دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > العقيدة الواسطية

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #8  
قديم 19 ذو الحجة 1429هـ/17-12-2008م, 06:36 PM
فاطمة فاطمة غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 758
افتراضي التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد

( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأمَنهُ).(103)
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ( وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمُعونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمونَ، يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ ).(104)
(وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ )، وقَوْلُهُ تَعَالَى: ( إِنَّ هَذا القُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَني إِسْرَائيلَ أَكْثَرَ الَّذي هُمْ فيهِ مخْتَلِفونَ ).(105)
( وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ )، ( لَوْ أَنْزَلْنَا هذا القُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ )، (وَإِذا بَدَّلْنَا آيَةً مَكانَ آيَةٍ واللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمونَ ). ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذينَ آمَنُوا وَهُدَىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمينَ ).(106)
( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لَسَانُ الَّذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبينٌ).

(103) قَولُهُ: (وَإِنْ أَحَدٌ): أحدٌ مرفوعٌ بفعلٍ يفسِّرهُ استجاركَ، وقَولُهُ: (فَأَجِرْهُ): أي أَمِّنْهُ، وقَولُهُ: (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ): أي حتَّى يسمعَ القرآنَ مبلَّغًا إليه مِن قارئِه، كما قالَ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ حين قرأ على قريشٍ: (الـم * غُلِبَتِ الرُّومُ ): فقالوا: هذا كلامُك أو كلامُ صاحبِك، فقال: ليس بكلامي ولا بكلامِ صاحبي ولكنَّهُ كلامُ اللهِ، وفي سُننِ أبي داودَ أنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- كان يَعْرِضُ نفسَه على النَّاسِ بالموسمِ فيقَولُ: ((أَلاَ رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلى قَوْمِهِ لأُبَلِّغَ كَلامَ رَبِّي فَإِنَّ قُرَيْشًا مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلامَ رَبَّي)) فبيَّن أَنَّ ما يُبلغُه ويتلوه هو كلامُ اللهِ لا كلامُه، وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّه إذا استَأْمَن مشركٌ ليسمعَ القرآنَ وجب تأمينُه ليُعَلَّمَ دينَ اللهِ وتنتشرَ الدَّعوةُ، ومنها أنَّ رسولَ اللهِ كان يُعطيِ الأمانَ لمَن جاءَه مُسترشدًا أو في رسالةٍ كما جاءَ في الحديبيةِ جماعةٌ من قريشٍ وكذلك مَن قدِمَ من دارِ الحربِ إلى دارِ الإسلامِ في أداءِ رسالةٍ أو تجارةٍ أو طلبِ صلحٍ أو مهادنةٍ أو حملِ جزيةٍ أو طلبٍ من الإمامِ أو نائبِه- أُعطيَ أمانًا ما دامَ متردِّدًا في دارِ الإسلامِ حتَّى يرجعَ إلى مأمنِه ووطنِه، وفيها دليلٌ على إثباتِ صفةِ الكلامِ للهِ وأنَّه يتكلَّمُ وأنَّ القرآنَ كلامُهُ، وفيها دليلٌ على أنَّ الكلامَ إنَّما يُنسبُ إلى مَنْ قاله ابتداءً لا إلى مَن قالَه مبلِّغًا مؤدِّيًا، فإنَّ القارئَ يُبلِّغُ كلامَ اللهِ، وكلامُه -سُبْحَانَهُ- صفةٌ من صفاتِه غيرُ مخلوقٍ، وأمَّا صوتُ القارئِ وكذا المِدادُ والورقُ فهي مخلوقةٌ، لهذهِ الآيةِ ولحديثِ: ((بَيِّنُوا القُرآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ))، فبَيَّنَ أنَّ الأصواتَ الَّتي يُقرأ بها القرآنُ أصواتُنا، والقرآنَ كلامُ اللهِ، فالقرآنُ كلامُ الباري والصَّوتُ صوتُ القارئِ، وفي هذه الآيةِ دليلٌ على أنَّ القرآنَ الَّذي هو سُوَرٌ وآياتٌ وحروفٌ وكلماتٌ هو عَيْنُ كلامهِ -سُبْحَانَهُ- حقًّا لا تَأْلِيفُ مَلَكٍ ولا بشرٍ، وأنَّ حروفَه ومعانيَه عَيْنُ كلامِه -سُبْحَانَهُ- الَّذي تَكلَّمَ به -سُبْحَانَهُ- حقًّا، وبَلَّغه جبريلُ إلى محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وَبَلَّغَهُ محمَّدٌ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فللرَّسولين منه مجرَّدُ التَّبليغِ والأداءِ لا الوضعِ والإنشاءِ، فإضافتُه إلى الرَّسولِ بقَولِهِ: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) إضافةُ تبليغٍ وأداءٍ لا إضافةُ وضعٍ وإنشاءٍ، لا كما يقَولُهُ أهلُ الزَّيغِ والافتراءِ، وفيه الرَّدُّ على مَن زعمَ أن‎َّ هذا الموجودَ بين أيدِينا هو عبارةٌ عن كلامِ اللهِ أو حكايةٍ له، فإنَّه -سُبْحَانَهُ- أخبرَ أنَّ الَّذي يُسمعُ كلامُ اللهِ، وعندهم أنَّ الَّذي يُسمعُ ليسَ كلامَ اللهِ على الحقيقةِ، وإنَّما هو مخلوقٌ حُكِيَ به كلامُ اللهِ على أحدِ قَولِهِم، وعِبارةٌ عُبِّرَ بها عن كلامِ اللهِ على القولِ الآخرِ، وهي مخلوقةٌ على القوليْنِ، فالمقروءُ , المكتوبُ والمسموعُ والمحفوظُ ليسَ كلامَ اللهِ، وإنَّما هو عبارةٌ عُبِّرَ بها عنه، كما يُعَبَّرُ عن الَّذي لا ينطقُ ولا يتكلَّمُ مِن أخرسَ أو عاجزٍ، تعالى اللهُ عن قَولِهِم عُلوًّا كبيرًا، وفيه دليلٌ على أنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ وأنَّه يُسمعُ وأنَّه غيرُ مخلوقٍ، وفيها الرَّدُّ على مَنْ زعمَ أنَّه مخلوقٌ أو أنَّهُ كلامُ بشرٍ أو مَلَكٍ أو غيرِ ذلك، وفيها أنَّ مَن زعمَ أنَّه كلامُ غيرِ اللهِ فقد كفرَ أو زعمَ أنَّه مخلوقٌ.
قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ رحمه اللهُ: ولم يقلْ أحدٌ من السَّلفِ إنَّه مخلوقٌ أو أنَّه قديمٌ، بل الآثارُ متواترةٌ عن السَّلفِ مِن الصَّحابةِ والتَّابعين لهم بإحسانٍ أنَّهم يقولونَ: القرآنُ كلامُ اللهِ، وأوَّلُ مَن عُرفَ عنه أنَّه قال مخلوقٌ الجَعْدُ بِنْ دِرْهَمٍ، وصاحبُه الجهمُ بنُ صفوانَ، وأوَّلُ من عُرِفَ عنه أنه قالَ: هو قَدِيمٌ عبدُ اللهِ بنُ سعيدِ بنِ كلابٍ، أمَّا السَّلفُ فلم يَقُل أحدٌ منهم بواحدٍ من القولينِ، ولم يقلْ أحدٌ مِن السَّلفِ: إنَّ القرآنَ عِبارةٌ عن كلامِ اللهِ وحِكايةٌ له، ولا قالَ منهم أحدٌ إنَّ لَفْظِي بالقرآنِ قديمٌ أو مخلوقٌ، بل كانوا يقولونَ بما دلَّ عليه الكتابُ والسُّنَّةُ من أنَّ هذا القرآنَ كلامُ اللهِ، والنَّاسُ يَقْرءُونه بأصواتِهم ويكتبونَه بِمِدَادِهِم وما بينَ اللوحَينِ كلامُ اللهِ وكلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، والمِدَادُ الَّذي يُكتب به القرآنُ مخلوقٌ، والصَّوتُ الَّذي يُقْرأ به هو صوتُ العبدِ، والعبدُ وصوتُه وحركاتُه وسائرُ صفاتِه مخلوقةٌ، فالقرآنُ الَّذي يَقْرؤه المسلمونَ كلامُ الباري، والصَّوتُ صوتُ القارئِ، انتهى.
قال البخاريُّ رحمه اللهُ في كتابِ(خَلْقِ أَفْعَالِ العِبَادِ) بعد ذكرِ هذه الآيةِ والآيةِ الَّتي بعدَها، أي قَولُهُ سُبْحَانَهُ: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجيد * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) وقَولُهُ: (وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ ) قال: ذكرَ اللهُ أنَّ القرآنَ يُحفظُ ويُسَطَرُ، والقرآنُ المُوعى في القلوبِ المَسْطورُ في المصاحفِ المَتْلوُّ بالألسنةِ كلامُ اللهِ ليس بمخلوقٍ، وأمَّا المِدادُ والورقُ والجلدُ فإنَّه مخلوقٌ، انتهى. من (فتحِ البارِي).

(104) قَولُهُ: (فَرِيقٌ): أي طائفةٌ: (مِنْهُمْ): أي أَحْبَارِهِم (يَسْمُعونَ كَلامَ اللهِ): أي التـَّوراةَ.
قَولُهُ: (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ): أي يُغيِّرونه ويَتأوَّلونه على غيرِ تأويلِه، (مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ): أي فهمُوه (وَهُمْ يَعْلَمونَ): أي أنَّهم مُفترونَ، وإذ كانَ هذا حالُ علمائِهم فكيفَ بِجُهَّالِهِمْ.
في هذه الآيةِ التَّأيِيسُ من إيمانِ اليهودِ الَّذين شاهدَ آباؤُهم ما شاهدُوا، ثمَّ قستْ قلوبُهم ولم ينفعْهُم ما شاهدُوه، وفيها ذمٌّ للمُحَرِّفين للكَلِم عن مواضعِه، وأنَّ التَّحريفَ من صفاتِ اليهودِ، وأفادتْ هذه الآيةُ كغيرِها إثباتَ صفةِ الكلامِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى-، والرَّدَّ على مَن زعمَ أنَّ اللهَ لا يتكلَّمُ أو أنَّ كلامَه مخلوقٌ، وفيها دليلٌ على أنَّ الكلامَ إنَّما يُنسبُ إلى مَن قاله مُبتدءًا لا إلى من قاله مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا، فإنَّ قَولَهُ: (يَسْمُعونَ كَلاَمَ اللهِ ): أي مِنْ قَارئِه ومُبَلِّغِهِ.
قَولُهُ: (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللهِ): أي مَواعيدَهُ بغنائمِ خَيْبَرَ، أهلُ الحديبيةِ خاصَّةً، لا يشارِكُهم فيها غيرُهم من الأعرابِ والمُتَخلِّفين، فلا يقعُ غيرُ ذلك شرْعا ولا قَدرًا، ولهذا قال: (يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ) وهو الوعدُ الَّذي وعدَ به أهلَ الحديبيةِ، اختاره ابنُ جريرٍ.
قَولُهُ: (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا): أي في خيبرَ، وهذا خَبرٌ بمعنى النَّهْي.
قَولُهُ: (كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ): أي مِنْ قَبْلِ عَوْدِنا مِن قبلِ انصرافِنا مِن مكَّةَ إلى المدينةِ أنَّ غَنيمةَ خيبرَ لِمَن شهدَ الحديبيةَ خاصَّةً دونَ غيرِهِم.
أفادتْ هذه الآيةُ –كغيرِها- إثباتَ صفةِ الكلامِ، وإثباتَ القولِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى-، وأنَّه قالَ ويقولُ متى شاءَ إذا شاءَ.

(105) قَولُهُ: (وَاتْلُ): أي اتَّبِعْ، والتِّلاوةُ هي الاتَّباعُ، يُقالُ اتْلُ أَثَرَ فلانٍ وتَلَوْتُ أَثَرَه وقَفَوتُه وقَصَصْتُه بمعنى تَبِعْتُ خَلفهُ، ويُسمَّى تَالي الكلامِ تَالِيًا؛ لأَنَّه يُتبِعُ بعضَ الحروفِ بعضًا لا يُخرجُها جملةً واحدةً، وحقيقةُ التِّلاوةِ في هذا الموضعِ وغيرِه هي التِّلاوةُ المطلقةُ التَّامَّةُ، وهي تلاوةُ اللفظِ والمعنى. انتهى. ملخَّصًا مِن كلامِ ابنِ القيِّمِ.
قَولُهُ: (مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ): الوحيُ: لغةً: الإعلامُ في خفاءٍ، وفي الاصطلاحِ إعلامُ اللهِ أنبياءَه بالشَّيءِ، إمَّا بكتابٍ أو رسالةِ مَلَكٍ أو منامٍ أو إِلْهَامٍ.
قَولُهُ: (مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ): أي القرآنِ بدليلِ قَولِهِ: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ) – إلى قَولِهِ – (إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى) الآيةَ والمَسْمُوعُ واحدٌ، والكتابُ في الأصلِ جِنْسٌ، ثمَّ غَلَبَ على القرآنِ من بين الكُتبِ. انتهى، (الكَوْكَبُ المُنيرُ) ملخَّصًا.
قَولُهُ: (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ): أي لا تُغيَّرُ ولا تُبَدَّلُ، كما قال سُبْحَانَهُ: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) في هذه الآيةِ -كغيرِها- دليلٌ على أنَّ الكتابَ هو القرآنُ، خلافًا للكُلاَّبِيَّة فإنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- سمَّى نفسَ مَجْموعِ اللفظِ والمعنى قرآنًا وكتابًا وكلامًا، كما تقدَّمَ في قَولِهِ: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ) الآيةَ فبيَّنَ أَنَّ الَّذي سَمِعوه هو القرآنُ، وهو الكتابُ، وقال تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ) وفي الآيةِ المتقدِّمةِ دليلٌ على أنَّ القرآنَ منَزَّلٌ من عندِ اللهِ، وأنَّه كلامُه، وفيها الحثُّ على تلاوتِه، وأنَّه -سُبْحَانَهُ- ضَمِنَ حفظَه من التَّغييرِ والتَّبديلِ.
قَولُهُ: (إِنَّ هَذا القُرْآنَ): مصدرُ قرأَ، أي جمعَ لِجِمْعِهِ السُّورَ أو ما في الكتبِ السَّابقةِ.
قَولُهُ (يَقُصُّ): أي يُبيِّنُ (عَلى بَني إِسْرَائيلَ) وهم حَمَلَةُ التَّوراةِ (أَكْثَرَ الَّذي هُمْ فيهِ مُخْتَلِفونَ) وذلك كاختلافِهم في أمرِ عيسى وَتَبَايُنِهم فيه، فجاءَ القرآنُ بالقولِ العَدْلِ الحقِّ أنَّه عبدٌ من عبادِ اللهِ ونبيٌّ مِن أنبيائِه، وفي الآيةِ دليلٌ على عظمةِ هذا الكتابِ وَهَيْمَنَتِه على الكتبِ السَّابقةِ، وتَوْضيحِه لما وَقَعَ فيها من اشتباهٍ، وإضافةِ القصصِ والتَّوضيحِ إليه وتضمُّنِ وجوبِ الرُّجوعِ إليه واتَّباعِه.


(106) قَولُهُ: (وَهَذَا كِتَابٌ): أي القرآنُ (مُبَارَكٌ): أي كثيرُ المنافعِ والخيرِ.
قَولُهُ: (لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا): أي مُتَذِلِّلاً (مُتَصَدِّعًا): أي مُتَشَقِّقًا، فإذا كان القرآنُ لو أُنْزلَ على جبلٍ لَخشع وتَصدَّعَ من خوفِ اللهِ فكيفَ يليقُ بكم أيُّها النَّاسُ أنْ لا تَلينَ قلوبُكُم وتخشعَ من خوفِ اللهِ، وقد فَهِمتم عن اللهِ أمرَه ونهيَهُ وتَدَبَّرتُم كتابَه، وفي الآيةِ دليلٌ على عَظَمةِ القرآنِ وأنَّه لو أُنزلَ على جبلٍ لخشعَ وتَصدَّعَ مِن خشيةِ اللهِ، وفيها دليلٌ على أنَّه -سُبْحَانَهُ- خلقَ في الجماداتِ إدراكًا بحيثُ تخشعُ وتُسبِّحُ، وهذا حقيقةٌ كما دلَّتْ على ذلك الأدلَّـةُ ولا يَعلمُ كيفيَّةُ ذلك إلا هوَ سُبْحَانَهُ، وفيها حَثٌّ على الخوفِ من اللهِ والخشوعِ عندَ سماعِ كلامِه، وأنَّه ينبغي أن يُقرأ بتدبُّرٍ وخشوعٍ وإقبالِ قلبٍ وأنَّه ينبغي الرِّقَّـةُ عند سماعِ كلامِ الله والبُكاءِ وتلاوتِه بحزنٍ.
قَولُهُ: (وَإِذا بَدَّلْنَا آيَةً مَكانَ آيَةٍ): أي نسخنَاها وأنزلنَا غيرَها لمصلحةِ العبادِ.
قَولُهُ: ( واللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ): أي هو -سُبْحَانَهُ وتعالَى- أعلمُ بما هو أصلحُ لخلقِه فيما يُغَيِّرُ ويَنْسَخُ من أَحكامِه، وفي الآيةِ دليلٌ على وقوعِ النَّسخِ في القرآنِ، وأنَّه لحكمةٍ ومصلحةٍ يعلمُها سُبْحَانَهُ، فهو أعلمُ بمصلحةِ عبادِه، وفيها دليلٌ على إحاطةِ علمِه -سُبْحَانَهُ- بكلِّ معلومٍ.
قَولُهُ: (قَالُوا): أي الكفَّارُ (إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ): أي كذَّابٌ (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمونَ): أي لا يعلمونَ الحكمةَ في ذلك.
قَولُهُ: (قُلْ نَزَّلَهُ): أي القرآنَ، والتَّنزيلُ والإنزالُ هو مجيءُ الشَّيءِ من أعلى إلى أسفلَ، (رُوحُ القُدُسِ): أي جبريلُ عليه السَّلامُ، فجبريلُ سمعَهُ من اللهِ والنَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- سمعه من جبريلَ، وهو الَّذي نَزَل بالقرآنِ على محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- كما نصَّ على ذلك أحمدُ وغيرُه من الأئمَّةِ، وجبريلُ هو الرُّوحُ الأمينُ المذكورُ في قَولِهِ سُبْحَانَهُ: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ) الآيةَ.
ولم يقلْ أحدٌ من السَّلفِ: إنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- سمعَهُ من اللهِ، وإنَّما قال ذلك بعضُ المتأخِّرين، والآيةُ تَرُدُّ عليه. قال ابنُ حجرٍ رحمه اللهُ في شرحِ (البخاريِّ): والمنقولُ عن السَّلفِ اتَّفاقُهم أنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، تلقَّاهُ جبريلُ عن اللهِ، وبلَّغَه جبريلُ إلى محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وبلَّغه محمَّدٌ إلى أمَّتِه. انتهى.
ففي هذه الآياتِ دليلٌ على أنَّ القرآنَ منَزَّلٌ من عندِ اللهِ، وأنَّه كلامُه، بدأَ منه وظهرَ لا من غيرِه، وأنَّه الَّذي تكلَّم به لا غيرَه، وأمَّا إضافتُه إلى الرَّسولِ في قَولِهِ: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) فإضافةُ تبليغٍ لا إضافةُ إنشاءٍ، والرِّسالةُ تبليغُ كلامِ المُرْسِلِ، ولو لم يكنْ للمُرسلِ كلام يبلِّغُه الرَّسولُ لم يكنْ رسولاً، ولهذا قال غيرُ واحدٍ مِن السَّلفِ: مَن أَنْكرَ أن يكونَ اللهُ مُتكلِّمًا فقد أنكرَ رسالةَ رسلِهِ، فإنَّ حقيقةَ رسالتِهم: تبليغُ كلامِ المرسِلِ، وفيها دليلٌ على علوِّ اللهِ على خلقِه، والتَّنـزيلُ والإنزالُ المذكورُ في القرآنِ ينقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
إنزالٍ مُطلقٍ كقَولِهِ: (وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ).
الثَّاني: إنزالٍ مِن السَّماءِ كقَولِهِ: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُورًا).
الثَّالثِ: إنزالٍ منه -سُبْحَانَهُ- كقَولِهِ: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ).
فأخبرَ أَنَّ القرآنَ منَزَّلٌ منه، والمطرَ مُنَزَّلٌ من السَّماءِ، والحديدَ منَزَّلٌ نزولاً مطلقًا، ففرَّقَ -سُبْحَانَهُ- بين النُّزولِ منه والنُّزولِ من السَّماءِ، وحُكمُ المجرورِ بِمِنْ في هذا البابِ حكمُ المضافِ، والمضافُ ينقسمُ إلى قِسمين: إضافةِ أَعْيَانٍ وإضافةِ معانٍ، فإضافةُ الأعيانِ إليه -سُبْحَانَهُ- من بابِ إضافةِ المخلوقِ إلى خالقِه، كبيتِ اللهِ وناقةِ اللهِ ونحوِ ذلك، أمَّا إضافةُ المعاني إلى اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- فهي من بابِ إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، كسمعِ اللهِ وبصرِه وعلمِه وقُدرتِه، فهذا يمتنعُ أنْ يكونَ المضافُ مخلوقًا، بل هو صفةٌ قائمةٌ به وهكذا حُكمُ المجرورِ بمن، فإضافةُ القرآنِ إليه -سُبْحَانَهُ- من بابِ إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، لا من بابِ إضافةِ المخلوقِ إلى خالقِه خلافًا للمبتدعةِ من المعتزلةِ والجهميَّةِ وأشباههِم، وفي هذه الآيةِ الرَّدُّ على مَن زعمَ أنَّ القرآنَ مخلوقٌ، أو أنَّه كلامُ بشرٍ وغيرِه، فمَن زعمَ ذلك فهو كافرٌ باللهِ العظيمِ، كما رُوِيَ ذلك عن السَّلفِ، وفيها دليلٌ على أنَّ جبريلَ نَزَل به من عندِ الله، فإنَّه (رُوحُ الْقُدُسِ) وهو أيضا الرُّوحُ الأمينُ، وفي قَولِهِ: (الأَمِينُ) دليلٌ على أنَّه مُؤْتمنٌ على ما أُرْسلَ به، فلا يَزيدُ عليه ولا يُنقِصُ، وفيها دليلٌ على أنَّ الرَّسولَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- سَمِعَهُ من جبريلَ وهو الَّذي نَزَل به عليه من عندِ اللهِ، وجبريلُ سمعَه من اللهِ، والصَّحابةُ سمعُوه من النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وفيها الرَّدُّ على مَن قالَ إنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- سمعَ القرآنَ من اللهِ، وفيها الدَّلالةُ على بُطلانِ قولِ مَن قالَ إنَّه مخلوقٌ خلقَهُ اللهُ في جسمٍ من الأجسامِ المخلوقةِ، كما هو قولُ الجهميَّةِ القائِلين بخلقِ القرآنِ، وفيها الدَّلالةُ على بُطلانِ قولِ مَن قال إنَّه فَاضَ على النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- من العقلِ الفَعَّالِ أو غيرِه، كما يقَولُهُ طَوَائِفُ من الفلاسفةِ والصَّابئةِ، وهذا القولُ أشدُّ كفرًا من الَّذي قبلَه، وفيها الدَّليلُ على بُطلانِ قولِ مَن يقولُ: إنَّ القرآنَ العربيَّ ليس مُنزَّلاً مِن اللهِ بل مَخلوق، إمَّا في جبريلَ أو محمَّدٍ أو جُرْمٍ آخرَ كالهواءِ، كما يقولُ ذلك الكُلاَّبيَّةُ والأَشعريَّةُ القائلونَ بأنَّ القرآنَ العربيَّ ليسَ هو كلامَ اللهِ، وإنَّما كلامُه المعنى القائمُ بذاتِه، والقرآنُ العربيُّ خُلقَ ليدلَّ على ذلك المَعنى، وهذا يُوافقُ قولَ المعتزلةِ ونحوِهم في إثباتِ خلقِ القرآنِ، وفيها أنَّ السَّفيرَ بينَ اللهِ ورسولِه محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- هو جبريلُ عليه السَّلامُ، وفيها الرَّدُّ على مَن زعم أنَّ كلامَ اللهِ هو المعنى النَّفْسيُّ، فإنَّ جبريلَ سَمِعه مِن اللهِ والمعنى المُجَرَّدُ لا يُسْمعُ، وفيها دليلٌ أنَّ القرآنَ نزلَ باللغةِ العربيَّةِ وتكلَّم اللهُ -سُبْحَانَهُ- بالقرآنِ بها، وفيها الرَّدُّ على مَن زعمَ أنَّه يجوزُ ترجمةُ القرآنِ باللغاتِ الأعجميَّةِ؛ لأنَّ القرآنَ مُعجزٌ بلفظِه ومعناه.
قَولُهُ: (بِالحَقِّ): أي بالصِّدقِ والعدلِ: (لِيُثَبَّتَ الَّذينَ آمَنُوا): أي يزيدَهم يقينًا وإيمانًا.
قَولُهُ: (وَهُدًى): أي بيانٌ ونورٌ وبصيرةٌ، ويُطلقُ الهُدى ويُرادُ به ما يَقِرُّ في القلبِ من الإيمانِ، وهذا لا يقدرُ على خَلْقِه في قلوبِ العبادِ إلا اللهُ، قال تعالى (إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) الآيةَ، ويُطلقُ ويُرادُ به بيانُ الحقِّ وتوضيحُه والدَّلالةُ عليهِ والإرشادُ إليه قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ). انتهى. من ابنِ كثيرٍ، وخُصِّصتِ الهدايةُ بالمسلمين لاختصاصِهم بالنَّفعِ بالقرآنِ؛ لأنَّه هو بنفسِه هُدًى، ولكن لا ينالُه إلا الأبرارُ كما قال تعالى: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ).
قَولُهُ: (وبُشْرَى): البُشرى والبِشارةُ هو أوَّلُ خَبَرٍ سَارٍّ، والبُشرى يرادُ بها أمرانِ:
أحدُهما بشارةُ المُخْبِرِ، والثَّاني سرورُ المُخْبَرِ، قال تعالى: (لَهُمُ البُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) فُسِّرتِ البُشرى بهذا وبهذا، قِيلَ وسُمِّيتْ بُشرى؛ لأنَّها تُؤثِّرُ في بَشَرَةِ الوجهِ، ولذلك كانَتْ نوعين: بُشرى سارَّةٌ تُؤَثِّرُ فيه نضارةً وبَهجةً، وبُشرى مُحزنةٌ تُؤَثِّرُ فيه سوءًا وعُبوسا، ولكن إذا أُطلقتْ كانت للسُّرورِ، وإذا قُيِّدتْ كانت بحسبِ ما قُيِّدت به، أمَّا البَشارةُ بالفتحِ فهي نضارةُ الوجهِ وحسنُه، وأمَّا البُشارة بالضَّمِّ فهو ما يُعطاه المبشَّرُ.
وقَولُهُ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولونَ): أي كُفـَّارُ مكـَّةَ: (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) والبشرُ الإنسانُ ذكرًا كان أو أُنثى، وهو في الأصلِ جمعُ بَشَرةٍ، وهو ظاهرُ الجلدِ، سمَّوْه بشرًا لُظهورِ أَبْشَارِهم خلافًا لغيرِهم من الحيوانِ، أي إنَّ الَّذي يُعَلِّمُ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- آدمِيٌّ، وذلك أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- كان يجلسُ إلى رجلٍ أعجميٍّ في مكَّةَ، وكان ذلك الرَّجلُ يقرأُ في الكُتبِ السَّابقةِ، فقالتْ قريشٌ: إنَّ هذا الرَّجلَ كان يُعلِّمُ محمَّدًا، فَأَكْذَبَهُمُ اللهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- بقَولِهِ: (لِسَانُ الَّذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبينٌ).
قَولُهُ: (لسَانُ): أي لغةُ (الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ): أي يَميلون ويُشيرون إليه أنَّه يُعلِّمُ محمَّدًا -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أعجميٌّ أي لا يتكلَّمُ بالعربيَّةِ، والعَجَمِيُّ المنسوبُ إلى العَجمِ وإن كان فصيحًا.
قَولُهُ: (لسانُ): أي لغةُ، كما في هذه الآيةِ، وفي قَولِهِ سُبْحَانَهُ: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ) ويطلقُ اللسانُ ويرادُ به الذِّكرُ الحَسَنُ كما قال تعالى عن إبراهيمَ: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) ويُطلَقُ ويرادُ به الجَارِحَةُ، كما قال سُبْحَانَهُ: (لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ) الآيةَ.
قَولُهُ: (وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبينٌ): أي وهذا القرآنُ لسانٌ عربيٌّ مبينٌ، أي بَيِّنٌ واضحٌ فكيفَ يكونُ الَّذي يقَولُهُ أعجميًّا؟!


 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الإيمان, بأن

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:01 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir