(1)
مناسبةُ البابِ لما قبْلهُ: لمّا ذ
َكَرَ رَحِمَهُ اللهُ الاستعاذةَ، والاستغاثةَ بغيرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ذَكَرَ البراهينَ الدَّالَّةَ عَلَى بُطْلانِ عبادةِ ما سِوَى اللهِ؛ ولهذا جَعَلَ الترجمةَ لهذا البابِ نَفْسَ الدَّليلِ، وذَكَرَ رَحِمَهُ اللهُ ثَلاَثَ آياتٍ:
- قولُهُ: {أَيُشْرِكُونَ} الاستفهامُ للإنْكَارِ والتَّوْبِيخِ؛ أيْ: يُشْرِكُونَهُ مَعَ اللهِ.
- قولُهُ: {مَا لاَ يَخْلُقُ} هنا عَبَّرَ بِـ{مَا} دُونَ (مَنْ).
-
وفي قولِهِ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ} عبَّرَ بِـ{مَنْ}.
والمناسبةُ ظاهرةٌ؛ لأنَّ الدَّاعِينَ هناكَ نَزَّلُوهم منزلةَ العاقلِ.
أمَّا هنا فالمَدْعُوُّ جمادٌ؛
لأنَّ الذي لا يَخْلُقُ شيئًا، ولا يَصْنَعُهُ جَمَادٌ لا يُفِيدُ.
-
قولُهُ: {شيئًا} نَكِرةٌ في سياقِ النَّفْيِ، فتفيدُ العمومَ.
-
قولُهُ: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} وَصَفَ هذهِ الأصنامَ بالعجْزِ والنَّقصِ، والربُّ المعبودُ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا بلْ هوَ الخالقُ، فلا يجوزُ عليهِ الحدوثُ، ولا الفناءُ.
والمخلوقُ حادثٌ،
والحادثُ يَجُوزُ عليهِ العدمُ؛ لأنَّ ما جازَ انْعِدَامُهُ أوَّلاً جازَ انعدامُهُ آخِرًا.
فكيفَ يُعْبَدُ هَؤُلاءِ مِنْ دونِ اللهِ؟
إذالمخلوقُ هوَ بنفْسِهِ مُفْتَقِرٌ إلى خالقِهِ، وهوَ حادثٌ بعدَ أنْ لَمْ يكُنْ، فهوَ ناقِصٌ في إيجادِهِ وبَقَائِهِ.
قولُهُ: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا} أيْ: لا يَقْدِرُونَ على نَصْرِهِمْ لوْ هاجَمَهُمْ عَدُوٌّ، لأنَّ هؤلاءِ المعبودينَ قَاصِرُونَ.
والنَّصرُ: الدفعُ عن المخذولِ
بحيثُ يَنْتَصِرُ عَلَى عَدُوِّهِ.
قولُهُ: {وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}أيْ: زيادةً على ذلكَ هُمْ عاجِزُونَ عن الانتصارِ لأنْفُسِهم، فكيفَ يَنْصُرُونَ غَيْرَهُمْ؟
فبيَّنَ اللهُ عَجْزَ هذهِ الأصنامِ، وأنَّها لا تَصلُحُ أنْ تَكُونَ معبودةً مِنْ أربعةِ وُجُوهٍ، هيَ:
الأول:
أَنَّها لا تَخْلُقُ،
ومَنْ لا يَخْلُقُ لا يَسْتَحِقُّ أنْ يُعْبدَ.
الثاني:
أنَّهُم مَخْلُوقونَ مِن العدمِ،
فهمْ مُفْتَقِرونَ إلى غيرهِم ابتداءً ودَوَامًا.
الثالث:
أنَّهم لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ الدَّاعِينَ لَهُم.
وقولُهُ: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ} أبْلَغُ مِنْ قولِهِ: {لاَ يَنْصُرُونَهُمْ} لأنَّهُ لوْ قالَ: {لاَ يَنْصُرونَهُمْ} فقدْ يقولُ قائلٌ: لكنَّهمْ يَسْتَطِيعُونَ.
لكنْ لَمَّا قالَ: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا}، كانَ أَبْلَغَ لظهورِ عَجْزِهِمْ.
الرابع:
أنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أنْفُسِهِمْ.
(2)
قولُهُ:
{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ}يَشْمَلُ دُعاءَ المسألةِ، ودُعاءَ العبادةِ.
و
{مِنْ دُونِه} أيْ: سِوَى اللهِ.
قولُهُ: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} أيْ: أنَّ هذِهِ الأصنامَ لوْ دَعَوْتُموها ما سَمِعَتْ، ولوْ فُرِضَ أنَّها سَمِعَتْ ما استجابَتْ؛ لأنَّها لا تَقْدِرُ على ذلكَ.
ولهذا قالَ إبراهيمُ عليهِ السلامُ لأبيهِ: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}.
فإذا كانتْ كذلكَ؛
فأيُّ: شيءٍ يَدْعُو إلى أنْ تُدْعَى منْ دونِ اللهِ؟!
بلْ هذا سَفَهٌ،
قالَ تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}.
قولُهُ: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ}، هوَ كقولِهِ تعالى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}.
فهؤلاءِ المعبودونَ إنْ كانُوا يُبْعَثُونَ ويُحْشَرُونَ فكُفْرُهمْ بِشِرْكِهمْ ظاهرٌ كمَنْ يَعبدُ عُزَيْرًا والمسيحَ.
وإنْ كانُوا أحْجارًا وأشْجارًا ونَحْوَها؛ فيَحْتَمِلُ أنْ يَشْمَلَها بظاهرِ الآيَةِ، وهوَ أنَّ اللهَ يأتي بهذهِ الأشْجارِ ونحوِها فتَكْفُرُ بشرْكِ مَنْ يُشْرِكُ بها.
ويُؤَيِّدُهُ قولُهُ تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}، وما ثَبَتَ في (الصَّحِيحَيْنِ) عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((أَنَّهُ عِنْدَ بَعْثِ النَّاسِ يُقَالُ لِكُلِّ أُمَّةٍ: لِتَتْبَعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ)) فالحجَرُ يكونُ إمامَهُمْ يومَ القيامةِ، ويكونُ لهُ كلامٌ يَنْطِقُ بهِ، ويَكفُرُ بشركِهِم، فإذا كانت تُحْضَرُ وتُحْصَبُ في النارِ إهانةً لعابدِيها، وتُحْضَرُ لِتُتْبَعَ إلى النَّارِ، فلاَ غَرْوَ أنْ تَكْفُرَ بعابدِيها إذا أُحْضِرَتْ.
قولُهُ: {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}معناهُ: أنَّهُ لا يُخْبِرُكَ بالخَبَرِ مِثْلُ خبيرٍ بهِ، وهوَ اللهُ؛ لأنَّهُ لا يَعْلَمُ أحدٌ ما يكونُ في يومِ القيامةِ إلاَّ اللهُ، وهوَ خَبَرُ صِدْقٍ؛ لأنَّ اللهَ تَعَالَى يقولُ: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً}.
والخبيرُ:
العالِمُ ببواطنِ الأمورِ.
مسألةٌ: هلْ يَسْمَعُ الأمواتُ السلامَ وَيَرُدُّونَهُ عَلَى مَنْ سلَّمَ عَلَيْهِمْ؟
اخْتُلِفَ في ذلكَ على قولَيْنِ:
القولُ الأوَّلُ:
أنَّ الأمواتَ لا يَسْمَعُونَ السَّلامَ،
وأنَّ قولَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حينَ زِيارَةِ المَقْبَرةِ:((السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ)) دُعاءٌ لا يُقصَدُ بهِ المُخاطَبةُ، ثمَّ على فَرْضِ أنَّهم يَسْمَعُونَ كما جاءَ في الحديثِ الذي صحَّحَهُ ابنُ عبدِ البَرِّ وأقرَّهُ ابنُ القَيِّمِ: ((بِأَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا سَلَّمَ عَلَى شَخْصٍ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا رَدَّ اللهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ فَرَدَّ السَّلاَمَ)) فيقال: عَلَى تَقْديرِ صِحَّةِ هذا الحديثِ، لا يَلْزَمُ أنْ يَسْمَعُوا كُلَّ شيءٍ بل يسمعون السلام ويردونه.
ثمَّ لوْ فُرِضَ أنَّهم يَسْمَعُونَ غيرَ السَّلاَمِ، فإنَّ اللهَ صرَّحَ بأنَّ المَدْعُوِّينَ مِنْ دونِ اللهِ بأَنَّهم لاَ يَسْمَعُونَ دُعاءَ مَنْ يَدْعُوهُمْ، فلا يُمْكِنُ أنْ نقولَ إنَّهم يَسْمَعُونَ دعاءَ مَنْ يَدعوهُمْ؛ لأنَّ هذا كُفرٌ بالقرآنِ.
فتَبَيَّنَ بهذا أنَّهُ لا تَعَارُضَ بَيْنَ قولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ)) وبينَ هذهِ الآيَةِ.
وأمَّا قولُهُ: {وَلَوْ سَمِعُوا} فمعناهُ لوْ سَمِعُوا فَرْضًا ما اسْتَجَابُوا لَكُم؛ لأِنَّهم لا يَسْتَطِيعُونَ.
القولُ الثاني:
أنَّ الأمواتَ يَسْمَعُونَ.
واسْتَدَلُّوا على ذلكَ: بالخِطَابِ الواقعِ في سلامِ الزائرِ لهمْ بالمقبرةِ.
وبما ثَبَتَ في
(الصَّحِيحِ) منْ أنَّ المُشَيِّعِينَ إذا انصَرَفُوا سَمِعَ المُشَيَّعُ قَرْعَ نعالِهِمْ.
والجوابُ عنْ هذَيْنِ الدليلَيْنِ:
أمَّا الأوَّلُ:
فإنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن السَّلاَمِ عَلَيْهِمْ أنْ يَسْمَعُوا؛
ولهذا كانَ المسلمونَ يُسَلِّمُونَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في حياتِهِ في التَّشهُدِ وهوَ لا يَسْمَعُهُمْ قَطعًا.
وأمَّا الثاني:
فهوَ واردٌ في وَقْتٍ خاصٍّ،
وهوَ انْصِرَافُ المشيِّعينَ بعدَ الدَّفنِ.
وعَلَى كُلٍّ فالقَوْلاَنِ مُتَكَافِئَانِ، واللهُ أعْلَمُ.
قولُهُ: (شُجَّ) الشَّجَّةُ الجُرحُ في الرَّأْسِ والوجهِ خاصَّةً.
قولُهُ: (وكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ) السِّنَّانِ المُتَوَسِّطَانِ يُسَمَّيَانِ ثَنَايَا، ومَا وراءَهُما يُسَمَّيَانِ رَبَاعِيَتَيْنِ.
قال النووي في (شرح مسلم) (7/125): قوله: (وكسرت رباعيته) هي بتخفيف الياء، وهي السن التي تلي الثنّية من كل جانب، وللإنسان أربع رباعيات.
وفي هذا وقوع الأسقام والابتلاء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم؛ لينالوا جزيل الأجر، ولتعرف أممهم وغيرهم ما أصابهم، ويتأسوا بهم).
قولُهُ:
فقالَ: ((كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ؟!)) الاستفهامُ يُرادُ بهِ الاستبعادُ؛ أيْ: بعيدٌ أنْ يُفْلِحَ قومٌ شجَّوا نَبيَّهُم صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
قولُهُ: ((يُفْلِحُ)) من الفلاحِ، وهوَ الفوزُ بالمطلوبِ، والنجاةُ من المَرْهُوبِ.
(3)
قولُهُ: (فنَزَلَتْ:
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}) أيْ: نَزَلَتْ هذهِ الآيَةُ.
والخطابُ فيها للرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ.
و{شَيْءٌ} نَكِرَةٌ في سياقِ النَّفيِ فتَعُمُّ.
قولُهُ: {الأَمْرِ} أي: الشَّأْنِ، والمرادُ: شأنُ الخلقِ. فَشَأْنُ الخلقِ إلى خالقِهِمْ، حتَّى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ليسَ لهُ فيهمْ شيءٌ.
ففي الآيَةِ خطابٌ للرسولِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وقدْ شُجَّ وجْهُهُ، وكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، ومعَ ذلكَ ما عَذَرَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ في كلمةٍ واحدةٍ: ((كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ؟!)).
فإذا كانَ الأمرُ كذلكَ فما بالُكَ بِمَنْ سِوَاهُ؟
فليسَ لهم مِن الأمْرِ شَيْءٌ؛ كالأصْنامِ والأوْثانِ والأنْبياءِ. فالأمرُ كلُّهُ للهِ سبحانَهُ وتَعَالَى، كَمَا أنَّهُ الخالقُ وحدَهُ. والحمدُ للهِ الذي لَمْ يَجْعَلْ أَمْرَنَا إلى أحدٍ سِوَاهُ؛ لأنَّ المخلوقَ لا يَمْلِكُ لنَفْسِهِ نَفْعًا ولا ضرًّا، فكيفَ يملكُ لغيرِهِ؟!
قولُهُ: (فَنَزَلَتْ) الفاءُ للسَّبَبِيَّةِ، وعليهِ فيكونُ سببَ نزولِ هذهِ الآيَةِ هذا الكلامُ: ((كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا وَجْهَ نَبِيِّهِمْ؟!)).
(4)
قولُهُ:
(إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِن الرُّكُوعِ في الرَّكْعَةِ الأخيرةِ مِن الفَجْرِ) قيَّدَ مَكَانَ الدعاءِ مِن الصلواتِ بالفَجْرِ، ومكانَهُ مِن الرَّكْعَاتِ بالأخيرةِ، ومكانَهُ من الركْعَةِ ما بعدَ الرَّفْعِ مِن الرُّكُوعِ.
(5)
قولُهُ:
((اللهُمَّ الْعَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا)) اللَّعْنُ: الطَّرْدُ والإبعادُ عنْ رحمةِ اللهِ؛ أيْ: أبْعِدْهُم عنْ رَحْمَتِكَ، واطْرُدْهم منها.
وَ(فُلاَنًا وَفُلاَنًا) بيَّنَهُ في الروايَةِ الثانيَةِ أنَّهم صَفْوَانُ بنُ أُمَيَّةَ، وسُهَيْلُ بنُ عمرٍو، والحارثُ بنُ هشامٍ.
(6)
قولُهُ:
(بعْدَما يقولُ:((سمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ))) أيْ: يقولُ ذلكَ إذا رَفَعَ رأسَهُ وقالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ.
(7)
قولُهُ:
(فَأنْزَلَ اللهُ:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}) هُنَا قالَ: (فَأَنْزَلَ) وفي الحديثِ السابقِ قالَ: (فَنَزَلَتْ) وكلُّها بالْفَاءِ.
وعَلَى هذا يكونُ سببَ نزولِ الآيَةِ دعوةُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ على هؤلاءِ، وقولُهُ: ((كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ؟!)) ولا مانِعَ أنْ يَكُونَ للآيَةِ سَبَبَا نُزُولٍ.
وقدْ أسلمَ هؤلاءِ الثلاثةُ،
وحَسُنَ إسلامُهُم رَضِيَ اللهُ عنهم. فتأمَّل كيف تنقلب العداوةَ ولايَةً؛ لأنَّ القلوبَ بِيَدِ اللهِ سبحانَهُ وتعالى، ولوْ أنَّ الأمرَ كانَ عَلَى ظَنِّ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لبَقِيَ هؤلاءِ على الكفرِ حتَّى الموتِ، إذ لوْ قُبِلَت الدَّعْوةُ عليهم وطُرِدُوا عن الرَّحمةِ لَمْ يَبْقَ إلاَّ العذابُ.
ولكنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ليسَ لهُ مِن الأمرِ شيءٌ،
فالأمرُ كُلُّهُ للهِ. ولهذا هدَى اللهُ هؤلاءِ القومَ وصَارُوا مِنْ أولياءِ اللهِ الذَّابِّينَ عنْ دينِهِ، بعْدَ أنْ كانُوا أعداءَ اللهِ القائمينَ ضِدَّهُ. واللهُ سبحانَهُ يَمُنُّ على مَنْ يَشَاءُ مِنْ عبادِهِ.
(8)
قولُهُ:
(قامَ) أيْ: خطيبًا.
قولُهُ: (أُنْزِلَ عليْهِ) أيْ: أُنْزِلَ عليهِ بواسطةِ جبريلَ{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ}.
قولُهُ: {وَأَنْذِرْ} أيْ: حَذِّرْ وَخَوِّفْ.
والإنذارُ:
الإعلامُ المقرونُ بتخويفٍ.
قولُهُ:
{عَشِيرَتَكَ} العشيرةُ قبيلةُ الرجُلِ مِن الجَدِّ الرابعِ فما دُونَ.
قولُهُ: {الأَقْرَبِينَ} أي: الأقربُ فالأقربُ، فأوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ في عشيرةِ الرجلِ أولادُهُ، ثمَّ آباؤُهُ، ثمَّ إخوانُهُ، ثمَّ أعمامُهُ، وهكذا.
ويُؤْخَذُ مِنْ هذا أنَّ الأقْرَبَ فالأقربَ أَوْلَى بالإنْذَارِ؛
لأنَّ الحُكْمَ المُعَلَّقَ عَلَى وصْفٍ يَقْوَى بقُوَّةِ هذا الوصفِ، وذلكَ أنَّ الوَصْفَ المُوجِبَ للحُكْمِ كُلَّما كانَ أظْهَرَ وأبْيَنَ كانَ الحُكْمُ فيهِ أظْهَرَ وأَبْيَنَ.
وقولُهُ: (حينَ أُنْزِلَ عليْهِ) يُفِيدُ أنَّهُ لمْ يتَأَخَّرْ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، بلْ قامَ فقالَ: ((يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ)) أيْ: يا جماعةَ قريشٍ.
(9)
قولُهُ:
((اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ)) أيْ: أَنْقِذُوها؛ لأنَّ المُشْتَرِيَ نَفَسَهُ كأنَّهُ أَنْقَذَها مِنْ هَلاَكٍ، والمُشْتَرِيَ رَاغِبٌ.
ولهذا عَبَّرَ بالاشتراءِ كأنَّهُ يقولُ: اشْتَرُوا أنْفُسَكُم رَاغِبِينَ.
وفي قولِهِ: ((اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ)) مِن الحضِّ على هذا الأمرِ ما هوَ ظاهرٌ؛ لأنَّ المشتريَ يكونُ راغبًا.
قولُهُ: ((لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا)) هذا هوَ الشاهدُ؛ أيْ: لا أَدْفَعُ، أوْ لا أَنْفَعُ؛ أيْ: لا أَنْفَعُكُم بِدَفْعِ شيءٍ عنكم دونَ اللهِ، ولا أمْنَعُكُم مِنْ شيءٍ أرادَهُ اللهُ لكم؛ لأنَّ الأمرَ بِيَدِ اللهِ.
ولهذا أمرَ اللهُ نبيَّهُ بذلكَ فقالَ: {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا}.
قولُهُ: ((شَيْئًا)) نَكِرَةٌ في سياقِ النَّفْيِ، فَتَعُمُّ أيَّ شيءٍ.
(10)
قولُهُ:
((يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ)) هوَ عمُّ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وعبدُ المُطَّلِبِ جَدُّ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
فإنْ قيلَ: كيفَ يقولُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
عَبْدَ المُطَّلِبِ مَعَ أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُضَافَ عَبْدٌ إلاَّ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ؟
فالجوابُ:
أنَّ هذا ليسَ إنْشَاءً، بلْ هوَ خَبَرٌ، فاسْمُهُ عبدُ المُطَّلِبِ ولمْ يُسَمِّهِ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، لكن اشْتُهِرَ بعبدِ المُطَّلِبِ.
(11)
قولُهُ:
((لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا)) أيْ: لا أنْفَعُكَ بشيءٍ دونَ اللهِ، ولا أمْنَعُكَ مِنْ شيءٍ أرادَهُ اللهُ لكَ، فالنبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لا يُغْنِي عَنْ أحدٍ شيئًا، حتَّى عَن أبيهِ وأُمِّهِ.
(12)
قولُهُ:
((يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ)) أي: اطْلُبِينِي مِنْ مالِي ما شِئْتِ فَلَنْ أمْنَعَكِ؛ لأنَّهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مَالِكٌ لمالِهِ، ولكنْ بالنِّسْبَةِ لحقِّ اللهِ قالَ: ((لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا)).
فهذا كلامُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لأقَارِبِهِ الأقربينَ؛ عمِّهِ وعمَّتِهِ وابنتِهِ. فما بالُكَ بِمَنْ هم أبعدُ؟
فعدمُ إغنائِهِ عنهم شيئًا مِنْ بابِ أَوْلَى، فهؤلاءِ الذينَ يَتَعَلَّقُونَ بالرَّسُولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ويَلُوذُونَ ويَسْتَجِيرُونَ بهِ، قدْ غرَّهُم الشَّيْطانُ واجْتَالَهُم عنْ طريقِ الحقِّ؛ لأنَّهم تَعَلَّقوا بما ليسَ بمُتَعَلَّقٍ، فالذي يَنْفَعُ بالنِّسْبةِ للرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هوَ الإيمانُ بهِ واتِّبَاعُهُ.
أمَّا دُعاؤُهُ والتَّعَلُّقُ بهِ ورجاؤُهُ فيما يُؤَمَّلُ،
وخَشْيَتُهُ في ما يُخَافُ منهُ، فهذا شركٌ باللهِ، وهوَ ممَّا يُبْعِدُ عن الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وعن النَّجاةِ منْ عذابِ اللهِ.
ففِي الحديثِ امتثالُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لأمرِ ربِّهِ في قولِهِ تَعَالَى:
{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}
فإنَّهُ قامَ بهذا الأمرِ أتمَّ القيامِ، فدَعَا وعَمَّ وخَصَّصَ وبيَّنَ أنَّهُ لا يُنْجِي أحَدًا مِنْ عَذَابِ اللهِ بأيِّ وسيلةٍ، بَل الذي يُنْجِي هوَ الإيمانُ بهِ واتِّباعُ ما جاءَ بهِ.
وإذا كانَ القُرْبُ من النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لا يُغْنِي عن القريبِ شيئًا، دلَّ ذلكَ عَلَى مَنْعِ التَّوَسُّلِ بِجَاهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ؛ لأنَّ جاهَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لا يَنْتَفِعُ بهِ إلاَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. ولهذا كانَ أصَحَّ قَوْلَيْ أهلِ العلْمِ تَحْرِيمُ التوسُّلِ بجاهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
(13)
فيهِ مسائلُ:
الأولى:
(تفسيرُ الآيتَيْنِ)
وهما آيَتَا الأعرافِ. وسَبَقَ ذلكَ في أوَّلِ البابِ. والاسْتِفْهامُ فيهما للتَّوْبِيخِ والإنْكَارِ، وكذلكَ سَبَقَ تَفْسِيرُ الآيَةِ الثالثةِ؛ وهي آيَةُ فاطرٍ.
(14)
الثانيَةُ: (قِصَّةُ أُحُدٍ)
حيثُ شُجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ... الحديثَ.
(15)
الثالثةُ: (قُنُوتُ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ... إلخ)
أرادَ المُؤَلِّفُ بهذهِ المسألةِ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ سَيِّدَ المُرْسَلِينَ، وأَصْحَابَهُ سَادَاتِ الأولياءِ، ما أَنْقَذُوا أَنْفُسَهم، فكيفَ يُنْقِذُونَ غَيْرَهُم؟!
وليسَ مُرَادُهُ رَحِمَهُ اللهُ مُجَرَّدَ إثباتِ القُنُوتِ والتأمينِ عليهِ، ولهذا جاءت العباراتُ بسيِّدٍ وساداتٍ، فلا أحدَ أَقْرَبُ إلى اللهِ من الرسولِ وأصحابِهِ، ومعَ ذلكَ يَلْجَأُونَ إلى اللهِ سُبْحَانَهُ في كَشْفِ الكُرُباتِ، ومَنْ كانت هذهِ حالُهُ فكيفَ يُمْكِنُ أن يُلْجَأَ إليهِ في كَشْفِ الكُرُباتِ؟!
فليسَ مُرَادُ المُؤَلِّفِ إثباتَ مسألةٍ فقهيَّةٍ.
(16)
الرابعةُ: (أنَّ المَدْعُوَّ علَيْهِمْ كُفَّارٌ)
تُؤْخَذُ مِنْ قوْلِهِ تعالى: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}، فهذا دليلٌ على أنَّهم الآنَ لَيْسُوا عَلَى حالٍ مَرْضِيَّةٍ، ثمَّ إنَّهُ مَعْرُوفٌ أنَّ صَفْوَانَ بنَ أُمَيَّةَ وسُهَيْلَ بنَ عمرٍو والحارثَ بنَ هشامٍ وقتَ الدعاءِ عليهم كانوا كُفَّارًا.
وهذهِ المسألةُ؛
أيْ: أنَّ المَدْعُوَّ عليهم كُفَّارٌ، تَرْمِي إلى أنَّ الرسولَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وإنْ كانَ يَرَى أنَّهُ دعا عليهم بحقٍّ، فقدْ قَطَعَ اللهُ سبحانَهُ وتعالى أنْ يَكُونَ لهُ من الأمرِ شيءٌ؛ لأنَّهُ قدْ يَقُولُ قائلٌ: إذا كانوا كُفَّارًا أَلَيْسَ يَمْلِكُ الرسولُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنْ يَدْعُوَ عَلَيْهم؟
نقولُ:
حتَّى في هذهِ الحالِ لاَ يَمْلِكُ مِنْ أَمْرِهم شيئًا، هذا وَجْهُ قولِ المُؤَلِّفِ أنَّ المَدْعُوَّ عليهم كُفَّارٌ.
وليسَ مُرَادُهُ الإعلامَ بِكُفْرِهم؛ لأنَّ هذا مَعْلُومٌ لاَ يَسْتَحِقُّ أنْ يُعَنْوَنَ لهُ.
بل المرادُ في هذهِ الحالِ الذي كانَ هؤلاءِ كُفَّارًا لمْ يَمْلِك النبيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ شيئًا بالنسبةِ إليهم.
(17)
الخامسةُ: (أنَّهم فَعَلُوا أشياءَ ما فَعَلَها غَالِبُ الكُفَّارِ) أيْ: أنَّهم مَعَ كُفْرِهم كانُوا مُعْتَدِينَ، ومَعَ ذلكَ قِيلَ لهُ في حَقِّهِم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}.
وإلاَّ فَهُم شَجُّوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وَمَثَّلُوا بالقَتْلَى؛ مِثلِ حَمْزَةَ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ. وكذلكَ أيضًا حَرَصُوا عَلَى قَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، مَعَ أنَّ كُلَّ هؤلاءِ فيهم مِنْ بَنِي عَمِّهم، وفيهم مِن الأنصارِ.
(18)
السادسةُ:
(أَنْزَلَ اللهُ عليهِ في ذلكَ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}) أيْ: معَ ما تَقَدَّمَ مِن الأمورِ التي تَقْتَضِي أنْ يكونَ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ حقٌّ بأنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِم، أَنْزَلَ اللهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}، فالأمرُ للهِ وحدَهُ، فإذا كانَ الرسولُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَدْ قُطِعَ عنهُ هذا الشيءُ، فغَيْرُهُ مِنْ بابِ أَوْلَى.
(19)
السابعةُ: (قولُهُ: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}
، فتابَ عَلَيْهِم فآمَنُوا) وهذا دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ سُلْطانِ اللهِ وقُدْرَتِهِ؛ فهؤلاءِ الذينَ جَرَى مِنْهم ما جَرَى تابَ اللهُ عَلَيْهِم وآمَنُوا؛ لأنَّ الأمرَ كُلَّهُ بيَدِهِ سبحانَهُ، وهوَ الذي يُذِلُّ مَنْ يشاءُ ويُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ؛ فَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ومَنْ دُونَهُ لا يَسْتَطِيعُونَ أنْ يُغيِّرُوا شيئًا مِنْ أمْرِ اللهِ.
(20)
الثامنةُ: (القنوتُ في النوازِلِ)
وهذهِ هيَ المسألةُ الفقهِيَّةُ، فإذا نَزَلَ بالمسلمينَ نازلةٌ فإنَّهُ يَنْبَغِي أنْ يُدْعَى لَهُم حَتَّى تَنْكَشِفَ.
وهذا القُنُوتُ مشروعٌ في كلِّ الصلواتِ، كما في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما الذي رَوَاهُ أحْمَدُ وغيرُهُ، إلاَّ أنَّ الفقهاءَ رحِمَهُم اللهُ اسْتَثْنَوا الطَّاعُونَ وقَالُوا: لا يُقْنَتُ لهُ؛ لعدمِ وُرودِ ذلكَ، وقَدْ وَقَعَ في عهدِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ ولَمْ يَقْنُتْ. ولأنَّهُ شهادةٌ؛ فلا يَنْبَغِي الدُّعاءُ برَفْعِ سَبَبِ الشَّهَادَةِ.
وظاهرُ السُّنَّةِ: أنَّ القُنُوتَ إنَّما يُشْرَعُ في النَّوازلِ التي تكونُ مِنْ غيرِ اللهِ،
مِثلِ: إيذاءِ المسلمينَ والتَّضْيِيقِ عَلَيْهِم.
أمَّا ما كانَ مِنْ فِعْلِ اللهِ؛
فإنَّهُ يُشْرَعُ لهُ ما جَاءتْ بهِ السُّنَّةُ، مثلُ: الكُسُوفِ، فيُشْرَعُ لهُ صلاةُ الكسوفِ، والزلازلُ شُرِعَ لها صلاةُ الكُسُوفِ، كما فَعَلَ ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهما وقالَ: (هذهِ صلاةُ الآياتِ)وَالْجَدْبُ يُشْرَعُ لهُ الاسْتِسْقَاءُ، وهكذا.
وما عَلِمْتُ لِسَاعَتِي هذهِ أنَّ القُنُوتَ شُرِعَ لأمرٍ نَزَلَ مِن اللهِ، بَلْ يُدْعَى لهُ بالأَدْعِيَةِ الوَارِدةِ الخَاصَّةِ، لكنْ إذا ضُيِّقَ عَلَى المُسْلِمينَ وأُوذُوا وما أَشْبَهَ ذلكَ؛ فإنَّهُ يُقْنَتُ اتِّباعًا للسُّنَّةِ في هذا الأمرِ.
ثُمَّ مَن الذي يَقْنُتُ، الإمامُ الأعظمُ، أوْ إمامُ كُلِّ مسجدٍ، أوْ كُلُّ مُصَلٍّ؟
المَذْهَبُ:
أنَّ الذِي يَقْنُتُ هوَ الإمامُ الأعْظَمُ فقطْ؛ الذي هوَ الرئيسُ الأعْلَى للدَّوْلَةِ.
وقيلَ: يَقْنُتُ كُلُّ إمامِ مَسْجِدٍ.
وقيلَ:
يَقْنُتُ كلُّ مُصَلٍّ،
وهوَ الصَّحيحُ؛ لِعُمُومِ قولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:((صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)) وهذا يَتَنَاولُ قُنُوتَهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عِنْدَ النَّوازِلِ.
(21)
التاسعةُ: (تَسْمِيَةُ المدعوِّ عليهم في الصلاةِ بأسمائِهم وأسماءِ آبائِهم)
وهمْ صفوانُ بنُ أُمَيَّةَ، وسُهَيْلُ بنُ عمرٍو، والحَارِثُ بنُ هشامٍ، فسَمَّاهُم بأسمائِهِم وأسماءِ آبائِهِم، لكنْ هلْ هذا مَشْرُوعٌ أوْ جَائزٌ؟
الجوابُ:
هذا جائزٌ، وعليهِ؛ فإذا كانَ في تَسْمِيَةِ المَدْعُوِّ عليهم مَصْلَحةٌ كانَت التَّسْمِيَةُ أَوْلَى، لوْ دَعَا إنْسانٌ لأُنَاسٍ مُعَيَّنِينَ في الصَّلاَةِ جازَ؛ لأنَّهُ لا يُعَدُّ مِنْ كلامِ الناسِ، بلْ هوَ دُعاءٌ، والدُّعاءُ مُخَاطَبَةُ اللهِ تَعَالَى، ولاَ يَدْخُلُ في عُمُومِ قولِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ)).
مَسْأَلةٌ: هَل الذي نُهِيَ عنهُ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ الدُّعاءُ أوْ لَعْنُ المُعَيَّنِينَ؟
الجوابُ:
المنهيُّ عنهُ هوَ لَعْنُ الكُفَّارِ في الدُّعاءِ عَلَى وجهِ التَّعْيِينِ، أمَّا لَعْنُهُم عمومًا فلا بَأْسَ بهِ، وقَدْ ثَبَتَ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ أنَّهُ كانَ يَقْنُتُ ويَلْعَنُ الْكَفَرةَ عُمُومًا، ولاَ بَأْسَ بِدُعائِنا عَلَى الكَافِرِ بقَوْلِنا: اللهُمَّ أَرِح المسلمينَ منهُ، واكْفِهِم شَرَّهُ، واجْعَلْ شَرَّهُ في نَحْرِهِ، ونحوِ ذلكَ.
أمَّا الدعاءُ بالهلاكِ لعمومِ الكُفَّارِ فإنَّهُ مَحَلُّ نظرٍ؛
ولهذا لم يَدْعُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَلَى قُرَيْشٍ بالهلاكِ، بَلْ قالَ: ((اللهُمَّ عَلَيْكَ بِهِمْ، اللهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ)) وهذا دعاءٌ عليهم بالتَّضْيِيقِ، والتَّضْييقُ قَدْ يَكُونُ مِنْ مَصْلَحةِ الظَّالمِ بحيثُ يَرْجِعُ إلى اللهِ عنْ ظُلْمِهِ.
فالمُهِمُّ أنَّ الدُّعاءَ بالهلاكِ لجِمِيعِ الكُفَّارِ عِنْدِي تَرَدُّدٌ فيهِ.
وقدْ يُسْتَدَلُّ بدعاءِ خُبَيْبٍ حَيْثُ قالَ: ((اللهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، ولا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا)) على جوازِ ذلكَ؛ لأنَّهُ وَقَعَ في عَهْدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ولأنَّ الأمرَ وَقَعَ كما دَعَا؛ فإنَّهُ ما بَقِيَ مِنْهُم أحَدٌ عَلَى رَأْسِ الحَوْلِ، ولَمْ يُنْكِر اللهُ تَعَالَى ذلكَ، ولا أنْكَرَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، بلْ إنَّ إجابةَ اللهِ دُعَاءَهُ يَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بِهِ وإِقْرَارِهِ عليهِ.
فهذا قَدْ يُسْتَدَلُّ بهِ عَلَى جَوَازِ الدُّعاءِ عَلَى الكُفَّارِ بالْهَلاكِ، لَكِنْ يُحْتَاجُ أنْ يُنْظَرَ في القِصَّةِ فقدْ يكونُ لها أسبابٌ خاصَّةٌ لا تَأْتِي في كلِّ شيءٍ.
ثمَّ إنَّ خُبَيْبًا دَعَا بالهلاكِ لِفِئَةٍ مَحْصُورَةٍ مِن الكُفَّارِ لاَ لِجَمِيعِ الكفَّارِ.
وفيهِ:
أيضًا، إنْ صحَّ الحديثُ،
دُعَاؤُهُ عَلَى عُتْبَةَ بنِ أبي لَهَبٍ: ((اللهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلاَبِكَ)).
فيهِ:
دليلٌ عَلَى الدُّعاءِ بالْهَلاَكِ،
لكنْ هذا عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ لاَ عَلَى جَمِيعِ الكُفَّارِ.
(22)
العاشرةُ: (لَعْنُ المُعَيَّنِ في القُنُوتِ)
هذا غريبٌ، فإنْ أرادَ المُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ أنَّ هذا أَمْرٌ وَقَعَ، ثُمَّ نُهِيَ عنهُ فَلاَ إِشْكَالَ، وإنْ أرادَ أنَّهُ يُسْتَفادُ مِنْ هذا جَوَازُ لَعْنِ المُعَيَّنِ في القُنُوتِ أبدًا، فهذا فيهِ نَظَرٌ؛ لأنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نُهِيَ عنْ ذلكَ.
(23)
الحاديَةَ عشرةَ: (قِصَّتُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لمَّا أُنْزِلَ عليهِ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}
) وهيَ أنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ الآيَةُ نادَى قُرَيْشًا، فَعَمَّ ثمَّ خصَّ، فامْتَثَلَ أَمْرَ اللهِ في هذهِ الآيَةِ.
(24)
الثانيَةَ عشرةَ: (جِدُّهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في هذا الأمرِ بحَيْثُ فعلَ ما نُسِبَ بسَبَبِهِ إلى الجُنُونِ)
أي: اجْتِهَادُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ في هذا الأمرِ بحيثُ قالُوا: إنَّ مُحَمَّدًا جُنَّ، كيفَ يَجْمَعُنا ويُنَادِينَا هذا النِّدَاءَ.
وقولُهُ: (وَكَذَا لوْ فعَلَهُ مُسْلِمٌ الآنَ) أيْ: لوْ أنَّ إنْسَانًا جَمَعَ النَّاسَ ثمَّ قامَ يُحَذِّرُهُم لِتَحْذِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لقالُوا: مَجْنُونٌ؛ إلاَّ إذا كانَ مُعْتادًا عندَ الناسِ، قالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} وقالَ تَعَالَى: {يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}.
فهذا يَخْتَلِفُ باخْتِلاَفِ البلادِ والزَّمَانِ.
ثمَّ إنَّهُ يَجِبُ عَلَى الإنْسَانِ أنْ يَبْذُلَ جُهْدَهُ واجْتهادَهُ في الدَّعْوةِ إلَى اللهِ بالحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ، والنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قامَ بهذا الأمرِ ولَمْ يُبَالِ بِمَا رُمِيَ بهِ مِن الجُنُونِ.
(25)
الثالثةَ عشرةَ: (قولُهُ للأبعدِ والأقربِ: ((لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا)))
صدقَ رَحِمَهُ اللهُ فيما قالَ؛ فإنَّهُ إذَا كانَ هذا القائلُ سيِّدَ المُرْسَلِينَ، وقالَهُ لِسَيِّدَةِ نِسَاءِ العَالَمِينَ، ثمَّ نحنُ نُؤْمِنُ أنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ لاَ يَقُولُ إلاَّ الحَقَّ، وأنَّهُ لا يُغْنِي عن ابْنَتِهِ شيئًا.