دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > الرسالة التدمرية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 4 ذو الحجة 1429هـ/2-12-2008م, 03:06 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي القاعدة الثانية: يجب الإيمان بما أخبر به الرسول عن ربه جل وعلا سواء عرفنا معناه أو لم نعرف...

الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ عَنْ رَبِّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، سَوَاءً عَرَفْنَا مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ نَعْرِفْ؛ لِأَنَّهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ، فَمَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ الْإِيمَانُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ.
وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، مَعَ أَنَّ هَذَا الْبَابَ يُوجَدُ عَامَّتُه مَنْصُوصًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ سَلَفِ الْأُمَّةِ.
وَمَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ، نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، فَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَلْ وَلاَ لَهُ أَنْ يُوَافِقَ أَحَدًا عَلَى إِثْبَاتِ لَفْظٍ أَوْ نَفْيِهِ، حَتَّى يَعْرِفَ مُرَادَه، فَإِنْ أَرَادَ حَقًّا قُبِلَ، وَإِنْ أَرَادَ بَاطِلًا رُدَّ، وَإِنِ اشْتَمَلَ كَلاَمُه عَلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ لَمْ يُقْبَلْ مُطْلَقًا وَلَمْ يُرَدَّ جَمِيعُ مَعْنَاهُ، بَلْ يُوقَفُ اللَّفْظُ وَيُفَسَّرُ الْمَعْنَى، كَمَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَلَفْظُ " الْجِهَةِ " قَدْ يُرَادُ بِهِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ غَيْرُ اللَّهِ فَيَكُونُ مَخْلُوقًا، كَمَا إِذَا أُرِيدَ بِالْجِهَةِ نَفْسُ الْعَرْشِ أَوْ نَفْسُ السَّمَاوَاتِ. وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا إِذَا أُرِيدَ بِالْجِهَةِ مَا فَوْقَ الْعَالَمِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي النَّصِّ إِثْبَاتُ لَفْظِ " الْجِهَةِ " وَلاَ نَفْيُهُ، كَمَا فِيهِ إِثْبَاتُ " الْعُلُوِّ " وَ " الِاسْتِوَاءِ " وَ "الْفَوْقِيَّةِ" وَ" الْعُرُوجِ إِلَيْهِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ مَا ثَمَّ مَوْجُودٌ إِلاَّ الْخَالِقَ وَالْمَخْلُوقَ، وَالْخَالِقُ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ، وَلاَ فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ.
فَيُقَالُ لِمَنْ نَفَى الْجِهَةَ: أَتُرِيدُ بِالْجِهَةِ أَنَّهَا شَيْءٌ مَوْجُودٌ مَخْلُوقٌ، فَاللَّهُ لَيْسَ دَاخِلًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ، أَمْ تُرِيدُ بِالْجِهَةِ مَا وَرَاءَ الْعَالَمِ، فَلاَ رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَالَمِ، بَائِنٌ مِنَ المَخْلُوقَاتِ.
وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ فِي جِهَةٍ: أَتُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَالَمِ، أَوْ تُرِيدُ بِهِ أَنَّ اللَّهَ دَاخِلٌ فِي شَيْءٍ مِنَ المَخْلُوقَاتِ. فَإِنْ أَرَدْتَ الْأَوَّلَ فَهُوَ حَقٌّ، وَإِنْ أَرَدْتَ الثَّانِيَ فَهُوَ بَاطِلٌ.
وَكَذَلِكَ لَفْظُ "الْمُتَحَيِّزِ"، إِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ تَحُوزُهُ الْمَخْلُوقَاتُ فَاللَّهُ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ، بَلْ قَدْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاوَاتِ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ).
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: (وَإِنَّهُ لَيَدْحُوَهَا كَمَا يَدْحُو الصِّبْيَانُ بِالْكُرَةِ ) وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ إِلاَّ كَخَرْدَلَةٍ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ.
وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ مُنْحَازٌ عَنِ المَخْلُوقَاتِ، أَيْ: مُبَايِنٌ لَهَا، مُنْفَصِلٌ عَنْهَا، لَيْسَ حَالاّ فِيهَا. فَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ: فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ.


  #2  
قديم 6 ذو الحجة 1429هـ/4-12-2008م, 09:52 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تقريب التدمرية للشيخ: محمد بن صالح العثيمين


فَصْلٌ


القَاعِدَةُ الثانيَةُ
مَا أَخْبَرَ اللهُ تَعَالى بهِ في كِتَابِهِ، أَوْ أَخْبَرَ بِهِ رَسُولَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَبَ عليْنَا الإِيمانُ بِهِ، سَواءٌ، عَرَفْنَا معناهُ، أَمْ لمْ نَعرِفْهُ.
لقولِهِ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ)([1]). وقولِهِ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً)([2]).
ولأنَّ خبرَ اللهِ تعالى صادرٌ عنْ علْمٍ تامٍّ، فهوَ أعلَمُ بنفسِهِ وبغيرِهِ كمَا قالَ اللهُ تعالى: (قُلْ ءَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ)([3]).
ولأنَّ خبرَ اللهِ تعالى أَصْدَقُ الأخبارِ كمَا قالَ تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً)([4]).
ولأنَّ كلامَ اللهِ تعالى أفصَحُ الكلامِ، وأَبلَغُهُ، وأَبْيَنُهُ كمَا قالَ اللهُ تعالى: (وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً)([5]). وقالَ: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ)([6]). مُتشابِهاً يُشْبِهُ بعضُهُ بعضاً في الكمالِ والبيانِ. وقالَ تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَبِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)([7]).
ولأنَّ اللهَ تعالى يُريدُ بمَا أنْزَلَ إلى عِبادِهِ منَ الوحيِ أنْ يَهتدُوا ولاَ يَضِلُّوا كمَا قالَ تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)
(([8])). وقال: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)([9]).
وهكذَا خبرُ النَّبيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صادرٌ عنْ علْمٍ فإنَّهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَعلمُ النَّاسِ بربِّهِ، وأسمائِهِ، وصفاتِهِ، وأحكامِهِ.
وخبرُهُ أَصدقُ أخبارِ البشَرِ، وكلامُهُ أَفْصَحُ كلامِ البشرِ، وقصْدُهُ أَفضلُ مقصودِ البشرِ، فهوَ أنصحُ الخلقِ للخلقِ.
فقدِ اجْتَمعَ في خبرِ اللهِ تعالى وخبرِ رسولهِ كمالُ العلْمِ، وكمالُ الصِّدقِ وكمالُ البيانِ، وكمالُ القصْدِ والإِرادةِ، وهذه هيَ مقوِّماتُ قَبولِ الخبرِ ولهذَا لو صَدرَ الخبرُ عنْ جاهلٍ أو كاذبٍ، أو عَيِيٍّ، أو سيِّئِ قصْدٍ لمْ يكنْ مقبولاً لفَقْدِ مقوِّماتِ القَبولِ أوْ أَحدِهَا.
فإذَا كانتْ مقوِّماتُ قَبولِ الخبرِ تامَّةً على أكمَلِ وجهٍ في خبرِ اللهِ ورسولِهِ وَجَبَ الإِيمانُ بهِ، وقَبولُهُ سواءٌ كانَ نفْياً، أمْ إثباتاً، ولمْ يَبقَ عذْرٌ لمعتذِرٍ في ردِّهِ، أو تحريفِهِ، أو الشكِّ في مدلولهِ، لا سيِّما في أسماءِ اللهِ تعالى وصفاتِهِ.
وكذلكَ ما ثَبَتَ باتِّفاقِ سلَفِ الأمَّةِ وأئمَّتِهَا وَجَبَ قَبولُهُ وعامَّةُ هذَا البابِ "بابُ الأسماءِ والصِّفاتِ" منصوصٌ عليهِ في الكتابِ والسُّنَّةِ متَّفَقٌ عليهِ بينَ سلَفِ الأمَّةِ.
وأمَّا ما تَنازَعَ فيهِ المتأخِّرونَ مما ليسَ في الكتابِ والسُّنَّةِ ولاَ عندَ سلَفِ الأمَّةِ فليسَ على أحدٍ، بلْ وليسَ لأحدٍ أنْ يُثْبِتَ لفظَهُ، أوْ ينْفِيَهُ لعدمِ وُرودِ السَّمعِ بهِ، وليسَ لهُ أنْ يَقبلَ معناهُ أو يَرُدَّهُ حتّى يَعلَمَ المرادَ منْهُ فإنْ كانَ حقًّا وَجَبَ قَبولُهُ وإنْ كانَ باطلاً وَجَبَ رَدُّهُ.
ولذلكَ أَمْثِلةٌ، منْهَا:

المثالُ الأوَّلُ: الجِهَةُ:
أيْ لوْ قالَ قائلٌ: إنَّ اللهَ في جهةٍ، أوْ هلْ للهِ جِهةٌ؟
فيُقالُ لهُ: لفظُ "الْجِهةِ" ليسَ في الكتابِ والسُّنَّةِ إثباتُهُ ولا نفيُهُ، فليسَ فيهَما أنَّهُ في جِهةٍ، أوْ لهُ جِهةٌ، ولاَ أنَّهُ ليسَ في جِهةٍ، أوْ ليسَ لهُ جِهةٌ، وفي النُّصوصِ ما يُغْنِي عنْهُ كالعُلُوِّ، والفوْقيَّةِ، والاسْتواءِ على العرْشِ، وصعودِ الأشياءِ إليهِ ونزولِهَا منْهُ.
وقدِ اضْطَّرَبَ المتأخِّرونَ في إثباتِهِ ونفيِهِ، فإذَا أجْريْنَاهُ على القاعدةِ قلْنَا: أما اللَّفْظُ فلاَ نُثْبِتُهُ ولاَ ننفيهِ لعدَمِ وُرُودِ ذلكَ، وأما المعنى فيُنْظَرُ ماذَا يُرادُ بالجِهةِ، أيُرَادُ بالجهةِ شيءٌ مخلوقٌ محيطٌ باللهِ عزَّ وجلَّ، فهذَا معنىً باطلٌ لا يَليقُ باللهِ سبحانَهُ فإنَّ اللهَ لا يُحيطُ بهِ شيءٌ منْ المخلوقاتِ فقدْ وَسِعَ كرسيُّهُ السمواتِ والأرضَ، ولا يَؤُودُهُ حفظُهُمَا، ولاَ يُمكِنُ أنْ يكونَ داخلَ شيءٍ منْ مخلوقاتِهِ.
أمْ يُرادُ بالْجِهةِ ما فوقَ العالَمِ، فهذَا حقٌّ ثابتٌ للهِ عزَّ وجلَّ فإنَّ اللهَ تعالى فوقَ خلقِهِ عالٍ عليهمْ، كما دلَّ على ذلكَ الكتابُ، والسُّنَّةُ، والإِجماعُ، والعقلُ، والفِطرةُ، وفي صحيحِ مسلِمٍ منْ حديثِ معاويةَ بنِ الحكَمِ السُّلَمِيِّ أنَّ النَّبيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالَ لجاريةٍ كانتْ لهُ: "أيْنَ اللهُ؟" قالتْ: في السَّماءِ. قالَ: "مَنْ أَنَا؟" قالتْ: أنْتَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: "أَعْتِقْهَا فإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ".

المثالُ الثاني: الحيِّزُ أوِ المُتَحيِّزُ:
فإذَا قالَ قائلٌ: هَلْ نَصِفُ اللهَ تعالى بأنَّهُ مُتحيِّزٌ أوْ في حَيِّزٍ؟
قلنَا: لفظُ "التحيُّزُ" أو "الحيِّزُ" ليسَ في الكتابِ والسُّنَّةِ إثباتُهُ ولا نفْيُهُ عنِ اللهِ تعالى، فليسَ فيهمَا انَّهُ في حيِّزٍ، أوْ مُتحَيِّزٍ، ولاَ أنَّه ليسَ كذلكَ وفي النُّصوصِ ما يُغْنيِ عنْهُ مثلُ الكبيرِ المُتعالِ.
وقَدِ اضْطَرَبَ المتأخِّرونَ في إثباتِ ذلكَ للهِ تعالى أوْ نفيِهِ عنْهُ فإذَا أَجريْنَاهُ على القاعدةِ قُلْنَا: أمَّا اللَّفْظُ فلاَ نُثْبِتُهُ ولا نَنْفِيهِ لعدمِ وُرودِ السَّمْعِ بِهِ، وأمَّا المعْنى فَيُنْظَرُ ماذا يُرادُ بالحيِّزِ أوِ المتحيِّزِ أيُرادُ بهِ أنَّ اللهَ تعالى تحُوزُهُ المخْلوقاتُ وتحيطُ بهِ، فهذَا معنًى باطلٌ منفيٌّ عنِ اللهِ تعالى لا يَلِيقُ بهِ فإنَّ اللهَ أكبرُ، وأعظمُ، وأجلُّ من أنْ تُحيطَ بهِ المخلوقاتُ وتَحوزُهُ كيفَ وقدْ وَسِعَ كرسُّيهُ السَّمواتِ والأرضَ، والأرضُ جميعاً قبضتُهُ يومَ القيامةِ والسَّمواتُ مطوِيَّاتٌ بِيَمينِهِ؟! وفي الصَّحِيحَيْنِ وغيرِهِمَا منْ حديثِ أبي هريرةَ – رضيَ اللهُ عنْهُ – أنَّ النَّبيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالَ: "يَقْبِضُ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالى الأَرْضَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَطْوِي السَّمواتِ بِيَمِينِهِ ثمَّ يَقُولُ: أَنَا المَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ؟". وقالَ ابنُ عبَّاسٍ – رضَي اللهُ عنْهُمَا -: "ما السَّمواتُ السَّبْعُ والأَرْضُونَ السَّبْعُ وما فِيهِنَّ في يدِ الرَّحمنِ إلاّ كخَرْدَلَةٍ في يدِ أحدِكِمْ".
أمْ يُرادُ بالحيِّزِ أوِ المُتحَيِّزِ: أنَّ اللهَ مُنْحَازٌ عنِ المخلوقات أيْ مبايِنٌ لهَا منْفصِلٌ عنْهَا ليسَ حالاًّ فيهَا، ولاَ هيَ حالَّةٌ فيهِ، فهذَا حقٌّ ثابتٌ للهِ عزَّ وجلَّ كمَا قالَ أئمَّةُ أهلِ السُّنَّةِ هُوَ فَوْقَ سمواتِهِ على عرْشِهِ، بائنٌ منْ خَلْقِهِ.

(تنبيهٌ)
جاءَ في القاعدةِ "أنَّهُ يَجِبُ علينَا الإِيمانُ بمَا أَخْبرَ اللهُ بهِ ورسولُهُ سواءٌ عرفْنَا معناهُ أمْ لاَ" لكنْ ليُعْلَمْ أنَّهُ ليْسَ في كلامِ اللهِ ورسولِهِ شيءٌ لا يَعْرِفُ معنَاهُ جميعُ الأمَّةِ، بلْ لا بدَّ أنْ يكونَ معروفاً لجميعِ الأمَّةِ أوْ بعضِهَا لقولِهِ تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)([10]). وقولِهِ: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)([11]).

ولأنَّهُ لوْ كانَ فيهِ ما لاَ يَعْلَمُ معْناهُ أحدٌ لكانَ بعضُ الشريعةِ مجهولاً للأمَّةِ، ولكنَّ المعرفةَ والخفاءَ أمرانِ نِسبيَّانِ، فقدْ يكونُ معروفاً لشخصٍ مَا كانَ خَفِيًّا على غيرِهِ، إما لنقْصٍ في عِلمِهِ، أو قُصُورٍ في فَهْمِهِ، أوْ تقصيرٍ في طلبِهِ، أوْ سوءٍ في قصدِهِ.

([1]) سورة النساء، الآية: 136.

([2]) سورة النساء، الآية: 170.

([3]) سورة البقرة، الآية: 140.

([4]) سورة النساء، الآية: 87.

([5]) سورة الفرقان، الآية: 33.

([6]) سورة الزمر، الآية: 23.

([7]) سورة الشعراء، الآية: 193.

([8]) سورة النساء، الآية: 26.

([9]) سورة النساء، الآية: 176.

([10]) سورة النحل، الآية: 44.

([11]) سورة النحل، الآية: 89.



  #3  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 02:27 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التحفة المهدية للشيخ: فالح بن مهدي الدوسري


القاعــدةُ الثانيــةُ

قولُه:
القاعدةُ الثانيةُ: أن ما أَخبرَ به الرسولُ عن ربِّه فإنه يَجِبُ الإيمانُ به, سواءٌ عرَفْنَا معناه أو لم نَعْرِفْ؛ لأنه الصادقُ المصدوقُ؛ فما جاءَ في الكتابِ والسُّنَّةِ وَجَبَ على كلِّ مؤمنٍ الإيمانُ به, وإن لم يَفْهَمْ معناه.

الشرْحُ:
يَقولُ المؤلِّفُ: ما ثَبَتَ عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعيَّنَ علينا تصديقُه والإذعانُ له, ولا يَتَوقَّفُ إيمانُنا به على معرفتِنا لمعناه؛ وذلك أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هو الصادِقُ المصدوقُ) الذي لا يَنْطِقُ عن الهَوَى, إن هو إلا وحيٌ يُوحَى, فما جاءَ في كتابِ اللهِ أو صَحَّ عن رسولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَتَّمَ علينا الإيمانُ به, والعملُ بِمُقْتَضاه , وإن لم نُدرِكْ معناه , بل ما ظَهَرَ لنا وأَدْرَكَتْهُ عقولُنا فهو من تَعليمِ اللهِ لنا ونِعمتِه علينا , وما لم يَصلْ علْمُنا إليه قلنا: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.

روَى الإمامُ أحمدُ بسندِِه عن عمرِو بنِ شُعيْبٍ, عن أبيه, عن جَدِّه قالَ: لقد جلَسْتُ أنا وأخي, وإذا مَشْيَخَةٌ من أصحابِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلوسٌ عندَ بابٍ من أبوابِه, فكرِهْنا أن نُفَرِّقَ بينَهم، فجلَسْنا حَجْرَةً, إذ ذَكَرُوا آيةً من القرآنِ فتَحاوَرُوا فيها حتى ارْتفعَتْ أصواتُهم, فخرَجَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُغْضَباً قد احْمَرَّ وجهُه, يَرْمِيهم بالترابِ, ويقولُ: (مْهَلاً يَا قَوْمِ, بِهَذَا هَلَكَتِ الْأُمَمُ مِنْ قَبْلِكُمْ؛ بِاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ وَضَرْبِهِمُ الْكُتُبَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ, إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضاً، فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ, وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ). وروَى البخاريُّ, عن الإمامِ مُحَمَّدِ بنِ شِهابٍ الزُّهْرِيِّ – رَحِمَهُ اللهُ – أنه قالَ: (من اللهِ الرسالةُ، ومن الرسولِ البَلاَغُ، وعلينا التسليمُ) وهذا كلامٌ جامعٌ نافعٌ، فعلى العبدِ أن يَجْعَلَ ما بَعَثَ اللهُ به رسُلَه, وأَنْزَلَ به كُتُبَه هو الحَقَّ الذي يَجِبُ اتِّبَاعُه, فيُصَدِّقُ بأنه حقٌّ, وما سواه من كلامِ سائرِ الناسِ يُعْرَضُ عليه فإن وَافَقَه فهو حَقٌّ, وإن خَالفَه فهو باطلٌ؛ فإن الأمورَ الإلهيَّةَ والمعارفَ الدِّينيَّةَ إنما يُتلَّقَى العلْمُ بها عن الوحيَيْن لا غيرُ فلا يَثبُتُ إسلامُ من لم يُسَلِّمْ لهما, واعترَضَ عليهما أو عارضَهما برأيِه ومعقولِه وقياسِه.

قولُه:
وكذلك ما ثَبَتَ باتِّفاقِ سلَفِ الأمَّةِ وأئمَّتِها، مع أن هذا البابَ يُوجدُ عامَّتُه منصوصاً في الكتابِ والسنَّةِ، متَّفَقاً عليه بينَ سلَفِ الأمَّةِ.

الشرْحُ:
يعني: كما يَجِبُ تَلَقِّي ما جاءَ في الكتابِ والسنَّة بالقَبولِ، كذلك يَجِبُ تَلقِّي ما ثَبَتَ عن سَلَفِ الأمَّةِ من الصحابةِ والتابعين وأئمَّةِ السنَّةِ بالقَبولِ أيضاً، مع أن بابَ الأسماءِ والصفاتِ إنما يُتَلَقَّى العلْمُ به عن الوحيَيْن, لكنَّ المرادَ بيانُ أن سَلَفَ الأمَّةِ وأئمَّةَ السنَّةِ أَثْبَتُوا ما أَثْبَتَهُ الكتابُ والسنَّةُ من صفاتِ اللهِ ونُعوتِ جلالِه, كما نَفَوْا ما نَفاه عن نفسِه, أو نَفاه عنه رسولُه, صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فيَجبُ إذاً تلقِّي ما جاءَ عنهم بالقَبولِ.

ونذْكرُ هنا شيئاً مما وَردَ عن بعضِهم:
في الصحيحِ عن أنسِ بنِ مالكٍ – رَضِيَ اللهُ عنه – قالَ: كانت زينبُ تَفْتَخِرُ على أزواجِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, تقولُ: زوَّجَكُنَّ أَهاليكُنَّ, وزوَّجَنِيَ اللهُ من فوقِ سبعِ سَمواتٍ.

ورَوى عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ وغيرُه بأسانيدَ صِحاحٍ, عن ابنِ المبارَكِ أنه قيلَ له: بِمَ نَعْرِفُ ربَّنا؟ قالَ: بأنه فوقَ سمواتِه على عرشِه بائنٌ من خلْقِه، ولا نَقولُ كما قالت الجَهْميَّةُ. وحَكَى الأوزاعيُّ أحدُ الأئمَّةِ الأربعةِ في عصْرِ التابعِين الذين هم مالكٌ إمامُ أهْلِ الحجازِ، والأوزاعيُّ إمامُ أهلِ الشامِ، والليْثُ إمامُ أهلِ مصرَ، والثوريُّ إمامُ أهلِ العراقِ: حَكَى شُهْرَةَ القولِ في زمَنِ التابعين بالإيمانِ بأن اللهَ تعالى فوقَ العرْشِ وبصفاتِه السمْعيَّةِ، وإنما قالَ ذلك بعدَ ظهورِ جَهْمٍ المنْكِرِ لكوْنِ اللهِ فوْقَ عرشِه النافي لصفاتِه؛ ليَعْرِفَ الناسُ أن مذهَبَ السَلَفِ خلافُه.

فالحاصِلُ أن ما وَردَ في الكتابِ والسنَّةِ من أسماءِ اللهِ وصفاتِه فقد اتَّفقَ على إثباتِه سَلَفُ الأمَّةِ وأئمَّتُها؛ وجُلُّ هذا البابِ منصوصٌ عليه في الكتابِ والسنَّةِ.
وهناك أسماءٌ وصفات اختص بها في عِلْمِ الغيبِ عندَه كما جاءَ بذلك النصوصُ.

قولُه:
وما تَنازَعَ فيه المتأخِّرون نفْياً وإثباتاً فليس على أحدٍ، بل ولا له أن يُوافِقَ أحداً على إثباتِ لفظِه أو نفيِه حتى يَعْرِفَ مرادَه، فإن أراد حقًّا قُبِلَ، وإن أرادَ باطلاً رُدَّ، وإن اشتَمَلَ كلامُه على حقٍّ وباطلٍ لم يُقبَلْ مُطلَقاً, ولم يُرَدَّ جميعُ معناه بل يُوقَفُ اللفْظُ ويُفَسَّرُ المعْنَى.

الشرْحُ:
لقد ابتدَعَ أهلُ الإلحادِ والضلاَلِ ألفاظاً مُجْمَلةً يَدْخُلُ فيها الحقُّ والباطلُ، وذلك كلفْظِ الجهَةِ والتحيُّزِ والجسْمِ وحلولِ الحوادثِ فتنازَعَ المتأخِّرون في هذه الألفاظِ بينَ مُثْبِتٍ له ونافٍ، والصوابُ التفصيلُ في ذلك والتَّنْقِيبُ عنها، واستِفْصالُ المتكلِّمِ بها كما كان السَلَفُ والأئمَّةُ يَفعلون؛ فإن البدعةَ لا تكونُ حقًّا مَحْضاً مُوافِقاً للسنَّةِ؛ إذ لو كانت كذلك لم تكنْ باطلاً، ولا تكونُ باطلاً مَحْضاً لا حقَّ فيه؛ إذ لو كانت كذلك لم تَخْفَ على الناسِ، ولكن تَشْتَمِلُ على حقٍّ وباطلٍ، فيكون صاحبُها قد لَبَّسَ الحقَّ بالباطلِ؛ إما مُخْطِئاً غالطاً وإما متَعمِّداً لنفاقٍ فيه وإلحادٍ، كما قالَ تعالى: { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلاَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} فأَخبرَ أن المنافقين لو خَرجوا في جيشِ المسلمين ما زادوهم إلا خَبالاً، ولكانوا يَسْعَوْنَ بينَهم مُسْرِعين يَطلُبون لهم الفتنةَ.

ومن المؤمنين ما يَقبَلُ منهم ويَستجيبُ لهم؛ إما لظنٍّ مخطِئٍ أو لنوعٍ من الهَوَى أو لمجموعِهما؛ فإن المؤمنَ إنما يَدخلُ عليه الشيطانُ بنوعٍ من الظنِّ واتِّباعِ هواه، ولهذا جاءَ في الحديثِ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قالَ: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْبَصَرَ النَّافِذَ عِنْدَ وُرُودِ الشُّبُهَاتِ، وَيُحِبُّ الْعَقْلَ الْكَامِلَ عِنْدَ حُلُولِ الشَّهَوَاتِ) وبعدَ الاستفصالِ: إن كان مرادُه حقًّا قُبِلَ منه، وإن كان مرادُه باطلاً رُدَّ، وإن اشتَمَلَ كلامُه على حقٍّ وباطلٍ لم يُرَدَّ كلُّه، ولم يُقْبَلْ كلُّه، بل يُقبلُ ما فيه من حقٍّ، ويُردُّ ما فيه من باطلٍ.

مثالُ ذلك أن يقولَ المبتدِعُ: إني أُريدُ بقولي: ليس بجسمٍ. نفيَ قيامِه بنفسِه وقيامَ الصفاتِ به, ونفيَ كونِه مركَّباً من المادَّةِ والصورةِ. أويقولَ: أُرِيدُ بقولي هو جسْمٌ أنه مركَّبٌ من الجواهرِ المفرَدَةِ، وكونَه تَصِحُّ الإشارةُ إليه, وتُمْكِنُ رؤيتُه بالأبصارِ ويتَّصِفُ بالصفاتِ. فقد اشتَمَلَ هذا الكلامُ على حقٍّ وباطلٍ في حالِ النفيِ وفي حالِ الإثباتِ.

قولُه:
كما تَنازَعَ الناسُ في الجهةِ والتحيُّزِ وغيرِ ذلك

الشرْحُ:
هذا شروعٌ في التمثيلِ لما تَنازعَ فيه المتأخِّرون, وسيأتي بعد هذا كلامُ المؤلِّفِ على لفْظِ الجهةِ والتحيُّزِ, وقولُه: (وغيرِ ذلك) يعني: كلفْظِ الجسمِ فإنه مما حَصَلَ النزاعُ في إثباتِهللهِونفيِه عنه. وبيانُ كيفيَّةِ استفسارِ النافي له أو المثْبِتِ أن يُقالَ له: ما مُرادُكَ بالجسمِ؟ فإن قالَ: أرَدْتُ بالجسمِ معناه في لغةِ العربِ, وهو البدَنُ الكثيفُ الذي لا يُسَمَّى في اللغةِ جسمٌ سواه، فهذا المعنى منفيٌّ عن اللهِ سبحانَه وتعالى عقْلاً وسمْعاً, وإن قالَ: أَردتُ به المركَّبَ من المادَّةِ والصورةِ أو المركَّبَ من الجواهرِ المفرَدةِ، فهذا منفيٌّ عن اللهِ قَطْعاً، والصوابُ نفيُه من المُمْكِناتِ أيضاً. فليس الجسمُ المخلوقُ مركَّباً من هذه, ولا من هذه، وإن قالَ: أردتُ بالجسمِ ما يُوصَفُ بالصفاتِ, وتُمْكِنُ رؤيتُه بالأبصارِ، ويَتَكلَّمُ بكلاّمٍ ويَسْمَعُ ويُبصِرُ ويَرضى ويَغضَبُ، فهذه المعاني ثابتةٌللهِتعالى, وهو موصوفٌ بها فلا نَنْفِيها عنه لتسميةِ النُّفاةِ للموصوفِ بها جسْماً. وإن قالَ: أردتُ بالجسمِ ما يشارُ إليه إشارةً حسيَّةً, فقد أشارَ أَعرَفُ الخلْقِ باللهِ تعالى بأُصْبِعِه رافعاً لها إلى السماءِ بمشهَدِ الجمْعِ الأعظمِ مستقبِلاً القبلةَ، وإن قالَ: أردْتُ بالجسمِ ما يُقالُ له: أين؟ فقد سألَ أعلَمُ الخلْقِ به بأين منَبِّهًا على عُلُوِّهِ على عرْشِه، وإن قالَ: أردْتُ بالجسمِ ما يَلْحَقُه من وإلى فقد نَزلَ جبريلُ عليه السلامُ من عندِه تعالى, وعُرِجَ برسولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه، وإليه يَصْعَدُ الكَلِمُ الطيِّبُ، وعبدُه عيسى ابنُ مريمَ رُفِعَ إليه.

قولُه:
فلفظُ الجهةِ قد يُرادُ به شيءٌ موجودٌ غيرَ اللهِ فيكونُ مخلوقاً، كما إذا أُريدَ بالجهةِ نفْسُ العرْشِ، أو نفسُ السمواتِ، وقد يُرادُ به ما ليس بموجودٍ غيرُ اللهِ تعالى، كما إذا أُريدَ بالجهةِ ما فوقَ العالَمِ. ومعلومٌ أنه ليس في النصِّ إثباتُ لفظِ الجهةِ ولا نفيُه، كما فيه إثباتُ العُلُوِّ والاستواءِ، والفوقيَّةِ والعروجِ إليه، ونحوَ ذلك، وقد عُلِمَ أن ما ثَمَّ موجودٌ إلا الخالقُ والمخلوقُ. والخالقُ مبايِنٌ للمخلوقِ – سبحانَه وتعالى – ليس في مخلوقاتِه شيءٌ من ذاتِه، ولا في ذاتِه شيءٌ من مخلوقاتِه.

الشرْحُ:
يَقولُ المؤلِّفُ: لفظُ الجهةِ قد يُرادُ به أمْرٌ وجوديٌّ مخلوقٌ، كما إذا أُريدَ به الأجرامُ السماويَّةُ أو العرْشُ، وقد يُرادُ به أمْرٌ عدَمِيٌّ كما إذا أُريدَ به ما فوقَ العالَمِ، ولفظُ الجهةِ لم يَرِدْ في الكتابِ,ولا قالَه الرسولُ، ولا تكلَّمَ به سَلَفُ الأمَّةِ، وإنما الذي وَردَ وصفُ اللهِ بالعُلوِّ على خلقِه واستوائِه على عرشِه، وأنه تَعْرُجُ إليه الملائكةُ والرُّوحُ. وقد عُلِمَ أن ما في الوجودِ إلا الخالقُ والمخلوقُ. ومن المعلومِ شرْعاً وعقْلاً أن كلاّ منهما مبايِنٌ للآخَرِ منفصِلٌ عنه,ليس حالاّ فيه.

وقولُه: (شيءٌ موجودٌ غيرَ اللهِ) المرادُ بالموجودِ ضِدُّ المعدومِ فيَدخلُ فيه الخالقُ والمخلوقُ، ولهذا استثنى بقولِه (غيرَ اللهِ) ثم بيَّنَ هذا الغيرَ بقولِه: (كما إذا أُريدَ به نفسُ العرْشِ أو نفْسُ السمواتِ) وقولُه: (ما ليس بموجودٍ) معناه أنه قد يُرادُ بلفظِ الجهةِ ما لا وُجودَ له. ولهذا استثنى بقولِه:غيرَ اللهِ. فيكونُ هذا الغيرُ أمراً عدَمِيًّا، وهو ما وراءَ العالَمِ,وقولُه:( ونحوَ ذلك ) يعنى: ككونِه سبحانَه أَنزلَ القرآنَ ونَزلَ من عندِه جبريلُ، وأشباهِ ذلك مما فيه إثباتُ عُلُوِّهِ على خلقِه سبحانَه وتعالى.

قولُه:
فيُقالُ لمن نَفَى: أتريدُ بالجهةِ أنها شيءٌ موجودٌ مخلوقٌ؟ فاللهُ ليس داخلاً في المخلوقاتِ، أم تريدُ بالجهةِ ما وراءَ العالَمِ؟ فلا ريبَ أن اللهَ فوقَ العالَمِ مبايِنٌ للمخلوقاتِ.
وكذلك يُقالُ لمن قالَ: (اللهُ في جهةٍ) أتريدُ بذلك أن اللهَ فوقَ العالَمِ, أو تريدُ أن اللهَ داخلٌ في شيءٍ من المخلوقاتِ؟ فإن أردتَ الأوَّلَ فهو حقٌّ, وإن أردتَ الثانيَ فهو باطلٌ.
وكذلك لفظُ التحيُّزِ: إن أرادَ به أن اللهَ تَحُوزُه المخلوقاتُ, فاللهُ أعظمُ وأكبرُ, بل قد وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السمواتِ والأرضَ، وقد قالَ اللهُ تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} وقد ثَبَتَ في الصِّحاحِ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قالَ: (يَقْبِضُ اللهُ الْأَرْضَ, وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ, أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟ ). وفي حديثٍ آخَرَ: (وَإِنَّهُ لَيَدْحُوهَا كَمَا يَدْحُو الصِّبْيَانُ بِالْكُرَةِ)، وفي حديثِ ابنِ عبَّاسٍ: (مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ إِلاَّ كَخَرْدَلَةٍ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ).

وإن أرادَ به أنه منحازٌ عن المخلوقاتِ، أي: مبايِنٌ لها منفصِلٌ عنها ليس حالاّ فيها, فهو سبحانَه كما قالَ أئمَّةُ السنَّةِ: (فوقَ سمواتِه على عرشِه بائنٌ من خلقِه).

الشرْحُ:
بعدَ أن بيَّنَ المؤلِّفُ أن الجهةَ قد يُرادُ بها أمرٌ وجوديٌّ, وقد يُرادُ بها أمرٌ عدَمِيٌّ، شرَعَ في بيانِ كيفيَّةِ استفسارِ النافي للجهةِ والمثبِتِ لها.

وخلاصةُ مناقشةِ النافي أن يُقالَ له:
إن كان مرادُك بالجهةِ أمْراً وجوديًّا كالعرْشِ أو السمواتِ فنفيُكَ صحيحٌ؟ فم
ِن المعلومِ شرْعاً وعقْلاً أن اللهَ ليس حالاّ في شيءٍ من مخلوقاتِه، وإن كان مرادُك بالجهةِ أمْراً عدَميًّا وهو ما وراءَ العالَمِ فنفيُك باطلٌ، فإنك إذا قلتَ: الباري ليس في جهةٍ كان حقيقةُ قولِك أنَّ الباريَ لا يكونُ موجوداً قائماً بنفسِه, وهذا باطلٌ حيثُ لا موجودَ فوق العرْشِ إلا هو سبحانَه؛ فإن من المعلومِ بالضرورةِ أن اللهَ فوقَ سمواتِه على عرشِه.


وخلاصةُ مناقشةِ المُثْبِتِ أن يُقالَ له:
إن كان مرادُك بالجهةِ أمْراً عدَميًّا وهو ما وراءَ العالَم فلا ريبَ أن اللهَ فوقَ مخلوقاتِه عالٍ على عرشِه، وإن كان مرادُك بالجهةِ أمْراً وجوديًّا كالعرْشِ أو السمواتِ فإثباتُك باطلٌ؛ لأن اللهَ سبحانَه ليس داخلاً في شيءٍ من مخلوقاتِه. وقولُه: (فإن أردتَ الأوَّل
َ) يعني: إذا أردتَ بالجهةِ ما وراءَ العالَمِ. وقولُه: (وإن أردتَ الثانيَ) يعني: إذا أردتَ بالجهةِ شيئاً من المخلوقاتِ.


أما لفظُ المتحيِّزِ فهو في اللغةِ اسمٌ لما يَتَحَيَّزُ إلى غيرِه يُقالُ: هذا لابدَّ أن يُحِيطَ به حيِّزٌ وجوديٌّ، ولا بدَّ أن يَنتقلَ من حيِّزٍ إلى حيِّزٍ. قالَ تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهَ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} ومعلومٌ أن الخالقَ جلَّ جلالُه لا يُحيطُ به شيءٌ من مخلوقاتِه فلا يكونُ متحيِّزاً بهذا المعنى اللُّغَويِّ. وأما أهلُ الكلامِ فاصطلاحُهم في المتحيِّزِ أعمُّ من هذا؛ فيَجْعَلون كلَّ جسمٍ متحيِّزاً. والجسمُ عندَهم ما يُشارُ إليه، فتكونُ السمواتُ والأرضُ وما بينَهما على اصطلاحِهم متحيِّزاً, وإن لم يُسَمَّ ذلك في اللغةِ.

والحيِّزُ تارةً يريدون به معنًى موجوداً, وتارةً يريدون به معنًى معدوماً, فمن تكلَّمَ باصطلاحِهم, وقالَ: إن اللهَ متحيِّزٌ بمعنى أحاطَ به شيءٌ من الموجوداتِ فهذا مُخْطئٌ، فهو سبحانَه بائنٌ من خلقِه، وإذا كان الخالقُ بائناً عن المخلوقِ امتَنَعَ أن يكونَ متحيِّزاً بهذا الاعتبارِ، وإن أرادَ بالحيِّزِ معنًى عدَميًّا فالأمرُ العدَميُّ لا شيءَ، وهو سبحانَه بائنٌ من خلقِه، فإذا سُمِّيَ العدَمُ الذي فوقَ العالَمِ حيِّزاً وقالَ: يَمتنِعُ أن يكونَ فوقَ العالَمِ؛ لئلاَّ يكونَ متحيِّزاً فهذا معنًى باطلٌ؛ لأنه ليس هناك موجودٌ غيرُه حتى يكونَ فيه، بل يَجِبُ أن يُعْلَمَ أن العالَمَ العُلْويَّ والسُّفْليَّ بالنسبةِ إلى الخالقِ تعالى في غايةِ الصِّغَرِ, كما قالَ تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.

وفي الصحيحين, عن أبي هريرةَ, عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قالَ: (يَقْبِضُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ,وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِك
أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟ ).

وفي الصحيحين, واللفظُ لمسلِمٍ, عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَطْوِي اللهُ السَّمَوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ,ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى, ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ, أَيْنَ الْجَبَّارُونَ, أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ ثُمَّ يَطْوِي الْأَرْضَ بِشِمَالِهِ, ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ, أَيْنَ الْجَبَّارُونَ, أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ) وفي لفظٍ في الصحيحين, عن عبدِ اللهِ بنِ مِقْسَمٍ أنه نَظَرَ إلى عبدِ اللهِ بنِ عمرَ كيف يَحْكِي النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: يَأْخُذُ سَمَوَاتِهِ وَأَرْضَهُ بِيَدِهِ, وَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ, ويَقبِضُ أصابِعَه, ويَبْسُطُها حتى نظرْتُ إلى المِنبرِ يتحرَّكُ من أسفلِ شيءٍ منه, حتى إنى أقولُ: أساقطٌ هو برسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي لفظٍ قالَ: رأيتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المِنبرِ وهو يقولُ: (يَأْخُذُ الْجَبَّارُ سَمَوَاتِهِ وَأَرْضَهُ), وقَبَضَ بيدِه, وجَعلَ يَقْبِضُها ويَبْسُطُها, ويقولُ: أَنَا الرَّحْمَنُ، أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا السَّلاَمُ، أَنَا الْمُؤْمِنُ، أَنَا الْمُهَيْمِنُ، أَنَا الْعَزِيزُ، أَنَا الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ، أَنَا الَّذِي بَدَأْتُ الدُّنْيَا, وَلَمْ تَكُنْ شَيْئاً، أَنَا الَّذِي أَعَدْتُهَا, أَيْنَ الْمُلُوكُ؟ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ يَتَمايلُ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على يمينِه وعلى شِمالِه, حتى نظَرْتُ المِنبرَ يَتحرَّكُ من أسفلِ شيءٍ منه، حتى إني أقولُ: أَساقِطٌ هو برسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ والحديثُ مَرْوِيٌّ في المسانيدِ, وفي الصحاحِ, وغيرِها بألفاظٍ يُصَدِّقُ بعضُها بعضاً، وفي بعضِ ألفاظِه قالَ: قرَأَ على المِنبرِ: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (الآيةَ) قالَ: مَطْوِيَّةٌ في كفِّه يَرْمِي بها كما يَرْمِي الغلامُ بالكُرَةِ، وفي لفظٍ: (يَأْخُذُ الْجَبَّارُ سَمَوَاتِهِ وَأَرْضَهُ بِيَدِهِ، فَيَجْعَلُهَا ِفي كَفِّهِ ثُمَّ, يَقْبِضُ بِهَا هَكَذَا, كَمَا يَقُولُ الصِّبْيَانُ بِالْكُرَةِ: أَنَا اللهُ الْوَاحِدُ) وفي لفظٍ عنه: (مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ بِيَدِ الرَّحْمَنِ إِلاَّ كَخَرْدَلَةٍ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ).

وهذه الآثارُ معروفةٌ في كتُبِ الحديثِ. وفي الصحيحين عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ قالَ: أتَى النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلٌ يهوديٌّ فقالَ: يا مُحَمَّدُ, إنَّ اللهَ يَجْعَلُ السمواتِ على إِصبَعٍ، والماءَ والثراءَ على إِصبَعٍ، وسائرَ الخلْقِ على إصبَعٍ، فَيَهُزُّهُنَّ فيقولُ: أنا الملِكُ أنا الملِكُ. قالَ: فضَحِكَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بَدَتْ نَواجِذُه، تصديقاً لقولِ الحَبْرِ, ثم قالَ: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} إلى آخرِ الآيةِ.

والحاصلُ أن في هذه الآيةِ والأحاديثِ الصحيحةِ المفسِّرَةِ لها المستفيضةِ التي اتَّفقَ أهلُ العلْمِ على صحَّتِها وتلقِّيها بالقَبولِ ما يُبَيِّنُ أن السمواتِ والأرضَ، وما بينَهما بالنسبةِ إلى عظمَةِ اللهِ تعالى أصغَرُ من أن تكونَ مع قبضِه لها إلا كالشيءِ الصغيرِ في يدِ أحدِنا، ودَحْيُ الكرةِ دَحْرَجَتُها, والعرشُ في اللغةِ سَريرُ المُلْكِ, كما في قولِه تعالى عن يوسُفَ: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ } وقالَ عن مَلِكةِ سَبَأٍ: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}.

وأما عرشُ الرحمنِ الذي اسْتَوَى عليه فهو عرشٌ عظيمٌ , محيطٌ بالمخلوقاتِ وهو أعلاها وأكبرُها. كما في حديثِ أبى ذرٍّ – رَضِيَ اللهُ عنه – أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: (مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ عِنْدَ الْكُرْسِيِّ إِلاَّ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي أَرْضٍ فَلاَةٍ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلاَةِ عَلَى الْحَلْقَةِ) والحديثُ له طُرُقٌ وقد رواه أبو حاتمٍ وابنُ حِبَّانَ في صحيحِه وأحمدُ في المسنَدِ وغيرُهم. والكرسيُّ في اللغةِ السَّريرُ وما يُقْعَدُ عليه، وأما الْكُرْسِيُّ الذي أضافَه إلى نفسِه فهو موضِعُ قَدَمَيْهِ. قالَ ابنُ عبَّاسٍ – رَضِيَ اللهُ عنهما -: (الكُرْسِيُّ موضِعُ القدمين، والعرْشُ لا يُقَدِّرُ قدْرَه إلا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ) رواه الحاكمُ في المُسْتَدرَكِ، وقالَ: إنه على شرطِ الشيخين. وقد رُوِيَ مرفوعا,ً والصوابُ أنه موقوفٌ. وهذا المعنى الذي ذكَرَه ابنُ عبَّاسٍ هو المشهورُ بينَ أهلِ السنَّةِ, وهو المحفوظُ عنه، وما رُوِيَ عنه أنه العِلْمُ فغيرُ محفوظٍ عنه, وكذلك ما رُوِيَ عن الحسنِ أنه العرْشُ ضعيفٌ لا يَصِحُّ عنه. و (الْخَرْدَلَةُ): واحدةُ الْخَرْدَلِ، وهو نباتٌ له حَبٌّ صغيرٌ جدًّا أسودُ.

واعلمْ أن هذه الألفاظَ المجمَلةَ وما أشبَهَها من الألفاظِ الاصطلاحيَّةِ يَجوزُ مخاطبةُ أهلِها بها, وإن لم تكنْ وَاردةً، وذلك يَحتاجُ إلى معرفةِ الكتابِ والسنَّةِ، ومعرفةِ ما عَنَى هؤلاءِ بألفاظِهم، ثم اعتبارِ هذه المعاني بهذه المعاني ليَظهَرَ الموافقُ والمخالِفُ، والدليلُ على جوازِ مخاطبةِ أهلِ الاصطلاحِ باصطلاحِهم قولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمِّ خالدٍ بنتِ خالدِ بنِ سعيدِ بنِ العاصِ، وكانت صغيرةً وُلِدَتْ بأرضِ الحبشةِ: (هَذَا سَنَاءٌ) والسناءُ الحسَنُ في لغتِهم؛ لأنها كانت من أهلِ هذه اللغةِ، وكذلك يُتَرْجَمُ القرآنُ والحديثُ لمن يَحتاجُ إلى تَفَهُّمِهِ إيَّاه بالتَّرْجَمَةِ، وكذلك يَقْرَأُ المسلِمُ ما يَحتاجُ إليه من كُتبِ الأمَمِ وكلامِهم بلغتِهم ويُتَرْجِمُه بالعربيَّةِ، كما أَمَرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيدَ بنَ ثابتٍ أن يَتعلَّمَ كتابَ اليهودِ ليَقْرَأَ ويَكْتُبَ له ذلك؛ حيث لم يَأْتَمِنِ اليهودَ عليه. وكثيرٌ ممن قد تَعَوَّدَ عبارةً معيَّنَةً إن لم يُخاطَبْ بها لم يَفْهَمْ صِحَّةَ القولِ. وأكثرُ الخائضين في الكلامِ والفلسفةِ من هذا القَبيلِ، يَرى أحدُهم تُذْكَرُ له المعاني الصحيحةُ بالنصوصِ الشرعيَّةِ فلا يَقْبَلُها، لظنِّهم أن في عبارتِهم من المعاني ما ليس في تلك، فإذا أُخِذَ المعنى الذي دَلَّ عليه الشرْعُ واستُعْمِلَ بِلُغتِهم، وبيَّنَ بُطلانَ قولِهم المناقِضِ للمعنى الشرعيِّ خَضَعوا لذلك وأَذْعَنوا، كالترْكِيِّ، والروميِّ، والفارسيِّ، الذي تُخاطبُه بالقرآنِ العربيِّ وتفسيرِه، فلا يَفْهَمُ حتى تُتَرْجِمَ له شيئاً بلُغَتِه، فيَعْظُمُ سرورُه وفرحُه ويَقْبَلُ الحقَّ ويَرْجِعُ عن باطلِه.


  #4  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 02:29 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التوضيحات الأثرية للشيخ: فخر الدين بن الزبير المحسِّي


القاعدةُ الثانيةُ

( حُكْمُ ما يُضافُ إلى اللهِ تعالى من الأسماءِ والصِّفَاتِ )

قولُه: ( القاعدةُ الثانيةُ: أنَّ ما أَخْبَرَ به الرسولُ عن رَبِّه فإنه يَجِبُ الإيمانُ به، سواءٌ عَرَفْنا معناه أو لم نَعْرِفْ؛ لأنه الصادقُ المصدوقُ، فما جاءَ في الكتابِ والسُّنَّةِ وَجَبَ على كلِّ مؤمِنٍ الإيمانُ به, وإن لم يَفْهَمْ معناه، وكذلك ما ثَبَتَ باتِّفاقِ سلَفِ الأمَّةِ وأئمَّتِها، مع أنَّ هذا البابَ يُوجَدُ عامَّتُه مَنصوصًا في الكتابِ والسُّنَّةِ، مُتَّفَقٌ عليه بينَ سلَفِ الأمَّةِ، وما تَنَازَعَ فيه المتأخِّرون نَفْيًا وإثباتًا فليس على أَحَدٍ، بل ولا له أن يُوافِقَ أحَدًا على إثباتِ لفْظِه أو نَفْيِه، حتى يَعْرِفَ مُرادَه فإنْ أَرَادَ حَقًّا قُبِلَ، وإن أَرَادَ باطِلاً رُدَّ، وإن اشْتَمَلَ كلامُه على حقٍّ وباطِلٍ لم يُقْبَلْ مُطْلَقًا, ولم يُرَدَّ جميعُ معناه، بل يُوقَفُ اللفظُ, ويُفَسَّرُ المعنى ) .

التوضيحُ

أَوَّلاً: مَدَارُ القاعدةِ على أنَّ ما يُذْكَرُ من الألفاظِ في بابِ الأسماءِ والصِّفَاتِ نوعان:
1)ما وَرَدَ في الكتابِ والسُّنَّةِ .
2) ما لم يَرِدْ في الكتابِ, ولا في السُّنَّةِ .

ثانيًا: حُكْمُ ما أَخْبَرَ به الرسولُ عن ربِّه في هذا البابِ:-
يَجِبُ الإيمانُ به سواءٌ عَرَفْنَا معناه أو لم نَعْرِفْه لقولِه تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وغيرِها من الآياتِ .

ثالثًا: هل في هذا البابِ شيءٌ ثابتٌ بالإجماعِ دونَ نَصٍّ؟
عامَّةُ ما في هذا البابِ يُوجَدُ مَنصوصًا في الكتابِ والسُّنَّةِ مُتَّفَقًا عليه بينَ سلَفَ الأمَّةِ فيَجِبُ الإيمانُ به .

رابعًا: قولُه: " وإن لم يُفْهَمْ معناه ". لا يُريدُ أنَّ شيئًا من النصوصِ لا يُعْلَمُ معناها عندَ عامَّةِ الْخَلْقِ، بل قد يَتَأَخَّرُ الفَهْمُ عن البعضِ، وليس لازِمُ الكلامِ المفهومِ أن يَفْهَمَه كلُّ الناسِ من أوَّلِ وَهْلَةٍ, ولكنَّ اللهَ يَفْتَحُ على مَن يَشاءُ، وقد بَيَّنَ شيخُ الإسلامِ هذا الكلامَ في غيرِ هذا الْمَقامِ .

خامسًا: حُكْمُ الألفاظِ التي لم تَرِدْ في الشرْعِ, وتَنَازَعَ فيها الْمُتَأَخِّرونَ:
ليس على أَحَدٍ أن يُوافِقَ أَحَدًا على إثباتِ لفْظٍ أو نَفْيِه حتى يَعْرِفَ مُرَادَه, فيُثْبِتَ المعنى الصحيحَ ويَنْفِيَ المعنى الباطِلَ, مع التَّوَقُّفِ في اللفظِ لعَدَمِ وُرُودِه .


أَمْثِلَةٌ على القاعدةِ

أَوَّلاً: لَفْظُ الْجِهَةِ:

قولُه: ( كما تَنَازَعَ الناسُ في الْجِهَةِ والتَّحَيُّزِ وغيرِ ذلك، فلفْظُ، " الْجِهَةِ " قد يُرادُ به شيءٌ موجودٌ غيرُ اللهِ، فيكونُ مَخْلوقًا، كما إذا أُريدَ بالجِهَةِ نفسُ العَرْشِ أو نفْسُ السماواتِ، وقد يُرادُ به ما ليس بموجودٍ غيرِ اللهِ تعالى، كما إذا أُرِيدَ بالجِهَةِ ما فَوقَ العالَمِ، ومعلومٌ أنه ليس في النَّصِّ إثباتُ لفظِ الجِهَةِ ولا نَفْيُه، كما في إثباتِ الْعُلُوِّ والاستواءِ والفوقيَّةِ والعُروجِ إليه ونحوَ ذلك، وقد عُلِمَ أنه ما ثَمَّ موجودٌ إلا الخالقُ والمخلوقُ، والخالقُ مُبَايِنٌ للمخلوقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ليس في مخلوقاتِه شيءٌ من ذاتِه, ولا في ذاتِه شيءٌ من مخلوقاتِه، فيُقالُ لِمَنْ نَفَى الجِهَةَ: أتُرِيدُ بالجِهَةِ أنها شيءٌ موجودٌ مَخلوقٌ, فاللهُ ليس داخلاً في المخلوقاتِ، أمْ تريدُ بالجِهَةِ ما وراءَ العالَمِ؟ فلا رَيْبَ أنَّ اللهَ فوقَ العالَمِ مُبَايِنٌ للمخلوقاتِ، وكذلك يُقالُ لِمَنْ قالَ: " اللهُ في جِهَةٍ " أتُرِيدُ بذلك أنَّ اللهَ فوقَ العالَمِ، أو تريدُ به أنَّ اللهَ داخِلٌ في شيءٍ من المخلوقاتِ؟ فإن أَرَدْتَ الأوَّلَ: فهو حقٌّ، وإن أَرَدْتَ الثاني: فهو باطِلٌ ) .

التوضيحُ

ذَكَرَ شَيْخُ الإسلامِ مِثالَيْنِ على القاعِدَةِ فيما لَمْ يَرِدْ في الشرْعِ وهما لفظُ الْجِهَةِ ولفظُ الْمُتَحَيِّزِ، فالموْقِفُ فيهما ما سَبَقَ وهو الاسْتِفْصَالُ عن المعنى مع التوَقُّفِ في اللفظِ، قالَ صاحِبُ الكفايةِ:

والناسُ إنْ تَنَازَعُوا في أمْرِ = كجهةِ تَحَيُّــــزٍ وغَــيرِ
فليس للإنسانِ أنْ يُوافِقَا = نَفْيًا وإثباتًا عليه مُطْلَقَــــا
لِجَهْلِهِ المرادَ ثم إنْ عَرَفْ = إن كان حقًّا قَبِلَهُ أو ليس كَفْ

فأَوَّلاً: لفظُ الْجِهَةِ:
نُطَّبِقُ فيه القاعِدَةَ كما يَلِي:

لم يَرِدْ لَفْظُ الْجِهَةِ, بل وَرَدَ الْعُلُوُّ والاستواءُ والفوقيَّةُ والعُروجُ إليه.
معلومٌ أنه ما ثَمَّ موجودٌ إلا الخالِقُ والمخلوقُ، والخالِقُ مُبَايِنٌ للمخلوقِ فليس في ذاتِ اللهِ تعالى شيءٌ من مخلوقاتِه، ولا في مخلوقاتِه شيءٌ من ذاتِه .

فيُقالُ لِمَنْ نَفَى الْجِهةَ ليَنْفِيَ العُلُوَّ: أتريدُ بالجهةِ أنها شيءٌ مخلوقٌ؟ فاللهُ ليس دَاخِلاً في مخلوقاتِه، أم تُرِيدُ بالجِهَةِ ما وراءَ العالَمِ وفوقَه، فاللهُ فَوْقَ العالَمِ كما تَوَاتَرَتْ به النُّقولُ .
- ويُقالُ لِمَنْ قالَ: إنَّ اللهَ في جِهَةٍ: إن أَرَدْتَ أنَّ اللهَ داخِلٌ في شيءٍ من مخلوقاتِه فهو باطِلٌ، وإن أَرَدْتَ أنَّ اللهَ فوقَ العالَمِ فهو حَقٌّ، وهو الذي قَصَدَه مَن أَطْلَقَ لفْظَ الجِهَةِ من السلَفِ, كما قالَ الإمامُ الْقُرْطُبِيُّ: " وقد كان السلَفُ الأُوَلُ رَضِيَ اللهُ عنهم لا يَقولون بنَفْيِ الجِهَةِ ولا يَنْطِقُونَ بذلك، بل نَطَقُوا هم والكافُّةُ بإثباتِها لِلَّهِ تعالى، كما نَطَقَ كتابُه, وأَخْبَرَتْ رُسُلُه, ولم يُنْكِرْ أحَدٌ من السلَفِ الصالحِ أنه اسْتَوَى على عَرْشِه حقيقةً ... " .
فقَصَدَ بالجِهَةِ العُلُوَّ والاستواءَ على العَرْشِ كما هو ظاهِرٌ .
ففي كِلاَ الحالتينِ لا يُثْبَتُ لفظُ الجِهَةِ وإنما يُثْبَتُ المعنى الْحَقُّ فيها وَيُرَدُّ المعنى الباطِلُ .

ثانيًا: لفظُ الْمُتَحَيِّزِ:

قولُه: { وكذلك لفظُ " الْمُتَحَيِّزِ " إن أرادَ به أنَّ اللهَ تَحُوزُه المخلوقاتُ: فاللهُ أَعْظَمُ وأَكْبَرُ، بل قد وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماواتِ والأرضَ، وقد قالَ اللهُ تعالى: { وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، والسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } وقد ثَبَتَ في الصِّحاحِ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قالَ: " يَقْبِضُ اللهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاوَاتِ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟. " وفي حديثٍ آخَرَ: " وإنه لَيَدْحُوهَا كما يَدْحُو الصِّبيانُ بِالْكُرَةِ "، وفي حديثِ ابنِ عبَّاسٍ: " مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ إِلَّا كَخَرْدَلَةٍ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ " وإن أرادَ أنه مُنحازٌ عن المخلوقاتِ، أي: مُبَايِنٌ لها مُنْفَصِلٌ عنها ليس حالًّا فيها: فهو سبحانَه كما قالَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ: فوقَ سماواتِه على عرْشِه, بائنٌ مِن خَلْقِه ) .

التوضيحُ

لفظُ الْمُتَحَيِّزِ مِمَّا أَطْلَقَه المُتَكَلِّمون نُفَاةُ العُلُوِّ، وتطبيقُ القاعدةِ فيه كما يَلِي:
لم يَرِدْ لفظُ الْمُتَحَيِّزِ في الشَّرْعِ.
فنَسْتَفْصِلُ عنه: فإن أُرِيدَ بالْمُتَحَيِّزِ أنَّ اللهَ تَحُوزُه المخلوقاتُ: أي تُحِيطُ به، فهذا باطِلٌ، والله أَعْظَمُ وأكبَرُ من ذلك، والأدِلَّةُ عليه كثيرةٌ منها:
قولُه تعالى: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } .
قولُه تعالى: { وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } .
قولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقْبِضُ اللهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاوَاتِ بِيَمِينِهِ, ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟ " .
وفي الحديثِ: " وإنه لَيَدْحُوهَا كَمَا يَدْحُو الصِّبْيَانُ بِالْكُرَةِ " .
وقولُ ابنِ عبَّاسٍ: " مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ إِلَّا كَخَرْدَلَةٍ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ " .
وإن أَرادَ به أنه مُنْحَازٌ عن المخلوقاتِ، أي مُبَايِنٌ لها مُنْفَصِلٌ عنها ليس حَالًّا فيها، فهو سبحانَه كما قالَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ: " فَوْقَ سماواتِه على عرْشِه بائِنٌ من خَلْقِه "، وقد ثَبَتَ ذلك عن أحمدَ وابنِ المبارَكِ وأبي حاتمٍ وأبي زُرْعَةَ الرازِيَّيْنِ وإسحاقَ، وغيرُهم كثيرٌ .

خُلاصَةُ القاعدةِ الثانيةِ

الألفاظُ المضافَةُ إلى اللهِ قِسمان:
ما وَرَدَ به دليلٌ شَرْعِيٌّ وَجَبَ الإيمانُ به.
ما لم يَرِدْ به دليلٌ شَرْعِيٌّ فلا يُثْبَتْ ولا يُنْفَى حتى يُعْرَفَ المرادُ . فإن كان حَقًّا قُبِلَ المعنى مع التَّوَقُّفِ في اللفظِ، وإن كان باطِلاً رُدَّ .
من أَمْثِلَةِ القاعدةِ الْجِهَةُ والْمُتَحَيِّزُ، لم يَرِدْ دليلٌ بها فلا تُثْبَتُ ولا تُرَدُّ حتى يُعْلَمَ المرادُ منها .

المناقَشَةُ

على ماذا تَدورُ القاعدةُ الثانيةُ؟
فَصِّلِ القَوْلَ في إطلاقِ لفظِ الْجِهَةِ؟
فَصِّلِ القولَ في إطلاقِ لفظِ الْمُتَحَيِّزِ؟
هل في كتابِ اللهِ ما لا يُعْلَمُ معناه؟


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الثانية, القاعدة

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:08 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir