ويعلم كل ما يحدّث به نفسه.
وهذا لا يكون إلا لله تعالى؛ فكيف يُعبد غيره؟!!
والوجه التاسع عشر: ما تضمّنه قوله تعالى: {والله هو السميع العليم} من الوعد باستجابة الدعاء لمن وحّد الله تعالى واستجاب لدعوته.
فيستجيب الله دعاء من يستجيب لدعوته؛ ويعرض عمن أعرض عن دعائه واستجابة دعوته، استجابة باستجابة، وإعراض بإعراض، والله تعالى يعلم حال المستجيبين والمعرضين.
ويوم القيامة يجزي الذين استجابوا أحسن الجزاء في جنات النعيم، ويعاقب المعرضين أشدّ العقاب في نار جهنّم وبئس المصير.
فرجع الأمر إلى أنّ كلَّ إنسان يكون حكمه بحسب ما يضع نفسه من دعوة ربّه له، وحجة الله قائمة على كلّ خلقه، فمن أطاع الله واستجاب لدعوته سعد وفاز، ومن أعرض فلا يلومنّ إلا نفسه.
والوجه العشرون: ما تضمنته هذه الآيات الجليلة من الدلالة على أسماء الله الحسنى وصفاته العليا، ولو تأمّلت كلَّ وجه من الأوجه المتقدّمة وجدت أنَّه من آثار بعض أسماء الله وصفاته.
فانظر كيف اجتذب القلوب إلى عبادته وتوحيده بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى، وانظر إلى كمال حجة الله وإحكامها، حيث لا يبقى بعدها لذي باطل ما يستمسك به.
وفقني الله وإياكم، لحسن تدبر كتابه الكريم، وتلاوته حق تلاوته، وفقه حججه، ونصرة دينه، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.