قوله: (ثم هل يشترط انعكاس العلة؟) انعكاس العلة معناه: انتفاء الحكم لانتفاء العلة، والمراد به: انتفاء العلم أو الظن به، لا انتفاء الحكم نفسه، إذ لا يلزم من انتفاء دليل الشيء انتفاؤه.
قال الإمام أحمد: (لا تكون العلة علة حتى يُقْبِلَ الحكم بإقبالها ويُدْبِرَ بإدبارها)[(967)]. فمعنى الانعكاس: أن يثبت الحكم بوجودها ويرتفع بعدمها، فإذا ثبت مع عدمها لم تكن علة، لعدم الانعكاس.
قوله: (فعند المحققين لا يشترط مطلقاً) أي: لا يشترط انعكاسها وهو انتفاء الحكم لانتفائها، بل إذا ثبت الحكم بوجودها صحت، وإن لم يرتفع بعدمها، لأن المقصود بها إثبات الحكم لا نفيه.
وقوله: (مطلقاً) أي: سواء تعددت العلة أم لم تتعدد، وهذا هو القول الأول .
قوله: (والحق أنه لا يشترط إذا كان له علة أخرى) هذا القول الثاني ، وهو التفصيل، وهو أنه إذا اتحدت العلة، بمعنى أنه ليس لهذا الحكم إلا علة واحدة، فلا بدَّ من عكسها، لأن انتفاء العلة يوجب انتفاء الحكم، إذ لا بدَّ له من علة.
ومثاله: قوله صلّى الله عليه وسلّم في ادخار لحوم الأضاحي: «إنَّما نهيتكم ـ أي عن الادخار بعد ثلاث ـ من أجل الدافَّة التي دَفَّتْ فكلوا، وادَّخِروا، وتصدقوا» [(968)].
فعلة تحريم الادخار: وجودُ دافةِ فقراءَ من البادية الذين قدموا المدينة، ولما زالت هذه العلة زال الحكم معها.
ومثاله ـ أيضاً ـ: الخمر، فقد عُلِّقَ التحريم على الإسكار، فإذا زال عنها وصارت خَلاًّ زال الحكم، وكذا وصف الفسق عُلِّقَ عليه المنع من قبول الشهادة والرواية، فإذا زال الوصف زال الحكم الذي علق عليه[(969)].
وأمَّا إذا تعددت العلة، فلا يلزم من انتفاء بعض العلل انتفاء الحكم. فقد يثبت الحكم لوجود علة أخرى، فعدم البول ـ مثلاً ـ لا يلزم منه عدم نقض الوضوء، لجواز نقض الوضوء بعلة أخرى غير البول، كالغائط والنوم وغيرهما.
وهذا القول اختاره المصنف، ومن قبله الغزالي، وهو مبني على جواز تعليل الحكم بعلتين، وعليه فإذا اشترط الانعكاس في العلة صار عدم العكس قادحاً، وهو قادح في الحكم المعلل بعلة واحدة، دون المعلل بعلل، فلا يقدح فيه قولاً واحداً عند من يرى جواز تعليل الحكم بعلتين.
والتحقيق: أن محل القدح في العلة بعدم انعكاسها فيما إذا كانت علة الحكم واحدة، لا إن كانت له علل متعددة، فلا يقدح في واحدة منها بعدم العكس؛ لأنه إذا انعدمت واحدة ثبت الحكم بالأخرى[(970)]، لكن إن دل دليل على بقاء الحكم مع ذهاب العلة الواحدة لم يقدح فيها بعدم العكس، مثل بقاء حكم الرَّمَل في الطواف؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم رمل في حجة الوداع مع زوال علته. على أنه قد يقال: إن لبقائه علةً أخرى وهي أن يتذكر به المسلمون نعمة الله عليهم، حيث كَثَّرهم وقوّاهم بعد القلة والضعف[(971)].