كتاب الرضاع
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في بنت حمزة: ((لا تحل لي , يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب , وهي ابنة أخي من الرضاعة)) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((الرضاع يحرم ما يحرم من الولادة)) .
وعنها قالت: إن أفلح أخا أبي القعيصاستأذن علي بعدما أنزل الحجاب , فقلت: والله لاآذنله حتى استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛فإن أخا أبي القعيص ليس هو أرضعني ، ولكني أرضعتني امرأة أبي القعيص, فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلتله: يا رسول الله , إن الرجل ليس هو أرضعني ولكني أرضعتنيامرأته فقال: ((ائذنيله؛ فإنه عمك تربت يمنك)) , قال عروة: فبذلك كانت عائشة تقول: حرموا من الرضاع ما يحرم من النسب .
وفي لفظ: استأذن علي أفلح فلم آذنله , فقال: أتحتجبين مني وأنا عمك , فقلت: كيف ذلك ؟ قال: أرضعتك امرأة أخي بلبن أخي . فقالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((صدق أفلح , ائذني له تربت يمينك)) . أي:افتقرت . والعرب تدعوا على الرجل ولا تريد وقوع الأمر به .
وعنها قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وعندي رجل , فقال:((يا عائشة من هذا)) قلت: أخي من الرضاعة . فقال: ((يا عائشة , انظرن من إخوانكن , فإنما الرضاعة من المجاعة , اعرفن من إخوانكن)) .
الشيخ: بسم الله والحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه .
يراد بالرضاعة هنا: آثار الرضاع الذي ذكر في قول الله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} أي ماذا تحرم الرضاعة وما لا تحرم . وليس المراد البحث في كيفية الرضاعة , رضاع المرأة ولدها المذكور في قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} , فإن ذلك مقصود منه كيف ترضع المرأة ولدها , ومتى تفطمه ونحو ذلك ، وأما هذا ففي إرضاع المرأة غير ولدها , وكيف يكون أثر هذا الرضاع .
فذكر في تعريف الرضاع المحرِّم: أنه امتصاص الصبي ، أو الطفل , لبنا ثاب عن حمل ، وهو في الحولين , امتصاص مَن دون الحولين لبنا ثاب عن حمل . وقولهم: امتصاص هذا على وجه الأغلب ، وإلا فلو شرب اللبن شربا دون امتصاص وهو دون الحولين لحصل له التأثير والتحريم , فيحرم ولو كان شربا أو نحو ذلك , وهكذا لو أُدخل مع أنفه ووصل إلى جوفه وتغذى به حصل بذلك الرضاع .
ثم الجمهور على أنه لا يحرِّم إلا إذا كان في الحولين , إذا كان الرضاع في الحولين , ويستدلون بما في حديث عائشة هذا الأخير , وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الرضاعة من المجاعة)) المجاعة معناها الجوع , يعني الرضاع المحرم هو الذي يدفع الجوع , يرتفع به الجوع ويحصل به الشبع , هذا هو الرضاع المحرِّم . نوجله إلى بعد الأذان .
نقول: في هذه الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم في بنت حمزة:((لا تحل لي ؛ إنها ابنة أخي من الرضاعة)). ابنة حمزة هذه قتل أبوها وهي صغيرة في مكة ، ثم في عمرة القضية سنة سبع أخذوها معهم إلى المدينة ، وكفلها ابن عم أبيها أو ابن عمها وهو جعفر عند خالتها أو بقيت عند خالتها . يقول النبي صلى الله عليه وسلم لما عرضوها عليه وقيل له تزوجها قال: ((لا تحل لي))؛ وذلك لأن حمزة رضع من ثويبة ، وثويبة أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم , فلذلك أصبح أخا حمزة من الرضاع .
فهذا دليل واضح على أنه ولو حصل الرضاع من امرأة أجنبية , أرضعت اثنين , أصبحا أخوين من الرضاع , فهذه ثويبة أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم وليست أمه , وأرضعت حمزة وليست أمه , ولكن اجتمعا في أنهما أخوان منها , فصار الرضاع الذي من امرأة أجنبية أصبح محرِّما . وبطريق الأولى إذا كان الرضاع من أم احدهما , فإن حليمة السعدية التي أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم أصبحت أمه , وأولادها الذين ولدتهم أو أرضعتهم يعتبرون أيضا إخوة له .
ويكون هذا التحريم يختص بالراضع , ولا يتعدى إلى إخوته , فلذلك لم يتعدى إلى إخوة حمزة كالعباس وأبي طالب؛ فإن كلا منهما ولو كان أخا لحمزة بن عبد المطلب فإنه يعتبر يعني ليس بأخ , الأخوَّة اختصت بالراضع الذي هو حمزة . وتكون الرضاعة أيضا مؤثرة في أقارب الزوج ، يكون الزوج أبا للرضيع , وأقاربه محارم للرضيع , كما في قصة عائشة ذكرت عائشة أن امرأة أبي القعيص أرضعتها , هلكت المرأة وهلك أبو القعيص ،وجاء أخوه واسمه أفلح واستأذن على عائشة ، وطلب أن تأذنله , فامتنعت وقالت: بعيد , كيف آذن له وهو لم يرضعني ولم ترضعني امرأته وإنما أرضعتني امرأة أخيهفأخبرها بأنه عمها وقال: أرضعتك امرأة أخي بلبن أخي, أن اللبن تسبب من أخية , فصار أخوه الذي هو صاحب اللبن أبا لعائشة , وزوجة أبو القعيص المرضعة أما لعائشة ، وأخو القعيص , أخوه الذي هو أفلح عما لعائشة , وأولاد أبي القعيص أخوة لعائشة من الرضاعة .
هذا يبين أن الرضاعة تتعدى إلى أقارب المرضعة , وإلى أقارب زوج المرضعة ، ولا تتعدى كما ذكرنا إلى أقارب الرضيع , فأخوة عائشة لم يؤثر فيهم رضاعها من امرأة أبي القعيص , فأخوها عبد الرحمن لم يكن ابنا لأبي القعيص ،وكذلك أخوها محمد وأختها أسماء ونحوهم , اختصت الرضاعة والتحريم والتأثير بالراضعة التي هي عائشة , فلما أنه استأذن عليها استغربت وقالت: كيف آذن له وهو بعيد , لم يرضعني هو ولم ترضعنيامرأته ، ليست امرأته هي التي أرضعتني, وإنما هو أخوه , وليس هو الذي أرضعني , فلما قال لها: أرضعتك امرأة أخي بلبن أخي , أقر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم , وجعل ذلك مبررا لكونها تأذنله ويدخل عليها ويسلم عليها ؛ لأنه أصبح عمها . وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((ائذني له ؛ فإنه عمك تربت يمينك)) .
كلمة تربت يمينك ذكر المؤلف أنه لا يقصد بها حقيقة الدعاء , وإنما يقصد بذلك التوبيخ لعدم الفهمِ ، أو لعدم التذكر . وأما ما ذكر من قوله: ((إنما الرضاعة من المجاعة)) , فيدل على أن الرضاعة التي تحرِّم هي التي تكون في الصغر ، والتي يندفع بها الجوع ، إذا رضع الطفل من المرأة اندفع جوعه ، وشبع ، وحصل له غذاء ، ونبت بذلك الرضاع لحمه ، ونشز عظمه ، فيصبح كأنه (غير مسموع) من لبن تلك المرأة ، نبت على لبنها لحمُه ، فينسب إليها ، ويكون ابنا لها من الرضاع .
وقد اختلف في هذا ، فذهب بعض الصحابة – كعائشة - إلى أنه يحرِّم رضاع الكبير ، واستدلوا بقصة سهلة امرأة أبي حذيفة ، فإن أبا حذيفة كان له مولى ، يقال له: سالم ، فجاءت امرأة أبي حذيفة ، وقالت: يا رسول الله إن سالما بلغ مبلغ الرجال ، وإنه يشق علي التحجب ، فقال: ((أرضعيه لتحرمي عليه)) . وقد كان رجلا قد نبتت لحيته ، فأرضعته خمس رضعات ؛ ليكون محرما لها .
ولكن الجمهور على أن هذا من خصائص سهلة ، وأنه لا يحل لغيرها أن ترضع كبيرا فتحرم عليه ، وما ذاك إلا لضرورة حصلت لها ؛ وذلك لأن الرضاع مع الكبير لا يتغذى به بدنه ، ولا ينبت عليه لحمه ، ولا ينبت عليه عظمه ، وأيضا فإن الله تعالى قد حدد الرضاع في قوله تعالى: {وفصاله في عامين} , وفي قوله: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} فالرضاع حدد بحولين ، يعني بسنتين , فلا يمكن أن يزاد على السنتين ، الزيادة عليهما زيادة في غير محلها ، الصبي إذا تم السنتين اكتفى بما يعطى من الأكل ونحوه ، واستطاع أن يأكل ، وأن يمضغ الطعام ، ويتغذى به ، فلذلك لا حاجة إلى الرضاع بعد الحولين ، فإذا أرضع بعد الحولين أو بعد الفطام ، فهذا الرضاع لا يؤثر ولا يحرم ، هذا هو القول الصحيح .
وقصة سالم مولى أبي حذيفة من خصوصيات امرأته التي هي سهلة ، ولو خالف في ذلك من خالف . وذهب بعضهم إلى أنه إذا اضطرت المرأة إلى رجل لا تجد بدا من الكشف له , وأن يكون محرما لها جاز لها أن ترضعه ، كما حصل ذلك لهذه المرأة ، التي هي امرأة أبي حذيفة .
واستدل الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا رضاع إلا ما كان في الحولين ..أو لا رضاع إلا ماكان قبل الفطام)) , وكذلك في قوله: ((انظرن من إخوانكن ، فإنما الرضاعة من المجاعة)) الرضاعة يعني الرضاعة المحرمة ، والتي يكون لها تأثير ، هي من المجاعة ، وفي حديث آخر أنه عليه السلام قال: ((لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء , وحصل به الغذاء, أو إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم)) , فالرضاع الذي في الصغر هو الذي ينشز العظم ، يعني ينبت به العظم ويكبر ، إنشاز العظام يعني نموها ونباتها ، كما في قوله: {وانظر إلى العظام كيف ننشزها} يعني ننميها وننبتها ، وكذلك قوله: ((أنبت اللحم)) يعني نبت اللحم على العظم بذلك الرضاع . فهذا هو الذي يحرم .
عرف بذلك أن الرضاع من جملة ما بحث فيه العلماء ؛ لأن الله تعالى ذكره بقوله: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} فلما كان له حكم صار لا بد من بحث فيما يحل فيه وفيما يحرم ، والبحث فيه مشهور , وأدلته واضحة ، جاءت متنوعة في هذه الأحاديث ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب . فقالوا: كل قريب من النسب يحرم مثله من الرضاع ، فزوج المرأة يسمى أبا من الرضاع ، وأولاد المرضعة يسمون إخوة من الرضاع ، وإخوان المرضعة أخوال الرضيع ، وأخواتها خالات الرضيع ، وكذلك أقاربها ، وأقارب الزوج ، أقارب الزوج الذين هم إخوته ، يصيرون أعماما , أعماما للرضيع ؛ لأنهم إخوة أبيه , وهكذا بقية الأقارب عملا بهذا الحديث .
القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:
عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه , أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إيهاب , فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما. فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم , قال: فأعرض عني , قال: فتنحيت , فذكرت ذلك له , قال: ((وكيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما)) .
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه , قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني من مكة - فتبعته ابنة حمزة تنادي: ياعم ، فتناولها علي فأخذ بيدها ، وقال لفاطمة: دونك ابنة عمك ، فاحتملتها ، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر ، فقال علي: أنا أحق بها وهي ابنة عمي ، وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي ، وقال زيد: ابنة أخي . فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها , وقال: ((الخالة بمنزلة الأم)) . وقال لعلي: ((أنت مني وأنا منك)) . وقال لجعفر: ((أشبهت خَلْقي وخُلُقي)) . وقال لزيد: ((أنت أخونا ومولانا)) .
الشيخ: ... وعلى آله وصحبه .
الحديث الأول يتعلق بالرضاع والشهادة فيه ، والحديث الثاني يتعلق بالحضانة وهي كفالة الطفل وتربيته . فأما حديث عقبة ذكر أنه لما تزوج هذه المرأة يقال لها: أم يحيى بنت أبي إيهاب ، جاءت عجوز أمة مملوكة سوداء ، وادعت أنها أرضعت عقبة وأرضعت المرأة التي تزوج , وأنها أصبحت أما لهذا ولهذه ، فيكونان أخوين من الرضاع ، أنكر ذلك عقبة ، ولم يكن قد سمع هذا منها ، واتهمها بأنها تريد الفراق ، تريد أن تفرق بينهما ، فلم يجرأ على أن يرد عليها ، ولكنه ركب راحلته من مكة إلى المدينة ، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وسأله , وذكر له أنها تكذب ، وأنه لا يعرف ذلك من قبل ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أقَّرها على ما تدعي ، وجعل الأمر راجعا إليها ، وقال: ((كيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما ؟)) كيف وقد زعمت ذلك ؟ دعها عنك . فعند ذلك فارقها عقبة ، وتزوجت غيره .
فأخذوا من هذا الحديث: أولا: أن الرضاع يحرِّم ولو لم يكن من أم أحد الولدين ، فإذا رضعت من امرأة ليست أمك ، ورضع منها زيد وليست أمه ، صرت أنت وزيد أخوين من الرضاع ، لا تحل لك بنته ، ولا تحل له بنتك ، مع أنك لست أخا له من النسب ، ولم ترضع من أمه ، ولم يرضع من أمك ، وإنما اجتمعتما في رضاع امرأة أجنبية ، أرضعتك وأرضعته ، أو أرضعتك وأرضعت هذه المرأة .
كذلك يستفاد منه أن الرضاع يرجع فيه إلى المرضعة , إذا ادعت ذلك فإنها تصدق ؛ وذلك لأنه يُورث شبهة ، فإذا ادعت أنها أرضعت هذا فإن هذا الكلام يورث شبهة ، فلأجل ذلك تتجنب الشبهات ؛ لقوله: ((ومن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه)) .
كذلك أيضا لا شك أن هذه المرأة لم يتهمها زيد إلا بتهمة أنها تريد الفراق بينهما ، ولم يذكر أنه جُرِّب عليها كذب ، ولا أنها ذات حسد ، فلعلها لما سمعت بأنه تزوجها خافَتْ أن يكون بينهما شيء من العلاقة مع تحريم الجمع بينهما ، فأبدت ما عندها وأظهرت أنهما ولداها من الرضاع ، أن هذا رضيع وهذه رضيعة ، قُبل قولها وقد عرفت أيضا حد الرضاع, لا بد أنها عرفت أن الرضاع المحرم هو خمس , ولا بد أنها عرفت أن الرضاع المحرم ما كان في الحولين ، وأنها ما أقدمت على أنهما ولداها من الرضاع إلا وقد عرفت الحكم وتيقنت، فيقبل قولها .
يقول العلماء: إذا ادعت امرأة أنها أرضعت هذين الزوجين: هذه المرأة وزوجها ، قبل قولها ، ولو كانت واحدة ؛ أخذا من هذه القصة . وإذا كانت كاذبة فكما قال تعالى: {وإن يكن كاذبا فعليه كذبه} , وتكون إذا كانت كاذبة تستحق العقوبة في الآخرة ، وربما تعجل لها العقوبة في الدنيا ، إذا فرقت بين زوجين وهي كاذبة أن تصيبها دعوة مظلوم ، إذا كانت كاذبة . وقد يعرف كذبها بقرائن ، ولكن لا يعمل بالقرائن ، بل يعمل بقولها ؛ اتقاء للشبهات .
روي عن ابن عباس أنه قال: إن كانت كاذبة لم تتم السنة ..أو لا تتم حتى يبيض ثدياها ، يعني عقوبة لها ، أنها يصيبها في ثدييها برص ، يكون سببا في عدم قبول أحد لثديها أو نحو ذلك . وهذا وإن لم يكن مطردا ، لكن قد يكون واقعا في بعض الأحيان .
أما الحديث الثاني يتعلق بقصة ابنة حمزة ، وقد تقدم أن عليا عرضها على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولكن أخبر بأنها لا تحل له ؛ لأن حمزة أخوه من الرضاعة ، رضع هو وحمزة من ثويبة مولاة أبي لهب ، فهذا حكم ، وهو أنها ابنة أخيه من الرضاع ، ومع ذلك لم يطالب بحضانتها . لما قتل حمزة رضي الله عنه سنة ثلاث من الهجرة في وقعة أحد ، كانت ابنته عمارة في مكة ، وكانت صغيرة مع أمها , ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه مكة في سنة سبع (عمرة القضية) ، وخرجوا من مكة ، تبعتهم ابنة حمزة تنادي تقول: ياعم ، ياعم ؛ وذلك لأنها قد كبرت عن سن الحضانة , قاربت العشر ، أو تجاوزت عشرة سنين ، أو نحوها ، فأرادت أن تكون مع أهلها بدل ما كانت مع أمها ، وأمها وأخوالها لا يزالون مشركين .
والحاصل أنها لما تبعتهم ، أركبها علي رضي الله عنه مع زوجته فاطمة على بعيرها ، وقال: دونك ابنة عمك ، وذهبوا بها إلى المدينة ، فطلب كفالتها هؤلا الثلاثة ، كل منهم يريد أن تكون تحت كفالته ؛ ليأخذ أجرها لكونها يتيمة ، فعلي رضي الله عنه يقول: هي بنت عمي ، فإن عمَّه حمزة , وهو عم جعفر وعم النبي صلى الله عليه وسلم , وفاطمة ابنة ابن عمها ، فكأنه يقول: أدلي بقرابتي لها وقرابة امرأتي . أما جعفر فأدلى أيضا بحجتين: وهو أنها بنت عمه ، وأن زوجتَه خالتها: أخت أمها ، وزوجته هي أسماء بنت عميس ، ثم طلبها أيضا جعفر ، وكذلك طلبها مولاهما زيد بن حارثة ، وكان قد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين حمزة ، فقال: ابنة أخي ، يعني أخي بالمؤاخاة . ولكنَّه صلى الله عليه وسلم جعلها تحت كفالةِ خالتِها وكفالة ابن عمها ، وهو جعفر ، وقال: ((الخالة بمنزلة الأم)) .
ثم معروف أنَّ الكفالةَ هنا إنما هي النفقةُ ، وإلا فالحضانة قد ذهبَ وقتها ، الحضانة إنما تكون لمن قبل سبع سنينَ ، وأما من فوق سبع سنين فإنه لا يحتاج إلى حضانة ، ولكنْ لما كانت يتيمة ، أراد كل من هؤلاء الثلاثة أن يحظى بكفالتها ، وبالنفقة عليها .
ثم قوله صلى الله عليه وسلم لعلي: ((أنت مني وأنا منك)) ، يعني أنت لك الفضل ولك القرابة ؛ القرابة لكونه ابن عم ، والقرابة لكونه صهرا ، والقرابة لكونه قديم الإسلام ، ولكونه قديم الهجرة . كذلك قوله لجعفر: ((أشبهت خَلقي وخُلقي)) ، هذا أيضا فضل عظيم لجعفر رضي الله عنه . كذلك قوله لزيد: ((أنت أخونا ومولانا)) ، أرضى كل واحد منهم بهذا الأمر .
وبكل حال فهذا دليل على تنافس الصحابة رضي الله عنهم في فعل الخير , ومسابقتهم إليه ، وأن كلا منهم يحرص على أن يكون من السابقين إلى الخيرات ، وأن يكون من الذين يحظون بالأجر في كفالة اليتيم ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا وكافل اليتيم كهاتين)) أي في الجنة أنا وكافل اليتيم ، يعني بعضنا يكون مع بعض في الجنة ، فأشار بأصبعية السبابة والتي تليها ، وفرق بينهما شيئا . وقد أمر الله تعالى بالإحسان إلى اليتامى ، وبمراعاتهم , ونهى عن إضرارهم ، وقال: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح} .