ص: ومطلق نهي التحريم وكذا التنزيه في الأظهر للفساد شرعاً، وقيل: لغة وقيل: معنى فيما عدا المعاملات مطلقاً، وفيها إن رجع، قال ابن عبد السلام: أو احتمل رجوعه إلى أمر داخل أو لازم وفاقاً للأكثر، وقال الغزالي والإمام: في العبادات فقط.
ش: النهي عن الشيء هل يدل على فساده أم لا؟
فيه مذاهب:
الأول: أنه يقتضي الفساد مطلقاً في العبادات والمعاملات، وحكاه القاضي أبو بكر عن جمهور أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة، وحكاه ابن السمعاني عن أكثر الأصحاب، وقال: إنه الظاهر من مذهب الشافعي.
الثاني: أنه لا يقتضيه، نقله القاضي عن جمهور المتكلمين، والإمام عن أكثر الفقهاء، والآمدي عن المحققين، واختاره القفال الشاشي، والقاضي أبو بكر والغزالي وغيرهم، وعلى هذا الثاني قولان.
أحدهما وبه قال الجمهور: إنه لا يدل على الصحة أيضاً، وادعى القاضي فيه الاتفاق.
والثاني: أنه يدل على الصحة، وحكي عن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن.
الثالث وهو الذي نقله المصنف عن الأكثرين وحكاه ابن برهان عن نص الشافعي وحكي عن نص (الرسالة) التفصيل، فإن كان في غير المعاملات وهي العبادات والإيقاعات دل على الفساد مطلقاً، وإن كان في المعاملات فإن رجع إلى أمر داخل فيها كبيع الملاقيح، أو أمر خارج ولازم كالربا اقتضى الفساد، وإن رجع إلى أمر خارج غير لازم لم يقتض الفساد، وذلك كالنهي عن البيع وقت نداء الجمعة فإن النهي عنه راجح إلى تفويت الجمعة، وهو أمر خارج غير لازم للعقد.
فإن شك هل هو راجع إلى داخل أو خارج حكمنا بفساده أيضاً، وهو معنى قول المصنف: قال ابن عبد السلام: (أو احتمل رجوعه) وأشار بذلك إلى قوله في القواعد: وكل تصرف نهي عنه ولم يعلم لماذا نهي عنه فهو باطل حملاً للفظ النهي على الحقيقة.
قال الشارح: وهي مسألة مهمة زادها المصنف على الأصوليين.
الرابع: أنه يدل على الفساد في العبادات فقط، وهو مذهب أبي الحسين البصري واختاره الإمام في (المحصول) وفي نقله عن الغزالي نظر، فقد صرح في آخر المسألة من (المستصفى) بأن كل نهي تضمن ارتكابه الإخلال بشرطه دل على الفساد من حيث الإخلال بالشرط، لا من حيث النهي.
تنبيه:
قوله: (مطلق النهي) خرج به ما اقترن به ما يدل على الفساد أو الصحة، فليس من محل الخلاف، وبين بإضافة النهي إلى التحريم أن المحل المتفق على جريان هذا الخلاف فيه أن يكون النهي للتحريم، فإن كان للتنزيه ففيه خلاف, الذي رجحه المصنف أنه كنهي التحريم لأن المكروه مطلوب الترك فلا يعتبر به إذا وقع، وذلك هو الفساد، ويخالف ذلك قول الصفي الهندي: محل الخلاف في نهي التحريم أما التنزيه فلا خلاف فيه على ما يشعر به كلامهم، وصرح بذلك بعض المصنفين.
قلت: وذكر ابن الصلاح والنووي أن الصلاة في الأوقات المكروهة لا تنعقد، وإن قلنا إن الكراهة فيها للتنزيه، واستشكله شيخنا الإسنوي بأنه كيف يباح الإقدام على ما لا ينعقد وهو تلاعب ولا إشكال فيه، لأن نهي التنزيه إذا رجع إلى نفس الصلاة يضاد الصحة فإن المكروه غير داخل في مطلق الأمر، وإلا يلزم كون الشيء مطلوباً منهياً ولا يصح إلا ما كان مطلوباً، والله أعلم.
تنبيه آخر:
إذا قلنا باقتضاء النهي الفساد فهل ذلك من جهة الشرع أو اللغة؟
فيه مذهبان: نقلهما القاضي أبو بكر في (التقريب) وابن السمعاني، ونقل عن طائفة من الحنفية أنه يقتضيه من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، لأن النهي يدل على قبح المنهي عنه، وهو مضاد للمشروعية، وقال إنه الأولى فلذلك نقل فيه المصنف ثلاثة مذاهب، وصحح الآمدي وابن الحاجب أنه يدل عليه شرعاً وجزم به البيضاوي.
ص: فإن كان لخارج كالوضوء بمغصوب لم يفد عند الأكثر، وقال أحمد: يفيد مطلقاً، ولفظه حقيقة وإن انتفى الفساد لدليل.
ش: تقدم أن النهي إنما يدل على الفساد إذا كان لأمر داخل في المنهي عنه أو خارج عنه لازم له، فأما إذا كان لأمر، خارج عنه غير لازم له فإنه لا يفيد الفساد عند الأكثرين، وقال أحمد بن حنبل: بل يفيده أيضاً، وذلك كالوضوء بماء مغصوب، فإن المنهي عنه لأمر خارج عنه ـ وهو الغصب ـ ينفك بالإذن من صاحبه أو الملك، ويترتب على قول الإمام أحمد باقتضاء النهي الفساد مطلقاً، أنه لو قام الدليل في نهي خاص على أنه ليس للفساد ولم يخرج النهي المذكور عن كونه باقياً على حقيقته.
- لم يصر مجازا، لأنه لم ينتقل عن جميع موجبه بل عن بعضه، فهو كالعموم الذي خص بعضه، فإنه حقيقة فيما بقي، ذكره ابن عقيل في الواضح.
قال الشارح: وهو مبني على أن لفظ النهي يدل على الفساد بصيغته، فإن قلنا من جهة الشرع أو المعنى لم يكن فيه إخراج بعض مدلول اللفظ.
قلت: ولك أن تقول: قد رجح المصنف أن النهي يدل على الفساد في العبادات مطلقاً، والتفصيل إنما هو في المعاملات، وحكاه عن الأكثرين، والوضوء من العبادات، فاقتضى كلامه فيه الفساد إذا كان لمغصوب فكيف يحكي هذا هنا عن أحمد خاصة، ويجعله فيه مخالفاً للأكثر، وأيضاً فقد تقدم لنا قول أن النهي يدل على الفساد مطلقاً، وأن القاضي نقله عن جمهور الشافعية، والحنفية، والمالكية، فكيف يجتمع ذلك مع تخصيصه الفساد في هذه الصورة بالنقل عن أحمد.
ص: وأبو حنيفة لا يفيد مطلقاً نعم المنهي لعينه غير مشروع ففساده عرضي ثم قال والمنهي لوصفه يفيد الصحة.
ش: اشتهر عن أبي حنيفة أن النهي لا يفيد الفساد مطلقاً، واستدرك المصنف على هذا أن ذلك إنما هو في المنهي عنه لغيره، أما المنهي عنه لعينه فلا خلاف في فساده، وقد صرح أبو زيد في (تقويم الأدلة)، وقال شمس الأئمة السرخسي: إن المنهي عنه لعينه غير مشروع أصلاً، فيترتب على ذلك أن فساده عرضي، ثم قال أي أبو حنيفة: إن المنهي عنه لوصفه لا يفيد الصحة، وإنما يفيد ذلك الوصف خاصة كما لو تبايعا درهماً بدرهمين ثم طرح زيادته فإنه يصح العقد.
قلت: وكيف يجتمع نفي الخلاف مع ما تقدم من حكاية قول بأنه لا يقتضي الفساد مطلقاً.
ص: وقيل: إن نفي عنه القبول، وقيل: بل النفي دليل الفساد، ونفي الإجزاء كنفي القبول، وقيل: أولى بالفساد.
ش: إذا ورد من الشرع نفي القبول عن عباداة، فهل يدل ذلك على صحتها أو فسادها؟ مثل قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)) وقوله: ((لا يقبل الله صلاة حائض)) أي: من بلغت سن الحيض ((إلا بخمار)) فيه قولان، حكاهما ابن عقيل من الحنابلة في كتابه في الأصول، فمن قال بالأول ـ وهو مراد المصنف بقوله: (وقيل: إن نفى عنه القبول) أي يفيد الصحة لقوله فيما قبله: يفيد الصحة ـ قال: إن القبول والصحة متغايران يظهر أثر الأول الثواب، والثاني في عدم القضاء، ومن قال بالثاني جعلهما متلازمين وهو مقتضى استدلال أصحابنا، وغيرهم بالحديثين المذكورين على اشتراط الطهارة وستر العورة في الصلاة، وحكى الشيخ تقي الدين في (شرح العمدة) في تفسير القبول قولين: أحدهما: أنه يرتب الغرض المطلوب من الشيء على الشيء، يقال: قبل عذر فلان إذا رتب عليه الغرض المطلوب، وهو عدم المؤاخذة، وعلى هذا فالصحة والقبول متلازمان.
والثاني: أن القبول كون العبادة بحيث يترتب الثواب عليها، وعلى هذا فهو أخص من الصحة، فكل مقبول صحيح، ولا ينعكس.
قلت: الذي ظهر لي في كون هذين الحديثين المذكورين نفى فيهما القبول وانتفت معه الصحة، وجاء في أحاديث أخر نفي القبول، فلم ينتف معه الصحة، كصلاة شارب الخمر، والعبد الآبق، وآتي العراف أنا ننظر فيما نفي فيه القبول، فإن قارنت ذلك الفعل معصية كالأحاديث الثلاثة المذكورة أجزأ، فانتفاء القبول (أي الثواب) لأن إثم المعصية أحبطه، وإن لم يقارنه معصية كالحديثين الأولين، فانتفاء القبول بسببه انتفاء شرط وهو الطهارة في أحد الحديثين وستر العورة في الآخر، ويلزم من عدم الشرط عدم المشروط، والله أعلم.
أما نفي الإجزاء نحو قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تجزئ صلاة من لا يقرأ فيها بأم القرآن)) فالمشهور أنه كنفي الصحة فيعود فيه ما سبق.
والثاني: أنه أولى بالفساد، فيعود فيه الخلاف بالترتيب، لأن الصحة قد توجد، حيث لا قبول بخلاف الإجزاء مع الصحة.