669- وعَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنهَا قَالَتْ: جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ فَقَالَتْ: إِنِّي كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ، فَأَعِينِينِي. فقُلْتُ: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ، ويَكُونَ وَلاؤُكِ لِي، فَعَلْتُ. فذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا، فقَالَتْ لَهُمْ، فأَبَوْا عَلَيْهَا، فجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ، ورَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ جَالِسٌ، فقَالَتْ: إِنِّي قَدْ عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فأَبَوْا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الوَلاءُ لَهُمْ، فسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فقَالَ: ((خُذِيهَا، وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلاءَ، فَإِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ))، ففَعَلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنهَا، ثُمَّ قَامَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في النَّاسِ، فحَمِدَ اللهَ، وأَثْنَى عليهِ، ثُمَّ قالَ: ((أَمَّا بَعْدُ: فَمَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ باَطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، واللفْظُ للبُخَارِيِّ.
وعندَ مُسْلِمٍ قالَ: ((اشْتَرِيهَا، وَأَعْتِقِيهَا, وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلاءَ)).
مُفْرَداتُ الحديثِ:
- بَرِيرَةُ: مَوْلاةُ عَائِشَةَ، كانَتْ تَحْتَ زَوْجِها مُغِيثٍ، وكانَ مَوْلًى مِثْلَها، فلَمَّا عَتَقَتْ خَيَّرَها النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فاخْتَارَتْ فِرَاقَهُ.
- كَاتَبْتُ أهْلِي: الكِتَابَةُ مُشْتَقَّةٌ من الكَتْبِ وهو الجَمْعُ؛ لأنَّ نُجومَ أَقْساطِها جُمِعَتْ على الرَّقِيقِ، أو من المُكاتَبَةِ، وهو العَقْدُ بينَها وبينَ مَوالِيها مِن الأنصارِ.
- أَوَاقٍ: تَقَدَّمَ أنَّ الأُوقِيَّةَ أربعونَ دِرْهماً إسلامِيًّا، وأنَّ الدِّرْهَمَ نِصْفُ مِثْقَالٍ وخُمُسُ مِثْقَالٍ، والمِثْقَالُ (4.25) غراماتٍ.
أواقٍ: جَمْعُ أُوقِيَّةٍ، وأصلُها أواقِيُّ بتشديدِ الياءِ، فحُذِفَتِ إِحْدَى اليَاءَيْنِ تَخْفِيفاً، والثانيةُ على طَرِيقَةِ قَاضٍ.
- وَلاؤُكِ لِي: أي: وَلاءُ عِتْقِكِ يَكُونُ لِي.
- مَا بَالُ: جَوابُ أَمَّا، والأصْلُ أنْ يَكُونَ بالفاءِ، ولكنَّها قَدْ تُحْذَفُ، ومعنَى ((بالُ)) يعني ما حَالُ رِجَالٍ، وشَأنُهم.
- رِجَالٍ: لإشعارِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّ قِصَّةَ المُبايَعَةِ كَانَتْ معَ رِجَالٍ، وفي بعضِ رواياتِ الْبُخَارِيِّ: ((مَا بَالُ أَقْوَامٍ)) وفي بَعْضِها: ((مَا بَالُ أُنَاسٍ)).
- لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ: أي: لَيْسَتِ الشروطُ في حُكْمِ اللهِ تعالى وقضائِه في كتابِه، وسُنَّةِ رسولِه صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، بل هي مِمَّا يُخالِفُ الكتابَ والسُّنَّةَ والإجماعَ.
- ما كانَ: كَلِمَةُ ((مَا)) شَرْطِيَّةٌ؛ فلذلك دخَلَتِ الفاءُ في جَوابِها، وهو قولُه: ((فَهُوَ بَاطِلٌ)).
- بَاطِلٌ: في اللُّغَةِ: ذَاهِبٌ ضَائِعٌ لاغٍ.
وشَرْعاً: مَا وَقَعَ غَيْرَ صحيحٍ مِن أَصْلِه، فلا نَفَاذَ له.
- وإنْ كانَ مِائَةَ شَرْطٍ: لَمْ يَقْصِدْ بالمِائَةِ التحديدَ، وإنَّما قَصَدَ التوكيدَ، والمُبالغةَ للعُمومِ، يعني أنَّ الشُّروطَ التي لَمْ تُشْرَعْ باطِلَةٌ، ولو كَثُرَتْ.
- أحَقُّ وأَوْثَقُ: جَاءَا على صِيغةِ التفضيلِ، ولَيْسَا على بَابِهِما، وإنَّما هُمَا صِفَتَانِ مُشْتَبِهَتَانِ، فالمُرادُ: إِنَّ قَضَاءَ اللهِ، وشَرْطُ اللهِ هما الحَقُّ القَوِيُّ.
- أَوْثَقُ: يُقالُ: وَثُقَ الشَّيْءُ يَوْثُقُ وَثَاقَةً: قَوِيَ وكانَ مُحكَماً، والمعنَى: أقْوَى وأَشَدُّ اسْتِحْكاماً.
- إنَّما الوَلاءُ لمَنْ أَعْتَقَ: هذهِ صِيغَةُ حَصْرٍ: بأنَّ وَلاءَ العَتَاقَةِ، ومَا يَتَرَتَّبُ عليهِ من عُصوبَةٍ، ومُناصَرَةٍ، وتَوَارُثٍ، ونحوِها هي لمَن أَسْدَى النِّعْمَةَ على الرَّقيقِ بالعِتْقِ، وصَارَ سَبَباً في حُرِّيَّتِه.
قولُه: ((أَحَقُّ وَأَوْثَقُ))، و((لِمَنْ أَعْتَقَ))، فيهِ سَجْعٌ، وهو نَوْعٌ مِن أنواعِ البَدِيعِ, وهو مِن مُحَسِّنَاتِ اللفْظِ إذا لَمْ يَكُنْ فيهِ تَكَلُّفٌ، وإنَّما نَهَى عن سَجْعِ الكُهَّانِ لِمَا فيهِ من التكَلُّفِ.
- الوَلاءُ: يُقالُ: وَالَى فُلاناً مُوالاةً: نَاصَرَهُ وأعَانَهُ، فالوَلاءُ بفَتْحِ الوَاوِ مَمْدُودٌ لُغَةً: القَرَابَةُ.
وشَرْعاً: عُصوبَةٌ سَبَبُها نِعْمَةُ المُعْتِقِ على رَقِيقِه بالعِتْقِ.
ما يُؤْخَذُ مِنَ الحَدِيثِ:
هذا الحديثُ جَلِيلٌ عَظِيمُ الفائِدَةِ، لِمَا اشْتَمَلَ عليهِ مِن الأحْكَامِ، ولِمَا حَوَى مِن الفَوَائِدِ والفَرَائِدِ.
وقدْ أَفْرَدَهُ بعضُ العلماءِ بالتَّصْنِيفِ، واسْتَخْرَجُوا منه مَا يَزِيدُ علَى أَرْبَعِمِائَةِ فَائِدَةٍ، ونَحْنُ نُجْمِلُ أهَمَّ الأحكامِ الظَّاهِرَةِ في:
1- خُلاصَةُ القِصَّةِ أنَّ أمَةً لأحَدِ بُيوتِ أَهْلِ المَدينَةِ، يُقالُ لَهَا: بَرِيرَةُ. اشْتَرَتْ نَفْسَها مِن أسْيَادِهِم(1) بتِسْعِ أَوَاقٍ فِضَّةٍ، لهم كُلَّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، فجَاءَتْ تَسْتَعِينُ عَائِشَةَ علَى وَفاءِ دَيْنِها، فقَالَتْ لها عَائِشَةُ: (اذْهَبِي إلى أسْيَادِكِ فَأَخْبِرِيهِمْ أَنِّي مُسْتَعِدَّةٌ أَنْ أَدْفَعَ أقْسَاطَ دَيْنِ الكِتَابَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ ليَكُونَ وَلاؤُكِ خَالِصاً). فأخْبَرَتْهُم فأَبَوْا إلاَّ أَنْ يَكُونَ لهم الوَلاءُ، فعَلِمَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وقالَ لعَائِشَةَ: ((اشْتَرِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلاءَ، فَإِنَّمَا الوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ)).
ثُمَّ خَطَبَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ النَّاسَ، ونَهَاهُمْ عن الشُّرُوطِ المُحَرَّمَةِ، وأَخْبَرَهُم بأنَّ أَيَّ شَرْطٍ لَيْسَ في كتابِ اللهِ فهو باطِلٌ، وبَيَّنَ لهم أنَّ الولاءَ لمَن أَعْتَقَ.
2-مَشْرُوعِيَّةُ مُكاتَبَةِ الرَّقِيقِ؛ لأنَّها طَرِيقٌ إلى تَخْلِيصِه من الرِّقِّ، الذي هو مِن أَفْضَلِ الأعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
3-أنَّ دَيْنَ الكِتَابَةِ يَكُونُ مُؤَجَّلاً يُحَلُّ قِسْطاً قِسْطاً؛ لأنَّ الرَّقِيقَ حِينَ عَقَدَ الكِتَابَةَ لا يَمْلِكُ شَيْئاً، فصَارَ التَّأْجِيلُ فيها لازِماً، ومن هذا أخَذَ العلماءُ مَعْناها واشتقاقَها.
4-جوازُ تَعْجِيلِ تَسْلِيمِ الأقساطِ المُؤجَّلَةِ، فإنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أقرَّ عَائِشَةَ على استعدادِها لدَفْعِها لهم مُعَجَّلَةً.
5-أنَّ الولاءَ لِمَن أعْتَقَ؛ لأنَّه لُحْمَةٌ كلُحْمَةِ النَّسَبِ، أمَّا اشتراطُه للبَائِعِ فبَاطِلٌ.
6-أنَّ اشْتِرَاطَه مِن البَائِعِ لا يُؤَثِّرُ في صِحَّةِ عَقْدِ البَيْعِ، إِنَّما الذي يَبْطُلُ الشَّرْطُ وحْدَه؛ لمُخالَفَتِه مُقْتَضَى العَقْدِ.
7-اسْتِحْبابُ تَبْيِينِ الأحْكَامِ عندَ المُناسَبَاتِ، وأنْ يَكُونَ في المَجامِعِ الحَافِلَةِ؛ كخُطَبِ الجُمُعَةِ، والمَجامِعِ الكبيرةِ، ووسائلِ الإعلامِ، من الصُّحُفِ، والإذاعةِ، والتِّلْفازِ وغيرِ ذلك.
8-استحبابُ افتتاحِ الخُطَبِ، بحمدِ اللهِ والثناءِ عليهِ، لتَحُلَّ بها البَرَكَةُ.
9-استحبابُ الابتداءِ بـ ((أمَّا بَعْدُ))؛ لأنَّها يُؤْتَى بها في الكلامِ، للانتقالِ من أُسلوبٍ إلى غَيْرِه، ومن مَوْضوعٍ إلى آخَرَ.
10-أنَّ كُلَّ شَرْطٍ يُخالِفُ حُكْمَ اللهِ فهو بَاطِلٌ مَرْدُودٌ، وإنْ كَثُرَ، فلَيْسَ المِائَةُ في الحديثِ بعددٍ مَقْصودٍ، وإِنَّما المرادُ به التكثيرُ والمبالغةُ؛ كقولِهِ تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ} [التوبة: 80].
11-أنَّ حُدودَ اللهِ وأَحْكَامَه وأقْضِيَتَهُ وشُرُوطَه هي المُتَّبَعَةُ، وما عَدَاها فَلاَ يُلْتَفَتُ إليه، ((فَقَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ)).
12-أنَّ العِتْقَ بأيِّ طَرِيقٍ يُسَبِّبُ الوَلاءَ، سَوَاءٌ كَانَ مُنْجَزاً، أَوْ مُكَاتَباً، أو غيرَ ذلك من طُرُقِه؛ لعُمومِ: ((الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ)).
13-أنَّ الشُّروطَ التي علَى خِلافِ مُقْتَضَى العَقْدِ فَاسِدَةٌ بنَفْسِها، ولكنَّها غَيْرُ مُفْسِدَةٍ للعَقْدِ.
14-قولُه: ((شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ)): قالَ ابْنُ القَيِّمِ: لَيْسَ المُرَادُ بهِ القُرآنُ قَطْعاً، فإِنَّ أكْثَرَ الشُّروطِ الصحيحةِ لَيْسَتْ في القرآنِ، بل عُلِمَتْ مِن السُّنَّةِ، فعُلِمَ أنَّ المُرادَ بكتابِ اللهِ حُكْمُه؛ فإنَّه يُطْلَقُ على كَلامِه، وعلى حُكْمِه الذي حَكَمَ بهِ على لِسَانِ رَسولِه صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، ومَعلومٌ أنَّ كُلَّ شَرْطٍ لَيْسَ في حُكْمِ اللهِ فهو مُخالِفٌ له، فيَكُونُ بَاطِلاً، والصَّوابُ إِلْغَاءُ كُلِّ شَرْطٍ خَالَفَ حُكْمَ اللهِ, واعتبارُ كُلِّ شَرْطٍ لَمْ يُحَرِّمْهُ اللهُ, ولَمْ يَمْنَعْ منه.
15-الوَلاءُ عُصوبَةٌ سَبَبُها نِعْمَةُ المُعْتِقِ على عَتِيقِه؛ ولذا جاءَ في الحديثِ الذي رَوَاهُ الحاكِمُ (7990) وابنُ حِبَّانَ (4950) أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: ((الْوَلاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، لاَ يُبَاعُ، وَلاَ يُوهَبُ)).
يَرِثُ بهِ المُعْتِقُ - بكسرِ التاءِ - وتَرِثُ بهِ عَصَبَةُ المُعْتِقِ المُتعَصِّبونَ بأنْفُسِهم، كما سيأتي بيانُه في بابِه إنْ شَاءَ اللهُ تعالى.
16-أُشْكِلَ على كَثِيرٍ مِن العُلماءِ إِذْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لعَائِشَةَ بشِرَاءِ بَرِيرَةَ، واشْتِرَاطِ الوَلاءِ لهم, وهو شَرْطٌ بَاطِلٌ.
وأحْسَنُ جَوابٍ عن ذلك: أنَّهم يَعْلَمُونَ فَسَادَ الشَّرْطِ, وأقْدَمُوا عليهِ, فأرَادَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنْ يُعامِلَهُم بنَقِيضِ قَصْدِهم، فأمْهَلَهُم يُمارِسُونَ هذا الشَّرْطَ، ثُمَّ أَعْلَنَ فَسَادَهُ، وعَدَمَ نُفوذِهِ، وغَضِبَ وزَجَرَهُم عن التلاعُبِ بأحكامِ اللهِ، إلاَّ أنَّه صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ جعَلَ وَعْظَه وزَجْرَه عامًّا؛ ليَكُونَ رَدْعاً لهم ولغَيْرِهم، كما هي عَادَتُه في مِثْلِ هذه المواقِفِ.
خِلافُ العُلماءِ:
اخْتَلَفَ العُلماءُ: هل الأَصْلُ في العُقودِ والشُّروطِ الحَظْرُ إِلاَّ ما وَرَدَ الشرْعُ بإجازَتِه، أو أنَّ الأصْلَ فيها الجَوازُ والصِّحَّةُ، ولا يَحْرُمُ منها ويَبْطُلُ إِلاَّ ما دَلَّّ الشَّرْعُ على تَحْرِيمِه وبُطْلانِهِ؟
قالَ شَيْخُ الإسلامِ: إِنَّ القولَ الأوَّلَ هو قَوْلُ الظَّاهِرِيَّةِ، وكَثِيرٍ من أُصولِ أبي حَنِيفَةَ، وكَثِيرٍ مِن أُصولِ الشافعِيِّ، وأُصولِ الطائِفَةِ من أصحابِ مالِكٍ وأحمدَ.
فأهْلُ الظَّاهِرِ لا يُصحِّحونَ عَقْداً، ولا شَرْطاً إِلاَّ ما ثَبَتَ جَوَازُه بنَصٍّ، أو إِجْماعٍ.
أمَّا أبو حَنِيفَةَ فأُصولُه تَقْتَضِي أنَّه لا يَصِحُّ من العُقودِ والشُّروطِ ما يُخالِفُ مُقْتَضَى العَقْدِ، وكذلك الشافعِيُّ يُوافِقُ أبا حَنِيفَةَ على أنَّ كُلَّ شَرْطٍ خَالَفَ مُقْتَضَى العَقْدِ فهو بَاطِلٌ، لكنَّه يَسْتَثْنِي مَواضِعَ لدَليلٍ خَاصٍّ.
وكذلكَ طَائِفَةٌ من أصحابِ أحمدَ يُوافِقُونَ الشافعِيَّ على مَعَانِي هذهِ الأصولِ، لكنَّهم يَسْتثنُونَ أكْثَرَ مِمَّا يَسْتَثْنيهِ الشافعِيُّ.
وهؤلاءِ الفِرَقُ الثلاثُ يُخالِفُونَ أهْلَ الظَّاهِرِ، فيَتَوَسَّعُونَ في الشُّروطِ أَكْثَرَ مِنهم؛ لقولِهِم بالقياسِ, ولِمَا يَفْهمونَهُ مِن معاني النصوصِ، التي يَنْفَرِدونَ بها عن أهْلِ الظاهِرِ.
وحُجَّةُ هَؤلاءِ:
1- قولُه صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ)) فكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ في القرآنِ، ولا في السُّنَّةِ، ولَمْ يُجْمِعْ عليهِ العُلماءُ فهو مَرْدودٌ.
2- قِيَاسُهم جَمِيعَ الشُّروطِ التي تُنافِي مُوجِبَ العَقْدِ على اشْتِراطِ الوَلاءِ؛ لأنَّ العامَّةَ فيهِ كَوْنُه مُخالفِاً لمُقْتَضَى العَقْدِ؛ لأنَّ العُقودَ تُوجَبُ مُقْتَضياتُها بالشَّرْعِ، فيُعْتَبَرُ تَغْيِيراً لِمَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ، بمَنْزِلَةِ تَغْيِيرِ العِبَادَاتِ، وهذهِ نُكْتَةُ القَاعِدَةِ، وهي أنَّ العُقودَ مَشْروعَةٌ على وَجْهٍ، فاشْتِرَاطُ ما يُخالِفُ مُقْتضاها تَغْيِيرٌ للمَشْروعِ.
أمَّا دَلِيلُ القَوْلِ الثاني: فقَدْ جَاءَ في الكتابِ والسُّنَّةِ الأمْرُ بالوَفاءِ بالعُهودِ، والمَواثِيقِ، والشُّروطِ، والعُقودِ، وأدَاءِ الأَمَانَةِ، وإذا كَانَ جِنْسُ الوَفاءِ ورِعَايَةُ العَهْدِ مَأْمُوراً بهِ، عُلِمَ أنَّ الأَصْلَ صِحَّةُ العُقودِ والشُّرُوطِ؛ إِذْ لا مَعْنَى للتصحيحِ إِلاَّ ما تَرَتَّبَ عليهِ أَثَرُه، وحَصَلَ بهِ مَقْصُودُه، ومَقْصُودُه(2) العَقْدُ هو الوَفَاءُ به.
وقدْ رَوَى أبو دَاوُدَ عن أبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ)) قالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وهذا المعنَى هو الذي يَشْهَدُ له الكتابُ والسُّنَّةُ.
فمَقْصودُ الشُّرُوطِ وُجوبُ ما لَمْ يَكُنْ وَاجِباً، ولا حَرَاماً، فمَا كَانَ مُباحاً بدُونِ الشَّرْطِ فالشَّرْطُ يُوجِبُه.
والقِياسُ المُسْتقِيمُ في هذا البابِ الذي عليهِ أُصولُ أحمدَ وغَيْرِه من فُقهاءِ المُحَدِّثِينَ، أنَّ اشْتِرَاطَ الزِّيادَةِ واشْتِرَاطَ النَّقْصِ جَائِزٌ، مَالَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ شَيْءٌ.
قالَ شَيْخُ الإسلامِ: (وتَصِحُّ الشُّرُوطُ التي لَمْ تُخَالِفِ الشَّرْعَ في جَمِيعِ العُقودِ, وسَوَاءٌ اشْتَرَطَ على البائِعِ فِعْلاً أو تَرْكاً في البَيْعِ، مِمَّا هو مَقْصُودٌ للبَائِعِ، أو المَبيعِ نَفْسِه، فيَصِحُّ البَيْعُ والشَّرْطُ).
وقالَ ابْنُ القَيِّمِ: (الضَّابِطُ الشَّرْعِيُّ أنَّ كُلَّ شَرْطٍ خَالَفَ حُكْمَ اللهِ تعالى وكِتَابَهُ فهو بَاطِلٌ، وما لَمْ يُخالِفْ فهو لازِمٌ، فإنَّ المُسلمِينَ على شُرُوطِهم إلاَّ شَرْطاً أحَلَّ حَرَاماً أو حَرَّمَ حَلالاً، وهو اخْتيارُ شَيْخِنا ابنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ).
قَرَارُ هَيْئَةِ كِبَارِ العُلماءِ بشَأْنِ صِحَّةِ الشَّرْطِ الجَزَائِيِّ ولُزُومِه:
ومُلَخَّصُ قَرَارِهم ما يلي:
إنَّ الشَّرْطَ الجَزَائِيَّ الذي يَجْرِي اشْتِرَاطُه في العُقودِ شَرْطٌ صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ، يَجِبُ الأَخْذُ به، ما لَمْ يَكُنْ هناكَ عُذْرٌ في الإِخْلالِ بالتِزَامِ المُوجِبِ له، (3)يُعْتَبَرُ شَرْعاً، فيَكُونُ العُذْرُ مُسْقِطاً لوُجُوبِه حتى يَزُولَ، وإذا كانَ الشَّرْطُ الجَزَائِيُّ كَثِيراً عُرْفاً بحَيْثُ يُرادُ به التهديدُ المالِيُّ، ويَكُونُ بعيداً عن مُقْتَضَى القواعِدِ الشَّرْعِيَّةِ، فيَجِبُ الرُّجُوعُ في ذلك إلى العَدْلِ والإنصافِ، على حَسَبِ ما فاتَ مِن مَنْفَعَةٍ، أو لَحِقَ من مَضَرَّةٍ، ويَرْجِعُ تَقْدِيرُ ذلك عندَ الاختلافِ إلى الحاكِمِ الشرعِيِّ، عن طَريقِ أهْلِ النَّظَرِ والخِبْرَةِ؛ عَمَلاً بقَوْلِه تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]. وباللهِ التوفيقُ.
قَرَارُ مَجْمَعِ الفِقْهِ الإِسْلامِيِّ بشَأْنِ مَوْضُوعِ الشَّرْطِ الجَزَائِيِّ:
إِنَّ مَجْلِسَ مَجْمَعِ الفِقْهِ الإسلامِيَّ الدَّوْلِيَّ المُنْبَثِقَ عن مُنَظَّمَةِ المؤتمرِ الإسلاميِّ في دورتِه الثانيةَ عَشْرَةَ بالرِّياضِ في المَمْلكةِ العربيةِ السُّعودِيَّةِ، من 25 جُمادَى الآخِرَةِ 1421هـ، إلى غُرَّةِ رَجَبٍ 1421هـ (23-28 سبتمبر 2000).
بعدَ اطِّلاعِه على البُحوثِ الوَارِدَةِ إلى المَجْمَعِ بخُصوصِ موضوعِ الشَّرْطِ الجَزَائِيِّ، وبعدَ استماعِه إلى المناقشاتِ التي دارَتْ حولَ الموضوعِ، بمُشاركَةِ أعضاءِ المَجْمَعِ وخُبَرائِهِ وعَدَدٍ مِن الفُقهاءِ.
قَرَّرَ ما يلي:
أَوَّلاً: الشَّرْطُ الجَزَائِيُّ في القانونِ: هو اتِّفاقٌ بينَ المُتعاقِدَيْنِ على تقديرِ التعويضِ الذي يَسْتَحِقُّه مَن شُرِطَ له عن الضَّرَرِ الذي يَلْحَقُه، إذا لَمْ يُنَفِّذِ الطَّرَفُ الآخَرُ ما الْتَزَمَ به، أو تَأَخَّرَ في تَنْفيذِه.
ثانياً: يُؤَكِّدُ المجلسُ قَرَاراتِه السابقةَ بالنِّسْبةِ للشرطِ الجزائِيِّ الوَارِدَةَ في قرارِه في السَّلَمِ، رَقْمِ: (85) (2/9)، ونَصُّهُ: لا يَجُوزُ الشَّرْطُ الجزائِيُّ عن التأخيرِ في تَسْلِيمِ المُسَلَّمِ فيه؛ لأنَّه عِبَارَةٌ عن دَيْنٍ، ولا يَجُوزُ اشتراطُ الزِّيادةِ في الدُّيونِ عندَ التأخيرِ.
وقَرَارِه في الاستصناعِ رَقْمِ: (65)، (3/7) ونَصُّه: يَجُوزُ أَنْ يَتَضَمَّنَ عَقْدُ الاستصناعِ شَرْطاً جَزَائِيًّا بمُقْتَضَى ما اتَّفَقَ عليهِ العاقدانِ، ما لَمْ تَكُنْ هناكَ ظُرُوفٌ قَاهِرَةٌ.
وقَرَارِه في البيعِ بالتقسيطِ رَقْمِ: (51) (2/6) ونَصُّه: إذا تَأَخَّرَ المُشْترِي المَدِينُ في دَفْعِ الأقساطِ بعدَ المَوْعَدِ المُحدَّدِ فلا يَجُوزُ إلزامُه. أي: زِيَادَةً على الدَّيْنِ، بشَرْطٍ سابِقٍ أو بدُونِ شَرْطٍ؛ لأنَّ ذلك رِبًا مُحَرَّمٌ.
ثالثاً: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ الجَزَائِيُّ مُقْتَرِناً بالعَقْدِ الأَصْلِيِّ، كما يَجُوزُأَنْ يَكُونَ في اتِّفاقٍ لاحِقٍ قَبْلَ حُدوثِ الضَّرَرِ.
رَابِعاً: يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ الشَّرْطُ الجَزَائِيُّ في جَميعِ العُقودِ الماليَّةِ، ما عدا العُقودَ التي يَكُونُ الالتزامُ الأصْلِيُّ فيها دَيْناً، فإنَّ هذا من الرِّبَا الصريحِ.
وبناءً على هذا، فيَجُوزُ هذا الشرطُ مَثَلاً في عُقودِ المُقاولاتِ بالنِّسْبةِ للمُقاولِ، وعَقْدِ التوريدِ بالنِّسْبةِ للمُوَرِّدِ، وعَقْدِ الاستصناعِ بالنِّسْبةِ للصانعِ، إذا لَمْ يُنَفِّذْ ما الْتَزَمَ به، أو تَأَخَّرَ في تَنْفِيذِه.
ولا يَجُوزُ مَثَلاً في البَيْعِ بالتقسيطِ بسَبَبِ تَأَخُّرِ المَدِينِ عن سَدَادِ الأَقْساطِ المُتَبَقِيَّةِ، سَواءٌ كانَ بسَبَبِ الإعسارِ، أو المُماطَلَةِ، ولا يَجُوزُ في عَقْدِ الاستصناعِ بالنِّسْبَةِ للمُسْتَصْنِعِ إذا تَأَخَّرَ في أداءِ ما عليهِ.
خامساً: الضَّرَرُ الذي يَجُوزُ التعويضُ عنه يَشْمَلُ الضَّرَرَ المالِيَّ الفعلِيَّ، وما لَحِقَ المَضْرُورَ مِن خَسارَةٍ حَقِيقِيَّةٍ، وما فَاتَهُ من كَسْبٍ مُؤَكَّدٍ، ولا يَشْمَلُ الضَّرَرَ الأدَبِيَّ، أو المَعْنَوِيَّ.
سَادِساً: لا يُعْمَلُ بالشرطِ الجَزَائِيِّ إذا أثْبَتَ مَن شُرِطَ عليهِ أنَّ إخلالَهُ بالعقدِ كانَ بسَبَبٍ خارِجٍ عن إراداتِهِ، أو أثْبَتَ أنَّ مَن شُرِطَ له لَمْ يَلْحَقْهُ أيُّ ضَرَرٍ من الإخلالِ بالعَقْدِ.
سابعاً: يَجُوزُ للمَحْكَمَةِ بناءً على طلبِ أحَدِ الطَّرَفَيْنِ أنْ تَعْدِلَ في مِقْدارِ التعويضِ، إذا وَجَدَتْ مُبَرِّراً لذلك، أو كانَ مُبالَغاً فيه.
تَوْصِيَاتٌ:
يُوصِي المَجْمَعُ بعَقْدِ نَدْوَةٍ مُتَخَصِّصةٍ لبَحْثِ الشُّروطِ، والتدابيرِ التي تُقْتَرَحُ للمَصارِفِ الإسلامِيَّةِ، لضمانِ حُصولِها على الدُّيونِ المُسْتَحَقَّةِ لها.
واللَّهُ سُبْحَانَهُ وتعالى أعْلَمُ
(1) لعلها : " أسيادها ".
(2) لعلها : " مقصود ، فإذا صوبت هكذا تصحح العقدُ إلى العقدِ " .
(3) لعله يوجد (و).