دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم القرآن الكريم > مكتبة التفسير وعلوم القرآن الكريم > بيان المُستشكل > تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 25 شوال 1431هـ/3-10-2010م, 02:07 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي باب ذكر العرب وما خصّهم اللّه به من العارضة والبيان واتّساع المجاز، وبيان معنى الأحرف السبعة



باب ذكر العرب وما خصّهم اللّه به من العارضة والبيان واتّساع المجاز

وإنما يعرف فضل القرآن من كثر نظره، واتسع علمه، وفهم مذاهب العرب وافتنانها في الأساليب، وما خصّ اللّه به لغتها دون جميع اللغات، فإنه ليس في جميع الأمم أمّة أوتيت من العارضة، والبيان، واتساع المجال، ما أوتيته العرب خصّيصى من اللّه، لما أرهصه في الرسول، وأراده من إقامة الدليل على نبوّته بالكتاب، فجعله علمه، كما جعل علم كل نبي من المرسلين من أشبه الأمور بما في زمانه المبعوث فيه:
فكان لموسى فلق البحر، واليد، والعصا، وتفجّر الحجر في التّيه بالماء الرّواء، إلى سائر أعلامه زمن السّحر.
وكان لعيسى إحياء الموتى، وخلق الطير من الطين، وإبراء الأكمه والأبرص، إلى سائر أعلامه زمن الطب.
وكان لمحمد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، الكتاب الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله، لم يأتوا به، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، إلى سائر أعلامه زمن البيان.
[تأويل مشكل القرآن: 12]
فالخطيب من العرب، إذا ارتجل كلاما في نكاح، أو حمالة، أو تحضيض، أو صلح، أو ما أشبه ذلك- لم يأت به من واد واحد، بل يفتنّ: فيختصر تارة إرادة التخفيف، ويطيل تارة إرادة الإفهام، ويكرّر تارة إرادة التوكيد، ويخفي بعض معانيه حتى يغمض على أكثر السامعين، ويكشف بعضها حتى يفهمه بعض الأعجميين، ويشير إلى الشيء ويكني عن الشيء.
وتكون عنايته بالكلام على حسب الحال، وقدر الحفل، وكثرة الحشد، وجلالة المقام.
ثمّ لا يأتي بالكلام كلّه، مهذّبا كلّ التّهذيب، ومصفّى كلّ التّصفية، بل تجده يمزج ويشوب، ليدل بالنّاقص على الوافر، وبالغثّ على السمين. ولو جعله كلّه نجرا واحدا، لبخسه بهاءه، وسلبه ماءه.
ومثل ذلك الشّهاب من القبس نبرزه للشّعاع، والكوكبان يقترنان، فينقص النّوران، والسّخاب ينظم بالياقوت والمرجان والعقيق والعقيان، ولا يجعل كلّه جنسا واحدا من الرفيع الثّمين، ولا النّفيس المصون.
[تأويل مشكل القرآن: 13]
وألفاظ العرب مبنية على ثمانية وعشرين حرفا، وهي أقصى طوق اللّسان.
وألفاظ جميع الأمم قاصرة عن ثمانية وعشرين ولست واجدا في شيء من كلامهم حرفا ليس في حرفنا إلا معدولا عن مخرجه شيئا، مثل الحرف المتوسط مخرجي القاف والكاف، والحرف المتوسط مخرجي الفاء والباء.
فهذه حال العرب في مباني ألفاظها.
ولها الإعراب الذي جعله اللّه وشيا لكلامها، وحلية لنظامها، وفارقا في بعض الأحوال بين الكلامين المتكافئين، والمعنيين المختلفين كالفاعل والمفعول، لا يفرّق بينهما، إذا تساوت حالاهما في إمكان الفعل أن يكون لكلّ واحد منهما- إلا بالإعراب.
ولو أن قائلا قال: هذا قاتل أخي بالتنوين، وقال آخر: هذا قاتل أخي بالإضافة- لدّل التنوين على أنه لم يقتله، ودلّ حذف التنوين على أنه قد قتله.
ولو أن قارئا قرأ: {فلا يحزنك قولهم إنّا نعلم ما يسرّون وما يعلنون (76)} [يس: 76] وترك طريق الابتداء بإنّا، وأعمل القول فيها بالنصب على مذهب من ينصب (أنّ) بالقول كما ينصبها بالظن- لقلب المعنى عن جهته، وأزاله عن طريقته، وجعل النبيّ، عليه السلام، محزونا لقولهم: إنّ اللّه يعلم
[تأويل مشكل القرآن: 14]
ما يسرّون وما يعلنون. وهذا كفر ممن تعمّده، وضرب من اللحن لا تجوز الصلاة به، ولا يجوز للمأمومين أن يتجوّزوا فيه.
وقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «لا يقتل قرشي صبرا بعد اليوم».
فيمن رواه «حزما» أوجب ظاهر الكلام للقرشي ألا تقتل إن ارتد، ولا يقتصّ منه إن قتل.
ومن رواه «رفعا» انصرف التأويل إلى الخبر عن قريش: أنه لا يرتدّ منها أحد عن الإسلام فيستحقّ القتل.
أفما ترى الإعراب كيف فرق بين هذين المعنيين.
وقد يفرقون بحركة البناء في الحرف الواحد بين المعنيين.
فيقولون: رجل لعنة، إذا كان يلعنه الناس. فإن كان هو الذي يلعن الناس، قالوا: رجل لعنة فحركوا العين بالفتح.
[تأويل مشكل القرآن: 15]
ورجل سبّة إذا كان يسبه الناس، فإن كان هو يسبّ الناس قالوا: رجل سببة.
وكذلك: هزأة، وهزأة وسخرة، وسخرة وضحكة، وضحكة وخدعة، وخدعة.
وقد يفرقون بين المعنيين المتقاربين بتغيير حرف في الكلمة حتى يكون تقارب ما بين اللفظين، كتقارب ما بين المعنيين.
كقولهم للماء الملح الذي لا يشرب إلا عند الضرورة: شروب، ولما كان دونه مما قد يتجوّز به: شريب.
وكقولهم لما ارفضّ على الثوب من البول إذ كان مثل رؤوس الإبر: نضح، ورشّ الماء عليه يجزئ من الغسل، فإن زاد على ذلك قليلا قيل له: نضخ ولم يجزئ فيه إلا الغسل.
وكقولهم للقبض بأطراف الأصابع: قبض وبالكف: قبض وللأكل بأطراف الأسنان: قضم وبالفم: خضم.
ولما ارتفع من الأرض: حزن فإن زاد قليلا قيل: حزم.
وللذي يجد البرد: خصر فإن كان مع ذلك جوع قيل: خرص.
وللنار إذا طفئت: هامدة فإن سكن اللّهب وبقي من جمرها شيء قيل: خامدة.
[تأويل مشكل القرآن: 16]
وللقائم من الخبل: صائم فإن كان ذلك من حفىّ أو وجى، قيل: صائن.
وللعطاء: شكد فإن كان مكافأة قيل: شكم.
وللخطأ من غير التعمد: غلط فإن كان في الحساب قيل: غلت.
وللضيق في العين: خوص فإن كان ذلك في مؤخّرها قيل: حوص.
وقد يكتنف الشيء معان فيشتقّ لكل معنى منها اسم من اسم ذلك الشيء، كاشتقاقهم من البطن للخميص: مبطّن وللعظيم البطن إذا كان خلقة: بطين فإذا كان من كثرة الأكل قيل مبطان وللمنهوم: بطن وللعليل البطن: مبطون.
ويقولون: وجدت الضّالة ووجدت في الغضب، ووجدت في الحزن، ووجدت في الاستغناء. ثم يجعلون الاسم الضّالة: وجودا ووجدانا وفي الحزن وجدا وفي الغضب موجدة وفي الاستغناء وجدا.
في أشياء كثيرة، ليس لاستقصاء ذكرها في كتابنا هذا، وجه.
وللعرب الشّعر الذي أقامه اللّه تعالى لها مقام الكتاب لغيرها،
[تأويل مشكل القرآن: 17]
وجعله لعلومها مستودعا، ولآدابها حافظا، ولأنسابها مقيّدا، ولأخبارها ديوانا لا يرثّ على الدّهر، ولا يبيد على مرّ الزّمان.
وحرسه بالوزن، والقوافي، وحسن النّظم، وجودة التخيير- من التدليس والتّغيير، فمن أراد أن يحدث فيه شيئا عسر ذلك عليه، ولم يخف له كما يخفى في الكلام المنثور.
وقد تجد الشاعر منهم ربما زال عن سننهم شيئا، فيقولون له: ساندت، وأقويت، وأكفأت، وأوطأت.
وإنما خالف في السّناد بين ردفين، أو حرفين قبل ردفين، كقول عمرو بن كلثوم:
ألا هبّي بصحنك فاصبحينا ولا تبقي خمور الأندرينا
وقال في بيت آخر:
كأن متونهنّ متون غدر تصفّقها الرياح إذا جرينا
فالحاء من فأصبحينا (ردف) وهي مكسورة، والراء من جرينا (ردف) وهي مفتوحة.
وخالف في (الإقواء) بحرف نقصه من شطر البيت الأول، كقول الآخر:
جنّت نوار ولات هنّا حنّت وبدا الذي كانت نوار أجنّت
[تأويل مشكل القرآن: 18]
لمّا رأت ماء السّلا مشروبا والفرث يعصر في الإناء أرنّت
وكقول حميد بن ثور:
إني كبرت وإنّ كلّ كبير ممّا يظنّ به يملّ ويفتر
وخالف في الإكفاء بأن رفع قافية وخفض أخرى.
وخالف في الإبطاء بأن أعاد قافية مرتين.
وقال ابن الرّقاع يذكر تنقيحه شعره:
وقصيدة قد بتّ أجمع بينها حتى أقوّم ميلها وسنادها
نظر المثقّف في كعوب قناته حتى يقيم ثقافه منآدها
[تأويل مشكل القرآن: 19]
وقال ذو الرّمّة:
وشعر قد أرقت له غريب أجانبه المساند والمحالا
هذا قول أبي عبيدة.
وبعضهم يجعل الإقواء رفع قافية وجرّ أخرى.
وقول أبي عبيدة أجود عندي لأن الإقواء من القوّة، والقوّة: طاقة من الحبل، يقال: ذهبت قوّة من الحبل، إذا ذهبت منه طاقة، وكذلك إذا ذهب جزء من البيت، وهو الذي يسمى المزاحف. فقد ذهبت منه قوة، كما ذهب قوة من الحبل، كما قال ذلك:
لما رأت ماء السلا مشروبا فقد ذهب منه شيء، فلو قال: (مشروبة) لكان مستويا.
وللعرب المجازات في الكلام، ومعناها: طرق القول ومآخذه. ففيها الاستعارة:
والتمثيل، والقلب، والتقديم، والتأخير، والحذف، والتكرار، والإخفاء، والإظهار، والتعريض، والإفصاح، والكناية، والإيضاح، ومخاطبة الواحد مخاطبة الجميع، والجميع خطاب الواحد، والواحد والجميع خطاب الاثنين، والقصد بلفظ الخصوص لمعنى العموم، وبلفظ العموم
[تأويل مشكل القرآن: 20]
لمعنى الخصوص مع أشياء كثيرة ستراها في أبواب المجاز إن شاء اللّه تعالى.
وبكل هذه المذاهب نزل القرآن ولذلك لا يقدر أحد من التراجم على أن ينقله إلى شيء من الألسنة، كما نقل الإنجيل عن السّريانية إلى الحبشيّة والرّومية، وترجمت التوراة والزبور، وسائر كتب اللّه تعالى بالعربية لأن العجم لم تتّسع في المجاز اتّساع العرب.
ألا ترى أنك لو أردت أن تنقل قوله تعالى: {وإمّا تخافنّ من قومٍ خيانةً فانبذ إليهم على سواءٍ} [الأنفال: 58]- لم تستطع أن تأتي بهذه الألفاظ مؤدية عن المعنى الذي أودعته حتى تبسط مجموعها، وتصل مقطوعها وتظهر مستورها، فتقول: إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد، فخفت منهم خيانة ونقضا، فأعلمهم أنك قد نقضت ما شرطت لهم، وآذنهم بالحرب لتكون أنت وهم في العلم بالنّقض على استواء.
وكذلك قوله تعالى: {فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً (11)} [الكهف: 11] إن أردت أن تنقله بلفظه، لم يفهمه المنقول إليه، فإن قلت: أنمناهم سنين عددا، لكنت مترجما للمعنى دون اللفظ.
وكذلك قوله تعالى: {والّذين إذا ذكّروا بآيات ربّهم لم يخرّوا
[تأويل مشكل القرآن: 21]
عليها صمًّا وعمياناً (73)} [الفرقان: 73] إن ترجمته بمثل لفظه استغلق، وإن قلت: لم يتغافلوا أدّيت المعنى بلفظ آخر.
وقد اعترض كتاب اللّه بالطعن ملحدون ولغوا فيه وهجروا، {واتبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} [آل عمران: 7] بأفهام كليلة، وأبصار عليلة، ونظر مدخول، فحرّفوا الكلام عن مواضعه، وعدلوه عن سبله.
ثم قضوا عليه بالتّناقض، والاستحالة، واللّحن، وفساد النّظم، والاختلاف.
وأدلوا في ذلك بعلل ربما أمالت الضّعيف الغمر، والحدث الغرّ، واعترضت بالشبه في القلوب، وقدحت بالشكوك في الصدور.
ولو كان ما نحلوا إليه على تقريرهم وتأوّلهم- لسبق إلى الطعن به من لم يزل رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، يحتجّ عليه بالقرآن، ويجعله العلم لنبوّته، والدليل على صدقه، ويتحداه في موطن بعد موطن، على أن يأتي بسورة من مثله. وهم الفصحاء والبلغاء، والخطباء والشعراء، والمخصوصون من بين جميع الأنام بالألسنة الحداد، واللّدد، في الخصام، مع اللّب والنّهى، وأصالة الرّأي. وقد وصفهم اللّه بذلك في غير موضع من الكتاب، وكانوا مرّة يقولون: هو سحر، ومرة يقولون: هو قول الكهنة، ومرة: أساطير الأولين.
[تأويل مشكل القرآن: 22]
ولم يحك اللّه تعالى عنهم، ولا بلغنا في شيء من الروايات- أنهم جدبوه من الجهة التي جدبه منها الطاعنون.
فأحببت أن أنضح عن كتاب اللّه، وأرمي من ورائه بالحجج النيّرة، والبراهين البيّنة، وأكشف للناس ما يلبسون.
فألفت هذا الكتاب، جامعا لتأويل مشكل القرآن، مستنبطا ذلك من التفسير بزيادة في الشرح والإيضاح، وحاملا ما لم أعلم فيه مقالا لإمام مطّلع- على لغات العرب لأري به المعاند موضع المجاز، وطريق الإمكان، من غير أن أحكم فيه برأي، أو أقضي عليه بتأويل.
ولم يجز لي أن أنص بالإسناد إلى من له أصل التفسير إذ كنت لم أقتصر على وحي القوم حتى كشفته، وعلى إيمائهم حتى أوضحته، وردت في الألفاظ ونقصت، وقدّمت وأخرت، وضربت لبعض ذلك الأمثال والأشكال، حتى يستوي في فهمه السامعون.
وأسأل اللّه التجاوز عن الزّلة بحسن النية، فيما دللت عليه، وأجريت إليه، والتوفيق للصواب، وحسن الثواب.
[تأويل مشكل القرآن: 23]

الحكاية عن الطاعنين

وكان مما بلغنا عنهم: أن يحتجّون بقوله عز وجل: {ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء: 82] وبقوله: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} [فصلت: 42].
وقالوا: وجدنا الصحابة، رضي اللّه عنهم، ومن بعدهم، يختلفون في الحرف:
فابن عباس يقرأ: {وادّكر بعد أمّةٍ} [يوسف: 45] وغيره يقرأ: بعد أمّةٍ. و«عائشة» تقرأ: «إذ تلقونه» [النور: 15] وغيرها يقرأ: {تلقّونه}. وأبو بكر الصديق يقرأ وجاءت سكرة الحقّ بالموت والناس يقرؤون: {وجاءت سكرة الموت بالحقّ} [ق: 19].
وقرأ بعض القراء: (وأعتدت لهنّ متّكأً) وقرأ الناس: {وأعتدت لهنّ متّكأً} [يوسف: 31]. وكان ابن مسعود يقرأ: (إن كانت إلا زقية واحدة) [يس: 29] ويقرأ (كالصوف المنفوش) [القارعة: 5].
