دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > إدارة برنامج إعداد المفسر > القراءة المنظمة في التفسير وعلوم القرآن

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 5 جمادى الأولى 1443هـ/9-12-2021م, 04:00 PM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي

في ختام البحث :
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( في ختام البحث
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/389]
الحمد لله ولي النعم: استهديناه فهدانا، واستعناه فأعان.
بدأنا أول سطر في هذا البحث أوائل شوال سنة 1409هـ (مايو سنة 1989م)، وفرغنا منه بفضل الله وعونه وتوفيقه في أواخر رمضان سنة 1411هـ (إبريل سنة 1991م)، أي في عامين اثنين، بل في عامين لم يكتملا إن استبعدت نحو ستة أشهر صرفتنا خلالها عن هذا البحث صوارف لا تخلو من مثلها شواغل هذه الحياة. وكان متوسط ساعات العمل اليومي في البحث والكتابة والمراجعة نحوًا من أربع ساعات. وليس هذا بكثير على بحث بهذه الضخامة، وموضوع بهذه الجدية، ناهيك بما يقتضيه الكلام في كتاب الله عز وجل من تؤدة وأناة، ومن تحرز وتثبت. ولكنه توفيق الله تبارك وتعالى، له الحمد في الأولى وفي الآخرة.
ولئن كان الجهد المبذول في هذا الكتاب شاقًا مضنيًا، فما شقينا به البتة، بل قد سعدنا به ونعمنا. بل قل كان لنا لذة لا تعدلها لذة: صحبة القرآن، والجلوس إليه، والتمعن فيه. وكان نعيمنا الأعظم لحظة يمن الله علينا باستجلاء إعجاز القرآن في تفسيره معنى هذا العلم الأعجمي أو ذاك، أو بانكشاف وجه جديد في فهم آيات من القرآن لم يفطن إليه قدامى المفسرين. وأنت تعلم بالطبع كيف تدمع العين ويخشع القلب لحظة يقال لك وجه من وجوه إعجاز هذا القرآن لم تعلمه من قبل، فما بالك بالذي ينكشف له قبس من هذا الإعجاز بفضل من الله ونعمة فيعاين هذا الإعجاز كفاحًا أول مرة؟ تلك لحظات قصار ثقال، كنا فيها وجهًا لوجه مع فتوح الباري جل جلاله، نقبس من فيوض آلائه: القلب يرجف في جلال كنفه، تسبيحًا وتحميدًا، والقلم يجري بما شاء له الله أن يجري، والدموع ملء المآقي.
ما ذقت نعيما في هذه الدنيا كالذي عشته وأنا أكتب في ظل تلك اللحظات القصار الثقال. وما زال مذاقه يملأ كل وجداني، يغالبني الحنين إليه بين الفينة والفينة، فأعاود قراءة ما كتبته في لحظات التجلي، أستروح جلالها وجمالها، فيجيش القلب، وتدمع العين، وتتجدد النعمة.
وما أعظمه من أجر في هذه الدنيا لقاء عمل ما أردته إلا خالصًا لوجهه عز وجل، أبتغي به رضوان الله في الآخرة، طامعًا في جزيل ثوابه، وواسع رحمته،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/390]
وكريم عفوه وغفرانه! أستقيلك رب من عثرات قلم لا يخلو من مثلها قول البشر، وأبوء إليك سبحانك بنعمة التوفيق فيما وفقت إليه.
أما فكرة البحث نفسها فقد لاحت لي منذ نحو عشر سنين سبقت الشروع فيه، عشتها في مدينة جنيف بسويسرا أثناء عملي بالأمم المتحدة هناك. كانت الفكرة تومض وتخبو، تغدو وتروح. وربما سنحت لي أمثلة من «إعجاز القرآن في أعجمي القرآن» طرحتها على إخوة زملاء من أهل الفضل والعلم والفكر والأدب، كانوا لي نعم الظهير في كتابة هذا البحث. منهم الذي دفعني إلى الكتابة دفعًا وليس لي بالكتابة سابق عهد، ومنهم الذي يسعى معي على قدميه إلى المكتبات نقلب رفوفها بحثًا عن المراجع شديدة التخصص التي يرتكز عليها هذا البحث بل وتطوع فأمدني بذلك المعجم النفيس في ألفاظ «توراة الأنبياء والكتبة» (هملون هحداش لتناخ) عبري / عبري، المطبوع في إسرائيل، ليكون لي على مقولات هذا الكتاب شاهد من أهلها. وكان منهم أيضًا الذي حدثني عن كتاب أعيد طبعه لمستشرق يتصدى للعلم الأعجمي في القرآن، ينبهني إلى أنني قد أكون مسبوقًا فيما أنوى أن أكتب، يخشى أن يكون قد سبقني إليه هذا المستشرق، ولكن علمي بخبيئة أهل الاستشراق حين يتكلمون في القرآن منعني من تصور مستشرق يكتب في إعجاز القرآن غير مؤمن بأنه وحي الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. القرآن في آذان هؤلاء وقر، وعلى أعينهم عمى. ولكني صابرت النفس على قراءة الكتاب، وما أن فرغت منه حتى أدركت أنه من أنفس المراجع المضادة لمقولات هذا البحث، لأنه يلخص أبلغ تلخيص مقولة الاستشراق في أعلام القرآن، لا حاجة بك معه إلى غيره، إن أردت الاطلاع على غثاثة أولئك المستشرقين وفساد طويتهم حين يتكلمون في القرآن. وقد أغلظنا على هذا المستشرق وإخوته في تضاعيف هذا البحث، فكان لا بد من الإشارة إلى مؤلفه في حواشي هذا الكتاب وإدراجه في قائمة مراجعه.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/391]
كان صحبة جنيف، الذين أدين لهم بالمودة والعرفان ما حييت، هم أول قراء هذا البحث، فقد حرصت على إقرائهم إياه تباعًا حتى اكتمل. وكان حماسهم البالغ لما أكتب، وتقريظهم الذين أعرف وزنه، وإلحاحهم الدؤوب علي بالإسراع في نشره فور الفراغ منه، دافعي إلى الخروج بهذا البحث على جمهور لم يقرأ بعد شيئًا لكاتبه.
على أن تلك السنوات العشر التي قضيتها في جنيف قبل البدء في كتابة هذا البحث، لم تمض عبثًا. فقد كان في ذهني مشروع كتاب في تأصيل مفهوم الحكم بالإسلام في المجتمع المسلم، قطعت فيه شوطًا يقرب من ثلثيه أو نصفه، ثم أرجأت المضي فيه، نزولاً على نصح أولئك الأخوة الزملاء، إلى أن أفرغ من هذا الكتاب الذي بين يديك.
ولن موضوع البحثين واحد – كتاب الله عز وجل – فقد شغلت طيلة تلك السنوات العشر بشيء واحد لا أعدوه إلى غيره إلا لماما، وهو تدارس القرآن في كتب التفسير، أبديء فيها وأعيد، فأقع على الدُرِّ الثمين، وأصطدم أيضًا بما هو دون ذلك، الذي تلقاه الخلف عن السلف دون تمحيص.
فأنت تعلم بالطبع أن علم التفسير يحتاج ممن يتصدى له إلى جملة علوم، أولها بإطلاق علوم اللغة العربية وعلم الحديث، وثانيها التاريخ، وثالثها العلوم الطبيعية والاجتماعية. ولكنه يحتاج أيضًا ممن يتصدى له إلى القدرة على تحقيق النصوص التي يستشهد بها من خارج القرآن والحديث الصحيح عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، في مصادرها المدونة بلغة الأصل الذي كتبت به، فلا يسمع لرواة أهل الكتاب – الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني كما وصفهم الحق تبارك وتعالى – دون تمحيص، وإنما يحقق ما يروى له في مصادره الأصلية، أي في التوراة والإنجيل. ولم تكن على عصر تفاسير القرآن ثمة ترجمة عربية للتوراة والإنجيل كما تجد لهما اليوم ترجمات بكل اللغات. ولم يكن من أهل التفسير من يستطيع قراءة التوراة والإنجيل في نصهما الأصلي، العبراني واليوناني، فيمحص ما يلقيه إليه رواة أهل الكتاب ليعلم أن قد صدق الرواة أم كذبوا ودلسوا، أو اخترعوا بغية لهو الحديث. ومن هذه تلك الإسرائيليات التي دسها صغار رواة أهل الكتاب من يهود على أهل التفسير
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/392]
وانخدع بها لفيف منهم، لا يخلو منها كتاب من كتب التفسير مهما جل قدر صاحبه، فيضل بها القارئ العام غير المتخصص، إلا من عصم ربك. وقد جرني هذا إلى تدارس «الكتاب المقدس» بشطريه – التوراة والإنجيل – في ترجماتهما العربية، ثم إلى مراجعة هذه الترجمة حين يُعضِل فهم وجه الصواب فيها، على الأصل العبراني للتوراة، والأصل اليوناني للإنجيل.
كنت – دون أن أدري – أعد لمادة هذا البحث الذي بين يديك، وأجمع أدواته. ولكن العبرانية – أعني عبرية التوراة لا العبرية المعاصرة – واليونانية الكنسية – لغة الأناجيل – لا تكفيان وحدَهما في تاصيل مقولات هذا البحث، بل لا بد من دراسة الآرامية – لغة أهل فلسطين على عصر المسيح – وأيضًا المصرية الهيروغليفية التي لا بد منها في تحليل أسماء بعض أعلام القرآن، كما رأيت في موسى وفرعون ومصر وسيناء. وقد أكرمني الله عز وجل منذ الصبا بشيء لا أحسبه اليوم إلا إعدادي لكتابة هذا البحث بالذات، وهو شغفي الذي لم أبرأ منه بعد بالدراسات اللغوية، الأمر الذي يسر لي العلم بعدة لغات، علم الباحث لا علم المتكلم ذرب اللسان. وكانت هذه نعمة من الله عز وجل، أتاحت لي الغوص في تلك اللغات – ومنها بائد – التي احتاجت إليها مباحث هذا الكتاب.
ولأن مقولة هذا الكتاب – القائلة بأن القرآن يفسر أعلامه الأعجمية في سياق الآيات بالترادف والتقابل والتعريب والترجمة والمشاكلة والسياق العام – مقولة جديدة غير مسبوقة، لا أعلم أحدًا لمح إليها من قبل، ناهيك بأن كتب فيها، فلن تجد بالطبع مراجع لهذا البحث في كتب سبقت، وإنما الأسانيد الأساسية لهذا البحث هي المراجع اللغوية فحسب، أي المعاجم المتخصصة. وقد عنيت في انتقاء هذه المراجع بما هو متاح منها في الأسواق، تيسيرًا على القاريء والناقد والخصم، ممن يودون التثبت من مقولات هذا الكتاب أو التصدي لها.
وقد اجتزأت من تفاسير القرآن بأوسعها في هذا العصر انتشارًا، وهو أيضًا أحكمها وأشملها، أعني تفسير الإمام القرطبي رحمه الله «الجامع لأحكام القرآن» الذي
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/393]
تتمنى ألا يخلو منه بيتُ مسلم. وفي هذا التفسير أيضًا فضيلة، هي اهتمامه بالتأصيل اللغوي، الذي يكمل النقص في معاجم اللغة العربية الحديثة المنتشرة في الأسواق، وأهما بالطبع «المعجم الوسيط» الصادر عن مجمع اللغة العربية بمصر.
أما كتب الحديث النبوي الشريف، فإني أرشح لك «صحيح مسلم» (بشرح النووي)، تجتزئ به عن غيره من كتب الصحاح الستة، ليس فقط لأنه رائج في المكتبات، وإنما أيضًا لأنه أخصر الصحاح بإطلاق فتأمن الزيادة والتزيد. وهو أيضًا – فيما تضمنه من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم - أدقها متنًا وأضبطها إسنادًا، إن استشهدت منه بحديث فقلت: خرجه مسلم! فقد كفيت. على أننا في هذا الكتاب لم نرد الاستكثار من الحديث، بل كان همنا الاستشهاد للقرآن بالقرآن نفسه، على ما يجدر ببحث في «التفسير القرآني» للعلم الأعجمي في القرآن.
أما القرآن كتاب الله عز وجل، فلديك مصحفك والحمد لله. وإني لأعوذ بوجهه الكريم أن يجنب هذا البحث هنات الطباعة في لفظ أو حرف من كلام الله عز وجل. وقد عينت في إيراد الآيات بذكر اسم السورة ورقم الآية، كي تراجعها معي على مصحفك فلا تتصحف عليك.
ولا تفوتني الإشارة إلى «المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم» للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله، الذي يدلك – بكلمة واحدة تحفظها من الآية – على رقم الآية واسم السورة في كتاب الله عز وجل، فلا يستغني عنه دارس للقرآن في هذا العصر الذي شح فيه حفاظ القرآن عن ظهر قلب، جزاه الله عن أهل القرآن خيرًا.
هناك أيضًا – على الجانب الآخر – التوراة والإنجيل، ولديك في المكتبات ترجماتهما العربية المعتمدة من السلطة الدينية المختصة. وتستطيع أيضًا – إن أردت – الرجوع إلى نصهما الأصلي العبراني واليوناني، وقد اثبت لك في قائمة المراجع اسم الناشر واسم المكتبة.
وقد عنيت في كل نص استشهدت به من «الكتاب المقدس» بشطريه – أعني التوراة والإنجيل – بذكر رقم الإصحاح ورقم «الآية». والإصحاح من التوراة والإنجيل
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/394]
يعني في مصطلح أهل الكتاب ما تعنيه «السورة» عند أهل القرآن، وهو أيضًا من معناها قريب، فهو مصدر من «الصحة» لا بمعنى السلامة من المرض والآفة، وإنما هو بمعنى الكمال والبراءة من النقص، فهو المكتمل غير مزيد فيه أو منقوص منه. أما «الآية» فقد استعاروها من مصطلحات أهل القرآن، وليست هي أصلاً بآية، وإنما هي السطر أو البيت في القصيد ونحوه verse أو هي العبارة أو الجملة المتكاملة. ولكنه تشبيه لا بأس به، يقرب المعنى إليك، كما يقربه إلى أهل الملة القارئين بالعربية لا يعرفون غيرها.
وقد كان من شأن اختيارنا تفسر الأعلام الأعجمية في القرآن بترتيبها التاريخي، لا بترتيبها على حروف الهجاء، اهتمامُنا برسم الإطار التاريخي لصاحب الاسم العلم والتعريف به. وكان هذا ضروريًا لتحليل معنى الاسم العَلَم الذي فُسر به في القرآن، فهو يحدد لك اللغة التي صيغ منها الاسم الأعجمي العَلَم، كما رأيت في الاسم «موسى»، وهو أيضًا يحدد لك مناسبة التسمية وانطباقها على المسمى، كما رأيت على سبيل المثال في الاسم «إبراهيم» الذي لا تستطيع بعد قراءة هذا الكتاب إلا أن تفسر معناه بما فسره به القرآن: «إمام الناس» لا «أبو جمهور كثيرين»، كما يظن علماء العبرية وعلماء التوراة.
وقد عرجنا أيضًا في سياق البحث على موضوعات وقضايا ربما يظنها القاريء المتعجل دخيلة على مباحث الكتاب، وهي منه في الصميم. ومن ذلك على سبيل المثال شرح عقيدة المسيحيين في المسيح، فما كان يمكن تفادي هذا الشرح إن أردت تحليل الاسم «عيسى» (يشوع العبرانية التي أصلها «يهوشوع») ولفظة «إنجيل» (التي رددناها إلى «هجليون» العبرانية بمعنى المرآة الجالية المجلوة) بحيث لا يصح لك بعد قراءة هذا الكتاب إلا أن تفسر الاسم «عيسى» بما فسره به القرآن: المُخَلِّصُ الناجي، لا المُخَلِّص المُنَجِّي كما يظن أصحاب الإنجيل، وإلا أن تفهم من لفظة «إنجيل» أنه المرآة الجالية المجلوة، أي «البينات» كما قالها القرآن، لا البشارة أو الخبر السار كما يظن عامةُ أهل الكتاب. وقد أفَضتُ في هذا شرحًا وتعقيبًا، كما أفضت في غيره من مباحث
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/395]
الكتاب، لأني أحببت أن أوفر على من يتصدون لانتقاد مقولات هذا الكتاب مؤونة الكر والفر، فحرصت على أن أسد عليهم مقدمًا منافذ القول: بذلت في هذا قصاراي، وما أدعي الكما، فالكمال لله وحده، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
ولئن كان هذا البحث يتناول واحدًا وستين اسمًا علمًا – أعجميا أو مشتبهًا في عجمته – فقد تناولنا بالتفسير أيضًا أعلامًا أخرى غير منصوصٍ عليها في القرآن، عَرَضَت لنا في سياق البحث، وكان تناولها ضروريًا في الإطار التاريخي لصاحب الاسم العلم، ومن ذلك الاسم «حواء» أم البشر والاسم «يوكابد» أم موسى، والاسم «مريام» أخت موسى وهرون، وغيرها. كما تناولنا بالتفسير أيضًا ألفاظًا عربية من مثل «أخت هرون»، «السامري»، «ذي الأوتاد»، «الحواريين»، «أدنى الأرض»، وغيرها كثير، مما فات معناه على جميع المفسرين، وهدينا إليه بفضل من الله ونعمة.
إلى هذا وذاك ترجع ضخامة هذا البحث، وإليه يُعزي أيضًا تفاوت حجم فصوله فيما بينها. بل قد شغلت فصوله الثلاثة الأولى التي تمهد لمباحثه نحوًا من خمس حجم الكتاب، ولكنها كما رأيت كانت ضرورية للدخول في مباحثه، على الأقل بالنسبة للقاريء العام غير المتخصص في موضوعه. على أننا حاولنا التخفيف من صرامة هذا التمهيد الجاف بطبيعته، فبثثنا فيه قسطًا من المرح، وشيئًا من التفكه، وكثيرًا من التشويق.
أما انطبقا منهج هذا البحث على نتائجه، فهو بفضل الله عز وجل الانطباق التام: لا تنتهي من قراءة هذا الكتاب إلا وقد سلمت معي بمقولته الأساسية، وهي أن القرآن لم يترك علما أعجميا ورد به إلا وقد فسر معناه بإحدى أدوات التفسير الست المستخدمة في مباحثه. ولا تفرغ منه أيضًا إلا وأنت تسبح معي العلي الخبير، القائل بكل اللغات، ومنها البائد المنقرض.
لم يخرج عن فرضية هذا البحث إلا لفظ واحد، هو «المجوس» التي لم تفسر في القرآن بأي من أدوات التفسير الست على منهجنا في هذا الكتاب، وقد بينا لك السبب في مبحث «المجوس».
أما الاسم «هامان»، قرين فرعون موسى ورئيس كهنة آمون فيما نقول نحن، الذي تراوحنا فيه بين الترجيح واليقين، أهو في القرآن على الترجمة لاسم هذا الرجل
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/396]
أو لقبه بمعنى «عظيم الهامة» ، أو هو تعريب غير مفسر من المصرية القديمة «ها + أمان» (هوة آمون) يعني «المدلف إلى آمنون»، فمرد توقفنا فيه يرجع كما مر بك في مبحث «هامان» إلى انعدام النظير الذي تقيس عليه مما عرف من تاريخ «فرعون موسى» وهو ما نرجو أن تجليه الأيام.
أما فرائد إعجاز القرآن في تفسير أعلامه الأعجمية على منهج هذا الكتاب، فهي عديدة: أعظمها بإطلاق علم القرآن وقت نزوله بما لم يعلمه مخلوقٌ حتى أواسط القرن التاسع عشر لميلاد المسيح وأوائل هذا القرن، من مثل موسى وفرعون ومصر وسيناء بلغة آل فرعون. وثانيها في الترتيب مخالفة القرآن أهل الكتاب في تفسير معاني أعلامهم، من مثل آدم ونوح وإبراهيم وموسى وداود وعيسى وأيضًا «إنجيل»: أخطأ أصحاب اللغة وأصاب القرآن.
وقد دأب لفيف من علماء القرآن في هذا العصر على التصدي لكل قائل بوجه من وجوه إعجاز القرآن «العلمي»، أعني سبق القرآن إلى هذه النظرية أو تلك مما ينكشف للعلم الحديث، يخشون أن تنهار «النظرية» فينهار وجه الإعجاز، فكم انتقل العلم بنظرياته في القرون الثلاثة الأخيرة من النقيض إلى النقيض. وقد بالغ بعضهم في هذا فرد القول بأن في الآية الكريمة: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون} [النحل: 88] ما يشهد لدوران الأرض حول محورها قبل أن يقولها جاليليو ويحاكم من أجلها في أوائل القرن السابع عشر، وهي الآن قانون لا يشك فيه أحد: آثروا الوقوف عدما قاله قدامى المفسرين فقالوا هذا من مشاهد يوم القيامة! وأهملوا تعقيبه عز وجل: «صنع الله الذي أتقن كل شيء» الذي لا يقال في مشاهد يوم القيامة. هذا التحرز، وإن حسنت النيات، مرذول، لأنه يطمس أعظم ما في القرآن: دليلُ العلم ودليل القدرة، الشاهدُ له عصرًا بعد عصر بأنه الحَقُ من الحَقِّ نزل: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} [فصلت: 53]. على أن هذا اللفيف من علماء القرآن – حَسِنِي النية – الذين يضربون على أيدي «العلميين» المعاصرين المسلمين ليزجروهم عن التفسير «العلمي» للآيات «العلمية» في القرآن بغير ما فسرت به في
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/397]
كتب التفسير حتى عصر القرطبي في القرن السابع الهجري، لا يقفون من قُدامى المفسرين هؤلاء نفس الموقف، بل يغضون الطرف على اجتهادات أولئك المفسرين القدماء في فهم تلك الآيات العلمية في القرآن بحسب التصور «العلمي» الذي تحقق لهم في عصرهم. ولم يقل أحد أن انهيار قول المفسرين القدماء في تفسير هذه الآية أو تلك من الآيات العلمية في القرآن، قد نال من هيبة القرآن، فلا قداسة لقول إلا قول الله وقول رسوله: سقط التفسير القديم الذي صيغ في حدود التصور العلمي السائد في عصر هذا المفسر أو ذاك، وحل محله تفسير أصح منه، يطابق ما ارتقى إليه العلم. لا تثريب على هذا أو ذاك.
والذي ينبغي التنبيه إليه أن تفاسير القرآن في كل عصر، إنما يعكس كل منها علوم عصره، أعني «حالة العلم» في العصر الذي كُتِبَت فيه. ومن عجائب القرآن في مقولاته «العلمية» تلك الصياغة التي اتسعت لكل التفاسير في كل عصر بمفهوم العصر، يأخذ كل عصر بحظه من فهمها، وهي مع ذلك صياغة غاية في الدقة، لا يرقى إلى إحكامها قول بشر، وليس الإعجاز «العلمي» في القرآن هو فحسب سبقه إلى هذه الحقيقة العلمية أو تلك، وإنما هو أيضًا وبالأخص انطباقٌ مقولة القرآن على كل مقولة يكتشفُها العلم، أو «يصححها» العلم، لا تستطيع البتة مهما تقدم العلم وتبدلت النظريات أن تخطيء القرآن في مقولة علمية واحدة قال بها، وإنما تخطيء تفسيرك «القديم» لهذه المقولة التي في القرآن: ما أن تنبذ مقولة علمية اكتشف العلم خطأها حتى ترجع إلى تفسيرك «القديم» فتكتشف خطأ هذا التفسير الذي تعجلت فيه، وتندهش كيف فاتك هذا اللفظ أو ذاك، أخطأت وأصاب القرآن، كلام الله القديم.
هذا الإعجاز الدائم المستمر، دليل العلم الكلي المطلق، إعجاز يعظ به الله الذين آمنوا في كل عصر إلى قيام الساعة، فيزيدهم إيمانًا. أما الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم، فذرهم في جهالتهم، وما لهؤلاء نكتب هذا الكتاب.
أما هذا الوجه الجديد من إعجاز القرآن الذي فتح الله علينا به في هذا الكتاب، فهو الإعجاز «المعجز»، لأنه إعجاز محسوم، مقطوع به، لا يستطيع المعاند له دحضا.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/398]
قد يجوز في مقولات القرآن العلمية أن يتصدى لك الجاحد المكابر فيقول لك: ومن أدراك أن مقولة القرآن التي صدقت في الماضي والحاضر ستصدق أيضًا في المستقبل وباب العلم مفتوح، وربما ينكشف للعلميين غدًا قول جديد يناقض مقولة القرآن؟
مثل هذا لا يجوز على مقولات هذا الكتاب الذي بين يديك، فلفظة «فرعون» على سبيل المثال («ﭘرعا» في المصرية القديمة) التي تعني عند علماء المصريات «البيت الكبير» (أو «الصريح» كما فسرت في القرآن) لا يمكن أن تعني غدًا أو بعد غد وإلى قيام الساعة شيئًا آخر غير البيت الكبير أو الصرح، أو أن المصريين القدماء يمكن أن ينقلوا هذا اللفظ عن معناه في لغته، كما يحدث في غيرها من اللغات، فقد انقرض المصريون القدماء وبادت لغتهم. قد انتهى الأمر، وأصبحت مقولة «فرعون = الصرح» حقيقة علمية لا تقبل التعديل إلى قيام الساعة، كحقيقة دوران الأرض حول محورها التي عاينها رواد الفضاء مثلما عاينوا الليل الذي ينسلخ منه النهار. وقد قالها القرآن «فرعون = الصرح» قبل ثلاثة عشر قرنًا من يوم كانت اللغة المصرية القديمة، والتاريخ المصري القديم، طلاسم مطلسمة، لم يأخذ من أهل التوراة أن معناها «الملك» كما وهموا، بل قد علم القرآن منذ متى كني المصريون القدماء عن ملوكهم بلقب «فرعون» فخص به فرعون موسى وحده، لم يسم بها فرعون إبراهيم أو فرعون يوسف كما قال كتبة التوراة، وإنما قال «الملك». ولم يكتف القرآن بهذا بل حدد لك من هو الفرعون المعني، فقال «فرعون ذو الأوتاد».
هذا هو دليل العلم الكلي المطلق. ليس إلى نقضه من سبيل.
والحمد لله رب العالمين.
اللهم اجعل هذا العمل خالصًا لوجهك، نافعًا لعبادك، تهدي به من تشاء إلى صراطك المستقيم.
الإسكندرية في 27 رمضان سنة 1411هـ 12 إبريل سنة 1991م).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 389-399]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الأعجمي, العَلم


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:49 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir