2/30- وَعَنْ حُمْرَانَ، أَنَّ عُثْمَانَ دَعَا بِوَضُوءٍ، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ اليُمْنَى إلَى المِرْفَقِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ اليُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ اليُمْنَى إلَى الكَعْبَيْنِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ اليُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(وَعَنْ حُمْرَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) بِضَمِّ الحَاءِ المُهْمَلَةِ وَسُكُونِ المِيمِ وبالراءِ، هُوَ ابْنُ أَبَانٍ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ المُوَحَّدَةِ، وَهُوَ مَوْلًى لعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، أَرْسَلَهُ لَهُ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَبَاهُ فِي مَغَازِيهِ، فَأَعْتَقَهُ عُثْمَانُ.
(أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه) هُوَ ابْنُ عَفَّانَ، تَأْتِي تَرْجَمَتُهُ قَرِيباً، (دَعَا بِوَضُوءٍ) أَيْ بِمَاءٍ يَتَوَضَّأُ بِهِ (فَغَسَلَ كَفَّهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ) هَذَا مِنْ سُنَنِ الوُضُوءِ بِاتِّفَاقِ العُلَمَاءِ، وَلَيْسَ هُوَ غَسْلَهُمَا عِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ الَّذِي سَيَأْتِي حَدِيثُهُ، بَلْ هَذَا سُنَّةُ الوُضُوءِ، فَلَو اسْتَيْقَظَ وَأَرَادَ الوُضُوءَ، فَظَاهِرُ الحَدِيثِ أَنْ يَغْسِلَهُمَا لِلِاسْتِيقَاظِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ للوُضُوءِ كَذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ تَدَاخُلُهُمَا.
(ثُمَّ تَمَضْمَضَ) المَضْمَضَةُ: أَنْ يَجْعَلَ المَاءَ فِي الفَمِ ثُمَّ يَمُجَّهُ، وَكَمَالُهَا أَنْ يَجْعَلَ المَاءَ فِي فِيهِ، ثُمَّ يُدِيرَهُ، ثُمَّ يَمُجَّهُ. كَذَا فِي الشَّرْحِ، وَفِي القَامُوسِ: المَضْمَضَةُ تَحْرِيكُ المَاءِ فِي الفَمِ. فَجَعَلَ مِنْ مُسَمَّاهَ التَّحْرِيكَ وَلَمْ يَجْعَلْ مِنْهُ المَجَّ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ هَلْ فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً أَوْ ثَلاثاً؟ لَكِنْ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه، أَنَّهُ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَنَثَرَ بِيَدِهِ اليُسْرَى، ففَعَلَ هَذَا ثَلاثاً، ثُمَّ قَالَ: هَذَا طُهُورُ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(وَاسْتَنْشَقَ) الِاسْتِنْشَاقُ: إيصَالُ المَاءِ إلَى دَاخِلِ الأَنْفِ، وَجَذْبُهُ بِالنَّفَسِ إلَى أَقْصَاهُ.
(وَاسْتَنْثَرَ) الِاسْتِنْثَارُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالفُقَهَاءِ: إخْرَاجُ المَاءِ مِن الأَنْفِ، بَعْدَ الِاسْتِنْشَاقِ.
(ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ اليُمْنَى) فِيهِ بَيَانٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي الآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَأَيْدِيَكُمْ} الآيَةَ، وَأَنَّهُ يُقَدِّمُ اليُمْنَى (إلَى المِرْفَقِ) بِكَسْرِ مِيمِهِ وَفَتْحِ فَائِهِ، وَبِفَتْحِهِمَا، وَكَلِمَةُ (إلَى) فِي الأَصْلِ لِلِانْتِهَاءِ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى: مَعَ، وَبَيَّنَتِ الأَحَادِيثُ أَنَّهُ المُرَادُ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: كَانَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ (1) يُدِيرُ المَاءَ عَلَى مِرْفَقَيْهِ. أَي: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ.
وَأَخْرَجَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ فِي صِفَةِ وُضُوءِ عُثْمَانَ أَنَّهُ غَسَلَ يَدَيْهِ إلَى المِرْفَقَيْنِ، حَتَّى مَسَحَ أَطْرَافَ العَضُدَيْنِ. وَهُوَ عِنْدَ البَزَّارِ، وَالطَّبَرَانِيِّ، مِنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ فِي صِفَةِ الوُضُوءِ: وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ حَتَّى جَاوَزَ المَرَافِقَ.
وَفِي الطَّحَاوِيِّ وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبَّادٍ عَنْ أَبِيهِ: ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ حَتَّى سَالَ المَاءُ عَلَى مِرْفَقَيْهِ. فَهَذِهِ الأَحَادِيثُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضاً، قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهُويَهْ: {إِلَى} فِي الآيَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الغَايَةِ، وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى: مَعَ، فَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَنَّهَا بِمَعْنَى: مَعَ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: لا أعْلَمُ خِلافاً فِي إيجَابِ دُخُولِ المِرْفَقَيْنِ فِي الوُضُوءِ، وَبِهَذَا عَرَفْتَ أَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ عَلَى دُخُولِ المَرَافِقِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَفْظُ (إلَى) يُفِيدُ مَعْنَى الغَايَةِ مُطْلَقاً، فَأَمَّا دُخُولُهَا فِي الحُكْمِ وَخُرُوجُهَا فَأَمْرٌ يَدُورُ مَعَ الدَّلِيلِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَمْثِلَةً لِذَلِكَ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ قَدْ قَامَ هَهُنَا الدَّلِيلُ عَلَى دُخُولِهَا؛ (ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ اليُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ) أَيْ: إلَى المَرافِقِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ. (ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ) هُوَ مُوَافِقٌ لِلْآيَةِ فِي الإِتْيَانِ بِالبَاءِ، وَمَسَحَ يَتَعَدَّى بِهَا وَبِنَفْسِهِ؛ قَالَ القُرْطُبِيُّ: إنَّ البَاءَ هُنَا لِلتَّعْدِيَةِ، يَجُوزُ حَذْفُهَا وَإِثْبَاتُهَا.
وَقِيلَ: دَخَلَتِ البَاءُ هَهُنَا لِمَعْنًى تُفِيدُهُ وَهُوَ: أَنَّ الغَسْلَ لُغَةً يَقْتَضِي مَغْسُولاً بِهِ، وَالمَسْحَ لُغَةً لا يَقْتَضِي مَمْسُوحاً بِهِ، فَلَوْ قَالَ: امْسَحُوا رُؤُوسَكُمْ - لَأَجْزَأَ المَسْحُ بِاليَدِ بِغَيْرِ مَاءٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَامْسَحُوا بِرُؤوسِكُمُ المَاءَ. وَهُوَ مِنْ بَابِ القَلْبِ، وَالأَصْلُ فِيهِ: وَامْسَحُوا بِالمَاءِ رُؤُوسَكُمْ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ: هَلْ يَجِبُ مَسْحُ كُلِّ الرَّأْسِ أَوْ بَعْضِهِ؟ قَالُوا: والآيَةُ لا تَقْتَضِي أَحَدَ الأَمْرَيْنِ بِعَيْنِهِ؛ إذْ قَوْلُهُ: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} يَحْتَمِلُ جَمِيعَ الرَّأْسِ، أَوْ بَعْضَهُ، وَلا دَلالَةَ فِي الآيَةِ عَلَى اسْتِيعَابِهِ، وَلا عَدَمِ اسْتِيعَابِهِ، لَكِنَّ مَنْ قَالَ: يُجْزِئُ مَسْحُ بَعْضِهِ. قَالَ: إنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ مُبَيِّنَةً لِأَحَدِ احْتِمَالَيِ الآيَةِ.
وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَحَسَرَ العِمَامَةَ عَنْ رَأْسِهِ وَمَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلاً، فَقَد اعْتَضَدَ بِمَجِيئِهِ مَرْفُوعاً مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي سَنَدِهِ مَجْهُولٌ، فَقَدْ عُضِّدَ بِمَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ فِي صِفَةِ الوُضُوءِ، أَنَّهُ مَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ. وَفِيهِ رَاوٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
وَثَبَتَ عَن ابْنِ عُمَرَ الِاكْتِفَاءُ بِمَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ، قَالَ ابْنُ المُنْذِرِ وَغَيْرُهُ: وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِن الصَّحَابَةِ. وَمِن العُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: لا بُدَّ مِن (2) مَسْحِ البَعْضِ مِن التَّكْمِيلِ عَلَى العِمَامَةِ؛ لِحَدِيثِ المُغِيرَةِوَجَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَكْرَارَ مَسْحِ الرَّأْسِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ طَوَى ذِكْرَ التَّكْرَارِ أَيْضاً فِي المَضْمَضَةِ، كَمَا عَرَفْتَ، وَعَدَمُ الذِّكْرِ لا دَلِيلَ فِيهِ، وَيَأْتِي الكَلامُ فِي ذَلِكَ.
(ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ اليُمْنَى إلَى الكَعْبَيْنِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ) الكَلامُ فِي ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي يَدِهِ اليُمْنَى إلَى المِرْفَقِ، إلَّا أَنَّ المِرافَقَ قَد اتُّفِقَ عَلَى مُسَمَّاها بِخِلافِ الكَعْبَيْنِ، فَوَقَعَ فِي المُرَادِ بِهِمَا هنا خِلافٌ، فالمَشْهُورُ: أنَّهُ العَظْمُ النَّاشِزُ عِنْدَ مُلْتَقَى السَّاقِ، وَهُوَ قَوْلُ الأَكْثَرِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالإِمَامِيَّةِ أَنَّهُ العَظْمُ الَّذِي فِي ظَهْرِ القَدَمِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ؛ وَفِي المَسْأَلَةِ مُنَاظَرَاتٌ وَمُقَاوَلاتٌ طَوِيلَةٌ.
قَالَ فِي الشَّرْحِ: وَمِنْ أَوْضَحِ الأَدِلَّةِ- أَيْ: عَلَى مَا قَالَهُ الجُمْهُورُ- حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فِي صِفَةِ الصَّفِّ فِي الصَّلاةِ: "فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ مِنَّا يُلْزِقُ كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ.
قُلْتُ: وَلا يَخْفَى أَنَّهُ لا أَنْهَضِيَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ المُخَالِفَ يَقُولُ: أَنَا أُسَمِّيه كَعْباً، وَلا أُخَالِفُكُمْ فِيهِ، لَكِنِّي أَقُولُ: إنَّهُ غَيْرُ المُرَادِ فِي آيَةِ الوُضُوءِ، إذ الكَعْبُ يُطْلَقُ عَلَى النَّاشِزِ وَعَلَى مَا فِي ظَهْرِ القَدَمِ، وَغَايَةُ مَا فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ أَنَّهُ سَمَّى النَّاشِزَ كَعْباً، وَلا خِلافَ فِي تَسْمِيَتِهِ.
وَقَدْ أَيَّدْنَا فِي (حَوَاشِي ضَوْءِ النَّهَارِ) أَرْجَحِيَّةَ مَذْهَبِ الجُمْهُورِ بِأَدِلَّةٍ هُنَالكَ. (ثُمَّ اليُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ) أَيْ: إلَى الكَعْبَيْنِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ.
(ثُمَّ قَالَ) أَيْ: عُثْمَانُ (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَتَمَامُ الحَدِيثِ: فَقَالَ- أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)). أَيْ لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ بِأُمُورِ الدُّنْيَا، وَمَا لا تَعَلُّقَ لَهُ بِالصَّلاةِ، وَلَوْ عَرَضَ لَهُ حَدِيثٌ فَأَعْرَضَ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ عُرُوضِهِ عُفِيَ عَنْهُ، وَلا يُعَدُّ مُحَدِّثاً لِنَفْسِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الحَدِيثَ قَدْ أَفَادَ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الأَعْضَاءِ المَعْطُوفَةِ بـ (ثُمَّ) وَأَفَادَ التَّثْلِيثَ، وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى الوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا هُوَ صِفَةُ فِعْلٍ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ فَضِيلَةٌ، وَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ عَدَمُ إجْزَاءِ الصَّلاةِ إلَّا إذَا كَانَ بِصِفَتِهِ، وَلا وَرَدَ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى إيجَابِ صِفَاتِهِ.
فَأَمَّا التَّرْتِيبُ فَخَالَفَتْ فِيهِ الحَنَفِيَّةُ، وَقَالُوا: لا يَجِبُ. وَأَمَّا التَّثْلِيثُ فَغَيْرُ وَاجِبٍ بِالإِجْمَاعِ، وَفِيهِ خِلافٌ شَاذٌّ. وَدَلِيلُ عَدَمِ وُجُوبِهِ: تَصْرِيحُ الأَحَادِيثِ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَمَرَّةً مَرَّةً، وَبَعْضُ الأَعْضَاءِ ثَلَّثَهَا، وَبَعْضُهَا بِخِلافِ ذَلِكَ، وَصَرَّحَ فِي وُضُوءِ (مَرَّةً مَرَّةً) أنَّهُ لا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلاةَ إلَّا بِهِ.
وَأَمَّا المَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ فَقَد اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِمَا، فَقِيلَ: يَجِبَانِ؛ لِثُبُوتِ الأَمْرِ بِهِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَفِيهِ: ((وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِماً))؛ وَلِأَنَّهُ وَاظَبَ عَلَيْهِمَا فِي جَمِيعِ وُضُوئِهِ. وَقِيلَ: إنَّهُمَا سُنَّةٌ؛ بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيِّ.
وَفِيهِ: ((إنَّهُ لا تَتِمُّ صَلاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبِغَ الوُضُوءَ كَمَا أَمَرَه اللَّهُ تَعَالَى؛ فَيَغْسِلُ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إلَى المِرْفَقَيْنِ، وَيَمْسَحُ بِرَأْسِهِ، وَرِجْلَيْهِ إلَى الكَعْبَيْنِ)).
فَلَمْ يَذْكُرِ المَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ، فَإِنَّهُ اقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى الوَاجِبِ الَّذِي لا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلاةَ إلَّا بِهِ، وَحِينَئِذٍ فَيُؤَوَّلُ حَدِيثُ الأَمْرِ بِأَنَّهُ أَمْرُ نَدْبٍ.
3/31- وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي صِفَةِ وُضُوءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَاحِدَةً. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، بَلْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إنَّهُ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي البَابِ.
(وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه) هُوَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِن الذُّكُورِ فِي أَكْثَرِ الأَقْوَالِ، عَلَى خِلافٍ فِي سِنِّهِ، كَمْ كَانَتْ؟ وَلَيْسَ فِي الأَقْوَالِ أَنَّهُ بَلَغَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سنةً، بَلْ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ سِتَّ عَشْرَةَ إلَى سَبْعِ سِنِينَ، شَهِدَ المَشَاهِدَ كُلَّهَا إلَّا تَبُوكَ، فَأَقَامَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المَدِينَةِ خَلِيفَةً عَنْهُ، وَقَالَ لَهُ:((أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟)).
اُسْتُخْلِفَ يَوْمَ قُتِلَ عُثْمَانُ، يَوْمَ الجُمُعَةِ لِثَمَانَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ ذِي الحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلاثِينَ، وَاسْتُشْهِدَ صُبْحَ الجُمُعَةِ بِالكُوفَةِ، لِسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَمَاتَ بَعْدَ ثَلاثٍ مِنْ ضَرْبَةِ الشَّقِيِّ ابْنِ مُلْجَمٍ لَهُ, وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَخِلافَتُهُ أَرْبَعُ سِنِينَ وَسَبْعَةُ أَشْهُرٍ وَأَيَّامٌ، وَقَدْ أُلِّفَتْ فِي صِفَاتِهِ وَبَيَانِ أَحْوَالِهِ كُتُبٌ جَمَّةٌ، وَاسْتَوْفَيْنَا شَطْراً صَالِحاً مِنْ ذَلِكَ فِي: (الرَّوْضَةُ النَّدِيَّةُ شَرْحُ التُّحْفَةِ العَلَوِيَّةِ).
(فِي صِفَةِ وُضُوءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَاحِدَةً. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ) هُوَ قِطْعَةٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ اسْتَوْفَى فِيهِ صِفَةَ الوُضُوءِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ، وَهُوَ يُفِيدُ مَا أَفَادَ حَدِيثُ عُثْمَانَ، وَإِنَّمَا أَتَى المُصَنِّفُ- رَحِمَه اللَّهُ - بِمَا فِيهِ التَّصْرِيحُ بِمَا لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ، وَهُوَ مَسْحُ الرَّأْسِ مَرَّةً، فَإِنَّهُ نَصَّ أَنَّهُ وَاحِدَةٌ مَعَ تَصْرِيحِهِ بِتَثْلِيثِ مَا عَدَاهُ مِن الأَعْضَاءِ.
وَقَد اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ؛ فَقَالَ قَوْمٌ بِتَثْلِيثِ مَسْحِهِ كَمَا يُثَلَّثُ غَيْرُهُ مِن الأَعْضَاءِ؛ إذْ هُوَ مِنْ جُمْلَتِهَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الحَدِيثِ تَثْلِيثُهُ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي كُلِّ حَدِيثٍ ذُكِرَ فِيهِ تَثْلِيثُ الأَعْضَاءِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ فِي تَثْلِيثِ المَسْحِ، أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، صَحَّحَ أَحَدَهُمَا ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي ثُبُوتِ هَذِهِ السُّنَّةِ.
وَقِيلَ: لا يُشَرَّعُ تَثْلِيثُهُ؛ لِأَنَّ أَحَادِيثَ عُثْمَانَ الصِّحَاحِ كُلَّهَا - كَمَا قَالَ أَبُو دَاوُدَ- تَدُلُّ عَلَى مَسْحِ الرَّأْسِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَبِأَنَّ المَسْحَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ، فَلا يُقَاسُ عَلَى الغَسْلِ، وَبِأَنَّ العَدَدَ لَو اعْتُبِرَ فِي المَسْحِ لَصَارَ فِي صُورَةِ الغَسْلِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ كَلامَ أَبِي دَاوُدَ يَنْقُصِهُ مَا رَوَاهُ هُوَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَالقَوْلُ بِأَنَّ المَسْحَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ، قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، فَلا يُسْمَعُ. فَالقَوْلُ بِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي صُورَةِ الغَسْلِ لا يُبَالَى بِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ عَن الشَّارِعِ، ثُمَّ رِوَايَةُ التَّرْكِ لا تُعَارِضُ رِوَايَةَ الفِعْلِ، وَإِنْ كَثُرَتْ رِوَايَةُ التَّرْكِ؛ إذ الكَلامُ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، بَلْ سُنَّةٌ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُفْعَلَ أَحْيَاناً، وَتُتْرَكَ أَحْيَاناً.
(وَأَخْرَجَهُ) أَيْ حَدِيثَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه (النَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، بَلْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إنَّهُ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي البَابِ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ سِتِّ طُرُقٍ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ، لَمْ يَذْكُرِ المَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ، وَفِي بَعْضٍ: "وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِه حَتَّى لَمْ يَقْطُرْ.
4/32- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي صِفَةِ الوُضُوءِ - قَالَ: وَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَأْسِهِ، فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا: بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى المَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ.
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ) هُوَ الأَنْصَارِيُّ المَازِنِيُّ، مِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، شَهِدَ أُحُداً، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ مُسَيْلِمَةَ الكَذَّابَ، وَشَارَكَهُ وَحْشِيٌّ، وَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ يَوْمَ الحَرَّةِ سَنَةَ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ، وَهُوَ غَيْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ , الَّذِي يَأْتِي حَدِيثُهُ فِي الأذَانِ، وَقَدْ غَلِطَ فِيهِ بَعْضُ أَئِمَّةِ الحَدِيثِ؛ فَلِذَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ.
(فِي صِفَةِ الوُضُوءِ قَالَ: وَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَأْسِهِ، فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
فَسَّرَ الإِقْبَالَ بِهِمَا بِأَنَّهُ بَدَأَ مِنْ مُؤَخَّرِ رَأْسِهِ، فَإِنَّ الإِقْبَالَ بِاليَدِ إذَا كَانَ مُقَدَّماً يَكُونُ مِنْ مُؤَخَّرِ الرَّأْسِ. إلَّا أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي البُخَارِيِّ بِلَفْظِ: وَأَدْبَرَ بِيَدَيْهِ وَأَقْبَلَ.
وَاللَّفْظُ الآخَرُ فِي قَوْلِهِ: (وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا) أَيْ للشَّيْخَيْنِ: (بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا) أَي اليَدَيْنِ (إلَى قَفَاهُ ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى المَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ). الحَدِيثُ يُفِيدُ صِفَةَ المَسْحِ لِلرَّأْسِ، وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ المَاءَ لِيَدَيْهِ فَيُقْبِلَ بِهِمَا وَيُدْبِرَ.
وَلِلْعُلَمَاءِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ:
الأَوَّلُ: أَنْ يَبْدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ الَّذِي يَلِي الوَجْهَ؛ فَيَذْهَبَ إلَى القَفَا، ثُمَّ يَرُدَّهُما إلَى المَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ؛ وَهُوَ مُبْتَدَأُ الشَّعْرِ مِنْ حدِّ الوَجْهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعْطِيه ظَاهِرُ قَوْلِهِ: بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إلَى المَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، إلَّا أَنَّهُ أُورِدَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَنَّهُ أَدْبَرَ بِهِمَا وَأَقْبَلَ؛ لِأَنَّ ذَهَابَهُ إلَى جِهَةِ القَفَا إدْبَارٌ، وَرُجُوعَهُ إلَى جِهَةِ الوَجْهِ إقْبَالٌ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الوَاوَ لا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، فَالتَّقْدِيرُ: أَدْبَرَ وَأَقْبَلَ.
والثاني: أَنْ يَبْدَأَ بِمُؤَخَّرِ رَأْسِهِ، وَيَمُرَّ إلَى جِهَةِ الوَجْهِ؛ ثُمَّ يَرْجِعَ إلَى المُؤَخَّرِ؛ مُحَافَظَةً عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِ: أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ. فَالإِقْبَالُ إلَى مُقَدَّمِ الوَجْهِ، وَالإِدْبَارُ إلَى نَاحِيَةِ المُؤَخَّرِ، وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: بَدَأَ بِمُؤَخَّرِ رَأْسِهِ. وَيُحْمَلُ الِاخْتِلافُ فِي لَفْظِ الأَحَادِيثِ عَلَى تَعَدُّدِ الحَالاتِ.
والثالثُ: أَنْ يَبْدَأَ بِالنَّاصِيَةِ، وَيَذْهَبَ إلَى نَاحِيَةِ الوَجْهِ، ثُمَّ يَذْهَبَ إلَى جِهَةِ مُؤَخَّرِ الرَّأْسِ، ثُمَّ يَعُودَ إلَى مَا بَدَأَ مِنْهُ وَهُوَ النَّاصِيَةُ، وَلَعَلَّ قَائِلَ هَذَا قَصَدَ المُحَافَظَةَ عَلَى قَوْلِهِ: بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ. مَعَ المُحَافَظَةِ عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِ: (أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ)؛ لِأَنَّهُ إذَا بَدَأَ بِالنَّاصِيَةِ صَدَقَ أَنَّهُ بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ وَصَدَقَ أَنَّهُ أَقْبَلَ أَيْضاً، فَإِنَّهُ ذَهَبَ إلَى نَاحِيَةِ الوَجْهِ وَهُوَ القُبُلُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ المِقْدَامِ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَ مَسْحَ رَأْسِهِ وَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى مُقَدَّمِ رَأْسِهِ فَأَمَرَّهُمَا حَتَّى بَلَغَ القَفَا، ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى المَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ. وَهِيَ عِبَارَةٌ وَاضِحَةٌ فِي المُرَادِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِن العَمَلِ المُخَيَّرِ فِيهِ، وَأَنَّ المَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ تَعْمِيمُ الرَّأْسِ بِالمَسْحِ.
5/33- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي صِفَةِ الوُضُوءِ - قَالَ: ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَأَدْخَلَ إصْبَعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ، وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ ظَاهِرَ أُذُنَيْهِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِفَتْحِ العَيْنِ المُهْمَلَةِ.
وَهُوَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَوْ أَبُو مُحَمَّدٍ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ القُرَشِيُّ، يَلْتَقِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ قَبْلَ أَبِيهِ وَكَانَ أَبُوهُ أَكْبَرَ مِنْهُ بِثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ حَافِظاً عَالِماً عَابِداً، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ، وَقِيلَ: وَسَبْعِينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَاخْتُلِفَ فِي مَوْضِعِ وَفَاتِهِ، فَقِيلَ: بِمَكَّةَ، أَو الطَّائِفِ، أَوْ مِصْرَ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
(فِي صِفَةِ الوُضُوءِ قَالَ: ثُمَّ مَسَحَ) أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِرَأْسِهِ، وَأَدْخَلَ إصْبَعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ) بِالمُهْمَلَةِ فَمُوَحَّدَةٍ فَأَلِفٍ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ؛ تَثْنِيَةُ سَبَّاحَةٍ، وَأَرَادَ بِهِمَا مُسَبِّحَتَي اليَدِ اليُمْنَى وَاليُسْرَى. وَسُمِّيَتْ سَبَّاحَةً؛ لِأَنَّهُ يُشَارُ بِهَا عِنْدَ التَّسْبِيحِ.
(فِي أُذُنَيْهِ، وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ) إبْهَامَيْ يَدَيْهِ (ظَاهِرَ أُذُنَيْهِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ).
وَالحَدِيثُ كَالأَحَادِيثِ الأُوَلِ فِي صِفَةِ الوُضُوءِ، إلَّا أَنَّهُ أَتَى بِهِ المُصَنِّفُ؛ لِمَا ذَكَرَ مِنْ إفَادَةِ مَسْحِ الأُذُنَيْنِ الَّذِي لَمْ تُفِدْهُ الأَحَادِيثُ الَّتِي سَلَفَتْ؛ وَلِذَا اقْتَصَرَ المُصَنِّفُ عَلَى ذَلِكَ مِن الحَدِيثِ.
وَمَسْحُ الأُذُنَيْنِ قَدْ وَرَدَ فِي عِدَّةٍ مِن الأَحَادِيثِ، وَمِنْ حَدِيثِ المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالطَّحَاوِيِّ، بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. وَمِنْ حَدِيثِ الرَّبِيعِ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضاً. وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَالحَاكِمِ. وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ أُذُنَيْهِ بِمَاءٍ غَيْرِ المَاءِ الَّذِي مَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ، وَسَيَأْتِي.
وَقَالَ فِيهِ البَيْهَقِيُّ: هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَإِنْ كَانَ قَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ العِيدِ، وَقَالَ: الَّذِي فِي ذَلِكَ الحَدِيثِ: وَمَسَحَ رَأْسَهُ بِمَاءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدَيْهِ وَلَمْ يَذْكُر الأُذُنَيْنِ، وَأَيَّدَهُ المُصَنِّفُ بِأَنَّهُ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ وَالتِّرْمِذِيِّ كَذَلِكَ.
وَاخْتَلَفَ العُلَمَاءُ: هَلْ يُؤْخَذُ لِلْأُذُنَيْنِ مَاءٌ جَدِيدٌ أَوْ يُمْسَحَانِ بِبَقِيَّةِ مَا مُسِحَ بِهِ الرَّأْسُ؟ وَالأَحَادِيثُ قَدْ وَرَدَتْ بِهَذَا وَهَذَا، وَيَأْتِي الكَلامُ عَلَيْهِ قَرِيباً.
____________________
(1) تراجع النسخ المخطوطة؛ فلعل صيغة الصلاة زائدة في هذا الموضع.
(2) كذا بالأصل ، ولعل الصواب: في.