دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > الرسالة التدمرية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م, 04:58 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي القدر المشترك الكلي وجوده علمي لا عيني

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الشَّيْءَ إِذَا شَابَهَ غَيْرَهُ مِنْ وَجْهٍ جَازَ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَوَجَبَ لَهُ مَا وَجَبَ لَهُ، وَامْتَنَعَ عَلَيْهِ مَا امْتَنَعَ عَلَيْهِ.
قِيلَ: هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ لاَ يَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ مَا يَمْتَنِعُ عَلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلاَ نَفْيَ مَا يَسْتَحِقُّهُ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا.
كَمَا إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ مَوْجُودٌ حَيٌّ عَلِيمٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، وَقَدْ سَمَّى بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ حَيًّا عَلِيمًا سَمِيعًا بَصِيرًا، فَإِذَا قِيلَ: يَلْزَمُ أَنْ يَجُوزَ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَوْجُودًا حَيًّا عَلِيمًا سَمِيعًا بَصِيرًا.
قِيلَ لاَزِمُ هَذَا الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ لَيْسَ مُمْتَنِعًا عَلَى الرَّبِّ تَعَالَى، فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَقْتَضِي حُدُوثًا، وَلاَ إِمْكَانًا، وَلاَ نَقْصًا، وَلاَ شَيْئًا مِمَّا يُنَافِي صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ هُوَ مُسَمَّى "الْوُجُودِ " أَوِ الْمَوْجُودِ، أَوِ الْحَيَاةِ أَوِ الْحَيِّ، أَوِ الْعِلْمِ أَوِ الْعَلِيمِ، أَوِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ أَوِ السَّمِيعِ و الْبَصِيرِ، أَوِ الْقُدْرَةِ أَوِ الْقَدِيرِ، وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ مُطْلَقٌ كُلِّيٌّ لاَ يَخْتَصُّ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَلَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمَا اشْتِرَاكٌ لاَ فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْمُمْكِنِ الْمُحَدَثِ، وَلاَ فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْوَاجِبِ الْقَدِيمِ، فَإِنَّ مَا يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدُهُمَا يَمْتَنِعُ اشْتِرَاكُهُمَا فِيهِ.
فَإِذَا كَانَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ الَّذِي اشْتَرَكَا فِيهِ صِفَةَ كَمَالٍ: كَالْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ، كَمَا لاَ يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِ الْخَالِقِ - لَمْ يَكُنْ فِي إِثْبَاتِ هَذَا مَحْذُورٌ أَصْلًا، بَلْ إِثْبَاتُ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ، فَكُلُّ مَوْجُودَينِ لاَ بُدَّ بَيْنَهُمَا مَنْ مِثْلِ هَذَا، وَمَنْ نَفَى هَذَا لَزِمَهُ تَعْطِيلُ وُجُودِ كُلِّ مَوْجُودٍ.
وَلِهَذَا لَمَّا اطَّلَعَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ هَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ الْجهمِيَّةِ سَمَّوْهُمْ مُعَطِّلَةً، وَكَانَ جَهْمٌ يُنْكِرُ أَنْ يُسَمَّى اللَّهُ شَيْئًا، وَرُبَّمَا قَالَتِ الجَهْمِيَّةُ: هُوَ شَيْءٌ لاَ كَالْأَشْيَاءِ، فَإِذَا نُفِيَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ مُطْلَقًا لَزِمَ التَّعْطِيلُ التَّامُّ.
وَالْمَعَانِي الَّتِي يُوصَفُ بِهَا الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، بَلِ الْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ وَالْحَقِيقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، تَجِبُ لَهُ لَوَازِمُهَا، فَإِنَّ ثُبُوتَ الْمَلْزُومِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ اللاَّزِمِ، وَخَصَائِصُ الْمَخْلُوقِ الَّتِي يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهَا لَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ أَصْلًا، بَلْ تِلْكَ مِنْ لَوَازِمِ مَا يَخْتَصُّ بِالْمَخْلُوقِ مِنْ وُجُودٍ وَحَيَاةٍ وَعِلْمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِ وَمَلْزُومَاتِ خَصَائِصِه.
وَهَذَا الْمَوْضِعُ مَنْ فَهِمَهُ فَهْمًا جَيِّدًا، وَتَدَبَّرَهُ، زَالَتْ عَنْهُ عَامَّةُ الشُّبُهَاتِ، وَانْكَشَفَ لَهُ غَلَطُ كَثِيرٍ مِنَ الأَذْكِيَاءِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَقَدْ بَسَطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَبَيَّنَ فِيهَا أَنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ الْكُلِّيَّ لاَ يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ إِلاَّ مُعيَّنًا مُقيَّدًا، وَأَنَّ مَعْنَى اشْتِرَاكِ الْمَوْجُودَاتِ فِي أَمْرٍ مِنَ الأُمُورِ هُوَ تَشَابُهُهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْعَامَّ يُطْلَقُ عَلَى هَذَا وَهَذَا، لاَ أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ فِي الْخَارِجِ يُشَارِكُ أَحَدُهَا الْآخَرَ فِي شَيْءٍ مَوْجُودٍ فِيهِ، بَلْ كُلُّ مَوْجُودٍ مُتَمَيِّزٌ عَنْ غَيْرِهِ بِذَاتِه وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِه.
وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَتَنَاقَضُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَتَارَةً يَظُنُّ أَنَّ إِثْبَاتَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ يُوجِبُ التَّشْبِيهَ الْبَاطِلَ، فَيَجْعَلُ ذَلِكَ لَهُ حُجَّةً فِيمَا يَظُنُّ نَفْيَهُ مِنَ الصِّفَاتِ، حَذَرًا مِنْ مَلْزُومَاتِ التَّشْبِيهِ، وَتَارَةً يَتَفَطَّنُ أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ هَذَا عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَيُجِيبُ بِهِ فِيمَا يُثْبِتُهُ مِنَ الصِّفَاتِ لِمَنِ احْتَجَّ بِهِ مِنَ النُّفاةِ.
وَلِكَثْرَةِ الِاشْتِبَاهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَقَعَتِ الشُّبْهَةُ فِي أَنَّ وُجُودَ الرَّبِّ هَلْ هُوَ عَيْنُ مَاهِيَّتِه، أَوْ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهِ، وَهَلْ لَفَظُ "الْوُجُودِ" مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ، أَوْ بالتَّواطِئِ، أَوِ التَّشْكِيكِ، كَمَا وَقَعَ الِاشْتِبَاهُ فِي إِثْبَاتِ الْأَحْوَالِ وَنَفْيِهَا، وَفِي أَنَّ الْمَعْدُومَ هَلْ هُوَ شَيْءٌ أَمْ لاَ؟ وَفِي وُجُودِ الْمَوْجُودَاتِ هَلْ هُوَ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهَا أَمْ لاَ؟.
وَقَدْ كَثُرَ مِنْ أَئِمَّةِ النُّظَّارِ الِاضْطِرَابُ وَالتَّنَاقُضُ فِي هَذِهِ الْمَقَامَاتِ، فَتَارَةً يَقُولُ أَحَدُهُمُ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ، وَيَحْكِي عَنِ النَّاسِ مَقَالاَتِ مَا قَالُوهَا، وَتَارَةً يَبْقَى فِي الشَّكِّ وَالتَّحَيُّرِ، وَقَدْ بَسَطْنَا مِنَ الكَلاَمِ فِي هَذِهِ الْمَقَامَاتِ، وَمَا وَقَعَ مِنَ الاشْتِبَاهِ وَالْغَلَطِ وَالْحَيْرَةِ فِيمَا لِأَئِمَّةِ الْكَلاَمِ وَالْفَلْسَفَةِ، مَا لاَ تَتَّسِعُ لَهُ هَذِهِ الْجُمَلُ الْمُخْتَصَرَةُ.
وَبَيَّنَّا أَنَّ الصَّوَابَ هُوَ أَنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْخَارِجِ هُوَ مَاهِيَّتُه الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ، بِخِلاَفِ الْمَاهِيَّةِ الَّتِي فِي الذِّهْنِ فَإِنَّهَا مُغَايِرَةٌ لِلْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ، وَأَنَّ لَفْظَ الْوُجُودِ كَلَفْظِ الذَّاتِ وَالشَّيْءِ، والْمَاهِيَّةِ والْحَقِيقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا مُتَوَاطِئَةٌ، وَإِذَا قِيلَ: إِنَّهَا مُشَكِّكَةٌ، لِتَفَاضُلِ مَعَانِيهَا، فَالْمُشَكِّكُ نَوْعٌ مِنَ المُتواطِئِ الْعَامِّ الَّذِي يُرَاعَى فِيهِ دَلاَلَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَعْنَى مُتَفَاضِلًا فِي مَوَارِدِهِ، أَوْ مُتَمَاثِلًا.
وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ أَيْضًا فِي الْعِلْمِ وَالذِّهْنِ، لاَ فِي الْخَارِجِ، فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالْوُجُودِ، لَكِنَّ الْفَرْقَ ثَابِتٌ بَيْنَ الْوُجُودِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَيْنِيِّ، مَعَ أَنَّ مَا فِي الْعِلْمِ لَيْسَ هُوَ الْحَقِيقَةَ الْمَوْجُودَةَ، وَلَكِنَّ هُوَ الْعِلْمُ التَّابِعُ لِلْعَالَمِ الْقَائِمِ بِهِ.
وَكَذَلِكَ الْأَحْوَالُ الَّتِي تَتَمَاثَلُ فِيهَا الْمَوْجُودَاتُ وَتَخْتَلِفُ لَهَا وُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ، وَلَيْسَ فِي الْأَعْيَانِ إِلاَّ الْأَعْيَانُ الْمَوْجُودَةُ، وَصِفَاتُهَا الْقَائِمَةُ بِهَا الْمُعَيَّنَةُ، فَتَتَشَابَهُ بِذَلِكَ وَتَخْتَلِفُ بِهِ.
وَأَمَّا هَذِهِ الْجُمَلُ الْمُخْتَصَرَةُ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا التَّنْبِيهُ عَلَى جُمَلٍ مُخْتَصَرَةٍ جَامِعَةٍ، مَنْ فَهِمَهَا عَلِمَ قَدْرَ نَفْعِهَا، وَانْفَتَحَ لَهُ بَابُ الْهُدَى، وَإِمْكَانُ إِغْلاَقِ بَابِ الضَّلاَلِ، ثُمَّ بَسْطُهَا وَشَرْحُهَا لَهُ مَقَامٌ آخَرُ، إِذْ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحُجَّةِ فِيمَا يُنْفَى عَنِ الرَّبِّ وَيُنَزَّهُ عَنْهُ - كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ المُصَنِّفِينَ - خَطَأٌ لِمَنْ تَدَبَّرَ ذَلِكَ، وَهَذَا مِنْ طُرُقِ النَّفْيِ الْبَاطِلَةِ.

  #2  
قديم 7 ذو الحجة 1429هـ/5-12-2008م, 03:05 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

فإنْ قالَ قائلٌ: إنَّ الشَّيْءَ إذَا شاركَ غيْرَهُ منْ وجهٍ جَازَ عليْهِ منْ ذلكَ الوجهِ ما يَجوزُ على الآخَرِ، وامْتَنَعَ عليْهِ مَا يَمتنِعُ، ووَجَبَ لهُ ما يَجِبُ؟
فالجوابُ منْ وجْهَيْنِ:
أحدُهُمَا: الْمَنْعُ فيُقالُ لاَ يَلزَمُ منِ اشْتِرَاكِ الخالِقِ والمخلوقِ في أصْلِ الصِّفَةِ أنْ يَتماثَلاَ فيهِ فيمَا يَجوزُ ويَمتنِعُ ويَجِبُ لأنَّ مطلَقَ المشاركةِ لا يَستلزِمُ المماثَلةَ.
الثَّاني: التَّسْلِيمُ فيُقالُ هَبْ أنَّ الأَمْرَ كذلكَ، ولكنْ إذَا كانَ ذلكَ القَدْرُ المشترَكُ لا يَستلزِمُ إثباتَ مَا يَمْتَنِعُ على الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، ولا نَفْيَ مَا يَستحقُّهُ لمْ يكنْ مُمْتَنِعاً، فإذَا اشْتَرَكَا في صِفَةِ الوجودِ، والحياةِ، والعلْمِ، والقدرةِ واخْتَصَّ كلُّ موصوفٍ بمَا يَستحِقُّه ويَلِيقُ بهِ، كانَ اشْتراكُهُمَا في ذلكَ أمْراً ممكِناً لا محذورَ فيهِ أصْلاً، بلْ إثباتُ هذَا منْ لوازمِ الوُجُودِ، فإنَّ كلَّ موجودَيْنِ لا بُدَّ بينَهُمَا منْ مِثْلِ هذَا، ومنْ نَفَاهُ لَزِمَهُ تعطِيلُ وجودِ كلِّ مَوْجُودٍ، لأنَّ نَفْيَ القَدْرِ المشْتَرَكِ يَلزَمُ منهُ التَّعْطِيلُ العَامُّ.
وهذَا المَوْضِعُ مَنْ فَهِمَهُ فَهْماً جيِّداً وتَدَبَّرَهُ زَالتْ عنْهُ عامَّةُ الشُّبُهَاتِ وانْكَشَفَ لهُ غَلَطُ كثيرٍ منَ الأذْكِيَاءِ في هذَا المَقامِ.

فصْلٌ
الوَجْهُ الثَّانِي: مِمَّا يَدُلُّ على أنَّهُ لاَ يَصِحُّ الاعْتِمَادُ في ضابِطِ النَّفْيِ على مجرَّدِ نفيِ التَّشْبِيهِ: أنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا في تفسيرِ التَّشْبيهِ، فقدْ يُفَسِّرُهُ بعضُهُمْ بمَا لاَ يَرَاهُ الآخَرُونَ تشْبيهاً.
مثالُ ذلكَ معَ المعتزِلَةِ ومنْ سَلَكَ طريقَهُمْ منَ النُّفَاةِ: أَنَّهُمْ جَعَلُوا مِنَ أَثْبَتَ للهِ تعالى عِلْماً قديماً، أوْ قُدْرَةً قديمةً مُشَبِّهاً مُمَثِّلاً، لأنَّ القِدَمَ أَخَصُّ وَصْفِ الإِلهِ عنْدَ جُمْهُورِهِمْ، فَمَنْ أَثْبَتَ لهُ عِلْماً قديماً، أوْ قُدرةً قديمةً فقدْ أَثبَتَ لهُ مثيلاً.
والمُثْبِتُونَ يُجيبونهُمْ بالمنْعِ تارةً، وبالتَّسْلِيمِ تارةً.
أما المنعُ فيقولونَ: ليسَ القِدَمُ أَخَصَّ وَصْفِ الإلهِ، وإنَّمَا أَخَصُّ وصْفِ الإلهِ مَا لاَ يتَّصِفُ بهِ غيرُهُ، مثلُ: كونِهِ ربَّ العالَمينَ، وأنَّهُ بكلِّ شيءٍ عليمٌ، وعلى كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأنَّهُ الإِلهُ ونحوِ ذلكَ. والصِّفَاتُ وإنْ وُصِفَتْ بِالقِدَمِ كمَا تُوْصَفُ بهِ الذَّاتُ لا يَقتضِي ذلكَ أنْ تكونَ إلهاً أوْ ربًّا أوْ نحوَ ذلكَ كمَا أنَّ النَّبيَّ – مثلاً – يُوصَفُ بالحدوثِ، وتُوصَفُ صفاتُهُ بالحدوثِ، ولا يَقتضِي ذلكَ أنْ تكونَ صفاتُهُ نَبيًّا.
وعلى هذَا فلاَ يكونُ إثباتُ الصِّفاتِ القديمةِ للهِ تعالى تَمْثيلاً، ولاَ تَشْبِيهاً.
وأمَّا التَّسْلِيمُ فيقولونَ: نحنُ وإنْ سلَّمْنَا أنَّ هذَا المعْنى قدْ يُسَمَّى في اصْطِلاحِ بعضِ النَّاسِ تشبيهاً، أو تَمْثيلاً فإنَّهُ لمْ يَنفِهِ عَقْلٌ، ولاَ سَمْعٌ وحينئذٍ فلاَ مانِعَ مِنْ إثباتِهِ.
فالقرآنُ إنَّمَا نَفَى مُسَمَّى المِثْلِ، والكُفْءِ، والنِّدِّ ونحوِ ذلكَ والصِّفَةُ في لُغَةِ العَرَبِ الَّتِي نَزَلَ بهَا القُرْآنُ ليستْ مِثْلَ المَوْصُوفِ، ولاَ كُفْؤاً لَهُ، وَلاَ ندًّا فلاَ تَدْخُلُ فيمَا نَفَاهُ القُرْآنُ.
فالواجبُ نَفَيُ مَا نَفَتْهُ الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ، والعقليَّةُ فقطْ.
مثالٌ آخَرٌ: مَعَ الأشاعرةِ ونحوِهِمْ ممَّنْ يَنْفِي عُلُوَّهُ على عَرْشِهِ وَنَحْوِهِ دونَ صِفَةِ الحياةِ، والعلْمِ، والقدرةِ ونحوِهَا فيقولُ: إنَّ هذهِ الصِّفاتِ قَدْ تقومُ بمَا ليْسَ بجسمٍ بخلافِ العُلُوِّ فإنَّهُ لا يَقومُ إلاَّ بِجِسْمٍ فَلَوْ أَثْبَتْنَاهُ لَزِمَ أنْ يكونَ جِسْماً، والأجسامُ متماثِلَةٌ فيَلزَمُ التَّشْبيهُ.
والمُثْبِتُونَ يُجيبونَهُمْ تارةً بمنْعِ المقدِّمَةِ الأُولى وهيَ قولُهُمْ "إنَّ العُلُوَّ لاَ يقومُ إلاّ بِجِسْمٍ" وتارةً بِمنْعِ المقدِّمَةِ الثَّانِيَةِ وهيَ قولُهُمْ "إنَّ الأجْسَامَ متماثِلةٌ" وتارةً بمنْعِ المقدِّمَتَيْنِ، وتارةً بالاسْتِفْصَالِ. فيقولونَ: إنْ أرَدْتُمْ بالجِسْمِ جِسماً مؤلَّفاً منْ لحْمٍ وعظْمٍ وأجزاءٍ يَفتقِرُ بعضُهَا إلى بعضٍ، أوْ يَحتاجُ إلى مقوِّماتٍ خارجيَّةٍ، فهذَا ممتنِعٌ بالنِّسْبَةِ إلى اللهِ الغنيِّ الحميدِ، وليسَ بلازمٍ منْ إثباتِ الصِّفاتِ. وإنْ أردتُمْ بالجِسْمِ ما كانَ قائِماً بنفسِهِ موصُوفاً بالصِّفاتِ اللاَّئِقَةِ بهِ، فهذَا حقٌّ ثابتٌ للهِ عزَّ وجلَّ ولا يَلزَمُ عليْهِ شيءٌ منَ اللَّوازِمِ البَاطِلَةِ.
وإذَا تَبيَّنَ اختلاَفُ النَّاسِ في تفسيرِ التَّشْبِيهِ صارَ الاعْتمادُ على مجرَّدِ نفيِهِ باطِلاً، لأنَّهُ يَلزَمُ منهُ نفيُ صفاتِ الكمالِ عنِ اللهِ تعالى عندَ مَنْ يَرى أنَّ إثباتَهَا يَستلزِمُ التَّشْبِيهَ.
وعلى هذَا فالضَّابِطُ الصَّحِيحُ فيمَا يُنْفَى عنِ اللهِ تعالى مَا سَبَقَ في أوَّلِ القَاعِدَةِ.

  #3  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 05:20 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التحفة المهدية للشيخ: فالح بن مهدي الدوسري


قولُه:
فإن قيلَ: إن الشيءَ إذا شابَهَ غيرَه من وجْهٍ جازَ عليه من ذلك الوجْهِ ما جازَ عليه، ووَجبَ له ما وَجبَ له، وامْتنعَ عليه ما امتنعَ عليه. قيلَ: هَبْ أن الأمرَ كذلك، ولكن إذا كان ذلك القدْرُ المشترَكُ لا يَستلزمُ إثباتَ ما يَمتنعُ على الربِّ سبحانَه ولا نفيَ ما يَستحقُّه لم يكن مُمتنِعاً كما إذا قيلَ إنه موجودٌ حيٌّ عليمٌ سميعٌ بصيرٌ، وقد سمَّى بعضَ عبادِه حيًّا سميعاً عليماً بصيراً (فإذا قيلَ: يَلزمُ أن يَجوزَ عليه ما يَجوزُ على ذلك من جهةِ كونِه موجوداً حيًّا عليماً سميعاً بصيراً) قيلَ: لازمُ هذا القدْرِ المشترَكِ ليس ممتنِعاً على الربِّ تعالى، فإن ذلك لا يَقتضي حدوثاً ولا إمكاناً ولا نقْصاً، ولا شيئاً مما يُنافي صفاتِ الربوبيَّةِ وذلك أن القدْرَ المشترَكَ هو مُسمَّى الوجودِ أو الموجودِ، أو الحياةِ أو الحيِّ، أو العِلْمِ أو العليمِ أو السمْعِ أو البصرِ، أو السميعِ أو البصيرِ، أو القدرةِ أو القديرِ، والقدْرُ المشترَكُ مطلَقٌ كُلِّيٌّ لا يَخْتَصُّ بأحدِهما دونَ الآخَرِ، فلم يَقعْ بينَهما اشتراكٌ، لا فيما يَختصُّ بالممكِنِ المُحدَثِ ولا فيما يَخْتَصُّ بالواجبِ القديمِ، فإن ما يَختصُّ به أحدُهما يَمتنعُ اشتراكُهما فيه فإذا كان القدْرُ المشترَكُ الذي اشتَرَكا فيه صفةَ كمالٍ كالوجودِ والحياةِ والعلْمِ والقدرةِ ولم يكن في ذلك شيءٌ مما يدلُّ على خصائصِ المخلوقين، كما لا يَدلُّ على شيءٍ من خصائصِ الخالقِ، لم يكن في إثباتِ هذا محذورٌ أصْلاً، بل إثباتُ هذا من لوازمِ الوجودِ، فكلُّ موجودَيْن لابدَّ بينَهما من مِثلِ هذا، ومَن نَفَى هذا لَزِمَه تعطيلُ وجودِ كلِّ موجودٍ.

الشرْحُ:
يعني إنْ قالَ قائلٌ: إنَّ الموجودَيْن إذا تشابَهَا من وجهٍ جازَ على أحدِهما من ذلك الوجهِ ما جازَ على الآخرِ وَوجبَ له من ذلك الوجْهِ ما وَجبَ للآخرِ وامْتَنعَ عليه من ذلك الوجهِ ما امْتَنعَ على الآخَرِ قيلَ له: افرِضْ أن ذلك صحيحٌ ولكن إذا كان لازمُ ذلك القدْرِ المشترَكِ الذي حَصَلَ فيه الاتِّفاقُ ليس فيه محذورٌ وليس ممتنِعاً ولا يَستلزمُ نَفيَ صفاتِ كمالٍ ولا إثباتَ أوصافِ نقْصٍ كما إذا قيلَ عن اللهِ سبحانَه: إنه موجودٌ، حيٌّ، عليمٌ، قديرٌ، سميعٌ، بصيرٌ والمخلوقُ يُوصفُ بهذه الصفاتِ فقد اتَّفقَا في المعنى العامِّ، وهو القدْرُ المشترَكُ، وهو مدلولُ الوجودِ ضدَّ العدَمِ والموجودِ ضدَّ المعدومِ ومدلولُ الحيِّ ضدَّ الميِّتِ والحياةِ ضدَّ الموتِ، ومدلولِ العليمِ ضدَّ الجاهلِ والعلْمِ ضدَّ الجهلِ، ومدلولُ القديرِ ضدَّ العاجزِ والقدرةِ ضدَّ العجزِ، ومدلولُ السميعِ ضدَّ الأصمِّ والسمْعِ ضدَّ الصَممِ، ومدلولُ البصيرِ ضدَّ الأعمَى والبصرِ ضدَّ العَمَى، فقد اتَّفَقَا في مدلولِ الاسمِ ومدلولِ الصفةِ، وذلك هو القدْرُ المشترَكُ، وهو معنًى عامٌّ كُلِّيٌّ، ولم يُوجبْ ذلك أن يَشتركَ المحدَثُ الممكِنُ وهو المخلوقُ مع الواجبِ القديمِ وهو اللهُ سبحانَه فيما هو من خصائصِ أحدِهما، بل ما أُضيفَ إلى واحدٍ منهما فهو يَختصُّ به، وهو على ما يَليقُ به فإن الصفةَ تَتْبَعُ الموصوفَ؛ فإذا كان القدْرُ المشترَكُ كمالاً لا نقْصَ فيه، ولم يَحصُل اشتراكٌ فيما يَختصُّ بكلٍّ منهما لم يكن في إثباتِ ذلك القدْرِ محذورٌ، بل إثباتُه من مقتضياتِ الوجودِ؛ فإن الموجوداتِ لابدَّ بينَها من الاتِّفاقِ في المعنى العامِّ ومن نَفَى هذا المعنى المشترَكَ لَزِمَه تعطيلُ سائرِ الموجوداتِ عن الوجودِ.

قولُه:
ولهذا لما اطَّلَعَ الأئمَّةُ على أن هذه حقيقةُ قولِ الجهْمِيَّةِ سَمَّوْهُم معطِّلَةً، وكان جَهْمُ يُنكرُ أن يُسمَّى اللهُ شيئاً، ولربَّما قالَت الجهْمِيَّةُ هو شيءٌ لا كالأشياءِ. فإذا نفى القدْرَ المشترَكَ مُطلَقاً لَزِمَ التعطيلُ العامُّ. والمعاني التي يوصفُ بها الربُّ تعالى، كالحياةِ والعلْمِ والقدْرةِ، بل والوجودِ والثبوتِ والحقيقةِ ونحوِ ذلك تَجبُ لوازمُها، فإن ثبوتَ الملزومِ يَقتضي ثبوتَ اللازمِ، وخصائصُ المخلوقِ التي يَجبُ تنزيهُ الربِّ عنها ليست من لوازمِ ذلك أصلاً، بل تلك من لوازمِ ما يَختصُّ بالمخلوقِ من وجودٍ وحياةٍ وعلْمٍ، ونحوِ ذلك، واللهُ سبحانَه مُنَزَّهٌ عن خصائصِ المخلوقِين وملزوماتِ خصائصِهم، وهذا الموضِعُ من فَهِمَه فهماً جيِّداً وتدبَّرَه زالت عنه عامُّةُ الشبهاتِ وانكشفَ له غلَطُكثيرٍ من الأذكياءِ في هذا المقامِ، وقد بَسطَ هذا في مواضعَ كثيرةٍ. وبيَّنَ فيها: أن القدْرَ المشترَكَ الكُلِّيَّ لا يُوجدُ في الخارجِ إلا معيَّناً مقيَّداً وأن معنى اشتراكِ الموجوداتِ في أمرٍ من الأمورِ هو تشابُهها من ذلك الوجهِ، وأن ذلك المعنى العامَّ يُطلقُ على هذا وهذا لأن الموجوداتِ في الخارجِ لا يُشاركُ أحدُها الآخَرُ في شيءٍ موجودٍ فيه، بل كل موجودٍ متميِّزٌ عن غيرِه بذاتِه وصفاتِه وأفعالِه.

الشرْحُ:
يعني ومن أجْلِ أن من نَفَى اشتراكَ الموجوداتِ في المعنى العامِّ يَلزمُه التعطيلُ الْمَحْضُ لكلِّ موجودٍ - من أجْلِ ذلك كان أهلُ السنَّةِ والجماعةِ يُسمُّون نفاةَ صفاتِ اللهِ معطِّلةً؛ لأن حقيقةَ قولِهم تعطيلُ ذاتِ اللهِ عن الوجودِ، وكان رأسُهم الجَهْمُ يُنكرُ أن يُسمَّى اللهُ شيئاً, زعماً منه أن إثباتَ كونِ اللهِ شيئاً يَلزمُ منه مشابهتُه لسائرِ الأشياءِ - وبُعْداً وسُحْقاً لتَنْزِيهٍ مدلولُه: تعطيلُ الذاتِ العليَّةِ عن الوجودِ - وأتباعُ الجَهْمِ قد يَتَحَاشَوْن في بعضِ الأحيانِ عن قولِ الجَهْمِ بإنكارِ كونِ اللهِ شيئاً فيقولون: هو شيءٌ لا كالأشياءِ وهذه الكلمةُ حقٌّ فاللهُ سبحانَه شيءٌ لا يُماثلُه أحدٌ من خلقِه، ولكن يُقالُ لهم: هلاَّ أثبتُّم أسماءَ اللهِ وصفاتِه الواردةَ في كتابِه وعلى لسانِ رسولِه، وقُلتُم بنفيِ المماثَلةِ كما قلتم إنه شيءٌ لا كالأشياءِ. والحقائقُ التي يُوصفُ بها الربُّ من حياةٍ وعلْمٍ وقدْرةٍ ووجودٍ وذاتٍ ونحوِ ذلك ككونِه شيئاً ثابتاً هذه الحقائقُ تَجِبُ لازمُها. ولوازمُها هي صفاتُ الحيِّ الموجودِ الربِّ الكاملِ: فالذاتُ والحقيقةُ والوجودُ ملزوماتٌ، والصفاتُ لازمُها، وثبوتُ الملزومِ يُوجبُ ثبوتَ اللازمِ ولازمُ صفاتِ اللهِ الكمالِ كما أن لازمَ أوصافِ المخلوقِ النقصُ. ومن أدْركَ هذه الحقائقَ، وميَّزَ ما تشتركُ فيه وما تَختلفُ فيه زَالتْ عنه الشُّبهةُ التي الْتَبَسَ عليه الأمرُ بسببِها وانكشفَ له غَلَطُ كثيرٍ من الأذكياءِ الذين غَلَطوا في بابِ أسماءِ اللهِ وصفاتِه لالتباسِ هذه الحقائقِ عليهم. والأمورُ الموجودةُ في الخارجِ لا اشتراكَ فيها، وإنما الاشتراكُ في المعنى العامِّ الذي يُطلقُ على هذه الحقيقةِ وهذه الحقيقةِ، وليس في الخارجِ ذاتٌ موجودةٌ تَشتركُ فيها الموجوداتُ. أما الموجوداتُ التي في الخارجِ فبعضُها متميِّزٌ عن بعضٍ في الذاتِ والصفاتِ والأفعالِ. وقد بَسطَ المؤلِّفُ هذا البحثَ في عددٍ من كتبِه، ومنها رسالتُه التي رَدَّ فيها على أهْلِ القولِ بوحدةِ الوجودِ.


قولُه:
ولما كان الأمرُ كذلك كان كثيرٌ من الناسِ متناقِضاً في هذا المقامِ، فتارةً يَظنُّ أن إثباتَ القدْرِ المشترَكِ يُوجبُ التشبيهَ الباطلَ، فيَجعلُ ذلك له حُجَّةً فيما يَظنُّ نفيَه من الصفاتِ حَذَراً من ملزوماتِ التشبيهِ، وتارةً يَتفطَّنُ إلى أنه لابدَّ من إثباتِ هذا على كلِّ تقديرٍ فيجيبُ به فيما يُثبتُه من الصفاتِ لمن احتجَّ به من النُّفاةِ.

الشرْحُ:
يقولُ الشيخُ: ولكونِ الموجوداتِ في الخارجِ يتميَّزُ بعضُها عن بعضٍ وإنما اشتراكُها في المعنى العامِّ الموجودِ في الذِّهنِ؛ لذلك تَجدُ بعضَ طوائفِ المبتدِعةِ كالأشاعرةِ يَجمعون بينَ الأمرَيْن المتناقضَيْن؛ فطَوْراً يَنفُون الاشتراكَ في المعنى العامِّ خَشيةَ التشبيهِ ظنًّا منهم أن الصفاتِ تَقتضي المشابَهةَ، فملزوماتُ التشبيهِ على زعمِهم هي الصفاتُ ولازمُها هو التشبيهُ، فيَجحَدونها لهذا الزعْمِ الموهومِ، وطَوْراً يُثبتون الاتِّفاقَ في القدْرِ المشترَكِ بينَ الخالقِ والمخلوقِ وأن ذلك لا يُوجبُ أن تكونَ الصفةُ المضافةُ إلى الله مِثلَ الصفةِ المضافةِ إلى المخلوقِ وإن حصَلَ اشتراكٌ واتِّفاقٌ في المعنى الكُلِّيِّ كما يقولون ذلك بالنسبةِ للصفاتِ السبْعِ التي يُثبتون. وحينما يُنازعُهم الجَهْمِيُّ أو المعتزِلِيُّ في إثباتِهم للصفاتِ السبْعِ يُجيبونه قائلين: إن الاتِّفاقَ في المعنى العامِّ لا يُوجبُ المماثلةَ، فلِلَّهِ ما يَليقُ به، وللمخلوقِ ما يَليقُ به، والقدْرُ المشترَكُ بينَهما لا يَقتضي المشابَهة فيما يَخُصُّ واحداً منهما.

قولُه:
ولكثرةِ الاشتباهِ في هذا المقامِ وَقعَت الشبهةُ في أن وجودَ الربِّ هل هو عينُ ماهيَّتِه، أو زائدٌ على ماهيَّتهِ؟ وهل لفظُ (الوجودِ) مقولٌ بالاشتراكِ اللفظيِّ، أو التواطؤِ، أو التشكيكِ، كما وَقعَ الاشتباهُ في إثباتِ الأحوالِ ونفيِها، وفي أن المعدومَ هل هو شيءٌ أم لا؟ وفي وجودِ الموجوداتِ هل هو زائدٌ على ماهيَّتِها أم لا؟ وقد كَثُرَ من أئمَّةِ النُّظَّارِ الاضطرابُ والتناقضُ في هذه المقاماتِ: فتَارةً يقولُ أحدُهم القولين المتناقضَيْن، ويَحكي عن الناسِ مقالاَتٍ ما قَالُوها. وتارةً يَبقَى في الشكِّ والتحيُّرِ. وقد بَسَطْنا الكلامَ في هذه المقاماتِ، وما وَقعَ من الاشتباهِ والغلَطِ والحَيْرَةِ فيها لأئمَّةِ الكلامِ والفلسفةِ بما لا تَتَّسِعُ له هذه الجمَلُ المختصَرَةُ، وبَيَّنَّا أن الصوابَ هو: أن وجودَ كلِّ شيءٍ في الخارجِ هو ماهيَّتُه الموجودةُ في الخارجِ بخلافِ الماهيَّةِ التي في الذِّهْنِ فإنها مغايِرةٌ للموجودِ في الخارجِ، وأن لفظَ (الذاتِ) و (الشيءِ) و (الماهيَّةِ) و (الحقيقةِ) ونحوِ ذلك: ألفاظٌ كلُّها متواطِئَةٌ، فإذا قيلَ: إنها مشكِّكَةٌ لتَفاضُلِ معانيها، فالمشكِّكُ نوعٌ من المتَوَاطئِ العامِّ الذي يُراعى فيه دلالةُ اللفظِ على القدْرِ المشترَكِ سواءً كان المعنى متفاضلاً في مواردِه أمْ مُتماثلاً، وبَيَّنَّا أن المعدومَ شيءٌ أيضاً في العلْمِ والذهنِ، لا في الخارجِ) فلا فرْقَ بينَ الثبوتِ والوجودِ، لكنَّ الفرْقَ ثابتٌ بين الوجودِ العلْمِيِّ والعينيِّ، مع أن ما في العلْمِ ليس هو الحقيقةَ الموجودةَ ولكن هو العِلْمُ التابعُ للعلْمِ القائمِ به وكذلك الأحوالُ التى تَتماثَلُ فيها الموجوداتُ وتَختلفُ: لها وجودٌ في الأذهانِ. وليس في الأعيانِ إلا الأعيانُ الموجودةُ وصفاتُها القائِمَّةُ بها المعيَّنةُ، فتَتشابهُ بذلك وتَختلفُ به، وأما هذه الجُملةُ المختصَرةُ، فإن المقصودَ بها التنبيهُ على جُمَلٍ مختصَرَةٍ جامِعةٍ مَن فَهِمَها علِمَ قدْرَ نَفعِها، وانفَتحَ له بابُ الهدَى، وأَمكنَه إغلاقُ بابِ الضلالِ، ثم بسْطُها وشرْحُها له مقامٌ آخَرُ إذ لكلِّ مقامٍ مقالٌ.


الشرْحُ:
يقولُ الشيخُ: ومن أجْلِ حصولِ الاتِّفاقِ بين الموجوداتِ في القدْرِ المشترَكِ، حَصلَ الإشكالُ في هذه المسائلِ الخمْسِ وكَثُرَ الاضطرابُ والتناقضُ من أئمَّةِ الفلسفةِ وأساطين الكلامِ: فطَوْراً تَجدُ أحدَهم يقولُ في المسألةِ قولين متناقضَيْن، ويَحكي عن غيرِه من أربابِ الكلامِ أقوالاً لم تَصدُرْ عنهم. وطَوْراً يَبقى الواحدُ منهم حائراً لا يَستطيعُ الجزْمَ برأيٍ معيَّنٍ. وذَكرَ المؤلِّفُ أنه قد بَسطَ البحثَ في هذه المسائلِ في كُتبِه المطوَّلةِ وذَكرَ هنا رأياً مختصَراً جامعاً شافياً في هذه المسائلِ. وهو كما يلي:

أوَّلاً: الصحيحُ أن وجودَ الربِّ سبحانَه هو عينُ ماهيَّتِه في الخارجِ، بل الصوابُ أن وجودَ كلِّ موجودٍ في المُشاهَدِ هو عيْنُ ماهيَّتِه، فلا فرْقَ بينَ الوجودِ والماهيَّةِ في المُشاهدةِ، بخلافِ الماهيَّةِ التي في الذهْنِ، فإنها مغايرةٌ للموجودِ في الخارجِ، إذ الماهيَّةُ التي في الذهْنِ عامَّةٌ مشترَكةٌ، والماهيَّةُ التي في الشاهدِ معيَّنةٌ خاصَّةٌ.

ثانياً: الصوابُ في لفظِ الذاتِ، ولفظِ الشيءِ، والماهيَّةِ، ونحوِ ذلك كالحياةِ أنها متواطئةٌ لتوافقِها في اللفظِ والمعنى، ومن أَطلقَ عليها اسمَ المشكِّكِ فهو مُصيبٌ؛ فإن المشكِّكَ نوعٌ من المتواطئِ، فإن الحقائقَ إما أن تَتساوَى في محالِّها وإما أن تَتفاضلَ: فالأوَّلُ هو التواطؤُ العامُّ الذي يُلاحظُ فيه وجودُ القدْرِ المشترَكِ بينَ الحقائقِ مع قطْعِ النظرِ عن تساوِيها أو تَفاوتِها، والثاني هو المُسمَّى بالمتواطئِ المشكِّكِ.

ثالثاً: الصوابُ أن المعدومَ شيءٌ بالنسبةِ للعلْمِ به وكونِه متصوَّراً في الذهْنِ. أما أنه موجودٌ في الشاهدِ فلا. والثبوتُ والوجودُ بمعنًى واحدٍ. والوجودُ الذهنيُّ يُخالفُ الوجودَ في الشاهدِ. والتصوُّرُ الذهنيُّ للشيءِ ليسَ هو عينَ حقيقتِه وإنما هو تابعٌ للعلْمِ القائمِ بتلك الحقيقةِ المعلومةِ.

رابعاً: الصوابُ أن الأحوالَ لا وُجودَ لها إلا في الذِّهنِ أما في المشاهَدَةِ فلا يوجدُ إلا الذواتُ وصفاتُها القائمةُ بها، والأحوالُ عند القائلين بها هي كونُ الصفةِ بالذاتِ الموجودةِ في الخارجِ فتلك لا تكونُ موجودةً إلا بصفاتِها اللازمةِ والصفاتُ ليست زائدةً على الذاتِ المتَّصِفةِ بالصفاتِ وإن كانت زائدةً على الذاتِ التي يُقدَّرُ تجرُّدُها عن الصفاتِ) وقد ظنَّتْ طائفةٌ أن من قالَ: الوجودُ متواطئٌ عامٌّ فإنه يقولُ وجودُ الخالقِ زائدٌ على حقيقتِه وطائفةٌ ظنَّتْ أن لفظَ الوجودِ مَقولٌ بالاشتراكِ اللفظيِّ وهذه مكابَرةٌ للعقلِ؛ فإن هذه الأسماءَ عامَّةٌ قابلةٌ للتقسيمِ، كما يُقالُ الموجودُ يَنقسمُ إلى واجبٍ ومُمكِنٍ وقديمٍ وحادثٍ. وموْرِدُ التقسيمِ مشترَكٌ بينَ الأقسامِ؛ فإن تفاضُلَ المعنى المشترَكِ الكلِّيِّ لا يَمنعُ أن يكونَ أصْلُ المعنى مشترَكاً بينَ اثنين، كما أن معنى السوادِ مشترَكٌ بينَ هذا السوادِ وهذا السوادِ. وبعضُه أشدُّ من بعضٍ.

(والذي عليه أهلُ السنَّةِ والجماعةِ وعامَّةِ عقلاءِ بني آدمَ من جميعِ الأصنافِ أن المعدومَ ليس في نفسِه شيئاً, وأن ثبوتَه ووجودَه وحصولَه شيءٌ واحدٌ. وقد دلَّ على ذلك الكتابُ، والسنَّةُ، والإجماعُ القديمُ: قالَ اللهُ تعالى لزكريَّا: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} وقالَ تعالى: {أَوَلاَ يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} وقالَ تعالى: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} ولو كان المعدومُ شيئاً لكان التقديرُ لا يُظلمون موجوداً ولا معدوماً. والمعدومُ لا يُتَصَوَّرُ أن يُظلَموه)، ونظائرُ ذلك كثيرٌ فمتصوَّراتُ العقلِ ومقدَّرَاتُه أوسعُ مما هو موجودٌ حاصلٌ بذاتِه (كما يَتصوَّرُ المعدوماتِ والممتنِعاتِ، ويُقدِّرُ ما لا وجودَ له البتَّةَ مما يُمكنُ أو لا يُمكنُ كتصوُّرِ جبلِ ياقوتٍ، وبحرِ زئبقٍ، وإنسانٍ من ذهبٍ، وفرسٍ من حجَرٍ، فثبوتُ الشيءِ فى العلْمِ والتقديرِ ليس هو ثبوتَ عينِه في الخارجِ بل العالِمُ يَعلمُ الشيءَ ويتكلَّمُ به ويَكتبُه وليس لذاتِه في الخارجِ ثبوتٌ ولا وجودٌ أصْلاً). قالَ الشيخُ: (وإنما نَشأَ الاشتباهُ على هؤلاءِ واللهُ أعلَمُ من حيثُ رأَوْا أن اللهَ سبحانَه يَعلَمُ مالم يكنْ قبلَ كونِه وإنما أمرُه إذا أرادَ شيئاً أن يقولَ له كن فيكونُ، فرأَوْا أن المعدومَ الذي يَخلقُه ويتميَّزُ في عِلمِه وإرادتِه وقدرتِه شيءٌ ثابتٌ، وظَنُّوا ذلك التمييزَ قائمةً بالذاتِ فهي عبارةٌ عن نسبةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ. والأحوالُ تَختلفُ وتَتشابَهُ باختلافِ الذواتِ وصفاتِها.

والجوابُ على المسألةِ الخامسةِ هي الجوابُ على المسألةِ الأُولى, فالصوابُ أن الوجودَ الخارجيَّ لسائرِ الموجوداتِ هو عيْنُ ماهيَّتِها الخارجيَّةِ.

وبيَّنَ - رحِمَه اللهُ - أن هذه الجُمَلَ الموجَزَةَ التي ذَكرَ في هذه الرسالةِ المختصَرَةِ لا تَتَّسعُ لبَسطِ القولِ في هذه المقامةِ العظيمةِ، ومقامُ الاختصارِ غيرُ مقامِ الإطالةِ والإسهابِ ولكلِّ مقامٍ مقالٌ كما قرَّرَه أهلُ البيانِ. وأنا أَذكرُ لك هنا خُلاصةً مما بسَطَه المؤلِّفُ في غيرِ هذه الرسالةِ تكونُ كالتفصيلِ لما أَسلفْتُ من الشرحِ الموجَزِ لهذه المسائلِ (فالذي عليه أهلُ السنَّةِ والجماعةِ وسائرِ العقلاءِ أن ماهيَّةَ كلِّ شيءٍ عينُ وجودِه وأنه ليس وجودُ الشيءِ قدْراً زائداً على ماهيَّتِه بل ليس في الخارجِ إلا الشيءُ الذي هو الشيءُ وهو عينُه ونفسُه وماهيَّتُه وحقيقتُه) قالَ الشيخُ: فيُقالُ: (إن أُريدَ بالذاتِ المجرَّدةِ التي يُقِرُّ بها نُفاةُ الصفاتِ فالصفاتُ زائدةٌ عليها، وإن أُريدَ ذاتٌ له ثابتةٌ وليس الأمْرُ كذلك، وإنما هو متميِّزٌ في علْمِ اللهِ. والواحدُ مِنَّا يَعلمُ الموجودَ والمعدومَ الممكِنَ والمعدومَ المستحيلَ، ويَعلمُ ما كان كآدمَ والأنبياءِ، ويَعلمُ ما يكونُ كالقيامةِ والحسابِ، ويَعلَمُ ما لم يكن لو كان كيف يكونُ، كما يَعلمُ ما أَخبرَ اللهُ به عن أهلِ النارِ في قولِه تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} وأنهم {لَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لاَسْمَعَهُمْ} وأنه {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا} ونحوِ ذلك (فثبوتُ هذه الأمورِ في العلْمِ والكتابِ والكلامِ ليس هو ثبوتَها في الخارجِ عن ذلك وهو ثبوتُ حقيقتِها التي هي هي، فيَنبغي للعاقلِ أن يُفرِّقَ بينَ ثبوتِ الشيءِ ووجودِه (في) نفسِه وبينَ ثبوتِه ووجودِه في العلْمِ فإن ذاك هو (الوجودُ العَيْنِيُّ الخارجيُّ الحقيقيُّ، وأما هذا فيُقالُ له....) الوجودُ الذهنيُّ والعلْمِيُّ وما من شيءٍ إلا له هذان الثبوتان).

قولُه:
والمقصودُ هنا أن الاعتمادَ على مِثلِ هذه الحُجَّةِ فيما يُنفَى عن الربِّ ويُنَزَّهُ عنه، كما يَفعلُه كثيرٌ من المصنِّفين خطأٌ لمن تَدبَّرَ ذلك. وهذا من طُرقِ النفيِ الباطلةِ.

الشرْحُ:
يعني والمُهِمُّ أن الاعتمادَ في تنزيهِ اللهِ عن النقائصِ على نفيِ صفاتِ الكمالِ عنه طريقٌ باطلٌ، ومَسْلَكٌ غيرُ صحيحٍ، كما أن الاعتمادَ في إثباتِ الصفاتِ على نفيِ التشبيهِ لا يكفي ما لم تَكُن الصفةُ واردةً في كتابِ اللهِ أو سُنَّةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما سيأتي قريباً إن شاءَ اللهُ تعالى.

  #4  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 05:22 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التوضيحات الأثرية للشيخ: فخر الدين بن الزبير المحسِّي


اعتراضٌ على إثباتِ القَدْرِ المشترَكِ
قولُه : ( فإن قيلَ: إنَّ الشيءَ إذا شابَهَ غيرَه من وجهٍ جازَ عليه من ذلك الوجهِ ما يَجوزُ عليه ووَجَبَ له ما وَجَبَ له ، وامْتَنَعَ عليه ما امْتَنَعَ عليه " ).