[تأويل مشكل القرآن: 24]
مع أشباه لهذه كثيرة، يخالف فيها مصحفه المصاحف القديمة والحديثة. وكان يحذف من مصحفه أمّ الكتاب ويمحو المعوّذتين ويقول: لم تزيدون في كتاب اللّه ما ليس فيه؟.
و(أبيّ) يقرأ: {إنّ السّاعة آتيةٌ أكاد أخفيها} [طه: 15] من نفسي فكيف أظهركم عليها.
ويزيد في مصحفه افتتاح (دعاء القنوت) إلى قول الداعي: (إن عذابك بالكافرين ملحق) ويعدّه سورتين من القرآن.
و(القرّاء) يختلفون: فهذا يرفع ما ينصبه ذاك، وذاك يخفض ما يرفعه هذا.
وأنتم تزعمون أن هذا كله كلام رب العالمين، فأيّ شيء بعد هذا الاختلاف تريدون؟ وأي باطل بعد الخطإ واللحن تبتغون؟.
وقد رويتم من الطريق الذي ترتضون: روى أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن (عائشة) أنها قالت: ثلاثة أحرف في كتاب اللّه هنّ خطأ من الكاتب: {قوله: إن هذان لساحران} [طه: 63].
وفي سورة المائدة: {إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والصّابئون} [المائدة: 69].
[تأويل مشكل القرآن: 25]
وفي سورة النساء: {لكن الرّاسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصّلاة والمؤتون الزّكاة} [النساء: 162] حدثناه إسحاق بن راهويه.
قالوا: ورويتم عن عثمان أنه نظر في المصحف فقال: أرى فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها.
وقالوا: وهل التناقض إلا مثل قوله: {فيومئذٍ لا يسأل عن ذنبه إنسٌ ولا جانٌّ (39)} [الرحمن: 39] وهو يقول في موضع آخر: {فوربّك لنسألنّهم أجمعين (92) عمّا كانوا يعملون (93)} [الحجر: 92، 93].
ومثل قوله: {هذا يوم لا ينطقون (35) ولا يؤذن لهم فيعتذرون (36)} [المرسلات: 35، 36].
ويقول في موضع آخر: {ثمّ إنّكم يوم القيامة عند ربّكم تختصمون (31)} [الزمر: 31]. ويقول: {هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} [البقرة: 111].
ومثل قوله: {وأقبل بعضهم على بعضٍ يتساءلون (25)} [الطور: 25، والصافات: 27].
[تأويل مشكل القرآن: 26]
وهو يقول في موضع آخر: {فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون} [المؤمنون: 101].
ومثل قوله: {قل أئنّكم لتكفرون بالّذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك ربّ العالمين (9)} [فصلت: 9].
وقال بعد ذلك: {ثمّ استوى إلى السّماء وهي دخانٌ فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين (11) فقضاهنّ سبع سماواتٍ في يومين} [فصلت: 11، 12] فدلت هذه الآية على أنه خلق الأرض قبل السماء.
وقال في موضع آخر: {أأنتم أشدّ خلقاً أم السّماء بناها (27) رفع سمكها فسوّاها (28)} [النازعات: 27، 28] ثم قال: {والأرض بعد ذلك دحاها (30)} [النازعات: 30].
فدلت هذه الآية على أنه خلق السماء قبل الأرض.
ومثل قوله: {ليس لهم طعامٌ إلّا من ضريعٍ (6)} [الغاشية: 6].
وهو يقول في موضع آخر: {فليس له اليوم هاهنا حميمٌ (35) ولا طعامٌ إلّا من غسلينٍ (36)}
والضريع: نبت، فهل يجوز أن يكون في النار نبات وشجر، والنار تأكلهما؟.
ومثل قوله تعالى: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم
[تأويل مشكل القرآن: 27]
وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون (33)} [الأنفال: 33]، ثم قال على أثر ذلك: {وما لهم ألّا يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام} [الأنفال: 34].
وقالوا: فأين قوله: {وإن خفتم ألّا تقسطوا في اليتامى}، من قوله: {فانكحوا ما طاب لكم من النّساء مثنى وثلاث ورباع} [النساء: 3].
وأين قوله: {جعل اللّه الكعبة البيت الحرام قياماً للنّاس والشّهر الحرام والهدي والقلائد، من قوله: ذلك لتعلموا أنّ اللّه يعلم ما في السّماوات وما في الأرض وأنّ اللّه بكلّ شيء عليمٌ} [المائدة: 97].
وأين قوله: {ألم تر أنّ الفلك تجري في البحر بنعمت اللّه ليريكم من آياته، من قوله: إنّ في ذلك لآياتٍ لكلّ صبّارٍ شكورٍ} [لقمان: 31]، أو ليس هذا مما يستوي فيه الصبّار والشّكور وغير الصبّار والشّكور؟.
وما معنى قوله: {كمثل غيثٍ أعجب الكفّار نباته} [الحديد: 20]؟ ولم خص الكفار دون المؤمنين؟ أو ليس هذا مما يستوي فيه المؤمنون والكافرون، ولا ينقص إيمان المؤمنين إن أعجبهم؟.
وقالوا في قوله عز وجل: {خالدين فيها ما دامت السّماوات والأرض إلّا ما شاء ربّك} [هود: 107]: استثناؤه المشيئة من الخلود، يدل على الزوال، وإلا فلا معنى للاستثناء. ثم قال: {عطاءً غير مجذوذٍ} [هود: 108]، أي غير مقطوع.
[تأويل مشكل القرآن: 28]
وقالوا في قوله: {لا يذوقون فيها الموت إلّا الموتة الأولى} [الدخان: 56]:
كيف يستثنى موتا كان في الدنيا من مكثهم في الجنة؟ وهل يجوز أن يقال في الكلام: لا أعطيك اليوم درهما إلا ما أعطيتك أمس؟.
وقالوا في قوله: {إنّ الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات سيجعل لهم الرّحمن ودًّا (96)} [مريم: 96]: هل يجوز أن يقال: فلان يجعل لك حبّا، أي يحبك؟.
وفي قوله: {وجعلنا نومكم سباتاً (9)} [النبأ: 9] والسّبات هو: النوم، فكيف يجوز أن يجعل نومنا نوما؟.
وفي قوله: {ويطاف عليهم بآنيةٍ من فضّةٍ وأكوابٍ كانت قواريرا (15) قواريرا من فضّةٍ} [الإنسان: 15، 16] وقوله: {لنرسل عليهم حجارةً من طينٍ (33)} [الذاريات: 33]: كيف يكون زجاج من فضة؟ وحجارة من طين؟.
وقالوا في قوله: {فإن كنت في شكٍّ ممّا أنزلنا إليك فسئل الّذين يقرؤن الكتاب من قبلك لقد جاءك الحقّ من ربّك فلا تكوننّ من الممترين (94) ولا تكوننّ من الّذين كذّبوا بآيات اللّه فتكون من الخاسرين (95)} [يونس: 94، 95]: هل كان النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، يشك فيما يأتيه به جبريل؟ وكيف يدعو الشاكين من هو على مثل سبيلهم؟
[تأويل مشكل القرآن: 29]
وكيف يرتاب فيما يأتيه به الروح الأمين، ويأتيه الثّلج واليقين بخبر أهل الكتاب عنه أنه حق، وهم يكذبون ويحرّفون ويقولون على اللّه ما لا يعلمون؟.
وقالوا في قوله: {ولهم رزقهم فيها بكرةً وعشيًّا} [مريم: 62]: أنتم تزعمون أنه لا شمس هناك ولا ليل، وهذا يدل على أوقات مختلفة، وشمس وفيء، ونهار وليل، لأن البكرة تدل على أول النهار، والعشيّ يدل على آخره، وما كان له أول وآخر فله انصرام، وإذا انصرم عاقبه الليل والنهار.
وقالوا في سورة الأنفال، حين ذكرها، ثم وصف المؤمنين فقال: {إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربّهم يتوكّلون (2) الّذين يقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون (3) أولئك هم المؤمنون حقًّا لهم درجاتٌ عند ربّهم ومغفرةٌ ورزقٌ كريمٌ (4)} [الأنفال: 2- 4]، ثم قال: {كما أخرجك ربّك من بيتك بالحقّ} [الأنفال: 5]: و(كما) تأتي لتشبيه الشيء، ولم يتقدم من الكلام ما يشبّه به إخراج اللّه إياه.
وقالوا في قوله: {وإن ما نرينّك بعض الّذي نعدهم أو نتوفّينّك فإنّما عليك البلاغ وعلينا الحساب (40)} [الرعد: 40] كيف يكون عليه البلاغ بعد الوفاة؟.
[تأويل مشكل القرآن: 30]
وقالوا: في قوله في الرعد: {مثل الجنّة الّتي وعد المتّقون} [الرعد: 35]، أين الشيء الذي جعلت له الجنة مثلا؟ وهل يجوز أن يقال: «مثل الدار التي وعدتك سكناها، يطّرد فيها نهر، وتظلك فيها، شجرة». ويمسك القائل؟.
قالوا: وقال في موضع آخر: {يا أيّها النّاس ضرب مثلٌ فاستمعوا له} [الحج: 73] ولم يأت به.
وقالوا في قوله تعالى: {وبلغت القلوب الحناجر} [الأحزاب: 10]: كيف تبلغ القلب الحلوق، والقلوب إن زال عن موضعه شيئا، مات صاحبه؟.
وقالوا في قوله تعالى: {فأذاقها اللّه لباس الجوع والخوف} [النحل: 112]: كيف يذاق اللباس؟ وإنما كان وجه الكلام: فألبسها اللّه لباس الجوع والخوف. أو غشّاها اللّه لباس الجوع والخوف. أو فأذاقها اللّه الجوع والخوف. ويحذف اللباس.
وقالوا في قوله: {سنسمه على الخرطوم (16)} [القلم: 16]: ما هذا من العقوبة؟ وفي أي الدّارين يسمه: أفي الدنيا أم في الآخرة؟.
فإن كان في الدنيا، فإنه لم يبلغنا أن أحدا من المشركين، وسم على أنفه.
[تأويل مشكل القرآن: 31]
وإن كان في النار، فما أعدّ للكافرين فيها من صنوف العذاب، أكثر من الوسم على الأنف.
وقالوا: ماذا أراد بإنزال المتشابه في القرآن، من أراد لعباده الهدى والبيان؟.
وتعلقوا بكثير منه لطف معناه: لما فيه من المجازات بمضمر لغير مذكور، أو محذوف من الكلام متروك، أو مزيد فيه يوضح معناه حذف الزيادة، أو مقدّم يوضح معناه التأخير، أو مؤخر يوضح معناه التقديم، أو مستعار، أو مقلوب.
وتكلموا في الكناية، مثل قوله: {تبّت يدا أبي لهبٍ وتبّ (1)} [المسد: 1]، ومثل قوله: {ليتني لم أتّخذ فلاناً خليلًا} [الفرقان: 28].
وفي تكرار الكلام في: {قل يا أيّها الكافرون (1)} [الكافرون: 1]، وفي سورة الرحمن.
وفي تكرار الأنباء والقصص، من غير زيادة ولا إفادة.
وفي مخالفة معنى الكلام مخرجه.
وقد ذكرت الحجّة عليهم في جميع ما ذكروا، وغيره مما تركوا، وهو يشبه ما أنكروا، ليكون الكتاب جامعا للفن الذي قصدت له.
وأفردت للغريب كتابا، كي لا يطول هذا الكتاب، وليكون مقصورا على معناه، خفيفا على من قرأه إن شاء اللّه تعالى.
[تأويل مشكل القرآن: 32]

باب الرّد عليهم في وجوه القراءات

أما ما اعتلوا به في وجوه القراءات من الاختلاف، فإنا نحتج عليهم فيه بقول النبي، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «نزل القرآن على سبعة أحرف، كلّها شاف كاف، فاقرؤوا كيف شئتم».
وقد غلط في تأويل هذا الحديث قوم فقالوا: السبعة الأحرف: وعد، ووعيد، وحلال، وحرام، ومواعظ، وأمثال، واحتجاج.
وقال آخرون: هي سبع لغات في الكلمة.
وقال قوم: حلال، وحرام، وأمر، ونهي، وخبر ما كان قبل، وخبر ما هو كائن بعد، وأمثال.
[تأويل مشكل القرآن: 33]
وليس شيء من هذه المذاهب لهذا الحديث بتأويل.
ومن قال: فلان يقرأ بحرف أبي عمرو أو بحرف عاصم فإنه لا يريد شيئا مما ذكروا. وليس يوجد في كتاب اللّه حرف قرئ على سبعة أوجه- يصح، فيما أعلم.
وإنما تأويل قوله، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «نزل القرآن على سبعة أحرف»: على سبعة أوجه من اللغات متفرّقة في القرآن، يدلّك على ذلك قول رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «فاقرؤوا كيف شئتم».
وقال عمر: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان
[تأويل مشكل القرآن: 34]
على غير ما أقرؤها، وقد كان النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أقرأنيها، فأتيت به النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فأخبرته فقال له: اقرأ، فقرأ تلك القراءة، فقال: هكذا أنزلت. ثم قال لي: اقرأ، فقرأت، فقال: هكذا أنزلت. ثم قال: «إنّ هذا القرآن نزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا منه ما تيسّر».
فمن قرأه قراءة عبد اللّه فقد قرأ بحرفه، ومن قرأ قراءة أبيّ فقد قرأ بحرفه، ومن قرأ قراءة زيد فقد قرأ بحرفه.
والحرف يقع على المثال المقطوع من حروف المعجم، وعلى الكلمة الواحدة، ويقع الحرف على الكلمة بأسرها، والخطبة كلها، والقصيدة بكمالها.
ألا ترى أنهم يقولون: قال الشاعر كذا في كلمته، يعنون في قصيدته. واللّه جل وعز يقول: {ولقد قالوا كلمة الكفر} [التوبة: 74]، وقال: {وألزمهم كلمة التّقوى} [الفتح: 26]، وقال: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين (171) إنّهم لهم المنصورون (172) وإنّ جندنا لهم الغالبون (173)} [الصافات: 171، 173].
وقال: {ومن النّاس من يعبد اللّه على حرفٍ فإن أصابه خيرٌ اطمأنّ
[تأويل مشكل القرآن: 35]
به وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه} [الحج: 11]، أراد سبحانه وتعالى: من الناس من يعبد اللّه على الخير يصيبه من تثمير المال، وعافية البدن، وإعطاء السّؤل، فهو مطمئن ما دام ذلك له. وإن امتحنه اللّه تعالى باللّأواء في عيشه، والضّراء في بدنه وماله، كفر به.
فهذا عبد اللّه على وجه واحد، ومعنى متحد، ومذهب واحد، وهو معنى الحرف. ولو عبد اللّه على الشكر للنعمة، والصبر للمصيبة، والرّضا بالقضاء- لم يكن عبده على حرف.
وقد تدبّرت وجوه الخلاف في القراءات فوجدتها سبعة أوجه:
أولها: الاختلاف في إعراب الكلمة، أو في حركة بنائها بما لا يزيلها عن صورتها في الكتاب ولا يغيّر معناها نحو قوله تعالى: {هؤلاء بناتي هنّ أطهر لكم} [هود: 78] {وأطهر لكم وهل نجازي إلّا الكفور} [سبأ: 17] {وهل يجازى إلّا الكفور}، {ويأمرون النّاس بالبخل} [النساء: 37] وبالبخل، {فنظرةٌ إلى ميسرةٍ} [البقرة: 280] وميسرة.
والوجه الثاني: أن يكون الاختلاف في إعراب الكلمة وحركات
[تأويل مشكل القرآن: 36]
بنائها بما يغيّر معناها، ولا يزيلها عن صورتها في الكتاب، نحو قوله تعالى: {ربّنا باعد بين أسفارنا} [سبأ: 19] وربّنا باعد بين أسفارنا، {وإذ تلقّونه بألسنتكم} [النور: 15] وتلقونه، {وادّكر بعد أمّةٍ} [يوسف: 45] وبعد أمة.
والوجه الثالث: أن يكون الاختلاف في حروف الكلمة دون إعرابها، بما يغيّر معناها ولا يزيل صورتها، نحو قوله: {وانظر إلى العظام كيف ننشزها} [البقرة: 259] وننشرها، ونحو قوله: {حتّى إذا فزّع عن قلوبهم} [سبأ: 23] وفرّغ.
والوجه الرابع: أن يكون الاختلاف في الكلمة بما يغيّر صورتها في الكتاب، ولا يغيّر معناها، نحو قوله: «إن كانت إلّا زقية» وصيحةً [يس: 29] و«كالصّوف المنفوش» و{وتكون الجبال كالعهن المنفوش (5)} [القارعة: 5].
والوجه الخامس أن يكون الاختلاف في الكلمة بما يزيل صورتها ومعناها نحو قوله: «وطلع منضود» في موضع وطلحٍ منضودٍ (29) [الواقعة: 29].
والوجه السادس: أن يكون الاختلاف بالتقديم والتأخير. نحو قوله: {وجاءت سكرة الموت بالحقّ} [ق: 19]، وفي موضع آخر: «وجاءت سكرة الحقّ بالموت».
[تأويل مشكل القرآن: 37]
والوجه السابع: أن يكون الاختلاف بالزيادة والنقصان، نحو قوله تعالى: «وما عملت أيديهم»، {وما عملته أيديهم} [يس: 35]، ونحو قوله: {إنّ اللّه هو الغنيّ الحميد} [لقمان: 26] وإن الغني الحميد.
وقرأ بعض السلف: {إنّ هذا أخي له تسعٌ وتسعون نعجةً} [ص: 23] أنثى، {وإنّ السّاعة آتيةٌ أكاد أخفيها} [طه: 15] من نفسي فكيف أظهركم عليها.
فأما زيادة دعاء القنوت في مصحف أبيّ، ونقصان أمّ الكتاب والمعوّذتين من مصحف عبد اللّه، فليس من هذه الوجوه، وسنخبر بالسبب فيه، إن شاء اللّه.
وكل هذه الحروف كلام اللّه تعالى نزل به الروح الأمين على رسوله عليه السلام وذلك أنه كان يعارضه في كل شهر من شهور رمضان بما اجتمع عنده من القرآن فيحدث اللّه إليه من ذلك ما يشاء، وينسخ ما يشاء،
[تأويل مشكل القرآن: 38]
وييسّر على عباده ما يشاء. فكان من تيسيره: أن أمره بأن يقرئ كل قوم بلغتهم وما جرت عليه عادتهم: فالهذليّ يقرأ «عتّى حين» يريد {حتّى حينٍ} [المؤمنون: 54]، لأنه هكذا يلفظ بها ويستعملها.
والأسديّ يقرأ: {تعلمون وتعلم وتسودّ وجوهٌ} [آل عمران: 106] {وألم أعهد إليكم} [يس: 60].
والتّميميّ يهمز. والقرشيّ لا يهمز.
والآخر يقرأ {وإذا قيل لهم} [البقرة: 11] {وغيض الماء} [هود: 44] بإشمام الضم مع الكسر، {وهذه بضاعتنا ردّت إلينا} [يوسف: 65] بإشمام الكسر مع الضم {وما لك لا تأمنّا} [يوسف: 11] بإشمام الضم مع الإدغام، وهذا ما لا يطوع به كل لسان.
ولو أن كل فريق من هؤلاء، أمر أن يزول عن لغته، وما جرى عليه اعتياده طفلا وناشئا وكهلا- لاشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه،
[تأويل مشكل القرآن: 39]
ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للّسان، وقطع للعادة. فأراد اللّه، برحمته ولطفه، أن يجعل لهم متّسعا في اللغات، ومتصرّفا في الحركات، كتيسيره عليهم في الدّين حين أجاز لهم على لسان رسوله، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، أن يأخذوا باختلاف العلماء من صحابته في فرائضهم وأحكامهم، وصلاتهم وصيامهم، وزكاتهم وحجّهم، وطلاقهم وعتقهم، وسائر أمور دينهم.
فإن قال قائل: هذا جائز في الألفاظ المختلفة إذا كان المعنى واحدا، فهل يجوز أيضا إذا اختلفت المعاني؟.
قيل له: الاختلاف نوعان: اختلاف تغاير، واختلاف تضادّ. فاختلاف التّضاد لا يجوز، ولست واجده بحمد اللّه في شيء من القرآن إلا في الأمر والنهي من الناسخ والمنسوخ.
(واختلاف التغاير جائز)، وذلك مثل قوله: {وادّكر بعد أمّةٍ} [يوسف: 45] أي بعد حين، وبعد أمّةٍ أي بعد نسيان له، والمعنيان جميعا وإن اختلفا صحيحان، لأنه ذكر أمر يوسف بعد حين وبعد نسيان له، فأنزل اللّه على لسان نبيه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، بالمعنيين جميعا في غرضين.
[تأويل مشكل القرآن: 40]
وكقوله: {إذ تلقّونه بألسنتكم} [النور: 15] أي تقبلونه وتقولونه، و(تلقونه) من الولق، وهو الكذب، والمعنيان جميعا وإن اختلفا صحيحان، لأنهم قبلوه وقالوه، وهو كذب، فأنزل اللّه على نبيه بالمعنيين جميعا في غرضين.
وكقوله: {ربّنا باعد بين أسفارنا} [سبأ: 19] على طريق الدعاء والمسألة، و«ربّنا باعد بين أسفارنا» على جهة الخير، والمعنيان وإن اختلفا صحيحان، لأن أهل سبأ سألوا اللّه أن يفرّقهم في البلاد فقالوا: {ربّنا باعد بين أسفارنا} فلما فرقهم اللّه في البلاد أيادي سبأ، وباعد بين أسفارهم، قالوا: ربّنا باعد بين أسفارنا وأجابنا إلى ما سألنا، فحكى اللّه سبحانه عنهم بالمعنيين في غرضين.
وكذلك قوله: {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلّا ربّ السّماوات والأرض} [الإسراء: 102] ولقد علمت ما أنزل هؤلاء لأن فرعون قال لموسى إن آياتك التي أتيت بها سحر.
فقال موسى مرّة: لقد علمت ما هي سحر ولكنها بصائر، وقال مرّة: لقد علمت أنت أيضا ما هي سحر، وما هي إلا بصائر. فأنزل اللّه المعنيين جميعا.
وقوله: {وأعتدت لهنّ متّكأً} [يوسف: 31] وهو الطعام، و(أعتدت لهن متكا) وهو الأترج، ويقال: الزّماورد، فدلت هذه القراءة على معنى ذلك الطعام، وأنزل اللّه بالمعنيين جميعا.
وكذلك ننشرها و«ننشزها» [البقرة: 259]، لأن الإنشار: الإحياء، والإنشاز هو: التحريك للنقل، والحياة حركة، فلا فرق بينهما.
[تأويل مشكل القرآن: 41]
وكذلك: {فزّع عن قلوبهم} [سبأ: 23] و(فرّغ)، لأن فرّغ: خفف عنها الفزع، وفرّغ: فرّغ عنها الفزع.
وكل ما في القرآن من تقديم أو تأخير، أو زيادة أو نقصان- فعلى مثل هذه السبيل.
فإن قال قائل: فهل يجوز لنا أن نقرأ بجميع هذه الوجوه؟.
قيل له: كل ما كان منها موافقا لمصحفنا غير خارج من رسم كتابه- جاز لنا أن نقرأ به. وليس لنا ذلك فيما خالفه، لأن المتقدمين من الصحابة والتابعين، قرؤوا بلغاتهم، وجروا على عادتهم، وخلّوا أنفسهم وسوم طبائعهم، فكان ذلك جائزا لهم، ولقوم من القرّاء بعدهم مأمونين على التنزيل، عارفين بالتأويل، فأما نحن معشر المتكلفين، فقد جمعنا اللّه بحسن اختيار السلف لنا على مصحف هو آخر العرض، وليس لنا أن نعدوه، كما كان لهم أن يفسّروه، وليس لنا أن نفسّره.
ولو جاز لنا أن نقرأه بخلاف ما ثبت في مصحفنا، لجاز أن نكتبه على الاختلاف والزيادة والنقصان والتقديم والتأخير، وهناك يقع ما كرهه لنا الأئمة الموفّقون، رحمة اللّه عليهم.
وأما نقصان مصحف عبد اللّه بحذفه (أمّ الكتاب)
[تأويل مشكل القرآن: 42]
و(المعوّذتين)، وزيادة أبيّ بسورتي القنوت- فإنا لا نقول: إن عبد اللّه ووأبيّا أصابا وأخطأ المهاجرون والأنصار، ولكنّ (عبد اللّه) ذهب فيما يرى أهل النظر إلى أن (المعوذتين) كانتا كالعوذة والرّقية وغيرها، وكان يرى رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، يعوّذ بهما الحسن والحسين وغيرهما، كما كان يعوّذ بأعوذ بكلمات اللّه التّامة، وغير ذلك، فظنّ أنهما ليستا من القرآن، وأقام على ظنّه ومخالفة الصحابة جميعا كما
[تأويل مشكل القرآن: 43]
أقام على التّطبيق.
[تأويل مشكل القرآن: 44]
وأقام غيره على الفتيا بالمتعة، والصّرف.
ورأى آخر أكل البرد وهو صائم.
[تأويل مشكل القرآن: 45]
ورأى آخر أكل السّحور بعد طلوع الفجر الثاني. في أشباه لهذا كثيرة.
[تأويل مشكل القرآن: 46]
وإلى نحو هذا ذهب أبيّ في (دعاء القنوت)، لأنه رأى رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، يدعو به في الصلاة دعاء دائما، فظن أنه من القرآن، وأقام على ظنه، ومخالفة الصحابة.
وأما فاتحة الكتاب فإني أشك فيما روي عن عبد اللّه من تركه إثباتها في مصحفه، فإن كان هذا محفوظا فليس يجوز لمسلم أن يظنّ به الجهل بأنها من القرآن، وكيف يظنّ به ذلك وهو من أشد الصحابة عناية بالقرآن،
[تأويل مشكل القرآن: 47]
وأحد الستة الذين انتهى إليهم العلم، و(النبيّ) صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يقول: «من أحبّ أن يقرأ القرآن غضّا. كما أنزل فليقرأه قراءة ابن أمّ عبد».
وعمر يقول فيه: كنيف ملئ علما.
وهو مع هذا متقدّم الإسلام بدريّ لم يزل يسمع رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يؤمّ بها، وقال: «لا صلاة إلا بسورة الحمد»
وهي السبع المثاني، وأم الكتاب، أي أعظمه، وأقدم ما نزل منه كما سميت مكة أم القرى
[تأويل مشكل القرآن: 48]
لأنها أقدمها، قال اللّه عز وجل: {إنّ أوّل بيتٍ وضع للنّاس للّذي ببكّة مباركاً} [آل عمران: 96].
ولكنه ذهب، فيما يظنّ أهل النظر، إلى القرآن إنما كتب وجمع بين اللوحين مخافة الشك والنسيان، والزيادة والنقصان، ورأى ذلك لا يجوز على سورة الحمد لقصرها ولأنها تثنى في كل صلاة وكل ركعة، ولأنه لا يجوز لأحد من المسلمين ترك تعلّمها وحفظها، كما يجوز ترك تعلم غيرها وحفظه، إذ كانت لا صلاة إلا بها.
فلما أمن عليها العلّة التي من أجلها كتب المصحف، ترك كتابتها وهو يعلم أنها من القرآن.
ولو أن رجلا كتب في المصحف سورا وترك سورا لم يكتبها، لم نر عليه في ذلك وكفا إن شاء اللّه تعالى.
[تأويل مشكل القرآن: 49]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
ذكر, باب

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:48 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir