هَذَا بَابُ إِعْمَالِ المَصْدَرِ واسْمِهِ
الاسْمُ الدَّالُّ([1]) علَى مُجَرَّدِ الحَدَثِ إِنْ كَانَ عَلَماً، كـ (فَجَارِ) و(حَمَادِ) للفَجْرَةِ والمَحْمِدَةِ، أو مَبْدُوءاً بمِيمٍ زَائِدَةٍ لغَيْرِ المُفَاعَلَةِ، كـ (مَضْرَبٍ) و(مَقْتَلٍ)، أو مُتَجَاوِزاً فِعْلُهُ الثَّلاثَةَ وهو بزِنَةِ اسْمِ حَدَثِ الثُّلاثِيِّ، كـ (غُسْلٍ) و(وُضُوءٍ) في قَوْلِكَ: (اغْتَسَلَ غُسْلاً) و(تَوَضَّأَ وُضُوءاً) فإنَّهُمَا بزِنَةِ القُرْبِ والدُّخُولِ في (قَرُبَ قُرْباً) و(دَخَلَ دُخُولاً)؛ فهو اسْمُ مَصْدَرٍ، وإِلاَّ فالمَصْدَرُ([2]).
ويَعْمَلُ المَصْدَرُ عَمَلَ فِعْلِهِ إِنْ كَانَ يَحِلُّ مَحِلَّهُ فِعْلٌ([3]) ، إمَّا معَ (أنْ)، كـ (عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبِكَ زَيْداً أَمْسِ) و(يُعْجِبُنِي ضَرْبُكَ زَيْداً غَداً)؛ أي: أنْ ضَرَبْتَهُ وأَنْ تَضْرِبَهُ، وإمَّا معَ (ما) كـ (يُعْجِبُنِي ضَرْبُكَ زَيْداً الآنَ)؛ أي: مَا تَضْرِبُهُ، ولا يَجُوزُ فِي نَحْوِ: (ضَرَبْتُ ضَرْباً زَيْداً) (كَوْنُ (زَيْداً) مَنْصُوباً بالمَصْدَرِ لانتِفَاءِ هذَا الشَّرْطِ([4]).
وعَمَلُ المَصْدَرِ مُضَافاً أَكْثَرُ، نَحْوُ: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ}([5]) ، ومُنَوَّناً أَقْيَسُ، نَحْوُ: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً}([6]) ، وبِأَلْ قَلِيلٌ([7]) ضَعِيفٌ، كقَوْلِهِ:
365- ضَعِيفُ النِّكَايَةِ أَعْدَاءَهُ([8])
واسْمُ المَصْدَرِ إِنْ كانَ عَلَماً لمْ يَعْمَلِ([9]) اتِّفَاقاً، وإنْ كانَ مِيمِيًّا فكالمَصْدَرِ([10]) اتِّفَاقاً، كقَوْلِهِ:
366- أَظَلُومُ إِنَّ مُصَابَكُمْ رَجُلاً([11])
وإنْ كانَ غَيْرَهُمَا لمْ يَعْمَلْ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، ويَعْمَلْ عِنْدَ الكُوفِيِّينَ والبَغْدَادِيِّينَ، وعلَيْهِ قَوْلُهُ:
367- وَبَعْدَ عَطَائِكَ المِائَةَ الرِّتَاعَا([12])
ويَكْثُرُ أَنْ يُضَافَ المَصْدَرُ إلَى فَاعِلِهِ، ثُمَّ يَأْتِي مَفْعُولُه، نَحْوُ: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ}([13]) ، ويَقِلُّ عَكْسُهُ، كقَوْلِهِ:
368- قَرْعُ القَوَاقِيزِ أَفْوَاهُ الأَبَارِيقِ([14])
وقيلَ: يَخْتَصُّ بالشِّعْرِ، ورُدَّ بالحَدِيثِ ((وَحَجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً))؛ أي: وأَنْ يَحُجَّ البَيْتَ المُسْتَطِيعُ، وأمَّا إِضَافَتُهُ إلَى الفَاعِلِ ثُمَّ لا يُذْكَرُ المَفْعُولُ وبالعَكْسِ فكَثِيرٌ، نَحْوُ: {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}([15]) ، ونَحْوُ: {لاَ يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الخَيْرِ}([16]) ولو ذُكِرَ لقيلَ: دُعَائِي إِيَّاكَ، ومِنْ دُعَائِهِ الخَيْرَ([17]).
وتَابِعُ المَجْرُورِ يُجَرُّ علَى اللَّفْظِ، أو يُحْمَلُ علَى المَحَلِّ([18]) ؛ فيُرْفَعُ كقَوْلِهِ:
369- طَلَبَ المُعَقِّبِ حَقَّهُ المَظْلُومُ([19])
أو يُنْصَبُ كقَوْلِهِ:
370- مَخَافَةَ الإِفْلاسِ وَاللِّيَّانَا([20])
([1]) خُلاصَةُ مَا ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ هُنَا أنَّ الاسْمَ الدَّالَّ علَى مُجَرَّدِ الحَدَثِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ؛ ثَلاثَةٌ مِنْهَا تُسَمَّى اسْمَ مَصْدَرٍ، ووَاحِدٌ يُسَمَّى مَصْدَراً، أمَّا الثَّلاثَةُ التي تُسَمَّى اسْمَ مَصْدَرٍ:
فأَوَّلُهَا: مَا كانَ عَلَماً كفَجَارٍ وحَمَادٍ وبَرَّةٍ وسُبْحَانَ.
وثَانِيهَا: مَا كَانَ مَبْدُوءاً بمِيمٍ زَائِدَةٍ لغَيْرِ المُفَاعَلَةِ كمَضْرَبٍ ومَقْتَلٍ – أمَّا المَبْدُوءُ بالمِيمِ الدَّالَّةِ علَى المُفَاعَلَةِ فهو مَصْدَرٌ، نَحْوُ: المُضَارَبَة والمُقَاتَلَة والمُشَارَكَة؛ فإنَّهَا مَصَادِرٌ قِيَاسِيَّةٌ لضَارَبَ وقَاتَلَ وشَارَكَ.
وثَالِثُهَا: مَا كَانَ بِزِنَةِ اسْمِ حَدَثِ الثُّلاثِيِّ معَ أنَّ فِعْلَهُ زَائِدٌ علَى الثَّلاثَةِ، مِثْلُ: كَلاَم وسَلام، وفِعْلُهُمَا كَلَّمَ وسَلَّمَ بتَشْدِيدِ العَيْنِ فِيهِمَا، ومِثْلُ: عَطَاء وجَوَاب، وفِعْلُهُمَا أَعْطَى وأَجَابَ, وهذا أَشْهَرُهَا.
وفي هذَا الكَلامِ نَظَرٌ مِن وَجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ جَعَلَ اسْمَ المَصْدَرِ يَدُلُّ علَى مُجَرَّدِ الحَدَثِ. وأَكْثَرُ النُّحَاةِ يُقَرِّرُونَ أنَّ الدَّالَّ علَى الحَدَثِ هو المَصْدَرُ، وأمَّا اسْمُ المَصْدَرِ فإنَّهُ يَدُلُّ علَى لَفْظِ المَصْدَرِ، فالكَلامُ يَدُلُّ علَى التَّكْلِيمِ وهو يَدُلُّ علَى الحَدَثِ، ويُمْكِنُ أنْ يُجَابَ عَنْ هَذا بأَحَدِ جَوَابَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ اسْمَ المَصْدَرِ يَدُلُّ علَى الحَدَثِ بِوَاسِطَةِ دَلالَتِهِ علَى لَفْظِ المَصْدَرِ، فالمُرَادُ مِن قَوْلِهِ: (الاسْمُ الدَّالُّ علَى مُجَرَّدِ الحَدَثِ) مَا هُو أَعَمُّ مِنْ أنْ يَدُلَّ بِنَفْسِهِ أو بِوَاسِطَةٍ. والثَّانِي: أنَّ المَسْأَلَةَ خِلافِيَّةٌ، ومِن النُّحَاةِ مَن يَرَى اسْمَ المَصْدَرِ دَالاًّ علَى الحَدَثِ بدُونِ وَاسِطَةٍ كمَا نُقَرِّرُهُ لكَ بَعْدُ، وقدْ جَرَى المُؤَلِّفُ هُنَا علَى هذَا.
الثَّانِي: أنَّهُ جَعَلَ الاسْمَ المَبْدُوءَ بمِيمٍ زَائِدَةٍ لغَيْرِ المُفَاعَلَةِ اسْمَ مَصْدَرٍ، معَ أنَّ النُّحَاةَ يَجْعَلُونَهُ مَصْدَراً، ويُسَمُّونَهُ المَصْدَرَ المِيمِيَّ، والمُؤَلِّفُ هنا تَابِعٌ لابْنِ النَّاظِمِ.
([2]) اختَلَفَ العُلَمَاءُ في مَدْلُولِ كُلٍّ مِن المَصْدَرِ واسْمِ المَصْدَرِ؛ فقالَ قَوْمٌ: مَدْلُولُ المَصْدَرِ نَفْسُ الحَدَثِ الوَاقِعِ مِنَ الفَاعِلِ. ومَدْلُولُ اسْمِ المَصْدَرِ هو لَفْظُ المَصْدَرِ، فالغُسْلُ يَدُلُّ على لَفْظِ الاغْتِسَالِ الدَّالِّ علَى الفِعْلِ الحَاصِلِ مِن المُغْتَسِلِ، والوُضُوءُ يَدُلُّ علَى لَفْظِ التَوَضُّؤِ الدَّالِّ علَى الفِعْلِ الحَاصِلِ مِن المُتَوَضِّئِ.
وقالَ قَوْمٌ: كُلٌّ مِن المَصْدَرِ واسْمِ المَصْدَرِ يَدُلُّ علَى الحَدَثِ الذي هو الفِعْلُ الحَاصِلُ مِن الفَاعِلِ. وعِبَارَةُ المُؤَلِّفِ تَجْرِي علَى هذَا القَوْلِ، إلاَّ أنْ تَتَكَلَّفَ التَّأْوِيلَ الذي ذَكَرْنَاهُ لكَ قَرِيباً.
([3]) هَهُنَا ثَلاثَةُ أُمُورٍ أرَى الحَاجَةَ مَاسَّةً إلى إِيضَاحِهَا لكَ لكَيْ تَفْهَمَ كَلامَ المُؤَلِّفِ علَى وَجْهِهِ فَهْماً صَحِيحاً.
الأَمْرُ الأوَّلُ: أنَّكَ حِينَ تَسْتَعْمِلُ المَصْدَرَ في كَلامِكَ إمَّا أن تُرِيدَ بهِ ثُبُوتَ مَا يَدُلُّ علَيْهِ مِن الحَدَثِ، وإمَّا أن تُرِيدَ بهِ حُدُوثَ مَا يَدُلُّ علَيْهِ مِن الحَدَثِ في أَحَدِ الأَزْمِنَةِ الثَّلاثَةِ المَاضِي والحَالِ والمُسْتَقْبَلِ:
فإنْ أَرَدْتَ بالمَصْدَرِ الدَّلالَةَ علَى ثُبُوتِ مَا يَدُلُّ علَيْهِ مِن الحَدَثِ فإنَّهُ حِينئِذٍ لا يَصْلُحُ لأنْ يَحِلَّ مَحِلَّهُ فِعْلٌ لا معَ (ما) ولا معَ (أنْ)؛ لأنَّ طَبِيعَةَ الفِعْلِ دَالَّةٌ علَى الحُدُوثِ وأنتَ لمْ تُرِدْهُ، وإنْ أَرَدْتَ بالمَصْدَرِ الدَّلالَةَ علَى حُدُوثِ مَا يَدُلُّ علَيْهِ مِن الحَدَثِ فِي الزَّمَنِ الحَاضِرِ كانَ علَيْكَ أنْ تُقَدِّرَهُ بمَا المَصْدَرِيَّةِ وتُقَدِّرَ معَهَا الفِعْلَ المُضَارِعَ، أمَّا تَقْدِيرُهُ بمَا المَصْدَرِيَّةَ حِينَئِذٍ؛ فلأنَّ (أن) المَصْدَرِيَّةَ لا تَصْلُحُ لهذَا المَوْضِعِ؛ لأنَّهَا معَ الفِعْلِ المَاضِي تُبْقِيهِ علَى حَالِهِ وهو الدَّلالَةُ علَى حُدُوثِ الحَدَثِ فِي الزَّمَنِ المَاضِي، ومعَ الفِعْلِ المُضَارِعِ تُخَلِّصُهُ للدَّلالَةِ علَى الاسْتِقْبَالِ، فلمَّا لمْ يُمْكِنْكَ أنْ تُقَدِّرَ المَصْدَرَ بأن فِي هذهِ الحَالَةِ لَزِمَكَ أن تُقَدِّرَهُ بمَا؛ لأنَّهَا صَالِحَةٌ للاسْتِعْمَالِ في الأَحْوَالِ كُلِّهَا.
وإنْ أَرَدْتَ بالمَصْدَرِ الدَّلالَةَ علَى حُدُوثِ الحَدَثِ في الزَّمَنِ المَاضِي أو في الزَّمَنِ المُسْتَقْبَلِ فإنَّهُ يَلْزَمُكَ أنْ تُقَدِّرَهُ بأن المَصْدَرِيَّةِ، وتُقَدِّرَ معَ (أنْ) حينَ تُرِيدُ الزَّمَنَ المَاضِيَ الفِعْلَ المَاضِيَ؛ لأنَّهُ هو الذِي يَدُلُّ علَى هذَا الزَّمَنِ، وتُقَدِّرَ معَهَا حِينَ تُرِيدُ الزَّمَنَ المُسْتَقْبَلَ الفِعْلَ المُضَارِعَ؛ لأنَّهُ هو الصَّالِحُ للدَّلالَةِ علَى هذَا الزَّمَنِ.
فإنْ قُلْتَ: وإذَا كَانَت (ما) المَصْدَرِيَّةُ صَالِحَةً للدَّلالَةِ علَى الأَزْمِنَةِ الثَّلاثَةِ كمَا تَقُولُ؛ فلمَاذَا لا أُقَدِّرُهَا دَائِماً، وأَلْزَمْتَنِي أن أُقَدِّرَ فِي بَعْضِ الأحْوَالِ (ما) وفِي بَعْضِهَا الآخَرِ (أَنْ)؟.
قُلْتُ: الأَصْلُ فِي الحُرُوفِ المَصْدَرِيَّةِ هُو (أَنْ)، ومِنْ أجْلِ ذلكَ يُسَمُّونَهَا أُمَّ البَابِ، فهُم يُقَدِّرُونَهَا لهذا السَّبَبِ، ولم يَعْدِلُوا عَنْ تَقْدِيرِهَا إلاَّ فِي الحَالِ التي يَكُونُ تَقْدِيرُهَا غَيْر مُمْكِنٍ، وهي حَالَةُ مَا إِذَا أُرِيدَ بالمَصْدَرِ الدَّلالَةُ علَى الحُدُوثِ في الزَّمَنِ الحَاضِرِ، وشَيْءٌ آخَرُ وهو: أنَّكَ إذَا الْتَزَمْتَ تَقْدِيرَ المَصْدَرِ بـ (مَا) الْتَبَسَ علَى مَنْ يَسْمَعُكَ الأَمْرُ في بَعْضِ الصُّوَرِ، وهي الصُّورَةُ التي تُقَدِّرُ فِيهَا المَصْدَرَ بمَا والفِعْلِ المُضَارِعِ، فإنَّ السَّامِعَ الذي يَعْلَمُ صَلاحِيَّةَ المُضَارِعِ للحَالِ وللاسْتِقْبَالِ لا يَدْرِي أيَّهُمَا أَرَدْتَ حِينَئِذٍ، لَكِنَّهُم لمَّا أَلْزَمُوكَ أنْ تُقَدِّرَ (ما) حِينَ تُرِيدُ الحَالَ، وأنْ تُقَدِّرَ (أن) حِينَ تُرِيدُ الاسْتِقْبَالَ كانَ الأَمْرُ جَلِيًّا لا الْتِبَاسَ فِيهِ.
الأمْرُ الثَّانِي: أنَّ اشْتِرَاطَ هذَا الشَّرْطِ الذي هو صَلاحِيَّةُ المَصْدَرِ لأنْ يَحِلَّ مَحِلَّهُ الفِعْلُ معَ (أنْ) أو معَ (ما) إنَّمَا هو شَرْطٌ فِي عَمَلِهِ فِي غَيْرِ الظَّرْفِ أو الجَارِّ والمَجْرُورِ، أمَّا عَمَلُهُ فِيهِمَا فلا يُشْتَرَطُ فيهِ شَيْءٌ؛ لأنَّهُمَا يَكْتَفِيَانِ برَائِحَةِ الفِعْلِ.
الأمْرُ الثَّالِثُ: اتَّفَقَ النُّحَاةُ علَى أنَّ المَصْدَرَ المُؤَكِّدَ لفِعْلِهِ نَحْوَ قَوْلِكَ: (ضَرَبْتُ ضَرْباً) لا يَعْمَلُ، فلا يَحِلُّ مَحِلَّهُ فِعْلٌ لا معَ (ما) ولا معَ (أنْ)، فإذَا قُلْتَ: (ضَرَبْتُ ضَرْباً زَيْداً) فإنَّ زَيْداً مَفْعُولٌ بِهِ للفِعْلِ الذي هو ضَرَبْتُ، لا للمَصْدَرِ، وقدِ اخْتَلَفُوا في المَصْدَرِ النَّائِبِ عَنْ فِعْلِهِ، فذَهَبَ ابْنُ مَالِكٍ فِي (التَّسْهِيلِ) إلَى أنَّهُ يَعْمَلُ، وذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ في (القَطْرِ) إلَى أنَّهُ لا يَعْمَلُ، فإذَا قُلْتَ: (ضَرْباً زَيْداً) فإنَّ زَيْداً مَنْصُوبٌ بالمَصْدَرِ عِنْدَ ابْنِ مَالِكٍ، ومَنْصُوبٌ بالفِعْلِ المُقَدَّرِ عِنْدَ ابْنِ هِشَامٍ، وفي هذَا القَدْرِ مِنَ البَيَانِ والإيضَاحِ كِفَايَةٌ ومُقْنِعٌ.
([4]) السِّرُّ فِي عَمَلِ المَصْدَرِ هو شِبْهُهُ للفِعْلِ، ووَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا دَلالَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا علَى الحَدَثِ الذي يَقْتَضِي فَاعِلاً دَائِماً، ويَقْتَضِي مَفْعُولاً بهِ إنْ كَانَ وَاقِعاً، ولهذَا العَمَلِ شُرُوطٌ تَتَحَقَّقُ بهَا هذهِ المُشَابَهَةُ، وبَعْضُ هذهِ الشُّرُوطِ وُجُودِيٌّ، وبَعْضُهَا الآخَرُ عَدَمِيٌّ؛ فأمَّا الشَّرْطُ الوُجُودِيُّ فهو أن يَحِلَّ مَحِلَّ المَصْدَرِ الفِعْلُ معَ (أن) أو معَ (ما)، وقدْ ذَكَرَ المُؤَلِّفُ هذَا الشَّرْطَ وبَيَّنَّا لكَ فِي مَقَالِنَا السَّابِقِ متَى تُقَدِّرُهُ حَالاًّ مَحِلَّ الفِعْلِ معَ (أن)، ومَتَى تُقَدِّرُهُ حَالاًّ مَحِلَّ الفِعْلِ معَ (ما)، كمَا بَيَّنَّا لكَ السِّرَّ في ذلكَ. =
وأمَّا الشُّرُوطُ العَدَمِيَّةُ فلَمْ يَتَعَرَّضِ المُؤَلِّفُ لذِكْرِهَا هُنَا، وقَدْ ذَكَرَهَا فِي غَيْرِ هذا الكِتَابِ، وهِيَ ثَمَانِيَةُ شُرُوطٍ:
الأوَّلُ: ألاَّ يَكُونَ المَصْدَرُ مُصَغَّراً؛ فلا يَجُوزُ لكَ أنْ تَقُولَ: يُعْجِبُنِي ضُرَيْبُكَ زَيْداً، علَى أنْ يَكُونَ (زَيْداً) مَنْصُوباً بالمَصْدَرِ المُصَغَّرِ؛ وذلك لأنَّ التَّصْغِيرَ مِن خَصَائِصِ الأَسْمَاءِ، فتَصْغِيرُ المَصْدَرِ يُبْعِدُهُ مِن مُشَابَهَةِ الفِعْلِ.
