اعتراضٌ على إثباتِ القَدْرِ المشترَكِ
قولُه : ( فإن قيلَ: إنَّ الشيءَ إذا شابَهَ غيرَه من وجهٍ جازَ عليه من ذلك الوجهِ ما يَجوزُ عليه ووَجَبَ له ما وَجَبَ له ، وامْتَنَعَ عليه ما امْتَنَعَ عليه " ).
التوضيحُ
إذا اعْتَرَضَ مُعْتَرِضٌ على إثباتِنا للقَدْرِ المشترَكِ بينَ صفاتِ الخالقِ وصفاتِ المخلوقِ بأن قالَ : إن الشيئين إذا اشْتَبَهَا من وجهٍ جازَ على أحدِهما ما يَجُوزُ للآخَرِ من ذلك الوجْهِ ، فإذا جازَ على أحدِهما النَّقْصُ من ذلك الوجهِ جازَ على الآخَرِ النقْصُ كذلك ، وكذلك يَمْتَنِعُ على أحدِهما ما يَمْتَنِعُ على الآخَرِ من ذلك الوجهِ المشترَكِ ، ويَجِبُ لأحدِهما ما يَجِبُ للآخَرِ ، وعليه يكونُ قد وَقَعَ التشبيهُ بينَ الخالقِ والمخلوقِ .
الجوابُ
قولُه: ( قيلَ : هَبْ أنَّ الأمْرَ كذلك, ولكن إذا كان ذلك القدْرُ المشترَكُ لا يَسْتَلْزِمُ إثباتَ ما يَمْتَنِعُ على الربِّ سبحانَه, ولا نَفْيَ ما يَسْتَحِقُّه لم يكنْ مُمْتَنِعًا كما إذا قيلَ: إنه مَوْجودٌ حيٌّ عليمٌ سميعٌ بصيرٌ ، وقد سَمَّى بعضَ عِبادِه حَيًّا سَميعًا عليمًا بصيرًا ، فإذا قيلَ : يَلْزَمُ أن يَجوزَ عليه ما يَجوزُ على ذلك من جِهةِ كونِه مَوْجودًا حيًّا عليمًا سميعًا بصيرًا ؟
قيلَ : لازِمُ هذا القدْرِ المشترَكِ ليس مُمْتَنِعًا على الربِّ تعالى ، فإنَّ ذلك لا يَقْتَضِي حدوثًا ولا إمكانًا ولا نَقْصًا ولا شيئًا مِمَّا يُنافِي صفاتِ الربوبيَّةِ ، وذلك أنَّ القدْرَ المشترَكَ هو مُسَمَّى الوُجودِ أو المَوْجودِ أو الحياةِ أو الحيِّ أو العلْمِ أو العليمِ أو السمْعِ والبصَرِ أو السميعِ والبصيرِ أو القدرةِ ، أو القديرِ, والقدْرُ المشترَكُ مُطْلَقٌ كلِّيٌّ لا يَخْتَصُّ بأحدِهما دونَ الآخَرِ, فلم يَقَعْ بينَهما اشتراكٌ لا فيما يَخْتَصُّ بالممْكِنِ المُحْدَثِ ولا فيما يَخْتَصُّ بالواجِبِ القديمِ ، فإنَّ ما يَخْتَصُّ به أحدُهما يَمتنِعُ اشتراكُهما فيه .
فإذا كان القدْرُ المشترَكُ الذي اشْتَرَكا فيه صفةَ كمالٍ كالوُجودِ والحياةِ والعلْمِ والقُدرةِ, ولم يكنْ في ذلك شيءٌ مما يَدُلُّ على خصائصِ المخلوقينَ كما لا يَدُلُّ على شيءٍ من خصائصِ الخالِقِ لم يكنْ في إثباتِ هذا محذورٌ أَصْلاً ، بل إثباتُ هذا من لوازِمِ الوُجودِ فكلُّ مَوْجودَيْنِ لا بدَّ بينَهما مِثْلُ هذا ، ومَن نَفَى هذا لَزِمَه تعطيلُ وُجودِ كلِّ مَوْجودٍ ؛ ولهذا لَمَّا اطَّلَعَ الأَئِمَّةُ على أنَّ هذا حقيقةُ قولِ الجَهْمِيَّةِ سَمَّوْهُم مُعَطِّلَةً ، وكان جَهْمٌ يُنْكِرُ أن يُسَمَّى اللهُ شيئًا, ولرُبَّمَا قالَت الجَهْمِيَّةُ : هو شيءٌ, لا كالأشياءِ, فإذا نُفِيَ القدْرُ المشترَكُ مُطْلَقًا لَزِمَ التعطيلُ العامُّ ، والمعاني التي يُوصَفُ بها الربُّ تعالى كالحياةِ والعلْمِ والقُدرةِ, بل والوُجودِ والثبوتِ والحقيقةِ ونحوَ ذلك تَجِبُ له لوازِمُها ؛ فإنَّ ثبوتَ الملزومِ يَقْتَضِي ثبوتَ اللازمِ ، وخصائصُ المخلوقِ التي يَجِبُ تنزيهُ الربِّ عنها ليست من لوازمِ ذلك أَصْلاً ، بل تلك من لوازمِ ما يَخْتَصُّ بالمخلوقِ من وُجودٍ وحياةٍ وعلْمٍ ونحوَ ذلك . واللهُ سبحانَه مُنَزَّهٌ عن خصائصِ المخلوقينَ وملزوماتِ خصائصِهم ).
التوضيحُ
هذا جوابُ الاعتراضِ, وحاصِلُه كما يَلِي :
أنه لو فَرَضْنَا أنَّ قولَ المعترِضِ صحيحٌ فإذا كان القدْرُ المشترَكُ لا يَسْتَلْزِمُ إثباتَ ما يَمْتَنِعُ على اللهِ أو نَفْيَ ما يَجِبُ عليه فعندَها لا يكونُ هذا الاشتراكُ مُمْتَنِعًا .
و أيضًا فإننا إذا قُلْنَا: إنَّ اللهَ تعالى مَوْجودٌ حيٌّ عليمٌ سميعٌ بصيرٌ ، وسَمَّى بعضَ عِبادَه حَيًّا سَميعًا عليمًا بصيرًا فهو مُطْلَقٌ لا فيما يَخْتَصُّ بالخالِقِ أو المخلوقِ من خصائصَ .
بل إثباتُ هذا القدْرِ المشترَكِ الكلِّيِّ من لوازمِ الوُجودِ, فكلُّ مَوْجودينِ لا بُدَّ أن يَشْتَرِكَا في هذا المعنى العامِّ الذي هو ضِدُّ العدَمِ, ومَن نَفَى هذا المعنى العامَّ لَزِمَه تعطيلُ الوُجودِ ، لذلك لَمَّا تَفَطَّنَ الأَئِمَّةُ لحقيقةِ قولِ الْجَهْميِّ, وأنه يُفْضِي إلى نَفْيِ وُجودِ اللهِ سَمَّوْهُم مُعَطِّلَةً ، وكان جَهْمٌ يُنْكِرُ أن يُسَمَّى اللهُ شيئًا مع أنَّ كلَّ مَوْجودٍ شيءٌ, وقد وَرَدَ إطلاقُ الشيءِ على اللهِ تعالى كما في قولِه تعالى : } قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ{ ولكنَّ أَتْبَاعَهُ الجَهْمِيَّةَ قالوا : شيءٌ لا كالأشياءِ, ومُرادُهم بذلك نَفْيُ الصِّفاتِ .
وجميعُ المعاني التي يُوصَفُ اللهُ تعالى بها كالحياةِ والعلْمِ والقُدرةِ تَثْبُتُ للهِ تعالى مع لوازمِها ؛ فحياةُ اللهِ تعالى يَلْزَمُ منها عَدَمُ الموتِ والأزليَّةُ ونحوَها من خصائصِ الخالِقِ ، وعِلْمُه يَلْزَمُ منه الكمالُ المُطْلَقُ وهكذا .. فخصائصُ المخلوقِ ليست من لوازِمِ تلك الصِّفاتِ ؛ لأنَّ اللهَ تعالى مُنَزَّهٌ عن خصائصِ المخلوقاتِ ومَلزُومَاتِها كالحدوثِ والافتقارِ, فبذلك لا يكونُ في إثباتِ القَدْرِ المشترَكِ تشبيهٌ .
ملحوظةٌ :
في كلامِ شيخِ الإسلامِ: ( إنَّ جَهْمًا كان يُنْكِرُ أن يُسَمَّى اللهُ شيئًا ) .
ليس المقصودُ من هذا الكلامِ أنَّ من أسماءِ اللهِ تعالى ( الشيءَ ) وإنما المقصودُ أنَّ الْجَهْمَ كان يُنْكِرُ أن يُقالَ ( بأنَّ اللهَ شيءٌ ) كما قالَ عبدُ القاهِرِ البَغداديُّ : " وقالَ – يعني الْجَهْمُ – : لا أَصِفُه بوَصْفٍ يَجُوزُ إطلاقُه على غيرِه كشيءٍ ومَوْجودٍ وحيٍّ وعليمٍ ومُريدٍ ونحوَ ذلك ... " فإنَّ ( الشيءَ ) ليس من أسماءِ اللهِ تعالى, بل يُطْلَقُ على اللهِ تعالى من بابِ الإخبارِ؛ لأنَّ أسماءَ اللهِ تعالى حُسْنَى, أي: بالِغَةٌ في الحسْنِ ، والشيءُ إنما هو خَبَرٌ عن وُجودِه كما فَصَّلَ ذلك شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ وابنُ القيِّمِ في البدائعِ ، وكذلك الشيخُ عبدُ اللهِ الغُنَيْمَانُ في شرْحِه لكتابِ التوحيدِ من صحيحِ البخاريِّ مُعَلِّقًا على تبويبِ البخاريِّ : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ } فَسَمَّى اللهُ تعالى نفسَه شيئًا, وسَمَّى النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرآنَ شيئًا, وهو صِفَةٌ من صفاتِ اللهِ, وقالَ : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } . قالَ الشيخُ الغُنَيْمَانُ : " يُريدُ بهذا أنه يُطْلَقُ على اللهِ تعالى أنه شيءٌ وكذلك صفاتُه ، وليس معنى ذلك أنَّ الشيءَ مِن أسماءِ اللهِ الْحُسنى ولكن يُخْبَرُ عنه تعالى بأنه شيءٌ ، وكذا يُخبَرُ عن صفاتِه بأنها شيءٌ؛ لأنَّ كلَّ مَوْجودٍ يَصِحُّ أن يُقالَ: إنه شيءٌ .
تَكرارٌ لمسألةِ الاشتراكِ ( القَدْرُ المشترَكُ )
قولُه : ( وهذا الْمَوْضِعُ مَن فَهِمَه فَهْمًا جَيِّدًا وتَدَبَّرَه زَالَتْ عنه عامَّةُ الشُّبُهَاتِ وانكشَفَ له غَلَطُ كثيرٍ من الأذكياءِ في هذا المَقامِ ، وقد بُسِطَ هذا في مَواضِعَ كثيرةٍ ، وبُيِّنَ فيها أنَّ القدْرَ المشترَكَ الكُلِّيَّ لا يُوجَدُ في الخارِجِ إلا مُعَيَّنًا مُقَيَّدًا, وأنَّ معنى اشتراكِ المَوْجوداتِ في أمْرٍ من الأمورِ هو تشابُهُها من ذلك الوجهِ ، وأنَّ ذلك المعنى العامَّ يُطْلَقُ على هذا ، وهذا لأنَّ المَوْجوداتِ في الخارِجِ لا يُشارِكُ أحدُها الآخَرَ في شيءٍ مَوْجودٍ فيه, بل كلُّ مَوْجودٍ مُتَمَيِّزٌ عن غيرِه بذاتِه وصفاتِه وأفعالِه ).
التوضيحُ
تَكَرَّرَتْ هذه المسألةُ كثيرًا, وهي أنَّ القدْرَ المشترَكَ الكلِّيَّ لا يُوجَدُ في الخارِجِ إلا مُعَيَّنًا مُقَيَّدًا ، وأنَّ هذا المعنى يُطْلَقُ على الخالِقِ, و على المخلوقِ دونَ الاشتراكِ في شيءٍ مَوْجودٍ في الخارِجِ ، بل كلُّ وُجودٍ مُتَمَيِّزٌ عن غيرِه بذاتِه وأفعالِه وصِفاتِه ، وبسببِ عدَمِ فَهْمِ هذا الفرْقِ وَقَعَ كثيرٌ من الناسِ في التَّناقُضِ والاضطرابِ ، وقد كان هذا المفهومُ مُسْتَقِرًّا عندَ السلَفِ, وإن لم يُصَرِّحُوا بمصطَلَحِ القدْرِ المشترَكِ .
مثالُ التَّناقُضِ بسببِ عدَمِ فَهْمِ القدْرِ المشترَكِ
قولُه : ( وَلَمَّا كان الأمْرُ كذلك كان كثيرٌ من الناسِ مُتَناقِضًا في هذا المَقامِ فتارةً يَظُنُّ أنَّ إثْبَاتَ القَدْرِ المشترَكِ يُوجِبُ التشبيهَ الباطِلَ فيَجْعَلُ ذلك له حُجَّةً فيما يَظُنُّ نَفْيَهُ من الصِّفاتِ حَذَرًا من ملزوماتِ التشبيهِ ، وتارةً يَتَفَطَّنُ إلى أنه لا بُدَّ من إثباتِ هذا على كلِّ تقديرٍ فيُجِيبُ به فيما يُثْبِتُه من الصِّفاتِ لِمَن احْتَجَّ به من النُّفَاةِ ).
التوضيحُ
مَن يَظُنَّ أنَّ إثباتَ القَدْرِ المشترَكِ يُوجِبُ التشبيهَ يَنْفِ بعضَ الصِّفاتِ كالأشاعرةِ مَثَلاً يَنْفُونَ الاستواءَ فِرارًا من التشبيهِ, كما سَبَقَ ، ثم يُثْبِتُ بعضَ الصِّفاتِ كالسمْعِ والبصَرِ والكلامِ ، ويَتَفَطَّنُ إلى ضرورةِ هذا القدْرِ المشترَكِ فتَرَاهُ يَرُدُّ على المُعْتَزِلَةِ مَثَلاً إذا نَفَتْ هذه الصِّفاتِ التي يُثْبِتُها هو فيَتَناقَضُ في نفيِه للقَدْرِ المشترَكِ تارةً وإثباتِه له تارةً أُخرى .
أَمْثِلَةٌ للاشتباهِ والاضطراباتِ في القدْرِ المشترَكِ
قولُه : ( ولكثرةِ الاشتباهِ في هذا المَقامِ وَقَعَت الشُّبْهَةُ في أنَّ وُجودَ الربِّ هل هو عينُ ماهِيَّتِه أو زائدٌ على ماهيَّتِه ؟ وهل لفْظُ " الوُجودِ " مقولٌ بالاشتراكِ اللفظيِّ أو التواطؤِ أو التشكيكِ كما وَقَعَ الاشتباهُ في إثباتِ الأحوالِ ونَفْيِها, وفي أنَّ المعدومَ هل هو شيءٌ أمْ لا؟ وفي وُجودِ المَوْجوداتِ هل هو زائدٌ على ماهِيَّتِها أمْ لا ؟ وقد كَثُرَ من أَئِمَّةِ النُّظَّارِ الاضطرابُ والتَّناقُضُ في هذه المَقاماتِ, فتارةً يقولُ أحدُهم القولَيْنِ المتَناقضينِ ويَحْكِي عن الناسِ مقالاتٍ ما قالوها ، وتارةً يَبْقَى في الشكِّ والتحيُّرِ وقد بَسَطْنَا الكلامَ في هذه المَقاماتِ ، وما وَقَعَ من الاشتباهِ والغلَطِ والْحيرَةِ فيها لأَئِمَّةِ الكلامِ والفلسفةِ بما لا تَتَّسِعُ له هذه الْجُمَلُ الْمُخْتَصَرَةُ ).
التوضيحُ
أشارَ هنا إلى اضطراباتِ المُتَكَلِّمِينَ والفَلاسِفَةِ ، وانتهاءِ أمْرِهم إلى الشكِّ والتحَيُّرِ ، ونَذْكُرُ أَمْثِلَةً لهؤلاءِ :
فمنهم الخونجيُّ الذي قالَ فيه شيخُ الإسلامِ : " وقد بَلَغَنِي بإسنادٍ مُتَّصِلٍ عن بعضِ رؤوسِهم, وهو الخونجيُّ, أنه قالَ عندَ الموتِ : أَمُوتُ وما عَلِمْتُ شيئًا إلا أنَّ الْمُمْكِنَ يَفتَقِرُ إلى الواجبِ ثم قالَ : الافتقارُ وَصْفٌ عَدَمِيٌّ, أموتُ وما عَلِمْتُ شيئًا " وقالَ شيخُ الإسلامِ أيضًا : حَدَّثَنِي مَن قَرَأَ على ابنِ واصلٍ الْحَمَوِيِّ أنه قالَ : أَبِيتُ بالليلِ وأَسْتَلْقِي على ظَهْرِي, وأَضَعُ الْمِلْحَفَةَ على وَجْهِي ، وأَبِيتُ أُقَابِلُ أَدِلَّةَ هؤلاءِ بأَدِلَّةِ هؤلاءِ وبالعكْسِ, وأُصْبِحُ وما تَرَجَّحَ عِندي شيءٌ " .
وقالَ الشَّهْرَسْتَانِيُّ :-
لعَمْرِي لقد طُفْتُ الْمَعَاهِدَ كُلَّها = وسَيَّرْتُ طَرْفِي بينَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ
فلم أَرَ إلا وَاضِعًا كَفَّ حائِرٍ = على ذَقَنٍ أو قَارِعًا سِنَّ نَادِمِ
وقالَ الإمامُ الرازيُّ :-
نِهايةُ إِقدامِ العُقولِ عَقَالُ = وأكثَرُ سَعْيِ العالَمِينَ ضَلاَلُ
وأَرْوَاحُنا في وَحْشَةٍ من جُسُومِنا = وحاصِلُ دُنيانا أَذًى ووَبَالُ
ولم نَسْتَفِدْ من بَحْثِنا طُولَ عُمْرِنا = سوى أنْ جَمَعْنَا فيه قِيلَ وقَالُوا
قالَ : " لقد تَأَمَّلْتُ الطرُقَ الكلاميَّةَ والمناهِجَ الفلسفيَّةَ فما وَجَدْتُها تَشْفِي عَلِيلاً, ولا تَرْوِي غَليلاً ، ورَأَيْتُ أَقْرَبَ الطرُقِ طريقةَ القرآنِ, أَقْرَأُ في الإثباتِ: } الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {
وفي النفيِ } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ { وهذه طريقةُ أهْلِ السُّنَّةِ المُنَزَّهٌَةُ عن التَّناقُضِ والاضطرابِ .
لذلك قالَ الوليدُ الكرابيسيُّ لِبَنِيهِ عندَ وفاتِه : " تَعْلَمُونَ أحدًا أَعْلَمَ بالكلامِ مِنِّي ؟ قالوا : لا ، قالَ : فَتَتَّهِمُونَنِي ؟ قالوا : لا . قالَ : فإني أُوصِيكُم أَتَقْبَلُونَ ؟ قالوا : نعم .قالَ : عليكم بما عليه أصحابُ الحديثِ؛ فإني رأيتُ الحقائقَ معهم .
وشهاداتُ المتكلِّمِينَ على أنفسِهم بالشكِّ والْحَيْرَةِ والاضطرابِ أكثَرُ من أنْ تُحْصَى .
وقد ذَكَرَ شيخُ الإسلامِ هنا خَمْسَ مسائلَ ظَهَرَ فيها اضطرابُ المُتَكَلِّمِينَ بسببِ الاضطرابِ في الاشتراكِ وهى :
وُجودُ الربِّ هل هو عينُ ماهِيَّتِه أو زائدٌ عن ماهيَّتِهِ ؟
لفظُ الوُجودِ مَقُولٌ بالاشتراكِ اللفظيِّ أو التواطُئِ أو التشكيكِ .
إثباتُ الأحوالِ ونَفْيُها .
المعدومُ شيءٌ أمْ لا ؟
وُجودُ المَوْجوداتِ زائدٌ عن ماهيَّتِها أمْ لا ؟
تحقيقُ الحقِّ في هذه المسائلِ
قولُه : ( وبَيَّنَّا أنَّ الصوابَ هو أنَّ وُجودَ كلِّ شيءٍ في الخارِجِ هو ماهيَّتُه المَوْجودةُ في الخارِجِ بخِلافِ الماهيَّةِ التي في الذِّهْنِ فإنها مغايِرَةٌ للوُجودِ في الخارِجِ ، وأنَّ لفظَ الوُجودِ كلَفْظِ " الذاتِ " و " الشيءِ " و " الماهيَّةِ " و " الحقيقةِ " ونحوَ ذلك ألفاظٌ كلُّها متواطِئَةٌ, فإذا قيلَ : إنها مُشَكِّكَةٌ لتفاضُلِ معانيها فالْمُشَكِّكُ نوعٌ من الْمُتَوَاطِئِ العامِّ الذي يُرَاعَى فيه دَلالةُ اللفظِ على القَدْرِ المشترَكِ سواءٌ كان المعنى مُتَفَاضِلاً في موارِدِه أو مُتَمَاثِلاً ، وبَيَّنَّا أنَّ المعدومَ شيءٌ أيضًا في العلْمِ والذهْنِ لا في الخارِجِ ، فلا فَرْقَ بينَ الثبوتِ والوُجودِ, لكنَّ الفرْقَ ثابتٌ بينَ الوُجودِ العِلْمِيِّ والعَيْنيِّ مع أنَّ ما في العلْمِ ليس هو الحقيقةَ المَوْجودةَ ، ولكنَّ هو العلْمُ التابِعُ للعالِمِ القائمِ به ، وكذلك الأحوالُ التي تتَمَاثَلُ فيها المَوْجوداتُ وتَخْتَلِفُ لها وُجودٌ في الأذهانِ ، وليس في الأعيانِ إلا الأعيانُ المَوْجودةُ وصِفَاتُهَا القائمةُ بها الْمُعَيَّنَةُ فتَتَشابَهُ بذلك وتَخْتَلِفُ به ) .
التوضيحُ
أوَّلاً : المسألةُ الأُولى داخِلَةٌ في المسألةِ الخامسةِ ، فالكلامُ عن الخامسةِ يُغْنِي عنها فنقولُ : وُجودُ المَوْجوداتِ هو عينُ ماهيَّتِها أو حقيقتِها في الخارِج لكنه زائدٌ على ماهيَّتِها في الذهْنِ؛ فإنه في الذهْنِ يكونُ عامًّا كُلِّيًّا, و في الخارِجِ يَزيدُ بتقييداتٍ وتَخصيصاتٍ هي عينُ حقيقتِه الخارِجيَّةِ الزائدةِ عما في الذهْنِ .
لذا فقَوْلُهم : (الوُجودُ زائدٌ عن الماهيَّةِ أو لا ؟ ) يَحتاجُ إلى التفصيلِ السابقِ بِحَسَبِ الذهْنِ والخارِجِ .
ثانيًا: المسألةُ الثانيةُ : سَبَقَ القولُ الصحيحُ فيها, وهو أنَّ الوُجودَ مُتَواطِئٌ –أي: مُتَّحِدٌ لَفْظًا ومعنًى- والفرْقُ بينَ التواطُئِ والتشكيكِ هو :
أنَّ التواطؤَ اتِّفَاقٌ في اللفظِ والمعنى مع الاتِّحادِ في المعنى الكلِّيِّ كلفظِ ( الإنسانِ ) فإنَّ زيدًا وعَمْرًا مُتَّفِقَانِ في الإنسانيَّةِ, ولا يَتفاوتانِ فيها.
أمَّا التشكيكُ فهو اتِّفاقٌ في اللفظِ والمعنى أيضًا لكن مع التَّفَاوُتِ في المعنى الكلِّيِّ مثلَ البَيَاضِ؛ فإنَّ الثَّلْجَ والإنسانَ مُتَّفِقَانِ في البَيَاضِ مع التفاوُتِ بينَ بَيَاضِ كلٍّ منهما .
ثالثًا : المسألةُ الثالثةُ : وفيها الأحوالُ : وهى تَخْتَلِفُ عن أحوالِ الصوفيَّةِ الآتيةِ في الأصْلِ الثاني ، ومفهومُها عندَ مَن يقولُ بها النِّسْبَةُ بينَ الصفةِ والموصوفِ فيقولون ؛ العالَمُ صفةٌ والعالَمِيَّةُ نِسبةٌ بينَ الصفةِ والموصوفِ ؛ وهي عندَهم معنًى زائدٌ عن العلْمِ ومثلُه القادريَّةُ والفاعليَّةُ وغيرُها ، ويقولون: إنها لا مَوْجودةٌ بذاتِها, ولا معدومةٌ, بل هي واسِطَةٌ بينَهما ، وهذا القولُ باطِلٌ ولا فَرْقَ بينَ العلْمِ والعالَمِيَّةِ والقدْرَةِ والقادِرِيَّةِ ، وتفسيرُهم للأحوالِ مُمْتَنِعٌ بضرورةِ العَقْلِ فهي لا وُجودَ لها إلا في الأذهانِ ، وأمَّا في الأعيانِ فلا تُوجَدُ إلا الذواتُ وصفاتُها القائمةُ بها . ومِمَّنْ قالَ بها أبو هاشمٍ الْجُبَائِيُّ المعتزليُّ والجُوَيْنيُّ والباقلانيُّ و أبو يَعْلَى الحنبليُّ لذلك يُقالُ من الْمُحالاتِ أحوالُ أبي هاشمٍ .
رابعًا : المسألةُ الرابعةُ : الحقُّ فيها أنَّ المعدومَ شيءٌ في العلْمِ والذهْنِ وليس بشيءٍ في الخارِجِ وهذا التفصيلُ هو الذي تَجْتَمِعُ عليه الأَدِلَّةُ خِلافًا للمُعْتَزِلَةِ القائلينَ بأنه شيءٌ مُطْلَقًا فأَدِلَّةُ كونِه شيئًا في العلْمِ :-
قولُه تعالى: } إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا { فالشيءُ هنا غيرُ مَوْجودٍ, لكنه معلومٌ مرادٌ.
قولُه :} إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ { فهي لم تَقَعْ, لكنها معلومةٌ .
وأَدِلَّةُ كونِه ليس بشيءٍ في الخارِج :-
قولُه تعالى :} وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا { أي: في الخارِجِ .
وقولُه :} أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا { أي: في الخارِج فالمعدومُ شيءٌ عِلْمِيٌّ لا عَيْنِيٌّ .
وكلٌّ من لفظِ الوُجودِ والذاتِ والشيءِ والماهيَّةِ والحقيقةِ مُتَوَاطِئٌ, ومَن قالَ: إنها مُشَكَّكَةٌ فالْمُشَكَّكُ نوعٌ من التَّوَاطُئِ العامِّ, الذي تَتَّفِقُ فيه المعاني الكُلِّيَّةُ ، وإن كان مُتفاوِتًا في أفرادِه أو مُتَمَاثِلاً ، أي: أنَّ كُلًّا من الْمُشَكَّكِ والمتواطئَ مَرْجِعُهما إلى معنًى واحدٍ مُشْتَرَكٍ, وإن كان الفرْقُ مَوْجودًا من حيث التفاوُتُ وعَدَمُه كما سَبَقَ .
ملحوظةٌ : ليست هذه الألفاظُ مترادِفَةً بل الكلامُ عن واحدٍ منها .
خاتِمَةُ الطريقِ الأوَّلِ في النفيِ عندَ المُتَكَلِّمِينَ
قولُه : ( وأمَّا هذه الجملةُ المختصَرَةُ : فإنَّ المقصودَ بها التنبيهُ على جُمَلٍ مُختصَرَةٍ جامعةٍ مَن فَهِمَها عَلِمَ قَدْرَ نَفْعِها ، وانفتَحَ له بابُ الْهُدى, وأَمْكَنَه إغلاقُ بابِ الضلالِ, ثم بَسْطُها وشَرْحُها له مَقامٌ آخَرُ؛ إذ لكُلِّ مَقامٍ مَقَالٌ .
والمقصودُ هنا أنَّ الاعتمادَ على مِثْلِ هذه الْحُجَّةِ فيما يُنْفَى عن الربِّ ويُنَزَّهُ عنه كما يَفْعَلُه كثيرٌ من الْمُصَنِّفِينَ خطأٌ لِمَنْ تَدَبَّرَ ذلك و هذا من طُرُقِ النفيِ الباطلةِ ) .
التوضيحُ
هنا خاتِمَةُ الكلامِ عن طريقةِ التنزيهِ بنَفْيِ التشبيهِ ، يَذْكُرَ شيخُ الإسلامِ أنَّ المقصودَ بيانُ أنَّ هذه الطريقةَ من طُرُقِ النفيِ التي لا تُحِقُّ حَقًّا ولا تُبْطِلُ باطِلاً, بل هي تَتَضَمَّنُ كثيرًا من الباطِلِ ، وبِمَا سَبَقَ من التنبيهاتِ في القَدْرِ المشترَكِ وغيرِه يَنْفَتِحُ للمتأمِّلِ فيها بابُ الْهُدَى ويُمْكِنُه إغلاقُ بابِ الضلالِ ، وقد بَسَطَ شيخُ الإسلامِ ذلك في غيرِ هذا الكلامِ, ولكلِّ مَقامٍ مقالٌ .