قوله: (ويجوز أن ينعقد عن اجتهاد) اعلم أن الأصوليين اختلفوا في مستند الإجماع، هل يصح أن يكون عن اجتهاد وقياس أو لا؟ إذ لا بُدَّ للإجماع من دليل يستند إليه؛ لأن القول بغير حجة اتباع للهوى، واتباع الهوى باطل، وهو يقتضي إثبات الشرع بعد النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وقد اختلفوا: هل يجوز أن يكون مستند الإجماع اجتهاداً ورأياً؟ على أقوال:
الأول: أنه يجوز انعقاد الإجماع مستنداً إلى اجتهاد أو قياس،. وهذا قول الأكثرين، واختاره ابن قدامة، ومثّلوا له بالإجماع على تحريم شحم الخنزير، قياساً على لحمه، والإجماع على تحريم القضاء من الحاقن ونحوه؛ كالجوع والعطش المفرطين، وغيرها من مشوشات الفكر قياساً على الغضب المنصوص عليه في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان» [(783)].
وحجة هؤلاء أنه لا يمتنع اتفاق الأمة على حصول ظَنِّ الحكم بالقياس، فإن القياس مُحَصِّل للظن، وإذا حصل الظن جاز الاتفاق على موجبه.
قوله: (وأحاله قوم) هذا القول الثاني في المسألة، وهو أنه لا يتصور الإجماع عن اجتهاد وقياس، لأن القياس مختلف فيه، ولا إجماع مع الخلاف، ذلك أن الإجماع فرعُ مستندِه، وإذا كان المسْتَنَدُ إليه وهو القياس مختلفاً فيه فكيف يكون المسْتَنِدُ متفقاً عليه؟ وكيف يُختلف في الأصل ويُتفق على الفرع؟ هذا لا يمكن، وعلى هذا القول فلا بد أن يكون مستند الإجماع نصاً من كتاب أو سنة.
وأجيب عن ذلك بأن الكلام مفروض قبل وقوع الخلاف في القياس، وهذا في زمن الصحابة رضي الله عنهم، وعلى فرض أن الكلام بعد حدوث الخلاف في القياس، فللموافق أن يستند إلى القياس، وللمخالف أن يستند إلى مَدْرَكٍ من مدارك الاجتهاد لا يعتقده قياساً، وهو في الحقيقة قياس، كقولهم: لا يقضي القاضي وهو جائع، يقولون: نبَّه بحالة الغضب على حالة الجوع وغيرها من الأحوال، مع أن هذا في الحقيقة قياس.
قوله: (وقيل: يتصور وليس بحجة) هذا القول الثالث . وهو أنه يتصور وقوع الإجماع عن اجتهاد وقياس، لكنه ليس بحجة؛ لأن هذا اجتهاد ظني، والإجماع دليل قاطع.
والأظهر في هذه المسألة ـ والله أعلم ـ ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية من أنه لا يوجد مسألة مجمع عليها إلا وفيها نص شرعي، لكن قد يكون هذا النص غاب عن بعض المجمعين، فاستدلَّ عليه برأي أو قياس، ولا يمكن أن يخفى النص على جميع الأمة[(784)].
فالإجماع على حرمة نكاح الجدات، وبنات الأولاد، مهما نزلت درجتهن سنده قوله تعالى: {{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ}} [النساء: 23] ، ومن الإجماع المبني على السنة: الإجماع على تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها» [(785)].
وأمَّا الإجماع المستند للاجتهاد أو القياس فتقدمت أمثلته...