الثَّانِي: ألاَّ يَكُونَ مُضْمَراً، فلو قُلْتَ: (ضَرْبُكَ زَيْداً حَسَنٌ وهو عَمْراً قَبِيحٌ) لم يُجزْ لَكَ أنْ تَجْعَلَ عَمْراً مَنْصُوباً بهو، وإنْ كانَ هذَا الضَّمِيرُ عَائِداً علَى الضَّرْبِ، وخَالَفَ في هذَا الشَّرْطِ الكُوفِيُّونَ، فزَعَمُوا أنَّ ضَمِيرَ المَصْدَرِ كالمَصْدَرِ، واسْتَدَلُّوا بوُرُودِ ذلكَ فِي قَوْلِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى:
وَمَا الحَرْبُ إلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمْ = وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالحَدِيثِ المُرَجَّمِ
زَعَمُوا أنَّ (عَنْهَا) مُتَعَلِّقٌ بالضَّمِيرِ، ورَدَّ البَصْرِيُّونَ هذَا الاسْتِدْلالَ بإِنْكَارِ أنْ يَكُونَ عَنْهَا مُتَعَلِّقاً بالضَّمِيرِ، وادَّعَوْا أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أو مُتَعَلِّقٌ بالمُرَجَّمِ في آخِرِ البَيْتِ وتَقَدَّمَ عَلَيْهِ ضَرُورَةً، أو مُتَعَلِّقٌ بمَحْذُوفٍ يَدُلُّ علَيْهِ (المُرَجَّمِ)؛ أي: ومَا هُو مُرَجَّمٌ عَنْهَا بالحَدِيثِ المُرَجَّمِ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: ألاَّ يَكُونَ مَحْدُوداً؛ أي: مُقْتَرِناً بالتَّاءِ التي تَدُلُّ علَى الوِحْدَةِ؛ فلا يَجُوزُ أن تَقُولَ: (غَضِبْتُ مِن ضَرْبَتِكَ زَيْداً)، وأمَّا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
يُحَابِي بِهِ الجِلْدُ الَّذِي هُوَ حَازِمٌ = بِضَرْبَةِ كَفَّيْهِ المَلاَ نَفْسَ رَاكِبِ
حيثُ أَضَافَ (ضَرْبَةٍ) إلى كَفَّيْهِ علَى أنَّهُ فَاعِلُهُ، ثُمَّ نَصَبَ المَلا بضَرْبَةٍ علَى أنَّهُ مَفْعُولُهُ فهَذَا شَاذٌّ؛ لأنَّهُ بَيْتٌ لا يُعْرَفُ قَائِلُهُ ولم يُعْرَفْ لهُ نَظِيرٌ.
فإنْ كَانَتِ التَّاءُ مِمَّا وُضِعَ المَصْدَرُ عَلَيْهَا لم تَمْنَعْ عَمَلَهُ، نَحْوُ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ مِنْكَ وَرَهْبَةٌ = عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا كَالمَوَارِدِ
فَقَدْ نَصَبَ قَوْلَهُ: (عِقَابَكَ) برَهْبَةٍ؛ لأنَّ التَّاءَ فِي رَهْبَةٍ قَدْ بُنِيَ علَيْهَا المَصْدَرُ كرَحْمَةٍ ورَغْبَةٍ، ولَيْسَت مِمَّا زِيدَ علَى المَصْدَرِ للدَّلالَةِ علَى الوِحْدَةِ، والمَصْدَرُ المَوْضُوعُ بالتَّاءِ كالمُجَرَّدِ مِنْهَا، ولهذَا يُدَلُّ علَى الوِحْدَةِ مِنْهُ بالوَصْفِ فيُقَالُ: رَهْبَةٌ وَاحِدَةٌ، ورَحْمَةٌ وَاحِدَةٌ، ورَغْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وهَلُمَّ جَرًّا.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: ألاَّ يَكُونَ مَوْصُوفاً قَبْلَ العَمَلِ، فأمَّا قَوْلُ الحُطَيْئَةِ:
أَزْمَعْتُ يَأْساً مُبِيناً مِنْ نَوَالِكُمُ = وَلاَ يُرَى طَارِداً للحُرِّ كَاليَاسِ
فإنَّ ظَاهِرَهُ أنَّ قَوْلَهُ: (مِنْ نَوَالِكُمُ) مُتَعَلِّقٌ بيَأْسٍ الذي هو مَصْدَرُ يَئِسَ يَيْأَسُ – مِن بَابِ عَلِمَ يَعْلَمُ – معَ أنَّ هذَا المَصْدَرَ مَوْصُوفٌ بقَوْلِهِ: (مُبِيناً)، وقَدْ وَقَعَ هذَا الوَصْفُ قَبْلَ المَعْمُولِ، فإنَّ هذَا الظَّاهِرَ غَيْرُ لازِمٍ؛ لجَوَازِ أنْ يَكُونَ الجَارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقاً بفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ علَيْهِ هذَا المَصْدَرُ.
فإنْ كَانَ النَّعْتُ وَاقِعاً فِي الكَلامِ بَعْدَ المَعْمُولِ فلا غُبَارَ علَيْهِ، ومِنْ ذلكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِنَّ وَجْدِي بِكَ الشَّدِيدَ أَرَانِي = عَاذِراً فِيكَ مَنْ عَهِدْتُ عَذُولاَ
ويَلْحَقُ بالنَّعْتِ بَقِيَّةُ التَّوَابِعِ كالتَّوْكِيدِ والعَطْفِ، فلا يَعْمَلُ المَصْدَرُ إذَا أُتْبِعَ بتَابِعٍ أيِّ تَابِعٍ قَبْلَ العَمَلِ.
الشَّرْطُ الخَامِسُ: ألاَّ يُفْصَلَ بَيْنَهُ وبَيْنَ مَعْمُولِهِ، فنَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} لا يَجُوزُ لكَ أنْ تَجْعَلَ {يَوْمَ تُبْلَى} مُتَعَلِّقاً برَجْعِهِ لكَوْنِهِ قدْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بخَبَرِ إِنَّ، كما لا يَجُوزُ أنْ تَجْعَلَ هذَا الظَّرْفَ مُتَعَلِّقاً بقَادِرٍ؛ وذلك لأنَّ المَعْنَى علَيْهِ أنَّ قُدْرَتَهُ علَى رَجْعِهِ خَاصَّةٌ بهذَا اليَوْمِ، وهو مَعْنًى غَيْرُ صَحِيحٍ، وإنَّمَا يَتَعَلَّقُ هذَا الظَّرْفُ بمَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ بجِوَارِ الظَّرْفِ مُتَقَدِّماً علَيْهِ، والتَّقْدِيرُ: إنَّهُ علَى رَجْعِهِ لقَادِرٌ رَجْعَهُ يَوْمَ تُبْلَى، والسِّرُّ فِي اشْتِرَاطِ هذَا الشَّرْطِ أنَّ عَمَلَ المَصْدَرِ بالحَمْلِ علَى الفِعْلِ فهو فَرْعٌ فِي العَمَلِ، والفَرْعُ يَقْصُرُ عَنِ العَمَلِ معَ الفَصْلِ بَيْنَهُ وبَيْنَ المَعْمُولِ.
الشَّرْطُ السَّادِسُ: ألاَّ يَتَقَدَّمَ علَى مَعْمُولِهِ، فلَيْسَ لكَ أنْ تَقُولَ: (أَعْجَبَنِي زَيْداً ضَرْبُكَ) وذلكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أنَّهُ فَرْعٌ.
الشَّرْطُ السَّابِعُ: ألاَّ يَكُونَ مَحْذُوفاً، ومَعْنَى هذَا أنَّكَ إذا احْتَجْتَ إلى تَقْدِيرِ عَامِلٍ لم يَجُزْ لكَ أنْ تُقَدِّرَهُ مَصْدَراً، ولهذَا أَنْكَرَ المُحَقِّقُونَ علَى مَنْ زَعَمَ أنَّ البَاءَ فِي البَسْمَلَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: ابْتِدَائِي.
الشَّرْطُ الثَّامِنُ: ألاَّ يَكُونَ مَجْمُوعاً، وخَالَفَ في هذَا الشَّرْطُ ابْنُ عُصْفُورٍ، وابْنُ مَالِكٍ، واحْتَجَّا بقَوْلِ الشَّاعِرِ:
قَدْ جَرَّبُوهُ فَمَا زَادَتْ تَجَارِبُهُمْ = أَبَا قُدَامَةَ إِلاَّ المَجْدَ وَالفَنَعَا
فإنَّ قَوْلَهُ: (تَجَارِبُهُمْ) جَمْعُ تَجْرِبَةٍ، وهي مَصْدَرُ جَرَّبَ – بالتَّضْعِيفِ وَقَدْ نَصَبَ بِهِ قَوْلَهُ: (أَبَا).
([5]) سُورَةُ (البَقَرَةُ)، الآيَةُ: 251.
([6]) سُورَةُ (البَلَدُ)، الآيَةُ: 14.
([7]) قَدْ ذَكَرَ المُؤَلِّفُ أنَّ المَصْدَرَ علَى ثَلاثَةِ أَنْوَاعٍ: مُضَافٍ، ومُجَرَّدٍ مِنْ أَلْ ومِنَ الإِضَافَةِ، ومَقْرُونٍ بأَلْ.
فأمَّا المُضَافُ فذَكَرَ أنَّ إِعْمَالَهُ عَمَلَ الفِعْلِ أَكْثَرُ مِن إِعْمَالِ النَّوْعَيْنِ الآخَرَيْنِ، والمُرَادُ أنَّ إِعْمَالَهُ في هذهِ الحَالَةِ أَكْثَرُ وُرُوداً في كَلامِ مَنْ يُحْتَجُّ بِكَلامِهِ، ولا خِلافَ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ فِي جَوَازِ إِعْمَالِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ المَصْدَرِ، ورُبَّمَا أَشْعَرَ كَلامُ بَعْضِ المُؤَلِّفِينَ بأنَّ فِيهِ خِلافاً، وهو غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، ثُمَّ إِنَّ المُؤَلِّفَ ذَكَرَ فِيمَا يَلِي بأنَّهُ قَدْ يُضَافُ إلَى فَاعِلِهِ، وقَدْ يُضَافُ إلَى مَفْعُولِهِ، ولمْ يَذْكُرْ أنَّهُ قَدْ يُضَافُ إلى الظَّرْفِ.
فإنْ أُضِيفَ إلَى الفَاعِلِ فقَدْ يُذْكَرُ المَفْعُولُ بَعْدَهُ، نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} ونَحْوُ قَوْلِ رُؤْبَةَ بْنِ العَجَّاجِ:
وَرَأْيُ عَيْنَيَّ الفَتَى أَبَاكَا = يُعْطِي الجَزِيلَ، فَعَلَيْكَ ذَاكَا
وقَدْ يُحْذَفُ المَفْعُولُ لكَوْنِهِ فَضْلَةً، ومِن ذلكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ} وقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ=}.
وإِنْ أُضِيفَ إلَى المَفْعُولِ فقَدْ يُذْكَرُ الفَاعِلُ بَعْدَ ذلكَ كقَوْلِ الشَّاعِرِ:
تَنْفِي يَدَاهَا الحَصَى فِي كُلِّ هَاجِرَةٍ = نَفْيَ الدَّرَاهِيمِ تَنْقَادُ الصَّيَارِيفِ
ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الآخَرِ:
أَفْنَى تِلاَدِي وَمَا جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ = قَرْعُ القَوَاقِيزِ أَفْوَاهُ الأَبَارِيقِ
ومِنَ النُّحَاةِ مَنْ يَجْعَلُ إِضَافَةَ المَصْدَرِ إلَى المَفْعُولِ ثُمَّ ذِكْرَ الفَاعِلِ خَاصَّةً بضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وهو رَأْيٌ ضَعِيفٌ، لوُرُودِهِ فِي قَوْلِهِ علَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((وَحَجِّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)) ويَحْتَمِلُ ذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}.
وقَدْ يُضَافُ إلَى مَفْعُولِهِ ويُحْذَفُ فَاعِلُهُ, ومِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لاَ يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الخَيْرِ}. وحَذْفُ فَاعِلِ المَصْدَرِ جَائِزٌ لا غُبَارَ علَيْهِ، وهو مِمَّا يُفَارِقُ فيهِ المَصْدَرُ الفِعْلَ.
وقَدْ تَبَيَّنَ لكَ أنَّ هذهِ الصُّوَرَ الأرْبَعَةَ جَائِزَةٌ فِي حَالِ السَّعَةِ: ثَلاثَةٌ مِنْهَا باتِّفَاقٍ، ووَاحِدَةٌ علَى الرَّاجِحِ.
وإنْ أُضِيفَ إلَى الظَّرْفِ أُتِيَ بَعْدَ ذلكَ بمَعْمُولِهِ، نَحْوُ قَوْلِكَ: (ضَايَقَنِي قِتَالُ يَوْمِ الجُمْعَةِ زَيْداً عَمْراً) وقدْ يُفْصَلُ بَيْنَ المَصْدَرِ ومَعْمُولِهِ بالجَارِّ والمَجْرُورِ المُتَعَلِّقِ بهِ، ومِن هذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
بِضَرْبٍ بِالسُّيُوفِ رُؤُوسَ قَوْمٍ = أَزَلْنَا هَامَهُنَّ عَنِ المَقِيلِ
وأمَّا المَصْدَرُ المُنَوَّنُ فذَكَرَ المُؤَلِّفُ أنَّ عَمَلَهُ أَقْيَسُ؛ وذلكَ لأنَّهُ حِينَئِذٍ أَقْرَبُ شَبَهاً بالفِعْلِ مِنَ المُضَافِ والمَقْرُونِ بأَلْ، بسَبَبِ أنَّ الفِعْلَ فِي حُكْمِ النَّكِرَةِ، وأنَّ الإضَافَةَ والاقْتِرَانَ بأَلْ مِنْ خَصَائِصِ الأَسْمَاءِ، وممَّا نُنَبِّهُكَ إلَيْهِ أنَّ تَجْوِيزَ إِعْمَالِ المَصْدَرِ المُنَكَّرِ عَمَلَ الفِعْلِ هو مَذْهَبُ جُمْهُورِ البَصْرِيِّينَ وأَكْثَرِ النُّحَاةِ، ودَلِيلُهُم على ذلكَ وُرُودُهُ فِي أَفْصَحِ كَلامٍ، نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً}. وذَهَبَ الكُوفِيُّونَ إلَى أنَّهُ لا يَجُوزُ إِعْمَالُ المَصْدَرِ المُنَكَّرِ، وعلَى ذلكَ يَقُولُونَ: إنْ وَرَدَ بَعْدَ المَصْدَرِ المُنَكَّرِ اسْمٌ مَرْفُوعٌ أَو اسْمٌ مَنْصُوبٌ فلَيْسَ العَامِلُ هو المَصْدَرَ، ولَكِنَّ العَامِلَ فِعْلٌ يَدُلُّ علَى المَصْدَرِ، وهو تَكَلُّفٌ.
ومِمَّا وَرَدَ فِي إِعْمَالِ المَصْدَرِ المُنَكَّرِ عَمَلَ الفِعْلِ قَوْلُ الشَّاعِرِ، وهو البَيْتُ الذِي أَنْشَدْنَاهُ قَرِيباً عِنْدَ الكَلامِ علَى إِعْمَالِ المَصْدَرِ المَوْضُوعِ علَى الاقْتِرَانِ بالتَّاءِ، وهو قَوْلُهُ:
فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ فِيكَ وَرَهْبَةٌ = عِقَابَكَ قَدْ صَارُوا لَنَا كَالمَوَارِدِ
فقَدْ نَصَبَ قَوْلَهُ: (عِقَابَكَ) بقَوْلِهِ: (رَهْبَةٌ) وهو مَصْدَرٌ مُنَوَّنٌ مُنَكَّرٌ، ومِثْلُهُ قَوْلُ الآخَرِ:
أَخَذْتُ بِسَجْلِهِمْ فَنَفَحْتُ فِيهِ = = مُحَافَظَةً لَهُنَّ إِخَا الذِّمَامِ
فقَدْ نَصَبَ قَوْلَهُ: (إِخَا الذِّمَامِ) بقَوْلِهِ: (مُحَافَظَةً) وهو مَصْدَرٌ مُنَوَّنٌ مُنَكَّرٌ.
وأمَّا المَصْدَرُ المَقْرُونُ بأَلْ فقَدِ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي جَوَازِ إِعْمَالِهِ، ولَهُم في ذَلكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
الأوَّلُ: إِنَّهُ يَجُوزُ إِعْمَالُهُ مُطْلَقاً، وإِنْ كَانَتْ (أَلْ) تُبْعِدُ شَبَهَهُ مِنَ الفِعْلِ لكَوْنِ (ألْ) مِن خَصَائِصِ الأسْمَاءِ، واعْتِمَادُ هؤُلاءِ في الاسْتِدْلالِ علَى جَوَازِ إِعْمَالِ هذَا النَّوْعِ مِنَ المَصْدَرِ هو وُرُودُهُ فِي كَلامِ العَرَبِ كمَا فِي البَيْتِ رَقْمِ 365 الذي أَنْشَدَهُ المُؤَلِّفُ، وكما في قَوْلِ الآخَرِ وهو المَرَازُ الأَسَدِيُّ:
لَقَدْ عَلِمَتْ أُولَى المُغِيرَةِ أَنَّنِي = كَرَرْتُ فَلَمْ أَنْكُلْ عَنِ الضَّرْبِ مِسْمَعَا
فَقَدْ نَصَبَ قَوْلَهُ: (مِسْمَعَا) بقَوْلِهِ: (الضَّرْبِ) وهو مَصْدَرٌ مَقْرُونٌ بأَلْ، ومِثْلُهُ قَوْلُ الآخَرِ:
فَإِنَّكَ وَالتَّأْبِينَ عُرْوَةَ بَعْدَمَا = دَعَاكَ وَأَيْدِينَا إِلَيْهِ شَوَارِعُ
لَكَالرَّجُلِ الحَادِي وَقَدْ تَلَعَ الضُّحَى = وَطَيْرُ المَنَايَا فَوْقَهُنَّ أَوَاقِعُ
فقَدْ نَصَبَ قَوْلَهُ: (عُرْوَةَ) بقَوْلِهِ: (التَّأْبِينَ) وهو مَصْدَرٌ مَقْرُونٌ بألْ، والقَوْلُ بجَوَازِ إِعْمَالِ المَصْدَرِ المَقْرُونِ بأل مُطْلَقاً يَنْسُبُهُ العُلَمَاءُ إلَى سِيبَوَيْهِ.
القَوْلُ الثَّانِي: لا يَجُوزُ إِعْمَالُ المَصْدَرِ المَقْرُونِ بأل مُطْلَقاً، وهذَا قَوْلُ البَغْدَادِيِّينَ مِنَ النُّحَاةِ وجَمَاعَةٍ مِنَ البَصْرِيِّينَ. ووِجْهَةُ نَظَرِهِم أنَّ المَصْدَرَ إنَّمَا عَمِلَ لشَبَهِهِ بالفِعْلِ، وأل المُقْتَرِنَةُ بهِ تُبْعِدُ شَبَهَهُ بالفِعْلِ لكَوْنِهَا مِن خَصَائِصِ الأَسْمَاءِ، والقَائِلُونَ بجَوَازِ إِعْمَالِهِ يَرْجِعُونَ إلَى وُرُودِ عَمَلِهِ فِي كَلامِ العَرَبِ، ويَجْعَلُونَ هذهِ العِلَّةَ مُقْتَضِيَةً لضَعْفِ عَمَلِهِ حِينَئِذٍ.
القَوْلُ الثَّالِثُ: إنَّهُ يَجُوزُ إِعْمَالُهُ معَ قُبْحِ هذَا العَمَلِ. وهو قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الفَارِسِيِّ، وهو القَوْلُ الثَّانِي إلاَّ أنَّهُ وَضَعَ فِيهِ كَلِمَةَ القُبْحِ فِي مَكَانِ كَلِمَةِ الضَّعْفِ.
القَوْلُ الرَّابِعُ: إنَّهُ يَجُوزُ إِعْمَالُهُ إذَا كَانَت أل فيهِ مُعَاقِبَةً للتَّنْوِينِ كمَا فِي الشَّوَاهِدِ التِي سُقْنَاهَا، وهذا رَأْيُ ابْنِ طَلْحَةَ، ووَافَقَهُ علَيْهِ أَبُو حَيَّانَ، ويُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هذا رَأْيَ سِيبَوَيْهِ؛ لأنَّهُ يَقُولُ: (وتَقُولُ: عَجِبْتُ مِنَ الضَّرْبِ زَيْداً، كمَا قُلْتَ: عَجِبْتُ مِنَ الضَّارِبِ زَيْداً، فتَكُونُ الألِفُ واللاَّمُ بمَنْزِلَةِ التَّنْوِينِ) اهـ.
([8]) 365-هذا الشَّاهِدُ مِن أَبْيَاتِ سِيبَوَيْهِ (1/99) التي لم يَعْرِفُوا لها قَائِلاً مُعَيَّناً، وما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ ههنا صَدْرُ بَيْتٍ مِنَ المُتَقَارِبِ، وعَجُزُهُ قَوْلُهُ:
*يَخَالُ الفِرَارَ يُرَاخِي الأَجَلْ*
اللُّغَةُ: (النِّكَايَةِ) مَصْدَرُ نَكَيْتُ العَدُوَّ؛ أي: أثرْتُ فيهِ ونِلْتُ مِنْهُ. (يَخَالُ) يَظُنُّ. (يُرَاخِي) يُؤَخِّرُ.
الإعْرَابُ: (ضَعِيفُ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، والتَّقْدِيرُ: هو ضَعِيفُ، وضَعِيفُ: مُضَافٌ و(النِّكَايَةِ) مُضَافٌ إلَيْهِ. (أَعْدَاءَهُ) أَعْدَاءَ: مَفْعُولٌ بهِ للنِّكَايَةِ مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ، وأَعْدَاءَ مُضَافٌ وضَمِيرُ الغَائِبِ مُضَافٌ إلَيْهِ مَبْنِيٌّ علَى الضَّمِّ في مَحَلِّ جَرٍّ. (يَخَالُ) فِعْلٌ مُضَارِعٌٍ مَرْفُوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجَازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ الضَّمَّةُ الظَّاهِرَةُ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هو. (الفِرَارَ) مَفْعُولٌ أََوَّلُ ليَخَالُ مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ. (يُرَاخِي) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ بضَمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ علَى اليَاءِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهَا الثِّقَلُ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هو يَعُودُ إلى الفِرَارِ. (الأَجَلْ) مَفْعُولٌ بهِ ليُرَاخِي مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ، وسُكِّنَ لأجْلِ الوَقْفِ، وجُمْلَةُ يُرَاخِي وفَاعِلِهِ ومَفْعُولِهِ في مَحَلِّ نَصْبٍ مَفْعُولٌ ثَانٍ ليَخَالُ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (النِّكَايَةِ أَعْدَاءَهُ) حيثُ أَعْمَلَ المَصْدَرَ المُقْتَرِنَ بأل، وهو قَوْلُهُ: (النِّكَايَةِ) فنَصَبَ بهِ المَفْعُولَ وهو قَوْلُهُ: (أَعْدَاءَهُ)، ونَظِيرُهُ قَوْلُ الآخَرِ:
لَقَدْ عَلِمَتْ أُولَى المُغِيرَةِ أَنَّنِي = كَرَرْتُ فَلَمْ أَنْكُلْ عَنِ الضَّرْبِ مِسْمَعَا
ودَعْوَى أنَّ نَاصِبَ المَفْعُولِ في هذه الحَالَةِ هو المَصْدَرُ المُقْتَرِنُ بأل قَوْلُ سِيبَوَيْهِ والخَلِيلِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وذَهَبَ أَبُو العَبَّاسِ المُبَرِّدُ إلى أنَّ نَاصِبَ المَفْعُولِ حِينَئِذٍ هو مَصْدَرٌ آخَرُ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ علَيْهِ المَصْدَرُ المَذْكُورُ، وهذا المَصْدَرُ المَحْذُوفُ مُنَكَّرٌ، فالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُ: ضَعِيفُ النِّكَايَةِ نِكَايَةَ أَعْدَاءَهُ، وذَهَبَ أَبُو سَعِيدٍ السِّيرَافِيُّ إلَى أنَّ أَعْدَاءَهُ ونَحْوَهُ مَنْصُوبٌ علَى نَزْعِ الخَافِضِ، والأصْلُ عِنْدَهُ: ضَعِيفُ النِّكَايَةِ فِي أَعْدَائِهِ، ثُمَّ حُذِفَ حَرْفُ الجَرِّ فانْتَصَبَ الاسْمُ.
([9]) إنَّمَا لَمْ يَعْمَلِ اسْمُ المَصْدَرِ إذا كانَ عَلَماً؛ لأنَّ الأعْلامَ كمُحَمَّدٍ وسَعِيدٍ – عَلَمَيْنِ علَى مُعَيَّنَيْنِ – لا تَعْمَلُ فِي فَاعِلٍ أو مَفْعُولٍ؛ إذْ لا دَلالَةَ لهَا علَى الأَحْدَاثِ التي تَقْتَضِي هذَا النَّوْعَ مِنَ المَعْمُولاتِ.
([10]) إنَّمَا عَمِلَ المَصْدَرُ المَبْدُوءُ بالمِيمِ الزَّائِدَةِ لغَيْرِ الدَّلالَةِ علَى المُفَاعَلَةِ؛ لأنَّهُ مَصْدَرٌ في الحَقِيقَةِ عِنْدَ جَمْهَرَةِ النُّحَاةِ على ما ذَكَرْنَاهُ آنِفاً، وظَاهِرُ قَوْلِ المُؤَلِّفِ: (فكَالمَصْدَرِ اتِّفَاقاً) أنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُضَافاً وقدْ يَكُونُ مَقْرُوناً بأل وقد يَكُونُ مُجَرَّداً، لَكِنَّ الأَثْبَاتِ مِنَ العُلَمَاءِ لَمْ يَحْفَظُوا لهُ شَاهِداً إلا في حَالَةِ الإضَافَةِ كالبَيْتِ رَقْمِ 366، كذا قيلَ، وأنتَ تَجِدُ في الشَّاهِدِ رَقْمِ 367 ومَا ذَكَرْنَاهُ مَعَهُ مِن الشَّوَاهِدِ اسْمَ المَصْدَرِ غَيْرَ المَبْدُوءِ بالمِيمِ مُضَافاً لفَاعِلِهِ.
([11]) 366- نَسَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ المُؤَلِّفُ في (المُغْنِي) تَبَعاً للحَرِيرِيِّ فِي (دُرَّةِ الغَوَّاصِ) هذَا الشَّاهِدَ إلَى العَرْجِيِّ، ونَسَبَهُ آخَرُونَ إلَى الحَارِثِ بْنِ خَالِدٍ المَخْزُومِيِّ، وهذا هو الصَّوَابُ. وما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ ههُنَا صَدْرُ بَيْتٍ مِنَ الكَامِلِ، وعَجُزُه قَوْلُهُ:
*أَهْدَى السَّلامَ تَحِيَّةً ظُلْمُ*
وبَعْدَ هذَا البَيْتِ قَوْلُهُ:
أَقْصَيْتِهِ وَأَرَادَ سِلْمَكُمُ = فَلْيَهْنِهِ إِذْ جَاءَكِ السِّلْمُ
اللُّغَةُ: (ظَلُومُ) وَصْفٌ مِنَ الظُّلْمِ لَقَّبَ بِهِ حَبِيبَتَهُ، ويُرْوَى (أَظُلَيْمُ) علَى أنَّهُ تَصْغِيرُ اسْمِهَا تَصْغِيرَ التَّرْخِيمِ للتَّمْلِيحِ، والهَمْزَةُ السَّابِقَةُ علَيْهِ هَمْزَةُ النِّدَاءِ. و(مُصَابَكُمْ) مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بمَعْنَى الإصَابَةِ، وزَعَمَ اليَزِيدِيُّ أنَّهُ اسْمُ مَفْعُولٍ، وكانَ يُوجِبُ – بِنَاءً على هذا – رَفْعَ (رَجُلٍ) وستَعْرِفُ ذلكَ بوُضُوحٍ في بَيَانِ الاسْتِشْهَادِ بالبَيْتِ.
الإعرَابُ: (أَظَلُومُ) الهَمْزَةُ حَرْفٌ لنِدَاءِ القَرِيبِ أو ما هو بمَنْزِلَتِهِ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعْرَابِ، ظَلُومُ: مُنَادًى مَبْنِيٌّ علَى الضَّمِّ في مَحَلِّ نَصْبٍ. (إِنَّ) حَرْفُ تَوْكِيدٍ ونَصْبٍ يَنْصِبُ الاسْمَ ويَرْفَعُ الخَبَرَ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعْرَابِ. (مُصَابَكُمْ) مُصَابَ: اسْمُ إِنَّ مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ، وهو مُضَافٌ وضَمِيرُ المُخَاطَبِينَ مُضَافٌ إِلَيْهِ مَبْنِيٌّ على الضَّمِّ فِي مَحَلِّ جَرٍّ، وهو مِن إِضَافَةِ المَصْدَرِ المِيمِيِّ إلى فَاعِلِهِ. (رَجُلاً) مَفْعُولٌ بهِ للمَصْدَرِ مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ. (أَهْدَى) فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ المُقَدَّرِ على الألِفِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهِ التَّعَذُّرُ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هو يَعُودُ إلى رَجُلٍ. (السَّلامَ) مَفْعُولٌ بهِ لأَهْدَى مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ، والجُمْلَةُ مِن الفِعْلِ المَاضِي الذي هو أَهْدَى وفَاعِلِهِ المُسْتَتِرِ فيهِ ومَفْعُولِهِ في مَحَلِّ نَصْبٍ صِفَةٌ لرَجُلٍ. (تَحِيَّةً) مَفْعُولٌ لأَجْلِهِ عَامِلُهُ أَهْدَى مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ. (ظُلْمُ) خَبَرُ إِنَّ مَرْفُوعٌ بِهَا وعَلامَةُ رَفْعِهِ الضَّمَّةُ الظَّاهِرَةُ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (مُصَابَكُمْ رَجُلاً) حَيثُ أَعْمَلَ الاسْمَ الدَّالَّ علَى المَصْدَرِ عَمَلَ المَصْدَرِ لكَوْنِهِ مِيمِيًّا، وهو قَوْلُهُ: (مُصَابَ) بضَمِّ المِيمِ – فإنَّهُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ للفِعْلِ أَصَابَ، وقَدْ أَضَافَهُ إلَى فَاعِلِهِ وهو كَافُ المُخَاطَبِ، ثُمَّ نَصَبَ بهِ مَفْعُولَهُ، وهو قَوْلُهُ: (رَجُلاً) وكأَنَّهُ قدْ قالَ: إِنَّ إِصَابَتَكُمْ رَجُلاً، وخَبَرُ إِنَّ هو قَوْلُهُ: (ظُلْمُ) في آخِرِ البَيْتِ.
وكانَ اليَزِيدِيُّ يَزْعُمُ أنَّ (مُصَابَكُمْ) اسْمُ مَفْعُولٍ بهِ مِن الإصَابَةِ وهو اسْمُ إِنَّ، وخَبَرُهَا هو قَوْلُهُ: (رَجُلاً) وأنَّ قَوْلَهُ: (ظُلْمُ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وكأنَّهُ قدْ قالَ: إنَّ الذي أَصَبْتُمُوهُ رَجُلٌ مَوْصُوفٌ بأنَّهُ أهْدَى التَّحِيَّةَ وذلكَ ظُلْمٌ مِنْكُم، وهو تَكَلُّفٌ غَيْرُ مَرْضِيِّ المَبْنَى ولا المَعْنَى، وللبَيْتِ قِصَّةٌ عِنْدَ أَهْلِ الأدَبِ.
ومِثْلُ البَيْتِ رَقْمِ 366 قَوْلُ كُلْثُِومٍ العِتَابِيِّ:
أَسَرَّكِ أَنِّي نِلْتُ مَا نَالَ جَعْفَرٌ = مِنَ العَيْشِ أَوْ مَا نَالَ يَحْيَى بْنُ خَالِدِ
وَأَنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَغَصَّنِي = مُغَصَّهُمَا بِالمُرْهَفَاتِ البَوَارِدِ
فإنَّ قَوْلَهُ: (مُغَصَّهُمَا) مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ فِعْلُهُ أَغَصَّ، وقدْ أُضِيفَ إلى مَفْعُولِهِ.
ومِثْلُ قَوْلِ جَرِيرِ بْنِ عَطِيَّةَ (سِيبَوَيْهِ 1/119و169):
أَلَمْ تَعْلَمْ مُسَرَّحِيَ القَوَافِي = فَلاَ عِيًّا بِهِنَّ وَلاَ اجْتِلاَبَا
فإنَّ (مُسَرَّحِ) مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بمَعْنَى التَّسْرِيحِ، وقَدْ أضَافَهُ لفَاعِلِهِ وهو اليَاءُ ثُمَّ جَاءَ بَعْدَهُ بمَفْعُولِهِ وهو القَوَافِي وسَكَّنَ اليَاءَ للضَّرُورَةِ.
([12]) 367-هذا الشَّاهِدُ مِن كَلامِ القَطَّامِيِّ، واسْمُهُ عُمَيْرُ بْنُ شُيَيْمٍ – بزِنَةِ التَّصْغِيرِ فِيهِمَا – مِن كَلِمَةٍ يَمْدَحُ فيهَا زُفَرَ بْنَ الحَارِثِ الكِلابِيَّ، وما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ ههنا عَجُزُ بَيْتٍ مِن الوَافِرِ، وصَدْرُهُ قَوْلُهُ:
*أَكُفْراً بَعْدَ رَدِّ المَوْتِ عَنِّي؟*
اللُّغَةُ: (أَكُفْراً) الكُفْرُ – بضَمِّ الكَافِ –جَحْدُ النِّعْمَةِ التي أُسْدِيَت إلَيْكَ وإِنْكَارُهَا علَى مُسْدِيهَا، إمَّا بالقَوْلِ وإمَّا بالعَمَلِ علَى غَيْرِ مَا يُوجِبُهُ الشُّكْرُ، وكَانَ القَطَّامِيُّ قدْ أُسِرَ في حَرْبٍ فأَطْلَقَهُ زُفَرُ بْنُ الحَارِثِ ووَهَبَ لهُ مِائَةً مِن الإِبِلِ؛ ففي ذلك يَقُولُ القَصِيدَةَ التي مِنْهَا بَيْتُ الشَّاهِدِ. (الرِّتَاعَا) بكَسْرِ الرَّاءِ بزِنَةِ الكِتَابِ – وهي التي تَسْتَامُ وتَرْتَعُ وتَرْعَى مِن غَيْرِ أنْ يَرُدَّهَا أَحَدٌ. وذلك مِمَّا يُورِثُهَا سِمَناً، ويُرْوَى (الرِّبَاعَا) بالبَاءِ المُوَحَّدَةِ، وهي التي تُنْتِجُ زَمَنَ الرَّبِيعِ.
المَعْنَى: يَقُولُ: أَأَجْزِيكَ جَحْداً لنِعْمَتِكَ ونُكْرَاناً لجَمِيلِكَ وأنت الذي مَنَنْتَ عليَّ بالحَيَاةِ ووَهَبْتَنِي العُمُرَ بَعْدَ مَا كادَ يَنْقَضِي، ولم تَكْتَفِ بذلك وإنَّمَا زِدْتَ تَفَضُّلاً وأَرْبَيْتَ في المِنَّةِ عليَّ، وذلكَ غَايَةُ ما يُرْجَى مِنَ الكَرِيمِ؟!
الإعْرَابُ: (أَكُفْراً) الهَمْزَةُ للاسْتِفْهَامِ الإِنْكَارِيِّ، كُفْراً: مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، والتَّقْدِيرُ: أَأَكْفُرُ كُفْراً. (بَعْدَ) ظَرْفُ زَمَانٍ مَنْصُوبٌ بالفِعْلِ المَحْذُوفِ الذي عَمِلَ في المَصْدَرِ، وبَعْدَ: مُضَافٌ و(رَدِّ) مُضَافٌ إلَيْهِ، ورَدِّ مُضَافٌ و(المَوْتِ) مُضَافٌ إليهِ مِن إِضَافَةِ المَصْدَرِ إلَى مَفْعُولِهِ. (عَنِّي) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بقَوْلِهِ: رَدِّ. (وَبَعْدَ) الوَاوُ حَرْفُ عَطْفٍ، بَعْدَ: ظَرْفُ زَمَانٍ مَعْطُوفٌ بِالوَاوِ على ظَرْفِ الزَّمَانِ السَّابِقِ، وبَعْدَ: مُضَافٌ وعَطَاءِ مِن (عَطَائِكَ) مُضَافٌ إليه مَجْرُورٌ بالكَسْرَةِ الظَّاهِرَةِ، وعَطَاءِ: مُضَافٌ وضَمِيرُ المُخَاطَبِ مُضَافٌ إليه مِن إِضَافَةِ اسْمِ المَصْدَرِ إلى فَاعِلِهِ، مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ في مَحَلِّ جَرٍّ، وله مَحِلٌّ آخَرُ وهو الرَّفْعُ على الفَاعِلِيَّةِ. (المِائَةَ) مَفْعُولٌ بهِ لعَطَاءِ، مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ. (الرِّتَاعَا) نَعْتٌ للمِائَةِ مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ، والألِفُ للإطْلاقِ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (عَطَائِكَ المِائَةَ) حَيْثُ أَعْمَلَ اسْمَ المَصْدَرِ، وهو قَوْلُهُ: (عَطَاءِ) إِعْمَالَ المَصْدَرِ، فأَضَافَهُ إلى فَاعِلِهِ وهو كَافُ المُخَاطَبِ، ثُمَّ نَصَبَ بهِ المَفْعُولَ وهو قَوْلُهُ: (المِائَةَ).
ونَظِيرُ هذا الشَّاهِدِ قَوْلُ الآخَرِ:
قَالُوا: كَلامُكَ هِنْداً وَهْيَ مُصْغِيَةٌ = يَشْفِيكَ؟ قُلْتُ: صَحِيحٌ ذَاكَ لَوْ كَانَا
فإنَّ قَوْلَهُ: (كَلامُ) اسْمُ مَصْدَرٍ فِعْلُهُ كَلَّمَ – بتَضْعِيفِ اللاَّمِ – والمَصْدَرُ هو التَّكْلِيمُ، وقدْ أَعْمَلَ هذا الشَّاعِرُ اسْمَ المَصْدَرِ عَمَلَ المَصْدَرِ، فأَضَافَهُ إلى فَاعِلِهِ وهو كَافُ المُخَاطَبِ، ثُمَّ نَصَبَ بهِ المَفْعُولَ وهو قَوْلُهُ (هِنْداً).
ومِن شَوَاهِدِ ذلكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
بِعِشْرَتِكَ الكِرَامَ تُعَدُّ مِنْهُمْ = فَلاَ تَرَيَنْ لِغَيْرِهِمُ الوَفَاءَ
فإنَّ قَوْلَهُ: عِشْرَةِ اسْمُ مَصْدَرٍ فِعْلُهُ عَاشَرَهُ يُعَاشِرُهُ، ومَصْدَرُهُ المُعَاشَرَةُ، وقَدْ أَعْمَلَ اسْمَ المَصْدَرِ هذا عَمَلَ المَصْدَرِ، فأَضَافَهُ إلى فَاعِلِهِ وهو ضَمِيرُ المُخَاطَبِ، ثُمَّ نَصَبَ بهِ مَفْعُولَهُ وهو قَوْلُهُ: (الكِرَامَ).
وعُمْدَةُ الاسْتِشْهَادِ لهذهِ المَسْأَلَةِ قَوْلُهُ علَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((مِنْ قُبْلَةِ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ الوُضُوءُ)).
([13]) سُورَةُ (البَقَرَةُ)، الآيَةُ: 251. وسُورَةُ (الحَجُّ)، الآيَةُ: 40.
ومِثْلُ الآيَةِ الكَرِيمَةِ قَوْلُ الرَّاعِي:
بَلَى سَاءَلْتُهَا فَأَبَتْ جَوَاباً = وَكَيْفَ سُؤَالُكَ الدُّثُرَ القِفَارَا
فإنَّ (سُؤَالُ) مَصْدَرُ سَأَلَ، وقَدْ أضَافَهُ إلى فَاعِلِهِ وهو ضَمِيرُ المُخَاطَبِ، ثُمَّ أتَى بمَفْعُولِهِ، وهو قَوْلُهُ: (الدُّثُرَ). ومِثْلُهُ قَوْلُ كُثَيِّرِ عَزَّةَ:
وَأُقْسِمُ إِنَّ حُبَّكَ أُمَّ عَمْرٍو = لَدَاءٌ عِنْدَ مُنْقَطَعِ السُّعَالِ
فإنَّ قَوْلَهُ: (حُبَّ) مَصْدَرُ (حَبَّ) وهو فِعْلٌ مُهْمَلٌ أو نَادِرٌ، وقَدْ أضَافَ المَصْدَرَ لفَاعِلِهِ وهو الكَافُ، ثُمَّ أَتَى بمَفْعُولِهِ وهو (أُمَّ عَمْرٍو).
وقَدْ أضَافَ المَصْدَرَ لفَاعِلِه ثُمَّ أتَى بمَفْعُولِهِ قَطَرِيُّ بْنُ الفُجَاءَةِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ في بَيْتَيْنِ، وهُمَا قَوْلُهُ:
أَبَتْ لِي هِمَّتِي وَأَبَى بَلائِي = وَأَخْذِي الحَمْدَ بِالثَّمَنِ الزَّهِيدِ
وَإِقْحَامِي علَى المَكْرُوهِ نَفْسِي = وَضَرْبِي هَامَةَ البَطَلِ المُشِيحِ
ومِثْلُهُ قَوْلُ عَبْدِ يَغُوثَ:
أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّ المَلامَةَ نَفْعُهَا = قَلِيلٌ، وَمَا لَوْمِي أَخِي مِنْ شَمَالِيَا
ومِنْ ذلكَ قَوْلُ الصُّمَّةِ القُشَيْرِيِّ:
كَأَنَّ فُؤَادِي مِنْ تَذَكُّرِي الحِمَى = وَأَهْلِ الحِمَى يَهْفُو بِهِ رِيشُ طَائِرِ
ومِن ذلكَ قَوْلُ مُتَمَّمِ بْنِ نُوَيْرَةَ:
وَلَسْتُ أُبَالِي بَعْدَ فَقْدِي مَالِكاً = أَمَوْتِي نَاءٌ أَمْ هُوَ الآنَ وَاقِعُ
([14]) 368-هذا الشَّاهِدُ مِن كَلامِ الأُقَيْشِرِ الأَسَدِيِّ، واسْمُهُ المُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ عَجُزُ بَيْتٍ مِن البَسِيطِ، وصَدْرُهُ قَوْلُهُ:
*أَفْنَى تِلادِي وَمَا جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ*
اللُّغَةُ: (تِلادِي) التِّلادُ مِنَ المَالِ كَالتَّالِدِ والتَّلِيدِ، وهو المَالُ القَدِيمُ. (نَشَبٍ) النَّشَبُ – بالشِّينِ مُعْجَمَةً – مَا لا يَسْتَطِيعُ الإنْسَانُ حَمْلَهُ مِن أَمْوَالِهِ كالدُّورِ والضِّيَاعِ ونَحْوِهَا. (قَرْعُ القَوَاقِيزِ) القَرْعُ: مَصْدَرُ قَوْلِكَ: (قَرَعْتُ الشَّيْءَ أَقْرَعُهُ قَرْعاً) – مِن بَابِ فَتَحَ يَفْتَحُ – إذَا ضَرَبْتَهُ، ولا يُسْتَعْمَلُ إلاَّ فِي ضَرْبِ شَيْءٍ يَابِسٍ صَلْبٍ بآخَرَ مِثْلِهِ، والقَوَاقِيزِ: جَمْعُ قَاقُوزَةٍ – بقَافَيْنِ وزَايٍ – وهي القَدَحُ الذي يُشْرَبُ فيهِ الخَمْرُ، ويُرْوَى القَوَارِيرِ – بقَافٍ ورَاءَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ – جَمْعُ قَارُورَةٍ وهي الزُّجَاجَةُ. (أَفْوَاهُ الأبَارِيقِ) الأبَارِيقِ: جَمْعُ إِبْرِيقٍ، وهو مَا كَانَ لهُ عُرْوَةٌ، فإنْ لَمْ يَكُنْ عُرْوَةٌ فهو كُوزٌ.
الإعْرَابُ: (أَفْنَى) فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ المُقَدَّرِ على الألِفِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهِ التَّعَذُّرُ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعْرَابِ. (تِلادِي) تِلادِ: مَفْعُولٌ بهِ لأَفْنَى مَنْصُوبٌ بفَتْحَةٍ مُقَدَّرَةٍ على ما قَبْلَ يَاءِ المُتَكَلِّمِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهَا اشْتِغَالُ المَحَلِّ بحَرَكَةِ المُنَاسَبَةِ، ويَاءُ المُتَكَلِّمِ مُضَافٌ إليهِ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ. (ومَا) الوَاوُ حَرْفُ عَطْفٍ، مَا: اسْمٌ مَوْصُولٌ مَعْطُوفٌ علَى تِلادِي مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ نَصْبٍ. (جَمَّعْتُ) فِعْلٌ مَاضٍ وفَاعِلُهُ، والجُمْلَةُ لا مَحَلَّ لهَا صِلَةُ (ما) المَوْصُولَةِ، والعَائِدُ ضَمِيرٌ مَنْصُوبٌ بجَمَّعَ مَحْذُوفٌ، والتَّقْدِيرُ: والذي جَمَّعْتُهُ. (مِنْ نَشَبٍ) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بمَحْذُوفٍ حَالٌ مِن (ما) المَوصُولَةِ. (قَرْعُ) فَاعِلُ أَفْنَى مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وقَرْعُ مُضَافٌ و(القَوَاقِيزِ) مُضَافٌ إليْهِ مِن إِضَافَةِ المَصْدَرِ إلَى مَفْعُولِهِ، ومَجْرُورٌ بالكَسْرَةِ الظَّاهِرَةِ. (أَفْوَاهُ) فَاعِلٌ للمَصْدَرِ مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وأَفْوَاهُ: مُضَافٌ و(الأبَارِيقِ) مُضَافٌ إليهِ مَجْرُورٌ بالكَسْرَةِ الظَّاهِرَةِ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (قَرْعُ القَوَاقِيزِ أَفْوَاهُ) حَيْثُ أَضَافَ المَصْدَرَ، وهو قَوْلُهُ: (قَرْعُ) إلَى مَفْعُولِهِ، وهو قَوْلُهُ: (القَوَاقِيزِ) ثُمَّ أَتَى بفَاعِلِهِ وهو قَوْلُهُ: (أَفْوَاهُ) بَعْدَ ذلكَ.
ونَظِيرُ هذا البَيْتِ قَوْلُ الفَرَزْدَقِ يَصِفُ نَاقَةً بالسُّرْعَةِ والقُوَّةِ:
تَنْفِي يَدَاهَا الحَصَى فِي كُلِّ هَاجِرَةٍ = نَفْيَ الدَّرَاهِيمِ تَنْقَادُ الصَّيَارِيفِ
والظَّاهِرُ أنَّ مِن هذا النَّوْعِ قَوْلُ عَبْدِ يَغُوثَ بْنِ وَقَّاصٍ الحَارِثِيِّ:
وَكُنْتُ إِذَا مَا الخَيْلُ شَمَّسَهَا القَنَا = لَبِيقاً بِتَصْرِيفِ القَنَاةِ بَنَانِيَا
فإنَّ (تَصْرِيفِ) مَصْدَرُ صَرَّفَ بالتَّضْعِيفِ، وقَدْ أضَافَهُ لمَفْعُولِهِ وهو القَنَاةُ، ثُمَّ أَتَى بالفَاعِلِ وهو بَنَانِي.
([15]) سُورَةُ (إِبْرَاهِيمُ)، الآيَةُ: 40.
([16]) سُورَةُ (فُصِّلَتْ)، الآيَةُ: 49.
[17] ومِن إِضَافَةِ المَصْدَرِ لمَفْعُولِهِ ولَمْ يُذْكَرِ الفَاعِلُ قَوْلُ سُرَاقَةَ البَاهِلِيِّ:
كَفَرْتُ بِدِينِكُمْ وَجَعَلْتُ نَذْراً = عَلَيَّ قِتَالَكُمْ حَتَّى المَمَاتِ
ولو صَرَّحَ بالفَاعِلِ لقالَ: قِتَالِي إِيَّاكُم. ومِثْلُهُ قَوْلُ أَخِي شُرَحْبِيلِ بْنِ الحَارِثِ يَرْثِيهِ:
أَحْسَنَتْ وَائِلُ – وَمِنْ عَادَتِهَا الإِحْسَانُ = بِالحِنْوِ يَوْمَ ضَرْبِ الرِّقَابِ
ولو صَرَّحَ بالفَاعِلِ لقَالَ: يَوْمَ ضَرْبِهِمُ الرِّقَابَ، أو قالَ: يَوْمَ ضَرْبِ الفَوَارِسِ الرِّقَابَ.
([18]) هذا الذي ذَهَبَ إليهِ المُؤَلِّفُ تَبَعاً لابْنِ مَالِكٍ – مِن جَوَازِ الإِتْبَاعِ علَى المَحَلِّ – هو ما ذَهَبَ إليهِ الكُوفِيُّونَ وبَعْضُ البَصْرِيِّينَ، وذَهَبَ سِيبَوَيْهِ وجُمْهُورُ البَصْرِيِّينَ إلى أنَّهُ لا يَجُوزُ الإِتْبَاعُ علَى المَحَلِّ، وزَعَمَ هَؤُلاءِ أنَّ مَا وَرَدَ مِمَّا ظَاهِرُهُ الإِتْبَاعُ علَى المَحَلِّ، كالبَيْتِ رَقْمِ 369 والبَيْتِ رَقْمِ 370، فهو مُؤَوَّلٌ بتَقْدِيرِ رَافِعٍ للمَرْفُوعِ ونَاصِبٍ للمَنْصُوبِ. وكَثْرَةُ الشَّوَاهِدِ الوَارِدَةِ مِمَّا يَدُلُّ علَى صِحَّةِ الإِتْبَاعِ علَى المَحَلِّ تَمْنَعُ مِنَ الأَخْذِ بهذَا الرَّأْيِ؛ لأنَّ التَّأْوِيلَ خِلافُ الظَّاهِرِ.
([19]) 369-هذا الشَّاهِدُ مِن كَلامِ لُبَيْدِ بْنِ رَبِيعَةَ العَامِرِيِّ، يَصِفُ حِمَاراً وَحْشِيًّا وأُتُنَهُ، وما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ ههنا عَجُزُ بَيْتٍ مِنَ الكَامِلِ، وصَدْرُهُ قَوْلُهُ:
*حَتَّى تَهَجَّرَ فِي الرَّوَاحِ وَهَاجَهَا*
اللُّغَةُ: (تَهَجَّرَ) سَارَ في الهَاجِرَةِ، وهي نِصْفُ النَّهَارِ عِنْدَ اشْتِدَادِ الحَرِّ. (الرَّوَاحِ) الوَقْتُ مِن زَوَالِ الشَّمْسِ إلى اللَّيْلِ. (وَهَاجَهَا) أَزْعَجَهَا، و(طَلَبَ المُعَقِّبِ) مَصْدَرٌ تَشْبِيهِيٌّ مَنْصُوبٌ على أنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، وأَصْلُ الكَلامِ: وهَاجَهَا طَالِباً إِيَّاهَا طَلَباً مِثْلَ طَلَبِ المُعَقِّبِ – إلخ، والمُعَقِّبِ: الذي يَطْلُبُ حَقَّهُ المَرَّةَ بَعْدَ المَرَّةِ.
الإعراب: (حتى) حرف غاية وجر مَبْنِيٌّ على السكون لا محل له من الإعْرَابُ (تَهَجَّرَ) فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ لا مَحَلَّ لَهُ مِن الإعْرَابِ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هو يَعُودُ إلى حِمَارِ الوَحْشِ. (فِي الرَّوَاحِ) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بتَهَجَّرَ. (وَهَاجَهَا) الوَاوُ حَرْفُ عَطْفٍ، هاجَ: فِعْلٌ مَاضٍ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هو يَعُودُ إلى حِمَارِ الوَحْشِ، وضَمِيرُ الغَائِبَةِ العَائِدُ إلَى الأُتُنِ مَفْعُولٌ بهِ لهَاجَ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ نَصْبٍ. (طَلَبَ) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مَنْصُوبٌ بمَا دَلَّ الكَلامُ علَيْهِ، وكأنَّهُ قالَ: وَلازَمَهُ مُلازَمَةً كمُلازَمَةِ المُعَقِّبِ إلخ، وهو مُضَافٌ و(المُعَقِّبِ) مُضَافٌ إليْهِ مِن إِضَافَةِ المَصْدَرِ إلى فَاعِلِه مَجْرُورٌ بالكَسْرَةِ الظَّاهِرَةِ. (حَقَّهُ) حَقَّ: مَفْعُولٌ به للمَصْدَرِ الذي هو طَلَبَ، مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ، وحَقَّ: مُضَافٌ، وضَمِيرُ الغَائِبِ العَائِدُ إلى المُعَقِّبِ مُضَافٌ إليهِ مَبْنِيٌّ على الضَّمِّ في مَحَلِّ جَرٍّ. (المَظْلُومُ) بالرَّفْعِ: نَعْتٌ للمُعَقِّبِ باعْتِبَارِ مَحِلِّهِ الذي هو رَفَعٌ على أنَّهُ فَاعِلٌ بالمَصْدَرِ، ونَعْتُ المَرْفُوعِ مَرْفُوعٌ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ الضَّمَّةُ الظَّاهِرَةُ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (المَظْلُومُ) وهو نَعْتٌ لقَوْلِهِ: المُعَقِّبِ الذي هو مَجْرُورٌ لَفْظاً بإِضَافَةِ المَصْدَرِ الذي هو قَوْلُهُ: (طَلَبَ) إليْهِ، لكنَّهُ لمَّا كانَ فَاعِلاً لهذا المَصْدَرِ كانَ مَرْفُوعاً في المَعْنَى والمَحِلِّ، فأَتْبَعَهُ إيَّاهُ نَظَراً إلى مَحِلِّهِ.
ومِثْلُ هذَا البَيْتِ قَوْلُ المُتَنَخِّلِ الهُذَلِيِّ مِن قَصِيدَةٍ يَرْثِي فيهَا ابْنَهُ أُثَيْلَةَ:
السَّالِكُ الثُّغْرَةَِ اليَقْظَانَِ سَالِكُهَا = مَشْيَ الهَلُوكِ عَلَيْهَا الخَيْعَلُ الفُضُلُ
فالمَصْدَرُ ههنا – وهو قَوْلُهُ: (مَشْيَ) – مُضَافٌ إلى فَاعِلِهِ، وهو قَوْلُهُ: (الهَلُوكِ) وقَدْ نَعَتَ فَاعِلَ المَصْدَرِ بقَوْلِهِ: (الفُضُلُ)، ورَفَعَهُ تَبَعاً لمَوْضِعِهِ، والفُضُلُ: هي التي تَخْلَعُ ثِيَابَهَا كُلَّهَا إلا قَمِيصاً وَاحِداً.
([20]) 370- نَسَبُوا هذا الشَّاهِدَ في كِتَابِه= سِيبَوَيْهِ (ج1 ص 98) إِلَى رُؤْبَةَ بْنِ العَجَّاجِ، وقِيلَ: لَيْسَت هذهِ النِّسْبَةُ بصَحِيحَةٍ، وإنَّمَا هو لزِيَادَةَ العَنْبَرِيِّ، وما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ بَيْتٌ مِنَ الرَّجَزِ المَشْطُورِ، وقَبْلَهُ قَوْلُهُ:
*قَدْ كُنْتُ دَايَنْتُ بِهَا حَسَّانَا*
اللُّغَةُ: (دَايَنْتُ بهَا) أَخَذْتُهَا بَدَلاً مِن دَيْنٍ لِي عِنْدَهُ. (اللِّيَّانَ) بتَشْدِيدِ اليَاءِ واللاَّمِ مَفْتُوحَةً – المَطْلُ، وتَقُولُ: لَوَيْتُ فُلاناً بدَيْنِهِ أَلْوِيهِ – على مِثَالِ رَمَيْتُهُ أَرْمِيهِ – لِيًّا ولِيَّاناً، وذلك إذا مَطَلْتَهُ وسَوَّفْتَ في قَضَائِهِ.
الإعْرَابُ: (قَدْ) حَرْفُ تَحْقِيقٍ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعْرَابِ. (كُنْتُ) كَانَ: فِعْلٌ مَاضٍ نَاسِخٌ يَرْفَعُ الاسْمَ ويَنْصِبُ الخَبَرَ، وتَاءُ المُتَكَلِّمِ اسْمُهُ مَبْنِيٌّ على الضَّمِّ في مَحَلِّ رَفْعٍ. (دَايَنْتُ) فِعْلٌ مَاضٍ وفَاعِلُهُ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ خَبَرُ كَانَ. (بها) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بدَايَنَ. (حَسَّانَا) مَفْعُولٌ بهِ لدَايَنَ. (مَخَافَةَ) مَفْعُولٌ لأَجْلِهِ عَامِلُهُ دَايَنَ أَيْضاً، وهو مُضَافٌ وقَوْلُهُ: (الإِفْلاسِ) مُضَافٌ إلَيْهِ، مِن إِضَافَةِ المَصْدَرِ إلى مَفْعُولِهِ مَجْرُورٌ بالكَسْرَةِ الظَّاهِرَةِ. (واللِّيَّانَا) الواوُ حَرْفُ عَطْفٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعْرَابِ، اللِّيَّانَا: مَعْطُوفٌ على الإفْلاسِ باعْتِبَارِ مَحِلِّهِ الذي هو نَصْبٌ؛ لكَوْنِهِ مَفْعُولاً للمَصْدَرِ الذي هو مَخَافَةَ، والمَعْطُوفُ على المَنْصُوبِ مَنْصُوبٌ، وعَلامَةُ نَصْبِهِ الفَتْحَةُ الظَّاهِرَةُِ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (وَاللِّيَّانَا) فإنَّهُ مَنْصُوبٌ، وهو مَعْطُوفٌ على (الإفْلاسِ) الذي هو مَجْرُورُ اللَّفْظِ بإضَافَةِ المَصْدَرِ الذي هو قَوْلُهُ: (مَخَافَةَ) إليه، لَكِنَّهُ لمَّا كانَ مَفْعُولاً بهِ لذلك المَصْدَرِ كانَ في المَعْنَى والمَحَلِّ مَنْصُوباً، فلمَّا أَرَادَ العَطْفَ علَيْهِ لاحَظَ ذلكَ المَحَلَّ فنَصَبَ المَعْطُوفَ مُرَاعَاةً لهُ.