(1) وهذا هو مَسْلَكُ المُؤْمِنِ في كُلِّ شيءٍ؛ لأنَّ بابَ الاشْتِبَاهِ، وبابَ الجهلِ ليسَ خاصًّا بالصفاتِ، قد يُشْكِلُ عليه أشياءُ في الصلاةِ و الزكاةِ و الصيامِ و الحَجِّ والمعاملاتِ و الطلاقِ والدعاوي والبَيِّنَاتِ والأوقافِ، فالبابُ واحدٌ، ينبغي للمؤمنِ أنْ يَسْلُكَ مَسْلَكَ أهلِ العلمِ في اتِّبَاعِ الكتابِ والسنَّةِ، وإيثارِ الحقِّ في بابِ الصفاتِ وغيرِها.
في بابِ الصفاتِ مَسْلَكُ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ إثباتُ الصفاتِ، ونفيُ مُشَابَهَةِ اللَّهِ للمخلوقاتِ.
وفي بابِ العباداتِ التمَسُّكُ بما جاءَ في الشرعِ، وتَرْكُ ما خَالَفَ ذلك.
في المعاملاتِ ما دَلَّ عليه الشرعُ في أحكامِ المعاملاتِ وغيرِ ذلكَ.
وإذا اشْتَبَه عليه شيءٌ وحارَ في شيءٍ فلْيَسْأَلْ رَبَّه التوفيقَ والهدايةَ، ويَسْأَلْ رَبَّه أنْ يَفْتَحَ عليه مِن العلمِ ما يُزِيلُ هذه الشبهةَ، ومِن ذلك ما كانَ يدعو به النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاةِ التَّهَجُّدِ: (اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ؛ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
يَسْأَلُ رَبَّه أنْ يَفْتَحَ عليه، وأنْ يَهْدِيَهُ لِمَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فيه؛ لأنَّ الغالبَ أنْ يكونَ الاشتباهُ في مَحَلِّ الاختلافِ، مَحَلُّ الإجماعِ ليسَ فيه اشتباهٌ، تَطْمَئِنُّ القلوبُ إليه، لكنْ يكونُ الاشتباهُ في الغالبِ فيما وَقَعَ فيه الخلافُ، فعندَ هذا إذَا وَقَعَ في قَلْبِكَ شيءٌ ولم يَنْشَرِحْ صَدْرُكَ ولم تَطْمَئِنَّ نَفْسُك، فاسْأَلْ رَبَّكَ الهدايةَ واضْرَعْ إليه أن يَهْدِيَ قَلْبَكَ، وأنْ يُبَصِّرَكَ ويَمْنَحَكَ العلمَ النافعَ والبصيرةَ والفقهَ في الدينِ، ومِن ذلك هذا الدعاءُ: ((اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ...)).
(2) والمعنى أنَّه ما يَكْتَفِي بالدعاءِ، يَدْعُو ويَعْمَلُ ويُرَاجِعُ الأدلَّةَ ويُرَاجِعُ كلامَ الصحابةِ، كلامَ أهلِ العلمِ في المسالةِ التي أُشْكِلَتْ عليه، فيَأْخُذُ بالأسبابِ.
يُراجِعُ الأدِلَّةَ، ويَتَأَمَّلُ، ويُخْلِصُ للهِ، ويَسْأَلُ ربَّه الإعانَةَ والتوفيقَ حتى تَنْشَرِحَ نَفْسُه للحقِّ، ويَزُولَ ما في نفسِه من الشبهةِ، فالدعاءُ وحدَه لا يَكْفِي، والتفتيشُ وحدَه لا يَكْفِي، يجمعُ بينَهما، يَدْعُو ربَّه، ويُخْلِصُ إليه سبحانه وتعالى ويَصْدُقُ في ذلك، يُطَالِعُ ويُرَاجِعُ، ويَسْأَلُ أهلَ العلمِ، وهكذا، يَأْخُذُ بالأسبابِ كلِّها.
هكذا الصادقُ في طَلَبِه يَجْمَعُ بينَ الأسبابِ كلِّها، مثلَ مَن يَطْلُبُ الرزقَ، كذلك يَفْعَلُ الأسبابَ، إنْ كانَ في مَزْرَعَةٍ سَقَى الزَّرْعَ، واعْتَنَى بالزرعِ، وأزالَ أسبابَ فسادِ الزرْعِ، معَ الإخلاصِ للهِ، ومعَ سؤالِ اللَّهِ التوفيقَ، ومعَ سؤالِ اللَّهِ نُزُولَ البَرَكَةِ، وإنْ كانَ في جِهَادٍ أخَذَ السلاحَ، وأَعَدَّ السلاحَ وحَذَّرَ مِن العدوِّ ومكائِدِ العدوِّ، ومعَ ذلكَ يَسْأَلُ ربَّه النصرَ؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ}. وهكذا في المسائلِ الأخرَى.
(3) وبِضِدِّها تَتَبَيَّنُ الأشياءُ، فإذا كانَ طالبُ العلمِ قد عَرَفَ حالَ المُتَكَلِّمين، ونهايةَ إقدامِهِم، وما صارُوا إليه مِن الشكِّ والرَّيْبِ، ثم تَحَوُّلَ بعضِهم إلى قولِ أهلِ الحقِّ، وعَرَفَ أنَّ ما يَدَّعُونَه مِن الدَّعَاوَى ما بينَ كَذِبٍ، وما بينَ قِياسٍ فاسدٍ، وما بينَ بُرْهَانٍ لا حَقِيقَةَ له وإنَّما هو شُبْهَةٌ، وما بينَ قَوَاعِدَ أَسَّسُوها لا أساسَ لها، وبينَ إجماعاتٍ ادَّعَوْها لا حقيقةَ لها، إذا كانَ عندَه بَصيرةٌ بهذه الأمورِ ازْدَادَ عِلماً، وازْدَادَ بَصِيرةً، واطْمَأَنَّ إلى ما هَدَاهُ اللَّهُ إليه مِن العلمِ الذي حُرِمَه أولئكَ، حتى وَصَلُوا بعدَه إلى الشكِّ والرَّيْبِ والجَهْلِ، أو رَجَعُوا بعدَه إلى الحقِّ والصوابِ. واللَّهُ المُسْتَعَانُ.
(4) لأن عِلْمَه السابقَ بِبُطْلانِ ما عليه أهلُ الباطلِ يَزِيدُه عِلماً بما هو عليه مِن الحقِّ، ويَزِيدُه ثَبَاتاً.