دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم الحديث الشريف > متون علوم الحديث الشريف > بلوغ المرام > كتاب الطهارة

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 8 ذو القعدة 1429هـ/6-11-2008م, 06:34 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي باب الوضوء (2/12) [صفة الوضوء]

33 - وعن حُمرانَ، أنَّ عُثمانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه دعا بوَضوءٍ، فغَسَلَ كَفَّيْهِ ثلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ واسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ اليُمنَى إلَى الْمِرفَقِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ اليُسْرَى مِثلَ ذلك، ثُمَّ مَسَحَ برَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ اليُمْنَى إلَى الكَعبينِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ اليُسْرَى مِثلَ ذلك، ثُمَّ قالَ: رأيتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضوئِي هذا. مُتَّفَقٌ عليهِ.

34 - وعن عليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – في صِفَةِ وُضوءِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ - قالَ: ومَسَحَ برأسِهِ واحدةً. أَخرَجَهُ أبو دَاوُدَ.

35 - وعن عبدِ اللَّهِ بنِ زيدِ بنِ عاصمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – في صِفَةِ الوُضوءِ – قالَ: ومَسَحَ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ برأسِهِ فأَقْبَلَ بيَدَيْهِ وأَدْبَرَ. مُتَّفَقٌ عليهِ. وفي لفظٍ: بدأَ بْمُقَدَّمِ رأسِه حتَّى ذَهبَ بهما إلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُما إلَى المكانِ الذي بَدَأَ منه.

36 - وعن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما – في صِفَةِ الوُضوءِ – قالَ: ثُمَّ مَسَحَ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ برأسِهِ وأَدْخَلَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ في أُذُنَيْهِ، ومَسَحَ بإِبْهَامَيْهِ ظاهِرَ أُذُنَيْهِ. أَخرَجَهُ أبو دَاوُدَ والنَّسائيُّ، وصَحَّحَهُ ابنُ خُزَيْمَةَ.


  #2  
قديم 24 ذو القعدة 1429هـ/22-11-2008م, 11:19 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي سبل السلام للشيخ: محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني

2/30- وَعَنْ حُمْرَانَ، أَنَّ عُثْمَانَ دَعَا بِوَضُوءٍ، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ اليُمْنَى إلَى المِرْفَقِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ اليُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ اليُمْنَى إلَى الكَعْبَيْنِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ اليُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(وَعَنْ حُمْرَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) بِضَمِّ الحَاءِ المُهْمَلَةِ وَسُكُونِ المِيمِ وبالراءِ، هُوَ ابْنُ أَبَانٍ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ المُوَحَّدَةِ، وَهُوَ مَوْلًى لعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، أَرْسَلَهُ لَهُ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَبَاهُ فِي مَغَازِيهِ، فَأَعْتَقَهُ عُثْمَانُ.
(أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه) هُوَ ابْنُ عَفَّانَ، تَأْتِي تَرْجَمَتُهُ قَرِيباً، (دَعَا بِوَضُوءٍ) أَيْ بِمَاءٍ يَتَوَضَّأُ بِهِ (فَغَسَلَ كَفَّهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ) هَذَا مِنْ سُنَنِ الوُضُوءِ بِاتِّفَاقِ العُلَمَاءِ، وَلَيْسَ هُوَ غَسْلَهُمَا عِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ الَّذِي سَيَأْتِي حَدِيثُهُ، بَلْ هَذَا سُنَّةُ الوُضُوءِ، فَلَو اسْتَيْقَظَ وَأَرَادَ الوُضُوءَ، فَظَاهِرُ الحَدِيثِ أَنْ يَغْسِلَهُمَا لِلِاسْتِيقَاظِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ للوُضُوءِ كَذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ تَدَاخُلُهُمَا.
(ثُمَّ تَمَضْمَضَ) المَضْمَضَةُ: أَنْ يَجْعَلَ المَاءَ فِي الفَمِ ثُمَّ يَمُجَّهُ، وَكَمَالُهَا أَنْ يَجْعَلَ المَاءَ فِي فِيهِ، ثُمَّ يُدِيرَهُ، ثُمَّ يَمُجَّهُ. كَذَا فِي الشَّرْحِ، وَفِي القَامُوسِ: المَضْمَضَةُ تَحْرِيكُ المَاءِ فِي الفَمِ. فَجَعَلَ مِنْ مُسَمَّاهَ التَّحْرِيكَ وَلَمْ يَجْعَلْ مِنْهُ المَجَّ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ هَلْ فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً أَوْ ثَلاثاً؟ لَكِنْ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه، أَنَّهُ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَنَثَرَ بِيَدِهِ اليُسْرَى، ففَعَلَ هَذَا ثَلاثاً، ثُمَّ قَالَ: هَذَا طُهُورُ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(وَاسْتَنْشَقَ) الِاسْتِنْشَاقُ: إيصَالُ المَاءِ إلَى دَاخِلِ الأَنْفِ، وَجَذْبُهُ بِالنَّفَسِ إلَى أَقْصَاهُ.
(وَاسْتَنْثَرَ) الِاسْتِنْثَارُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالفُقَهَاءِ: إخْرَاجُ المَاءِ مِن الأَنْفِ، بَعْدَ الِاسْتِنْشَاقِ.
(ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ اليُمْنَى) فِيهِ بَيَانٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي الآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَأَيْدِيَكُمْ} الآيَةَ، وَأَنَّهُ يُقَدِّمُ اليُمْنَى (إلَى المِرْفَقِ) بِكَسْرِ مِيمِهِ وَفَتْحِ فَائِهِ، وَبِفَتْحِهِمَا، وَكَلِمَةُ (إلَى) فِي الأَصْلِ لِلِانْتِهَاءِ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى: مَعَ، وَبَيَّنَتِ الأَحَادِيثُ أَنَّهُ المُرَادُ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: كَانَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ (1) يُدِيرُ المَاءَ عَلَى مِرْفَقَيْهِ. أَي: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ.
وَأَخْرَجَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ فِي صِفَةِ وُضُوءِ عُثْمَانَ أَنَّهُ غَسَلَ يَدَيْهِ إلَى المِرْفَقَيْنِ، حَتَّى مَسَحَ أَطْرَافَ العَضُدَيْنِ. وَهُوَ عِنْدَ البَزَّارِ، وَالطَّبَرَانِيِّ، مِنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ فِي صِفَةِ الوُضُوءِ: وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ حَتَّى جَاوَزَ المَرَافِقَ.
وَفِي الطَّحَاوِيِّ وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبَّادٍ عَنْ أَبِيهِ: ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ حَتَّى سَالَ المَاءُ عَلَى مِرْفَقَيْهِ. فَهَذِهِ الأَحَادِيثُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضاً، قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهُويَهْ: {إِلَى} فِي الآيَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الغَايَةِ، وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى: مَعَ، فَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَنَّهَا بِمَعْنَى: مَعَ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: لا أعْلَمُ خِلافاً فِي إيجَابِ دُخُولِ المِرْفَقَيْنِ فِي الوُضُوءِ، وَبِهَذَا عَرَفْتَ أَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ عَلَى دُخُولِ المَرَافِقِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَفْظُ (إلَى) يُفِيدُ مَعْنَى الغَايَةِ مُطْلَقاً، فَأَمَّا دُخُولُهَا فِي الحُكْمِ وَخُرُوجُهَا فَأَمْرٌ يَدُورُ مَعَ الدَّلِيلِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَمْثِلَةً لِذَلِكَ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ قَدْ قَامَ هَهُنَا الدَّلِيلُ عَلَى دُخُولِهَا؛ (ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ اليُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ) أَيْ: إلَى المَرافِقِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ. (ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ) هُوَ مُوَافِقٌ لِلْآيَةِ فِي الإِتْيَانِ بِالبَاءِ، وَمَسَحَ يَتَعَدَّى بِهَا وَبِنَفْسِهِ؛ قَالَ القُرْطُبِيُّ: إنَّ البَاءَ هُنَا لِلتَّعْدِيَةِ، يَجُوزُ حَذْفُهَا وَإِثْبَاتُهَا.
وَقِيلَ: دَخَلَتِ البَاءُ هَهُنَا لِمَعْنًى تُفِيدُهُ وَهُوَ: أَنَّ الغَسْلَ لُغَةً يَقْتَضِي مَغْسُولاً بِهِ، وَالمَسْحَ لُغَةً لا يَقْتَضِي مَمْسُوحاً بِهِ، فَلَوْ قَالَ: امْسَحُوا رُؤُوسَكُمْ - لَأَجْزَأَ المَسْحُ بِاليَدِ بِغَيْرِ مَاءٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَامْسَحُوا بِرُؤوسِكُمُ المَاءَ. وَهُوَ مِنْ بَابِ القَلْبِ، وَالأَصْلُ فِيهِ: وَامْسَحُوا بِالمَاءِ رُؤُوسَكُمْ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ: هَلْ يَجِبُ مَسْحُ كُلِّ الرَّأْسِ أَوْ بَعْضِهِ؟ قَالُوا: والآيَةُ لا تَقْتَضِي أَحَدَ الأَمْرَيْنِ بِعَيْنِهِ؛ إذْ قَوْلُهُ: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} يَحْتَمِلُ جَمِيعَ الرَّأْسِ، أَوْ بَعْضَهُ، وَلا دَلالَةَ فِي الآيَةِ عَلَى اسْتِيعَابِهِ، وَلا عَدَمِ اسْتِيعَابِهِ، لَكِنَّ مَنْ قَالَ: يُجْزِئُ مَسْحُ بَعْضِهِ. قَالَ: إنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ مُبَيِّنَةً لِأَحَدِ احْتِمَالَيِ الآيَةِ.
وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَحَسَرَ العِمَامَةَ عَنْ رَأْسِهِ وَمَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلاً، فَقَد اعْتَضَدَ بِمَجِيئِهِ مَرْفُوعاً مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي سَنَدِهِ مَجْهُولٌ، فَقَدْ عُضِّدَ بِمَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ فِي صِفَةِ الوُضُوءِ، أَنَّهُ مَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ. وَفِيهِ رَاوٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
وَثَبَتَ عَن ابْنِ عُمَرَ الِاكْتِفَاءُ بِمَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ، قَالَ ابْنُ المُنْذِرِ وَغَيْرُهُ: وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِن الصَّحَابَةِ. وَمِن العُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: لا بُدَّ مِن (2) مَسْحِ البَعْضِ مِن التَّكْمِيلِ عَلَى العِمَامَةِ؛ لِحَدِيثِ المُغِيرَةِوَجَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَكْرَارَ مَسْحِ الرَّأْسِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ طَوَى ذِكْرَ التَّكْرَارِ أَيْضاً فِي المَضْمَضَةِ، كَمَا عَرَفْتَ، وَعَدَمُ الذِّكْرِ لا دَلِيلَ فِيهِ، وَيَأْتِي الكَلامُ فِي ذَلِكَ.
(ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ اليُمْنَى إلَى الكَعْبَيْنِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ) الكَلامُ فِي ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي يَدِهِ اليُمْنَى إلَى المِرْفَقِ، إلَّا أَنَّ المِرافَقَ قَد اتُّفِقَ عَلَى مُسَمَّاها بِخِلافِ الكَعْبَيْنِ، فَوَقَعَ فِي المُرَادِ بِهِمَا هنا خِلافٌ، فالمَشْهُورُ: أنَّهُ العَظْمُ النَّاشِزُ عِنْدَ مُلْتَقَى السَّاقِ، وَهُوَ قَوْلُ الأَكْثَرِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالإِمَامِيَّةِ أَنَّهُ العَظْمُ الَّذِي فِي ظَهْرِ القَدَمِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ؛ وَفِي المَسْأَلَةِ مُنَاظَرَاتٌ وَمُقَاوَلاتٌ طَوِيلَةٌ.
قَالَ فِي الشَّرْحِ: وَمِنْ أَوْضَحِ الأَدِلَّةِ- أَيْ: عَلَى مَا قَالَهُ الجُمْهُورُ- حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فِي صِفَةِ الصَّفِّ فِي الصَّلاةِ: "فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ مِنَّا يُلْزِقُ كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ.
قُلْتُ: وَلا يَخْفَى أَنَّهُ لا أَنْهَضِيَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ المُخَالِفَ يَقُولُ: أَنَا أُسَمِّيه كَعْباً، وَلا أُخَالِفُكُمْ فِيهِ، لَكِنِّي أَقُولُ: إنَّهُ غَيْرُ المُرَادِ فِي آيَةِ الوُضُوءِ، إذ الكَعْبُ يُطْلَقُ عَلَى النَّاشِزِ وَعَلَى مَا فِي ظَهْرِ القَدَمِ، وَغَايَةُ مَا فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ أَنَّهُ سَمَّى النَّاشِزَ كَعْباً، وَلا خِلافَ فِي تَسْمِيَتِهِ.
وَقَدْ أَيَّدْنَا فِي (حَوَاشِي ضَوْءِ النَّهَارِ) أَرْجَحِيَّةَ مَذْهَبِ الجُمْهُورِ بِأَدِلَّةٍ هُنَالكَ. (ثُمَّ اليُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ) أَيْ: إلَى الكَعْبَيْنِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ.
(ثُمَّ قَالَ) أَيْ: عُثْمَانُ (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَتَمَامُ الحَدِيثِ: فَقَالَ- أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)). أَيْ لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ بِأُمُورِ الدُّنْيَا، وَمَا لا تَعَلُّقَ لَهُ بِالصَّلاةِ، وَلَوْ عَرَضَ لَهُ حَدِيثٌ فَأَعْرَضَ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ عُرُوضِهِ عُفِيَ عَنْهُ، وَلا يُعَدُّ مُحَدِّثاً لِنَفْسِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الحَدِيثَ قَدْ أَفَادَ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الأَعْضَاءِ المَعْطُوفَةِ بـ (ثُمَّ) وَأَفَادَ التَّثْلِيثَ، وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى الوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا هُوَ صِفَةُ فِعْلٍ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ فَضِيلَةٌ، وَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ عَدَمُ إجْزَاءِ الصَّلاةِ إلَّا إذَا كَانَ بِصِفَتِهِ، وَلا وَرَدَ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى إيجَابِ صِفَاتِهِ.
فَأَمَّا التَّرْتِيبُ فَخَالَفَتْ فِيهِ الحَنَفِيَّةُ، وَقَالُوا: لا يَجِبُ. وَأَمَّا التَّثْلِيثُ فَغَيْرُ وَاجِبٍ بِالإِجْمَاعِ، وَفِيهِ خِلافٌ شَاذٌّ. وَدَلِيلُ عَدَمِ وُجُوبِهِ: تَصْرِيحُ الأَحَادِيثِ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَمَرَّةً مَرَّةً، وَبَعْضُ الأَعْضَاءِ ثَلَّثَهَا، وَبَعْضُهَا بِخِلافِ ذَلِكَ، وَصَرَّحَ فِي وُضُوءِ (مَرَّةً مَرَّةً) أنَّهُ لا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلاةَ إلَّا بِهِ.
وَأَمَّا المَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ فَقَد اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِمَا، فَقِيلَ: يَجِبَانِ؛ لِثُبُوتِ الأَمْرِ بِهِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَفِيهِ: ((وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِماً))؛ وَلِأَنَّهُ وَاظَبَ عَلَيْهِمَا فِي جَمِيعِ وُضُوئِهِ. وَقِيلَ: إنَّهُمَا سُنَّةٌ؛ بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيِّ.
وَفِيهِ: ((إنَّهُ لا تَتِمُّ صَلاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبِغَ الوُضُوءَ كَمَا أَمَرَه اللَّهُ تَعَالَى؛ فَيَغْسِلُ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إلَى المِرْفَقَيْنِ، وَيَمْسَحُ بِرَأْسِهِ، وَرِجْلَيْهِ إلَى الكَعْبَيْنِ)).
فَلَمْ يَذْكُرِ المَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ، فَإِنَّهُ اقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى الوَاجِبِ الَّذِي لا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلاةَ إلَّا بِهِ، وَحِينَئِذٍ فَيُؤَوَّلُ حَدِيثُ الأَمْرِ بِأَنَّهُ أَمْرُ نَدْبٍ.

3/31- وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي صِفَةِ وُضُوءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَاحِدَةً. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، بَلْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إنَّهُ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي البَابِ.
(وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه) هُوَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِن الذُّكُورِ فِي أَكْثَرِ الأَقْوَالِ، عَلَى خِلافٍ فِي سِنِّهِ، كَمْ كَانَتْ؟ وَلَيْسَ فِي الأَقْوَالِ أَنَّهُ بَلَغَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سنةً، بَلْ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ سِتَّ عَشْرَةَ إلَى سَبْعِ سِنِينَ، شَهِدَ المَشَاهِدَ كُلَّهَا إلَّا تَبُوكَ، فَأَقَامَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المَدِينَةِ خَلِيفَةً عَنْهُ، وَقَالَ لَهُ:((أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟)).
اُسْتُخْلِفَ يَوْمَ قُتِلَ عُثْمَانُ، يَوْمَ الجُمُعَةِ لِثَمَانَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ ذِي الحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلاثِينَ، وَاسْتُشْهِدَ صُبْحَ الجُمُعَةِ بِالكُوفَةِ، لِسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَمَاتَ بَعْدَ ثَلاثٍ مِنْ ضَرْبَةِ الشَّقِيِّ ابْنِ مُلْجَمٍ لَهُ, وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَخِلافَتُهُ أَرْبَعُ سِنِينَ وَسَبْعَةُ أَشْهُرٍ وَأَيَّامٌ، وَقَدْ أُلِّفَتْ فِي صِفَاتِهِ وَبَيَانِ أَحْوَالِهِ كُتُبٌ جَمَّةٌ، وَاسْتَوْفَيْنَا شَطْراً صَالِحاً مِنْ ذَلِكَ فِي: (الرَّوْضَةُ النَّدِيَّةُ شَرْحُ التُّحْفَةِ العَلَوِيَّةِ).
(فِي صِفَةِ وُضُوءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَاحِدَةً. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ) هُوَ قِطْعَةٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ اسْتَوْفَى فِيهِ صِفَةَ الوُضُوءِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ، وَهُوَ يُفِيدُ مَا أَفَادَ حَدِيثُ عُثْمَانَ، وَإِنَّمَا أَتَى المُصَنِّفُ- رَحِمَه اللَّهُ - بِمَا فِيهِ التَّصْرِيحُ بِمَا لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ، وَهُوَ مَسْحُ الرَّأْسِ مَرَّةً، فَإِنَّهُ نَصَّ أَنَّهُ وَاحِدَةٌ مَعَ تَصْرِيحِهِ بِتَثْلِيثِ مَا عَدَاهُ مِن الأَعْضَاءِ.
وَقَد اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ؛ فَقَالَ قَوْمٌ بِتَثْلِيثِ مَسْحِهِ كَمَا يُثَلَّثُ غَيْرُهُ مِن الأَعْضَاءِ؛ إذْ هُوَ مِنْ جُمْلَتِهَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الحَدِيثِ تَثْلِيثُهُ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي كُلِّ حَدِيثٍ ذُكِرَ فِيهِ تَثْلِيثُ الأَعْضَاءِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ فِي تَثْلِيثِ المَسْحِ، أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، صَحَّحَ أَحَدَهُمَا ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي ثُبُوتِ هَذِهِ السُّنَّةِ.
وَقِيلَ: لا يُشَرَّعُ تَثْلِيثُهُ؛ لِأَنَّ أَحَادِيثَ عُثْمَانَ الصِّحَاحِ كُلَّهَا - كَمَا قَالَ أَبُو دَاوُدَ- تَدُلُّ عَلَى مَسْحِ الرَّأْسِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَبِأَنَّ المَسْحَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ، فَلا يُقَاسُ عَلَى الغَسْلِ، وَبِأَنَّ العَدَدَ لَو اعْتُبِرَ فِي المَسْحِ لَصَارَ فِي صُورَةِ الغَسْلِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ كَلامَ أَبِي دَاوُدَ يَنْقُصِهُ مَا رَوَاهُ هُوَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَالقَوْلُ بِأَنَّ المَسْحَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ، قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، فَلا يُسْمَعُ. فَالقَوْلُ بِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي صُورَةِ الغَسْلِ لا يُبَالَى بِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ عَن الشَّارِعِ، ثُمَّ رِوَايَةُ التَّرْكِ لا تُعَارِضُ رِوَايَةَ الفِعْلِ، وَإِنْ كَثُرَتْ رِوَايَةُ التَّرْكِ؛ إذ الكَلامُ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، بَلْ سُنَّةٌ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُفْعَلَ أَحْيَاناً، وَتُتْرَكَ أَحْيَاناً.
(وَأَخْرَجَهُ) أَيْ حَدِيثَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه (النَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، بَلْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إنَّهُ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي البَابِ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ سِتِّ طُرُقٍ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ، لَمْ يَذْكُرِ المَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ، وَفِي بَعْضٍ: "وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِه حَتَّى لَمْ يَقْطُرْ.

4/32- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي صِفَةِ الوُضُوءِ - قَالَ: وَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَأْسِهِ، فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا: بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى المَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ.
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ) هُوَ الأَنْصَارِيُّ المَازِنِيُّ، مِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، شَهِدَ أُحُداً، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ مُسَيْلِمَةَ الكَذَّابَ، وَشَارَكَهُ وَحْشِيٌّ، وَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ يَوْمَ الحَرَّةِ سَنَةَ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ، وَهُوَ غَيْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ , الَّذِي يَأْتِي حَدِيثُهُ فِي الأذَانِ، وَقَدْ غَلِطَ فِيهِ بَعْضُ أَئِمَّةِ الحَدِيثِ؛ فَلِذَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ.
(فِي صِفَةِ الوُضُوءِ قَالَ: وَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَأْسِهِ، فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
فَسَّرَ الإِقْبَالَ بِهِمَا بِأَنَّهُ بَدَأَ مِنْ مُؤَخَّرِ رَأْسِهِ، فَإِنَّ الإِقْبَالَ بِاليَدِ إذَا كَانَ مُقَدَّماً يَكُونُ مِنْ مُؤَخَّرِ الرَّأْسِ. إلَّا أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي البُخَارِيِّ بِلَفْظِ: وَأَدْبَرَ بِيَدَيْهِ وَأَقْبَلَ.
وَاللَّفْظُ الآخَرُ فِي قَوْلِهِ: (وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا) أَيْ للشَّيْخَيْنِ: (بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا) أَي اليَدَيْنِ (إلَى قَفَاهُ ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى المَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ). الحَدِيثُ يُفِيدُ صِفَةَ المَسْحِ لِلرَّأْسِ، وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ المَاءَ لِيَدَيْهِ فَيُقْبِلَ بِهِمَا وَيُدْبِرَ.
وَلِلْعُلَمَاءِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ:
الأَوَّلُ: أَنْ يَبْدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ الَّذِي يَلِي الوَجْهَ؛ فَيَذْهَبَ إلَى القَفَا، ثُمَّ يَرُدَّهُما إلَى المَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ؛ وَهُوَ مُبْتَدَأُ الشَّعْرِ مِنْ حدِّ الوَجْهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعْطِيه ظَاهِرُ قَوْلِهِ: بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إلَى المَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، إلَّا أَنَّهُ أُورِدَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَنَّهُ أَدْبَرَ بِهِمَا وَأَقْبَلَ؛ لِأَنَّ ذَهَابَهُ إلَى جِهَةِ القَفَا إدْبَارٌ، وَرُجُوعَهُ إلَى جِهَةِ الوَجْهِ إقْبَالٌ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الوَاوَ لا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، فَالتَّقْدِيرُ: أَدْبَرَ وَأَقْبَلَ.
والثاني: أَنْ يَبْدَأَ بِمُؤَخَّرِ رَأْسِهِ، وَيَمُرَّ إلَى جِهَةِ الوَجْهِ؛ ثُمَّ يَرْجِعَ إلَى المُؤَخَّرِ؛ مُحَافَظَةً عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِ: أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ. فَالإِقْبَالُ إلَى مُقَدَّمِ الوَجْهِ، وَالإِدْبَارُ إلَى نَاحِيَةِ المُؤَخَّرِ، وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: بَدَأَ بِمُؤَخَّرِ رَأْسِهِ. وَيُحْمَلُ الِاخْتِلافُ فِي لَفْظِ الأَحَادِيثِ عَلَى تَعَدُّدِ الحَالاتِ.
والثالثُ: أَنْ يَبْدَأَ بِالنَّاصِيَةِ، وَيَذْهَبَ إلَى نَاحِيَةِ الوَجْهِ، ثُمَّ يَذْهَبَ إلَى جِهَةِ مُؤَخَّرِ الرَّأْسِ، ثُمَّ يَعُودَ إلَى مَا بَدَأَ مِنْهُ وَهُوَ النَّاصِيَةُ، وَلَعَلَّ قَائِلَ هَذَا قَصَدَ المُحَافَظَةَ عَلَى قَوْلِهِ: بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ. مَعَ المُحَافَظَةِ عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِ: (أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ)؛ لِأَنَّهُ إذَا بَدَأَ بِالنَّاصِيَةِ صَدَقَ أَنَّهُ بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ وَصَدَقَ أَنَّهُ أَقْبَلَ أَيْضاً، فَإِنَّهُ ذَهَبَ إلَى نَاحِيَةِ الوَجْهِ وَهُوَ القُبُلُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ المِقْدَامِ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَ مَسْحَ رَأْسِهِ وَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى مُقَدَّمِ رَأْسِهِ فَأَمَرَّهُمَا حَتَّى بَلَغَ القَفَا، ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى المَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ. وَهِيَ عِبَارَةٌ وَاضِحَةٌ فِي المُرَادِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِن العَمَلِ المُخَيَّرِ فِيهِ، وَأَنَّ المَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ تَعْمِيمُ الرَّأْسِ بِالمَسْحِ.

5/33- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي صِفَةِ الوُضُوءِ - قَالَ: ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَأَدْخَلَ إصْبَعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ، وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ ظَاهِرَ أُذُنَيْهِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِفَتْحِ العَيْنِ المُهْمَلَةِ.
وَهُوَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَوْ أَبُو مُحَمَّدٍ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ القُرَشِيُّ، يَلْتَقِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ قَبْلَ أَبِيهِ وَكَانَ أَبُوهُ أَكْبَرَ مِنْهُ بِثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ حَافِظاً عَالِماً عَابِداً، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ، وَقِيلَ: وَسَبْعِينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَاخْتُلِفَ فِي مَوْضِعِ وَفَاتِهِ، فَقِيلَ: بِمَكَّةَ، أَو الطَّائِفِ، أَوْ مِصْرَ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
(فِي صِفَةِ الوُضُوءِ قَالَ: ثُمَّ مَسَحَ) أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِرَأْسِهِ، وَأَدْخَلَ إصْبَعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ) بِالمُهْمَلَةِ فَمُوَحَّدَةٍ فَأَلِفٍ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ؛ تَثْنِيَةُ سَبَّاحَةٍ، وَأَرَادَ بِهِمَا مُسَبِّحَتَي اليَدِ اليُمْنَى وَاليُسْرَى. وَسُمِّيَتْ سَبَّاحَةً؛ لِأَنَّهُ يُشَارُ بِهَا عِنْدَ التَّسْبِيحِ.
(فِي أُذُنَيْهِ، وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ) إبْهَامَيْ يَدَيْهِ (ظَاهِرَ أُذُنَيْهِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ).
وَالحَدِيثُ كَالأَحَادِيثِ الأُوَلِ فِي صِفَةِ الوُضُوءِ، إلَّا أَنَّهُ أَتَى بِهِ المُصَنِّفُ؛ لِمَا ذَكَرَ مِنْ إفَادَةِ مَسْحِ الأُذُنَيْنِ الَّذِي لَمْ تُفِدْهُ الأَحَادِيثُ الَّتِي سَلَفَتْ؛ وَلِذَا اقْتَصَرَ المُصَنِّفُ عَلَى ذَلِكَ مِن الحَدِيثِ.
وَمَسْحُ الأُذُنَيْنِ قَدْ وَرَدَ فِي عِدَّةٍ مِن الأَحَادِيثِ، وَمِنْ حَدِيثِ المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالطَّحَاوِيِّ، بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. وَمِنْ حَدِيثِ الرَّبِيعِ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضاً. وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَالحَاكِمِ. وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ أُذُنَيْهِ بِمَاءٍ غَيْرِ المَاءِ الَّذِي مَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ، وَسَيَأْتِي.
وَقَالَ فِيهِ البَيْهَقِيُّ: هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَإِنْ كَانَ قَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ العِيدِ، وَقَالَ: الَّذِي فِي ذَلِكَ الحَدِيثِ: وَمَسَحَ رَأْسَهُ بِمَاءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدَيْهِ وَلَمْ يَذْكُر الأُذُنَيْنِ، وَأَيَّدَهُ المُصَنِّفُ بِأَنَّهُ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ وَالتِّرْمِذِيِّ كَذَلِكَ.
وَاخْتَلَفَ العُلَمَاءُ: هَلْ يُؤْخَذُ لِلْأُذُنَيْنِ مَاءٌ جَدِيدٌ أَوْ يُمْسَحَانِ بِبَقِيَّةِ مَا مُسِحَ بِهِ الرَّأْسُ؟ وَالأَحَادِيثُ قَدْ وَرَدَتْ بِهَذَا وَهَذَا، وَيَأْتِي الكَلامُ عَلَيْهِ قَرِيباً.
____________________
(1) تراجع النسخ المخطوطة؛ فلعل صيغة الصلاة زائدة في هذا الموضع.
(2) كذا بالأصل ، ولعل الصواب: في.


  #3  
قديم 24 ذو القعدة 1429هـ/22-11-2008م, 11:21 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي توضيح الأحكام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن البسام

30 - وَعَنْ حُمْرَانَ: أَنَّ عُثْمَانَ دَعَا بِوَضُوءٍ، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمَرْفِقِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
مفرداتُ الحديثِ:
- دَعَا: بمعنى: طَلَبَ الوَضوءَ.
- وَضُوءٌ: بفتحِ الواوِ: اسمٌ للماءِ الذي يُتَوَضَّأُ به، وأما بالضمِّ: فاسمٌ للفعلِ.
- كَفَّيْهِ: تَثْنِيَةُ كَفٍّ، والكَفُّ هي الرَّاحةُ معَ الأصابعِ، مُؤَنَّثٌ، جَمْعُه كُفُوفٌ وأَكُفٌّ. وحدُّها: مَفْصِلُ الذِّراعِ، سُمِّيَتْ كفًّا؛ لأنَّ الإنسانَ يَكُفُّ بها عن نفسِه.
- تَمَضْمَضَ: المضمضةُ: أنْ يجعلَ الماءَ في فَمِه، وكمالُها أنْ يُدِيرَه في فَمِه، ثمَّ يَمُجَّه أو يَبْلَعَه.
- وَجْهَهُ: جمعُ الوجهِ: وجوهٌ، وهو ما تَحْصُلُ به المواجهةُ، وهي المقابلةُ، وحَدُّه: من منابتِ شَعَرِ الرأسِ المعتادِ إلى مُنْتَهَى اللَّحْيَيْنِ طولاً، ومن الأُذُنِ إلى الأُذُنِ عرضاً، يُؤْخَذُ حَدُّه الشرعيُّ من معناهُ اللُّغَوِيِّ؛ حيثُ لم يَجْرِ له حدٌّ في الشرعِ.
- اسْتَنْشَقَ: يُقالُ: اسْتَنْشَقَ الماءَ يَسْتَنْشِقُه اسْتِنْشَاقاً: أَدْخَلَ الماءَ في أَنْفِه وجَذَبَه لِيُنْزِلَ ما فيه، فالاستنشاقُ: جَذْبُ الماءِ إلى داخلِ الأنفِ.
- اسْتَنْثَرَ: يُقالُ: نَثَرَ الشيءَ يَنْثُرُه نَثراً: رَمَاهُ مُتَفَرِّقاً، ومنه إخراجُ ما في الأنفِ مِن مُخاطٍ وغيرِه بالماءِ، فالاستِنْثارُ: إخراجُ الماءِ من الأنفِ بعدَ الاستنشاقِ. قالَ ابنُ قُتَيْبَةَ وغيرُه: الاستنشاقُ والاستنثارُ واحدٌ. وقالَ الكِرْمَانِيُّ: إن هذا الحديثَ دليلٌ على قولِ مَن قالُوا: إنَّ الاستنثارَ هو غيرُ الاستنشاقِ. وهو الصوابُ، فالاستنشاقُ هو إدخالُ الماءِ داخلَ الأنفِ، والاستنثارُ إخراجُ الماءِ مِنه.
- إِلَى: قالَ النُّحاةُ: "إلى" تأتي لانتهاءِ الغايةِ الزمانِيَّةِ والمكانيَّةِ؛ فالزمانِيَّةُ مثلُ قولِهِ تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، والمكانيَّةُ مثلُ قولِه تعالى: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى}. وهي هنا للغايةِ المكانيَّةِ.
أمَّا ما بعدَ "إلى": فيجوزُ أنْ يكونَ جزءٌ مِنه، أو كلُّه، داخلاً فيما قبلَها، وجائزٌ أنْ يكونَ غيرَ داخلٍ، ويُعْرَفُ دخولُ ذلك أو عَدَمُ دُخُولِه بالقرينةِ؛ فإنْ لم يَكُنْ هناكَ قرينةٌ تَدُلُّ على دخولِه أو خُرُوجِه: فإنْ كانَ مِن جنسِ ما قبلَها جازَ أنْ يَدْخُلَ وأنْ لا يَدْخُلَ، وإلاَّ فالغالِبُ أنه لا يَدْخُلُ.
وهي هنا داخلٌ ما بعدَها فيما قَبْلَها؛ لدَلالةِ الأحاديثِ التي يَأْتِي تفصيلُها في فقهِ الحديثِ إنْ شاءَ اللَّهُ.
- الْمَرْفِقِ: بفتحِ الميمِ وكسرِ الفاءِ، وبالعكسِ، لغتانِ، هو مَوْصِلُ الذِّراعِ في العَضُدِ، جمعُه: مرافِقُ، وهما مَرْفِقَانِ، سُمِّيَ مِرفقاً؛ لأنه يُرْتَفَقُ به في الاتِّكاءِ ونحوِه، ويجوزُ فيه: فتحُ الميمِ والفاءِ على أنْ يكونَ مصدراً.
- إِلَى الْكَعْبَيْنِ: تثنيةُ كَعْبٍ: هما العظمانِ الناتئانِ عندَ مُلْتَقَى الساقِ بالقدمِ؛ لحديثِ النُّعمانِ بنِ بَشِيرٍ في صفةِ الصلاةِ: فرأيتُ الرجلَ مِنَّا يُلْزِقُ كعبَه بكعبِ صاحبِه. رَوَاه أَحْمَدُ (17962)، والبَيْهَقِيُّ (1/76).
- مَسَحَ بِرَأْسِهِ: مَسَحَ يَتَعَدَّى بنفسِه، فالباءُ هنا زائدةٌ مُؤَكِّدَةٌ أنَّ المسحَ هو لعمومِ الرأسِ وليس لبعضِه.
قالَ بعضُهم: إن الباءَ هنا للتبعيضِ.
وقالَ ابنُ جِنِّيٍّ: أهلُ اللغةِ لا يَعْرِفُونَ أنَّ الباءَ تأتي للتبعيضِ، وإنما يُورِدُ هذا المعنى الفقهاءُ.
قالَ النُّحاةُ: والإلصاقُ لا يُفارِقُ الباءَ في جميعِ معانِيها، فتكونُ هنا مفيدةً لهذا المعنَى؛ ليكونَ المسحُ ظاهراً فيها.
ما يُؤْخَذُ مِنَ الحَدِيثِ:
1- هذا الحديثُ جَعَلَه المؤلِّفُ رَحِمَه اللَّهُ تعالى أصلاً في بيانِ صفةِ وضوءِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجَعَلَ ما بعدَه من الأحاديثِ والرواياتِ مكمِّلاتٍ له.
2- يَنْبَغِي لمَن يُرِيدُ عبادةً من العباداتِ – ومنها الوُضوءُ والطهارةُ – أنْ يَسْتَعِدَّ لها بأدواتِها؛ لئلا يَحْتاجَ إلى ذلكَ أثناءَ أدائِها.
3- اسْتِحبابُ غَسْلِ اليديْن ثلاثاً قبلَ إدخالِهما في ماءِ الوُضوءِ عندَ الوُضوءِ، وهو سُنَّةٌ بالإجماعِ؛ والدليلُ على أنَّ غَسْلَها سُنَّةٌ فقطْ: هو أنه لم يَأْتِ ذِكْرُ غَسْلِهِما في الآيةِ، وفِعْلُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المجرَّدُ لا يَدُلُّ على الوجوبِ، وإنما يَدُلُّ على الاستحبابِ، وهذه قاعدةٌ أصوليَّةٌ.
4- استحبابُ التيمُّنِ في تناولِ ماءِ الوُضوءِ لغسلِ الأعضاءِ، فتكونُ اليدُ اليمنَى هي المتناوِلَةَ له.
5- وُجُوبُ المضمضةِ والاستنشاقِ؛ فإنهما داخلانِ في مسمَّى الوجهِ، المنصوصِ على غَسْلِه في آيةِ المائدةِ.
6- لم يُقَيِّدِ المضمضةَ والاستنشاقَ بثلاثٍ، ولكنْ ما دُمْنَا عَلِمْنا أنَّ الفمَ والأنفَ مِن مُسَمَّى الوجهِ، فيَكْفِي في استحبابِ التثليثِ فيهما ما جاءَ في الوجهِ.
7- استحبابُ الاستنثارِ بعدَ الاستنشاقِ، قالَ العلماءُ: ويَجُوزُ بَلْعُه.
8- استحبابُ التثليثِ في غَسْلِ الوجهِ والمضمضةِ والاستنشاقِ وغسلِ اليديْن والرِّجليْن؛ فكلُّ هذه الأعضاءِ يُسْتَحَبُّ التثليثُ فيها.
9- وُجوبُ غسلِ اليديْن معَ المَرْفِقَيْنِ.
10- وجوبُ مسحِ الرأسِ؛ قالَ شيخُ الإسلامِ: اتَّفَقَ الأئمَّةُ على أنَّ السنَّةَ مَسْحُ جميعِ الرأسِ، كما ثَبَتَ بالأحاديثِ الصحيحةِ.
11- المسحُ مَبْنِيٌّ على التخفيفِ، فلا يُشْرَعُ تكريرُه، وإنما يُقْتَصَرُ فيه على مرَّةٍ واحدةٍ؛ يُقْبِلُ الماسحُ بِيَدَيْهِ ثمَّ يُدْبِرُ لِيَعُمَّ المسحُ جميعَ الرأسِ.
12- الأذنانِ مِن مُسَمَّى الرأسِ؛ ولذا فإنَّ المشروعَ أنْ يُمْسَحَا بماءِ الرأسِ، ولا يُؤْخَذَ لهما ماءٌ جديدٌ غيرُ ماءِ الرأسِ.
13- في الحديثِ التصريحُ بوجوبِ غَسْلِ الرجليْن، والردُّ على مَن قالَ بمسحِهما.
14- فيه وجوبُ ترتيبِ غَسْلِ الأعضاءِ والموالاةُ بينَها.
15- ما جاءَ في هذا الحديثِ هو وضوءُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكامِلُ.
16- يَنْبَغِي للمُتَوَضِّئِ ولكلِّ قائمٍ بعبادةٍ من العباداتِ أنْ يَسْتَحْضِرَ عندَ فِعْلِها ثلاثةَ أمورٍ:
(أ) طاعةُ اللَّهِ؛ لِتَعْظُمَ العبادةُ في قلبِه.
(ب) التقرُّبُ إلى اللَّهِ؛ لِيَصِلَ إلى درجةِ المراقبةِ فيُحْسِنَ عبادتَه.
(ج) الاقتداءُ بالنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِيَحْصُلَ على تحقيقِ المتابعةِ.
17- الحديثُ اشْتَمَلَ على الواجباتِ والمستحبَّاتِ، والذي يَنْبَغِي للمسلمِ أنْ يَمْتَثِلَ أمرَ الشرعِ من دونِ نظرٍ إلى أنَّ هذا واجبٌ أو مُسْتَحَبٌّ، وإنما يَفْعَلُه امتثالاً لشرعِ اللَّهِ تعالى واقتداءً بنبيِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وطَلباً للأجرِ، ولا يأتي البحثُ عن الحكمِ إلاَّ عندَ تَرْكِه لِيُنْظَرَ هل تَرَكَ واجباً أو مستحَبًّا؟ وهذا في حقِّ المتعبِّدِ.
أما البحثُ العلميُّ ومعرفةُ الأحكامِ فيَعْرِفُ هذا وهذا.
18- فيه التعليمُ بالقولِ والفعلِ، وهذا ما يُسَمَّى في التربيةِ: بوسائلِ الإيضاحِ، وهذا التعليمُ عن طريقِ السمعِ والبصرِ.
19- لم يُصَرِّحْ في هذا الحديثِ بالمضمضةِ والاستنشاقِ بغَرْفَةٍ واحدةٍ أو بأكثرَ، وقدْ يُؤْخَذُ منه الأولُ؛ لأنه ذَكَرَ تَكرارَ غَسْلِ الوجهِ والكفَّيْنِ، وأَطْلَقَ أخذَ الماءِ للمضمضةِ والاستنشاقِ، وحديثُ عبدِ اللَّهِ بنِ زيدٍ يَدُلُّ على أنهما مِن غَرْفَةٍ واحدةٍ.
20- الاستنثارُ يكونُ باليدِ اليُسْرَى، وليسَ في الحديثِ ما يَقْتَضِي أنه باليمينِ.
21- جوازُ الاستعانةِ بإحضارِ الطَّهُورِ.
22- المَضْمَضَةُ أصلُها يُشْعِرُ بالتحريكِ؛ فيَدُلُّ على تحريكِ الماءِ في الفمِ.
خلافُ العلماءِ:
ذَهَبَ الأئمَّةُ الثلاثةُ وسفيانُ وغيرُهم إلى عدمِ وجوبِ المضمضةِ والاستنشاقِ، وأنهما مُسْتَحَبَّانِ فقطْ.
ودليلُهم: ما جاءَ في الحديثِ: ((عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ.....)) رَوَاه مسلمٌ (261)، ومنها الاستنشاقُ، والسنَّةُ غيرُ الواجبِ، وهذا الاستدلالُ ضعيفٌ جِدًّا؛ فإنَّ السنَّةَ في الحديثِ هي الطريقةُ، لا أنها العملُ الذي يُثابُ فاعِلُه ولا يُعاقَبُ تاركُه؛ فإنَّ هذا الاصطلاحَ أُصُولِيٌّ متأخِّرٌ.
كما اسْتَدَلُّوا بآيةِ المائدةِ: وهو استدلالٌ فيه نَظَرٌ؛ لأنَّ الفمَ والأنفَ مِن مُسَمَّى الوجهِ.
وذَهَبَ الإمامُ أَحْمَدُ: إلى وُجُوبِ المضمضةِ والاستنشاقِ، وهو مذهبُ ابنِ أبي لَيْلَى وإسحاقَ وغيرِهما.
اسْتَدَلَّ المُوجِبُونَ بأدِلَّةٍ؛ منها:
أولاً: استمرارُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على إتيانِه بهما، وعدمِ إخلالِه بذلك؛ مِمَّا يَدُلُّ على الوجوبِ، فلو كانا مُسْتَحَبَّيْنِ لتَرَكَهما ولو مَرَّةً؛ لبيانِ الجوازِ، والفعلُ المقترِنُ بالأمرِ دليلُ الوجوبِ، وقدْ أَمَرَ اللَّهُ بهما بقولِه تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}. فهما مِن الوجهِ داخلانِ في حُدُودِه.
ثانياً: حديثُ عائشةَ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((الْمَضْمَضَةُ وَالاسْتِنْشَاقُ مِنَ الْوُضُوءِ الَّذِي لاَ بُدَّ مِنْهُ)). رَوَاه أبو بكرٍ في (الشافي).
ثالثاً: ما أَخْرَجَه مسلمٌ (237) عن أبي هُرَيْرَةَ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمِنْخَرَيْهِ مِنَ الْمَاءِ ثُمَّ لْيَسْتَنْثِرْ)).
رابعاً: ما أَخْرَجَه أبو داودَ والدَّارَقُطْنِيُّ عن لَقِيطِ بنِ صَبْرَةَ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِذَا تَوَضَّأْتَ فَمَضْمِضْ)).
خامساً: الأمرُ بغَسْلِ الوجهِ، بقولِه تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} أمرٌ بغسلِهما؛ فإنَّ الفمَ والأنفَ من الوجهِ؛ لأنهما عضوانِ ظاهرانِ داخلانِ في مُسَمَّاهُ، كما تَقَدَّمَ.
فالأرجحُ صِحَّةُ المذهَبِ الأخيرِ؛ لِقُوَّةِ أدلَّتِه وعدمِ ما يُعارِضُها.
31 - وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صِفَةِ وُضُوءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَاحِدَةً. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، بَلْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّهُ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي الْبَابِ.
درجةُ الحديثِ: الحديثُ صحيحٌ.
فقدْ أَخْرَجَه الثلاثةُ بإسنادٍ صحيحٍ، وقالَ التِّرْمِذِيُّ: إنه أصحُّ شيءٍ في البابِ.
قالَ في المُحَرَّرِ: رُواتُه صادقونَ، مُخَرَّجٌ لهم في الصحيحِ.
وأَخْرَجَه أبو داودَ مِن سِتِّ طُرُقٍ.
ورُوِيَ عن سَلَمَةَ بنِ الأَكْوَعِ وعبدِ اللَّهِ بنِ أبي أَوْفَى وأَنَسٍ مثلُه، أي: مثلُ حديثِ عليٍّ.
قالَ الحافظُ: وإسنادُه صالحٌ.
مفرداتُ الحديثِ:
- مَسَحَ: يَتَعَدَّى بنفسِه؛ فالباءُ زائدةٌ مُؤَكِّدَةٌ أنَّ المسحَ إنما هو لعمومِ الرأسِ، قالَ النُّحَاةُ: والإلصاقُ لا يُفارِقُ الباءَ في جميعِ معانيها؛ فتكونُ هنا لهذا المعنَى.

32 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ، قَالَ: وَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَأْسِهِ، فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا: بَدَأَ بِمُقَدَّمِ الرَّأْسِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ.
مُفرداتُ الحديثِ:
- فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ: فُسِّرَ الإقبالُ باليديْنِ والإدبارُ في الروايةِ الأخرَى، بأنه بَدَأَ مِن مُقَدَّمِ رأسِه حتى ذَهَبَ بهما إلى قَفاهُ، ثمَّ رَدَّهُما إلى المكانِ الذي بَدَأَ منه.
- بَدَأَ: بَدَأْتُ الشيءَ: ابْتَدَأْتُ به، وبَدَأْتُ الشيءَ: فَعَلْتُه ابْتِداءً، أمَّا بَدَا بلا همزةٍ في آخرِه فمعناه: ظَهَرَ.
- وَمُقَدَّمُ الرَّأْسِ: ابتداؤُه مِن منابِتِ شَعَرِ الرأسِ المعتادِ غالباً.
- الْقَفَا: مقصورٌ، وقد يُمَدُّ، وهو مذكَّرٌ، جمعُه: أَقْفٍ وأَقْفِيَةٌ، وهو مُؤَخَّرُ العُنُقِ، والمرادُ هنا: أعلى مُؤَخَّرِ العُنُقِ.

33 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ، قَالَ: ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأَدْخَلَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ، وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ ظَاهِرَ أُذُنَيْهِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
درجةُ الحديثِ:
الحديثُ حسنٌ. رَوَاه أبو داودَ بسندِه عن عمرِو بنِ شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، قالَ المُنْذِرِيُّ في تهذيبِ السُّنَنِ: أَخْرَجَه النَّسائِيُّ (140)، وابنُ ماجهْ (422).
وعمرُو بنُ شُعَيْبٍ تَرَكَ الاحتجاجَ به جماعةٌ من الأئمَّةِ؛ قالَ ابنُ عَدِيٍّ: أحاديثُه عن أبيه، عن جَدِّهِ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْتَنَبَها الناسُ ولم يُدْخِلُوها في الصِّحاحِ.
وقالَ أبو الحسنِ بنُ القَطَّانِ: عَمْرُو بنُ شُعَيْبٍ عِنْدَنا واهٍ، وقد وَثَّقَه بعضُهم؛ قالَ العِجْلِيُّ: ثِقَةٌ. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ وَأَحْمَدُ: رُبَّمَا احْتَجَجْنَا به. وقالَ البُخَارِيُّ: رأيتُ أَحْمَدَ والحُمَيْدِيَّ وإسحاقَ يَحْتَجُّونَ بحديثِ عمرِو بنِ شُعَيْبٍ عن أبيه عن جَدِّه.
قالَ ابنُ دَقِيقِ العيدِ: هذا الحديثُ صحيحٌ على طريقةِ مَن يُصَحِّحُونَ حديثَ عمرِو بنِ شُعَيْبٍ؛ لأنَّ إسنادَه صحيحٌ.
وقالَ الحافظُ في تهذيبِ التهذيبِ: عمرُو بنُ شُعَيْبٍ ضَعَّفَه ناسٌ مُطلقاً، ووَثَّقَه الجمهورُ، وضَعَّفَ بعضُهم روايتَه عن أبيه، عن جَدِّهِ.
وقالَ في التلخيصِ: جاءَ من طُرُقٍ صحيحةٍ. وقالَ ابنُ القَيِّمِ: احْتَجَّ بها الأئمَّةُ الأربعةُ.
قالَ مُحَرِّرُهُ عفا اللَّهُ عنه: والحديثُ له شواهدُ كثيرةٌ؛ منها حديثُ المِقدامِ بنِ مَعْدِ يَكْرِبَ عندَ أَحْمَدَ (16737)، وأبي داودَ (121)، وحديثُ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ عندَ أبي داودَ (129)، وحديثُ ابنِ عَبَّاسٍ عندَ النَّسائيِّ (101)، وصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ (36)، وبهذا فمسحُ ظاهرِ الأُذُنَيْنِ وباطنِهما بإبهامَيْهِ اعْتَضَدَ بهذه الشواهدِ الجِيادِ، والحمدُ للهِ.
مفرداتُ الحديثِ:
- إِصْبَعَيْهِ: تَثْنِيَةُ إِصْبَعٍ، الإصبعُ مؤنَّثَةٌ، وكذلك سائرُ أسماءِ الأصابعِ؛ مِثلُ الْخِنْصَرِ، وفي الإِصْبَعِ عشرُ لُغاتٍ: إحداها بكسرِ الهمزةِ وفتحِ الباءِ؛ قالَ في المصباحِ: وهي التي ارْتَضاها الفُصَحَاءُ. والإِصْبَعُ أحدُ أطرافِ الكفِّ أو القدمِ، جَمْعُه أصابعُ، والمرادُ هنا أطرافُ الكفِّ، والمرادُ الأَنْمُلَةُ، فهو مجازٌ من إطلاقِ الكلِّ على الجُزْءِ، كقولِهِ تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ}. أي: أَنَامِلَ أصابِعِهِم.
- السَّبَّاحَتَيْنِ: تثنيةُ سَبَّاحةٍ، هي الإِصْبَعُ التي بينَ الإبهامِ والوُسْطَى، سُمِّيَتْ بذلكَ؛ لأنه يُشارُ بها عندَ تسبيحِ اللَّهِ تعالى، والمرادُ الأَنْمُلَةُ منها.
- ظَاهِرَ أُذُنَيْهِ: أي: أعلاهما، والجزءَ الظاهِرَ منهما.
- أُذُنَيْهِ: تثنيةُ أُذُنٍ، عضوُ السمْعِ في الإنسانِ والحيوانِ، مُؤَنَّثَةٌ، والجمعُ آذانٌ.
- إِبْهَامَيْهِ: تثنيةُ الإبهامِ، تُذَكَّرُ وتُؤَنَّثُ، جَمْعُه بُهُمٌ وأباهيمُ، والإبهامُ هي الإِصْبَعُ الغليظةُ الخامسةُ من أصابعِ اليدِ والرِّجلِ، وهي ذاتُ أَنْمُلَتَيْنِ، وهي أنفعُ الأصابعِ وأَقْرَبُها إلى الرُّسْغِ.
ما يُؤْخَذُ من الأحاديثِ الثلاثةِ:
1- حديثُ عليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدُلُّ على أنَّ مسحَ الرأسِ مَرَّةٌ واحدةٌ، وأنَّ المسحَ لا يُكَرَّرُ كما يُكَرَّرُ الغسلُ؛ لأنَّ المسحَ أخفُّ من الغسْلِ؛ مُخَفَّفٌ في كَيْفِيَّتِه، وفي كَمِّيَّتِه، ولعلَّ الحكمةَ الربانيَّةَ في التخفيفِ في الرأسِ مِن كونِه يُمْسَحُ مسحاً ولا يُغْسَلُ، وأنَّ مسحَه مرةٌ واحدةٌ، فلا يُكَرَّرُ - هي التيسيرُ على الأمَّةِ؛ فإنَّ الرأسَ موطِنُ الشعَرِ، فصَبُّ الماءِ عليه وتكريرُه رُبَّمَا سَبَّبَ أذيَّةً ومَرَضاً، فخَفَّفَ اللَّهُ تَعَالَى عن عبادِه.
2- حديثُ عبدِ اللَّهِ بنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدُلُّ على صِفَةِ المسحِ، وهو أنْ يَبْدَأَ بمُقَدَّمِ رأسِه فيَذْهَبَ بِيَدَيْه إلى قَفاهُ، ثمَّ يَرُدَّهُمَا إلى المكانِ الذي بَدَأَ منه، وتكونُ هذه الروايةُ مفسِّرَةً للروايةِ التي قبلَها؛ من أنه أَقْبَلَ بِيَدَيْه وأَدْبَرَ؛ فإنَّ معنى أَقْبَلَ بِيَدَيْهِ أي: بَدَأَ بهما مِن قِبَلِ الرأسِ، وأَدْبَرَ؛ أي: عادَ بهما مِن دُبُرِهِ، والإقبالُ والإدبارُ باليديْنِ يُعْتَبَرُ مَسحةً واحدةً، لا مسحتيْن؛ لأنَّ شَعَرَ مُقَدَّمِ الرأسِ مُتَّجِهٌ إلى الوجهِ، ومؤخَّرِ الرأسِ مُتَّجِهٌ إلى القفا، فإذا بَدَأَ بالمُقَدَّمِ مَسَحَ ظُهُورَ الشعرِ المقدَّمِ وأصولَ الشعرِ المؤخَّرِ، وإذا أَدْبَرَ بهما مَسَحَ ظهورَ الشعرِ المؤخَّرِ وأصولَ الشعَرِ المقدَّمِ؛ فالحكمةُ في الإقبالِ والإدبارِ مسحُ وَجْهَيِ الشعَرِ، قالَ بعضُهم: هذا المسْحُ يُقِيمُ النائمَ ويُنِيمُ القائمَ؛ فحَصَلَ مسحةٌ واحدةٌ، لا مسحتانِ، وليست هذه الصفةُ واجبةً، فعلى أيِّ صفةِ مَسْحٍ أَجْزَأَ.
3- قالَ ابنُ القَيِّمِ في زَادِ المعادِ: الصحيحُ أنه لم يُكَرِّرْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْحَ رأسِه، بل كانَ إذا كَرَّرَ غَسْلَ الأعضاءِ أَفْرَدَ مسحَ الرأسِ، ولم يَصِحَّ عنه خلافُه ألبتَّةَ.
4- وقالَ: كانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ رأسَه كلَّه، ولم يَصِحَّ عنه في حديثٍ واحدٍ أنه اقْتَصَرَ على مسحِ بعضِ رأسِه ألبتَّةَ.
5- قالَ العلماءُ: مَن لا شَعَرَ له أو حَلَقَ رأسَه، فلا يُسْتَحَبُّ له الردُّ؛ لأنه لا فائدةَ فيه، وكذلك لا يُسْتَحَبُّ لمَن له شعرٌ كثيرٌ مضفورٌ، ويكونُ خَرَجَ مخرجَ الغالبِ.
6- حديثُ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما يَدُلُّ على مسحِ الأُذُنَيْنِ معَ الرأسِ، وصفةُ مَسْحِهِما: أنْ يُدْخِلَ أُصْبَعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ في صِمَاخَي أُذُنَيْهِ، ويَمْسَحَ بإبهامَيْهِ ظاهرَ أُذُنَيْهِ.
7- أَنَّ مَسْحَ الأُذُنَيْنِ منصوصٌ عليه في الآيةِ الكريمةِ: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}؛ ذلك أن الأُذُنيْنِ داخلتانِ في مُسَمَّى الرأسِ شرعاً ولغةً وعُرفاً، فالأمرُ بمسحِ الرأسِ في الآيةِ أمرٌ بمسحِهما؛ ولذا فالسنَّةُ أنْ تُمْسَحَا بماءِ الرأسِ، لا بماءٍ جديدٍ لهما.
8- الحكمةُ في تخصيصِ الأذنيْنِ بالمسحِ، هو كمالُ طهارَتِهما مِن ظَاهِرِهِما وباطِنِهما، ويَسْتَخْرِجُ منهما الذنوبَ التي اكْتَسَبَتْها، كما تَخْرُجُ الذنوبُ من سائرِ أعضاءِ الوُضُوءِ؛ فإنَّ الأذنيْن أَدَاتَا حاسَّةِ السمعِ، فيَطْهُرَانِ طهارةً حِسِّيَّةً بمسحِهما بالماءِ، وطهارةً معنويَّةً من الذنوبِ.
9- لمسلمٍ (235) عن عبدِ اللَّهِ بنِ زَيْدٍ، في صفةِ وُضوئِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَمَسَحَ رَأْسَهُ بِمَاءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدَيْهِ" وهذا هو المحفوظُ، وأما روايةُ البَيْهَقِيِّ، أن عبدَ اللَّهِ بنَ زيدٍ رأَى النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ لأُذُنَيْه ماءً غيرَ الماءِ الذي أَخَذَه لرأسِه فهي شاذَّةٌ، وحديثُ: ((الأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ)) روَاه أبو داودَ (134)، والتِّرْمِذِيُّ (37)، وأقوالُ الصحابةِ أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَسَحَ رأسَه وأُذُنَيْه مرَّةً واحدةً" دليلٌ على أنه عليه الصلاةُ والسلامُ كانَ يَمْسَحُ رأسَه وأُذُنيْه بماءٍ واحدٍ.
10- حدُّ الرأسِ من منابتِ شعرِ الرأسِ المعتادِ، ممَّا يَلِي الجبهةَ، إلى مَفْصِلِ الرأسِ مِنَ الرَّقَبَةِ، ومنَ الأُذُنِ إلى الأذنِ، ولا يُمْسَحُ ما نَزَلَ مِن شَعَرِ الرأسِ أسفلَ مِن ذلكَ؛ لأنه قد تَجاوَزَ مكانَ الرأسِ من الإنسانِ.
11- ظَهْرُ الأُذُنِ هو ما يلي الرأسَ، أمَّا الغَضارِيفُ فهي من باطنِ الأُذُنِ.
خلافُ العلماءِ:
اتَّفَقَ الأئمَّةُ على أن مسحَ الرأسِ من فروضِ الوضوءِ، وعلى أنَّ المشروعَ مَسْحُه جميعِه، واخْتَلَفُوا في وُجُوبِ مَسْحِه كلِّه:
فذَهَبَ أبو حنيفةَ والشَّافِعِيُّ إلى جوازِ مسحِ بعضِه؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ ومَسَحَ على نَاصِيَتِه.
وذَهَبَ الإمامُ مَالِكٌ والإمامُ أَحْمَدُ إلى وجوبِ مسحِه كلِّه، كما ثَبَتَ ذلك مِن فِعْلِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأحاديثِ الصحيحةِ والحسنَةِ.
قالَ شيخُ الإسلامِ: لم يُنْقَلْ عن أَحَدٍ أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتَصَرَ على مَسْحِ بعضِ الرأسِ. وقالَ ابنُ القَيِّمِ: لم يَصِحَّ عنه حديثٌ واحدٌ أنه اقْتَصَرَ على مسحِ بعضِ الرأسِ ألبتَّةَ. وقالَ تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}. والباءُ لا تَدُلُّ على مَسْحِ البعضِ؛ لأنها للإلصاقِ، ومَن ظَنَّ أنها للتبعيضِ فقدْ أَخْطَأَ على أئمَّةِ اللغةِ.
تنبيهٌ: وَرَدَ في كيفيَّةِ مسحِ الرأسِ عِدَّةُ رواياتٍ؛ منها:
1- حديثُ عليٍّ: "مَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةًَ وَاحِدَةً" رَوَاه أبو داودَ (115)، والتِّرْمِذِيُّ (32).
2- حديثُ عبدِ اللَّهِ بنِ زيدٍ: "فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ" رَوَاه مسلمٌ (235).
3- الروايةُ الأخرَى: "بَدَأَ بِمُقَدَّمِ الرَّأْسِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ".
4- حديثُ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ: "مَسَحَ بِرَأْسِهِ؛ فَبَدَأَ بِمُؤَخَّرِ رَأْسِهِ، ثُمَّ بِمُقَدَّمِهِ" رَوَاه أبو داودَ (129).
ويوجَدُ أيضاً بعضُ الرواياتِ الأُخَرِ التي مِن أَجْلِها قالَ الصَّنْعَانِيُّ: ويُحْمَلُ اختلافُ لفظِ الأحاديثِ على تَعَدُّدِ الحالاتِ.
قلتُ: تعدُّدُ الرواياتِ يَدُلُّ على جوازِ المَسْحِ على أيِّ كيفيَّةٍ جاءَتْ، وإنما مدارُ الوجوبِ هو تعميمُ الرأسِ بالمسحِ، واختيارُ أصحِّ الرواياتِ وأفضلِها لتكونَ الغالبةَ في الوضوءِ.
قالَ ابنُ القَيِّمِ: لم يَثْبُتْ أنه أخَذَ لأُذُنَيْهِ ماءً جديداً.
قالَ الحافِظُ: المحفوظُ أنه مَسَحَ رأسَه بماءٍ غيرِ فضلِ يَدَيْهِ، والأذنانِ من الرأسِ كما وَرَدَ في الحديثِ.
واخْتارَ الشيخُ: أنَّ الأذنيْن يُمْسَحانِ بماءِ الرأسِ، وهو مذهَبُ الجمهورِ.


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الوضوء, باب

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:18 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir