دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > الفتوى الحموية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 3 محرم 1432هـ/9-12-2010م, 04:22 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي 5: ما روي عن الأئمة أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وابن المديني والترمذي وأبي زرعة الرازي

وَفِي كِتَابِ ( الْفِقْهِ الأَكْبَرِ) الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي رَوَوْهُ بِالإِسْنَادِ عَنْ أَبِي مُطِيعٍ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيِّ؛ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنِ الْفِقْهِ الأَكْبَرِ.
فَقَالَ: لاَ تُكَفِّرَنَّ أَحَدًا بِذَنْبٍ، وَلا تَنْفِ أَحَدًا بِهِ مِن الإِيمَانِ، وَتَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ. وَلا تَتَبَرَّأُ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، وَلا تُوَالِي أحدًا دُونَ أَحَدٍ، وَأَنْ تَرُدَّ أَمْرَ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: ( الْفِقْهُ الأَكْبَرُ فِي الدِّينِ خَيْرٌ مِنَ الْفِقْهِ فِي الْعِلْمِ، وَلئنْ يَفْقَهَ الرَّجُلُ كَيْفَ يَعْبُدُ رَبَّهُ خَيْرٌ له مِنْ أَنْ يَجْمَعَ الْعِلْمَ الْكَثِيرَ ). أ هـ.
قَالَ أَبُو مُطِيعٍ: ( الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ ) قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ أَفْضَلِ الْفِقْهِ قَالَ: تُعَلِّمُ الرَّجُلَ الإِيمَانَ وَالشَّرَائِعَ وَالسُّنَنَ، وَالْحُدُودَ، وَاخْتِلافَ الأَئِمَّةِ. وَذَكَرَ مَسَائِلَ الإِيمَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَسَائِلَ الْقَدَرِ، وَالرَّدَّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ بِكَلامٍ حَسَنٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ.
ثُمَّ قَالَ: قُلْت: فَمَا تَقُولُ فِيمَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ فَيَتَّبِعُهُ عَلَى ذَلِكَ أُنَاسٌ فَيَخْرُجُ عَلَى الْجَمَاعَةِ هَلْ تَرَى ذَلِكَ؟ قَالَ: لاَ. قُلْتُ: وَلِمَ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِالأَمْرِ الْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَهُوَ فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ؟ قَالَ: هو كَذَلِكَ، وَلَكِنْ مَا يُفْسِدُونَ أَكْثَرُ مَا يُصْلِحُونَ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَاسْتِحْلالِ الْحَرَامِ.
قَالَ: وَذَكَرَ الْكَلامَ فِي قِتَالِ الْخَوَارِجِ وَالْبُغَاةِ إِلَى أَنْ قَالَ: قَالَ ( أَبُو حَنِيفَةَ ) عَمَّنْ قَالَ: لاَ أَعْرِفُ رَبِّي فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الأَرْضِ: فَقَدْ كَفَرَ؛ لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ.
قُلْت: فَإِنْ قَالَ: إِنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ: لاَ أَدْرِي، الْعَرْشُ فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الأَرْضِ؟ قَالَ: هُوَ كَافِرٌ؛ لأَنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ فِي السَّمَاءِ؛ لأَنَّهُ تَعَالَى فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَأَنَّهُ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لاَ مِنْ أَسْفَلَ - وَفِي لَفْظٍ - سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَمَّنْ يَقُولُ: لاَ أَعْرِفُ رَبِّي فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الأَرْضِ؟. قَالَ: قَدْ كَفَرَ؛ قال: لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، قَالَ: فَإِنَّهُ يَقُولُ: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَلَكِنْ لاَ يَدْرِي الْعَرْشَ فِي الأَرْضِ أَوْ فِي السَّمَاءِ، قَالَ: إِذَا أَنْكَرَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ فَقَدْ كَفَرَ(1).
فَفِي هَذَا الْكَلامِ الْمَشْهُورِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ كَفَّرَ الْوَاقِفَ الَّذِي يَقُولُ: لاَ أَعْرِفُ رَبِّي فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الأَرْضِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْجَاحِدُ النَّافِي الَّذِي يَقُولُ: لَيْسَ فِي السَّمَاءِ [ أَوْ لَيْسَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ] وَاحْتُجَّ عَلَى كُفْرِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } قَالَ: وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ.
وَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } يُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَأَنَّ الاسْتِوَاء عَلَى الْعَرْشِ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ بنَفْسه فَوْقَ الْعَرْشِ.
ثُمَّ إنَّه أَرْدَفَ ذَلِكَ بِتَكْفِيرِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى. وَلَكِنْ تَوَقَّفَ فِي كَوْنِ الْعَرْشِ فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الأَرْضِ؟ قَالَ: لأَنَّهُ أَنْكَرَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ؛ لأَنَّ اللَّهَ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَأَنَّهُ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لاَ مِنْ أَسْفَلَ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ بِتَكْفِيرِ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ، وَاحْتُجَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَأَنَّهُ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لاَ مِنْ أَسْفَلَ، وَكُلٌّ مِنْ هَاتَيْنِ الْحُجَّتَيْنِ فِطْرِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ مَفْطُورَةٌ عَلَى [ الإِقْرَارِ ] بِأَنَّ اللَّهَ تعالى فِي الْعُلُوِّ، وَعَلَى أَنَّهُ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لاَ مِنْ أَسْفَلَ، وَقَدْ جَاءَ اللَّفْظُ الآخَرُ صَرِيحًا عَنْهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: إِذَا أَنْكَرَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ فَقَدْ كَفَرَ.
وَرَوَى هَذَا اللَّفْظَ بإسناد عَنْهُ شَيْخُ الإِسْلامِ أَبُو إِسْمَاعِيلَ الأَنْصَارِيُّ الْهَرَوِيُّ فِي كِتَابِ ( الْفَارُوقُ ).
وَرَوَى أَيْضًا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّ هِشَامَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّازِيَّ - صَاحِبَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، قَاضِيَ الرَّيِّ، حَبَسَ رجلاً فِي التَّجَهُّمِ، فَتَابَ فَجِيءَ بِهِ إِلَى هِشَامٍ لِيُطْلِقَهُ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى التَّوْبَةِ، فَامْتَحَنَهُ هِشَامٌ فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ، وَلا أَدْرِي مَا بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ،قَالَ:( رُدُّوهُ إِلَى الْحَبْسِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتُبْ )(2).
وَرَوَى أيضًا عَنْ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ الرَّازِيِّ أَنَّهُ قَالَ: ( إِنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ بَائِنٌ مِن الْخَلْقِ)، وَقَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا، لاَ يَشُكُّ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ إِلاَّ جَهْمِيٌّ رَدِيءٌ ضِلِّيلٌ، وَهَالِكٌ مُرْتَابٌ، يَمْزُجُ اللَّهَ بِخَلْقِهِ وَيَخْلِطُ مِنْهُ الذَّاتَ بِالأَقْذَارِ وَالأَنْتَانِ.
وَرَوَى أَيْضًا عَنِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ لَمَّا سُئِلَ مَا قَوْلُ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ؟ قَالَ: ( يُؤْمِنُونَ بِالرُّؤْيَةِ وَالْكَلامِ، وَأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) فَسُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } فَقَالَ: اقْرَأْ مَا قَبْلَهَا { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ }(3).
وَرَوَى أيضًا عَنْ أَبِي عِيسَى التِّرمِذِيِّ قَالَ: ( هُوَ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا وَصَفَ فِي كِتَابِهِ، وَعِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ وَسُلْطَانُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ).
وَرَوَى عَنْ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ أَنَّهُ لما سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } فَقَالَ: ( تَفْسِيرُهُ كَمَا يُقْرَأُ، هُوَ عَلَى الْعَرْشِ، وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، ومَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ.
وَرَوَى أَبُو الْقَاسِمِ اللاَّلَكَائِيُّ – الحافظ الطبري صَاحِبُ أَبِي حَامِدٍ الإِسْفَرَايِينِيِّ - فِي كتابه المشهور في ( أُصُولِ السُّنَّةِ) بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ - قَالَ: ( اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ عَلَى الإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ والأَحَادِيثِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم فِي صِفَةِ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ: مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ وَلا وَصْفٍ وَلا تَشْبِيهٍ، فَمَنْ فَسَّرَ الْيَوْمَ شَيْئًا مِنْها فَقَدْ خَرَجَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَصِفُوا وَلَمْ يُفَسِّرُوا، وَلَكِنْ أَفْتَوْا بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ثُمَّ سَكَتُوا، فَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ جَهْمٍ فَقَدْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ، لأَنَّهُ قَدْ وَصَفَهُ بِصِفَةِ لاَ شَيْءَ ). أ هـ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَخَذَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَطَبَقَتِهِمَا مِنَ الْعُلَمَاءِ.
وَقَدْ حكَى هَذَا الإِجْمَاعَ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ تَصِفُهُ بالأُمُورِ السَّلْبِيَّةِ غَالِبًا، أَوْ دَائِمًا.
وقَوْلُهُ: ( مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ ) أَرَادَ بِهِ تَفْسِيرَ الْجَهْمِيَّةِ الْمُعَطِّلَةِ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا تَفْسِيرَ الصِّفَاتِ بِخِلافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ مِن الإِثْبَاتِ(4).


  #2  
قديم 3 محرم 1432هـ/9-12-2010م, 04:24 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي تعليق سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله

(1) وهذا واضحٌ في مَذْهَبِه رَحِمَهُ اللَّهُ، وأنَّه على طريقِ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ في هذا البابِ؛ لأنَّ إنكارَ كونِ العرشِ في السماءِ إنكارٌ لوجودِ اللَّهِ في السماءِ، واللَّهُ يقولُ: {ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}، {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}. فمَن أنْكَرَ أنَّ اللَّهَ في السماءِ، أو أنَّ اللَّهَ فوقَ العرشِ فقدْ كَفَرَ، كما قالَ الإمامُ أبو حنيفةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وهذا إجماعُ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ، وأنَّ الواجبَ على أهلِ الإسلامِ الإيمانُ بأنَّ اللَّهَ في السماءِ فوقَ العرشِ، وعِلْمَه في كلِّ مكانٍ سبحانه وتعالى، لا تَخْفَى عليه خافيةٌ.
وكذلك قولُه: إنَّ الفقهَ الأكبرَ مِن علومِ العقائدِ. لأنَّ الفروعَ تابعةٌ للعقيدةِ، فعِلْمُ البيعِ والشراءِ والإجارَةِ والنِّكَاحِ والطلاقِ، هذه مِن الفروعِ تابعةٌ للعقيدةِ والإيمانِ، فالفقهُ الأكبرُ هو العلومُ المُتَعَلِّقَةُ بتوحيدِ اللَّهِ والإيمانِ به سبحانه وتعالى، والإيمانِ بما أخْبَرَ به عن نفسِه مِن صفاتِه وأسمائِه، والإيمانِ بملائكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليومِ الآخرِ، وبالقَدَرِ خَيْرِه وشَرِّهِ.
فالواجبُ على كلِّ مؤمنٍ أنْ يَعْرِفَ هذه الأمورَ، وأنْ يَعْتَقِدَها كما قالَه السلفُ الصالِحُ، وأنْ يَسِيرَ عليها مُؤْمِناً بأنَّ اللَّهَ في السماءِ فوقَ العرشِ، وعِلْمَه في كلِّ مكانٍ، وأنه سبحانه ذُو الأسماءِ الحسنى والصفاتِ العُلَى، لا شَبِيهَ له ولا كُفْءَ له، ولا نِدَّ له، ولا يُقَاسُ بخلقِه سبحانه وتعالى، وأنَّ الواجبَ إثباتُ أسمائِه وصفاتِه على الوجهِ اللائقِ به، مِن غيرِ تحريفٍ , ولا تعطيلٍ، ولا تكييفٍ , ولا تمثيلٍ.
ولهذا أنْكَرَ أبو حَنِيفَةَ على هؤلاءِ الَّذِين يَخْرُجُونَ على السلطانِ، ويقولُ: إنهم يُفْسِدُونَ أكثرَ مما يُصْلِحُونَ، فالواجبُ عليهم إنكارُ المُنْكَرِ والدعوةُ إلى الخيرِ، لكن بغيرِ السِّلاَحِ.
أمَّا الخُرُوجُ بالسلاحِ لقتلِ المسلمينَ، ولقتلِ أولياءِ الأمورِ بزَعْمِهِم أنَّهم يُنْكِرُونَ المُنْكَرَ، فهذا عَمَلُ الخوارِجِ، وعَمَلُ المُعْتَزِلَةِ الذي أفْسَدُوا فيه أكثرَ مما أَصْلَحُوا، وفَعَلُوا خِلافَ ما أَمَرَ به النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قالَ: ((مَنْ رَأَى مِنْ الأَمِيرِ شَيْئاً فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلْيَكْرَهُ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلاَ يَنْزِعَنَّ يَداً مِنْ طَاعَةٍ)).
ولَمَّا قالَ: ((إِنَّهُ يَلِي عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ)). قال: أفلا نُقَاتِلُهُم؟ قال: ((لاَ، أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ)).
ولكنْ هؤلاءِ الذين أيضاً يُقاتَلُونَ لا يَجُوزُ الخروجُ عليهم إلا على بَصيرةٍ، وعلى علمٍ، وعلى قُدرةٍ أنَّهم يُزِيلُونَ المنكرَ، أما هؤلاءِ الجَهَلَةُ الذين يُرِيدُونَ الخروجَ بزَعْمِهِم فيَقْتُلُونَ النَّاسَ , ويُؤْذُونَهُم , ويَقْتُلُونَ المسلمينَ على غيرِ بَصيرةٍ، هؤلاءِ ليسَ لهم خُرُوجٌ، إنَّما الخروجُ على مَن قَدَرَ على ذلك، ورَأَى كُفْراً بَوَاحاً على قومٍ ما أقاموا الصلاةَ , أو أَظْهَرُوا كفراً بَوَاحاً غيرَ ذلك، بشرطِ أنْ يكونَ ذلك القيامُ يَحْصُلُ به المقصودُ , ولا يَحْصُلُ به ما هو أنْكَرُ منه. نَسْأَلُ اللَّهَ العافِيَةَ.
(2) معنى بائِنٍ، يعني: مُنْفَصِلٍ مِن خَلْقِه، يعني: فوقَ العرشِ , فوقَ جميعِ الخَلْقِ، سبحانه وتعالى.
(3) يعني: أنَّه معَهم بعلمِه واطِّلاعِه عليهم، وهو فوقَ العرشِ سبحانه وتعالى، لا تَخْفَى عليه خافيةٌ جلَّ وعلا، ولهذا بَدَأَ الآيةَ بالعلمِ وخَتَمَها بالعلمِ.
(4) وهذا الذي قاله مُحَمَّدُ بنُ الحسنِ هو مذهبُ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ، وهو إجماعُ أصحابِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ، وهو إمرارُ آياتِ الصفاتِ وأحاديثِها كما جاءَتْ مِن غيرِ تأويلٍ، بل يُمِرُّونها كما جاءَتْ معَ الإيمانِ بها، واعتقادِ أنَّها حقٌّ، ولا تُفَسَّرُ بتفسيرِ الجَهْمِيَّةِ، وهو تأويلُها لها وسَلْبُها ونَفْيُها أو تَكْييفُها، كلُّ هذا باطلٌ، بل تُمَرُّ كما جاءَتْ، معَ الإيمانِ بأنَّها حقٌّ، وأنَّها صفاتٌ للهِ لائقةٌ به، وأنَّها صفاتُ كمالٍ، ليسَ فيها نقصٌ وليسَ فيها تشبيهٌ للهِ بخلقِه، فيَقْرَؤُونَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}، {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}, {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ}، ((يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ كِلاَهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ))، ((إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ)) إلى غيرِ هذا، فيُمِرُّونها كما جاءَتْ؛ صفةُ الرحمةِ، صفةُ الغضبِ، صفةُ الرضا، اليَدُ، الوجهُ... إلى غيرِ هذا.
ويَعْلَمُونَ أنَّها حقٌّ، وأنَّها صفاتٌ لائقةٌ باللَّهِ، ثابتةٌ للهِ على الوجهِ اللائقِ به سبحانه وتعالى، كما يقولُ جلَّ وعلا: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}، {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ}، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، هكذا أهلُ السنَّةِ والجماعةِ، يُمِرُّونَهَا معَ الإيمانِ بها، وأنَّها حقٌّ، أما تأويلُ الجَهْمِيَّةِ والمُعْتَزِلَةِ والأشاعرةِ وغيرِهم، فهذا كلُّه لا يَصْلُحُ، كلُّه باطلٌ.


  #3  
قديم 29 صفر 1435هـ/1-01-2014م, 08:13 PM
سليم سيدهوم سليم سيدهوم غير متواجد حالياً
برنامج الإعداد العلمي - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2011
الدولة: ليون، فرنسا
المشاركات: 1,087
افتراضي شرح الشيخ يوسف بن محمد الغفيص


[وفي كتاب الفقه الأكبر المشهور عند أصحاب أبي حنيفة ; الذي رووه بالإسناد عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي قال: سألت أبا حنيفة عن الفقه الأكبر فقال: لا تكفرن أحدا بذنب ولا تنف أحدا به من الإيمان; وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر; وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولا تتبرأ من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم; ولا توالي أحدا دون أحد; وأن ترد أمر عثمان وعلي إلى الله عز وجل.
قال أبو حنيفة: الفقه الأكبر في الدين خير من الفقه في العلم; ولأن يفقه الرجل كيف يعبد ربه خير له من أن يجمع العلم الكثير.
قال أبو مطيع الحكم بن عبد الله: قلت: أخبرني عن أفضل الفقه.
قال: تعلم الرجل الإيمان والشرائع والسنن والحدود واختلاف الأئمة.
وذكر مسائل الإيمان ثم ذكر مسائل القدر والرد على القدرية بكلام حسن ليس هذا موضعه.
ثم قال: قلت: فما تقول فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيتبعه على ذلك أناس فيخرج على الجماعة هل ترى ذلك؟ قال لا.
قلت: ولم وقد أمر الله ورسوله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو فريضة واجبة؟ قال هو كذلك; لكن ما يفسدون أكثر مما يصلحون من سفك الدماء واستحلال الحرام.
قال: وذكر الكلام في قتل الخوارج والبغاة.
إلى أن قال: قال أبو حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض: فقد كفر لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وعرشه فوق سبع سموات.
قلت: فإن قال إنه على العرش استوى ولكنه يقول لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر; لأنه أنكر أن يكون في السماء; لأنه تعالى في أعلى عليين وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل.
-وفي لفظ-: سألت أبا حنيفة عمن يقول لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض.
قال: قد كفر.
قال: لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وعرشه فوق سبع سموات قال: فإنه يقول على العرش استوى ولكن لا يدري العرش في الأرض أو في السماء قال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر.
ففي هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة عند أصحابه: أنه كفر الواقف الذي يقول: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض; فكيف يكون الجاحد النافي الذي يقول ليس في السماء; أو ليس في السماء ولا في الأرض؟ واحتج على كفره بقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] قال: وعرشه فوق سبع سموات.
وبين بهذا أن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] يبين أن الله فوق السموات فوق العرش وأن الاستواء على العرش دل على أن الله بنفسه فوق العرش.
ثم إنه أردف ذلك بتكفير من قال إنه على العرش استوى ولكن توقف في كون العرش في السماء أم في الأرض قال: لأنه أنكر أنه في السماء; لأن الله في أعلى عليين; وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل.
وهذا تصريح من أبي حنيفة بتكفير من أنكر أن يكون الله في السماء; واحتج على ذلك بأن الله في أعلى عليين وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية فإن القلوب مفطورة على الإقرار بأن الله في العلو وعلى أنه يدعى من أعلى لا من أسفل وقد جاء اللفظ الآخر صريحا عنه بذلك.
فقال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر.
].

هذا الكتاب مشهور لـ أبي حنيفة، وإذا قيل: مشهور لـ أبي حنيفة؛ فلا يعني أنه يجزم بأنه صحيح إليه، فهو كتاب مشهور في أصول الدين، وهو يضاف إلى أبي حنيفة على أنه من تصنيفه، أو على أقل تقدير على أنه من إملائه.
وقد شرح هذا الكتاب كثير من علماء الحنفية، فشرحه بعض أهل السنة من الحنفية كما يشير إلى ذلك بعض المحققين من الباحثين، وشرحه -وهي الشروح المشهورة أكثر- بعض أعيان الماتريدية، ويذكر أن لـ أبي منصور الماتريدي الحنفي مؤسس المذهب الماتريدي شرحاً على هذا الكتاب.
وفي نسبة هذا الكتاب لـ أبي حنيفة خلاف بين أهل العلم، فإن أبا حنيفة رحمه الله لم يصح له كتاب بالجزم في مسائل أصول الدين، لا هذا الكتاب، وهو أشهر الكتب المضافة إليه، ولا غيره من الرسائل: كالوصية، والرسالة الجامعة وغيرهما.
هناك قدر محفوظ مما يتعلق بالعقائد عن أبي حنيفة، وهو مشتهر بين أهل العلم، وهو قوله رحمه الله في مسألة الإيمان، فإن المشهور عن أبي حنيفة أنه يقول بقول حماد بن أبي سليمان في مسمى الإيمان، فيجعل الأعمال الظاهرة ليست داخلةً في مسمى الإيمان.
وهذا القول يذكره الأحناف في كتبهم، وكذلك يذكره غيرهم من الطوائف، سواء الفقهية أو الكلامية، والأظهر أنه متحقق عنه، وإن كان بعض أعيان المتكلمين -كـ البغدادي وغيره- يشيرون تارةً إلى التردد في ثبوت هذا عن أبي حنيفة، لكن الأظهر أن هذا معروف عنه.
فإن إثبات هذا الأمر عنه عليه جمهور أهل المقالات والمتكلمين والفقهاء من الحنفية وغيرهم، وإن لم يكن هذا الإثبات عن تصنيف معروف لـ أبي حنيفة وإنما بالنقل عنه، وهذا ليس غريباً؛ لأن حماد بن أبي سليمان هو الذي قرر هذه المقالة في مسألة الإيمان.
وبعض أهل العلم ينزع إلى أن حماد بن أبي سليمان يميل إلى هذه المقالة في الرد على مقالات الوعيدية، وبخاصة مقالات الخوارج والمعتزلة، فكان من باب الرد على الوعيدية أن قرر هذه المقالة، وهذا ليس غريباً؛ لأن كثيراً من مقالات الإرجاء وقعت رداً على طوائف الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم من الوعيدية.
فهؤلاء يقولون: إن الإيمان قول واعتقاد.
أو يقولون: إن الإيمان يكون بالقول والقلب.
ولا يجعلون أعمال الجوارح داخلة في مسمى الإيمان وإن كانوا يوجبونها، حتى إن حماد بن أبي سليمان وأبا حنيفة ومن وافقهم -في الجملة- في مسألة الأحكام -أي: حكم مرتكب الكبيرة في الآخرة- على مذهب جمهور أهل السنة.
والتحقيق في شأن حماد بن أبي سليمان هو أنه من علماء السنة والجماعة، ولا يصح أن يضاف إلى البدع المطلقة، وإن كان قوله بدعة، لكنه إذا ذكر يضاف إلى أهل السنة والجماعة من حيث الإطلاق.
وهذا القول هو -باعتبار ما تقدم في كلام أهل العلم- هو أخف المقالات التي نسبت للمرجئة، وهو ما يعرف بمقالة مرجئة الفقهاء، وهؤلاء يتفقون مع جمهور السلف في الحكم وإن كانوا يقولون: العمل لا يدخل في مسمى الإيمان، ولا يقرون بأن الإيمان يتفاضل، بل الإيمان عندهم واحد، حتى إن الطحاوي رحمه الله مع تحقيقه ذكر هذا فقال: والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء.
ويجعلون التفاضل بالبر والتقوى.
إذا قيل: هل الخلاف بين حماد بن أبي سليمان والجمهور خلاف لفظي أو ليس لفظياً؟ قيل: هذا الحرف -وهو قولك: خلاف لفظي- صار فيه إجمال، فإن معنى هذا الحرف في كتب أهل أصول الفقه أي: الخلاف الذي ليس له ثمرة، فإن قصد أنه خلاف لا ثمرة له، وأنه نزاع لفظي محض فهذا ليس صحيحاً؛ لأن حماداً وأبا حنيفة ومن وافقهم مخالفون للكتاب والسنة في أنهم لم يجعلوا العمل إيماناً، وهذه مخالفة شرعية؛ ولهذا بدَّع السلف رحمهم الله من قال بهذه المقالة، وهم مخالفون كذلك للكتاب والسنة من جهة أنهم لم يروا تفاضل الإيمان، والدلائل متواترة في القرآن والحديث على أن الإيمان يتفاضل، وأنه يزيد وينقص، وإن كان لفظ النقص لم يصرح به في القرآن، ولم يصرح به في السنة في الجملة إلا في مثل قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (وما رأيت من ناقصات عقل ودين).
ولهذا كان السلف يستدلون على نقص الإيمان بطريق إثبات الزيادة، فإن كل ما يزيد فإنه ينقص، قال الإمام أحمد لما سئل عن نقص الإيمان: ألم يقل الله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76] قالوا: بلى.
قال: فكل ما يزيد ينقص.
وأما الاستدلال بحديث: (وما رأيت من ناقصات عقل ودين) فبعضهم لا يسلم به، معللاً ذلك بأن هذا ليس نقصاً من جهة تقصير العبد حتى يقال: الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وإنما هو أمر قضي على النساء، وهو ما يتعلق بتركها الصوم والصلاة في مسألة الحيض.
ولكن التحقيق: أن هذا الحديث دليل على نقص الإيمان؛ لأنه إذا وصف الدين بالنقص -والدين هو الإيمان- بما لا مقصد للعبد ولا أثر له فيه، فمن باب أولى إذا كان بأثره وتفريطه؛ أي: إذا كان الشارع سماه نقصاً مع أنه ليس من جهة العبد وأثره فلأن يكون نقصاً إذا كان من تفريط العبد من باب أولى.
هنا بعض المسائل أيضاً منها: أن حماد بن أبي سليمان ومن معه التزموا أن تارك العمل لا يكفر وبخاصة في مسألة الصلاة، وهم لم يلتزموا هذا من جهة تفصيل الأدلة، كما هي طريقة مالك والشافعي وابن شهاب وأبي ثور ومكحول الشامي وأمثالهم من السلف الذين لا يكفرون تارك الصلاة، فإن هؤلاء لا يكفرونه باعتبار الدلائل التي يستعملونها على التفصيل، بخلاف طريقة حماد وأبي حنيفة؛ فإنهم لا يكفرون تارك الصلاة؛ لأن الصلاة عمل، والعمل لا يدخل في مسمى الإيمان.
لو قيل: هل الذي لا يكفر تارك الصلاة وقع في قول المرجئة؟ نقول: فيه تفصيل، فإن كان معتبره في عدم تكفيره أن الصلاة عمل والعمل لا يدخل في مسمى الإيمان كما هي طريقة أبي حنيفة وأصحابه، فلا شك أن هذا من مقالات المرجئة، وقد عرف حماد ومن معه بأن قولهم من مقالات المرجئة، وذمهم السلف عليه، وذم السلف لمقالة حماد متواترة، وليس هو قول سائر أهل الكوفة؛ فقد ذكر أبو عبيد القاسم بن سلام أعيان الناس من الأئمة الكبار الذين صرحوا أن الإيمان قول وعمل، ونقل عن أعيان الكوفيين أكثر مما نقله عن غيرهم؛ لأن القول بالإرجاء عن حماد شاع في بعض الكوفيين، فحتى لا يظن أن علماء الكوفة قد أطبقوا عليه بيّن أبو عبيد وأمثاله من الأئمة الكبار -كالإمام أحمد في كتاب الإيمان - أن هذا قول شائع في الكوفيين، وأن قول حماد ليس قولاً لسائر الكوفيين.
أما من يقول: إن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، أو يزيد وينقص، ولا يكفر تارك الصلاة؛ لأنه لم يظهر له أنه كافر بدلائل معينة مفصلة من الدلائل الشرعية، فهذا القول وإن كان مرجوحاً فيما يظهر -والله أعلم- إلا أنه ليس قولاً بدعياً وليس قولاً منكراً ولا قولاً من أقوال المرجئة ولا أثراً من آثارهم.
فإنه كيف يقال: إنه قول من أقوال المرجئة، وأثر من آثارهم، أو هم الذين أحدثوه وقد قال به ابن شهاب ومكحول الشامي ومالك بن أنس والشافعي في الصحيح عنه وأبو ثور وجماعة من الكبار؟! وقد كان ابن شهاب رحمه الله من أعلم الناس بالسنن والآثار، ومن أشد الناس على المرجئة، فلا يمكن أن يكون قد تأثر بمقالات المرجئة.
وإن كان يشكل على هذا بعض الشيء ما ذكره إسحاق بن إبراهيم من أن الإجماع قد انعقد على كفر تارك الصلاة، لكن نقول: إن الإجماع الذي ذكره إسحاق فيه بعض التردد، إلا إن قيل: إنه إجماع سكوتي، فهذا قد يسلم به، أما أنه إجماع قطعي كإجماع السلف على أن الإيمان قول وعمل فليس كذلك.
أما إن كان إجماعاً سكوتياً فهذا قد يسلم، ولا إشكال فيه في الجملة باعتبار أن طائفة من الصحابة حفظ عنهم أن ترك الصلاة كفر، ولم يحفظ عن أحد من الصحابة خلاف هذا.
إذاً: من أقوى الأدلة بعد الاستدلال بظاهر قوله تعالى في آية براءة: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] وقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] والاستدلال بحديث بريدة وجابر بن عبد الله، بعد هذا يقال: أخص دليل بعد ذلك إطباق الصحابة، حيث شاع هذا القول فيهم -أي: أن ترك الصلاة كفر- ولم ينقل عن أحد منهم منازعة في هذا.
كذلك يقال في أثر عبد الله بن شقيق: كان أصحاب محمد لا يرون شيئاً من العمل تركه كفراً غير الصلاة.
فهو في الجملة على ظاهره، لكن ترى أنه إجماع سكوتي.
وكلمة إجماع سكوتي كلمة مصطلحة، قد يناظر أو ينازع في ثبوتها أو في تقريرها من جهة الاصطلاح، لكن من حيث المدلول هي متحققة، أي: أنه يفرق بها بين الإجماع الذي انضبط انضباطاً تاماً وبين الإجماع الذي نقل عن بعض الأعيان ولم يذكر عن غيره خلافه.
ونلاحظ من هذا أن الأئمة الكبار رحمهم الله في استدلالهم أحياناً ينزعون إلى بعض الدلائل من الكتاب أو السنة مع أنه يحفظ لبعض الصحابة قول لم يعرف له مخالف، وإن بعض الأئمة الكبار كذلك -ولا سيما الإمام أحمد وبعض أئمة الحديث- يصيرون إلى الأقوال التي للصحابة ولم يحفظ لهم فيها مخالف.
إذاً: المنقول عن الصحابة سواء سمي إجماعاً أو لم يسم إجماعاً هو عند التحقيق دليل قوي على أن تارك الصلاة كافر؛ ولهذا يقال: إنه كافر بظاهر الكتاب والسنة، وظاهر مذهب الصحابة، وهو الذي عليه الجمهور من السلف.
وننبه هنا إلى أن الترجيح شيء، والقول بأن تارك الصلاة كافر بالإجماع، وأن المخالفة فيه -أي: القول بأنه ليس كافراً- قول من أقوال المرجئة شيء آخر، بل هو مرتقىً صعب، فإن من يقول: إن الذي لا يكفر تارك الصلاة متأثر بالمرجئة أو دخلت عليه شيء من أقوالهم؛ يلزمه أن يجعل مالكاً وابن شهاب والشافعي ومكحول الشامي، بل الإمام أحمد -كما جاء في رواية عنه قدمها بعض كبار الحنابلة المحققين المعروفين في التحقيق في مذهب السلف، وإن كانت رواية مرجوحة عند التحقيق، والجمهور من الأصحاب رحمهم الله على أنه كافر- يلزمه أن يجعل هذا مطرداً عليهم.
إذاً: إذا كان الإجماع انعقد وتم لزم أن مخالفه يكون ممن ضل سبيل المؤمنين، وأنه مبتدع بمخالفته، سواء أضيف إلى المرجئة أو جعل مبتدعاً بمقالته، وإذا كان كذلك -أي: فرضنا صحة الإجماع- حرم الاجتهاد بخلاف الإجماع، بمعنى أنه لا يجوز تقليد مالك ولا تقليد الشافعي ولا تقليد ابن شهاب إلخ، أي: حرم تقليد المخالف ولو كان إماماً، وحرم الاجتهاد في المسألة ولو كان المجتهد له إمام من الكبار وهذه كلها مرتقيات صعبة.
ولا يمكن الاعتماد على نقل ذكره إسحاق بن إبراهيم رحمه الله، وإن كان إماماً مجمعاً على إمامته، فإنك إن استدللت بالإجماع الذي يذكره إسحاق بن إبراهيم رحمه الله فماذا تفعل بمخالفة ابن شهاب ومالك؟ وابن شهاب بإجماع أهل العلم أوثق وأضبط للسنن والآثار، وأدرى بآثار الصحابة من إسحاق بن إبراهيم، ولو كان الصحابة رضي الله عنهم قد انضبط لهم إجماع تام قطعي كإجماعهم في مسألة أن الإيمان قول وعمل وأمثالها لما تجشم ابن شهاب ومالك والشافعي مخالفة الصحابة، خاصة وأن لهم اختصاصاً في ذلك، فإن لـ ابن شهاب اختصاصاً بإجماعات الصحابة وآثارهم، وكذلك الشافعي يعرف مقامه في الإجماع أيضاً وعنايته به وهلم جرا.
إذاً: هذه مسألة ينبغي العدل فيها، فيقال بأن تارك الصلاة كافر بظاهر الكتاب والسنة وهو مذهب الصحابة، ويقال عن المخالف فيه: إنه خالف الصواب وخالف الراجح، وأن قوله غلط، ولكنه لم يصل إلى أن يكون من أهل الإرجاء أو من أهل البدع أو نحو ذلك.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو من هو في التحقيق يرى أن هذه مسألة فيها نزاع بين الأئمة، وقد ذكر عن الإمام أحمد فيها الرواية المشهورة، وهي أنه كافر، والرواية الأخرى وأثبتها عن أحمد أنه ليس كافراً.
إذاً: ينبغي العدل والاعتدال في مسألة تارك الصلاة، وإن كانت حجج المخالفين الذين لا يكفرون تارك الصلاة ضعيفة، وكما قال شيخ الإسلام: ما من دليل يستدلون به إلا وهو يتناول الجاحد كما يتناول التارك.
أما مسألة الزكاة ففيها تفصيل: فإن ترك الزكاة جحداً لوجوبها فهذا بالإجماع كافر، وهذا لا يختص بالزكاة بل كل ما ظهر وجوبه وجحد وجوبه كفر الجاحد.
وإن تركها ولم يقاتل عليها كإذا كان شخصاً بمفرده تركها ولم يحتسب عليه أصلاً -يعني: لم يُعلم به أصلاً- فهذا التارك في كفره نزاع بين السلف.
أما إن تركها وقاتل عليها كأهل الشوكة والمنعة كما وقع في زمن الصديق رضي الله عنه فهؤلاء كفار مرتدون على الصحيح من قولي العلماء، وهو الذي عليه الجمهور من السلف، بل جزم بعض المحققين من الكبار كـ أبي عبيد وغيره أنه إجماع للصحابة، وشيخ الإسلام يميل إلى هذا، وإنما قلت: في أصح قولي العلماء؛ باعتبار ما ذكره المتأخرون، ومعلوم أن إجماع المتقدمين إذا انعقد لا يلتفت إلى قول المتأخرين.
أما جمهور المتأخرين من أصحاب الأئمة الثلاثة فإنهم يرون أن هؤلاء بغاة، وأنهم ليسوا من أهل الكفر والردة، ولكن هذا قول باطل، بل الصواب: أن الذين منعوا الزكاة وقاتلوا على منعها كفار، وهو ظاهر مذهب السلف، ولم ينضبط عن أحد من أعيان السلف التصريح بأنهم ليسوا كفاراً، وقد حكاه أبو عبيد إجماعاً للصحابة.
وقد كان مالك بن أنس وبعض الكبار من أئمة المدينة والعراق والشام لعظم فقههم يفرقون بين تارك الزكاة المقاتل عليها والذي تركها باختصاصه ولم يقاتل، فإن مالكاً رحمه الله لا يكفر تارك الزكاة، ولكنه إن قاتل عليها كفره وهذه النتيجة تفيد أنه لا يسوى بين المسألتين: مسألة الترك وحده، ومسألة الترك مع المقاتلة.
إذاً: من ترك وقاتل فهذا كافر في ظاهر مذهب الصحابة والسلف، ولم ينضبط خلاف صحيح فيه.
أما إن تركها ولم يقاتل فهذا فيه نزاع مشهور، وعن أحمد رحمه الله فيها روايتان محفوظتان، بل قال الإمام أحمد في رواية: ليس شيء من العمل تركه كفر إلا الصلاة وهذا يدل على أنه يميل إلى أن تارك الزكاة ليس كافراً.
كذلك أثر عبد الله بن شقيق الذي رواه الترمذي وغيره، وهو العمدة في هذا يدل على هذا؛ لأنه قال: ما كان أصحاب محمد يرون شيئاً من العمل تركه كفر إلا الصلاة مما يدل على أن الزكاة لا إجماع فيها عند الصحابة من جهة تركها، أما إن تركها وقاتل فهذه مسألة أخرى، ومن رام التسوية بينهما فقد خالف طريقة السلف، فإن السلف كانوا يفرقون.
وقد كان طائفة من كبار أئمة السلف يكفرون تارك الزكاة مطلقاً، قاتل ولم يقاتل، وهذا قول لا ينكر، وهو رواية معروفة في مذهب أحمد رحمه الله، ولكن فرق بين أن يقال: إن في المسألة خلافاً، وبين أن يقال: إن في المسألة إجماعاً.
إذاً: من يكفر تارك الصوم حتى ولو صلى وزكى، ويكفر تارك الحج حتى ولو صلى وصام وزكى، أي: يرى كفر تارك أي واحد من المباني الأربعة، فقوله هذا قول لا ينكر، فإن عليه طائفة من السلف كما نص عليه شيخ الإسلام، وهو رواية عن أحمد رحمه الله، وقال به من الكبار الحكم بن عتيبة وأمثاله من أصحاب مالك، ويحكى قولاً لـ سعيد بن جبير، بل روي عن ابن عباس أنه يقول بهذا المذهب، وإن كان تحقيق القول في الصحابة يحتاج إلى تأمل، لكن المتحقق أنه قول مأثور عن طائفة من السلف فلا ينكر، وإن كان من حيث الرجحان ليس راجحاً.
فينبغي لطالب العلم: أن يحقق الفرق بين القول الذي يقول: إنه راجح، وبين القول الذي يقول: إنه إجماع.
إذاً: الراجح أن تارك الصلاة كافر، وأن تارك الزكاة المقاتل عليها كافر، وهاتان المسألتان عليهما عامة السلف، بل مسألة الزكاة لم يذكر عن كبار أئمة السلف فيها خلاف كمسألة ترك الصلاة، وإن كانت الصلاة بلا خلاف أعظم من الزكاة، لكن بالمقاتلة يختلف الأمر؛ ولهذا إن قتل على ترك الصلاة فإنه يقتل ردةً بالإجماع، وإن كان بعض الشافعية والمالكية حكوا أنه يقتل فاسقاً، بل وذكر هذا بعض الأصحاب من الحنابلة رحمهم الله، لكن لا شك أن هذا غلط، بل هذا ممتنع كما قال شيخ الإسلام؛ ولهذا كان مالك والشافعي -مع أنهم لا يكفرون تارك الصلاة- يرون قتله.
فالمقصود: أن تارك الصلاة كافر عند الجماهير من السلف، وهو ظاهر الكتاب والسنة وظاهر مذهب الصحابة، وتارك الزكاة المقاتل عليها كافر في ظاهر مذهب الصحابة أيضاً، وحكاه طائفة من الكبار إجماعاً خلافاً لجمهور المتأخرين، أما تارك الزكاة الذي لم يقاتل عليها ففيه نزاع مشهور بين أعيان أئمة السلف كـ أحمد وغيره، كذلك تارك الصوم والحج فيه نزاع بين السلف، والجمهور على عدم كفره.
فهذا هو أخص ما يقال في هذه المسألة التي تارة يقع فيها خفض أو رفع، فترى من يجزم بأن تارك الصلاة لا يكفر، ويقول: إن هذا هو المتحقق من دلائل الكتاب والسنة، أو من يقول: إن تارك الصلاة يكفر، وهذا إجماع قطعي ضروري فكلا هذين القولين فيه بعض التقدم.
فهذا مما يتعلق بمسألة أبي حنيفة رحمه الله.
وفي تاريخ بغداد وفي السنة لـ عبد الله بن أحمد بعض الكلام في أبي حنيفة، فهذا ينبغي أن نعرض عنه، فإنه لم ينضبط له مذهب مخالف للسلف إلا في مسألة الإيمان، أما ما نقل عنه في مسألة القدر والصفات وما نقل عنه في مسألة القرآن ففي الجملة لم ينضبط عنه، وقد صرح شيخ الإسلام رحمه الله في بعض المواضع بأن أبا حنيفة في مسألتي الصفات والقدر على المعروف عن السلف.
[وفي النقل عن أبي حنيفة تصريح أن من وقف في مسألة العلو فإنه كافر].
وهذا دليل على أن أبا حنيفة رحمه الله من كبار الأئمة المحققين في مسائل الصفات.
[وروى هذا اللفظ بإسناد عنه شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في كتاب الفاروق].
أبو إسماعيل الأنصاري الهروي المعروف بشيخ الإسلام حنبلي متصوف، من أشد المائلين عن علم الكلام الذامين له، والمكفرين للجهمية، وله تصنيف في هذا مشهور، من كتبه الفاروق كما يشير المصنف هنا، كذلك كتاب ذم الكلام وهو كتاب فاضل، فيه آثار متواترة عن كبار أعيان الأئمة سواء الأئمة الأربعة أو غيرهم في ذم العلم الكلامي.
ولكنه -أعني: أبا إسماعيل الأنصاري الهروي رحمه الله - ممن يزيدون في إثبات بعض الصفات تارة، يقول شيخ الإسلام رحمه الله في غير ما موضع من منهاج السنة وغيره: وأبو إسماعيل الأنصاري الهروي من المبالغين في ذم الجهمية وتكفيرهم.
ولهذا لما ذكر الهروي الأشعري في كتابه ذم الكلام قال: وقد شاع في المسلمين أن رأسهم علي بن الحسن الأشعري لا يصلي ولا يتوضأ.
وهذه زيادة، وإنما أذكرها حتى ينتبه إليها طالب العلم، فإن أبا الحسن الأشعري قد أثني عليه فيما وافق فيه الحق كثير، حتى من علماء الحنابلة، ولم ينضبط عن أحد من أهل العلم، بل ولا حتى من أهل التاريخ والأخبار أن الأشعري لم يكن يصلي ولا يتوضأ.
فينبغي لطالب العلم دائماً ألا يجعل من الحق طريقاً للاستطالة على الخلق -وهذا ليس من باب الوقوف على أخطاء الهروي فالرجل اجتهد، وربما بلغه هذا بإسناد ظنه صحيحاً فقاله، أو بلغه عن بعض من أهل العلم أو شيء من ذلك-.
ولهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مع أنه حنبلي، وممن يثنون على أبي إسماعيل الأنصاري كثيراً، حتى إنه يصفه بشيخ الإسلام -وهو وصف مشهور له عند الحنابلة قبل شيخ الإسلام - إلا أنه تعقب الهروي كثيراً، ووهمه في قوله في الأشعري، بل قال: إن أبا الحسن الأشعري في بعض المسائل أقرب إلى السلف والأئمة من أبي إسماعيل الأنصاري الهروي ولا سيما في مسألة تعليل الأفعال، فإن أبا إسماعيل الأنصاري الهروي يميل إلى الجبر ولا يميل إلى تعليل الأفعال، على طريقة بعض المتصوفة، والأشعري يقرر قريباً من هذا المذهب بالطريقة الكلامية، فهذا الأشعري يقررها تقريراً كلامياً، والهروي يقررها تقريراً صوفياً، والنتيجة في الجملة واحدة، لكن شيخ الإسلام يقول: وأبو الحسن الأشعري في هذا المقام أقرب إلى قول السلف من أبي إسماعيل الأنصاري الهروي.
فالمقصود: أن الهروي نفسه له بعض المسائل التي غلط فيها، بل غلطه فيها أشد من غلط أبي الحسن الأشعري، وإن كان قول الأشعري في الصفات لا شك أنه دون قول أبي إسماعيل الأنصاري، فإن قول أبي إسماعيل الأنصاري الهروي فاضل في الجملة، وإن كان أحياناً قد يزيد، لكنه على كل حال أفضل من قول أبي الحسن الذي عرف عنه عدم إثبات الصفات الفعلية بطريقة محققة.
كذلك عنده تصوف، وقد غلط في بعض المسائل غلطاً شديداً، وقد وقع هذا في كتابه منازل السائرين، وإن كان ابن القيم رحمه الله يعتذر له كثيراً، لكن عند أغلاط محققة، حتى إن ابن القيم قد صرح بأن في الكتاب بعض الأغلاط المتحققة.
فالقصد: أن له بعض الغلط وبعض الصواب، فما كان من صوابه فإنه يقبل، وما كان من خطأه فهو اجتهاد، والله يغفر له.
[وروى أيضا ابن أبي حاتم: أن هشام بن عبيد الله الرازي - صاحب محمد بن الحسن - قاضي الري حبس رجلا في التجهم فتاب; فجيء به إلى هشام ليطلقه فقال: الحمد لله على التوبة; فامتحنه هشام ; فقال: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟ فقال: أشهد أن الله على عرشه; ولا أدري ما بائن من خلقه.
فقال: ردوه إلى الحبس؛ فإنه لم يتب.
وروي أيضاً عن يحيى بن معاذ الرازي أنه قال: إن الله على العرش بائن من الخلق وقد أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا; لا يشك في هذه المقالة إلا جهمي رديء ضليل وهالك مرتاب يمزج الله بخلقه ويخلط منه الذات بالأقذار والأنتان.
وروي أيضا عن ابن المديني لما سئل: ما قول أهل الجماعة؟ قال: يؤمنون بالرؤية والكلام وأن الله فوق السموات على العرش استوى; فسئل عن قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] فقال: اقرأ ما قبلها: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [المجادلة:7].
وروي أيضا عن أبي عيسى الترمذي قال: هو على العرش كما وصف في كتابه; وعلمه وقدرته وسلطانه في كل مكان.
وروي عن أبي زرعة الرازي أنه لما سئل عن تفسير قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فقال: تفسيره كما يقرأ هو على العرش وعلمه في كل مكان; ومن قال غير هذا فعليه لعنة الله].

ذكر شيخ الإسلام رحمه الله بعض النقولات عن بعض أئمة السلف الكبار، فروى عن ابن المديني، وعن أبي زرعة الرازي، وعن أبي عيسى الترمذي وهذه النقولات عن أعيان أئمة السلف وأهل الحديث الكبار موجودة في كتب السنة المسندة مفصلةً.
ثم قال: [وروى أبو القاسم اللالكائي الحافظ الطبري ; صاحب أبي حامد الإسفرائيني في كتابه المشهور في أصول السنة بإسناده عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة قال: اتفق الفقهاء كلهم -من المشرق إلى المغرب- على الإيمان بالقرآن والأحاديث; التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل: من غير تفسير; ولا وصف ولا تشبيه; فمن فسر اليوم شيئا منها فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة; فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا; ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا; فمن قال: بقول جهم فقد فارق الجماعة لأنه قد وصفه بصفة لا شيء.
محمد بن الحسن أخذ عن أبي حنيفة ومالك وطبقتهما من العلماء.
وقد حكى هذا الإجماع وأخبر أن الجهمية تصفه بالأمور السلبية غالباً أو دائماً.
وقوله من غير تفسير: أراد به تفسير الجهمية المعطلة الذين ابتدعوا تفسير الصفات بخلاف ما كان عليه الصحابة والتابعون من الأثبات].

الإمام اللالكائي هو صاحب كتاب: شرح أصول اعتقاد أهل السنة، وهو من أخص كتب أهل السنة الموجودة اليوم، وينبغي لطالب العلم ألا يغفل عن النظر فيه، فإنه كتاب فاضل جامع لآثار السلف بطريقة محققة.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
5, ما

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
لنحافظ على سرعة أجهزتنا ونظافتها دون برامج وبخطوات بسيطة م. صفاء جعيدي المنتدى التقني 18 26 شعبان 1434هـ/4-07-2013م 05:20 PM


الساعة الآن 08:01 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir