النَّوْعُ السَّادِسُ وَالعِشْرُونَ : صِفَةُ رِوَايَةِ الحَدِيثِ
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: شَدَّدَ قَوْمٌ فِي الرِّوَايَةِ, فَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ مِنْ حِفْظِ الرَّاوِي أَوْ تَذَكُّرِهِ, وَحَكَاهُ عَنْ مَالِكٍ, وَأَبِي حَنِيفَةَ, وَأَبِي بَكْرٍ الصَّيْدَلَانِيِّ المَرْوَزِيِّ (الشَّافِعِيِّ).
وَاكْتَفَى آخَرُونَ, وَهُمُ الجُمْهُورُ, بِثُبُوتِ سَمَاعِ الرَّاوِي لِذَلِكَ الَّذِي يَسْمَعُ عَلَيْهِ, وَإِنْ كَانَ بِخَطِّ غَيْرِهِ, وَإِنْ غَابَتْ عَنْهُ النُّسْخَةُ, إِذَا كَانَ الغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ سَلَامَتَهَا مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ.
وَتَسَاهَلَ آخَرُونَ فِي الرِّوَايَةِ مِنْ نُسَخٍ لَمْ تُقَابَل, بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الطَّالِبِ: (هَذَا مِنْ رِوَايَتِكَ)، مِنْ غَيْرِ تَثْبِيتٍ, وَلَا نَظَرٍ فِي النُّسْخَةِ, وَلَا تَفَقُّدِ طَبَقَةِ سَمَاعِهِ.
قَالَ: وَقَدْ عَدَّهُمُ الحَاكِمُ فِي طَبَقَاتِ المَجْرُوحِينَ.
فرع قَالَ الخَطِيبُ البَغْدَادِيُّ:
وَالسَّمَاعُ عَلَى الضَّرِيرِ أَوِ البَصِيرِ الأُمِّيِّ, إِذَا كَانَ مُثْبَتًا بِخَطِّ غَيْرِهِ أَوْ قَوْلِهِ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ النَّاسِ.
فَمِنَ العُلَماءِ مَن مَنَعَ الرِّوَايَةَ عَنْهُم ومِنهُم مَنْ أَجازَها.
فرع آخر: إذا رَوَى كِتابًا كالبُخارِيِّ -مثَلًا- عنْ شَيخِه، ثم وَجَدَ نُسخَةً في يَدَيْهِ لَيْسَت مُقابَلَةً على أصلِ شَيخِه، أو لم يَجِدْ أَصْلَ سَماعِهِ فيها عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ تَسْكُنُ نَفْسُهُ إلى صِحَّتِهَا اتَّفَقَ الخَطِيبُ عَن عَامَّةِ أَهْلِ الحَدِيثِ أَنَّهُم مَنَعُوا مِنَ الرِّوَايَةِ بذَلِكَ، ومِنهُمُ الشَّيْخُ أَبُو نَاصِرِ بنُ الصَّبَّاغِ الفَقِيهُ، وحَكَى عَنْ أَيُّوبَ ومُحَمَّدِ بنِ بَكْرٍ البُرْسَانِيِّ أَنَّهُما رَخَّصَا في ذلك.
قلتُ: وإِلَى هَذَا أَجْنَحُ -واللهُ أَعْلَمُ- وقد تَوَسَّطَ الشيخُ تَقِيُّ الدينِ بنُ الصَّلاحِ، فقالَ: إِنْ كَانَتْ له مِنْ شَيْخِه إِجازَةٌ جَازَتْ رِوَايَتُهُ والحالةُ هذِهِ.
فرعٌ آخَرُ: إذا اختلَفَ الحَافِظُ وكِتَابُهُ فإنْ كانَ اعتِمادُهُ في حِفظِهِ علَى كِتابِهِ فليَرْجِعْ إليه، وإنْ كانَ مِن غَيرِه فليَرْجِعْ إِلَى حِفْظِه، وحَسُنَ أَنْ يُنبِّهَ علَى ما في الكِتابِ معَ ذلكَ، كما رُوِيَ عن شُعْبَةَ، وكذلك إذا خَالَفَهُ غَيْرُه مِنَ الحُفَّاظِ فَليُنَبِّهْ على ذلك عندَ رِوايَتِه كما فَعَلَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ -واللهُ أَعْلَمُ-.
فرعٌ آخَرُ: لو وَجَدَ طَبَقَةَ سَماعِهِ في كِتابِه إِمَّا بِخَطِّه أَوْ خَطِّ مَن يَثِقُ بِهِ، ولَمْ يَتَذَكَّرْ سَماعَهُ لِذَلِكَ، فقد حُكِيَ عن أَبِي حَنِيفَةَ وبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أنه لا يَجُوزُ له الإقدامُ على الرِّوَايَةِ، والجادَّةُ مِن مَذْهَبِ الشافعيِّ وبه يَقُولُ مُحمدُ بنُ الحَسَنِ وأَبُو يُوسُفَ الجَوَازُ اعتِمادًا على ما غَلَبَ على ظَنِّهِ، وكما أنه لا يُشْتَرَطُ أن يَتَذَكَّرَ سَماعَهُ لِكُلِّ حَدِيثٍ أو ضَبْطَهُ كذلك لا يُشْتَرَطُ تَذَكُّرُه لأصلِ سَماعِه.