التوضيحُ

إذا اعْتَرَضَ مُعْتَرِضٌ على إثباتِنا للقَدْرِ المشترَكِ بينَ صفاتِ الخالقِ وصفاتِ المخلوقِ بأن قالَ : إن الشيئين إذا اشْتَبَهَا من وجهٍ جازَ على أحدِهما ما يَجُوزُ للآخَرِ من ذلك الوجْهِ ، فإذا جازَ على أحدِهما النَّقْصُ من ذلك الوجهِ جازَ على الآخَرِ النقْصُ كذلك ، وكذلك يَمْتَنِعُ على أحدِهما ما يَمْتَنِعُ على الآخَرِ من ذلك الوجهِ المشترَكِ ، ويَجِبُ لأحدِهما ما يَجِبُ للآخَرِ ، وعليه يكونُ قد وَقَعَ التشبيهُ بينَ الخالقِ والمخلوقِ .


الجوابُ
قولُه: ( قيلَ : هَبْ أنَّ الأمْرَ كذلك, ولكن إذا كان ذلك القدْرُ المشترَكُ لا يَسْتَلْزِمُ إثباتَ ما يَمْتَنِعُ على الربِّ سبحانَه, ولا نَفْيَ ما يَسْتَحِقُّه لم يكنْ مُمْتَنِعًا كما إذا قيلَ: إنه مَوْجودٌ حيٌّ عليمٌ سميعٌ بصيرٌ ، وقد سَمَّى بعضَ عِبادِه حَيًّا سَميعًا عليمًا بصيرًا ، فإذا قيلَ : يَلْزَمُ أن يَجوزَ عليه ما يَجوزُ على ذلك من جِهةِ كونِه مَوْجودًا حيًّا عليمًا سميعًا بصيرًا ؟

قيلَ : لازِمُ هذا القدْرِ المشترَكِ ليس مُمْتَنِعًا على الربِّ تعالى ، فإنَّ ذلك لا يَقْتَضِي حدوثًا ولا إمكانًا ولا نَقْصًا ولا شيئًا مِمَّا يُنافِي صفاتِ الربوبيَّةِ ، وذلك أنَّ القدْرَ المشترَكَ هو مُسَمَّى الوُجودِ أو المَوْجودِ أو الحياةِ أو الحيِّ أو العلْمِ أو العليمِ أو السمْعِ والبصَرِ أو السميعِ والبصيرِ أو القدرةِ ، أو القديرِ, والقدْرُ المشترَكُ مُطْلَقٌ كلِّيٌّ لا يَخْتَصُّ بأحدِهما دونَ الآخَرِ, فلم يَقَعْ بينَهما اشتراكٌ لا فيما يَخْتَصُّ بالممْكِنِ المُحْدَثِ ولا فيما يَخْتَصُّ بالواجِبِ القديمِ ، فإنَّ ما يَخْتَصُّ به أحدُهما يَمتنِعُ اشتراكُهما فيه .

فإذا كان القدْرُ المشترَكُ الذي اشْتَرَكا فيه صفةَ كمالٍ كالوُجودِ والحياةِ والعلْمِ والقُدرةِ, ولم يكنْ في ذلك شيءٌ مما يَدُلُّ على خصائصِ المخلوقينَ كما لا يَدُلُّ على شيءٍ من خصائصِ الخالِقِ لم يكنْ في إثباتِ هذا محذورٌ أَصْلاً ، بل إثباتُ هذا من لوازِمِ الوُجودِ فكلُّ مَوْجودَيْنِ لا بدَّ بينَهما مِثْلُ هذا ، ومَن نَفَى هذا لَزِمَه تعطيلُ وُجودِ كلِّ مَوْجودٍ ؛ ولهذا لَمَّا اطَّلَعَ الأَئِمَّةُ على أنَّ هذا حقيقةُ قولِ الجَهْمِيَّةِ سَمَّوْهُم مُعَطِّلَةً ، وكان جَهْمٌ يُنْكِرُ أن يُسَمَّى اللهُ شيئًا, ولرُبَّمَا قالَت الجَهْمِيَّةُ : هو شيءٌ, لا كالأشياءِ, فإذا نُفِيَ القدْرُ المشترَكُ مُطْلَقًا لَزِمَ التعطيلُ العامُّ ، والمعاني التي يُوصَفُ بها الربُّ تعالى كالحياةِ والعلْمِ والقُدرةِ, بل والوُجودِ والثبوتِ والحقيقةِ ونحوَ ذلك تَجِبُ له لوازِمُها ؛ فإنَّ ثبوتَ الملزومِ يَقْتَضِي ثبوتَ اللازمِ ، وخصائصُ المخلوقِ التي يَجِبُ تنزيهُ الربِّ عنها ليست من لوازمِ ذلك أَصْلاً ، بل تلك من لوازمِ ما يَخْتَصُّ بالمخلوقِ من وُجودٍ وحياةٍ وعلْمٍ ونحوَ ذلك . واللهُ سبحانَه مُنَزَّهٌ عن خصائصِ المخلوقينَ وملزوماتِ خصائصِهم ).

التوضيحُ

هذا جوابُ الاعتراضِ, وحاصِلُه كما يَلِي :
أنه لو فَرَضْنَا أنَّ قولَ المعترِضِ صحيحٌ فإذا كان القدْرُ المشترَكُ لا يَسْتَلْزِمُ إثباتَ ما يَمْتَنِعُ على اللهِ أو نَفْيَ ما يَجِبُ عليه فعندَها لا يكونُ هذا الاشتراكُ مُمْتَنِعًا .
و أيضًا فإننا إذا قُلْنَا: إنَّ اللهَ تعالى مَوْجودٌ حيٌّ عليمٌ سميعٌ بصيرٌ ، وسَمَّى بعضَ عِبادَه حَيًّا سَميعًا عليمًا بصيرًا فهو مُطْلَقٌ لا فيما يَخْتَصُّ بالخالِقِ أو المخلوقِ من خصائصَ .

بل إثباتُ هذا القدْرِ المشترَكِ الكلِّيِّ من لوازمِ الوُجودِ, فكلُّ مَوْجودينِ لا بُدَّ أن يَشْتَرِكَا في هذا المعنى العامِّ الذي هو ضِدُّ العدَمِ, ومَن نَفَى هذا المعنى العامَّ لَزِمَه تعطيلُ الوُجودِ ، لذلك لَمَّا تَفَطَّنَ الأَئِمَّةُ لحقيقةِ قولِ الْجَهْميِّ, وأنه يُفْضِي إلى نَفْيِ وُجودِ اللهِ سَمَّوْهُم مُعَطِّلَةً ، وكان جَهْمٌ يُنْكِرُ أن يُسَمَّى اللهُ شيئًا مع أنَّ كلَّ مَوْجودٍ شيءٌ, وقد وَرَدَ إطلاقُ الشيءِ على اللهِ تعالى كما في قولِه تعالى : } قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ{ ولكنَّ أَتْبَاعَهُ الجَهْمِيَّةَ قالوا : شيءٌ لا كالأشياءِ, ومُرادُهم بذلك نَفْيُ الصِّفاتِ .

وجميعُ المعاني التي يُوصَفُ اللهُ تعالى بها كالحياةِ والعلْمِ والقُدرةِ تَثْبُتُ للهِ تعالى مع لوازمِها ؛ فحياةُ اللهِ تعالى يَلْزَمُ منها عَدَمُ الموتِ والأزليَّةُ ونحوَها من خصائصِ الخالِقِ ، وعِلْمُه يَلْزَمُ منه الكمالُ المُطْلَقُ وهكذا .. فخصائصُ المخلوقِ ليست من لوازِمِ تلك الصِّفاتِ ؛ لأنَّ اللهَ تعالى مُنَزَّهٌ عن خصائصِ المخلوقاتِ ومَلزُومَاتِها كالحدوثِ والافتقارِ, فبذلك لا يكونُ في إثباتِ القَدْرِ المشترَكِ تشبيهٌ .

ملحوظةٌ :

في كلامِ شيخِ الإسلامِ: ( إنَّ جَهْمًا كان يُنْكِرُ أن يُسَمَّى اللهُ شيئًا ) .
ليس المقصودُ من هذا الكلامِ أنَّ من أسماءِ اللهِ تعالى ( الشيءَ ) وإنما المقصودُ أنَّ الْجَهْمَ كان يُنْكِرُ أن يُقالَ ( بأنَّ اللهَ شيءٌ ) كما قالَ عبدُ القاهِرِ البَغداديُّ : " وقالَ – يعني الْجَهْمُ – : لا أَصِفُه بوَصْفٍ يَجُوزُ إطلاقُه على غيرِه كشيءٍ ومَوْجودٍ وحيٍّ وعليمٍ ومُريدٍ ونحوَ ذلك ... " فإنَّ ( الشيءَ ) ليس من أسماءِ اللهِ تعالى, بل يُطْلَقُ على اللهِ تعالى من بابِ الإخبارِ؛ لأنَّ أسماءَ اللهِ تعالى حُسْنَى, أي: بالِغَةٌ في الحسْنِ ، والشيءُ إنما هو خَبَرٌ عن وُجودِه كما فَصَّلَ ذلك شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ وابنُ القيِّمِ في البدائعِ ، وكذلك الشيخُ عبدُ اللهِ الغُنَيْمَانُ في شرْحِه لكتابِ التوحيدِ من صحيحِ البخاريِّ مُعَلِّقًا على تبويبِ البخاريِّ : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ } فَسَمَّى اللهُ تعالى نفسَه شيئًا, وسَمَّى النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرآنَ شيئًا, وهو صِفَةٌ من صفاتِ اللهِ, وقالَ : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } . قالَ الشيخُ الغُنَيْمَانُ : " يُريدُ بهذا أنه يُطْلَقُ على اللهِ تعالى أنه شيءٌ وكذلك صفاتُه ، وليس معنى ذلك أنَّ الشيءَ مِن أسماءِ اللهِ الْحُسنى ولكن يُخْبَرُ عنه تعالى بأنه شيءٌ ، وكذا يُخبَرُ عن صفاتِه بأنها شيءٌ؛ لأنَّ كلَّ مَوْجودٍ يَصِحُّ أن يُقالَ: إنه شيءٌ .

تَكرارٌ لمسألةِ الاشتراكِ ( القَدْرُ المشترَكُ )
قولُه : ( وهذا الْمَوْضِعُ مَن فَهِمَه فَهْمًا جَيِّدًا وتَدَبَّرَه زَالَتْ عنه عامَّةُ الشُّبُهَاتِ وانكشَفَ له غَلَطُ كثيرٍ من الأذكياءِ في هذا المَقامِ ، وقد بُسِطَ هذا في مَواضِعَ كثيرةٍ ، وبُيِّنَ فيها أنَّ القدْرَ المشترَكَ الكُلِّيَّ لا يُوجَدُ في الخارِجِ إلا مُعَيَّنًا مُقَيَّدًا, وأنَّ معنى اشتراكِ المَوْجوداتِ في أمْرٍ من الأمورِ هو تشابُهُها من ذلك الوجهِ ، وأنَّ ذلك المعنى العامَّ يُطْلَقُ على هذا ، وهذا لأنَّ المَوْجوداتِ في الخارِجِ لا يُشارِكُ أحدُها الآخَرَ في شيءٍ مَوْجودٍ فيه, بل كلُّ مَوْجودٍ مُتَمَيِّزٌ عن غيرِه بذاتِه وصفاتِه وأفعالِه ).

التوضيحُ

تَكَرَّرَتْ هذه المسألةُ كثيرًا, وهي أنَّ القدْرَ المشترَكَ الكلِّيَّ لا يُوجَدُ في الخارِجِ إلا مُعَيَّنًا مُقَيَّدًا ، وأنَّ هذا المعنى يُطْلَقُ على الخالِقِ, و على المخلوقِ دونَ الاشتراكِ في شيءٍ مَوْجودٍ في الخارِجِ ، بل كلُّ وُجودٍ مُتَمَيِّزٌ عن غيرِه بذاتِه وأفعالِه وصِفاتِه ، وبسببِ عدَمِ فَهْمِ هذا الفرْقِ وَقَعَ كثيرٌ من الناسِ في التَّناقُضِ والاضطرابِ ، وقد كان هذا المفهومُ مُسْتَقِرًّا عندَ السلَفِ, وإن لم يُصَرِّحُوا بمصطَلَحِ القدْرِ المشترَكِ .
مثالُ التَّناقُضِ بسببِ عدَمِ فَهْمِ القدْرِ المشترَكِ
قولُه : ( وَلَمَّا كان الأمْرُ كذلك كان كثيرٌ من الناسِ مُتَناقِضًا في هذا المَقامِ فتارةً يَظُنُّ أنَّ إثْبَاتَ القَدْرِ المشترَكِ يُوجِبُ التشبيهَ الباطِلَ فيَجْعَلُ ذلك له حُجَّةً فيما يَظُنُّ نَفْيَهُ من الصِّفاتِ حَذَرًا من ملزوماتِ التشبيهِ ، وتارةً يَتَفَطَّنُ إلى أنه لا بُدَّ من إثباتِ هذا على كلِّ تقديرٍ فيُجِيبُ به فيما يُثْبِتُه من الصِّفاتِ لِمَن احْتَجَّ به من النُّفَاةِ ).

التوضيحُ

مَن يَظُنَّ أنَّ إثباتَ القَدْرِ المشترَكِ يُوجِبُ التشبيهَ يَنْفِ بعضَ الصِّفاتِ كالأشاعرةِ مَثَلاً يَنْفُونَ الاستواءَ فِرارًا من التشبيهِ, كما سَبَقَ ، ثم يُثْبِتُ بعضَ الصِّفاتِ كالسمْعِ والبصَرِ والكلامِ ، ويَتَفَطَّنُ إلى ضرورةِ هذا القدْرِ المشترَكِ فتَرَاهُ يَرُدُّ على المُعْتَزِلَةِ مَثَلاً إذا نَفَتْ هذه الصِّفاتِ التي يُثْبِتُها هو فيَتَناقَضُ في نفيِه للقَدْرِ المشترَكِ تارةً وإثباتِه له تارةً أُخرى .
أَمْثِلَةٌ للاشتباهِ والاضطراباتِ في القدْرِ المشترَكِ

قولُه : ( ولكثرةِ الاشتباهِ في هذا المَقامِ وَقَعَت الشُّبْهَةُ في أنَّ وُجودَ الربِّ هل هو عينُ ماهِيَّتِه أو زائدٌ على ماهيَّتِه ؟ وهل لفْظُ " الوُجودِ " مقولٌ بالاشتراكِ اللفظيِّ أو التواطؤِ أو التشكيكِ كما وَقَعَ الاشتباهُ في إثباتِ الأحوالِ ونَفْيِها, وفي أنَّ المعدومَ هل هو شيءٌ أمْ لا؟ وفي وُجودِ المَوْجوداتِ هل هو زائدٌ على ماهِيَّتِها أمْ لا ؟ وقد كَثُرَ من أَئِمَّةِ النُّظَّارِ الاضطرابُ والتَّناقُضُ في هذه المَقاماتِ, فتارةً يقولُ أحدُهم القولَيْنِ المتَناقضينِ ويَحْكِي عن الناسِ مقالاتٍ ما قالوها ، وتارةً يَبْقَى في الشكِّ والتحيُّرِ وقد بَسَطْنَا الكلامَ في هذه المَقاماتِ ، وما وَقَعَ من الاشتباهِ والغلَطِ والْحيرَةِ فيها لأَئِمَّةِ الكلامِ والفلسفةِ بما لا تَتَّسِعُ له هذه الْجُمَلُ الْمُخْتَصَرَةُ ).

التوضيحُ

أشارَ هنا إلى اضطراباتِ المُتَكَلِّمِينَ والفَلاسِفَةِ ، وانتهاءِ أمْرِهم إلى الشكِّ والتحَيُّرِ ، ونَذْكُرُ أَمْثِلَةً لهؤلاءِ :
فمنهم الخونجيُّ الذي قالَ فيه شيخُ الإسلامِ : " وقد بَلَغَنِي بإسنادٍ مُتَّصِلٍ عن بعضِ رؤوسِهم, وهو الخونجيُّ, أنه قالَ عندَ الموتِ : أَمُوتُ وما عَلِمْتُ شيئًا إلا أنَّ الْمُمْكِنَ يَفتَقِرُ إلى الواجبِ ثم قالَ : الافتقارُ وَصْفٌ عَدَمِيٌّ, أموتُ وما عَلِمْتُ شيئًا " وقالَ شيخُ الإسلامِ أيضًا : حَدَّثَنِي مَن قَرَأَ على ابنِ واصلٍ الْحَمَوِيِّ أنه قالَ : أَبِيتُ بالليلِ وأَسْتَلْقِي على ظَهْرِي, وأَضَعُ الْمِلْحَفَةَ على وَجْهِي ، وأَبِيتُ أُقَابِلُ أَدِلَّةَ هؤلاءِ بأَدِلَّةِ هؤلاءِ وبالعكْسِ, وأُصْبِحُ وما تَرَجَّحَ عِندي شيءٌ " .
وقالَ الشَّهْرَسْتَانِيُّ :-

لعَمْرِي لقد طُفْتُ الْمَعَاهِدَ كُلَّها = وسَيَّرْتُ طَرْفِي بينَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ
فلم أَرَ إلا وَاضِعًا كَفَّ حائِرٍ = على ذَقَنٍ أو قَارِعًا سِنَّ نَادِمِ

وقالَ الإمامُ الرازيُّ :-

نِهايةُ إِقدامِ العُقولِ عَقَالُ = وأكثَرُ سَعْيِ العالَمِينَ ضَلاَلُ
وأَرْوَاحُنا في وَحْشَةٍ من جُسُومِنا = وحاصِلُ دُنيانا أَذًى ووَبَالُ
ولم نَسْتَفِدْ من بَحْثِنا طُولَ عُمْرِنا = سوى أنْ جَمَعْنَا فيه قِيلَ وقَالُوا

قالَ : " لقد تَأَمَّلْتُ الطرُقَ الكلاميَّةَ والمناهِجَ الفلسفيَّةَ فما وَجَدْتُها تَشْفِي عَلِيلاً, ولا تَرْوِي غَليلاً ، ورَأَيْتُ أَقْرَبَ الطرُقِ طريقةَ القرآنِ, أَقْرَأُ في الإثباتِ: } الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {
وفي النفيِ } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ { وهذه طريقةُ أهْلِ السُّنَّةِ المُنَزَّهٌَةُ عن التَّناقُضِ والاضطرابِ .

لذلك قالَ الوليدُ الكرابيسيُّ لِبَنِيهِ عندَ وفاتِه : " تَعْلَمُونَ أحدًا أَعْلَمَ بالكلامِ مِنِّي ؟ قالوا : لا ، قالَ : فَتَتَّهِمُونَنِي ؟ قالوا : لا . قالَ : فإني أُوصِيكُم أَتَقْبَلُونَ ؟ قالوا : نعم .قالَ : عليكم بما عليه أصحابُ الحديثِ؛ فإني رأيتُ الحقائقَ معهم .
وشهاداتُ المتكلِّمِينَ على أنفسِهم بالشكِّ والْحَيْرَةِ والاضطرابِ أكثَرُ من أنْ تُحْصَى .
وقد ذَكَرَ شيخُ الإسلامِ هنا خَمْسَ مسائلَ ظَهَرَ فيها اضطرابُ المُتَكَلِّمِينَ بسببِ الاضطرابِ في الاشتراكِ وهى :
وُجودُ الربِّ هل هو عينُ ماهِيَّتِه أو زائدٌ عن ماهيَّتِهِ ؟
لفظُ الوُجودِ مَقُولٌ بالاشتراكِ اللفظيِّ أو التواطُئِ أو التشكيكِ .
إثباتُ الأحوالِ ونَفْيُها .
المعدومُ شيءٌ أمْ لا ؟
وُجودُ المَوْجوداتِ زائدٌ عن ماهيَّتِها أمْ لا ؟

تحقيقُ الحقِّ في هذه المسائلِ
قولُه : ( وبَيَّنَّا أنَّ الصوابَ هو أنَّ وُجودَ كلِّ شيءٍ في الخارِجِ هو ماهيَّتُه المَوْجودةُ في الخارِجِ بخِلافِ الماهيَّةِ التي في الذِّهْنِ فإنها مغايِرَةٌ للوُجودِ في الخارِجِ ، وأنَّ لفظَ الوُجودِ كلَفْظِ " الذاتِ " و " الشيءِ " و " الماهيَّةِ " و " الحقيقةِ " ونحوَ ذلك ألفاظٌ كلُّها متواطِئَةٌ, فإذا قيلَ : إنها مُشَكِّكَةٌ لتفاضُلِ معانيها فالْمُشَكِّكُ نوعٌ من الْمُتَوَاطِئِ العامِّ الذي يُرَاعَى فيه دَلالةُ اللفظِ على القَدْرِ المشترَكِ سواءٌ كان المعنى مُتَفَاضِلاً في موارِدِه أو مُتَمَاثِلاً ، وبَيَّنَّا أنَّ المعدومَ شيءٌ أيضًا في العلْمِ والذهْنِ لا في الخارِجِ ، فلا فَرْقَ بينَ الثبوتِ والوُجودِ, لكنَّ الفرْقَ ثابتٌ بينَ الوُجودِ العِلْمِيِّ والعَيْنيِّ مع أنَّ ما في العلْمِ ليس هو الحقيقةَ المَوْجودةَ ، ولكنَّ هو العلْمُ التابِعُ للعالِمِ القائمِ به ، وكذلك الأحوالُ التي تتَمَاثَلُ فيها المَوْجوداتُ وتَخْتَلِفُ لها وُجودٌ في الأذهانِ ، وليس في الأعيانِ إلا الأعيانُ المَوْجودةُ وصِفَاتُهَا القائمةُ بها الْمُعَيَّنَةُ فتَتَشابَهُ بذلك وتَخْتَلِفُ به ) .

التوضيحُ

أوَّلاً : المسألةُ الأُولى داخِلَةٌ في المسألةِ الخامسةِ ، فالكلامُ عن الخامسةِ يُغْنِي عنها فنقولُ : وُجودُ المَوْجوداتِ هو عينُ ماهيَّتِها أو حقيقتِها في الخارِج لكنه زائدٌ على ماهيَّتِها في الذهْنِ؛ فإنه في الذهْنِ يكونُ عامًّا كُلِّيًّا, و في الخارِجِ يَزيدُ بتقييداتٍ وتَخصيصاتٍ هي عينُ حقيقتِه الخارِجيَّةِ الزائدةِ عما في الذهْنِ .
لذا فقَوْلُهم : (الوُجودُ زائدٌ عن الماهيَّةِ أو لا ؟ ) يَحتاجُ إلى التفصيلِ السابقِ بِحَسَبِ الذهْنِ والخارِجِ .

ثانيًا: المسألةُ الثانيةُ : سَبَقَ القولُ الصحيحُ فيها, وهو أنَّ الوُجودَ مُتَواطِئٌ –أي: مُتَّحِدٌ لَفْظًا ومعنًى- والفرْقُ بينَ التواطُئِ والتشكيكِ هو :
أنَّ التواطؤَ اتِّفَاقٌ في اللفظِ والمعنى مع الاتِّحادِ في المعنى الكلِّيِّ كلفظِ ( الإنسانِ ) فإنَّ زيدًا وعَمْرًا مُتَّفِقَانِ في الإنسانيَّةِ, ولا يَتفاوتانِ فيها.
أمَّا التشكيكُ فهو اتِّفاقٌ في اللفظِ والمعنى أيضًا لكن مع التَّفَاوُتِ في المعنى الكلِّيِّ مثلَ البَيَاضِ؛ فإنَّ الثَّلْجَ والإنسانَ مُتَّفِقَانِ في البَيَاضِ مع التفاوُتِ بينَ بَيَاضِ كلٍّ منهما .

ثالثًا : المسألةُ الثالثةُ : وفيها الأحوالُ : وهى تَخْتَلِفُ عن أحوالِ الصوفيَّةِ الآتيةِ في الأصْلِ الثاني ، ومفهومُها عندَ مَن يقولُ بها النِّسْبَةُ بينَ الصفةِ والموصوفِ فيقولون ؛ العالَمُ صفةٌ والعالَمِيَّةُ نِسبةٌ بينَ الصفةِ والموصوفِ ؛ وهي عندَهم معنًى زائدٌ عن العلْمِ ومثلُه القادريَّةُ والفاعليَّةُ وغيرُها ، ويقولون: إنها لا مَوْجودةٌ بذاتِها, ولا معدومةٌ, بل هي واسِطَةٌ بينَهما ، وهذا القولُ باطِلٌ ولا فَرْقَ بينَ العلْمِ والعالَمِيَّةِ والقدْرَةِ والقادِرِيَّةِ ، وتفسيرُهم للأحوالِ مُمْتَنِعٌ بضرورةِ العَقْلِ فهي لا وُجودَ لها إلا في الأذهانِ ، وأمَّا في الأعيانِ فلا تُوجَدُ إلا الذواتُ وصفاتُها القائمةُ بها . ومِمَّنْ قالَ بها أبو هاشمٍ الْجُبَائِيُّ المعتزليُّ والجُوَيْنيُّ والباقلانيُّ و أبو يَعْلَى الحنبليُّ لذلك يُقالُ من الْمُحالاتِ أحوالُ أبي هاشمٍ .

رابعًا : المسألةُ الرابعةُ : الحقُّ فيها أنَّ المعدومَ شيءٌ في العلْمِ والذهْنِ وليس بشيءٍ في الخارِجِ وهذا التفصيلُ هو الذي تَجْتَمِعُ عليه الأَدِلَّةُ خِلافًا للمُعْتَزِلَةِ القائلينَ بأنه شيءٌ مُطْلَقًا فأَدِلَّةُ كونِه شيئًا في العلْمِ :-
قولُه تعالى: } إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا { فالشيءُ هنا غيرُ مَوْجودٍ, لكنه معلومٌ مرادٌ.
قولُه :} إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ { فهي لم تَقَعْ, لكنها معلومةٌ .
وأَدِلَّةُ كونِه ليس بشيءٍ في الخارِج :-
قولُه تعالى :} وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا { أي: في الخارِجِ .
وقولُه :} أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا { أي: في الخارِج فالمعدومُ شيءٌ عِلْمِيٌّ لا عَيْنِيٌّ .
وكلٌّ من لفظِ الوُجودِ والذاتِ والشيءِ والماهيَّةِ والحقيقةِ مُتَوَاطِئٌ, ومَن قالَ: إنها مُشَكَّكَةٌ فالْمُشَكَّكُ نوعٌ من التَّوَاطُئِ العامِّ, الذي تَتَّفِقُ فيه المعاني الكُلِّيَّةُ ، وإن كان مُتفاوِتًا في أفرادِه أو مُتَمَاثِلاً ، أي: أنَّ كُلًّا من الْمُشَكَّكِ والمتواطئَ مَرْجِعُهما إلى معنًى واحدٍ مُشْتَرَكٍ, وإن كان الفرْقُ مَوْجودًا من حيث التفاوُتُ وعَدَمُه كما سَبَقَ .
ملحوظةٌ : ليست هذه الألفاظُ مترادِفَةً بل الكلامُ عن واحدٍ منها .
خاتِمَةُ الطريقِ الأوَّلِ في النفيِ عندَ المُتَكَلِّمِينَ

قولُه : ( وأمَّا هذه الجملةُ المختصَرَةُ : فإنَّ المقصودَ بها التنبيهُ على جُمَلٍ مُختصَرَةٍ جامعةٍ مَن فَهِمَها عَلِمَ قَدْرَ نَفْعِها ، وانفتَحَ له بابُ الْهُدى, وأَمْكَنَه إغلاقُ بابِ الضلالِ, ثم بَسْطُها وشَرْحُها له مَقامٌ آخَرُ؛ إذ لكُلِّ مَقامٍ مَقَالٌ .
والمقصودُ هنا أنَّ الاعتمادَ على مِثْلِ هذه الْحُجَّةِ فيما يُنْفَى عن الربِّ ويُنَزَّهُ عنه كما يَفْعَلُه كثيرٌ من الْمُصَنِّفِينَ خطأٌ لِمَنْ تَدَبَّرَ ذلك و هذا من طُرُقِ النفيِ الباطلةِ ) .

التوضيحُ

هنا خاتِمَةُ الكلامِ عن طريقةِ التنزيهِ بنَفْيِ التشبيهِ ، يَذْكُرَ شيخُ الإسلامِ أنَّ المقصودَ بيانُ أنَّ هذه الطريقةَ من طُرُقِ النفيِ التي لا تُحِقُّ حَقًّا ولا تُبْطِلُ باطِلاً, بل هي تَتَضَمَّنُ كثيرًا من الباطِلِ ، وبِمَا سَبَقَ من التنبيهاتِ في القَدْرِ المشترَكِ وغيرِه يَنْفَتِحُ للمتأمِّلِ فيها بابُ الْهُدَى ويُمْكِنُه إغلاقُ بابِ الضلالِ ، وقد بَسَطَ شيخُ الإسلامِ ذلك في غيرِ هذا الكلامِ, ولكلِّ مَقامٍ مقالٌ .

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
المشترك, القدر

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:35 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir