دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم القرآن الكريم > مكتبة التفسير وعلوم القرآن الكريم > جامع علوم القرآن > البرهان في علوم القرآن

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 12 ذو القعدة 1430هـ/30-10-2009م, 05:54 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي النوع السادس والأربعون: في أساليب القرآن وفنونه البليغة


النوع السادس والأربعون: في أساليب القرآن وفنونه البليغة.
وهو المقصود الأعظم من هذا الكتاب وهو بيت القصيدة وأول الجريدة وغرة الكتيبة وواسطة القلادة ودرة التاج وإنسان الحدقة على أنه قد تقدمت الإشارة للكثير من ذلك.
اعلم أن هذا علم شريف المحل عظيم المكان قليل الطلاب ضعيف الأصحاب ليست له عشيرة تحميه ولا ذوو بصيرة تستقصيه وهو أرق من الشعر وأهول من البحر وأعجب من السحر وكيف لا يكون وهو المطلع على أسرار القرآن العظيم الكافل بإبراز إعجاز النظم المبين ما أودع من حسن التأليف وبراعة التركيب وما تضمنه في الحلاوة وجلله في رونق الطلاوة مع سهولة كلمه وجزالتها وعذوبتها وسلاستها ولا فرق بين ما يرجع الحسن إلى اللفظ أو المعنى
وشذ بعضهم فزعم أن موضع صناعة البلاغة فيه إنما هو المعاني فلم يعد الأساليب البليغة والمحاسن اللفظية.
والصحيح أن الموضوع مجموع المعاني والألفاظ إذ اللفظ مادة الكلام الذي منه يتألف ومتى أخرجت الألفاظ عن أن تكون موضوعا خرجت عن جملة الأقسام المعتبرة إذ لا يمكن أن توجد إلا بها وها أنا ألقي إليك منه ما يقضي له البليغ عجبا ويهتز به الكاتب طربا
فمنه التوكيد بأقسامه والحذف بأقسامه الإيجاز التقديم والتأخير القلب المدرج الاقتصاص الترقي التغليب الالتفات التضمين وضع الخبر موضع الطلب وضع الطلب موضع الخبر وضع النداء موضع التعجب وضع جملة القلة موضع الكثرة تذكير المؤنث تأنيث المذكر التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي عكسه مشاكلة اللفظ للمعنى النحت الإبدال المحاذاة قواعد في النفي والصفات إخراج الكلام مخرج الشك في اللفظ دون الحقيقة الإعراض عن صريح الحكم الهدم التوسع الاستدراج التشبيه الاستعارة التورية التجريد التجنيس الطباق المقابلة إلجام الخصم بالحجة التقسيم التعديد مقابلة الجمع بالجمع قاعدة فيما ورد في القرآن مجموعا تارة ومفردا أخرى وحكمة ذلك قاعدة أخرى في الضمائر قاعدة في السؤال والجواب الخطاب بالشيء عن اعتقاد المخاطب التأدب في الخطاب تقديم ذكر الرحمة على العذاب الخطاب بالاسم الخطاب بالفعل قاعدة في ذكر الموصولات والظرف تارة وحذفها أخرى قاعدة في النهي ودفع التناقض عما يوهم ذلك وملاك ذلك الإيجاز والإطناب قال صاحب الكشاف كما أنه يجب على البليغ في مظان الإجمال والإيجاز أن يجمل ويوجز فكذلك الواجب عليه في موارد التفصيل أن يفصل ويشبع وأنشد الجاحظ:
يَرْمُوْنَ بالخُطَبِ الطِوال وتارة
وحيَ الملاحظ خيفةَ الرقباءِ
الأسلوب الأول: التأكيد.
والقصد منه الحمل على ما لم يقع ليصير واقعا ولهذا لا يجوز تأكيد الماضي ولا الحاضر لئلا يلزم تحصيل الحاصل وإنما يؤكد المستقبل وفيه مسائل:
الأولى: جمهور الأمة على وقوعه في القرآن والسنة وقال قوم: ليس فيهما تأكيد ولا في اللغة بل لابد أن يفيد معنى زائدا على الأول واعترض الملحدون على القرآن والسنة بما فيهما من التأكيدات وأنه لا فائدة في ذكرها وأن من حق البلاغة في النظم إيجاز اللفظ واستيفاء المعنى وخير الكلام ما قل ودل ولا يمل والإفادة خير من الإعادة وظنوا أنه إنما يجيء لقصور النفس عن تأدية المراد بغير تأكيد ولهذا أنكروا وقوعه في القرآن.
وأجاب الأصحاب بأن القرآن نزل على لسان القوم وفي لسانهم التأكيد والتكرار وخطابه أكثر بل هو عندهم معدود في الفصاحة والبراعة ومن أنكر وجوده في اللغة فهو مكابر إذ لولا وجوده لم يكن لتسميته تأكيدا فائدة فإن الاسم لا يوضع إلا لمسمى معلوم لا فائدة فيه بل فوائد كثيرة كما سنبينه.
الثانية: حيث وقع فهو حقيقة وزعم قوم أنه مجاز لأنه لا يفيد إلا ما أفاده المذكور الأول حكاه الطرطوسي في العمدة ثم قال ومن سمى التأكيد مجازا فيقال له إذا كان التاكيد بلفظ الأول نحو عجل عجل ونحوه فإن جاز أن يكون الثاني مجازا جاز في الأول لأنهما في لفظ واحد وإذا بطل حمل الأول على المجاز بطل حمل الثاني عليه لأنه قبل الأول.
الثالثة: أنه خلاف الأصل فلا يحمل اللفظ على التأكيد إلا عند تعذر حمله على مدة محددة
الرابعة: يكتفى في تلك بأي معنى كان وشرط وما قاله ضعيف لأن المفهوم من دلالة اللفظ ليس من باب الألفاظ حتى يحذو به حذو الألفاظ.
الخامسة: في تقسيمه وهو صناعي -يتعلق باصطلاح النحاة- ومعنوي وأقسامه كثيرة فلنذكر ما تيسر منها.
القسم الأول: التوكيد الصناعي.
وهو قسمان: لفظي ومعنوي فاللفظي: تقرير معنى الأول بلفظ أو مرادفه فمن المرادف: {فِجَاجاً سُبُلاً} {ضَيِّقاً حَرَِجاً} في قراءة كسر الراء {وَغَرَابِيبُ سُودٌ}.
وجعل الصفار منه قوله تعالى: {فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} على القول بأن كلاهما للنفي
واللفظي يكون في الاسم النكرة بالإجماع نحو: {قَوَارِيرَا. قَوَارِيرَ} وجعل ابن مالك وابن عصفور منه: {دَكّاً دَكّاً} و{صَفّاً صَفّاً} وهو مردود لأنه جاء في التفسير أن معنى دكا دكا دكا بعد دك وأن الدك كرر عليها حتى صار هباء منثورا وأن معنى: {صَفّاً صَفّاً} أنه تنزل ملائكة كل سماء يصطفون صفا بعد صف محدقين بالإنس والجن وعلى هذا فليس الثاني منهما تكرارا للأول بل المراد به التكثير نحو: جاء القوم رجلا رجلا وعلمته الحساب بابا بابا.
وقد ذكر ابن جني في قوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} {إِذَا رُجَّتِ} أن {رُجَّتِ} بدل من {وَقَعَتِ} وكررت "إذا" تأكيدا لشدة امتزاج المضاف بالمضاف إليه.
ويكون في اسم الفعل كقوله تعالى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ}.
وفي الجملة نحو: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} ولكون الجملة الثانية للتوكيد سقطت من مصحف ابن مسعود ومن قراءته.
والأكثر فصل الجملتين بثم كقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ} {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ}.
ويكون في المجرور كقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} والأكثر فيه اتصاله بالمذكور وزعم الكوفيون أنه لا يجوز الفصل بين التوكيد والمؤكد قال الصفار في شرح سيبويه: والسماع يرده قال تعالى: {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} فإن "هم" الثانية تأكيد للأولى وقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا } وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} ألا ترى أن قبله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ} فأكد "لَمَّا" وبينهما كلام وأصله: {يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} فكرر للطول الذي بين "لما" وجوابها وقوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} في أحد القولين لأنه أكد "أن" بعد ما فصل
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ}.
ريب أنهم اجتمعوا في الهلاك وأن قوم موسى اجتمعوا في النجاة.
ومنه قوله تعالى حكاية عن يوسف: {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} فلم يرد بهذا أن يجتمعوا عنده وإن جاءوا واحدا بعد واحد وإنما أراد اجتماعهم في المعنى إليه وألا يتخلف منهم أحد وهذا يعلم من السياق والقرينة.
ومن القرينة الدالة على ذلك في قصة الملائكة لفظا أن قوله: يتخلف منهم أحد وهذا يعلم من السياق والقرينة.
ومن القرينة الدالة على ذلك في قصة الملائكة لفظا أن قوله: {كُلُّهُمْ} يفيد الشمول .
والإحاطة فلا بد أن يفيد: {أَجْمَعُونَ} قدرا زائدا على ذلك وهو اجتماعهم في السجود هذا في اللفظ وأما المعنى فلأن الملائكة لم تكن ليتخلف أحد منهم عن امتثال الأمر ولا يتأخر عنده ولاسيما وقد وقت لهم بوقت وحد لهم بحد وهو التسوية ونفخ الروح فلما حصل ذلك سجدوا كلهم عن آخرهم في آن واحد ولم يتخلف منهم أحد فعلى هذا يخرج كلام المبرد الزمخشري.
وما نقل عن بعض المتكلمين أن السجود لم يستعمل على الكل بدليل قوله: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} مردود بل العالون المتكبرون وفي رسائل إخوان الصفاء أن العالين هم العقول العاقة التي لم تسجد وهذا تحريف ولم يقم دليل على إثبات العقول التي تدعيها الفلاسفة.
ووقع خلاف في أن إبليس من الملائكة أم لا؟ والتحقيق أنه ليس منهم عنصرا ففي صحيح مسلم: "خلقت الملائكة من نور وخلقت الجان من النار وخلق آدم مما وصف لكم" وهو منهم حكما لدخوله في الخطاب بالأمر بالسجود معهم ولو كان من غيرهم لم يدخل معهم
وأما قوله: {إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} فلم يذكر قبله "كلهم" لما لم يكن المراد كل واحد واحد من الآية لم تحسن الزيادة في التأكيد بدليل الاستثناء بعده من قوله: {إِلاَّ امْرَأَتَهُ}
ومنها: قصد تحقيق المخبر به كقوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ} فأكد بإن وباسم الفاعل مع أنهم ليسوا بشاكين في الخبر.
ومثله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}.
وقال حاكيا عن نوح: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ}.
ومنها: قصد إغاظة السامع بذلك الخبر كقوله: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}.
ومنها: الترغيب كقوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أكده بأربع تأكيدات وهي إن وضمير الفصل والمبالغتان مع الصفتين له ليدل على ترغيب الله العبد في التوبة فإنه إذا علم ذلك طمع في عفوه وقوله: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}.
ومنها: الإعلام بأن المخبر به كله من عند المتكلم كقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} دون الاقتصار على "يأتينكم هدى" قال المفسرونك فيه إشارة إلى أن الخير كله منه.
وعليه قوله: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ}.
ومنها: التعريض بأمر آخر كقوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} وقول موسى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وقوله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} تعريضا سؤال قبولها فإنها كانت تطلب للنذر ذكرا.

تنبيهان:
الأول: قالوا إنما يؤتى به للحاجة للتحرز عن ذكر مالا فائدة له فإن كان المخاطب ساذجا ألقي إليه الكلام خاليا عن التأكيد وإن كان مترددا فيه حسن تقويته بمؤكد وإن كان منكرا وجب تأكيده ويراعى في القوة والضعف بحسب حال المنكر كما في قوله تعالى عن رسل عيسى: {رَبُّنَا يَعْلَمُ} الآية وذلك أن الكفار نفوا رسالتهم بثلاثة أشياء:
أحدها قولهم: {مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا}.
والثاني قولهم: {مَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ}.
والثالث قولهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} فقوبلوا على نظيره بثلاثة أشياء أحدها قولهم: {رَبُّنَا يَعْلَمُ} ووجه التأكيد فيه أنه في معنى قسم والثاني قوله: {إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} والثالث قوله تعالى: {وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}.
وقد ينزل المنكر كغير المنكر وعكسه وقد اجتمعا في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} أُكِّدت الإماتة تأكيدين وإن لم ينكروا لتنزيل المخاطبين لتماديهم في الغفلة منزلة من ينكر الموت وأكد إثبات البعث تأكيدا واحدا وإن كان أكثر لأنه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرا بألا يتكرر ويتردد فيه حثا لهم على النظر في أدلته الواضحة.
الثاني: قال التنوخي في "أقصى القرب": إذا قصدوا مجرد الخبر أتوا بالجملة الفعلية وإن أكدوا فبالاسمية ثم بإن ثم بها وباللام وقد تؤكد الفعلية بقد وإن احتيج بأكثر جيء بالقسم مع كل من الجملتين وقد تؤكد الاسمية باللام فقط نحو: لزيد قائم وقد تجيء مع الفعلية مضمرة بعد اللام وحاصله أن الخطاب على درجات قام زيد ثم لقد قام -فإنه جعل الفعلية كأنها دون الاسمية- ثم إن زيدا قائم ولزيد قائم.

ما يلتحق بالتأكيد الصناعي:
ويلتحق بالتأكيد الصناعي أمور:
أحدها: تأكيد الفعل بالمصدر ومنه قوله تعالى: {جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً} وقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} {وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وقوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً. وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً} {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} {فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} وهو كثير.
قالوا: وهو عوض عن تكرار الفعل مرتين فقولك ضربت ضربا بمنزلة قولك: ضربت ضربت ثم عدلوا عن ذلك واعتاضوا عن الجملة بالمفرد.
وليس منه قوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} بل هو جمع الظن وجمع لاختلاف أنواعه قاله ابن الدهان.
ثم اختلفوا في فائدته فقيل: إنه يرفع المجاز عن الفاعل فإنك تقول: ضرب الأمير اللص ولا يكون باشر بل أمر به ضربا علم أنه باشر.
وممن نص على ذلك ثعلب في أماليه وابن العصفور في شرح الجمل الصغير.
والصواب أنه إنما يرفع الوهم عن الحديث لا عن المحدث عنه فإذا قلت: ضرب الأمير احتمل مجازين أحدهما: إطلاق الضرب على مقدماته والثاني: إطلاق الأمير على أمره فإذا أردت رفع الأول أتيت بالمصدر فقلت: ضربا وإن أردت الثاني قلت: نفسه أو عينه ومن هذا يعلم ضعف استدلال أصحابنا على المعتزلة في إثبات كلام الله لموسى في قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} فإنه لما أريد كلام الله نفسه قال: {تَكْلِيماً} ودل على وقوع الفعل حقيقة أما تأكيد فاعله فلم يتعرض له ولقد سخف عقل من تأوله على أنه كلمة بأظفار المحن من الكلم وهو الجرح لأن الآية مسوقة في بيان الوحي ويحكى أنه استدل بعض علماء السنة على بعض المعتزلة في إثبات التكليم حقيقة بالآية من جهة أن المجاز لا يؤكد فسلم المعتزلي له هذه القاعدة وأراد دفع الاستدلال من جهة أخرى فادعى أن اللفظ إنما هو {وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى} بنصب لفظ الجلالة وجعل موسى فاعلا بـ كلم وأنكر القراءة المشهورة وكابر فقال السني: فماذا تصنع بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} فانقطع المعتزلي عند ذلك
قال ابن الدهان: ومما يدل على أن التأكيد لا يرفع المجاز قول الشاعر:

قرعتُ ظنابيب الهوى يوم عالجٍ
ويوم اللّوى حتى قسرتُ الهوى قسرًا

قلت: وكذا قوله: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً} وأما قوله تعالى: {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} فمفعول {أَسْرَرْتُ} محذوف أي: الدعاء والإنذار ونحوه
فإن قلت: التأكيد ينافي الحذف فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن المصدر لم يؤت به هنا للتأكيد وإن كان بصورته لأن المعنى ليس على ذلك وإنما أتى به لأجل الفواصل ولهذا لم يؤت بمصدر {أَعْلَنْتُ} وهو مثله.
والثاني: أن "أسر" وإن كان متعديا في الأصل إلا أنه هنا قطع النظر عن مفعوله وجعل نسيا كما في قوله فلان يعطي ويمنع فصار لذلك كاللازم وحينئذ فلا منافاة بين المجيء به بالمصدر لو كان.
ثم التأكيد بالمصدر تارة يجيء من لفظ الفعل كما سبق وتارة يجيء من مرادفه كقوله تعالى: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً} فإن الجهار أحد نوعي الدعاء وقوله: {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ} فإنه منصوب بقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} لأن {لَيّاً} نوع من التحريف.
ويحتمل أن يكون منه: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً} لأن البهتان ظلم والأخذ على نوعين: ظلم وغيره
وزعم الزمخشري قوله: {نَافِلَةً لَكَ} وُضع {نَافِلَةً} موضع تهجدا لأن التهجد عبادة زائدة فكأن التهجد والنافلة يجمعهما معنى واحد.
وقوله: {وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} قيل: كان الأصل تكرار الصدق بلفظه فاستثقل التكرار للتقارب فعدل إلى ما يجاريه خفة ولتجرى المصادر الثلاثة مجرى واحدا خفة ووزنا إحرازا للتناسب.
وأما قوله: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً. ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً } ففائدة { إِخْرَاجاً } أن المعاد في الأرض هو الذي يخرجكم منها بعينه دفعا لتوهم من يتوهم أن المخرج منها أمثالهم وأن المبعوث الأرواح المجردة.
فإن قيل: هذا يبطل بقوله تعالى: { نْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} فإنه أكد بالمصدر وليس المراد حقيقة النبات.
قلت: لا جرم حيث لم يرد الحقيقة هنا لم يؤكده بالمصدر الحقيقي القياسي بل عدل به إلى غيره وذلك لأن مصدر أنبت الإنبات والنبات اسمه لا هو كما قيل في "الكلام" و"السلام": اسمان للمصدر الأصلي الذي هو التكليم والتسليم وأما قوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} وإن لم يكن جاريا على تبتل لكنه ضمن معنى: بتل نفسك تبتلا.
ومثله قوله: { وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} قال أبو البقاء: هو موضع تعاليا لأنه مصدر قوله: {وَتَعَالَى} ويجوز أن يقع مصدرا في موضع آخر من معناه وكذا قال الراغب قال: وإنما عدل عنه لأن لفظ التفاعل من التكلف كما يكون من البشر.
وأما قوله: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً. وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً} فقال بعضهم: الجملة الفاعلية تحتمل المجاز في مفرديها جميعا وفي كل منهما مثاله ها هنا إنه يحتمل أن المجاز في: {تَمُورُ} وأنها ما تمور بل تكاد أو يخيل إلى الناظر أنها تمور ويحتمل أن المجاز في السماء وأن المور الحقيقي لكنها وأهلها لشدة الأمر وكذلك الكلام في {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً} فإذا رفع المجاز عن أحد جزأي الجملة نفي احتماله في الآخر فلم تحصل فائدة التأكيد وأجيب بهذه القاعدة وهي أن {مَوْراً} في تقدير "تمور" فكأنه قال: تمور السماء تمور السماء وتسير الجبال تسير الجبال فأكد كلا من الجزأين بنظيره وزال الإشكال.
وأما قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} فيحتمل أن يكون {شَيْئاً} من تأكيد الفعل بالمصدر كقوله: بعت بيعا ويجوز أن يكون الشيء بمنزلة الأمر والتبيان والمعنى: إلا أن يشاء ربي أمرا أو وضع موضع المصدر وانظر كيف ذكر مفعول المشيئة وقول البيانيين: إنه يجب حذفه إذا كان عاما وأما قوله تعالى: {دَكّاً دَكّاً} فالمراد به: التتابع أي دكا بعد دك وكذا قوله: {صَفّاً صَفّاً} أي: صفا يتلوه صف ولو اقتصر على الواحد لا يحتمل صفا واحدا.
وأما قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} فإن إضافة الزلزال إليها يفيد معنى ذاتها وهو: زلزالها المختص بها المعروف منها المتوقع كما تقول غضب زيد غضبه وقاتل زيد قتاله أي غضبه الذي يعرف منه وقتاله المختص به كقوله:
*أنا أبو النجم وشعري شعري*
واعلم أن القاعدة في المصدر والمؤكدأن يجيء اتباعا لفعله نحو: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} وقد يخرج عنها نحو قوله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} وقوله تعالى: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً} وقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} وقوله تعالى: {أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} ولم يقل: "تبتلا" و"تعذيبا" و"إقراضا" و"إنباتا"
واختلف في ذلك على أقوال:
أحدها: أنه وضع الاسم منها موضع المصدر.
والثاني: أنه منصوب بفعل مضمر يجرى عليه المصدر ويكون ذلك الفعل الظاهر دليلا على المضمر فالمعنى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} فنبتم نباتا وهو قول المبرد واختاره ابن خروف وزعم أنه مذهب سيبويه وكذا قال ابن يعيش ونازعه ابن عصفور.
والثالث: أنها منصوبة بتلك الأفعال الظاهرة وإن لم تكن جارية عليها.
والرابع: التفصيل بين أن يكون معنى الفعل غير معبر بمعنى مصدر ذلك الفعل الظاهر فهو منصوب بفعل مضمر يدل عليه ذلك الفعل الظاهر كقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} أي: ونبتم أي وساغ إضماره لأنهم إذا أنبتوا فقد نبتوا ولا يجوز في غير ذلك أن ينصب بالظاهر لأن الغرض من المصدر تأكيد الفعل الذي نصبه أو تبيين معناه وإذا كان المصدر مغايرا لمعنى الفعل الظاهر لم يحصل بذلك الغرض المقصود لأن النبات ليس بمعنى الإنبات وإذا لم يكن بمعناه فكيف يؤكده أو يبينه وأما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} فإنما ذكر قوله: {بِدَيْنٍ} مع {تَدَايَنْتُمْ} يدل عليه لوجوه:
أحدها: ليعود الضمير في {فَاكْتُبُوهُ} عليه إذ لولم يذكره لقال: "فاكتبوا الدين" ذكره الزمخشري وهو ممنوع لأنه كان يمكن أن يعود على المصدر المفهوم من {تَدَايَنْتُمْ} لأنه يدل على الدين.
الثاني: أن {تَدَايَنْتُمْ } مفاعلة من الدَِّين ومن الدِّين فاحتيج إلى قوله: {بِدَيْنٍ} ليبين أنه من الدَّين لا من الدِّين
وهذا أيضا فيه نظر لأن السياق يرشد إلى إرادة الدَّين.
الثالث: أن قوله: {بِدَيْنٍ} إشارة إلى امتناع بيع الدين بالدين كما فسر قوله صلى الله
عليه وسلم هو بيع الكالئ بالكالئ ذكره الإمام فخر الدين.
وبيانه أن قوله تعالى: {تَدَايَنْتُمْ} مفاعلة من الطرفين وهو يقتضي وجود الدين من الجهتين فلما قال: {بِدَيْنٍ} علم أنه دين واحد من الجهتين.
الرابع: أنه أتي به ليفيد أن الإشهاد مطلوب سواء كان الدين صغيرا أو كبيرا كما سبق نظيره في قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} ويدل على هذا هاهنا قوله بعد ذلك: {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ}.
الخامس: أن {تَدَايَنْتُمْ} مشترك بين الاقتراض والمبايعة والمجازاة وذكر الدين لتمييز المراد قال الحماسي:
ولم يبق سوى العدوان دنّاهم كما دانوا
ونظير هذه الآية في التصريح بالمصدر مع ظهوره فيما قبله قوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} وقوله تعالى: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} وقوله: {سَأَلَ سَائِلٌ} فيقال: ما الحكمة في التصريح بالمصدر فيهما أو بضميره مع أنه مستفاد مما قبله.
وقد يجيء التأكيد به لمعنى الجملة كقوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} فإنه تأكيد لقوله تعالى: {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} لأن ذلك صنع الله وقوله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ} تأكيد لقوله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ} لأن هذا وعد الله وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} انتصب {كِتَاباً} على المصدر بما دل عليه السياق تقديره: "وكتب الله" لأن قوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} يدل على كتب.
وقوله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} تأكيد لقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} الآية لأن هذا مكتوب علينا وانتصب المصدر بما دل عليه سياق الآية فكأنه فعل تقديره: كتب الله عليكم.
وقال الكسائي: انتصب بـ "عليكم" على الإغراء وقدم المنصوب والجمهور على منع التقدير وقوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ } تأكيد لقوله: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} لأن هذا دين الله وقيل: منصوبة على الأمر.
وقوله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} منصوبة على المصدر بما دل عليه الكلام لأن الزلفى مصدر كالرجعى و"يقربونا" يدل على "يزلفونا" فتقديره: يزلفونا زلفى.
وقد يجيء التأكيد به مع حذف عاملة كقوله: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} والمعنى : فإما تمنوا منا وإما أن تفادوا فداء فهما مصدران منصوبان بفعل مضمر.
وجعل سيبويه من المصدر المؤكد لنفسه قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } لأنه إذا أحسن كل شيء فقد خلقه خلقا حسنا فيكون {خَلَقَهُ} على معنى خلقه خلقا والضمير هو الله تعالى ويجوز أن يكون بدل اشتمال أي أحسن خلق كل شيء.
قال الصفار: والذي قاله سيبويه أولى لأمرين: أن في هذا إضافة المصدر إلى المفعول وإضافته إلى الفاعل أكثر وأن المعنى الذي صار إليه أبلغ في الامتنان وذلك أنه إذا قال: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ} فهو أبلغ من قولك: "أحسن خلق كل شيء" لأنه قد يحسن الخلق وهو المحاولة ولا يكون الشيء في نفسه حسنا وإذا قال أحسن كل شيء اقتضى أن كل شيء خلقه حسن بمعنى أنه وضع كل شيء موضعه فهو أبلغ في الامتنان.
فائدتان:
الأولى : هل الأولى التأكيد بالمصدر أو الفعل قال بعضهم المصدر أولى لأنه اسم وهو أخف من الفعل وأيضا فلأن الفعل يحتمل الضمير فيكون جملة فيزداد ثقلا ويحتمل أن الفعل أولى لدلالته على الاستمرار الثانية: حيث أكد المصدر النوعي فالأصل فيه أن ينعت بالوصف المراد منه نحو: قمت قياما حسنا {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} وقوله: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً}
وقد يضاف الوصف إلى المصدر فيعطى حكم المصدر قال تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}
الثاني: الحال المؤكدة وهي الآتية على حال واحدة عكس المبينة فإنها لا تكون إلا منتقلة وهي لتأكيد الفعل كما سبق في المصدر المؤكد لنفسه وسميت مؤكدة لأنها نعلم قبل ذكرها فيكون ذكرها توكيدا لأنها معلومة من ذكر صاحبها.
كقوله تعالى: {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً}.
وقوله: {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}.
{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا} لأن معنى تبسم: ضحك مسرورا.
وقوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا}.
{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} وذكر الإعراض للدلالة على تناهي حالهم في الضلال ومثله: {أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} إذ معنى الإقرار أقرب من الشهادة ولأن الإعراض والشهادة حالان لهم عند التولي والإقرار.
وقوله: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ}.
وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} فإنه حال مؤكدة لقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} وبهذا يزول الإشكال في أن شرط الحال الانتقال ولا يمكن ذلك هنا فإنا نقول ذلك شرط في غير المؤكدة ولما لم يقف ابن جني على ذلك قدر محذوفا أي معتقدا خلودهم فيها لأن اعتقاد ذلك أمر ثابت عند غير المؤمنين فلهذا ساغ مجيئها غير منتقلة.
ومنهم من نازع في التأكيد في بعض ما سبق لأن الحال المؤكدة مفهومها مفهوم عاملها وليس كذلك التبسم والضحك فإنه قد يكون من غير ضحك بدليل قوله: "تبسم تبسم الغضبان"
وكذلك التولية والإدبار في قوله تعالى: {وَلَّى مُدْبِراً} {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} فإنهما بمعنيين مختلفين فالتولية أن يولي الشيء ظهره والإدبار أن يهرب منه فليس كل مول مدبرا ولا كل مدبر موليا ونظيره قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} فلو كان أصم مقبلا لم يسمع فإذا ولي ظهره كان أبعد له من السماع فإذا أدبر مع ذلك كان أشد لبعده عن السماع ومن الدليل على أن التولي لا يتضمن الإدبار قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فإنه بمعنى الإقبال.
وقوله: {وَلَمْ يُعَقِّبْ} إشارة إلى استمراره في الهروب وعدم رجوعه يقال: فلان ولى إذا رجع وكل راجع معقب وأهل التفسير يقولون: لم يقف ولم يلتفت وكذلك قوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} قيل: ليست بمؤكدة لأن الشيء المرسل قد لا يكون رسولا كما قال تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} وقوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً} جعلها كثير من المعربين مؤكدة لأن صفة الحق التصديق قيل ويحتمل أن يريدوا به تأكيد العامل وإن يريدوا به تأكيد ما تضمنته الجملة.
ودعوى التأكيد غير ظاهرة لأنه يلزم من كون الشيء حقا في نفسه أن يكون مصدقا لغيره والفرض أن القرآن العزيز فيه الأمران وهو كونه حقا وكونه مصدقا لغيره من الكتب فالظاهر أن {مُصَدِّقاً} حال مبينة لا مؤكدة ويكون العامل فيها الحق لكونه بمعنى الثابت وصاحب الحال الضمير الذي تحمله الحق لتأوله بالمشتق.
وقوله: {قَائِماً بِالْقِسْطِ} فـ "قائما" حال مؤكدة لأن الشاهد به لا إله إلا هو قائم بالقسط فهي لازمة مؤكدة وقد وقعت بعد الفعل والفاعل.
قال ابن أبي الربيع: ويجوز أن يكون حالا على جهة أخرى على معنى شهد الله أنه منفرد بالربوبية وقائم بالقسط فإنه سبحانه بالصفتين لم ينتقل عنهما فهو متصف بكل واحدة منهما في حال الاتصاف بالأخرى وهو سبحانه لم يزل بهما لأن صفاته ذاتية قديمة.
فائدة:
عن صاحب المفصل في وقوع الحال بعد الجملة الاسمية.
قال صاحب المفصل: لا تقع المؤكدة إلا بعد الجملة الاسمية وهو خلاف قول أبي علي أنها تكون بعد الجملتين محتجا بما سبق وكذا بقوله تعالى: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} وقوله تعالى: {وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} فمدبرين ومدبرا حال مؤكدة لفعل التولية
في أدوات التأكيد.

مؤكدات الجمل الاسمية:
الأول: التأكيد بـ "إن" قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} وقوله تعالى: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} وهي أقوى من التأكيد باللام كما قاله عبد القاهر في دلائل الإعجاز قال: وأكثر مواقع إن بحكم الاستقراء هو الجواب لكن بشرط أن يكون للسائل فيه ظن بخلاف ما أنت تجيبه به فأما أن تجعل مرد الجواب أصلا فيها فلا لأنه يؤدي إلى قولك: "صالح" في جواب: كيف زيد؟ حتى تقول: إنه صالح ولا قائل به بخلاف اللام فإنه لا يلحظ فيها غير أصل الجواب.
وقد يجيء مع التأكيد في تقدير سؤال السائل إذا تقدمها من الكلام ما يلوح نفسه للنفس كقوله تعالى: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} أمرهم بالتقوى ثم علل وجوبها مجيبا لسؤال مقدر بذكر الساعة واصفا لها بأهول وصف ليقرر عليه الوجوب.
وكذا قوله تعالى: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} أي: لا تدعني في شأنهم واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك لأنهم محكوم عليهم بالإغراق وقد جف به القلم فلا سبيل إلى كفه عنهم ومثله في النهي عن الدعاء لمن وجبت شقاوته قوله تعالى: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}.
ومنه قوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} فإن قوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} أورث للمخاطب حيرة كيف لا ينزه نفسه مع كونها مطمئنة زكية فأزال حيرته بقوله تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ} في جميع الأشخاص{بِالسُّوءِ} إلا المعصوم وكذا قوله تعالى: {وصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}.
واعلم أن كل جملة صدرت بإن مفيدة للتعليل وجواب سؤال مقدر فإن الفاء يصح أن تقوم فيها مقام إن مفيدة للتعليل حسن تجريدها عن كونها جوابا للسؤال المقدر كما سبق من الأمثلة.
وإن صدرت لإظهار فائدة الأولى لم يصح قيام الفاء مقامها كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} بعد قوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ}.
ومن فوائدها: تحسين ضمير الشأن معها إذا فسر بالجملة الشرطية مالا يحسن بدونها كقوله: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} {أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ} {إنه إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} وأما حسنه بدونها في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فلفوات الشرط.
الثاني: "أن" المفتوحة نحو: علمت أن زيدا قائم وهي حرف مؤكد كالمكسورة نص عليه النحاة واستشكله بعضهم قال: لأنك لو صرحت بالمصدر المنسبك منها لم يفد توكيدا ويقال التوكيد للمصدر المنحل لأن محلها مع ما بعدها المفرد وبهذا يفرق بينها وبين إن المكسورة فإن التأكيد في المكسورة للإسناد وهذه لأحد الطرفين.
الثالث: "كأن" وفيها التشبيه المؤكد إن كانت بسيطة وإن كانت مركبة من كاف التشبيه وأن فهي متضمنة لأن فيها ما سبق وزيادة.
قال الزمخشري: والفصل بينه وبين الأصل أي بين قولك: كأنه أسد وبين إنه كالأسد إنك مع كأن بانٍ على التشبيه من أول الأمر وثم بعد مضي صدره على الإثبات.
وقال الإمام في نهاية الإيجاز: اشترك الكاف وكأن في الدلالة على التشبيه وكأن أبلغ وبذلك جزم حازم في منهج البلغاء وقال: وهي إنما تستعمل حيث يقوى الشبه حتى يكاد الرائي يشك في أن المشبه هو المشبه به أو غيره ولذلك قالت بلقيس: {كَأَنَّهُ هُوَ}.
الرابع : "لكن" لتأكيد الجمل ذكره ابن عصفور والتنوخي في "الأقصى" وقيل: للتأكيد مع الاستدراك وقيل للاستدراك المجرد وهي أن يثبت لما بعدها حكم يخالف ما قبلها ومثلها "ليت" و"لعل" و"لعنَّ" في لغة بني تميم لأنهم يبدلون همزة أن المفتوحة عينا وممن ذكر أنها من المؤكدات التنوخي.
الخامس: لام الابتداء نحو: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} وهي تفيد تأكيد مضمون الجملة ولهذا زحلقوها في باب إن عن صدر الجملة كراهية ابتداء الكلام المؤكدين ولأنها تدل بجهة التأكيد وإن تدل بجهتين العمل والتأكيد والدال بجهتين مقدم على الدال بجهة كنظيره في الإرث وغيره وإذا جاءت مع إن كان بمنزلة تكرار الجملة ثلاث مرات لأن إن أفادت التكرير مرتين فإذا دخلت اللام صارت ثلاثا.
وعن الكسائي أن اللام لتوكيد الخبر وإن لتأكيد الاسم وفيه تجوز لأن لتأكيد إنما هو للنسبة لا للاسم والخبر.
السادس: الفصل وهو من مؤكدات الجملة وقد نص سيبويه على أنه يفيد التأكيد وقال: في قوله تعالى: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً} {أَنَا} وصف للياء في {تَرَنِ} يزيد تأكيدا وهذا صحيح لأن المضمر يؤكد الضمير وأما تأكيد المظهر بالمضمر فلم يعهد ولهذا سماه بعضهم دعامة لأنه يدعم به الكلام أي يقوى ولهذا قالوا لا يجاء مع التوكيد فلا يقال: زيد نفسه هو الفاضل ووافق على ذلك ابن الحاجب في شرح المفصل وخالف في أماليه فقال: ضمير الفصل ليس توكيدا لأنه لو كان فإما لفظيا أو معنويا لا جائز أن يكون لفظيا لأن اللفظي إعادة اللفظ الأول كزيد زيد أو معناه كقمت أنا والفصل ليس هو المسند إليه ولا معناه لأنه ليس مكنيا عن المسند إليه ولا مفسرا ولا جائز أن يكون معنويا لأن ألفاظه محصورة كالنفس والعين وهذا منه نفي للتوكيد الصناعي ولبس للكلام.
وفي البسيط للواحدي عند قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} قال سيبويه: دخل الفصل في قوله تعالى: {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً} وفي قوله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً} وفي قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ}.
وفي قوله تعالى: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} وذكر أن هذا بمنزلة "ما" في قوله تعالى: { فَبِمَا رَحْمَةٍ} انتهى.
السابع: ضمير البيان للمذكر والقصة للمؤنث ويقدمونه قبل الجملة نظرا لدلالته على تعظيم الأمر في نفسه والإطناب فيه ومن ثم قيل له الشأن والقصة وعادتهم إذا أرادوا ذكر جملة قد يقدمون قبلها ضميرا يكون كناية عن تلك الجملة وتكون الجملة خبرا عنه ومفسرة له ويفعلون ذلك في مواضع التفخيم والغرض منه أن يتطلع السامع إلى الكشف عنه وطلب تفسيره وحينئذ تورد الجملة المفسرة له وقد يكون لمجرد التعظيم كقوله تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا}.
وقد يفيد معه الانفراد نحو قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أي: المنفرد بالأحدية.
قال جماعة من النحاة: هو ضمير الشأن و"الله" مبتدأ ثان و"أحد" خبر المبتدأ الثاني والمبتدأ الثاني وخبره خبر الأول ولم يفتقر إلى عائد لأن الجملة تفسير له ولكونها مفسرة لم يجب تقديمها عليه وقيل هو كناية عن الله لأنهم سألوه أن يصف ربه فنزلت.
ومنه: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} ويجوز تأنيثه إذا كان في الكلام مؤنث كقوله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ} فالهاء في {فَإِنَّهَا} ضمير القصة و{ تَعْمَى الأَبْصَارُ} في موضع رفع خبر إن وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} بقراءة الياء و"أن يعلمه" مبتدأ وآية الخبر والهاء ضمير القصة وأنث لوجود آية في الكلام.
الثامن: تأكيد الضمير ويجب أن يؤكد المتصل بالمنفصل إذا عطف عليه كقوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} وقوله تعالى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ}.
وقيل: لا يجب التأكيد بل يشترط الفاصل بينهما بدليل قوله تعالى: {مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} فعطف {آبَاؤُنَا} على المضمر المرفوع وليس هنا تأكيد بل فاصل وهو "لا".
وهذا لا حجة فيه لأنها دخلت بعد واو العطف والذي يقوم مقام التأكيد إنما يأتي قبل واو العطف كالآيات المتقدمة بدليل قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ}.
ومنهم من لم يشترط فاصلا بدليل قوله: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ}فأكد السحر ضمير أنفسهم في الإلقاء دون ضمير موسى حيث لم يقولوا: إما أن تلقي أنت
وفيه دليل على أنهم أحبوا التقديم في الإلقاء لعلمهم بأنهم يأتون بسحر عظيم يقرر عظمته في أذهان الحاضرين فلا يرفعها ما يأتي بعدها على زعمهم وإنما ابتدءوا بموسى فعرضوا عليه البداءة بالإلقاء على عادة العلماء والصناع في تأدبهم مع قرنائهم ومن ثم قيل تأدبوا تهذبوا وأجيب بأنه إنما لم يؤكد في الآية لأنه استغنى عن التأكيد بالتصريح بالأولية في قوله: {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} وهذا جواب بياني لا نحوي.
فإن قيل: ما وجه هذا الإطناب وهلا قالوا إما أن تلقي وإما أن نلقي فالجواب من وجهين:
أحدهما: لفظي وهو المزاوجة لرءوس الآي على سياق خواتمها من أول السورة إلى آخرها
والثاني: معنوي وهو أنه سبحانه أراد أن يخبر عن قوة أنفس السحرة واستطالتهم عند أنفسهم على موسى فجاء عنهم باللفظ أتم وأوفى منه في إسنادهم الفعل إليه.
ذكر ذلك ابن جني في "خاطرياته" ثم أورد سؤالا وهو إنا نعلم أن السحرة لم يكونوا أهل لسان فيذهب بهم هذا المذهب من صيغة الكلام! وأجاب بأن جميع ما ورد في القرآن حكاية عن غير أهل اللسان من القرون الخالية إنما هو من معروف معانيهم وليست بحقيقة ألفاظهم ولهذا لا يشك في أن قوله تعالى: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} أن هذه الفصاحة لم تجر على لغة العجم.
التاسع: تصدير الجملة بضمير مبتدأ يفيد التأكيد ولهذا قيل بإفادة الحصر ذكره الزمخشري في مواضع من كشافه قال في قوله تعالى: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} معناه الحصر أي: لا يؤمن بالآخرة إلا هم.
وقال في قوله: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} أن معناه: لا ينشر إلا هم وأن المنكر عليهم ما يلزمهم حصر الألوهية فيهم ثم خالف هذه القاعدة لما خالف مذهبه الفاسد في قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} فقال: هم هنا بمنزلتها في قوله:

*هم يفرشون اللِّبد كل طِمِرَّةٍ*

في دلالته على قوة أمرهم فيما أسند إليهم لا على الاختصاص انتهى.
وبيانه أن مقتضى قاعدته في هذه الآية يدل على خروج المؤمنين الفساق من النار وليس هذا معتقده فعدل عن ذلك إلى التأويل للآية بفائدة تتم له فجعل الضمير المذكور يفيد تأكيد نسبة الخلود لهم لا اختصاصه بهم وهم عنده بهذه المثابة لأن عصاة المؤمنين وإن خلدوا في النار على زعمه إلا أن الكفار عنده أحق بالخلود وأدخل في استحقاقه من عصاة المؤمنين فتخيل في تخريج الآية على قاعدة مذهبه من غير خروج عن قاعدة أهل المعاني في اقتضاء تقديم الضمير الاختصاص والجواب عن هذا أن إفادة تقديم الضمير المبتدأ للاختصاص والحصر أقوى وأشهر عندهم من إفادة مجرد التمكن في الصفة وقد نص الجرجاني في دلائل الإعجاز على أن إفادة تقديم الفاعل على الفعل للاختصاص جليلة وأما إرادة تحقيق الأمر عند السامع أنهم بهذه الصفة وأنهم متمكنون منها فليست جليلة وإذا كان كذلك فلا يعدل عن المعنى الظاهر إلا بدليل وليس هنا ما يقتضي إخراج الكلام عن معناه الجلي كيف وقد صحت الأحاديث وتواترت على أن العصاة يخرجون من النار بشفاعة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشفاعة غيره حتى لا يبقى فيها موحد أبدا فهذه الآية فيها دليل لأهل السنة على انفراد الكفار بالخلود في النار واختصاصهم بذلك والسنة المتواترة موافقة ولا دليل للمخالف سوى قاعدة الحسن والقبيح العقليين وإلزامهم الله تعالى مما لا ينبغي لهم أن يلزموه من عدم العفو وتحقيق العقاب والخلود الأبدي للمؤمنين في النار نعوذ بالله من ذلك!

فائدة: مواضع إفادة الحصر.
لا تخص إفادة الحصر بتقديم الضمير المبتدأ بل هو كذلك إذا تقدم الفاعل أو المفعول أو الجار أو المجرور المتعلقات بالفعل ومن أمثلته قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} فإن الإيمان لما لم يكن منحصرا في الإيمان بالله بل لابد معه من رسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر وغيره مما يتوقف صحة الإيمان عليه بخلاف التوكل فإنه لا يكون إلا على الله وحده لتفرده بالقدرة والعلم القديمين الباقيين قدم الجار والمجرور فيه ليؤذن باختصاص التوكل من العبد على الله دون غيره لأن غيره لا يملك ضرا ولا نفعا فيتوكل عليه ولذلك قدم الظرف في قوله: {لا فِيهَا غَوْلٌ} ليفيد النفي عنها فقط واختصاصها بذلك بخلاف تأخيره في: {لا رَيْبَ فِيهِ} لأن نفي الريب لا يختص بالقرآن بل سائر الكتب المنزلة كذلك.
العاشر: منها "هاء" التنبيه في النداء نحو: {يَا أَيُّهَا} قال سيبويه: وأما الألف والهاء اللتان لحقتا "أياً" توكيدا فكأنك كررت يا مرتين إذا قلت يأيها وصار الاسم تنبيها.
هذا كلامه وهو حسن جدا وقد وقع عليه الزمخشري فقال: وكلمة التنبيه المقحمة بين الصفة وموصوفها لفائدة تبيين معاضدة حرف النداء ومكاتفته بتأكيد معناه ووقوعها عوضا مما يستحقه أي من الإضافة.
الحادي عشر: "يا" الموضوعة للبعيد إذا نودي بها القريب الفطن قال الزمخشري: إنه للتأكيد المؤذن بأن الخطاب الذي يتلوه معتنى به جدا.
الثاني عشر: الواو زعم الزمخشري أنها تدخل على الجملة الواقعة صفة لتأكيد ثبوت الصفة بالموصوف كما تدخل على الجملة الحالية كقوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} والصحيح أن الجملة الموصوف بها لا تقترن بالواو لأن الاستثناء المفرغ لا يقع في الصفات بل الجملة حال من "قرية" لكونها عامة بتقديم إلا عليها.
الثالث عشر: "إما" المكسورة كقوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} أصلها "إن" الشرطية زيدت "ما" تأكيدا وكلام الزجاج يقتضي أن سبب اللحاق نون التوكيد وقال الفارسي: الأمر بالعكس لمشابهة فعل الشرط بدخول ما للتأكيد بالفعل المقسم عليه من جهة أنها كالعدم في القسم لما فيها من التأكيد وجميع ما في القرآن من الشرط بعد إما توكيده بالنون قال أبو البقاء: وهو القياس لأن زيادة ما مؤذنة بإرادة شدة التوكيد واختلف النحاة أتلزم النون المؤكدة فعل الشرط عند وصل إما أم لا فقال المبرد والزجاج: يلزم ولا تحذف إلا ضرورة وقال سيبويه وغيره: لا تلزم فيجوز إثباتها وحذفها والإثبات أحسن ويجوز حذف "ما" وإثبات النون قال سيبويه: إن تثبت لم تقحم النون كما أنك إذا أثبت لم تجئ بما انتهى وجاء السماع بعدم النون بعد "إما" كقول الشاعر:
فإما تريني ولي لِمَّة
فإن الحوادث أَوْدَى بها
الرابع عشر: "أما" المفتوحة قال الزمخشري في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} إنها تفيد التأكيد.
الخامس عشر : "ألا" الاستفتاحية كما صرح به الزمخشري في قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} ويدل عليه قولهم: إنها للتحقيق أي: تحقيق الجملة بعدها وهذا معنى التأكيد قال الزمخشري: ولكونها بهذا المنصب من التحقيق لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم نحو: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
السادس عشر: "ما" النافية نحو: ما زيد قائما أو قائم على لغة تميم جعل سيبويه فيها معنى التوكيد لأنه جعلها في النفي جوابا لقد في الإثبات كما أن قد فيها معنى التوكيد فكذلك ما جعل جوابا لها ذكره ابن الحاجب في شرح المفصل.
السابع عشر: الباء في الخبر نحو ما زيد بمنطلق قال الزمخشري في كشافه: القديم هي عند البصريين لتأكيد النفي وقال الكوفيون: قولك: ما زيد بمنطلق جواب إن زيدا لمنطلق ما بإزاء إن والباء بإزاء اللام والمعنى راجع إلى أنها للتأكيد لأن اللام لتأكيد الإيجاب فإذا كانت بإزائها كانت لتأكيد النفي هذا كله في مؤكدات الجملة الاسمية.

مؤكدات الجملة الفعلية:
وأما مؤكدات الفعلية فأنواع:
أحدها: "قد" فإنها حرف تحقيق وهو معنى التأكيد وإليه أشار الزمخشري في قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ م} معناه: حصل له الهدى لا محالة.
وحكى الجوهري عن الخليل أنه لا يؤتى بها في شيء إلا إذا كان السامع متشوقا إلى سماعه كقولك لمن يتشوق سماع قدوم زيد قد قدم زيد فإن لم يكن لم يحسن المجيء بها بل تقول: قام زيد.
وقال بعض النحاة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} قد في الجملة الفعلية المجاب بها القسم مثل إن واللام في الاسمية المجاب بها في إفادة التأكيد.
وتدخل على الماضي نحو: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}.
والمضارع نحو: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ} {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} قال الزمخشري: دخلت قد لتوكيد العلم.
ويرجع ذلك لتوكيد الوعيد وبهذا يجاب عن قولهم إنما تفيد التعليل مع المضارع
وقال ابن أبان: تفيد مع المستقبل التعليل في وقوعه أو متعلقه فالأولى كقولك: زيد قد يفعل كذا وليس ذلك منه بالكثير والثاني كقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} المعنى -والله أعلم-: أقل معلوماته ما أنتم عليه.
ثانيا: السين التي للتنفيس قال سيبويه في قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} معنى السين: أن ذلك كائن لا محالة وإن تأخر إلى حين.
وجرى عليه الزمخشري فقال في قوله تعالى: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} السين تفيد وجود الرحمة لا محالة فهي تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد في قولك: "سأنتقم منك يوما" يعني: أنك لا تفوتني وإن تبطأت ونحوه: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} {سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} لكن قال: في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} معنى الجمع بين حرفي التأكيد والتأخير أن العطاء كائن لا محالة وإن تأخر.
وقد اعترض عليه بأن وجود الرحمة مستفاد من الفعل "لا" من السين وبأن الوجوب المشار إليه بقوله لا محالة لا إشعار للسين به.
وأجيب بوجهين:
أحدهما : أن السين موضوعه للدلالة على الوقوع مع التأخر فإذا كان المقام ليس مقام تأخير لكونه بشارة تمحضت لإفادة الوقوع وتحقيق الوقوع يصل إلى درجة الوجوب وفيه نظر لأن ذلك يستفاد من المقام لا من السين.
والثاني : أن السين يحصل بها ترتيب الفائدة لأنها تفيد أمرين الوعيد والإخبار بطرقة وأنه متراخ فهو كالإخبار بالشيء مرتين ولا شك أن الإخبار بالشيء وتعيين طرقه مؤذن بتحققه عند المخبر به.
ثالثها: النون الشديدة وهي بمنزلة ذكر الفعل ثلاث مرات وبالخفيفة فهي بمنزلة ذكره مرتين
قيل: وهذان النونان لتأكيد الفعل في مقابلة تأكيد الاسم بإن واللام ولم يقع في القرآن التأكيد بالخفيفة إلا في موضعين: {وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} وقوله تعالى: {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} ولما لم يتجاوز الثلاثة في تأكيد الأسماء فكذلك لم يتجاوزها في تأكيد الأفعال قال تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} لم يزد على ثلاثة مهل وأمهل ورويدا كلها بمعنى واحد وهن فعلان واسم فعل.
رابعا: "لن" لتأكيد النفي كإن في تأكيد الإثبات فتقول: لا أبرح فإذا أردت تأكيد النفي قلت: لن أبرح قال سيبويه: هي جواب لمن قال: سيفعل يعني والسين للتأكيد فجوابها كذلك وقال الزمخشري: لن تدل على استغراق النفي في الزمن المستقبل بخلاف "لا" وكذا قال في المفصل: "لن" لتأكيد ما تعطيه "لا" من نفي المستقبل وبنى على ذلك مذهب الاعتزال في قوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} قال: هو دليل عن نفي الرؤية في الدنيا والآخرة وهذا الاستدلال حكاه إمام الحرمين في الشامل عن المعتزلة ورد عليهم بقوله تعالى لليهود: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} ثم أخبر عن عامة الكفرة أنهم يتمنون الآخرة فيقولون: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} يعني: الموت.
ومنهم من قال: لا تنفي الأبد ولكن إلى وقت بخلاف قول المعتزلة وأن النفي بلا أطول من النفي بلن لأن آخرها ألف وهو حرف يطول فيه النفس فناسب طول المدة بخلاف "لن"
ولذلك قال تعالى: {لَنْ تَرَانِي} وهو مخصص بدار الدنيا.
وقال: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} وهو مستغرق لجميع أزمنة الدنيا والآخرة وعلل بأن الألفاظ تشاكل المعاني ولذلك اختصت لا بزيادة مدة.
وهذا ألطف من رأى المعتزلة ولهذا أشار ابن الزملكاني في التبيان بقوله: "لا" تنفي ما بعد و"لن" تنفي ما قرب وبحسب المذهبين أولوا الآيتين قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً}.
ووجه القول الثاني أن: {لا يَتَمَنَّوْنَهُ} جاء بعد الشرط في قوله تعالى: {إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} وحرف الشرط يعم كل الأزمنة فقوبل بلا ليعمم ما هو جواب له أي زعموا ذلك في وقت ما قيل لهم تمنوا الموت وأما {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} فجاء بعد قوله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً} أي: إن كانت لكم الدار الآخرة فتمنوا الموت الآن استعجالا للسكون في دار الكرامة التي أعدها الله لأوليائه وأحبائه وعلى وفق هذا القول جاء قوله: {لَنْ تَرَانِي}.
قلت: والحق أن "لا" و"لن" لمجرد النفي عن الأفعال المستقبلة والتأبيد وعدمه يؤخذان من دليل خارج ومن احتج على التأبيد بقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} وبقوله: {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً} عورض بقوله: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} ولو كانت للتأبيد لم يقيد منفيها باليوم وبقوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} ولو كانت لتأبيد لكان ذكر الأبد تكريرا والأصل عدمه وبقوله: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} لا يقال: هي مقيدة فلم تفد التأبيد والكلام عند الإطلاق لأن الخصم يدعي أنها موضوعة لذلك فلم تستعمل في غيره وقد استعملت "لا" للاستغراق الأبدي في قوله تعالى: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا } وقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} { وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} وقوله: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} وغيره مما هو للتأبيد وقد استعملت فيه "لا" دون "لن" فهذا يدل على أنها لمجرد النفي والتأبيد يستفاد من دليل آخر.
القسم الثاني: الصفة.
وهي مخصصة إن وقعت صفة للنكرة وموضحة للمعرفة.
الأسباب التي تأتي الصفة من أجلها.
وتأتي لأسباب:
أحدها: لمجرد المدح والثناء ومنه صفات الله تعالى كقوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فليس ذكر الوصف هنا للتمييز لأنه ليس له مثل -تعالى الله عن ذلك- حتى يوضح بالصفة وأخذ أبو الطيب هذا المعنى فذكر أسامي بعض ممدوحه ثم قال:

أساميا لم تزده معرفة
وإنما لذة ذكرناها

فقوله: لم تزده بيان أنها للإطناب والثناء لا للتعريف والتبيين.
وقيل: إن الصفات الجارية على القديم سبحانه المراد بها التعريف فإن تلك الصفات حاصلة له لا لمجرد الثناء ولو كانت للثناء لكان الاختيار قطعها ومنه قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} فهذا الوصف للمدح ليس غير لأنه ليس يمكن أن يكون ثمة نبيون غير مسلمين كذا قاله الزمخشري قال: وأريد بها التعريض باليهود وأنهم بعداء من ملة اإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث وأن اليهود بمعزل عنها.
والتحقيق أن هذه الصفة للتمييز وقد أطلق الله وصف اإسلام على الأنبياء وأتباعهم والأصل في المدح التمييز بين الممدوح وغيره بالأوصاف الخاصة والإسلام وصف عام فوصفهم بالإسلام إما باعتبار الثناء عليه أو الثناء عليهم بعد النبوة تعظيما وتشريفا له أو باعتبار أنهم بلغوا من هذا الوصف غايته لأن معنى ذلك يرجع إلى معنى الاستسلام والطاعة الراجعين إلى تحقيق معنى العبودية التي هي أشرف أوصاف العباد فكذلك يوصفون بها في أشرف حالاتهم وأكمل أوقاتهم وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} أي: مستسلمين لأمرك لقضائك وكذا قول يوسف: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً} وكذلك قوله: {النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } تنويه بقدر الإسلام وتنبيه على عظم أمره فإن الصفة تعظم بعظم موصوفها كما وصفت الملائكة المقربون بالإيمان في قوله: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} تنويها بقدر الإيمان وحضا للبشر على التحلي به ليكونوا كالمقربين في وصف الإيمان حتى قيل أوصاف الأشراف أشرف الأوصاف.
الثاني: لزيادة البيان كذا قاله ابن مالك ومثله بقوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ} وليس ما قاله بواضح فإن رسول الله كما يستعمل في نبينا صلوات الله وسلامه عليه يستعمل في غيره بطريق الوضع وتعريفه إنما حصل بالإضافة.
فإن قال: قد كثر استعماله في نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى إنه لم يبق الذهن يتبادر إلا إليه!
قلنا: ليس هذا من وضعه بل ذلك من الاستعمال وقد استعمل في غيره قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} وفي موضع آخر: {رُسُلُ اللَّهِ} وفي حق عيسى: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ} وفي حق موسى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً}.
ثم إن الصفة إنما تكون مثل الموصوف أو دونه في التعريف وأما أن تكون فوقه فلا لأنها على كل حال تابعة والتابع دون المتبوع.
فإن: قيل كيف يصح أن يزال إبهام الشيء بما هو أبهم منه؟
فالجواب أن التعريف لم يقع بمجرد الصفة وإنما حصل بمجموع الصفة والموصوف لأنهما كالشيء الواحد.
الثالث: لتعيينه للجنسية كقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} لأن المعنى بدابة والذي سيق له الكلام الجنسية لا الإفراد بدليل قوله تعالى: {إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} فجمع {أُمَمٌ} محقق إرادة الجنس من الوصف اللازم للجنس المذكور وهو كون الدابة غير منفكة عن كونها في الأرض وكون الطائر غير منفك كونه طائرا بجناحيه لينتفي توهم الفردية هذا معنى ما أشار إليه السكاكي في المفتاح.
وحمل بعضهم كلامه على أنه إنما ذكر الوصف ليعلم أن المراد ليس دابة مخصوصة وهو بعيد لأن ذلك معلوم قطعا بدون الوصف لأن النكرة المنفية -لاسيما مع "من" الاستغراقية- قطعية
وقال الزمخشري إن معنى زيادة: {فِي الأَرْضِ} و{ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} يفيد زيادة التعميم. والإحاطة حتى كأنه قيل: وما من دابة من جميع ما في الأرض وما من طائر في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم محفوظة أحوالها غير مهمل أمرها.
ويحتمل أن يقال: إن الطيران لما كان يوصف به من يعقل كالجان والملائكة فلولم يقل: {بِجَنَاحَيْهِ} لتوهم الاقتصار على حبسها ممن يعقل فقيل: {بِجَنَاحَيْهِ} ليفيد إرادة هذا الطير المعتقد فيه عدم المعقولية بعينه.
وقيل: إن الطيران يستعمل لغة في الخفة وشدة الإسراع في المشي كقول الحماسي:

*طاروا إليه زُرَافاتٍ ووُحْدانا*

فقوله: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} رافع لاحتمال هذا المعنى.
وقيل لو اقتصر على ذكر الطائر فقال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ} لكان ظاهر العطف يوهم ولا طائر في الأرض لأن المعطوف عليه إذا قيد بظرف أو حال يقيد به.
المعطوف وكان ذلك يوهم اختصاصه بطير الأرض الذي لا يطير بجناحيه كالدجاج والأوز والبط ونحوها فلما قال: { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } زال هذا الوهم وعلم أنه ليس بطائر مقيد إنما تقيدت به الدابة.
وأما قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} مع أن المعلوم أن الفساد لا يقع إلا في الأرض قيل في ذكرها تنبيه على أن المحل الذي فيه شأنكم وتصرفكم ومنه مادة حياتكم -وهي سترة أموالكم- جدير ألا يفسد فيه إذا محل الإصلاح لا ينبغي أن يجعل محل الإفساد
وهذا بخلاف قوله تعالى في سورة براءة: {وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} لأن المراد نفي النصير عنهم في جميع الأرض فلو لم يذكر لاحتمل أن يكون ذلك خاصا ببعضها
وأما قوله تعالى: {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} وقوله تعالى: {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} ونحوها من المقيد -إذ القول لا يكون إلا بالفم والأكل إنما يكون في البطن- ففوائده مختلفة.
فقيل: {بِأَفْوَاهِهِمْ} للتنبيه على أنه قول لا دليل عليه بل ليس فيه إلا مجرد اللسان أي لا يعضده حجة ولا برهان وإنما هو لفظ فارغ من معنى تحته كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم لا تدل على شيء مؤثر لأن القول الدال على معنى قول بالفم ومؤثر في القلب وما لا معنى له مقول بالفم لا غير أو المراد بالقول المذهب أي هو مذهبهم بأفواههم لا بقلوبهم لأنه لا حجة عليه توجب اعتقاده بالقلب.
وقيل: إنه رافع لتوهم إرادة حديث النفس كما في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ}.
وقيل: لأن القول يطلق على الاعتقاد فأفاد: {بِأَفْوَاهِهِمْ} التنصيص على أنه باللسان دون القلب ولو لم يقيد لم يستفد هذا المعنى ويشهد له: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ} الآية فلم يكذب ألسنتهم بل كذب ما انطوى عن ضمائرهم من خلافه.
وإنما قال: {فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} لأنه يقال: أكل في بطنه إذا أمعن وفي بعض بطنه إذا اقتصر قال:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا
فإن زمانكم زمن خميص

فكأنه قيل: يأكلون ما يجر -إذا امتلأت بطونهم- نارا.
وإنما قال: {الَّتِي فِي الصُّدُورِ} فإنه سبحانه لما دعاهم إلى التفكير والتعقل وسماع أخبار من مضى من الأمم وكيف أهلكهم بتكذيبهم رسله ومخالفتهم لهم قال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا}.
قال ابن قتيبة: وهل شيء أبلغ في العظمة والعزة من هذه الآية لأن الله تعالى أراد: أفلم يسيروا في الأرض فينظروا إلى آثار قوم أهلكهم الله بالكفر والعتو فيروا بيوتا خاوية قد سقطت على عروشها وبئرا يشرب أهلها فيها قد عطلت وقصرا بناه ملكه بالشيد خلا من السكن وتداعى بالخراب فيتعظوا بذلك ويخافوا من عقوبة الله مثل الذي نزل بهم!
ثم ذكر تعالى أن أبصارهم الظاهرة لم تعم عن النظر والرؤية وإن عميت قلوبهم التي في صدورهم.
وقيل: لما كانت العين قد يعنى بها القلب في نحو قوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} جاز أن يعنى بالقلب العين فقيد القلوب بذكر محلها رفعا لتوهم إرادة غيرها
وقيل: ذكر محل العمى الحقيقي الذي هو أولى باسم العمى من عمى البصر كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" أي: هذا أولى بأن يكون شديدا منه فعمى القلب هو الحقيقي لا عمى البصر فأعمى القلب أولى أن يكون أعمى من أعمى العين فنبه بقوله: {الَّتِي فِي الصُّدُورِ} على أن العمى الباطن في العضو الذي عليه الصدر لا العمى الظاهر في العين التي محلها الوجه.

فوائد تتعلق بالصفة:
الأولى: الصفة العامة لا تأتي بعد الصفة الخاصة.
اعلم أن الصفة العامة لا تأتي بعد الصفة الخاصة لا تقول: هذا رجل فصيح متكلم لأن المتكلم أعم من الفصيح إذ كل فصيح متكلم ولا عكس.
وإذا تقرر هذا أشكل قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} إذ لا يجوز أن يكون {نَبِيّاً} صفة لـ "رسول" لأن النبي أعم من الرسول إذ كل رسول من الآدميين نبي ولا عكس.
والجواب أن يقال: إنه حال من الضمير في {رَسُولاً} والعامل في الحال ما في رسول من معنى يرسل أي كان إسماعيل مرسلا في حال نبوته وهي حال مؤكدة كقوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً}.
الثانية: تأتي الصفة لازمة لا للتقييد.
كقوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} قال الزمخشري: هو كقوله: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} وهي صفة لازمة نحو قوله: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} جيء بها للتوكيد لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان ويجوز أن يكون اعتراضا بين الشرط والجزاء كقولك من أحسن إلى زيد: لا أحق بالإحسان منه فالله مثيبه.
وقال الماتريدي: هذا لبيان خاصة الإشراك بالله إلا تقوم على صحته حجة لا بيان أنه نوعان كما في قوله: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} هو بيان خاصة الطيران لا أنه نوعان.
وقوله: {سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ} والسفه لا يكون إلا عن جهل وقيل: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} بمقدار قبحه وقوله: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ولا يكون قتلهم إلا كذلك لأن معناه بغير الحق في اعتقادهم لأن التصريح بصفة فعلهم القبيح أبلغ في ذمهم وإن كانت تلك الصفة لازمة للفعل كما في عكسه: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} لزيادة معنى في التصريح بالصفة.
وقال بعضهم: ولأن قتل النبي قد يكون بحق كقتل إبراهيم عليه السلام ولده ولو وجد لكان بحق وقال الزمخشري: إنما قيده لأنهم لم يقتلوا ولم يفسدوا في الأرض وإلا استوجبوا القتل بسبب كونه شبهة.
وإنما نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم ولو أنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجها يوجب عندهم القتل.
وكقوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} مع أن ذلك منهي عنه في غير الحج أيضا لكن خصص بالذكر هنا لتأكيد الأمر وخطره في الحج وأنه لو قدر جواز مثل ذلك في غير الحج لم يجز في الحج كيف وهو لا يجوز مطلقا.
وقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ولم يذكر مثل ذلك في قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} لأن الرياء يقع في الحج كثيرا فاعتنى فيه بالأمر بالإخلاص.
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} واتباع الهوى لا يكون إلا كذلك وقيل بل يكون الهوى في الحق فلا يكون من هذا النوع.
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فإن حكمه تعالى حسن لمن يوقن ولمن لا يوقن لكن لما كان القصد ظهور حسنه والاطلاع عليه وصفه بذلك لأن المؤمن هو الذي يطلع على ذلك دون الجاهل.
وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} والكتابة لا تكون إلا باليد ففائدته مباشرتهم ذلك التحريف بأنفسهم وذلك زيادة في تقبيح فعلهم فإنه يقال كتب فلان كذا وإن لم يباشره بل أمر به كما في قول علي: "كتب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية".
الثالثة: قد تأتي الصفة بلفظ والمراد غيره.
كقوله تعالى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} قيل: المراد سوداء ناصع وقيل: بل على بابها.
ومنه قوله تعالى: {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} قيل: كأنه أينق سود وسمي الأسود من الإبل أصفر لأنه سواد تعلوه صفرة.
الرابعة: قد تجيء للتنبيه على التعميم.
كقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} مع أن المعلوم إنما يؤكل إذا أثمر.
فقيل: فائدته نفي توهم توقف الإباحة على الإدراك والنضج بدلالته على الإباحه من أول إخراج الثمرة.
وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}.
وقوله: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} فإن غير مال اليتيم كذلك لكن إنما خصه بالذكر لأن الطمع فيه أكثر لعجزه وقلة الناصر له بخلاف مال البالغ أو لأن التخصيص بمجموع الحكمين وهما النهي عن قربانه بغير الأحسن.
وقوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} مع أن الفعل كذلك وقصد به ليعلم وجوب العدل في الفعل من باب أولى كقوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}.
الخامسة: قد يحتمل اللفظ كثيرا من الأسباب السابقة.
وله أمثله منها قوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فإن ابن مالك وغيره من النحويين جعلوه نعتا قصد به مجرد التأكيد.
ولقائل أن يقول: إن إلهين مثنى والاثنان للتثنية فما فائدة الصفة؟ وفيه وجوه:
أحدهما: قاله ابن الخباز: إن فائدتها توكيد نهي الإشراك بالله سبحانه وذلك لأن العبرة في النهي عن اتخاذ الإلهين إنما هو لمحض كونهما اثنين فقط ولو وصف إلهين بغير ذلك من الصفات كقوله لا تتخذوا إلهين عاجزين لأشعر بأن القادرين يجوز أن يتخذا فمعنى التثنية شامل لجميع الصفات فسبحان من دقت حكمته في كل شيء!
ونظير هذا ما قال الأخفش في قوله: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ}.
الثاني: أن الوحدة تطلق ويراد بها النوعية ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما نحن وبنو عبد المطلب شيء واحد" وتطلق ويراد بها العدد نحو: "إنما زيد رجل واحد" فالتثنية باعتبارها فلو قيل: {لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ} فقط لصح في موضوعه أن يكون نهيا عن اتخاذ جنسين آلهة وجاز أن يتخذ من نوع واحد أعداد آلهة لأنه يطلق عليهم أنهم واحد لاسيما وقد يتخيل أن الجنس الواحد لا تتضاد مطلوباته فيصح فلما قال: {اثْنَيْنِ} بين فيه قبح التعديد للإله وأنه منزه عن العددية وقد أومأ إليه الزمخشري بقوله: ألا ترى إنك لو قلت: إنما هو إله ولم تصفه بواحد لم يحسن وقيل لك إنك نفيت الإلهية لا الوحدانية الثالث: أنه لما كان النهي واقعا على التعدد والاثنينية دون الواحد أتى بلفظ الاثنين لأن قولك: لا تتخذ ثوبين يحتمل النهي عنهما جميعا ويحتمل النهي عن الاقتصار عليهما فإذا قلت: ثوبين اثنين علم المخاطب أنك نهيته عن التعدد والاثنينية دون الواحد وأنك إنما أردت منه الاقتصار على ثوب واحد فتوجه النفي إلى نفس التعدد والعدد.
فأتى باللفظ الموضوع له الدال عليه فكأنه قال: لا تعدد الآلهة ولا تتخذ عددا تعبده إنما هو إله واحد.
الرابع: أن "اتخذ" هي التي تتعدى إلى مفعولين ويكون: {اثْنَيْنِ} مفعولها الأول و{إِلَهَيْنِ} مفعولها الثاني وأصل الكلام لا تتخذوا اثنين إلهين ثم قدم المفعول الثاني على الأول ويدل على التقديم والتأخير أن إلهين أخص من اثنين واتخاذ اثنين يقع على ما يجوز وعلى مالا يجوز وأما اتخاذ اثنين إلهين فلا يقع إلا على ما يجوز وقدم إلهين على اثنين إذ المقصود بالنهي اتخاذهما إلهين فالنهي وقع على معنيين الآلهة المتخذة وعلى هذا فلا بد من ذكر الاثنين والإلهين إذ هما مفعولا الاتخاذ.
قال صاحب البسيط: وهذا الوجه هو الجيد ليخرج بذلك على التأكيد وأما إذا جعل إلهين مفعول تتخذوا واثنين صفة فإنه أيضا لا يخرج عن الوصف إلى التأكيد لأنه لا يستفاد من اثنين ما استفيد من إلهين لأن الأول يدل على العدد والجنس والثاني على مجرد الاثنينية
قال: وهذا الحكم في قوله تعالى: {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} في دخول اثنين في حد الوصف إلا إن من قرأ بتنوين كلٍ فإنه حذف المضاف إليه وجعل التنوين عوضا عنه و{زَوْجَيْنِ} مفعول "احمل" أو "فاسلك" و"اثنين" نعت ومن يحتمل أنه متعلق بفعل الأمر ويحتمل أن يتعلق بمحذوف لكونه حالا من نكرة تقدم عليها والتقدير: احمل أو اسلك فيها زوجين اثنين من كل صنف ومن قرأ بإضافة كل احتمل وجهين:
أحدهما: أن تجعل اثنين المفعول والجار والمجرور متعلق فعل الأمر المحذوف كما تقدم.
والثاني: جعل من زائدة على رأي الأخفش وكل هي المفعول واثنين صفة.
الخامس: أنه بدل وينوي بالأول الطرح واختاره النيلي في شرح الحاجبية قال لما فيه من حسم مادة التأويل ونظير السؤال في الآية قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} فإن مروان بن سعد المهلبي سأل أبا الحسن الأخفش فقال: ما الفائدة في هذا الخبر؟ أراد مروان أن لفظ كانتا تفيد التثنية فما فائدة تفسيره الضمير المسمى باثنتين مع أنه لا يجوز فإن كانتا ثلاثا ولا فوق ذلك فلم يفصل الخبر الاسم في شيء ؟ فأجاب أبو الحسن بأنه أفاد العدد المحض مجردا عن الصفة أي قد كان يجوز أن يقال: فإن كانتا صغيرتين فلهما كذا أو كبيرتين فلهما كذا أو صالحتين أو غير ذلك من الصفات فلما قال: {اثْنَتَيْنِ} أفهم أن فرض الثلثين للأختين تعلق بمجرد كونهما اثنتين فقط على أي صفة وهي فائدة لا تحصل من ضمير المثنى ومعناه أنهم كانوا في الجاهلية يورثون البنين دون البنات وكانوا يقولون لا نورث إلا من يحمل الكل وينكئ العدو فلما جاء الإسلام بتوريث البنات أعلمت الآية أن العبرة في أخذ الثلثين من الميراث منوط بوجود اثنتين من الأخوات من غير اعتبار أمر زائد على العدد.
قال الحريري: ولعمري لقد أبدع مروان في استنباطه وسؤاله وأحسن أبو الحسن في كشف إشكاله! ولقد نقل ابن الحاجب في أماليه هذا الجواب عن أبي علي الفارسي- وقد بينا
أنه من كلام الأخفش- ثم اعترض عليه بأن اللفظ وإن كان صالحا لإطلاقه على المثنى مجردا عن الصفات لا يصح إطلاقه خبرا دالا على التجريد من الصفات وإنما يعنى باللفظ ذاته الموضوعة له ألا ترى أنك إذا قلت: جاءني رجل لا يفهم إلا ذات من غير أن يدل على تجريد عن مرض أو جنون أو عقل فكذلك اثنتين لا تدل إلا على مسمى اثنتين فقط فلم يستفد منه شيء زائد على المستفاد من ضمير التثنية ثم لو سلم صحة إطلاق اللفظ كذلك فلا يصح هاهنا إذ لو صح لجاز أن يقال: فإن كانتا على أي صفة حصل ولو قيل ذلك لم يصح لأن تثنية الضمير في كانتا عائد على الكلالة والكلالة تكون واحدا واثنين وجماعة فإذا أخبر باثنتين حصلت به فائدة.
ثم لما كان الضمير الذي في كانتا العائد على الكلالة هو في معنى اثنين صح أن تثنية لأن تثنيته فرع عن الإخبار باثنين إذ لولاه لم يصح أنه لم تستفد التثنية إلا من اثنين.
وقد أورد على ذلك اعتراض آخر وهو أن هذه الآية مماثلة لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} ثم قال: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً} {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً} ولو كان على ما ذكرتم لوجب أن يصح إطلاق الأولاد على الواحد كما في الكلالة وإلا لكان الضمير لغير مذكور
والجواب بشيء يشمل الجميع وهو أن الضمير قد يعود على الشيء باعتبار المعنى الذي سيق إليه ونسب إلى صاحبه فإذا قلت إذا جاءك رجال فإن كان واحدا فافعل به كذا وإن كان اثنين فكذا صح إعادة الضمير باعتبار المعنيين لأن المقصود الجائي وكأنك قلت: وإن كان الجائي من الرجال لأنه علم من قولك: إذا جاءك والآية سيقت لبيان الوارثين الأولاد فكأنه قيل: فإن كان الوارث من الأولاد لأنه المعنى الذي سيق له الكلام فقد دخلت الاثنان باعتبار هذا المعنى.
ويجوز أن تبقى الآية الأولى على ما ذكرنا ويختص هذا الجواب بهذه.
قلت: وفي هذه الآية ثلاثة أجوبة أخر:
أحدها: أنه كلام محمول على المعنى أي فإن كان من ترك اثنتين وهذا مفيد فأضمره على ما بعد و"مَن" يسوغ معها ذكر الاثنين لأنه لفظ مفرد يعبر به عن الواحد والاثنين والجمع فإذا وقع الضمير موقع "مَن" جرى مجراها في جواز الإخبار عنها بالاثنين.
الثاني: أن يكون من الأشياء التي جاءت على أصولها المرفوضة كقوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} وذلك أن حكم الأعداد فيما دون العشرة أن تضاف إلى المعدود كثلاثة رجال وأربعة أبواب فكان القياس أن يقول اثنين رجل وواحد رجل ولكنهم رفضوا ذلك لأنك تجد لفظة تجمع العدد والمعدود فتغنيك عن إضافة أحدهما إلى الآخر وهو قولك: رجلان ورجل وليس كذلك ما فوق الاثنتين ألا ترى أنك إذا قلت: ثلاثة لم يعلم المعدود ما هو؟ وإذا قلت: رجال لم يعلم عددهم ما هو فأنت مضطر إلى ذكر العدد والمعدود فلذلك قيل: كان الرجال ثلاثة ولم يقل: كان الرجلان اثنتين ولا الرجلان كانا اثنين فإذا استعمل شيء من ذلك كان استعمالا للشيء المرفوض كقوله:
*ظرف عجوز فيه ثِنْتَا حَنْظَلِ*
فإن قيل: كيف يحمل القرآن عليه وإنما هو في الشعر؟
قيل: إنا وجدنا في القرآن أشياء جاءت على الأصول المرفوضة كاستحوذ ونظائرها.
الثالث: أن المراد فإن كانتا اثنتين فصاعدا فعبر بالأدنى عنه وعما فوقه قاله ابن الضائع النحوي
قلت: ونظائرها قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} فإن الرجولية المثناة فهمت من الضمير بدليل: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} فالظاهر أن قوله: {رَجُلَيْنِ} حال لا خبر فكأن المعنى: فإن لم يوجدا حال كونهما رجلين.
ومثله قوله تعالى: {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} فإن الأنوثة فهمت من قوله: {وَضَعْتُهَا}.
وأورد بعضهم السؤال في الأول فقال: الضمير في {يَكُونَا} للرجلين لأن "الشهيدين" قيدا بأنهما من الرجال فكأن الكلام: فإن لم يكن الرجلان رجلين وهذا محال.
وأجاب بعضهم بما أجاب به الأخفش في آية المواريث: إن الخبر هنا أفاد العدد المجرد عن الصفة وهذا ضعيف إذ وضع فيه "الرجلين" موضع الاثنين وهو تجوز بعيد والذي ذكره الفارسي المجرد منهما الرجولية أو الأنوثية أو غيرها من الصفات فكيف يكون لفظ موضوع لصفة ما دالا على نفيها!
على أن في جواب الفارسي هناك نظرا فإنه لم يرد على أن جعل نفس السؤال جوابا كأنه قيل لم ذكر العدد وهو متضمن للضمير فقال لأنه يفيد العدد المجرد فلم يزد الألفاظ تجردا
قال: وأما من أجاب بأن {رَجُلَيْنِ} منصوب على الحال المبينة وكان تامة فهو أظرف من الأول فإنه سئل عن وجه النظم وأسلوب البلاغة ونفي مالا يليق بها من الحشو فأجاب بالإعراب ولم يجب عن السؤال بشيء والذي يرد عليه وهو خبر يرد عليه وهو حال وما زادنا إلا التكلف في جعله حالا والذي يظهر في جواب السؤال هو أن {شَهِيدَيْنِ} لما صح أن يطلق على المرأتين بمعنى شخصين شهيدين قيده بقوله تعالى: {مِنْ رِجَالِكُمْ} ثم أعاد الضمير في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا} على الشهيدين المطلقين وكان عوده عليهما أبلغ ليكون نفي الصفة عنهما كما كان إثباتها لهما فيكون الشرط موجبا ونفيا على الشاهدين المطلقين لأن قوله: {مِنْ رِجَالِكُمْ} كالشرط كأنه قال: إن كانا رجلين وفي النظم على هذا الأسلوب من الارتباط وجرى الكلام على نسق واحد مالا خفاء به وأما في آية المواريث فالظاهر أن الضمير وضع موضع الظاهر اختصارا لبيان المعنى بدليل أنه لم يتقدمه ما يدل عليه لفظا فكأنه قال: فإن كان الوارث اثنين ثم وضع ضمير الاثنين موضع الوارث الذي هو جنس لما كان المراد به منه الاثنان وأيضا فإن الإخبار عن الوارث -وإن كان جمعا- باثنين ففيه تفاوت ما لكونه مفرد اللفظ فكان الأليق بحسن النظم وضع المضمر موضع الظاهر ثم يجري الخبر على من حدث عنه -وهو الوارث- فيجري الكلام في طريقه مع الإيجاز في وضع المضمر الظاهر والسلامة من تفاوت اللفظ في الإخبار عن لفظ مفرد بمثنى ونظير هذا مما وقع فيه اسم موضع غيره إيجازا ثم جرى الكلام مجراه في الحديث عمن هو له وإن لم يذكر قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} فعاد هذا الضمير والخبر على أهل القرية الذين أقيمت القرية في الذكر مقامهم فجرى الكلام مجراه مع حصول الإيجاز في وضع القرية موضع أهلها وفهم المعنى بغير كلفة وهذه الغاية في البيان يقصد عن مداها الإنسان.
ومنها قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} قال ابن عمرون: لما فهم منها التأكيد ظن بعضهم أنها ليست بصفة وليس بجيد لأنها دلالة على بعض أحوال الذات وليس في {وَاحِدَةٌ} دلالة على نفخ فدل على أنها ليست تأكيدا.
وفي فائدة {وَاحِدَةٌ} خمسة أقوال:
أحدها: التوكيد مثل قولهم: "أمس الدابر".
الثاني: وصفها ليصح أن تقوم مقام الفاعل لأنها مصدر والمصدر لا يقوم مقام الفاعل إلا إذا وصف ورد بأن تحديدها بتاء التأنيث مصحح لقيامها مقام الفاعل.
الثالث: أن الوحدة لم تعلم من نفخة إلا ضمنا وتبعا لأن قولك نفخة يفهم منه أمران النفخ والوحدة فليست نفخة موضوعة للوحدة فلذلك صح وصفها.
الرابع: وصفه النفخة بواحدة لأجل نفي توهم الكثرة كقوله تعالى: {إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} فالنعمة في اللفظ واحدة وقد علق عدم الإحصاء بعدها.
الخامس: أتى بالوحدة ليدل على أن النفخة لا اختلاف في حقيقتها فهي واحدة بالنوع كقوله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ} أي: لا اختلاف في حقيقته.
ومنها قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} قيل: ما فائدة {إِلَهَ} وهلا جاء وإلهكم واحد وهو أوجز قيل: لو قال: وإلهكم واحد لكان ظاهره إخبارا عن كونه واحدا في إلهيته يعني لا إله غيره ولم يكن إخبارا عن توحده في ذاته بخلاف ما إذا كرر ذكر الإله والآية إنما سيقت لإثبات أحديته في ذاته ونفي ما يقوله النصارى أنه إله واحد والأقانيم ثلاثة أي الأصول كما أن زيدا واحدا وأعضاؤه متعددة فلما قال: {إِلَهٌ وَاحِدٌ} دل على أحدية الذات والصفة
ولقائل أن يقول: قوله: {وَاحِدٌ} يحتمل الأحدية في الذات والأحدية في الصفات سواء ذكر الإله أولا فلا يتم الجواب.
ومنها قوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} ومعلوم بقوله: {الثَّالِثَةَ} أنها {الأُخْرَى} وفائدته التأكيد ومثله على رأي الفارسي: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى}.
وأما قوله: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} قيل: بمعنى "عن" أي: خر عن كفرهم بالله كما تقول: اشتكى فلان عن دواء شربه أي من أجل كفرهم أو بمعنى اللام أي فخر لهم وقيل لأن العرب لا تستعمل لفظة "على" في مثل هذا الموضع إلا في الشر والأمر المكروه تقول خربت على فلان ضيعته كقوله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وقيل: لأنه يقال: سقط عليه موضع كذا إذا كان يملكه وإن لم يكن من فوقه بل تحته فدل قوله تعالى: {مِنْ فَوْقِهِمْ} على الفوقية الحقيقية وما أحسن هذه المقابلة بالفوقية بما تقدم من قوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} كما تقول: أخذ برجله فسقط على رأسه.
السادسة: إذا اجتمع مختلفان في الصراحة والتأويل.
إذا اجتمع مختلفان في الصراحة والتأويل قدم الاسم المفرد ثم الظرف أو عديله ثم الجملة كقوله تعالى: {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ} فقوله: {وَجِيهاً} حال وكذلك {مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} وقوله: {يُكَلِّمُ} وقوله {مِنَ الصَّالِحِينَ} فهذه أربعة أحوال انتصبت عن قوله "كلمة" والحال الأولى جيء بها على الأصل اسما صريحا والثانية في تأويله جار ومجرور وجيء بها هكذا لوقوعها فاصلة في الكلام ولو جيء بها اسما صريحا لناسبت الفواصل والثالثة جملة فعلية والرابعة جار ومجرور.
ومنه قوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا} ولما كان الظرف فيه شبه من المفرد وشبه من الجملة جعل بينهما
وقد أوجب ابن عصفور وليس كما قال فقد قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ولا يقال: إن {أَذِلَّةٍ} بدل لأنه مشتق والبدل إنما يكون في الجوامد كما نص عليه هو وغيره.
وأما قوله تعالى : {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} فقيل: إنه من تقديم الجملة على المفرد ويحتمل أن يكون {مُبَارَكٌ} خبرا لمحذوف فلا يكون من هذا الباب.
السابعة: في اجتماع التابع والمتبوع.
في اجتماع التابع والمتبوع أنهم يقدمون المتبوع فيقولون: أبيض ناصع وأصفر فاقع وأحمر قان وأسود غربيب قال الله تعالى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} والمعنى: أن التبع فيه زيادة الوصف فلو قدم لكان ذكر الموصوف بعده عيبا إلا أن يكون لمعنى أوجب تقديمه.
وقد أشكل على هذه القاعدة قوله تعالى: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} وهي من الآيات التي صدئت فيها الأذهان الصقيلة وعادت بها أسنة الألسنة مفلولة ومن جملة العجائب أن شيخا أراد أن يحتج على مدرس لما ذكر له هذا السؤال فقال: إنما ذكر السواد لأنه قد يكون في الغربان ما فيه بياض وقد رأيته ببلاد المشرق فلم يفهم من الآية إلا أن الغرابيب هو الغراب ولا قوة إلا بالله!

[ البرهان في علوم القرآن ( 2 / 382 ـ 444 )]


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 12 ذو القعدة 1430هـ/30-10-2009م, 05:57 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي

والذي يظهر في ذلك أن الموجب لتقديم "الغرابيب" هو تناسب الكلم وجريانها على نمط متساوي التركيب وذلك أنه لما تقدم البيض والحمر دون إتباع كان الأليق بحسن النسق وترتيب النظام أني يكون السود كذلك ولكنه لما كان في السود هنا زيادة الوصف كان الأليق في المعنى أن يتبع بما يقتضي ذلك وهو الغرابيب فيقابل حظ اللفظ وحظ المعنى فوفى الخطاب وكمل الغرضان جميعا ولم يطرح أحدهما الآخر فيقع النقص من جهة الطرح وذلك
بتقديم الغرابيب على السود فوقع في لفظ الغرابيب حظ المعنى في زيادة الوصف وفي ذكر السود مفردا من الإتباع حظ اللفظ إذا جاء مجردا عن صورة البيض والحمر فاتسقت الألفاظ كما ينبغي وتم المعنى كما يجب ولم يخل بواحدة من الوجهين ولم يقتصر على الغرابيب وإن كانت متضمنة لمعنى السود لئلا تتنافر الألفاظ فإن ضم الغرابيب إلى البيض والحمر ولزها في قرن واحد:
*كابن اللبون إذا ما لزَّ في قرن*
غير مناسب لتلاؤم الألفاظ وتشاكلها وبذكر السود وقع الالتئام واتسق نسق النظام وجاء اللفظ والمعنى في درجة التمام وهذا لعمر الله من العجائب التي تكل دونها العقول وتعيا بها الألسن لا تدري ما تقول! والحمد لله
ثم رأيت أبا القاسم السهيلي أشار إلى معنى غريب فنقل عن أبي حنيفة الدينوري أن الغربيب اسم لنوع من العنب وليس بنعت قال: ومن هذا يفهم معنى الآية وسود عندي بدل لا نعت وإن كان الغربيب إذا أطلق لفظه ولم يقيد بذكر شيء موصوف قلما يفهم منه العنب الذي هو اسمه خاصة فمن ثم حسن التقييد.
الثامنة: عند تكرار النعوت لواحد.
إذا تكررت النعوت لواحدة فتارة يترك العطف كقوله ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم وتارة تشترك بالعطف كقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} ويشترط في ذلك اختلاف معانيها قال الزمخشري وأبو البقاء: دخول العاطف يؤذن بأن كل صفة مستقلة.
والعطف أحسن إن تباعد معنى الصفات نحو: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} وإلا فلا
التاسعة: فصل الجمل في مقام المدح والذم أبلغ من جعلها نمط واحدا.
قال أبو على الفارسي: إذا ذكرت صفات في معرض المدح والذم فالأحسن أن يخالف في إعرابها لأن المقام يقتضي الإطناب فإذا خولف في الإعراب كان المقصود أكمل لأن المعاني عند الاختلاف تتنوع وتتفتن وعند الإيجاز تكون نوعا واحدا ومثله في المدح قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} فانتصب {وَالْمُقِيمِينَ} على القطع وهو من صفة المرفوع الذي هو {الْمُؤْمِنُونَ} وقيل: بل انتصب بالعطف على قوله: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} وهو مجرور وكأنه قال: يؤمنون بالذي أنزل إليك وبالمقيمين أي بإجابة المقيمين والأول أولى لأن الموضع للتفخيم فالأليق به إضمار الفعل حتى يكون الكلام جملة لا مفردا.
ومثله قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} إلى قوله: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ} نص عليه سيبويه.
وجوز السيرافي أن يحمل على قوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} إلى أن قال: {وَالصَّابِرِينَ} ورده الصفار بأنه لا يعطف على الموصول قبل تمام الصلة وإن كان {وَالصَّابِرِينَ} معطوفا على {وَالسَّائِلِينَ} فهو من صلة " من " فكذلك المعطوف عليه
والصواب أن يكون المعطوف " من " صلة من وتكون الصلة كَمٌلت عند قوله تعالى: {وَآتَى الزَّكَاةَ} ثم أخذ في القطع.
ومثاله في الذم: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} بنصب {حَمَّالَةَ}.

تنبيهان:
الأول: إنما يحسن القطع بشرطين أحدهما أن يكون الموصوف معلوما أو منزلا منزلة المخاطب لا يتصور عنده البناء على مجهول وقولنا " أو منزلا منزلة المعلوم " لابد منه.
وقال الزمخشري في قوله تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} رفع على الإبدال من {الَّذِي نَزَّلَ} أو رفع على المدح أو نصب عليه.
قال الطيبي: والإبدال أولى لأن من حق صلة الموصول أن تكون معلومة عند المخاطب وكونه تعالى: {نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} لم يكن معلوما للعالمين فأبدل بقوله: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} بيانا وتفسيرا وتبين لك المدح.
وجوابه ما ذكرنا أن المنزل بمنزلة المعلوم منزلة المعلوم وها هنا لقوة دليله أجرى مجرى المعلوم وجعلت صلة نص عليه سيبويه والجمهور.
وثانيهما: أن يكون الصفة للثناء والتعظيم.
واشرط بعضهم ثالثا وهو تقدم الإتباع حكاه ابن بابشاذ.
وزيفه الأستاذ أبو جعفر بن الزبير وقال: إنما يتم ذلك إذا كان الموصوف يفتقر إلى زيادة بيان فحينئذ يتقدم الإتباع ليستحكم العلم بالموصوف أما إذا كان معلوما فلا يفتقر إلى زيادة بيان قال: والأصل -فيما الصفة فيه مدح أو ذم والموصوف معلوم- قطع الضمير وهو الأفصح ولا يشترط غير ذلك وقد أورد على دعوى أفصحية القطع عند ذلك إجماع القراء السبعة على الإتباع في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فضعفوا قراءة النصب على القطع مع حصول شرطي القطع.
وأجاب ابن الزبير بأن اختيار القطع مطرد ما لم تكن الصفة خاصة بمن جرت عليه لا يليق ولا يتصف بها سواه ولا شك أن هذا الضرب قليل جدا فكذلك لم يفصح سيبويه باشتراطه فإذا كانت الصف ممن لا يشارك فيها الموصوف غيره وكانت مختصة بمن جرت عليه فالوجه فيها الإتباع.
ونظير ذلك في صفات الله سبحانه وتعالى مما يتصف به غيره فلذلك لم يقطع وعليه ورد السماع لهذه الآيات الشريفة.
وكذلك قوله تعالى: {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} لما كان وصفه تعالى بـ {غَافِرِ الذَّنْبِ} وما بعده لا يليق بغيره لم يكن فيه إلا الإتباع والإتباع لا يكون إلا بعد القطع ويلزم الإتباع في الكل.
وهذا مع تكرر الصفات وذلك من مسوغات القطع على صفة ما وعند بعضهم من غير تقييد بصفة.
وأما الإتباع فيما لم يقع فيه الاختصاص من صفته تعالى فكثير فهذا هو السماع وله وجه في القياس وهو شبيه بالوارد في سورة والنجم في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى. وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} ثم قال بعد: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى. وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} فورد في هذه الجمل الأربع الفصل بالضمير المرفوع بين اسم إن وخبرها ليتحدد بمفهومه نفي الاتصاف عن غيره تعالى بهذه الأخبار وكان الكلام في قوة أن لو قيل: " وأنه هو لا غيره " ولم يرد هذا الضمير في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} لأن ذلك مما لا يتعاطاه أحد لا حقيقة ولا مجازا ولا ادعاء بخلاف الإحياء والإماتة فيما حكاه الله تعالى عن نمروذ.
قلت: وما ذكره في الجواب يرد عليه قوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} الآية وقوله تعالى: {أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ} الآيات.
ومما يرد عليه بالنسبة لأوصاف الذم قوله: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ} الآية قد جرت كلها على ما قبلها بالإتباع ولم يجئ فيها القطع.
وقرأ الحسن: {عُتُلٌ} بالرفع على الذم قال الزمخشري: وهذه القراءة تقوية لما يدل عليه بعد ذلك الثاني قد يلتبس المنصوب على المدح بالاختصاص وقد فرق سيبويه بينهما فيما بين
والفرق أن المنصوب على المدح أن يكون المنتصب لفظا يتضمن نفسه مدحا نحو " هذا زيد عاقل قومه " وفي الاختصاص لا يقتضي اللفظ ذلك كقوله تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} فيمن نصب {أَهْلَ}.
العاشرة: في وصف الجمع بالمفرد.
يوصف الجمع بالمفرد قال تعالى: {مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} فوصف الجمع بالمفرد وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} فوصف الأسماء وهي جمع اسم بالحسنى وهو مفرد تأنيث الأحسن.
وكذلك قوله تعالى: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} فإن الأولى تأنيث الأول وهو صفة لمفرد
وإنما حسن وصف الجمع بالمفرد لأن اللفظ المؤنث يجوز إطلاقه على جماعة المؤنث بخلاف لفظ المذكر وأما قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} والبور الفاسد فقال الرماني: هو بمعنى الجمع إلا أنه ترك جمعه في اللفظ لأنه مصدر وصف.
وقد يوصف الجمع بالجمع ولا يوصف مفرد كل منهما بالمفرد ومنه: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ} فثنى الضمير ولا يقال في الواحد يقتتل.
ومنه: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } ولا يقال وأخرى متشابهة.
الحادية عشر: قد تدخل الواو على الجملة الواقعة صفة تأكيدا.
ذكره الزمخشري وجعل منه قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} قال: الجملة صفة لقرية والقياس عدم دخول الواو فيها كما في قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنْذِرُونَ} وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف.
وقد أنكره عليه ابن مالك والشيخ أبو حيان وغيرهما والقياس مع الزمخشري لأن الصفة كالحال في المعنى وزعم بعضهم أنه لا يؤتى بالواو في الصفات إلا إذا تكررت النعوت وليس كذلك ومنه قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} وقوله تعالى: {آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} وتقول: جاءني زيد والعالم.
الثانية عشرة: الصفة لا تقوم مقام الموصوف إلا على استكراه.
لأنها إنما يؤتى بها للبيان والتخصيص أو المدح والذم وهذا في موضع الإطالة لا الاختصار فصار من باب نقص الغرض.
وقال ابن عمرون: عندي أن البيان حصل بالصفة والموصوف معا فحذف الموصوف ينقص الغرض ولأنه ربما أوقع لبسا ألا ترى أن قولك: مررت بطويل يحتمل أنه رجل أو قوس أو غير ذلك إلا إذا ظهر أمره ظهورا يستغنى به عن ذكره كقوله تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ}.
قال السخاوي: ولا فرق في صفة النكرة بين أن يذكر معها أولا.
قال ابن عمرون: وليس قوله بشيء.
القسم الثالث: البدل.
والقصد به الإيضاح بعد الإبهام وهو يفيد البيان والتأكيد أما البيان فإنك إذا قلت: رأيت زيدا أخاك بينت أنك تريد بزيد الأخ لا غير وأما التأكيد فلأنه على نية تكرار العامل ألا ترى أنك إذا قلت ضربت زيدا جاز أن تكون ضربت رأسه أو يده أو جميع بدنه فإذا قلت " يده " فقد رفعت ذلك الإبهام فالبدل جار مجرى التأكيد الدلالة الأولى عليه أو المطابقة كما بدل الكل أو التضمن كما في بدل البعض أو الالتزام كما في بدل الاشتمال فإذا قلت: ضربت زيدا رأسه فكأنك قد ذكرت الرأس مرتين مرة بالتضمن وأخرى بالمطابقة وإذا قلت: شربت ماء البحر بعضه فإنه مفهوم من قولك: شربت ماء البحر أنك لم تشربه كله فجئت بالبعض تأكيدا.
وهذا معنى قول سيبويه: ولكنه بني الاسم تأكيدا وجرى مجرى الصفة في الإيضاح لأنك إذا قلت: رأيت أبا عمرو زيدا ورأيت غلامك زيدا ومررت برجل صالح زيد فمن الناس من يعرفه بأنه غلامك أو بأنه رجل صالح ولا يعرف أنه زيد وعلى العكس فلما ذكرتهما أثبت باجتماعهما المقصود.
وهذا معنى قول الزمخشري: وإنما يذكر الأولى لتجوز التوطئة وليفاد بمجموعهما فضل تأكيد وتبيين لا يكون في الإفراد.
وقال ابن السيد: ليس كل بدل يقصد به رفع الإشكال الذي يعرض في المبدل منه بل من البدل ما يراد به التأكيد وإن كان ما قبله غنيا عنه كقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ} ألا ترى أنه لو لم يذكر الصراط الثاني لم يشك أجد أن الصراط المستقيم هو صراط الله وقد نص سيبويه على أن من البدل ما الغرض منه التأكيد ولهذا جوزوا بدل المضمر من المضمر كلقيته أباه انتهى.
والفرق بينه وبين الصفة أن البدل في تقدير تكرار العامل وكأنه في التقدير من جملتين بدليل تكرر حرف الجر في قوله: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} وبدليل بدل النكرة من المعرفة والمظهر من المضمر وهذا مما يمتنع في الصفة فكما أعيدت اللام الجارة في الاسم فكذلك تكرار العامل الرافع أو الناصب في تقدير التكرار وهو إن كان كذلك فلا يخرج عن أن يكون فيه تبيين للأول كالصفة.
وقيل لأبي علي: كيف يكون البدل إيضاحا للمبدل منه وهو من غير جملته؟ فقال: لما لم يظهر العامل في البدل وإنما دل عليه العامل في المبدل منه واتصل البدل بالمبدل منه في اللفظ جاز أن يوضحه.
ومن فوائد البدل التبيين على وجه المدح فقولك: هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم فلان أبلغ من قولك: فلان الأكرم والأفضل بذكره مجملا ثم مفصلا.
وقال الأخفش والواحدي في بدل البعض من الكل نحو: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} يسمى هذا بدل البيان لأن الأول يدل على العموم ثم يؤتى بالبدل إن أريد البعض.
واعلم أن في كلام البدلين أعني بدل البعض وبدل الاشتمال بيانا وتخصيصا للمبدل منه وفائدة البدل أن ذلك الشيء يصير مذكورا مرتين إحداهما بالعموم والثانية بالخصوص ومن أمثلته قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ}.
{آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}.
وقوله: {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ. نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} وفائدة الجمع بينهما أن الأولى ذكرت للتخيص على ناصية والثانية على علة السفع ليشمل بذلك ظاهر كل ناصية هذه صفتها.
ويجوز بدل المعرفة من المعرفة نحو: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ}
وبدل النكرة من المعرفة نحو: {بِالنَّاصِيَةِ. نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} قال ابن يعيش: ولا يحسن بدل النكرة من المعرفة حتى توصف كالآية لأن البيان مرتبط بهما جميعا.
والنكرة من النكرة كقوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً. حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً. وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً. وَكَأْساً دِهَاقاً} فحدائق وما بعدها بدل من " مفازا ".
ومنه قوله تعالى: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} فإن سود بدل من غرابيب لأن الأصل سود غرابيب فغرابيب في الأصل صفة لسود ونزع الضمير منها وأقيمت مقام الموصوف ثم أبدل منها الذي كان موصوفا بها كقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً} وقوله: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} فهذا بدل نكرة موصوفة من أخرى موصوفة فيها بيان الأولى.
ومثل إبدال النكرة المجردة من مثلها مجردة وبدل المعرفة من النكرة: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ} لأن " صراط الله " مبين إلى الصراط المستقيم فإن مجيء الخاص والأخص بعد العام والأعم كثير ولهذا المعنى قال الحذاق في قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} إنه لو عكس فقيل " ما يقول من لفظ " لم يجز لأن القول أخص من اللفظ لاختصاصه بالمستعمل واللفظ يشمل المهمل الذي لا معنى له.
وقد يجيء للاشتمال والفرق بينه وبين بدل البعض أن البدل في البعض جر في الاشتمال وصفا كقوله: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} فإن أذكره بمعنى " ذكره " وهو بدل من الهاء في {أَنْسَانِيهُ} العائدة إلى الحوت وتقديره: " وما أنساني ذكره إلا الشيطان ".
وقوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} فـ {قِتَالٍ} بدل من "الشهر " بدل الاشتمال لأن الشهر يشتمل على القتال وعلى غيره كما كان زيد يشتمل على العقل وغيره وهو مؤكد لأنهم لم يسألوا عن الشهر الحرام فإنهم يعلمونه وإنما سألوا عن القتال فيه فجاء به تأكيدا.
وقوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ. النَّارِ} فالنار بدل من " الأخدود " بدل اشتمال لأنه يشتمل على النار وغيرها والعائد محذوف تقديره " الموقدة فيه".
ومن بدل البعض قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}. فالمستطيعون بعض الناس لا كلهم.
وقال ابن برهان: بل هذه بدل كل من كل واحتج بأن الله لم يكلف الحج من لا يستطيعه فيكون المراد بالناس بعضهم على حد قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا
لَكُمْ} في أنه لفظ عام أريد به خاص لأن {النَّاسُ} في اللفظ الأول لو كان المراد به الاستغراق لما انتظم قوله بعده: {إِنَّ النَّاسَ} فعلى هذا هو عنده مطابق لعدة المستطيعين في كميتهم وهم بعض الناس لا جميعهم.
والصحيح ما صار عليه الجمهور لأن باب البدل أن يكون في الثاني بيان ليس في الأول بأن يذكر الخاص بعد العام مبينا وموضحا.
ولا بد في إبدال البعض من ضمير كقوله: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ}.
وقد يحذف لدليل كقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ} " منهم " وهو مراد بدليل ظهوره في الآية الأخرى وهي قوله: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} فـ {مَنْ آمَنَ} بدل من {أَهْلَهُ} وهم بعضهم.
وقد يأتي البدل لنقل الحكم عن مبدله نحو: جاء القوم أكثرهم وأعجبني زيد ثوبه وقال ابن عصفور: ولا يصح "غلمانه ".
وعدل عن البدل في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} لأنه أريد الإخبار عنهم كلهم في الحال الثاني وهو {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا} فلو أبدل لأوهم بخلاف " إنك أن تقوم خير لك " البدل أرجح.
والبدل في تقدير تكرير العامل وليس كالصفة ولكنه في تقدير جملتين بدليل تكرير حرف الجر قد يكرر عامله إذا كان حرف جر كقوله: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} فـ {طَلْعِهَا} بدل اشتمال من {النَّخْلِ} وكرر العامل فيه وهو "من".
وقوله تعالى: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} {لِمَنْ آمَنَ} بدل بعض من كل من {الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} لأن المؤمنين بعض المستضعفين وقد كرر اللام.
وقوله: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ} فقوله {لِبُيُوتِهِمْ} بدل اشتمال من قوله: {لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} وجعل ابن عطية اللام الأولى للملك والثانية للاختصاص فعلى هذا يمتنع البدل لاختلاف معنى الحرفين.
وقوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} فـ {لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} بدل من الضمير في {لَنَا} وقد أعيد معه العامل مقصودا به التفصيل.
ومنه قراءة يعقوب: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} قال أبو الفتح: جاز إبدال الثانية من الأولى لأن في الثانية ذكر سبب الجثو.
قيل: ولم يظهر عامل البدل إذا كان حرف جر إيذانا بافتقار الثاني إلى الأول فإن حروف الجر مفتقرة ولم يظهروا الفعل إذا لو أظهروه لانقطع الثاني عن الأول بالكلية لأن الكلام مع الفعل قائم بنفسه.
واعلم أنه لا خلاف في جواز إظهار العامل في البدل إذا كان حرف جر كالآيات السابقة فإن كان رافعا أو ناصبا ففيه خلاف والمجوزون احتجوا بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ } يجوز أن يكون {أَمَدَّكُمْ} الثاني بدلا من {أَمَدَّكُمْ} الأول وقد يكون من إبدال الجملة من الجملة وتكون الثانية صلة " الذي " كالأولى ويجوز أن تكون الثانية شارحة للأولى كقولك ضربت رأس زيد قذفته بالحجر ثم قوله تعالى: { ياقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ} أبدل قوله: {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ} من قوله: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} لأنه أكثر تلطفا في اقتضاء اتباعهم وقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} فـ {يَلْقَ} مجزوم بحذف الألف لأنه جواب الشرط ثم أبدل منه {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} فبين بها الأثام ما هو تقسيم البدل باعتبار آخر.
وينقسم البدل باعتبار آخر إلى بدل مفرد من مفرد وجملة من جملة وقد سبقا وجملة من مفرد كقوله تعالى: {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} وقوله: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} وجاز إسناد {يُقَالُ} إلى ما عملت فيه كما جاز إسناد {قِيلَ} في {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} ومن إبدال الجملة من المفرد قوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} قال الزمخشري: هذا الكلام كله في محل نصب بدلا من {النَّجْوَى}.
ويبدل الفعل من الفعل الموافق له في المعنى مع زيادة بيان كقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} الآية.
والرابع: بدل المفرد من الجملة كقوله: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} فـ {أَنَّهُمْ} بدل لأن الإهلاك وعدم الرجوع بمعنى واحد
فإن قلت: لو كان بدلا لكان معه الاستفهام؟
قيل: هو بدل معنوي

تنبيه في تكرار البدل.
وقد يكرر البدل كقوله: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} فقوله: {إِذْ هُمَا} بدل من قوله: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وقوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} بدل من {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}.

تنبيه: في إعراب كلمة "آزر" في سورة الأنعام.
أعربوا { آزَرَ } من قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ} بدلا.
قال ابن عبد السلام: والبدل لا يكون إلا للبيان والأب لا يلتبس بغيره فكيف حسن البدل؟ والجواب أن الأب يطلق على الجد بدليل قوله: {آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} فقال " آزر " لدفع توهم المجاز.
هذا كله إذا قلنا: إن "آزر" اسم أبيه لكن في المعرب للجواليقي عن الزجاج لا خلاف أن اسم أبي إبراهيم "تارح" والذي في القرآن يدل على أن اسمه آزر وقيل: آزر ذم في لغتهم وكأنه يا مخطئ وهو من العجمي الذي وافق لفظه لفظ العربي نحو الإزار والإزرة قال تعالى: {أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ} وعلى هذا فالوجه الرفع في قراءة { آزَرُ }.
القسم الرابع: عطف البيان.
وهو كالنعت في الإيضاح وإزالة الاشتراك الكائن فيه.
وشرط صاحب الكشاف فيه أن يكون وضوحه زائدا على وضوح متبوعه ورد ما قاله بأن الشرط حصول زيادة الوضوح بسبب انضمام عطف البيان مع متبوعه لا أن الشرط كونه أوضح وأشهر من الأول لأن من الجائز أن يحصل باجتماع الثاني مع الأول زيادة وضوح لا تحصل حال انفراد كل واحد منهما كما في " خالي أبو عبد الله زيد " مع أن اللقب أشهر فيكون في كل واحد منهما خفاء بانفراده ويرفع بالانضمام.
وقال سيبويه: جعل " يا هذا الحمد " عطف بيان مع أن اسم الإشارة أعرف من المضاف إلى ذي اللام وقيل: يشترط أن يكون عطف البيان معرفة والصحيح أنه ليس بشرط كقولك: لبست ثوبا جبة وقد أعرب الفارسي: {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} وكذا: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} وكذلك صاحب المفتاح في: {لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ}
فإن قلت: ما الفرق بينه وبين الصفة؟
قلت: عطف البيان وضع ليدل على الإيضاح باسم يختص به وإن استعمل في غير الإيضاح كالمدح في قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} فإن {الْبَيْتَ الْحَرَامَ} عطف بيان جيء به للمدح لا للإيضاح وأما الصفة فوضعت لتدل على معنى حاصل في متبوعه وإن كانت في بعض الصور مفيدة للإيضاح للعلم بمتبوعها من غيرها.
وكقوله تعالى: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ} وقوله تعالى: {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ}.
وزعم الزمخشري في قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} أن {مِنْ وُجْدِكُمْ} عطف بيان.
وهو مردود فإن العامل إنما يعاد في البدل لا في عطف البيان.
فإن قلت: ما الفرق بينه وبين البدل؟
قلت: قال أبو جعفر النحاس: ما علمت أحدا فرق بينهما إلا ابن كيسان فإن الفرق بينهما أن البدل يقرر الثاني في موضع الأول وكأنك لم تذكر الأول وعطف البيان أن تقدر أنك أن ذكرت الاسم الأول لم يعرف إلا بالثاني وإن ذكرت الثاني لم يعرف إلا بالأول فجئت بالثاني مبينا للأول قائما له مقام النعت والتوكيد.
قال: وتظهر فائدة هذا في النداء تقول: يا أخانا زيد أقبل على البدل كأنك رفعت الأول وقلت: يا زيد أقبل فإن أردت عطف البيان قلت: يا أخانا زيد أقبل.
القسم الخامس: ذكر الخاص بعدم العام.
فيؤتى به معطوفا عليه بالواو وللتنبيه على فضله حتى كأنه ليس من جنس العام تنزيلا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات وعلى هذا بني المتنبي قوله:

فإن تَفُقِ الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال

وابن الرومي أيضا حيث قال:

كم من أب قد علا بابن ذرا شرف كما علت برسول الله عدنان

وحكى الشيخ أثير الدين عن شيخه أبي جعفر بن الزبير أنه كان يقول: إن هذا العطف يسمى بالتجريد كأنه جرد من الجملة وأفرد بالذكر تفصيلا.
وله شرطان ذكرهما ابن مالك: أحدهما كون العطف بالواو والثاني كون المعطوف ذا مزية وحكي قولين في العام المذكور: هل يتناول الخاص المعطوف عليه أولا يتناوله؟ فعلى القول الأول يكون هذا نظير مسألة "نِعم الرجل زيد" على المشهور فيه وهو الظاهر من لفظ العام وعلى الثاني يكون عطف الخاص قرينة دالة على إرادة التخصيص في العام وأنه لم يتناوله وهو نظير بحث الاستثناء في نحو قولك: قام القوم إلا زيدا من أن زيدا لم يدخل في القوم وقد يتقوى هذا بقوله.

يا حب ليلى لا تغير وازدد وانم كما ينمو الخضاب في اليد

وإن كان هذا ليس من العطف العام.
وقد أشار الزمخشري إلى القولين في سورة الشعراء في قوله: {جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ}.
وقد يقال: آية الشعراء إنما جاز فيها الاحتمالان من جهة أن لفظ "جنات" وقع بلفظ التنكير ولم يعم الجنس وأما الآية السابقة فالإضافة تعم ولا ينبغي أن يجعل من هذا قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} أما على قول أبي حنيفة ومحمد فواضح لأنهما يقولان: إن النخل والرمان ليسا بفاكهة وأما على قول أبي يوسف فقوله: " فاكهة " مطلق وليس بعام
ومن أمثلته قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} على القول بأنها إحدى الصلوات الخمس.
قلنا: إن المراد غيرها كالوتر والضحى والعيد فليس من هذا الباب.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} مع أن التمسك بالكتاب يشمل كل عبادة ومنها الصلاة لكن خصها بالذكر إظهارا لمرتبتها لكونها عماد الدين.
وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} فإن عداوة الله راجعه إلى عداوة حزبه فيكون جبريل كالمذكور أربع مرات فإنه اندرج تحت عموم ملائكته وتحت عموم رسله ثم عموم حزبه ثم خصوصه بالتنصيص عليه.
ويجوز أن يكون عومل معاملة العدد فيكون الذكر ثلاثا وذكرهما بعد الملائكة -مع كونهما من الجنس- دليل على قصد التنويه بشرفهما على أن التفصيل إن كان بسبب الإفراد فقد عدل للملائكة مثله بسبب الإضافة وقد يلحظ شرفهما على غيرهما وأيضا فالخلاف السابق في أن ذكر بعض أفراد العام بعد العام هل يدل على أنه لم يدخل في العام فرارا من التكرار أو يدخل وفائدته التوكيد وحكاه الروياني في "البحر" من كتاب الوصية وخرج عليه ما إذا أوصى رجل لزيد بدينار وبثلث ماله للفقراء وزيد فقير فهل يجمع له بين ما أوصى لديه وبين شيء من الثلث على ما أراد الوصي وجهان والأصح أنه لا يعطى غير الدينار لأنه بالتقدير قطع اجتهاد الوصي.
قلت: والقول بعدم دخوله تحت اللفظ هو قول أبي علي الفارسي وتلميذه ابن جني وعلى هذا القول فلا يحسن عد هذه الآية من هذا النوع.
وأيضا فإذا اجتمع في الكلام معطوفان هل يجعل الآخر معطوفا على الأول أو على ما يليه وقع في كلام الزمخشري في مواضع من الكشاف تجويز الأمرين.
فذكر في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} أن " مخرجا " معطوف على {فَالِقُ} لا على { يُخْرِجُ} فرارا من عطف الاسم على الفعل وخالفه ابن مالك وأوله.
وذكر أيضا في قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} على هذه القراءة أنه معطوف على {اللَّهُ} لأن قضاءه قديم.
وذكر أيضا في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} حاصله أن قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} إذا أريد به العموم كان قوله: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} عطفا على مقدر أي أنشأها وأوجدها {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً} يعني خلقكم من نفس هذه صفتها وإن أريد به المخاطبون بمكة كان قوله: {خَلَقَ} عطفا على { خَلَقَكُمْ} وموجب ذلك الفرار من التكرار.
وعلى هذا فيجوز أن يكون "جبريل" معطوفا على لفظ الجلالة فلا تكون الآية من هذا النوع ولو سلمنا بعطفه على رسله فكذلك لكن الظاهر أن المراد بالرسل من بني آدم لعطفهم على الملائكة فليسوا منه وفي الآية سؤالان.
أحدهما: لم خص جبريل وميكائيل بالذكر؟ الثاني : لم قدم جبريل عليه؟
والجواب عن الأول أنه سبحانه وتعالى خصهما بالحياة فجبريل بالوحي الذي هو حياة القلوب وميكائيل بالرزق الذي هو حياة الأبدان ولأنهما كانا سبب النزول في تصريح اليهود بعداوتهما.
وعن الثاني أن حياة القلوب أعظم من حياة الأبدان ومن ثم قيل .

عليك بالنفس فاستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

ومنه قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} وغلط بعضهم من عد هذه الآية من هذا النوع من جهة أن فاكهة نكرة في سياق الإثبات فلا عموم لها.
وهو غلط لأمرين:
أحدهما: أنها في سياق الإثبات وهو مقتضى العموم كما ذكره القاضي أبو الطيب الطبري
والثاني: أنه ليس المراد بالخاص والعام هاهنا المصطلح عليه في الأصول بل كل ما كان الأول فيه شاملا للثاني.
وهذا الجواب أحسن من الأول لعمومه بالنسبة إلى كل مجموع يشتمل على متعدد ولما لمح أبو حنيفة معنى العطف وهو المغايرة لم يحنث الحالف على أكل الفاكهة بأكل الرمان.
ومنه قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} إذ الأمر والنهي من جملة الدعاء إلى الخير.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} والقصد تفضيل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما نزل عليه إذ لا يتم الإيمان إلا به.
وقوله: {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ}.
وقوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} ففائدة قوله: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} مع دخولهم في عموم الناس أن حرصهم على الحياة أشد لأنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث.
وقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} فهذا عام {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} وإن كان الإيمان بالغيب يشملها ولكن خصها لإنكار المشركين لها في قولهم: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} فكان في تخصيصهم بذلك مدح لهم.
وقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} فعم بقوله: {خَلَقَ} جميع مخلوقاته ثم خص فقال: {خَلَقَ الإِِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} وقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} فإنه عطف "اللحم" على "الميتة" مع دخوله في عموم الميتة لأن الميتة كل ما ليس له ذكاة شرعية والقصد به التنبيه على شدة التحريم فيه.

تنبيه:
ظاهر كلام الكثيرين تخصيص هذا العطف بالواو وقد سبق عن ابن مالك وآخرين مجيئه في "أو" في قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} مع أن ظلم النفس.
من عمل السوء فقيل: هو بمعنى الواو والمعنى: يظلم نفسه بذلك السوء حيث دساها بالمعصية
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ} فإن الوحي مخصوص بمزيد قبح من بين أنواع الافتراء خص بالذكر تنبيها على مزيد العقاب فيه والإثم.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} مع أن فعل الفاحشة داخل فيه قيل أريد به نوع من أنواع ظلم النفس وهو الربا أو كل كبيرة فخص بهذا الاسم تنبيها على زيادة قبحه وأريد بظلم النفس ما وراء ذلك من الذنوب.
القسم السادس: ذكر العام بعد الخاص.
وهذا أنكر بعض الناس وجوده وليس بصحيح.
والفائدة في هذا القسم واضحة والاحتمالان المذكوران في العام قبله ثابتان هنا أيضا ومنه قوله: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} والنسك العبادة فهو أعم من الصلاة.
وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}.
وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}.
وقوله إخبارا عن نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}.
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}
وجعل الزمخشري منه قوله تعالى: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} بعد قوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ}.
واعلم أن هذين النوعين يقعان في الأفعال والأسماء لكن وقوعهما في الأفعال لا يأتي إلا في النفي وأما في الإثبات فليس من هذا الباب بل من عطف المطلق على المقيد أو المقيد على المطلق.
القسم السابع: عطف أحد المترادفين على الآخر أو ما هو قريب منه في المعنى والقصد منه التأكيد.
وهذا إنما يجيء عند اختلاف اللفظ وإنما يحسن بالواو ويكون في الجمل كقوله: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى. ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}.
ويكثر في المفردات كقوله: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا}.
وقوله: {فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} {لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى}.
وقوله: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ}.
وقوله: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}.
وقوله : {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ}.
وقوله: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}.
وقوله: {لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} قال الخليل: العوج والأمت بمعنى واحد وقيل: الأمت أن يغلظ مكان ويرق مكان قاله ابن فارس في "المقاييس" وهو راجع لما قاله الخليل.
وقوله: {أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ}.
وقوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً}.
وقوله: {إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً}.
وفرق الراغب بين النداء والدعاء بأن النداء قد يقال إذا قيل "يا" أو "أيا" ونحوه من غير أن يضم إليه الاسم والدعاء لا يكاد يقال إلا إذا كان معه الاسم نحو: يا فلان.
وقوله: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا}.
وقوله: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}.
وقوله: {لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} فإن "نصب" مثل "لغب" وزنا ومعنى ومصدرا وقوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} على قول من فسر الصلاة بالرحمة والأحسن خلافه وأن الصلاة للاعتناء وإظهار الشرف كما قاله الغزالي وغيره وهو قدر مشترك بين الرحمة والدعاء والاستغفار وعلى هذا فهو من عطف المتغايرين.
وقال الزمخشري في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} إنهم هم المذكورون أولا وهو من عطف الصفة على الصفة.
واعترض عليه بأن شرط عطف الصفة على الصفة تغاير الصفتين في المعنى تقول: جاء زيد العالم والجواد والشجاع أي الجامع لهذه المعاني الثلاثة المتغايرة ولا تقول: زيد العالم والعالم فإنه تكرار والآية من ذلك لأن المعطوف عليه قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}. والمعطوف قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} والمنزل هو الغيب بعينه.
ويحتمل أن يقال المعطوف عليه مطلق الغيب والمعطوف غيب خاص فيكون من عطف الخاص على العام.
وجعل منه بعضهم قوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} فإن المراد بالكتاب المنير.
هو الزبور ونقله على إجماع المفسرين لما تضمنه من النعت كما تعطف النعوت بعضها على بعض وهذا يرده تكرار الباء فإنه يشعر بالفصل لأن فائدة تكرار العامل بعد حرف العطف إشعار بقوة الفصل من الأول والثاني وعدم التجوز في العطف الشيء على نفسه.
والذي يظهر أنه للتأسيس وبيانه وجوه:
أحدها: أن قوله تعالى: {جَاءَتْهُمُ} يعود الضمير فيه على المكذبين للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى الذين من قبلهم فيكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ داخلا في المرسلين المذكورين والكتاب المنير هو القرآن وقوله تعالى: {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا} معطوف على قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: كذبوا ثم أخذتهم بقيام الحجة عليهم {بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} وجاء تقديم قيام الحجة عليهم قبل العطف اعتراضا للاهتمام به وهو من أدق وجوه البلاغة ومثله في آية آل عمران قوله تعالى: {فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} وقوله: {جَاءُوا} انصراف من الخطاب إلى الغيبة كأنه قال: جاء هؤلاء المذكورون فيكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ داخلا في الضمير وهو في موضع جئتم بالبينات فأقام الإخبار عن الغائب مقام المخاطب كقوله تعالى: {جَرَيْنَ بِهِمْ} وفيه وجه من التعجب كأن المخاطب إذا استعظم الأمر رجع إلى الغيبة ليعم الإخبار به جميع الناس وهذا موجود في الآيتين والثاني: أن يكون على حذف مضاف كأنه قيل: الكتاب المنير يعني القرآن.
فيكون مثل قوله: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}.
وهذا وجه حسن.

تنبيهات:
الأول: أنكر المبرد هذا النوع ومنع عطف الشيء على مثله إذ لا فائدة فيه وأوَّل ما سبق باختلاف المعنيين ولعله ممن ينكر أصل الترادف في اللغة كالعسكري وغيره.
الثاني: ما ذكرناه من تخصيص هذا النوع بالواو هو المشهور وقال ابن مالك: وقد أنيبت " أو " عنها كما في قوله تعالى: {نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً}.
قال شيخنا: وفيه نظر لإمكان أن يراد بالخطيئة ما وقع خطأ وبالإثم ما وقع عمدا قلت ويدل له قوله تعالى قبل ذلك: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ}.
وجعل منه بعضهم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك"
قلت: ما ذكره ابن مالك قد سبقه به ثعلب فيما حكاه ابن سيده في المحكم فقال ثعلب في قوله تعالى: {عُذْراً أَوْ نُذْراً} العذر والنذر واحد.
قال اللحياني: وبعضهم يثقل.
وعن الفراء أنه يجري في العطف بثم وجعل منه قوله: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} قال: معناه: "وتوبوا إليه لأن التوبة الاستغفار" وذكر بعضهم أنه قد تجرد عن العطف وجعل منه قوله تعالى: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} والغرابيب هي السود {سُبُلاً فِجَاجاً} {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وغير ذلك الثالث: مما يدفع وهم التكرار في مثل هذا النوع أن يعتقد أن مجموع المترادفين يحصل معنى لا يوجد عند انفراد أحدهما فإن التركيب يحدث معنى زائدا وإذا كانت كثرة الحروف تفيد زيادة المعنى فكذلك كثرة الألفاظ.
القسم الثامن: الإيضاح بعد الإبهام.
لِيُرَى المعنى في صورتين أو ليكون بيانه بعد التشوف إليه لأنه يكون ألذ للنفس وأشرف عندها وأقوى لحفظها وذكرها كقوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ}.
وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فإن وضع الضمير موضع الظاهر معناه البيان أو الحديث أو الأمر لله أحد مكفوا بها ثم فسر وكان أو قع في النفس من الإتيان به مفسرا من أول الأمر ولذلك وجب تقديمه وتفيد به الجملة المراد تعظيما له.
وسيأتي عكسه في وضع الظاهر موضع المضمر.
ومثله التفصيل بعد الإجمال كقوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}.
وعكسه كقوله تعالى: {ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}.
وقوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} وأعاد قوله: {أَرْبَعِينَ} وإن كان معلوما من الثلاثين والعشر أنها أربعون لنفي اللبس لأن العشر لما أتت بعد الثلاثين التي هي نص في المواعدة دخلها الاحتمال أن تكون من غير المواعدة فأعاد ذكر الأربعين نفيا لهذا الاحتمال وليعلم أن جميع العدد للمواعدة.
وهكذا قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} أعاد ذكر العشرة لما كانت الواو تجيء في بعض المواضع للإباحة وقوله: {كَامِلَةٌ} تحقيق لذلك وتأكيد له فإن قلت: فإذا كان زمن المواعدة أربعين فلم كانت ثلاثين ثم عشرا؟
أجاب ابن عساكر في "التكميل والإفهام" بأن العشر إنما فصل من أولئك ليتحدد قرب انقضاء المواعدة ويكون فيه متأهبا مجتمع الرأي حاضر الذهن لأنه لو ذكر الأربعين أولا لكانت متساوية فإذا جعل العشر فيها إتماما لها استشعرت النفس قرب التمام وتجدد بذلك عزم لم يتقدم.
قال: وهذا شبيه بالتلوم الذي جعله الفقهاء في الآجال المضروبة في الأحكام ويفصلونه من أيام الأجل ولا يجعلونها شيئا واحدا ولعلهم استنبطوه من هذا.
فإن قلت: فلم ذكر في هذه السورة أعني الأعراف الثلاثين ثم العشر وقال في البقرة: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} ولم يفصل العشر منها.
والجواب -والله أعلم-: أنه قصد في الأعراف ذكر صفة المواعدة والإخبار عن كيفية وقوعها فذكر على صفتها وفي البقرة إنما ذكر الامتنان على بني إسرائيل بما أنعم به عليهم فذكر نعمة عليهم مجملة فقال: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ}.
واعلم أنه يخرج لنا مما سبق جوابان في ذكر العشرة بعد الثلاثة والسبعة إما الإجمال بعد التفصيل وإما رفع الالتباس ويضاف إلى ذلك أجوبه:
ثالثها: أنه قصد رفع ما قد يهجس في النفوس من أن المتمتع إنما عليه صوم سبعة أيام لا أكثر ثلاثة منها في الحج ويكمل سبعا إذا رجع.
رابعها: أن قاعدة الشريعة أن الجنسين في الكفارة لا يجب على المكفر الجمع بينهما فلا يلزم الحالف أن يطعم المساكين ويكسوهم ولا المظاهر العتق والصوم فلما اختلف محل هذين الصومين فكانت ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع صارا باختلاف المحلين كالجنسين والجنسان لا يجمع بينهما وأفادت هذه الزيادة -وهي قوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} -رفع ما قد يهجس في النفوس من أنه إنما عليه أحد النوعين: إما الثلاثة وإما السبع.
الخامس: أن المقصود ذكر كمال لا ذكر العشرة فليست العشرة مقصودة بالذات لأنها لم تذكر إلا للإعلام بأن التفصيل المتقدم عشرة لأن ذلك من المعلوم بالضرورة وإنما ذكر لتوصف بالكامل الذي هو مطلوب في القصة.
السادس: أن في الكلام تقديما وتأخيرا والتقدير: فصيام عشرة أيام: ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجعتم وهذا وإن كان خلاف الأصل لكن الإشكال ألجأنا إليه.
السابع: أن الكفارات في الغالب إنما تجب متتابعة ككفارات الجنايات ولما فصل هاهنا بين صوم هذه الكفارة بالإفطار قبل صومها بذكر الفدية ليعلم أنها وإنما كانت منفصلة فهي كالمتصلة.
فإن قلت: فكفارة اليمين لا تجب متتابعة ومن جنس هذه الكفارة ما يجب على
المحرم إذا حلق ثلاث شعرات ومن عجز عن الفدية فإنه يصوم ثلاثة أيام ولا يشترط التتابع
قلت: هي في حكم المتتابعة بالنسبة إلى الثواب إلا أن الشرع خفف بالتفريق.
ثامنها: أن السبع قد تذكر والمراد به الكثرة لا العدد والذي فوق الستة ودون الثمانية وروى أبو عمرو بن العلاء وابن الأعرابي عن العرب: سبع الله لك الأجر أي أكثر ذلك يريدون التضعيف.
وقال الأزهري في قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} هو جمع السبع الذي يستعمل للكثرة وإذا كان كذلك فاحتمل أن يتوهم أن المراد بالسبع ما هو أكثر من السبع ولفظها معطوف على الثلاثة بآلة الجمع فيفضي إلى الزيادة في الكفارة على العدد المشروع فيجب حينئذ رفع هذا الاحتمال بذكر الفذلكة وللعرب مستند قوي في إطلاق السبع والسبعة وهي تريد الكثرة ليس هذا موضع ذكره تاسعها: أن الثلاثة لما عطف عليها السبعة احتمل أن يأتي بعدها ثلاثة أو غيرها من الأعداد فقيد بالعشرة ليعلم أن المراد كمل وقطع الزيادة المفضية للتسلسل.
عاشرها: أن السبعة المذكورة عقب الثلاثة يحتمل أن تكون الثلاثة داخله فيها كما في قوله: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} أي مع اليومين اللذين خلق الأرض فيهما فلا بد من اعتقاد هذا التأويل ليندفع ظاهر التناقض فجاء التقييد بالعشرة لرفع توهم التداخل وهذا الجواب أشار إليه الزمخشري ونقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام ترجيحه وردده ابن أبي الإصبع بأن احتمال التداخل لا يظن إلا بعددين منفصلين لم يأت بهما جملة فلو اقتصر على التفصيل احتمل ذلك فالتقييد مانع من هذا الاحتمال.
وهذا أعجب منه فإن مجيء الجملة رافع لذلك الاحتمال.
الحادي عشر : أن حروف السبعة والتسعة مشتبهة فأزيل الإشكال بقوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} لئلا يقرءوها تسعة فيصير العدد اثني عشر ونظير هذا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا".

فائدة: في التأكيد بمائة إلا واحدا.
التأكيد بمائة إلا واحدا لإزالة إلباس التسعة والتسعين بالسبعة والسبعين لكن مثل هذا مأمون في القرآن لأن الله حفظه.
القسم التاسع: وضع الظاهر موضع المضمر.
لزيادة التقرير والعجب أن البيانيين لم يذكروه في أقسام الإطناب.
ومنه بيت الكتاب:
إذا الوحش ضم الوحشَ في ظُلَلاتها سواقطُ من حَرٍّ وقد كان أظهرا

ولو أتى على وجهة لقال: "إذا الوحش ضمها".
وإنما يسأل عن حكمته إذا وقع في الجملة الواحدة فإن كان في جملتين مستقلتين كالبيت سهل الأمر لكن الجملتين فيه كالجملة الواحدة لأن الرافع للوحش الأول فعل محذوف كما يقول البصريون والفعل المذكور ساد مسد الفعل المحذوف حتى كأنه هو ولهذا لا يجتمعان وإن قدر رفع الوحش بالابتداء فالكلام جملة واحدة.
ويسهل عند اختلاف اللفظين كقوله:

إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت حبال الْهُوَيْنَى بالفتى أن تَقَطَّعَا

فاختلاف لفظين ظاهرين أشبها لفظي الظاهر والمضمر في اختلاف اللفظ وعليه قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} ثم قال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ} ولم يقل: يؤذونه مع ما في ذلك من التعظيم فالجمع بين الوصفين كقوله في الحديث: "نبيك الذي أرسلت" وقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الآية فإنه قد تكرر اسم الله ظاهرا في هذه الجمل الثلاث ولم يضمر لدلالته على استقلال كل جملة منها وأنها لم تحصل مرتبطة ببعضها ارتباط ما يحتاج فيه إلى إضمار.
وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} وفيه دلالة على أن الطاغوت هو الشيطان وحسن ذلك هنا تنبيها على تفسيره.
وقال ابن السيد: إن كان في جملتين حسن الإظهار والإضمار لأن كل جملة تقوم بنفسها كقولك: جاء زيد وزيد رجل فاضل وإن شئت قلت: وهو رجل فاضل.
وقوله: {مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}.
وإن كان في جملة واحدة قبح الإظهار ولم يكد يوجد إلا في الشعر كقوله:

لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا

قال: وإذا اقترن بالاسم الثاني حرف الاستفهام بمعنى التعظيم والتعجب كان المناسب الإظهار كقوله: تعالى: {الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ} و{الْقَارِعَةُ. مَا الْقَارِعَةُ} والإضمار جائز كقوله تعالى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ}.
الخروج على خلاف الأصل وأسبابه.
واعلم أن الأصل في الأسماء أن تكون ظاهرة وأصل المحدث عنه كذلك والأصل أنه إذا ذكر ثانيا أن يذكر مضمرا للاستغناء عنه بالظاهر السابق كما أن الأصل في الأسماء الإعراب وفي الأفعال البناء وإذا جرى المضارع مجرى الاسم أعرب كقوله تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
وقوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}.
وقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}.
وللخروج على خلاف الأصل أسباب:
أحدها: قصد التعظيم.
كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
وقوله تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
وقوله تعالى: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} فأعاد ذكر الرب لما فيه من التعظيم ولهضم للخضم.
وقوله تعالى: {اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ}.
{وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}.
{هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً}.
{كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً}.
{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً}.
{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} وقوله تعالى: {الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ} {الْقَارِعَةُ. مَا الْقَارِعَةُ} كان القياس ـ لولا ما أريد به من التعظيم والتفخيم ـ " الحاقة ما هي ".
ومثله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ. وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} تفخيما لما ينال الفريقين من جزيل الثواب وأليم العقاب.
الثاني: قصد الإهانة والتحقير.
كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ }.
وقوله تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ}.
وقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً}.
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ}.

وقول الشاعر:
فما للنوى لا بارك الله في النوى وعهد النوى عند الفراق ذميم

وسمع الأصمعي من ينشد:
فما للنوى جد النوى قطع النوى كذاك النوى قطاعة للقرائن

فقال: لو قيض لهذا البيت شاة لآتت عليه.
الثالث: الاستلذاذ بذكره.
كقوله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} إن كان الحق الثاني هو الأول.
وقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً}.
وقوله تعالى: {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} ولم يقل: "منها" ولهذا عدل عن ذكر الأرض إلى الجنة وإن كان المراد بالأرض الجنة ولله در القائل:

كَرِّر على السمع منى أيها الحادي ذكر المنازل والأطلال والنادي

وقوله:

يا مطربي بحديث من سكن الغضى = هجت الهوى وقدحت فيَّ حراق
إن كررت حديثك يا مهيج لوعتي = إن الحديث عن الحبيب تلاق
الرابع: زيادة التقدير.
كقوله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}.
وقوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} بعد قوله: {اللَّهُ أَحَدٌ} ويدل على إرادة التقدير سبب نزولها وهو ما نقل عن ابن عباس أن قريشا قالت: يا محمد صف لنا ربك الذي تدعوننا إليه فنزل: {اللَّهُ أَحَدٌ} معناه: أن الذي سألتموني وصفه هو الله ثم لما أريد تقدير كونه الله أعيد بلفظ الظاهر دون ضميره.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}.
وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}.
{يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ }.
الخامس: إزالة اللبس حيث يكون الضمير يوهم أنه غير المراد.
كقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} لو قال: "تؤتيه" لأوهم أنه الأول، قاله ابن الخشاب.
وقوله تعالى: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} كرر السوء لأنه لو قال: "عليهم دائرته" لالتبس بأن يكون الضمير عائدا إلى الله تعالى قاله الوزير المغربي في تفسيره ونظيره: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً} وتبيينه: الأول النطفة أو التراب والثاني الوجود في الجنين أو الطفل والثالث الذي بعد الشيخوخة وهو أرذل العمر والقوة الأولى التي تجعل للطفل التحرك والاهتداء للثدي والثانية بعد البلوغ قاله ابن الحاجب ويؤيد الغيرية التنكير.
ونحوه قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} الآية لو قال: "إنه" لأوهم عود الضمير إلى الفجر.
وقوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} فلم يقل: "عنها" لئلا يتحد الضميران فاعلا ومفعولا مع إن المظهر السابق لفظ النفس فهذا أبلغ من ضرب زيد نفسه.
وكقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} وإنما حسن إظهار الوعاء مع أن الأصل فاستخرجها منه لتقدم ذكره لأنه لو قيل ذلك لأوهم عود الضمير على الأخ فيصير كأن الأخ مباشر لطلب خروج الوعاء وليس كذلك لما في المباشر من الأذى الذي تأباه النفوس الأبية فأعيد لفظ الظاهر لنفي هذا الله تبارك وتعالى الرب عز وجل وإنما لم يضمر الآخ فيقال ثم استخرجها من وعائه لأمرين.
احدهما أن ضمير الفاعل في { استخرجها } ليوسف عليه السلام فلو قال من وعائه لتوهم أنه يوسف لأنه أقرب مذكور فأظهر لذلك.
والثاني أن لأخ مذكور مضاف إليه ولم يذكر فيما تقدم مقصودا بالنسبة الإخبارية فلما احتيج إلى إعادة ما وأضيف إليه أظهره ايضا.
وقوله تعالى: { يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال }.
{ ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله }.
السادس:
أن يكون القصد تربية المهابة وإدخال الروعة في ضمير السامع بذكر الاسم المقتضى لذلك كما يقول الخليفة لمن يأمره بأمر أمير المؤمنين يأمرك بكذا مكان أنا أمرك بكذا
ومنه قوله تعالى { الحاقة ما الحاقة }.
وقوله: { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } { إن الله يأمر بالعدل والإحسان }.
وقوله: { وقال الذين في النار لخزنة جهنم } ولم يقل لخزنتها.
السابع: قصد تقوية داعية المأمور.
كقوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ولم يقل "علىّ" وحين قال { عَلَى اللَّهِ} لم يقل: "إنه يحب" أو "إني أحب" تقوية لداعية المأمور بالتوكل بالتصريح باسم المتوكل عليه
وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
الثامن: تعظيم الأمر.
كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}.
وقوله: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً. إِنَّا خَلَقْنَا الإِِنْسَانَ} ولم يقل: "خلقناه" للتنبيه على عظم خلقه للإنسان.
وقوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً} فإنما أعيد لفظ {الْجِبَالُ} والقياس الإضمار لتقدم ذكرها مثل ما ذكرنا في "آلم السجدة" في أحد القولين.
وهو قوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ} وهو أن الآيتين سيقتا للتخويف والتنبيه على عظم الأمر فإعادة الظاهر أبلغ وأيضا فلو لم يذكر {الْجِبَالُ} لاحتمل عود الضمير إلى الأرض.
التاسع: أن يقصد التوصل بالظاهر إلى الوصف.
كقوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} بعد قوله في صدر الآية: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} دون "فآمنوا بالله وبي" ليتمكن من إجراء الصفات التي ذكرها من النبي الأمي الذي يؤمن بالله فإنه لو قال وبي لم يتمكن من ذلك لأن الضمير لا يوصف ليعلم أن الذي وجب الإيمان به والاتباع له هو من وصف بهذه الصفات كائنا من كان أنا أو غيري إظهارا للنصفة وبعدا من التعصب لنفسه.
العاشر: التنبيه على علة الحكم.
كقوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}.
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} أعلمنا أنه من كان عدوا لهؤلاء فهو كافر هذا إن خيف الإلباس لعوده للمذكورين وكذا قوله: { فَإِنَّ اللَّهَ} دون " فإنه ".
وكقوله تعالى: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ} ولم يقل: "عليهم" لأنه ليس في الضمير ما في قوله: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} من ذكر الظلم المستحق به العذاب.
وجعل منه الزمخشري قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً}.
وقوله تعالى: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} والأصل "عليهم" لدلالة على أن اللعنة لحقتهم لكفرهم وليس من ذلك قوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} فإن العلة قد تقدمت في الشرط وإنما فائدة ذلك إثبات صفة أخرى زائدة وقال الزمخشري: فائدته اشتماله على المتقين والصابرين.
ومنه قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} لأن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان عظيم.
وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}. والقياس "أنهم لا يفلحون" ولو ذكر الظاهر لقال: "لا يفلح المفترون" أو "الكاذبون" لكن صرح بالظلم تنبيها على أن علة عدم الفلاح الظلم.
وقوله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} ولم يقل: "أجرهم" تنبيها على أن صلاحهم علة لنجاتهم.
وقوله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} ولم يقل: "لنا" لينبه على أنه أهل لأن يصلى له لأنه ربه الذي خلقه وأبدعه ورباه بنعمته.
وكقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} قال الزمخشري: أراد عدوا لهم فجاء بالظاهر ليدل على أن الله إنما عاداهم لكفرهم وأن عداوة الملائكة كفر وإذا كانت عداوة الأنبياء كفرا فما بال الملائكة وهم أشرف والمعنى ومن عاداهم عاداه الله وعاقبه اشد العقاب المهين.
وقد أدمج في هذا الكلام مذهبه في تفضيل الملك على النبي وإن لم يكن مقصودا فهو كما قيل:
وما كنت زوارا ولكن ذا الهوى إلى حيث يهوى القلب تهوى به الرجل
ومثله قول مطيع:
أمي الضريح الذي أسمى ثم استهل على الضريح

ألا ترى أنه لم يقل "عليه" لأنه باك بذكر الضريح الذي من عادته أن يبكي عليه ويحزن لذكراه.
الحادي عشر: قصد العموم.
كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} ولم يقل: "استطعمهم" للإشعار بتأكيد العموم وأنهما لم يتركا أحدا من أهلها إلا استطعماه وأبى ومع ذلك قابلهم
بأحسن الجزاء وفيه التنبيه على محاسن الأخلاق ودفع السيئة بالحسنة.
وقوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} فإنه لو قيل: "إنها لأمارة" لاقتضى تخصيص ذلك فأتى بالظاهر ليدل على أن المراد التعميم مع أنه بريء من ذلك بقوله بعده: {إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي} وقوله: {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} ولم يقل: "إنه" إما للتعظيم وإما للاستلذاذ.
وقوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}.
وقوله تعالى: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا} ثم قال: {فَإِنَّ الإِِنْسَانَ كَفُورٌ} ولم يقل " فإنه" مبالغة في إثبات أن هذا الجنس شأنه كفران النعم.
الثاني عشر: قصد الخصوص.
كقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} ولم يقل: "لك" لأنه لو أتى بالضمير لأخذ جوازه لغيره كما في قوله تعالى: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ} فعدل عنه إلى الظاهر للتنبيه على الخصوصية وأنه ليس لغيره ذلك.
الثالث عشر: مراعاة التجنيس.
ومنه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} السورة ذكره الشيخ عز الدين ابن عبد السلام رحمه الله.
الرابع عشر: أن يتحمل ضميرا لا بد منه.
كقوله: {أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا}.
الخامس عشر: كونه أهم من الضمير.
كقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} وقال بعضهم: إنما أعيد {إِحْدَاهُمَا} لتعادل الكلم وتوازن الألفاظ في التركيب وهو المعنى في الترصيع البديعي بل هذا أبلغ من الترصيع فإن الترصيع توازن الألفاظ من حيث صيغها وهذا من حيث تركيبها فكأنه ترصيع معنوي وقلما يوجد إلا في نادر من الكلام وقد استغرب أبو الفتح ما حكى عن المتنبي في قوله:
وقد جادت الأجفان قَرْحَى من البكا وعادت بَهَارًا في الخُدود الشقائق

قال: سألته: هل هو "قرحى" أو "قرحًا منون ؟ فقال لي: قرحا منون ألا ترى أن بعدها "وعادت بهارا" قال: يعني أن بهارا جمع بهار وقرحى جمع قرحة ثم أطنب في الثناء على المتنبي واستغرب فطنته لأجل هذا وبيان ما ذكرت في الآية أنها متضمنة لقسمين قسم الضلال وقسم التذكير فأسند الفعل الثاني إلى ظاهر حيث أسند الأول ولم يوصل بضمير مفصول لكون الأول لازما فأتى بالثاني على صورته من التجرد عن المفعول ثم أتى به خبرا بعد اعتدال الكلام وحصول التماثل في تركيبه.
ولو قيل: إن المرفوع حرف لكان أبلغ في المعنى المذكور ويكون الأخير بدلا أو نعتا على وجه البيان كأنه قال: إن كان ضلال من إحداهما كان تذكير من الأخرى وقدم على "الأخرى" لفظ "إحداهما" ليسند الفعل الثاني إلى مثل ما أسند إليه الأول لفظا ومعنى والله أعلم
السادس عشر: كون ما يصلح للعود ولم يسق الكلام له.
كقوله: {رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ} وكقول الشاعر:
تبكي على زيد ولا زيد مثله برئ من الحمَّى سليم الجوانح

السابع عشر: الإشارة إلى عدم دخول الجملة في حكم الأولى.
كقوله تعالى: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} في سورة الشورى فإن {يَمْحُ} استئناف وليس على الجواب لأن المعلق على الشرط عدم قبل وجوده وهذا صحيح في {يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} وليس صحيحا في {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} لأن محو الباطل ثابت فلذلك أعيد الظاهر وأما حذف الواو من الخط فللفظ وأما حذفها في الوقف كقوله تعالى: { يَدْعُ الدَّاعِ} و{سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} فللوقف ويؤكد ذلك وقوف يعقوب عليها بالواو.
وهذا ملخص كلام عبد العزيز في كلامه على البزدوي وفيما ذكره نزاع وهذا أنا لا نسلم أن المعلق ها هنا بالشرط هو موجود قبل الشرط لأن الشرط هنا المشيئة وليس المحو ثابتا قبل المشيئة فإن قيل إن الشرط هنا مشيئة خاصة وهي مشيئة الختم وهذا وإن كان محذوفا فهو مذكور بالقوة شائع في كثير من الأماكن كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} المعنى: "ولو شاء الله جمعهم لجمعهم" "ولو شاء الله عدم إيمانهم ما أشركوا" "ولو شاء الله عدم قتالهم ما اقتتلوا".
قيل: لا يكاد يثبت مفعول المشيئة إلا نادرا كما سيأتي في الحذف إن شاء الله تعالى وإذا ثبت هذا صح ما ادعيناه فإن محو الله ثابت قبل مشيئة الله الختم.
فإن قلت: سلمنا أن الشرط مشيئة خاصة لكنها إنما تختص بقرينة الجواب.
والجواب هنا شيئان فالمعنى إن يشأ الله الختم ومحو الباطل يختم على قلبك ويمح الباطل وحينئذ لا يتم ما ادعاه.ز
وجوابه أن الشرط لا بد أن يكون غير ثابت وغير ممتنع ويمحو الباطل كان ثابتا فلا يصح دخوله في جواب الشرط وهذا أحسن جدا.
بقي أن يقال: إن الجواب ليس كلاّ من الجملتين بل مجموع الجملتين والمجموع معدوم قبل وجود الشرط وإن كان أحدهما ثابتا.
الأول:
قد سبق أنه لا يشترط في وضع الظاهر موضع المضمر أن يكون بلفظ الأول ليشمل مثل قوله تعالى: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً}.
وقوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} لأن إنزال الخير هنا سبب للربوبية وأعاده بلفظ " الله " لأن تخصيص الناس بالخير دون غيرهم مناسب للإلهية لأن دائرة الربوبية أوسع.
ومثله: {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} كما سبق.
ومن فوائده: التلذذ بذكره وتعظيم المنة بالنعمة.
ومن فوائده: قصد الذم وجعل الزمخشري قوله تعالى: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ} فقال: المرء هو الكافر وهو ظاهر وضع موضع الضمير لزيادة الذم.
وقال ابن عبد السلام في قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} إن "الفاسقين" يراد بهم المنافقون ويكون قد أقام الظاهر مقام المضمر والتصريح بصفة الفسق سبب لهم ويجوز أن يكون المراد العموم لكل فاسق ويدخل فيه المنافقون دخولا أوليا وكذا سائر هذه النظائر.
وليس من هذا الباب قوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} أي: في معاملة الأبوين {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً}.
وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} إلى قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}.
وكذلك كل ما فيه شرط فإن الشروط أسباب ولا يكون الإحسان للوالدين سببا لغفران الله لكل تائب لأنه يلزم أن يثاب غير الفاعل بفعل غيره وهو خلاف الواقع وكذلك معاداة بعض الكفرة لا يكون سببا لمعاداة كل كافر فتعين في هذه المواضع أن يكون من باب إقامة الظاهر مقام المضمر ليس إلا.
الثاني:
قد مرّ أن سؤال وضع الظاهر موضع المضمر حقه أن يكون في الجملة الواحدة نحو: {الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ} فأما إذا وقع في جملتين فأمره سهل وهو أفصح من وقوعه في الجملة الواحدة لأن الكلام جملتان فحسن فيهما ما مالا يحسن في الجملة الواحدة ألا ترى إلى قوله:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
فتكرار الموت في عجز البيت أوسع من تكراره في صدره لأنا إذا عللنا هذا إنما نقول أعاد الظاهر موضع المضمر لما أراد من تعظيم الموت وتهويل أمره فإذا عللها مكررة في عجزه عللناه بهذا وبأن الكلام جملتان.
إذا علمت هذا فمثاله في الجملتين كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} وقوله: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ}.
وقد أشكل الإظهار هاهنا والإضمار في المثل قوله: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} وأجيب بأنه لما كان المراد في مدائن لوط إهلاك القرى صرح في الموضعين بذكر القرية التي يحل بها الهلاك كأنها اكتسبت الظلم معهم واستحقت الهلاك معهم إذ للبقاع تأثير في الطباع ولما كان المراد في قوم فرعون إهلاكهم بصفاتهم حيث كانوا ولم يهلك بلدهم أتى بالضمير العائد على ذواتهم من حيث هي من غير تعرض للمكان.
واعلم أنه متى طال الكلام حسن إيقاع الظاهر موضع المضمر كيلا يبقى الذهن متشاغلا بسبب ما يعود عليه اللفظ فيفوته ما شرع فيه كما إذا كان ذلك في ابتداء آية أخرى كقوله تعالى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ} الآية.
وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ}.
وقوله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ}.
وقوله: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ}.
القسم العاشر:
تجيء اللفظة الدالة على التكثير والمبالغة بصيغ من صيغ المبالغة.
كفعال وفعيل وفعلان فإنه أبلغ من فاعل ويجوز أن يعد هذا من أنواع الاختصار فإن أصله وضع لذلك فإن ضروبا ناب عن قولك ضارب وضارب وضارب ما جاء على فعلان
أما فعلان فهو أبلغ من فعيل ومن ثم قيل الرحمن أبلغ من الرحيم وإن كانت صيغة فعيل من جهة أن فعلان من أبنية المبالغة كغضبان للممتلئ غضبا ولهذا لا يحوز التسمية به وحكاه الزجاج في تأليفه المفرد على البسملة.
وأما قول الشاعر اليمامة:
* وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا *
فهو من كفرهم وتعنتهم كذا أجاب به الزمخشري.
ورده بعضهم بأن النعت لا يدفع وقوع إطلاقهم وغايته أنه ذكر السبب الحامل لهم على الإطلاق وإنما الجواب أنهم لم يستعملوا الرحمن المعرف بالألف واللام وإنما استعملوه مضافا ومنكرا وكلامنا إنما هو في المعرف باللام.
وأجاب ابن مالك بأن الشاعر أراد " لا زلت ذا رحمة " ولم يرد بالاسم المستعمل بالغلبة
ويدل على أن العرب كانت تعرف هذا الاسم قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وأما قوله: {وَمَا الرَّحْمَنُ} فقال ابن العربي: إنما جهلوا الصفة دون الموصوف ولذلك لم يقولوا "ومن الرحمن".
وذكر البرزاباذاني أنهم غلطوا في تفسير الرحمن حيث جعلوه بمعنى المتصف بالرحمة
قال: وإنما معناه الملك العظيم العادل لدليل: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} إذ الملك يستدعي العظمة والقدرة والرحمة لخلقه لا أنه يتوقف عليها {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} وإنما يصلح السجود لمن له العظمة والقدرة و{إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ} ولا يعاذ إلا بالعظيم القادر على الحفظ والذب{وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} أي: وما ينبغي للعظيم القادر على كل شيء المستغني عن معاونة الوالد وغيره أن يتخذ ولدا.
{الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ}
{قُلْ مَنْ يَكْلأُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} ولا يحتاج الناس إلى حافظ يحفظهم من ذي الرحمة الواسعة.
{إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً}.
{إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ}.
{وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ}.
{مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ}.
ولا مناسبة لمعنى الرحمة في شيء من هذه المواضع وأما "رحيم" فهو من صفات الذات كقولهم: "كريم" وما ذكرناه من أن الرحمن أبلغ ذهب إليه أبو عبيد والزمخشري وغيرهما وحكاه ابن عساكر في التكميل والإفهام عن الأكثرين.
وفي كلام ابن جرير ما يفهم حكاية الاتفاق عليه ونصره السهيلي بأنه ورد على لفظ التنبيه والتنبيه تضعيف وكأن البناء تضاعفت فيه الصفة.
وقال قطرب: المعنى فيهما واحد وإنما جمع بينهما في الآية للتوكيد.
وكذلك قال ابن فورك قال وليس قول من زعم أن رحيما أبلغ من رحمن يجيد إذ لا فرق بينهما في المبالغة ولو قيل فعلان اشد مبالغة كان أولى ولهذا خص بالله فلا يوصف به غيره ولذلك قال بعض التابعين: الرحمن اسم ممنوع وأراد به منع الخلق أن يتسموا به ولا وجه لهذا الكلام إلا التوكيد وإتباع الأول ما هو في معنى الثاني.
وقال ابن عباس: هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر.
وعن الخطابي استشكال هذا وقال لعله أرفق كما جاء في الحديث: "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله".
وقال ابن الأنباري في الزاهر: الرحيم أبلغ من الرحمن.
ورجحه ابن عساكر بوجوه منها أن الرحمن جاء متقدما على الرحيم ولو كان أبلغ لكان متأخرا عنه لأنهم في كلامهم إنما يخرجون من الأدنى إلى الأعلى فيقولون فقيه عالم وشجاع باسل وجواد فياض ولا يعكسون هذا لفساد المعنى لأنه لو تقدم الأبلغ لكان الثاني داخلا تحته فلم يكن لذكره معنى.
وهذا قدر ذكره الزمخشري وأجاب عنه بأنه من باب الإرداف وأنه أردف الرحمن الذي يتناول جلائل النعم وأصولها بالرحيم ليكون كالتتمة والرديف ليتناول مارق منها ولطف
وفيه ضعف لاسيما إذا قلنا: إن الرحمن علم لا صفة وهو قول الأعلم وابن مالك وأجاب الواحدي في البسيط بأنه لما كان الرحمن كالعلم إذ لا يوصف به إلا الله قدم لأن حكم الأعلام وغيرها من المعارف أن يبدأ بها ثم يتبع الأنكر وما كان التعريف انقص
قال: وهذا مذهب سيبويه وغيره من النحويين فجاء هذا على منهاج كلام العرب
وأجاب الجويني بأن الرحمن للخلق والرحيم لهم بالرزق والخلق قبل الزرق
ومنها: أن أسماء الله تعالى إنما يقصد بها المبالغة في حقه والنهاية في صفاته وأكثر صفاته سبحانه جارية على فعيل كرحيم وقدير وعليم وحكيم وحليم وكريم ولم يأت على فعلان إلا قليل ولو كان فعلان أبلغ لكان صفات الباري تعالى عليه أكثر.
قلت: وجواب هذا أن ورود فعلان بصيغة التكثير كان في عدم تكرار الوصف به بخلاف فعيل فإنه لما لم يرق في الكثرة رقته كثر في مجيء الوصف.
ومنها: أنه إن كانت المبالغة في فعلان من جهة موافقة لفظ التثنية كما زعم السهيلي ففعيل من أبنية جمع الكثرة كعبيد وكليب ولا شك أن الجمع أكثر من التثنية وهذا أحسنها
قال: وقول قطرب إنهما بمعنى واحد فاسد لأنه لو كان كذلك لتساويا في التقديم والتأخير وهو ممتنع.

[ البرهان في علوم القرآن ( 2 /445 ـ 506 )]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 12 ذو القعدة 1430هـ/30-10-2009م, 05:58 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي


تنبيهات:
الأول:
نقل عن الشيخ برهان الدين الرشيدي أن صفات الله التي هي صيغة المبالغة كغفار ورحيم وغفور ومنان كلها مجاز إذ هي موضوعة للمبالغة ولا مبالغة فيها لأن المبالغة هي أن تثبت للشيء أكثر مما له وصفات الله متناهية في الكمال لا يمكن المبالغة فيها والمبالغة أيضا تكون في صفات تقبل الزيادة والنقصان وصفات الله تعالى منزهة عن ذلك انتهى.
وذكر هذا للشيخ ابن الحسن السبكي فاستحسنه وقال: إنه صحيح إذا قلنا: إنها صفات
فإن قلنا: أعلام زال ذلك.
قلت: والتحقيق أن صيغ المبالغة على قسمين:
أحدهما: ما تحصل المبالغة فيه بحسب زيادة الفعل.
والثاني: بحسب تعدد المفعولات.
ولا شك أن تعددها لا يوجب للفعل زيادة إذ الفعل الواحد قد يقع على جماعة متعددين
وعلى هذا التقسيم يحب تنزيل جميع أسماء الله تعالى التي وردت على صيغة المبالغة كالرحمن والغفور والتواب ونحوها ولا يبقى إشكال حينئذ لهذا قال بعض المفسرين في حكم معنى المبالغة فيه تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع.
وقال الزمخشري في سورة الحجرات: المبالغة في التواب للدلالة على كثرة من يتوب إليه من عباده أو لأنه ما من ذنب يقترفه المقترف إلا كان معفوا عنه بالتوبة أو لأنه بليغ في قبول التوبة نزل صاحبها منزلة من لم يذنب قط لسعة كرمه.
وقد أورد بعض الفضلاء سؤالا في قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وهو أن قديرا من صيغ المبالغة يستلزم الزيادة على معنى قادر والزيادة على معنى قادر محال إذ الإتحاد من واحد لا يمكن فيه التفاضل باعتبار كل فرد فرد.
وأجيب عنه بأن المبالغة لما لم يقدر حملها على كل فرد وجب صرفها إلى مجموع الأفراد التي دل السياق عليها والمبالغة إذن بالنسبة إلى تكثير التعلق لا بالنسبة إلى تكثير الوصف.
وكذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يستحيل عود المبالغة إلى نفس الوصف إذ العلم بالشيء لا يصح التفاوت فيه فيجب صرف المبالغة فيه إلى المتعلق إما لعموم كل أفراده وإما لأن يكون المراد الشيء ولواحقه فيكون من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل.
الثاني:
سئل أبو علي الفارسي هل تدخل المبالغة في صفات الله تعالى فيقال: علامة؟ فأجاب بالمنع لأن الله تعالى ذم من نسب إليه الإناث لما فيه من النقص فلا يجوز إطلاق اللفظ المشعر بذلك
حكاه الجرجاني في شرح الإيضاح.
الثالث:
أنه لو جرد عن الألف واللام لم يصرف لزيادة الألف والنون في آخره مع العلمية أو الصفة
وأورد الزمخشري بأنه لا يمنع فعلان صفة من الصرف إلا إذا كان مؤنثه فَعْلى كغضبان وغضبى وما لم يكن مؤنثه فعلى ينصرف كندمان وندمانة وتبعه ابن عساكر بأن رحمن وإن لم يكن له مؤنث على فعلى فليس له مؤنث فعلانة لأنه اسم مختص بالله تعالى فلا مؤنث له من لفظه ف إذا عدم ذلك رجع فيه إلى القياس وكل ألف ونون زائدتان فهما محمولتان على منع الصرف.
قال الجويني: وهذا فيه ضعف في الظاهر وإن كان حسنا في الحقيقة لأنه إذا لم يشبه غضبان ولم يشبه ندمان من جهة التأنيث فلماذا ترك صرفه مع أن الأصل الصرف بل كان ينبغي أن يقال ليس هو كغضبان فلا يكون غير منصرف ولا يصح أن يقال ليس هو كندمان فلا يكون منصرفا لأن الصرف ليس بالشبه إنما هو بالأصل وعدم الصرف بالشبه ولم يوجد
قلت: والتقدير الذي نقلناه عن ابن عساكر يدفع هذا عن الزمخشري نعم أنكر ابن مالك على ابن الحاجب تمثيله بـ "الرحمن" لزيادة الألف والنون في منع الصرف وقال لم يمثل به غيره ولا ينبغي التمثيل به فإنه اسم علم بالغلبة لله مختص به وما كان كذلك لم يجرد من " ال " ولم يسمع مجردا إلا في النداء قليلا مثل: يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة.
قال وقد أُنْكِر على الشاطبي
*تبارك رحمانا رحيما وموئلا*
لأنه أراد الاسم المستعمل بالغلبة.
ولم يحضر الزمخشري هذا الجواب فذكر أنه من تعنتهم في كفرهم كما سبق.
ما جاء على فعيل.
وأما "فعيل" فعند النحاة أنه من صيغ المبالغة والتكرار كرحيم وسميع وقدير وخبير وحفيظ وحكيم وحليم وعليم فإنه محول عن "فاعل" بالنسبة وهو إنما يكون كذلك للفاعل لا للمفعول به بدليل قولهم قتيل وجريح والقتل لا يتفاوت.
وقد يجيء في معنى الجمع كقوله تعالى: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} وقوله: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} وقوله: {خَلَصُوا نَجِيّاً} وغير ذلك.
ومن المشكل: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} فإن النفي متوجه على الخبر وهو صيغة مبالغة ولا يلزم من نفي المبالغة نفي أصل الفعل فلا يلزم نفي أصل النسيان وهو كالسؤال الآتي في {ظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}.
ويجاب عنه بما سيأتي من الأجوبة ويختص هذا بجواب آخر وهو مناسبة رؤوس الآي قبله
ما جاء على فعّال.
وأما "فعال" فنحو غفار ومنان وتواب ووهاب {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} {عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} ونحو: {لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} ونحو: {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى}.
ومن المشكل قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} وتقريره: أنه لا يلزم من نفي الظلم بصيغة المبالغة نفي أصل الظلم والواقع نفيه قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}.
وقد أجيب عنه باثني عشر جوابا:
أحدهما : أن "ظلاما" وإن كان يراد به الكثرة لكنه جاء في مقابلة العبيد وهو جمع كثرة إذا قوبل بهم الظلم كان كثيرا.
ويرشح هذا الجواب أنه سبحانه وتعالى قال في موضع آخر: {عَلاَّ مُ الْغُيُوبِ} فقابل صيغة "فَعَّال" بالجمع وقال في موضع آخر: { عَالِمُ الْغَيْبِ} فقابل صيغة "فاعل" الدالة على أصل الفعل بالواحد وهذا قريب من الجواب عن قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} حيث احتج به المعتزلة على تفضيل الملائكة على الأنبياء
وجوابه أنه قابل عيسى بمفرده بمجموع الملائكة وليس النزاع في تفضيل الجمع على الواحد
الثاني: أنه نفى الظلم الكثير فينتفي القليل ضرورة لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة ظلمه في حق من يجوز عليه النفع كان الظلم القليل في المنفعة أكثر.
الثالث: أنه على النسب واختاره ابن مالك وحكاه في شرح الكافية عن المحققين أي: "ذا ظلم" كقوله: "وليس بنبال" أي: بذي نبل أي: لا ينسب إلي الظلم فيكون من باب بزاز وعطار.
الرابع: أن فعالا قد جاء غير مراد به الكثرة كقوله طرفة:

ولست بِحَلاَّلِ التَّلاع مخافةً
ولكن متى يَسْتَرْفِدِ القوم أَرْفِدِ

لا يريد أنه يحل التلاع قليلا لأن ذلك يدفعه قوله: "يسترفد القوم أرفد" هذا يدل على نفي الحال في كل حال لأن تمام المدح لا يحصل بإيراد الكثرة.
الخامس: أن أقل القليل لو ورد منه سبحانه وقد جل عنه لكان كثيرا لاستغنائه عنه كما يقال زلة العالم كبيرة.
ذكره الحريري في الدرة قال: وإليه أشار المخزومي في قوله:

كفوفة الظفر تخَفْىَ من حقارتها
ومثلها في سواد العين مشهور

السادس: أن نفي المجموع يصدق بنفي واحد ويصدق بنفي كل واحد ويعيَّن الثاني في الآية للدليل الخارجي وهو قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}.
السابع: أنه أراد ليس بظالم ليس بظالم ليس بظالم فجعل في مقابلة ذلك {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ}
الثامن: أنه جواب لمن قال ظلام والتكرار إذا ورد جوابا لكلام خاص لم يكن له مفهوم كما إذا خرج مخرج الغالب.
التاسع : أنه قال: "بظلام" لأنه قد يظن أن من يعذب غيره عذابا شديدا ظلام قبل الفحص عن جرم الذنب.
العاشر: أنه لما كان صفات الله تعالى صيغة المبالغة فيها وغير المبالغة سواء في الإثبات جرى النفي على ذلك.
الحادي عشر: أنه قصد التعريض بأن ثمة ظلاما للعبيد من ولاة الجور.
وأما "فُعَال" بالتخفيف والتشديد نحو عجاب وكبار قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} وقال : {وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً} قال المعري في "اللامع العزيزي": "فَعيل" إذا أريد به المبالغة نقل به إلى "فُعال" وإذا أريد به الزيادة شدوا فقال "فُعَّال" ذلك من عجيب وعُجَاب وعُجَّاب وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي.
{إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَّابٌ} بالتشديد وقالوا طَويل وطُوّال ويقال نسب قريب وقُراب وهو أبلغ قال الحارث بن ظالم:
وكنت إذا رأيت بني لُؤَي
عرفت الودَّ والنسب القُرابا
ما جاء على فَعُول.
وأما "فَعُول" كغفور وشكور وودود فمنه قوله تعالى: {إِنَّ الإِِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}.
وقوله تعالى في نوح: {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً}.
وقد أطربني قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} فقلت: الحمد لله الذي ما قال "الشاكر" فإن قيل: قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } كيف غاير بين الصفتين وجعل المبالغة من جانب الكفران؟
قلت: هذا سأله الصاحب بن عباد للقاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي فأجاب بأن نعم الله على عباده كثيرة وكل شكر يأتي في مقابلتها قليل وكل كفر يأتي في مقابلتها عظيم فجاء شكور بلفظ "فاعل" وجاء كفور "فَعول" على وجه المبالغة فتهلل وجه الصاحب.
ما جاء على فَعِل.
وأما "فَعِل" فقوله تعالى: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ}.
وقوله تعالى: {كَذَّابٌ أَشِرٌ} قرن "فَعِلا" بفَعَّال.
ما جاء على فَعُل.
وأما "فَعُل" فيكون صفة كقوله تعالى: {أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً} اللبد الكثير وقوله تعالى: {إِنَّهَا َلإِحْدَى الْكُبَرِ}.
ويكون مصدر كهُدى وتُقى ويكون معدولا عن "أَفْعَل" من كذا كقوله تعالى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} وقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} كما قال: {أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى}.
ما جاء على فُعْلى.
وأما فُعْلى فيكون اسما كالشورى والرجعى قال الله تعالى: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} وقال تعالى: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا}.
ويكون صفة كالحسنى في تأنيث الأحسن والسوأى في تأنيث الأسوأ قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ}.
قال الفارسي: يحتمل السوءى تأويلين:
أحدهما: أن يكون تأنيث "الأسوأ" والمعنى كان عاقبتهم لخلة السوءى فتكون السوءى على هذا خارجة من الصلة فتنصب على الموضع وموضع "أن" نصب فإنه مفعول له أي كان عاقبتهم الخصلة السوءى لتكذيبهم.
الثاني: أن يكون السوأى مصدرا مثل الرُجعَى وعلى هذا فهي داخلة في الصلة ومنتصبة بأساءوا كقوله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} ويكون {أَنْ كَذَّبُوا} نصبا لأنه خبر كان
ويجوز في إعراب {السُّوأَى} وجه ثالث وهو: أن يكون في موضع رفع صفة "العاقبة" وتقديرها: ثم كان عاقبتهم المذمومة التكذيب.
و"الفُعْلى" في هذا الباب وإن كانت في الأصل صفة بدليل قوله تعالى: {وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} وقوله تعالى: {فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى} فجرت صفة على موصوفها فإنها في كثير من الأمور تجري مجرى الأسماء كالأبطح والأجرع والأدهم.
[ البرهان في علوم القرآن (2 / 507 ـ 516 )]


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 12 ذو القعدة 1430هـ/30-10-2009م, 06:03 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي

المجلد الثالث
تابع النوع السادس والأربعون
...
القسم الحادي عشر: المثنى وإرادة الواحد .
كقوله تعالى: {يخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ونظيره قوله تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} وإنما تخرج الحلية من الملح وقد غلط في هذا المعنى أبو ذؤيب الهذلي حيث قال يذكر الدرة:
فجاء بها ما شئت من لطمية ... يدوم الفرات فوقها ويموج
والفرات لا يدوم فوقها وإنما يدوم الأجاج.
وقال أبو علي في قوله تعالى: {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} إن ظاهر اللفظ يقتضي أن يكون من مكة والطائف جميعا ولما لم يمكن أن يكون منهما دل المعنى على تقدير"رجل من إحدى القريتين".
وقوله تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} أي في إحداهن.
وقوله تعالى: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} والناسي كان يوشع بدليل قوله لموسى: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} ولكن أضيف النسيان لهما جميعا لسكوت موسى عنه.
وقوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} والتعجيل يكون في اليوم الثاني وقوله: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} قيل إنه من هذا أيضا وإن موضع الإثم والتعجيل يجعل المتأخر الذي لم يقصر مثل ما جعل للمقصر ويحتمل أن يراد:لا يقولن أحدهما لصاحبه أنت مقصر فيكون المعنى لا يؤثم أحدهما صاحبه.
وقوله تعالى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} وقوله تعالى: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ} أي أحدهما على أحد القولين.
وقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} فالجناح على الزوج لأنه أخذ ما أعطى قال أبو بكر الصيرفي: المعنى: فإن خيف من ذلك جازت الفدية وليس الشرط أن يجتمعا على عدم الإقامة.
وقوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} قيل هو خطاب للملك وقال المبرد: ثناه على"ألق"والمعنى: ألق ألق وكذلك القول في"قفا"وخالفه أبو إسحاق وقال بل هو مخاطبة للملكين.
وقال الفراء في قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قال: يخاطب الإنسان مخاطبه بالتثنية.
وجعل منه قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} وقوله تعالى: {جَنَّتَيْنِ} فقيل: جنة واحدة بدليل قوله تعالى آخر الآية: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} فأفرد بعد ما ثنى.
وقوله: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} فإنه ما ثنى هنا إلا للإشعار بأن لها وجهين وأنك إذا نظرت عن يمينك ويسارك رأيت في كلتا الناحيتين ما يملآ عينيك قرة وصدرك مسرة.
وقوله تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وإنما المتخذ إلها عيسى دون مريم فهو من باب"والنجوم الطوالع" قاله أبو الحسن وحكاه عنه ابن جني في كتاب "القد" وعليه حمل ابن جني وغيره قول امرئ القيس:
*قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل*
ويؤيده قوله بعده:
أصاح ترى برقا أريك وميضه
وقول الفرزدق:
عشية سال المربدان كلاهما ... سحابة موت بالسيوف الصوارم
وإنما هو مربد البصرة فقط.
وقوله: "ودار لها بالرقمتين".
وقوله: "ببطن المكتين".
وقول جرير:
لما مررت بالديرين ارقني ... صوت الدجاج وقرع بالنواقيس
قالوا: أراد "دير الوليد" فثناه باعتبار ما حوله.
القسم الثاني عشر. إطلاق الجمع وإرادة الواحد.
كقوله: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} إلى قوله: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} قال أبو بكر الصيرفي: فهذا خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده إذ لا نبي معه ولا بعده.
ومثله: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية وهذا مما لا شريك فيه والحكمة في التعبير بصيغة الجمع أنه لما كانت تصاريف أقضيته سبحانه وتعالى تجري على أيدي خلقه نزلت أفعالهم منزلة قبول القول بمورد الجمع.
وجعل منه ابن فارس قوله تعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} والرسول كان واحدا بدليل قوله تعالى: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ}.
وفيه نظر من جهة أنه يحتمل مخاطبة رئيسهم فإن العادة جارية لاسيما من الملوك ألا يرسلوا واحدا.
ومنه: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} وغير ذلك وقد تقدم في وجوه المخاطبات.
ومنه: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} والمراد جبريل.
وقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} والمراد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} والمراد بهم ابن مسعود الثقفي وإنما.
جاز إطلاق لفظ "الناس" على الواحد لأنه إذا قال الواحد قولا وله أتباع يقولون مثل قوله حسن إضافة ذلك الفعل إلى الكل قال الله تعالى: {إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} والقائل ذلك رءوسهم وقيل: المراد بالناس ركب من عبد القيس دسهم أبو سفيان إلى المسلمين وضمن لهم عليه جعلا قاله ابن عباس وابن إسحاق وغيرهما.
القسم الثالث عشر: إطلاق لفظ التثنية والمراد الجمع.
كقوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} فإنه وإن كان لفظه لفظ التثنية فهو جمع والمعنى "كرات" لأن البصر لا يحسر إلا بالجمع.
وجعل منه بعضهم قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}.
القسم الرابع عشر: التكرار على وجه التأكيد.
وهو مصدر كرر إذا ردد وأعاد هو "تَفْعال" بفتح التاء وليس بقياس بخلاف التفعيل.
وقال الكوفيون: هو مصدر "فَعَّل" والألف عوض من الياء في التفعيل والأول مذهب سيبويه.
وقد غلط من أنكر كونه من أساليب الفصاحة ظنا أنه لا فائدة له وليس كذلك بل هو من محاسنها لاسيما إذا تعلق بعضه ببعض وذلك أن عادة العرب في خطاباتها إذ أبهمت بشيء إرادة لتحقيقه وقرب وقوعه أو قصدت الدعاء عليه كررته توكيدا وكأنها تقيم تكراره مقام المقسم عليه أو الاجتهاد في الدعاء عليه حيث تقصد الدعاء وإنما نزل القرآن بلسانهم وكانت مخاطباته جارية فيما بين بعضهم وبعض وبهذا المسلك تستحكم الحجة عليهم في عجزهم عن المعارضة وعلى ذلك يحتمل ما ورد من تكرار المواعظ والوعد والوعيد لأن الإنسان مجبول من الطبائع المختلفة وكلها داعية إلى الشهوات ولا يقمع ذلك إلا تكرار المواعظ والقوارع قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} قال في "الكشاف" أي سهلناه للادكار والاتعاظ بأن نسجناه بالمواعظ الشافية وصرفنا فيه من الوعد والوعيد.
ثم تارة يكون التكرار مرتين كقوله: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}.
وقوله: {أََوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}.
وقوله: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ}.
وقوله: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ}.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}.
وقوله: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ}.
وفائدته العظمى التقرير وقد قيل الكلام إذا تكرر تقرر.
وقد أخبر الله سبحانه بالسبب الذي لأجله كرر الأقاصيص والأخبار في القرآن فقال: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
وقال: {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً}.
وحقيقته إعادة اللفظ أو مرادفه لتقرير معنى خشية تناسي الأول لطول العهد به.
فإن أعيد لا لتقرير المعنى السابق لم يكن منه كقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ}.
فأعاد قوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} قوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} لا لتقرير الأول بل لغرض آخر لأن معنى الأول الأمر بالإخبار أنه مأمور بالعبادة لله والإخلاص له فيها ومعنى الثاني أنه يخص الله وحده دون غيره بالعبادة والإخلاص ولذلك قدم المفعول على فعل العبادة في الثاني.
وأخر في الأول لأن الكلام أولا في الفعل وثانيا فيمن فعل لأجله الفعل.
واعلم أنه إنما يحسن سؤال الحكمة عن التكرار إذا خرج عن الأصل أما إذا وافق الأصل فلا ولهذا لا يتجه سؤالهم لم كرر "إياك" في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
فقيل إنما كررت للتأكيد كما تقول "بين زبد وبين عمرو مال".
وقيل إنما كررت لارتفاع أن يتوهم إذا حذفت أن مفعول "نستعين" ضمير متصل واقع بعد الفعل فتفوت إذ ذاك الدلالة على المعنى المقصود بتقديم المعمول على عامله.
والتحقيق أن السؤال غير متجه لأن هنا عاملين متغايرين كل منهما يقتضي معمولا فإذا ذكر معمول كل واحد منهما بعده فقد جاء الكلام على أصله والحذف خلاف الأصل فلا وجه للسؤال عن سبب ذكر ما الأصل ذكره ولا حاجة إلى تكلف الجواب عنه وقس بذلك نظائره.
فوائد التكرير.
وله فوائد:.
أحدها: التأكيد،واعلم أن التكرير أبلغ من التأكيد لأنه وقع في تكرار التأسيس وهو أبلغ من التأكيد فإن التأكيد يقرر إرادة معنى الأول وعدم التجوز فلهذا قال الزمخشري في قوله تعالى: {كَلاَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} إن الثانية تأسيس لا تأكيد لأنه جعل الثانية أبلغ في الإنشاء فقال: وفي {ثُمَّ} تنبيه على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول.
وكذا قوله: {مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} وقوله: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} يحتمل أن يكون منه وأن يكون من المتماثلين.
والحاصل أنه:هل هو إنذار تأكيد أو إنذاران؟ إن قلت":سوف تعلم ثم سوف تعلم "كان أجود منه بغير عطف لتجريه على غالب استعمال التأكيد ولعدم احتماله لتعدد المخبر به.
وأطلق بدر الدين بن مالك في شرح" الخلاصة "أن الجملة التأكيدية قد توصل بعاطف ولم تختص بثم وإن كان ظاهر كلام والده التخصيص وليس كذلك فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} فإن المأمور فيهما واحد كما قاله النحاس والزمخشري والإمام فخر الدين والشيخ عز الدين ورجحوا ذلك على احتمال أن تكون" التقوى "الأولى مصروفة لشيء غير" التقوى "الثانية مع شأن إرادته.
وقولهم:إنه تأكيد فمرادهم تأكيد المأمور به بتكرير الإنشاء لا أنه تأكيد لفظي ولو كان تأكيدا لفظيا لما فصل بالعطف ولما فصل بينه وبين غيره: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ}.
فإن قلت:"اتقوا" الثانية معطوفة على "ولتنظر".
أجيب بأنهم قد اتفقوا على أن: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} قولوا للناس حسنا معطوف على: {لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} لا على قوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وهو نظير ما نحن فيه.
وقوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} وقوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} ويحتمل أن يكون "اصطفاءين" و"ذكرين" وهو الأقرب في الذكر لأنه محل طلب فيه تكرار الذكر.
وكقوله تعالى حكاية عن موسى: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} كرر "أولئك".
وكذلك قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وكذا قوله: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي} إلى قوله: {مِنَ الْمُصْلِحِينَ} كررت "أن" في أربع مواضيع تأكيدا.
وقوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}.
الثاني: زيادة التنبيه على ما ينفى التهمة ليكمل تلقي الكلام بالقبول ومنه قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} فإنه كرر فيه النداء لذلك.
الثالث: إذا طال الكلام وخشى تناسى الأول أعيد ثانيا تطرية له وتجديدا لعهده كقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وقوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} الآية.
وقوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ثم قال: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} فهذا تكرار للأول ألا ترى أن لما لا تجيء بالفاء!.
ومثله: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} ثم قال: {فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ}.
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} ثم قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا}.
ومنه قوله: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}.
وقوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} فقوله: {أَنَّكُمْ} الثاني بناء على الأول إذ كارا به خشية تناسيه.
وقوله: {وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}.
وكذلك قوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} إلى قوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.
بغير {إِنَّا} وفي غيره من مواضع ذكر {إِنَّا كَذَلِكَ} لأنه يبنى على ما سبقه في هذه القصة من قوله {إِنَّا كَذَلِكَ} فكأنه طرح فيما اكتفى بذكره أولا عن ذكره ثانيا ولأن التأكيد بالنسبة فاعتبر اللفظ من حيث هو دون توكيده.
ويحتمل أن يكون من باب الاكتفاء وهذا أسلوب غريب وقل في القرآن وجوده وأكثر ما يكون عند تقدم مقتضيات الألفاظ كالمبتدأ وحروف الشرطين الواقعين في الماضي والمضارع ويستغنى عنه عند أمر محذور التناسي.
وقد يرد منه شيء يكون بناؤه بطريق الإجمال والتفصيل بأن تتقدم التفاصيل والجزئيات في القرآن فإذا خشى عليها التناسي لطول العهد بها بنى على ما سبق بها بالذكر الجملي كقوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ} إلى قوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} فقوله "فبظلم" بيان لذكر الجملي على ما سبق في القول من التفصيل وذلك أن الظلم جملى على ما سبق من التفاصيل من النقض والكفر وقتل الانبياء {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} والقول على مريم بالبهتان ودعوى قتل المسيح عليه السلام إلى ما تخلل ذلك من أسلوب الاعتراض بها موضعين وهما قوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} وقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} إلى قوله: {شَهِيداً} وأنه لما ذكر بالبناء جملى الظلم من قوله "فبظلم" لأنه يعم على كل ما تقدم وينطوى عليه ذكر حينئد متعلق الجملى من قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} عقب الباء لأن العامل في الأصل حقه أن بلى معموله فقال: {فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا} هو متعلق بقوله: {فَبِظُلْمٍ} وقد اشتمل الظلم على كل ما تقدم قبله كما أنه أيضا اشتمل على كل ما تأخر من المحرمات الآخر التي عددت بعد ما اشتملت على ذكر الشيء بالعموم والخصوص فذكرت الجزئيات الأولى بخصوص كل واحد ثم ذكر العام المنطوي عليها فهذا تعميم بعد تخصيص ثم ذكرت جزئيات آخر بخصوصها فتركيب الأساليب من وجوه كثيرة في الآية وهو التعميم بعد التخصيص ثم التخصيص بعد التعميم ثم البناء بعد الاعتراض.
ومنه قوله تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} إلى قوله: {عَذَاباً أَلِيماً} فقوله: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} هو المقتضى الاول المتقدم وقوله: {لَوْ تَزَيَّلُوا} هو المقتضى الثاني وهو البناء لأنه المذكر بالمقتضى الأول الذي هو "لولا" خشية تناسيه فهو مبنى على الأول ثم أورد مقتضاها من الجواب بقوله: {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} ورودا واحدا من حيث أخذا معا كأنهما مقتضى منفرد من حيث هما واحد بالنوع وهو الشرط الماضي فقوله: {لَوْ تَزَيَّلُوا} بناء على قوله: {وَلَوْلا رِجَالٌ} نظر في المضارعة وأما قوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} فيجوز أن يكون تكريرا ويجوز أن يكون الكلام عند قوله: {وَأَصْلَحُوا} ويكون الثاني بيانا لمجمل لا تكريرا.
وقد جعل ابن المنير من هذا القسم قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} ثم قال: {مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً}.
وقوله: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} ثم قال: {لَوْ تَزَيَّلُوا} ونازعه العراق لأن المعاد فيهما أخص من الأول وهذا يجيء في كثير مما ذكرنا ولا بد أن يكون وراء التكرير شيء أخص منه كما بينا.
الرابع: في مقام التعظيم والتهويل كقوله تعالى: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ} {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ِ}.
وقوله: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ}.
وقوله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}.
وقوله: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}.
الخامس: في مقام الوعيد والتهديد كقوله تعالى: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وذكر "ثم" في المكرر دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول وفيه تنبيه على تكرر ذلك مرة بعد أخرى وإن تعاقبت عليه الأزمنة لا يتطرق إليه تغيير بل هو مستمر دائما.
السادس: التعجب كقوله تعالى: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} فأعيد تعجبا من تقديره وإصابته الغرض على حد قاتله الله ما أشجعه!.
السابع: لتعدد المتعلق كما في قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} فإنها وأن تعددت فكل واحد منها متعلق بما قبله وإن الله تعالى خاطب بها الثقلين من الإنس والجن وعدد عليهم نعمه التي خلقها لهم فكلما ذكر فصلا من فصول النعم طلب إقرارهم واقتضاهم الشكر عليه وهي أنواع مختلفة وصور شتى.
فإن قيل فإذا كان المعنى في تكريرها عد النعم واقتضاء الشكر عليها فما معنى قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ} وأي نعمة هنا! وإنما هو وعيد.
قيل: إن نعم الله فيما أنذر به وحذر من عقوباته على معاصيه ليحذروها فيرتدعوا عنها نظير أنعمه على ما وعده وبشر من ثوابه على طاعته ليرغبوا فيها ويحرصوا عليها وإنما تتحقق معرفة الشيء بأن تعتبره بضده والوعد والوعيد وإن تقابلا في ذواتهما فإنهما متقاربان في موضع النعم بالتوقيت على ملاك الأمر منها وعليه قول بعض حكماء الشعراء:
والحادثات وإن أصابك بؤسها فهو الذي أنباك كيف نعيمها
وإنما ذكرنا هذا لتعلم الحكمة في كونها زادت على ثلاثة ولو كان عائدا لشيء واحد لما زاد على ثلاثة لأن التأكيد لا يقع به أكثر من ثلاثة.
فإن قيل: فإذا كان المراد بكل ما قبله فليس ذلك بإطناب بل هي ألفاظ أريد بها غير ما أريد بالآخر.
قلت: إن قلنا: العبرة بعموم اللفظ فكل واحد أريد به غير ما أريد بالآخر.
وقد تكلف لتوجيه العدة التي جاءت عليها هذه الآية مكررة قال الكرماني جاءت آية واحدة في هذه السورة كررت نيفا وثلاثين مرة لأن ست عشرة راجعة إلى الجنان لأن لها ثمانية أبواب وأربعة عشر منها راجعة إلى النعم والنقم فأعظم النقم جهنم ولها سبعة أبواب وجاءت سبعة في مقابلة تلك الأبواب وسبعة عقب كل نعمة ذكرها للثقلين.
وقال غيره: نبه في سبع منها على ما خلقه الله للعباد من نعم الدنيا المختلفة على عدة أمهات النعم وأفرد سبعا منها للتخويف وإنذارا على عدة أبواب المخوف منه وفصل بين الأول والسبع الثواني بواحدة سوى فيها بين الخلق كلهم فيما كتبه عليهم من الفناء حيث اتصلت بقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} فكانت خمس عشرة أتبعت بثمانية في وصف الجنان وأهلها على عدة أبوابها ثم بثمانية أخر في وصف الجنتين اللتين من دون الأوليين لذلك ايضا فاستكملت إحدى وثلاثين.
ومن هذا النوع قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} في سورة المراسلات عشر مرات لأنه سبحانه ذكر قصصا مختلفة وأتبع كل قصة بهذا القول فصار كأنه قال عقب كل قصة ويل للمكذبين بهذه القصة وكل قصة مخالفة لصحابتها فأثبت الويل لمن كذب بها.
ويحتمل أنه لما كان جزاء الحسنة بعشر أمثالها وجعل للكفار في مقابلة كل مثل من الثواب ويل ومنها في سورة الشعراء قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} في ثمانية مواضع لأجل الوعظ فإنه قد يتأثر بالتكرار من لا يتأثر بالمرة الواحد.
وأما قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} فذلك لظهور آيات الأنبياء عليهم السلام والعجب من تخلف من لا يتأملها مع ظهورها.
وأما مناسبة قوله :{الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} فإنه تعالى نفى الإيمان عن الأكثر، فدل بالمفهوم على إيمان الأقل فكانت العزة على من لم يؤمن والرحمة لمن آمن وهما مرتبتان كترتيب الفريقين. ويحتمل أن يكون من هذا النوع قوله تعالى :{كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} الآية، لأن علمهم يقع أولا وثانيا على نوعين مختلفين بحسب المقام وهذا أقرب للحقيقة الوضعية وحال المعبر عنه فإن المعاملات الإلهية للطائع والعاصي متغيرة الأنواع الدنيوية البرزخية ثم الحشرية كما أن أحوال الاستقرار بعد الجميع في الغايقة بل كل مقام من هذه أنواع مختلفة وفي [ثم] دلالة على الترقي إن لم يجعل الزمان مرتبا في الإنذار على التكرار وفي المنذر به على التنويع.
ومنه تكرار :{فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} قال الزمخشري: كرر ليجدوا عند سماع كل نبإ منها اتعاظا وتنبيها وأن كلا من تلك الانباء مستحق باعتبار يختص به وأن يتنبهوا كيلا يغلبهم السرور والغفلة ومنه قوله تعالى قل يأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون إلى آخرها.
يحكى أن بعض الزنادقة سأل الحسن بن علي رضي الله عنه عن هذه الآية فقال: إني أجد في القرآن تكرارا وذكر له ذلك فأجابه الحسن بما حاصله: إن الكفار قالوا: نعبد إلهك شهرا ونعبك آلهتنا شهرا فجاء النفي متوجها إلى ذلك والمقصود أن هذه ليست من التكرار في شيء بل هي بالحذف والاختصار أليق وذلك لأن قوله :{لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} ، أي لا أعبد في المستقبل ما تعبدون في المستقبل وقوله :{وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} ،أي ولا أنا عابد في الحال ما عبدتم في المستقبل {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ} في الحال ما أعبد في المستقبل.
والحاصل أن القصد نفى عبادته لآلهتهم في الآزمنة الثلاثة الحال والماضي والاستقبال والمذكور في الآية النفي في الحال والاستقبال وحذف الماضي من جهته ومن جهتهم ولا بد من نفيه لكنه حذف لدلالة الأولين عليه.
وفيه تقدير آخر وهو أن الجملة الأولى فعلية والثانية أسمية وقولك: لا أفعله، ولا أنا فاعله، أحسن من قولك لا أفعله، ولا أفعله. فالجملة الفعلية نفي لإمكانه والاسمية لانصافه كما في قوله تعالى :{وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ}.{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}. والمعنى أنه تبرأ من فعله ومن الاتصاف به وهو أبلغ في النفي وأما المشركون فلم ينتف عنهم الا بصيغة واحدة، وهي قوله :{وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} في الموضعين.
وفرق آخر وهو أنه قال في نفيه الجملة الاسمية :{وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} وقال في النفي عنهم :{وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} عائد في حقه بين الجملتين وقال لا أعبد ما تعبدون بالمضارع وفي الثاني :{وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} بالماضي فإن المضارع يدل على الدوام بخلاف الماضي فأفاد ذلك أن ما عبدتموه ولو مرة ما أنا عابد له البتة ففيه كمال.
براءته ودوامها مما عبدوه ولو مرة بخلاف قوله :{لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} فإن النفي من جنس الاثبات وكلاهما مضارع يظهران جملة ومنفردا.
ومنه تكرير الأمر بالتوجه إلى البيت الحرام في ثلاث آيات من سورة البقرة1 لن المنكرين لتحويل القبلة كانوا ثلاثة أصناف من الناس اليهود لأنهم لا يقولون بالنسخ في أصل مذهبهم وأهل النفاق أشد إنكارا له لأنه كان أول نسخ نزل وكفارة قريش قالوا ندم محمد على فراق ديننا فيرجع إليه كما رجع إلى قبلتناوكانوا قبل ذلك يحتجون عليه فيقولون يزعم محمد أنه يدعونا إلى ملة إبراهيم وإسماعيل وقد فارق قبلتهما وآثر عليها قبلة اليهود وقال الله تعالى حين أمره بالصلاة إلى الكعبة :{لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} والاستثناء منقطع، أي لكن الذين ظلموا منهم لا يرجعون ولا يهتدون. وقال سبحانه :{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي الذين أشركوا فلا تمتر في ذلك وقال تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ، أي يكتمون ما علموا أن الكعبة هي قبلة الأنبياء.
ومنه قوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ. وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ}.
وقال صاحب [الينبوع]:لم يبلغني عن المفسرين فيه شيء.
وقال المفسرون في غريب القرآن: هما في المعنى كالآيتين المتقدمتين فكرر للتأكيد وتشديد الوعيد.
ويحتمل أن يكون [الحين] في الأوليين يوم بدر، و[الحين] في هاتين يوم فتح مكة.
ومن فوائد قوله تعال في الأوليين :{ وَأَبْصِرْهُمْ } وفي هاتين { وَأَبْصِرْ } أن الأولى بنزول العذاب بهم يوم بدر قتلا وأسرا وهزيمة ورعبا فما تضمنت التشفي بهم قيل له :{وَأَبْصِرْهُمْ} ،وأما يوم الفتح فإنه اقترن بالظهور عليهم الإنعام بتأمينهم والهداية إلى إيمانهم فلم يكن وفقا للتشفي بهم بل كان في استسلامهم وإسلامهم لعينه قرة ولقلبه مسرة فقيل له :{ أَبْصِرْ }.
ويحتمل على هذا إن شاء الله أن يكون من فوائد قوله تعالى في هذه :{فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} أي يبصرون منك عليهم بالأمان ومننا عليهم بالإيمان.
ومنه قوله تعالى :{لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}.
وللتكرار [هنا] فائدتان:.
إحداهما: أن التحريم قد يكون في الطرفين ولكن يكون المانع من إحداهما كما لو ارتدت الزوجية قبل الدخول يحرم النكاح من الطرفين والمانع من جهتهما فذكر الله سبحانه الثانية ليدل على أن التحريم كما هو ثابت في الطرفين كذلك المانع منهما.
والثانية: أن الأولى دلت على ثبوت التحريم في الماضي ولهذا أتى فيها بالاسم الدال على الثبوت والثانية في المستقبل ولهذا أتى فيها بالفعل المستقبل.
ومنه تكرار الإضراب.
واعلم أن بل إذا ذكرت بعد كلام موجب فمعناها الإضراب.
وهو أما أن يقع في كلام الخلق ومعناه إبطال ما سبق على طريق الغلط من المتكلم أو أن الثاني أولى.
وإما أن يقع في كلام الله تعالى وهو ضربان:.
أحدهما: أن يكون ما فيها من الرد راجعا إلى العباد كقوله تعالى :{قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ}.
والثاني: أن يكون إبطالا ولكنه على أنه قد انقضى وقته وأن الذي بعده أولى بالذكر كقوله تعالى :{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ}.{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ}.
وزعم ابن مالك في شرح [الكافية ] أن [بل] حيث وقعت في القرآن فإنها للاستئناف لغرض آخر لإبطال وهو مردود بما سبق وبقوله :{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} ،فأضرب بها عن قولهم، وأبطل كذبهم.
وقوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} أضرب بها عن حقيقة إتيانهم الذكور وترك الازواج.
ومنه قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}، .
فالأول للمطلقين والثاني للشهود، نحو: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} ،أولها للأزواج وآخرها للأولياء .
ومنه تكرار الأمثال، كقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ}.
وكذلك ضرب مثل المنافقين أول البقرة ثناه الله تعالى.
قال الزمخشري:" والثاني أبلغ من الأول لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته"، قال:" ولذلك أخر وهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ".
ومنه تكرار القصص في القرآن كقصة إبليس في السجود لآدم وقصة موسى وغيره من الأنبياء، قال بعضهم: ذكر الله موسى في مائة وعشرين موضعا من كتابه، قال ابن العربي في القواصم:" ذكر الله قصة نوح في خمسة وعشرين آية، وقصة موسى في سبعين آية". انتهى.
وإنما كررها لفائدة خلت عنه في الموضع الآخر وهي أمور:
أحدها: أنه إذا كرر القصة زاد فيها شيئا ألا ترى أنه ذكر الحية1 في عصا موسى عليه السلام وذكرها في موضع آخر ثعبانا ففائدته أن ليس كل حية ثعبانا وهذه عادة البلغاء أن يكرر أحدهم في آخر خطبته أو قصيدته كلمة لصفة زائدة.
الثانية: أن الرجل كان يسمع القصة من القرآن ثم يعود إلى أهله ثم يهاجر بعده آخرون يحكمون عنه ما نزل بعد صدور الاولين وكان أكثر من آمن به مهاجريا فلولا تكرر القصة لوقعت قصة موسى إلى قوم وقصة عيسى إلى آخرين وكذلك سائر القصص فأراد الله سبحانه وتعالى اشتراك الجميع فيها فيكون فيه إفادة القوم وزيادة [تأكيد وتبصرة]، لآخرين وهم الحاضرون وعبر عن هذا ابن الجوزي وغيره.
الثالثة: تسليته لقلب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما اتفق للأنبياء مثله مع أممهم قال تعالى : {وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}.
الرابعة: أن إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة وأساليب مختلفة لا يخفى ما فيه من الفصاحة.
الخامسة: أن الدواعي لا تتوفر على نقلها كتوفرها على نقل الاحكام فلهذا كررت القصص دون الأحكام.
السادسة: أن الله تعالى أنزل هذا القرآن وعجز القوم عن الإتيان بمثل آية لصحة نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم بين وأوضح الأمر في عجزهم بأن كرر ذكر القصة في مواضع إعلاما بأنهم عاجزون عن الإتيان بمثله بأي نظم جاءوا بأي عبارة عبروا، قال ابن فارس:" وهذا هو الصحيح".
السابعة: أنه لما سخر العرب بالقرآن قال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} وقال في موضع آخر: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ} ،فلو ذكر قصة آدم مثلا في موضع واحد واكتفى بها لقال العربي بما قال الله تعالى:{ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ}إيتونا أنتم بسورة من مثله فأنزلها سبحانه في تعداد السور دفعا لحجتهم من كل وجه.
الثامنة: أن القصة الواحدة من هذه القصص كقصة موسى مع فرعون وإن ظن أنها لا تغاير الأخرى فقد يوجد في ألفاظها زيادة ونقصان وتقديم وتأخير وتلك حال المعاني الواقعة بحسب تلك الألفاظ فأن كل واحدة لا بد وأن تخالف نظيرتها من نوع معنى زائد فيه لا يوقف عليه إلا منها دون غيرها فكأن الله تعالى فرق ذكر ما دار بينهما وجعله أجزاء ثم قسم تلك الاجزاء على تارات التكرار لتوجد متفرقة فيها ولو جمعت تلك القصص في موضع واحد لأشبهت ما وجد الأمر عليه من الكتب المتقدمة من انفراد كل قصة منها بموضع كما وقع في القرآن بالنسبة ليوسف عليه السلام خاصة فاجتمعت في هذه الخاصية من نظم القرآن عدة معان عجيبة:.
منها: أن التكرار فيها مع سائر الألفاظ لم يوقع في اللفظ هجنة ولا أحدث مللا فباين بذلك كلام المخلوقين.
ومنها: أنه ألبسها زيادة ونقصانا وتقديما وتأخيرا ليخرج بذلك الكلام أن.
تكون ألفاظه واحدة بأعيانها فيكون شيئا معادا فنزهه عن ذلك بهذه التغييرات.
ومنها: أن المعاني التي اشتملت عليها القصة الواحدة من هذه القصص صارت متفرقة في تارات التكرير فيجد البليغ - لما فيها من التغيير- ميلا إلى سماعها لما جبلت عليه النفوس من حب التنقل في الأشياء المتجددة التي لكل منها حصة من الالتذاذ به مستأنفة.
ومنها: ظهور الأمر العجيب في أخراج صور متباينة في النظم بمعنى واحد وقد كان المشركون في عصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعجبون من اتساع الأمر في تكرير هذه القصص والأنباء مع تغاير أنواع النظم وبيان وجوه التأليف فعرفهم الله سبحانه أن الأمر بما يتعجبون منه مردود إلى قدرة من لا يلحقه نهاية ولا يقع على كلامه عدد، لقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } وكقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ} الآية.
وقال القفال في تفسيره: ذكر الله في أقاصيص بني اسرئيل وجوها من المقاصد:.
أحدها: الدلالة على صحة نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه أخبر عنها من غير تعلم وذلك لا يمكن إلا بالوحي.
الثاني: تعديد النعم على بني إسرائيل وما من الله على أسلافهم من الكرامة والفضل كالنجاة من آل فرعون وفرق البحر لهم وما أنزل عليه في التيه من المن والسلوى وتفجر الحجر وتظليل الغمام.
الثالث إخبار الله نبيه بتقديم كفرهم وخلافهم وشقاوتهم وتعنتهم على الأنبياء فكأنه تعالى يقول إذا كانت هذه معاملتهم مع نبيهم الذي أعزهم الله به وأنقذهم من العذاب بسببه فغير بدع ما يعامله أخلافهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الرابع تحذير أهل الكتاب الموجودين في زمن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نزول العذاب بهم كما نزل بأسلافهم
وهنا سؤالان
أحدهما ما الحكمة في عدم تكرر قصة يوسف عليه السلام وسوقها مساقا واحدا في موضع واحد دون غيرها من القصص
والجواب من وجوه
الأول فيها من تشبيب النسوة به وتضمن الإخبار عن حال امرأة ونسوة افتتن بأبدع الناس جمالا وأرفعهم مثالا فناسب عدم تكرارها لما فيها من الإعضاء والستر عن ذلك وقد صحح الحاكم في مستدركه حديثا مرفوعا النهي عن تعليم النساء سورة يوسف
الثاني أنها اختصت بحصول الفرج بعد الشدة بخلاف غيرها من القصص فإن مآلها إلى الوبال كقصة إبليس وقوم نوح وقوم هود وقوم صالح وغيرهم فلما اختصت هذه القصة في سائر القصص بذلك اتفقت الدواعي على نقلها لخروجها عن سمت القصص
الثالث قاله الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني إنما كرر الله قصص الأنبياء وساق قصة يوسف مساقا واحدا إشارة إلى عجز العرب كأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهم
إن كان من تلقاء نفسي تصديره على الفصاحة فافعلوا في قصة يوسف ما فعلت في قصص سائر الأنبيا.
السؤال الثاني : أنه سبحانه وتعالى ذكر قصة قوم نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وموسى في سورة الأعراف وهود والشعراء ولم يذكر معهم قصة إبراهيم وإنما ذكرها في سورة الأنبياء ومريم والعنكبوت والصافات.
والسر في ذلك أن تلك السور الأول ذكر الله فيها نصر رسله بإهلاك قومهم ونجاء الرسل وأتباعهم وهذه السور لم يقتصر فيها على ذكر من أهلك من الأمم بل كان المقصود ذكر الأنبياء وإن لم يذكر قومهم ولهذا سميت سورة الأنبياء فذكر فيها إكرامه للأنبياء وبدأ بقصة إبراهيم إذ كان المقصود ذكر كرامته الأنبياء قبل محمد وإبراهيم أكرمهم على الله وهو خير البرية وهو أب أكثرهم وليس هو أب نوح ولوط لكن لوط من أتباعه وأيوب من ذريته بدليل قوله تعالى في سورةالأنعام: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ}.
وأما سورة العنكبوت فإنه سبحانه وتعالى ذكر فيها امتحانه للمؤمنين نصره لهم وحاجتهم إلى الجهاد وذكر فيها حسن العاقبة لمن صبر وعاقبة من كذب الرسل فذكر قصة إبراهيم لأنها من النمط الأول.
وكذلك في سورة الصافات قال فيها: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ. فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} ،وهذا يقتضي أنها عاقبة رديئة، إما بكونهم غلبوا وذلوا وإما بكونهم أهلكوا ولهذا ذكر قصة إلياس دون غيرها ولم يذكر إهلاك قومه بل قال: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}.
وقد روى أن الله رفع إلياس وهذا يقتضي عذابهم في الآخرة فإن إلياس لم يقم بينهم وإلياس المعروف بعد موسى من بني إسرائيل وبعد موسى لم يهلك المكذبين بعذاب الاستئصال وبعد نوح لم يهلك جميع النوع وقد بعث الله في كل أمة نذيرا والله سبحانه لم يذكر عن قوم إبراهيم أنهم أهلكوا كما ذكر ذلك عن غيرهم بل ذكر أنهم ألقوه في النار فجعلها بردا وسلاما وفي هذا ظهور برهانه وآياته حيث أذلهم ونصره {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ} وهذا من جنس المجاهد [الذي يعرض عدوه والقصص الأول من جنس المجاهد الذي] قتل عدوه، وإبراهيم بعد هذا لم يقم بينهم بل هاجر وتركهم وأولئك الرسل لم يزالوا مقيمين بين أظهرهم حتى هلكوا ولم يوجد في حق إبراهيم سبب الهلاك وهو إقامته فيهم وانتظار العذاب النازل وهكذا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع قومه لم يقم فيهم بل خرج عنهم حتى أظهره الله عليهم بعد ذلك ومحمد وإبراهيم أفصل الرسل فإنهم إذا علموا حصل المقصود وقد يتوب منهم من تاب كما جرى لقوم يونس فهذا والله أعلم هو السر في أنه سبحانه لم يذكر قصة إبراهيم مع هؤلاء لأنها ليست من جنس واقعتهم.
فإن قيل: فما وجه الخصوصية بمحمد وإبراهيم بذلك؟.
فالجواب: أما حالة إبراهيم فكانت إلى الرحمة أميل فلم يسع في هلاك قومه لا بالدعاء ولا بالمقام ودوام إقامة الحجة عليهم وقد قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} ،وكان كل قوم يطلبون هلاك نبيهم فعوقبوا وقوم إبراهيم وإن أوصلوه إلى العذاب لكن جعله الله عليه بردا وسلاما
ولم يفعلوا بعد ذلك ما يستحقون به العذاب إذ الدنيا ليس دار الجزاء العام وإنما فيها من الجزاء ما تحصل به الحكمة والمصلحة كما في العقوبات الشرعية فمن أرادوا عداوة أحد من أتباع الأنبياء ليهلكوه فعصمه الله وجعل صورة الهلاك نعمة في حقه ولم يهلك أعداءه بل أخزاهم ونصره فهو أشبه بإبراهيم عليه السلام إذ عصمه الله من كيدهم وأظهره حتى صارت الحرب بينهم وبينه سجالا ثم كانت له العاقبة فهو أشبه بحال محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن محمدا سيد الجميع وهو خليل الله كما أن إبراهيم عليه السلام خليله والخليلان هما أفضل الجميع وفي طريقهما من الرأفة والرحمة ما ليس في طريق غيرهما ولم يذكر الله عن قوم إبراهيم ذنبا غير الشرك وكذلك عن قوم نوح وأما عاد فذكر عنهم التجبر وعمارة الدنيا وقوم صالح ذكر عنهم الاشتغال بالدنيا عن الأنبياء وأهل مدين الظلم في الاموال مع الشرك وقوم لوط استحلال الفاحشة ولم يذكر أنهم أقروا بالتوحيد بخلاف سائر الامم وهذا يدل على أنهم لم يكونوا مشركين وإنما كان دينهم استحلال الفاحشة وتوابع ذلك، وكانت عقوبتهم أشد.
وهذه الأمور تدل على حكمة الرب وعقوبته لكل قوم بما يناسبهم ولما لم يكن في قوم نوح خير يرجى غرق الجميع. والله المستعان.
فتأمل هذا الفصل وعظم فوائده وتدبر حكمته فإنه سر عظيم من أسرار القرآن العظيم كقوله تعالى: { أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} ، فأعاد ذكر الأنهار مع كل صنف، وكان يكفي أن يقال فيها: أنهار من ماء، ومن لبن، ومن خمر، ومن عسل. لكن لما كانت الأنهار من الماء حقيقة وفيما عدا الماء مجازا للتشبيه فلو اقتصر على ذكرها مع الماء وعطف الباقي عليه لجمع بين الحقيقة والمجاز.
فإن قلت: فهلا أفرد ذكر الماء وجمع الباقي صيغة واحدة ؟قيل: لو فعل ذلك لجمع بين محامل من المجاز مختلفة في صيغة واحدة وهو قريب في المنع من الذي قبله.
فائدة في صنيعهم عند استثقال تكرار اللفظ.
قد يستثقلون تكرار اللفظ فيعدلون لمعناه، كقوله تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} فإنه لما أعيد اللفظ غير فعّل إلى أفعل فلما ثلث ترك اللفظ أصلا، فقال: "رويدا".
وقوله تعالى: { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً}ثم قال:{إِمْرًا}.
قال الكسائي:" معناه شيئا منكرا كثير الدهاء من جهة الإنكار، من قولهم: أمر القوم إذا كثروا".
قال الفارسي:" وأنا أستحسن قوله هذا ".
وقوله تعالى: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ} ، قال الفارسي:" { وَرَاءَكُمْ } في موضع فعل الأمر أي تأخروا والمعنى ارجعوا تأخروا فهو تأكيد وليست ظرفا لأن الظروف لا يؤكد بها".
وإذا تكرر اللفظ بمرادفة جازت الإضافة كقوله تعالى: {عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} والقصد المبالغة أي عذاب مضاعف وبالعطف كقوله تعالى :{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} وقوله :{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا}.
القسم الخامس عشر: الزيادة في بنية الكلمة.
واعلم أن اللفظ إذا كان على وزن من الأوزان ثم نقل إلى وزن آخر أعلى منه فلا بد أن يتضمن من المعنى أكثر مما تضمنه أولا لأن الألفاظ أدلة على المعاني فإذا زيدت في الإلفاظ وجب زيادة المعاني ضرورة.
ومنه قوله تعالى :{فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} ،فهو أبلغ من [قادر] لدلالته على أنه قادر متمكن القدرة لا يرد شيء عن اقتضاء قدرته ويسمى هذا قوة اللفظ لقوة المعنى.
وكقوله تعالى :{وَاصْطَبِرْ} فإنه أبلغ من الأمر بالصبر من[ أصبر ].
وقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} لأنه لما كانت السيئة ثقيلة وفيها تكلف زيد في لفظ فعلها.
وقوله تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} ،فإنه أبلغ من [ يتصارخون ].
وقوله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا} ولم يقل:[ وكبوا ] قال الزمخشري: والكبكبة تكرير الكب جعل التكرير في اللفظ دليلا على التكرير في المعنى كأنه إذا ألقى في جهنم [ ينكب ] كبة مرة بعد أخرى حتى يستقر في قعرها اللهم أجرنا منها خير مستجار!.
وقريب من هذا قول الخليل في قول العرب: صر الجندب وصرصر البازي كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة فقالوا: صر صريرا فمدوا وتوهموا في صوت البازي تقطيعا فقالوا: صرصر.
ومنه الزيادة بالتشديد أيضا، فإن[ ستارا ]و [ غفارا ] أبلغ من [ ساتر ] [ وغافر ]ولهذا قال تعالى :{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } ،ومن هذا رجح بعضهم معنى [الرحمن] على معنى [الرحيم] لما فيه من زيادة البناء وهو الألف والنون وقد سبق في السادس.
ويقرب منه التضعيف - ويقال التكثير - وهو أن يؤتى بالصيغة دالة على وقوع الفعل مرة بعد مرة. وشرطه أن يكون في الأفعال المتعدية قبل التضعيف وإنما جعله متعديا تضعيفه ولهذا رد على الزمخشري في قوله تعالى :{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} حيث جعل [نزلنا] هنا للتضعيف.
وقد جاء التضعيف دالا على الكثرة في اللازم قليلا نحو موت المال.
وجاء حيث لا يمكن فيه التكثير، كقوله تعالى :{لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}.{لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً}.
فإن قلت :{فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} مشكل على هذه القاعدة لأنه إذا كان [فعّل] للتكثير، فكيف جاء [قليلا] نعتا لمصدر [متّع] وهذا وصف كثير بقليل وإنه ممنوع.
قلت: وصفت بالقلة من حيث صيرورته إلى نفاد ونقص وفناء.
واعلم أن زيادة المعنى في هذا القسم مقيد بنقل صيغة الرباعي غير موضوعة لمعنى فإنه لا يراد به ما أريد من نقل الثلاثي إلى مثل تلك الصيغة، فقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} ،لا يدل على كثرة صدور الكلام منه لأنه غير منقول عن ثلاثي.
وكذا قوله {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} يدل على كثرة القراءة على هيئة التأني والتدبر.
وكذا قوله تعالى :{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} ،ليس النفي للمبالغة بل نفي أصل الفعل.
القسم السادس عشر: التفسير
وتفعله العرب في مواضع التعظيم كقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} قال البيهقي في شرح الأسماء الحسنى:" قرأت في تفسير الجنيدي أن قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} ، تفسير للقيوم.
وقوله تعالى :{إِِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} .
وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} فإن هذا تفسير للوعد.
وقوله تعالى :{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} تفسير للوعد وتبيين له لا مفعول ثان فلم يتعد الفعل منها إلا إلى واحد.
وقوله تعالى :{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} خلقه تفسير للمثل.
وقوله تعالى :{يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ} ،في [يُذَبِّحُونَ] وما بعده تفسير للسوم وهو في القرآن كثير.
قال أبو الفتح بن جنى: ومتى كانت الجملة تفسيرا لم يحسن الوقف على ما قبلها دونها لأن تفسير الشيء لاحق به ومتمم له وجار مجرى بعض أجزائه كالصلة من الموصول والصفة من الموصوف وقد يجيء لبيان العلة والسبب كقوله تعالى :{فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} ،وليس هذا من قولهم وإلا لما حزن الرسول وإنما يجيء به لبيان السبب في أنه لا يحزنه قولهم.
وكذلك قوله: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً}.
ولو جاءت الايتان على حد ما جاء قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} ،لكانت [ أن ] مفتوحة، لكنها جاءت على حد قوله .....
فائدة.
قيل: الجملة التفسيرية لا موضع لها من الإعراب. وقيل: يكون لها موضع، إذا كان للمفسر موضع ويقرب منها ذكره تفصيلا، كما سبق في قوله: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}.
ومثل: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ}.
القسم السابع عشر: خروج اللفظ مخرج الغالب.
كقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} ،فإن الحجر ليس بقيد عند العلماء، لكن فائدة التقييد تأكيد الحكم في هذه الصورة مع ثبوته عند عدمها، ولهذا قال بعده: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} ولم يقل: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} ولم يكن في حجوركم] فدل على أن الحجر خرج مخرج العادة.
واعترض بأن الحرمة إذا كانت بالمجموع فالحل يثبت بانتفاء المجموع والمجموع ينتفي بانتفاء جزئه كما ينتفي بانتفاء كل فرد من المجموع.
وأجيب بأنه إذا نفي أحد شطري العلة كان جزء العلة ثابتا فيعمل عملها.
فإن قيل: لما قال :{مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} قال في الآية بعدها:.
{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} علم من مجموع ذلك أن الربيبة لا تحرم إذا لم يدخل بأمها، فما فائدة قوله تعالى :{فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} ؟ .
قيل: فائدته: ألا يتوهم أن قيد الدخول خرج مخرج الغالب لا مخرج الشرط كما في الحجر المفهوم إذا خرج مخرج الغالب فلا تقييد فيه عند الجمهور خلافا لإمام الحرمين والشيخ عز الدين بن عبد السلام والعراقي حيث قالوا: إنه ينبغي أن يكون حجة بلا خلاف إذا لم تغلب لأن الصفة إذا كانت غالبة دلت العادة عليها فاستغنى المتكلم بالعادة عن ذكرها فلما ذكرها مع استغنائه عنها دل ذلك على أنه لم يرد الإخبار بوقوعها للحقيقة بل ليترتب عليها نفي الحكم من المسكوت أما إذا لم تكن غالبة أمكن أن يقال: إنما ذكرها ليعرف السامع أن هذه الصفة تعرض لهذه الحقيقة.
ومنه قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ}.
وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}، وجوزوا أن الرهن لا يختص بالسفر لكن ذكر لأن فقد الكاتب يكون فيه غالبا فلما كان السفر مظنة إعواز الكاتب والشاهد الموثوق بهما أمر على سبيل الإرشاد بحفظ مال المسافرين بأخذ الوثيقة الأخرى، وهي الرهن.
وقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} ، والقصر جائز مع أمن السفر لأن ذلك خرج مخرج الغالب لا الشرط وغالب أسفار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه لم تخل من خوف العدو.
ومنهم من جعل الخوف هنا شرطا إن حمل القصر على ترك الركوع والسجود والنزول.
عن الدابة والاستقبال ونحوه لا في عدد الركعات لكن ذلك شدة خوف لا خوف وسبب النزول لا يساعده.
وكقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}
القسم الثامن عشر: القسم
وهو عند النحويين جملة يؤكد بها الخبر، حتى إنهم جعلوا قوله تعالى :{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} قسما وإن كان فيه إخبار إلا أنه لما جاء توكيدا للخبر سمى قسما.
ولا يكون إلا باسم معظم كقوله: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ}.
وقوله: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ}.
وقوله: { قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ}.
وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ}.
وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}.
وقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ}.
وقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ}.
فهذه سبعة مواضع أقسم الله فيها بنفسه والباقي كله أقسم بمخلوقاته.
كقوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}.
{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}.
{فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوَارِ الْكُنَّسِ}.
وإنما يحسن في مقام الإنكار.
فإن قيل: ما معنى القسم منه سبحانه ؟ فإنه إن كان لأجل المؤمن فالمؤمن يصدق مجرد الاخبار، وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده.
فالجواب: قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: إن الله ذكر القسم لكمال الحجة وتأكيدها وذلك أن الحكم يفصل باثنين: إما بالشهادة وإما بالقسم، فذكر تعالى النوعين حتى يبقى لهم حجة.
وقوله: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} وعن بعض الأعراب أنه لما سمع قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} صاح وقال: من الذي أغضب الجليل حتى ألجأه إلى اليمين؟ قالها ثلاثا ثم مات.
فإن قيل: كيف أقسم بمخلوقاته وقد ورد النهي علينا ألا نقسم بمخلوق؟ قيل: فيه ثلاثة أجوبة:.
أحدها: أنه حذف مضاف أي ورب الفجر ورب التين وكذلك الباقي.
والثاني: أن العرب كانت تعظم هذه الاشياء وتقسم بها فنزل القرآن على ما يعرفون.
والثالث: أن الاقسام إنما تجب بأن يقسم الرجل بما يعظمه أو بمن يجله وهو فوقه والله تعالى ليس شيء فوقه فأقسم تارة بنفسه وتارة بمصنوعاته لأنها تدل على بارىء وصانع واستحسنه ابن خالويه.
وقسمه بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {لَعَمْرُكَ} ليعرف الناس عظمته عند الله، ومكانته لديه قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: في[ كنز اليواقيت ]: والقسم بالشيء لايخرج عن وجهين: إما لفضيلة أو لمنعفة، فالفضيلة كقوله تعالى: {وَطُورِ سِينِينَ. وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} والمنفعة نحو: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}.
وأقسم سبحانه بثلاثة أشياء:.
أحداها : بذاته، كقوله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}. {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}.
والثاني: بفعله، نحو: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا. وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا. وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}.
والثالث: مفعوله، نحو: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}.{وَالطُّورِ وَكِتَابٍ. مَسْطُورٍ}.
وهو ينقسم باعتبار آخر إلى مظهر ومضمر:
فالمظهر : كقوله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} ونحوه
والمضمر: على قسمين: قسم دلت عليه لام القسم، كقوله: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} وقسم دل عليه المعنى، كقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} تقديره:[والله].
وقد أقسم تعالى بطوائف الملائكة في أول سورة الصافات والمرسلات والنازعات.
فوائد.
الأولى: أكثر الأقسام المحذوفة الفعل في القرآن لا تكون إلا بالواو فإذا ذكرت الباء أتى بالفعل كقوله تعالى :{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ}. ولا تجيء الباء والفعل محذوف إلا قليلا وعليه حمل بعضهم قوله :{يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} وقال: الباء باء القسم، وليست متعلقه بـ [تشرك] وكأنه يقول: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ} ثم ابتدأ فقال: {بِاللَّهِ} لا تشرك وحذف {لا تُشْرِكْ} لدلالة الكلام عليه: وكذلك قوله: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} قيل: إن قوله: [بما عهد] قسم والاولى أن يقال: إنه سؤال لا قسم.
وقوله: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ} فتقف على [لي] وتبتدىء بحق فتجعله قسما.
هذا مع قول النحويين: إن الواو فرع الباء، لكنه قد يكثر الفرع في الاستعمال ويقل الأصل.
الثانية: قد علمت أن القسم إنما جيء به لتوكيد المقسم عليه فتارة يزيدون فيه للمبالغة في التوكيد وتارة يحذفون منه للاختصار وللعلم بالمحذوف.
فما زادوه لفظ [إي] بمعنى [نعم] كقوله تعالى: {قُلْ إِي وَرَبِّي}
ومما يحذفونه فعل القسم وحرف الجر ويكون الجواب مذكورا كقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ} أي [والله].
وقوله: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ} { لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} {لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ}.
وقد يحذفون الجواب ويبقون القسم للعلم به كقوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} على أحد الأقوال أن الجواب حذف لطول الكلام وتقديره: "لأعذبنهم على كفرهم".
وقيل: الجواب إن ذلك لحق.
ومما حذف فيه المقسم به قوله تعالى : {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} أي نحلف إنك لرسول الله لأن الشهادة بمعنى اليمين بدليل قوله: {أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً}
وأما قوله تعالى: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} ، فالأول قسم بمنزلة، [والحق] وجوابه: [لأملأن]، وقوله :{وَالْحَقَّ أَقُولُ} توكيد للقسم.
وأما قوله: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} ، ثم قال :{قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} قالوا: وهو جواب القسم وأصله: [لقد قتل] ثم حذف اللام وقد.
الثالثة: قال الفارسي في الحجة الألفاظ: الجارية مجرى القسم ضربان:.
أحدهما: ما تكون جارية كغيرها من الأخبار التي ليست بقسم فلا تجاب بجوابه، كقوله تعالى: {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}،{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}،{فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ}، فهذا ونحوه يجوز أن يكون قسما وأن يكون حالا لخلوه من الجواب.
والثاني: ما يتعلق بجواب القسم، كقوله تعالى : {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ} {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ }.
الرابعة: القسم والشرط، يدخل كل منهما على الآخر، فإن تقدم القسم ودخل الشرط بينه وبين الجواب كان الجواب للقسم وأغنى عن جواب الشرط وإن عكس فبالعكس وأيهما تصدر كان الاعتماد عليه والجواب له.
ومن تقدم القسم قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ} ، تقديره: [والله لئن لم تنته] فاللام الداخلة على الشرط ليس بلام القسم ولكنها زائدة وتسمى الموطئة للقسم ويعنون بذلك أنها مؤذنة بأن جواب القسم منتظر أي الشرط لا يصلح أن يكون جوابا لأن الجواب لا يكون إلا خبرا.
وليس دخولها على الشرط بواجب بدليل حذفها في قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
والذي يدل على الجواب للقسم لا للشرط دخول اللام فيه وأنه ليس بمجزوم بدليل قوله تعالى :{لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} ولو كان جواب الشرط لكان مجزوما.
وأما قوله تعالى: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} ،فاللام في [ولئن] هي الموطئة للقسم واللام في {لإِلَى اللَّهِ} هي لام القسم ولم تدخل نون التوكيد على الفعل للفصل بينه وبين اللام بالجار والمجرور. والأصل:[ لئن متم أو قتلتم لتحشرون إلى الله ] فلما قدم معمول الفعل عليه حذف منه.
القسم التاسع عشر:إبراز الكلام في صورة المستحيل على طريق المبالغة ليدل على بقية جمله.
كقول العرب: لا أكلمك حتى يبيض القار وحتى يشيب الغراب وكقوله تعالى :{وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ}، يعنى والجمل لا يلج في السم، فهؤلاء لا يدخلون فهو في المعنى متعلق بالحال فالمعنى أنهم لا يدخلون الجنة أصلا وليس للغاية هنا مفهوم ووجه التأكيد فيه كدعوى الشيء ببينه لأنه جعل ولوج الجمل في السم غاية لنفي دخولهم الجنة وتلك غاية لا توجد فلا يزال دخولهم الجنة منتفيا.
وغالي بعض الشعراء في وصف جسمه بالنحول فجاء بما يزيد على الآية فقال ولو أن ما بي من جوى وصبابة على جمل لم يبق في النار خالد وهذا على طريقة الشعراء في اعتبار المبالغة وإلا فمعارضات القرآن لا تجوز كما سبق التنبيه عليه.
ومنه قوله تعالى :{وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} فإن المعنى إن كان ما سلف في الزمن السالف يمكن رجوعه فحله ثابت لكن لا يمكن رجوعه أبدا ولا يثبت حله ابدا وهو أبلغ في النهي المجرد.
ومنه قوله تعالى :{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} ،أي ولكن ليس له ولد فلا أعبد سواه.
وقوله تعالى :{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاماً} ، أي إن كان تسليم بعضهم على بعض أو تسليم الملائكة عليهم لغوا فلا يسمعون لغوا إلا ذلك فهو من باب قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
ومنه قوله :{لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى} ،فإن الناس استشكلوا وجه الاستثناء مع أنهم لا يذوقون فيها الموت مطلقا ومقتضى استثنائها من النفي أنهم يذوقونها في الجنة وليس كذلك.
ووجهة الزمخشري: بأنه من التوكيد في الدلالة والموتة الأولى لا يذوقونها أصلا إذ يستحيل عود ما وقع فلا يذوقون فيها الموت أصلا أي إن كانوا يذوقون فلا يكون ذلك إلا الموتة الأولى وإن كان إيقاع الموتة الأولى في الجنة مستحيلا فعرض بالاستثناء إلى استحالة الموت فيها.
هذا إن جعلنا الاستثناء متصلا فإن كان منقطعا فالمعنى:[ لكن الموتة الأولى قد ذاقوها ].
ويحتمل على الاتصال أن يكون المعنى فيها أي في مقدماتها لأن الذي يرى مقامه في الجنة عند الجنة عند موته ينزل منزلة من هو فيها بتأويل الذوق على معنى المستحيل.
فهذه ثلاثة أوجه.
القسم الموفى العشرين: الاستثناء والاستدراك
ووجه التأكيد فيه أنه ثنى ذكره مرتين مرة في الجملة ومرة في التفصيل.
فإذا قلت: قام القوم إلا زيدا فكأنه كان في جملتهم ثم خرج منهم كقوله تعالى :{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلاَّ إِبْلِيسَ} ،فإن فيه معنى زائدا على الاستثناء هو تعظيم أمر الكبيرة التي أتى بها إبليس من كونه خرق إجماع الملائكة وفارق جميع الملأ الأعلى بخروجه مما دخلوا فيه من السجود لآدم وهو بمثابة قولك أمر الملك بكذا فأطاع أمره جميع الناس من أمير ووزير إلا فلانا فإن الإخبار عن معصية الملك بهذا الصيغة أبلغ من قولك: أمر الملك فعصاه فلان.
وفي ضمن ذلك وصف الله سبحانه بالعدل فيما ضربه على أبليس من خزي الدنيا وختم عليه من عذاب الآخرة.
ومنه قوله تعالى :{فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} فإن في الإخبار عن المدة بهذه الصيغة تهويلا على السامع ليشهد عذر نوح عليه السلام في الدعاء على قومه.
وحكمة الإخبار عن المدة بهذه الصيغة تعظيم للمدة ليكون أول ما يباشر السمع ذكر [الألف] واختصار اللفظ فإن لفظ القرآن أخصر من [تسعمائة وخمسين عاما] ولأن لفظ القرآن يفيد حصر العدد المذكور ولا يحتمل الزيادة عليه ولا النقص.
ومنه قوله تعالى :{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ. خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} فإنه سبحانه لما علم أن وصف الشقاء يعم المؤمن العاصي والكافر استثنى من حكم بخلوده في النار بلفظ مطمع حيث أثبت الاستثناء المطلق، وأكده بقوله :{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}، أي أنه لا اعتراض عليه في إخراج أهل الشقاء من النار. ولما علم أن أهل السعادة لا خروج لهم من الجنة أكد خلودهم بعد الاستثناء بما يرفع أصل الاستثناء حيث قال {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي غير منقطع، ليعلم أن عطاءه لهم الجنة غير منقطع وهذه المعاني زائدة على الاستثناء اللغوي.
وقيل: وجه الاستثناء فيه الخروج من الجنة إلى منزلة أعلى كالرضوان والرؤية ويؤيده قول بعض الصحابة:.
*وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا*
وصوبه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجعل الزمخشري الاستثناء الأول لخروج أهل النار إلى الزمهرير أو إلى نوع آخر من العذاب بناء على مذهبه من تخليد أهل الكبائر في النار وجعل الاستثناء الثاني دالا على نجاة أهل الكبائر من العذاب فكأنه تصور أن الاستثناء الثاني لما لم يحمل على انقطاع النعيم لقوله تعالى : {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} فكذا الاستثناء الأول لا يحمل على انقطاع عذاب الجحيم لتناسب أطراف الكلام.
وقال: معنى قوله: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} عقب الاستثناء الأول في مقابلة قوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} عقب الثاني، أن الله تعالى يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب كما يعطى لأهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له.
قيل: وما أصدق في سياق الزمخشري في هذا الموضع قول القائل:.
*حفظت شيئا وغابت عنك أشياء*
وذلك لأن ظاهر الاستثناء هو الإخراج عن حكم ما قبله ولا موجب للعدول.
عن الظاهر في الاستثناء الأول فحمل على النجاة ولما كان إنجاء المستحق العذاب محل تعجب وإنكار عقبه بقوله :{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} ،أي من العذاب والإنجاء منه بفضله ولا يتوجه عليه اعتراض أحد يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
وأما الاستثناء الثاني فلم يكن على ظاهره، كان إخراج أهل الجنة المستحقين للثواب وقطع النعيم لا يناسب إنحاء أهل النار المستحقين للعذاب، فلذا عقب بقوله :{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} بيانا للمقصود.
ورعاية هذا الباب أولى من رعاية الباب الذي توهم الزمخشري فإن حاصله يرجع إلى أن الاستثناء الثاني لما لم يكن على ما هو الظاهر في باب الاستثناء ينبغي إلا يكون الاستثناء الأول ايضا على ما هو الظاهر ولا يخفى على المنصف أنه تعسف.
وأما قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ} فالمعنى لا طعام لهم أصلا لأن الضريع ليس بطعام البهائم فضلا عن الإنس وذلك كقولك: ليس لفلان ظل إلا الشمس تريد ذلك نفي الظل عنه على التوكيد والضريع نبت ذو شوك يسمى الشبرق في حال خضرته وطراوته فإذا يبس سمى الضريع والإبل ترعاه طريا لا يابسا.
وقريب منه تأكيد المدح بما يشبه الذم بأن يستثنى من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح بتقدير دخولها فيها كقوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً. إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً} التأكيد فيه من وجهين: على الاتصال في الاستثناء والانقطاع.
القسم الحادي والعشرون: المبالغة.
وهي أن يكون للشيء صفة ثابتة فتزيد في التعريف بمقدار شدته أو ضعفه فيدعى.
له من الزيادة في تلك الصفة ما يستبعد عند السماع أو يحيل عقله ثبوته.
ومن أحسنها قوله تعالى :{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ}، وهي ظلمة البحر وظلمة الموج فوقه وظلمة السحاب فوق الموج.
وقوله تعالى:{وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ}،أي كادت تبلغ لأن القلب إذا زال عن موضعه مات صاحبه.
وقيل: هو حقيقة وإن الخوف والروع يوجب للخائف أن تنتفخ رئته ولا يبعد أن ينهض بالقلب نحو الحنجرة. ذكره الفراء وغيره.
أو أنها لما أتصل وجيبها واضطرابها بلغت الحناجر.
ورد ابن الانبارى تقديرا: [كادت] فإن [كاد] لا تضمر.
وقوله تعالى : {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}.
وقوله تعالى :{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً}.
ومنه المبالغة في الوصف بطريق التشبيه، كقوله تعالى : {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ. كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ}.
وقد يخرج الكلام مخرج الإخبار عن الآعظم الأكبر للبمالغة وهو مجاز كقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} ،فجعل مجيء جلائل آياته مجيئا له سبحانه على المبالغة.
وكقوله سبحانه: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ}، فجعل نقله بالهلكة من دار العمل إلى دار الجزاء وجدانا للمجازى.
ومنه ما جرى مجرى الحقيقة كقوله تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} ،فإن اقتران هذه ب يكاد صرفها إلى الحقيقة فانقلب من الامتناع إلى الإمكان.
وقد تجيء المبالغة مدمج كقوله تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}، فإن المبالغة في هذه الآية مدمجة في المقابلة وهي بالنسبة إلى المخاطب لا إلى المخاطب معناه أن علم ذلك متعذر عندكم وإلا فهو بالنسبة إليه سبحانه ليس بمبالغة.
وأما قوله تعالى : {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي} الآية، فقيل: سببها أن اليهود جاءوا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا له: كيف عنفنا بهذا القول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} ،ونحن قد أوتينا التوراة وفيها كلام الله وأحكامه ونور وهدى! فقال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " التوراة قليل من كثير " ونزلت هذه الآية.
وقيل: إنما نزلت: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ}.
قال المفسرون: والغرض من ذلك الإعلام بكثرة كلماته وهي في نفسها غير متناهية وإنما قرب الأمر على أفهام البشر بما يتناهى لأنه غاية ما يعهده البشر من الكثرة.
وقال بعض المحققين: إن ما تضمنت الآية أن كلمات الله تعالى لم تكن لتنفد ولم تقتض الآية أنها تنفد بأكثر من هذه الأقلام والبحور وكما قال الخضر عليه السلام: " ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من ماء البحر حين غمس منقاره فيها ".
وعد بعضهم من هذا القبيل ما جاء من المبالغة في القرآن من الإغضاء عن العيوب والصفح عن الذنوب والتغافل عن الزلات والستر على أهل المروءات كقوله تعالى لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}.
وقيل في تفسيره: أن تصل من قطعك وتعطى من حرمك وتعفو عمن ظلمك.
وقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الآية.
تنبيه:.
تحصل مما سبق أن قصد المبالغة يستلزم في الحال الإيجاز إما بالحذف وإما بحجل الشيء نفس الشيء أو يتكرر لفظ يتم بتكرره التهويل والتعظيم ويقوم مقام أوصاف كقوله تعالى :{الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ}.
وقد نص سيبويه على هذا كله في مواضع شتى من كتابه لافتراقها في أحكام.
فائدة.
[في اختلاف الأقوال في تقدير المبالغة في الكلام].
اختلف في المبالغة على أقوال:.
أحدها: إنكار أن تكون من محاسن الكلام لاشتمالها على الاستحالة.
والثاني: أنها الغاية في الحسن وأعذب الكلام ما بولغ فيه وقد قال النابغة:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
والثالث: وهو الأصح أنها من محاسن الكلام ولا ينحصر الحسن فيها فإن فضيلة الصدق لا تنكر ولو كانت معيبة لم ترد في كلام الله تعالى ولها طريقان:.
أحدهما: أن يستعمل اللفظ في غير معناه لغة كما في الكناية والتشبيه والاستعارة وغيرها من أنواع المجاز والثاني: أن يشفع ما يفهم المعنى بالمعنى على وجه يتقضى زيادة فتترادف الصفات.
بقصد التهويل كما في قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ}.
القسم الثاني والعشرون: الاعتراض.
وأسماه قدامة [التفاتا]، وهو أن يؤتى في أثناء كلام أو كلامين متصلين معنى بشيء يتم الغرض الأصلي بدونه ولا يفوت بفواته فيكون فاصلا بين الكلام والكلامين لنكتة.
وقيل: هو إرادة وصف شيئين الأول منهما قصدا والثاني بطريق الانجرار وله تعليق بالأول بضرب من التأكيد.
وعند النحاة جملة صغرى تتخلل جملة كبرى على جهة التأكيد.
وقال الشيخ عز الدين في أماليه: الجملة المعترضة تارة تكون مؤكدة وتارة تكون مشددة لأنها إما ألا تدل على معنى زائد على ما دل عليه الكلام بل دلت عليه فقط فهي مؤكدة وإما أن تدل عليه وعلى معنى زائد فهي مشددة. انتهى.
وذكر النحاة مما تتميز به الجملة الاعتراضية عن الحالية كونها طلبية كقوله تعالى:.
{وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} ،فإنه معترض بين: {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} وبين: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا}.
وله أسباب:.
منها : تقرير الكلام، كقولك: فلان أحسن بفلان - ونعم ما فعل. ورأى من الرأي كذا - وكان صوابا.
ومنه قوله تعالى :{تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ} لقد علمتم اعتراض والمراد تقرير إثبات البراءة من تهمة السرقة.
وقوله: {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ }.{وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} واعترض بقوله: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} بين كلامها.
وقوله: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً}.
ومنها: قصد التنزيه، كقوله تعالى :{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} فاعتراض[ سبحانه ] لغرض التنزيه والتعظيم وفيه الشناعة على من جعل البنات لله.
ومنها : قصد التبرك، وكقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}.
ومنها : قصد التأكيد، كقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ.وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}.
وفيها اعتراضان، فإنه اعترض بقوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ} بين: القسم وجوابه واعترض بقوله: {لَوْ تَعْلَمُونَ} بين: الصفة والموصوف والمراد تعظيم شأن ما أقسم به من مواقع النجوم وتأكيد إجلاله في النفوس لا سيما بقوله:{لَوْ تَعْلَمُونَ}.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً.أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} [وأولئك] الخبر [وإنا لا نضيع] اعتراض.
ومنها: كون الثاني بيانا للأول، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} فإنه اعتراض وقع بين قوله: {فَأْتُوهُنَّ} وبين قوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} وهما متصلان معنى لأن الثاني بيان للأول كأنه قيل فأتوهن من حيث يحصل منه الحرث وفيه اعتراض بأكثر من جملة.
ومنها: تخصيص أحد المذكورين بزيادة التأكيد على أمر علق بهما، كقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} ، فاعترض بقوله: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} بين [ووصينا] وبين الموصي به، وفائدة ذلك إذكار الولد بما كابدته أمه من المشقة في حمله وفصاله فذكر الحمل والفصال يفيد زيادة التوصية بالأم لتحملها من المشاق والمتاعب في حمل الولد ما لا يتكلفه الوالد ولهذا جاء في الحديث التوصية بالأم ثلاثا وبالأب مرة.
ومنها: زيادة الرد على الخصم، كقوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} الآية. فقوله: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ} اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه. وفائدته أن يقرر في أنفس المخاطبين أن تدارؤ بني إسرائيل في قتل تلك الأنفس لم يكن نافعا لهم في إخفائه وكتمانه لأن الله تعالى مظهر لذلك ومخرجه ولو جاء الكلام خاليا من هذا الاعتراض لكان {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا}.
وقوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} فاعترض بين [إذ] وجوابها بقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} فكأنه أراد أن يجيبهم عن دعواهم فجعل الجواب اعتراضا.
قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} إلى قوله: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
وقوله: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} إلى قوله: {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} اعتراض في اثناء الكلام وهو قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ} الآية. وذلك لأن قوله: {فَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ} سبب عن قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ} على معنى أنه يشمئزون من توحيد الله تعالى ويستبشرون بالشرك الذي هو ذكر الآلهة فإذا مس أحدهم ضر أو أصابته شدة تناقض في دعواه فدعا من أشمأز من ذكره وانقبض من توحيده ولجأ إليه دون الآلهة فهو اعتراض بين السبب والمسبب فقيد القول بما فيه من دعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمره بذلك وبقوله: {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ} ثم عقبه من الوعيد العظيم أشد التأكيد وأعظمه وأبلغه،.
ولذلك كان اتصال قوله: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ} للسبب الواقع فيها وخلو الأول منه من الأمر اشتراك جملة مع جملة ومناسبة أوجبت العطف بالواو الموضوعة لمطلق بالجمع كقولهم قام زيد وعمرو وتسبيب السبب مع ما في ظاهر الاية من اشمئزازهم ليس يقتضى التجاءهم إلى الله تعالى وإنما يقتضى إعراضهم عنه من جهة أن سياق الآية يقتضى إثبات التناقض وذلك أنك تقول زيد يؤمن بالله تعالى فإذا مسه الضر لجأ إليه فهذا سبب ظاهر مبنى على اطراد الأمر وتقول زيد كافر بالله فإذا مسه ضر لجأ إليه فتجيء بالفاء هنا كالأول لغرض التزام التناقض أو العكس حيث أنزل الكافر كفره منزلة الإيمان في فصل سبب الالتجاء فأنت تلزمه العكس بأنك إنما تقصد بهذا الكلام الإنكار والتعجب من فعله.
وقوله: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} بقوله الله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ.لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} اعتراض واقع في اثناء كلام متصل وهو قوله: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} وهو على مهيع أسلوب القرآن من ذكر الضد عقب الضد كما قيل:
*وبضدها تتبين الأشياء*
ومنها: الإدلاء بالحجة، كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} فاعترض بقوله: [فأسألوا] بين قوله: [نوحي إليهم] وبين قوله: [بالبينات والزبر] إظهارا لقوة الحجة عليهم.
وبهذه الآية ابن مالك على أبي علي الفارسي قوله إنه لا يعترض بأكثر من جملة واحدة.
ورد بأن جملة الأمر دليل للجواب عند الأكثرين ونفسه عند آخرين فهو مع جملة الشرط كالجملة الواحدة نعم جوزوا في قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} أن يكون حالا من قوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} فلزم الاعتراض بسبع جمل مستقلات إن كان :{ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} خبر مبتدأ محذوف وإلا فيكون بست جمل.
وقال الزمخشري في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} الآية: إن في هذه الآية الكريمة سبع جمل معترضة: جملة الشرط [واتقوا] [وفتحنا] [وكذبوا] [وأخذناهم] [وبما كانوا يكسبون] وزعم أن [أفأمن] معطوف على {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} وكذا نقله ابن مالك عن الزمخشري. وتبعه أبو حيان ولم يوجد ذلك في كلام الزمخشري.
قال ابن مالك: ورد عليه من ظن أن الجملة والكلام مترادفان قال وإنما اعترض بأربع جمل وزعم أن من عند {وَلَوْ أَنَّ} إلى { وَالأَرْضِ} جملة لأن الفائدة إنما تتم بمجموعه.
وفي القولين نظر أما على قول ابن مالك فينبغي أن يكون بعدها ثمان جمل أحدها:.
{وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} وأربعة في حيز [لو] وهي [آمنوا] و[اتقوا] [وفتحنا] والمركبة مع أن وصلتها مع ثبت مقدرا على الخلاف في أنها فعلية أو أسمية والسادسة [ولكن كذبوا] والسابعة [فأخذناهم] والثامنة [بما كانوا يكسبون].
وأما قول المعترض: فلأنه كان من حقه أن يعدها ثلاث جمل أحدها [وهم لا يشعرون] لأنها حال مرتبطة بعاملها وليست مستقلة برأسها والثانية [لو] وما في حيزها جملة واحدة فعلية إن قدر:[ ولو ثبت أن أهل القرى آمنوا واتقوا ]أو أسمية وفعلية إن قدر: إيمانهم، واتقوا ثابتان، والثالثة {وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} كله جملة.
وينبغي على قواعد البيانيين أن يعدوا الكل جملة واحدة لارتباط بعضها ببعض وعلى رأي النحاة ينبغي أن يكون: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} جملة واحدة لارتباط الشرط بالجزاء لفظا [ولكن كذبوا] ثانية أو ثالثة [فأخذناهم] ثالثه أو رابعة و[بما كانوا يكسبون] متعلق أخذناهم فلا يعد اعتراضا.
وقوله: {وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}، فهذه ثلاث جمل معترضة بين {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} وبين {وَقِيلَ بُعْداً}.
وفيه اعتراض في اعتراض فإن [وقضي الأمر] معترض بين [غيض الماء] وبين [واستوت].
ولا مانع من وقوع الاعتراض في الاعتراض كقوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}.
ومنه قوله تعالى في سورة العنكبوت ذاكرا عن إبراهيم قوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} ثم اعترض تسلية لقلب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} وذكر آيات إلى أن قال: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} يعنى قوم إبراهيم فرجع إلى الأول.
وجعل الزمخشري قوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ} وفي آخر الصافات معطوفا على {فَاسْتَفْتِهِمْ} في أول السورة: وقال في قول بعضهم في: {نَذِيراً لِلْبَشَرِ} إنه حال من فاعل [قم] في أول هذه السورة هذا من بدع التفاسير وهذا الذي ذكره في الصافات منه.
ومن العجب دعوى بعضهم كسر همزة [إن] في قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} على جواب القسم في قوله تعالى: {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} حكاه الرماني.
فإن قيل: أين خبر [إن] في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ} قيل: الخبر: { أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}.

[ البرهان في علوم القرآن ( 3 / 3 ـ 63 )]


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 12 ذو القعدة 1430هـ/30-10-2009م, 06:09 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي

فوائد.
قال ابن عمرون: لا يجوز وقوع الاعتراض بين واو العطف وما دخلت عليه وقد أجازه قوم في [ثم] و[أو] فتقول: زيد قائم ثم والله عمرو.
وقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} اعتراض بين الشرط وجوابه مع أن فيه فاء والجملة مسندة لـ[يكن].
قال الطيبي: سئل الزمخشري عن قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ}: أهو اعتراض ؟ قال: لا، لأن من شرط الاعتراض أن يكون بالواو ونحوها وأما بالفاء فلا.
وفهم صاحب:[ فرائد القلائد ]من هذا اشتراط الواو فقال: وقد ذكر الزمخشري: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً} هذه الجملة اعتراض بين البدل وبين المبدل منه أعنى [إبراهيم] و[إذ] قال: هذا معترض لأنه اعتراض بدون الواو بعيد عن الطبع وعن الاستعمال وليس كما قال فقد يأتي بالواو كما سبق في الأمثلة وبدونها كقوله سبحانه: {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} وقد اجتمعا في قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ.وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ.إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}.
القسم الثاني والعشرون: الاحتراس.
وهو أن يكون الكلام محتملا لشيء بعيد فيؤتى بما يدفع ذلك الاحتمال، كقوله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} ، فاحترس سبحانه بقوله:[ من غير سوء ]عن إمكان أن يدخل في ذلك البهق والبرص.
وقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} فإنه لو اقتصر على وصفهم بالذلة وهو السهولة لتوهم أن ذلك لضعفهم فلما قيل: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} علم أنها منهم تواضع ولهذا عدي الذل بعلى لتضمنه معنى العطف.
وكذلك قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}.
وقوله تعالى: {لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} فقوله {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} احتراس بين أن من عدل سليمان وفضله وفضل جنوده أنهم لا يحطمون نملة فما فوقها إلا بالا يشعروا بها.
وقد قيل: إنما كان تبسم سليمان سرورا بهذه الكلمة منها ولذلك أكد التبسم بالضحك لأنهم يقولون تبسم كتبسم الغضبان لينبه على أن تبسمه تبسم سرور.
ومثله قوله تعالى: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} التفات إلى أنهم لا يقصدون ضرر مسلم.
وقوله تعالى: {وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ،فإنه سبحانه لما أخبر بهلاك من هلك بالطوفان عقبهم بالدعاء عليهم ووصفهم بالظلم ليعلم أن جميعهم كان مستحقا للعذاب،
هم أن الهلاك بعمومه ربما شمل من لا يستحق العذاب فلما دعا على الهالكين ووصفهم بالظلم علم استحقاقهم لما نزل بهم وحل بساحتهم مع قوله أولا: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}.
وأعجب احتراس وقع في القرآن قوله تعالى مخاطبا لنبيه عليه السلام: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ} الآية.
وقال حكاية عن موسى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ} ،فلما نفى سبحانه عن رسوله أن يكون بالمكان الذي قضى لموسى فيه الأمر عرف المكان بالغربي ولم يقل في هذا الموضع [الأيمن] كما قال: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ} أدبا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ينفي عنه كونه بالجانب الأيمن أو يسلب عنه لفظا مشتقا من اليمن أو مشاركا لمادته ولما أخبر عن موسى عليه السلام ذكر الجانب الأيمن تشريفا لموسى فراعى في المقامين حسن الأدب معهما تعليما للأمة وهو أصل عظيم في الأدب في الخطاب.
وقوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} فإنه لو اختصر لترك:[ والله يعلم ]لأن سياق الآية لتكذيبهم في دعاوي الإخلاص في الشهادة لكن حسن ذكره رفع توهم أن التكذيب للمشهود به في نفس الأمر.
وقوله حاكيا عن يوسف عليه السلام: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} ولم يذكر الجب مع أن النعمة فيه أعظم لوجهين:
أحدهما: لئلا يستحيي إخوته والكريم يغضى ولا سيما في وقت الصفاء.
والثاني: لأن السجن كان باختياره فكان الخروج منه أعظم بخلاف الجب.
وقوله: {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً} وإنما ذكر الكهولة مع أنه لا إعجاز فيه لأنه كان في العادة أن من يتكلم في المهد أنه لا يعيش ولا يتمادى به العمر فجعل الاحتراس بقوله: [وكهلا].
ومنه قوله: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} ، والسقف لا يكون إلا من فوق لأنه سبحانه رفع الاحتمال الذي يتوهم من أن السقف قد يكون من تحت بالنسبة فإن كثيرا من السقوف يكون أرضا لقوم وسقفا لآخرين فرفع تعالى هذا الاحتمال بشيئين وهما وقوله: [ عليهم ]ولفظة [خر] لأنها لا تستعمل إلا فيما هبط أو سقط من العلو إلى سفل.
وقيل: إنما أكد ليعلم أنهم كانوا حالين تحته والعرب تقول خر علينا سقف ووقع علينا حائط فجاء بقوله:[ مِنْ فَوْقِهِمْ ]ليخرج هذا الشك الذي في كلامهم فقال:[ من فوقهم ]أي عليهم وقع وكانوا تحته فهلكوا وما أفتلوا.
وقوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} لأنه لما كان يحتمل معنى [كيف] و[أين] احترس بقوله: [حرثكم] لأن الحرث لا يكون إلا حيث تنبت البذور وينبت الزرع وهو المحل المخصوص.
وقوله: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} وذلك لأن الاشتراك في المصيبة يخفف منها ويسلى عنها فأعلم سبحانه أنه لا ينفعهم ذلك.

[ البرهان في علوم القرآن ( 3 / 64 ـ 67 ) ]


رد مع اقتباس
  #6  
قديم 12 ذو القعدة 1430هـ/30-10-2009م, 06:15 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي

تنبيهات:.
الأول: أهل الصناعة يطلقون الزائد على وجوه: منها ما يتعلق به هنا وهو ما أقحم تأكيدا نحو: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً} { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
ومعنى كونه زائدا أن أصل المعنى حاصل بدونه دون التأكيد فبوجوده حصل فائدة التأكيد والواضع الحكيم لا يضع الشيء إلا لفائدة.
وسئل بعض العلماء عن التوكيد بالحرف وما معناه إذ إسقاط الحرف لا يخل بالمعنى ؟ فقال: هذا يعرفه أهل الطباع إذ يجدون أنفسهم بوجود الحرف على معنى زائد لا يجدونه بإسقاط الحرف قال ومثال ذلك مثال العارف بوزن الشعر طبعا فإذا تغير البيت بزيادة أو نقص أنكره وقال: أجد نفسي على خلاف ما أجده بإقامة الوزن فكذلك هذه الحروف تتغير نفس المطبوع عند نقصانها ويجد نفسه بزيادتها على معنى بخلاف ما يجدها بنقضانه.
الثاني: حق الزيادة أن تكون في الحرف وفي الأفعال كما سبق وأما الأسماء فنص أكثر النحويين على أنها لا تزاد ووقع في كلام كثير من المفسرين الحكم عليها في بعض المواضع بالزيادة كقول الزمخشري في قوله تعالى :{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا}: إن اسم الجلالة مقحم ولا يتصور مخادعتهم لله تعالى.
الثالث: حقها أن تكون آخرا وحشوا وأما وقوعها أولا فلا لما فيه من التناقض إذ قضية الزيادة إمكان اطراحها وقضية التصدير الاهتمام ومن ثم ضعف قول بعضهم بزيادة لا في قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}. وأبعد منه قول آخر: إنها بمعنى [إلا] والظاهر أنها ردا لكلام تقدم في إنكار البعث أي ليس الأمر كما تقولون ثم قال بعده: { أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} ،وعليه فيجوز الوقف على [لا] وفيه بعد.
فصل: في حروف الزيادة.
الزيادة إما أن تكون لتأكيد النفي كالباء في خبر ليس وما أو للتأكيد الإيجاب كاللام الداخلة على المبتدأ.
وحروف الزيادة سبعة إن وأن ولا وما ومن والباء واللام بمعنى أنها تأتي في بعض الموارد زائدة لا أنها لازمة للزيادة ثم ليس المراد حصر الزوائد فيها فقد زادوا الكاف وغيرها بل المراد أن الأكثر في الزيادة أن تكون بها.
زيادة "إن ".
فأما إن الخفيفة فتطرد زيادتها مع ما النافية كقول امرىء القيس:
حلفت لها بالله حلفة فاجر ... لناموا فما إن من حديث ولا صال
أي فما حديث. فزاد [إن] للتوكيد، قال الفراء: إن الخفيفة زائدة فجمعوا بينها وبين ما النافية تأكيدا للنفي فهو بمنزلة تكرارها فهو عند الفراء من التأكيد اللفظي وعند سيبويه من التأكيد المعنوي.
وقيل: قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيه} :أنها زائدة.
وقيل نافية والأصل:[ في الذي ما مكناكم فيه ]بدليل: {مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} وكأنه إنما عدل عن ما لئلا تتكرر فيثقل اللفظ.
ووهم ابن الحاجب حيث زعم أنها تزاد بعد [لما] الإيجابية وإنما تلك في [أن] المفتوحة.
زيادة "أن".
وأما أن المفتوحة فتزاد بعد لما الظرفية، كقوله تعالى: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ} ،وإنما حكموا بزيادتها لأن [لما] ظرف زمان ومعناها وجود الشيء لوجود غيره وظروف الزمان غير المتمكنة لا تضاف إلى المفرد [وأنْ] المفتوحة تجعل الفعل بعدها في تأويل المفرد فلم تبق [لما] مضافة إلى الجمل فلذلك حكم بزيادتها.
وجعل الأخفش من زيادتها قوله تعالى: {وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ}، {وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. وقيل: بل هي مصدرية والأصل:[ وما لنا في ألا نفعل كذا ]! فليست زائدة لأنها عملت النصب في المضارع.
زيادة ما.
وأما [ما] فتزاد بعد خمس كلمات من حروف الجر فتزاد بعد [من] و[عن] غير كافة لهما عن العمل وتزاد بعد الكاف ورب والباء كافة [تارة] وغير كافة أخرى.
والكافة إما أن تكف عن عمل النصب والرفع وهي المتصلة بإن وأخواتها، نحو: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} وجعلوا منها {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} ،ويحتمل أن تكون موصولة بمعنى [الذي] و[العلماء] خبر والعائد مستتر في [يخشى] وأطلقت [ما] على جماعة العقلاء، كما في قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وإما أن تكف عن عمل الجر كقوله تعالى :{اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} وقيل: بل موصولة، أي[ كالذي هو لهم آلهة ].
وغير الكافة تقع بعد الجازم نحو: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ} ،{أَيّاً مَا تَدْعُوا}.{أَيْنَمَا تَكُونُوا}.
وبعد الخافض حرفا كان: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ}. {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ}. {عَمَّا قَلِيلٍ}. {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} أو اسما نحو: {أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ}.
وتزاد بعد أداة الشرط جازمة، كانت نحو: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ}. أو غير جازمة، نحو: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ}.
وبين المتبوع وتابعه، نحو: {مَثَلاً مَا بَعُوضَةً}، قال الزجاج: ما حرف زائد للتوكيد عند جميع البصريين.
ويؤيده سقوطها في قراءة ابن مسعود و[بعوضة] بدلا وقيل: [ما] اسم نكرة صفة لـ[مثلا] أو بدل و[بعوضة] عطف بيان.
وقيل: في قوله: {فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} بأنها زائدة لمجرد تقوية الكلام، نحو: {فَبِمَا رَحْمَةٍ}و{قليلا} في معنى النفي أو لإفادة التقليل كما في نحو:[ أكلت أكلا ما ]،وعلى هذا فيكون:[ فقليلا بعد قليل ].
زيادة "لا".
وأما [لا] فتزاد مع الواو بعد النفي، كقوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} ،لأن [استوى] من الأفعال التي تطلب اسمين أي لا تليق بفاعل واحد نحو [اختصم] فعلم أن [لا] زائدة. وقيل: دخلت في السيئة لتحقق أنه لاتساوي الحسنة السيئة ولا السيئة الحسنة.
وتزاد بعد [أن] المصدرية، كقوله: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} ،أي ليعلم ولولا تقدير الزيادة لانعكس المعنى فزيدت [لا] لتوكيد النفي قاله ابن جنى.
واعترضه ابن ملكون، بأنه ليس هناك نفي حتى تكون هي مؤكدة له. ورد عليه السكونى بأن هنا ما معناه النفي وهو ما وقع عليه العلم من قوله:{أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ}،ويكون هذا من وقوع النفي على العلم والمراد ما وقع عليه العلم كقوله:[ ما علمت أحدا يقول ذلك إلا زيدا ]فأبدلت من الضمير الذي في [يقول] ما بعد [إلا] وإن كان البدل لا يكون إلا في النفي فكما كان النفي هنا واقعا على العلم وحكم لما وقع عليه العلم بحكمه كذلك يكون تأكيدا النفي أيضا على ما وقع علي العلم ويحكم للعلم بحكم النفي فيدخل عل العلم توكيد النفي والمراد تأكيد نفي ما دخل عليه العلم.
وإذا كانوا قد زادوا لا في الموجب المعنى لما توجه عليه فعل منفى في المعنى كقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} ،المعنى [أن تسجد]، فزاد [لا] تأكيدا للنفي المعنوي الذي تضمنه [منعك] فكذلك تزاد [لا] في العلم الموجب توكيدا للنفي الذي تضمنه الموجه عليه.
قال الشلوبين: وأما زيادة [لا] في قوله: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} ،فشيء متفق عليه وقد نص عليه سيبويه ولا يمكن أن تحمل الآية إلا على زيادة [لا] فيها لأن ما قبله من الكلام وما بعده يقتضيه.
ويدل عليه قراءة ابن عباس وعاصم والحميدي: { لِيَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ } وقرأ ابن مسعود وابن جبير[ لكي يعلم ]وهاتان القراءتان تفسير لزيادتها وسبب النزول يدل على ذلك ايضا وهو أن المشركين كانوا يقولون إن الأنبياء منا وكفروا مع ذلك بهم فأنزل الله تعالى: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} الآية.
ومنه: { مَا مَنَعَكَ أَنْ لاَ تَسْجُدَ}، بدليل الاية الأخرى {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} ،وليس المعنى ما منعك من ترك السجود فإنه ترك فلا يستقيم التوبيخ عليه.
وقيل: ليست بزائدة من وجهين:.
أحدهما: أن التقدير ما دعاك إلى ألا تسجد لأن الصارف عن الشيء داع إلى تركه فيشتركان في كونهما من أسباب عدم الفعل.
الثاني: أن التقدير ما منعك من ألا تسجد.
وهذا أقرب مما قبله لأن فيه إبقاء المنع على أصله وعدم زيادتها أولى لأن حذف حرف الجر مع [أن] كثير كثرة لا تصل إلى المجاز والزيادة في درجته.
قالوا: وفائدة زيادتها تأكيد الإثبات فإن وضع [لا] نفي ما دخلت عليه فهي معارضة للإثبات ولا يخفى أن حصول الحكم مع المعارض أثبت مما إذا لم يعترضه المعارض أو أسقط معنى ما كان من شأنه أن يسقط.
ومنه: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا.أَلاَّ تَتَّبِعَنِ}.
وقيل: وقد تزاد قبل القسم نحو: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ}.
{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}.{لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}، أي أقسم بثبوتها.
وضُعّف في الأخيرة بأنها وقعت صدرا بخلاف ما قبلها لوقوعها بين الفا ومعطوفها.
وقيل: زيدت توطئة لنفي الجواب، أي لا أقسم بيوم القيامة فلا يتركون سدى. ورد بقوله تعالى: { لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} الآيات. فإن جوابه مثبت وهو: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ}.
وقيل: غير زائدة.
وقيل: هي رد لكلام قد تقدم من الكفار فإن القرآن كله كالسورة الواحدة فيجوز أن يكون الأدعاء في سورة والرد عليهم في أخرى فيجوز الوقف على [لا] هذه.
واختلف في قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ}.
فقيل: زائدة ليصح المعنى لأن المحرم الشرك.
وقيل: نافية أو ناهية.
وقيل: الكلام تم عند قوله: {حَرَّمَ رَبُّكُمْ} ،ثم ابتدأ: {عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ}.
وقوله تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} ،فيمن فتح الهمزة فقيل [لا] زائدة وإلا لكان عذرا للكفار.
ورده الزجاج: بأنها نافية في قراءة الكسر4 فيجب ذلك في قراءة الفتح.
وقيل: نافية وحذف المعطوف أي وأنهم يؤمنون.
وقوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ}.
وقيل: [لا] زائدة والمنع: ممتنع على أهل قرية قدرنا إهلاكهم لكفرهم أنهم لا يرجعون عن الكفر إلى قيام الساعة.
وعلى هذا فـ[حرام] خبر مقدم وجوبا لأن المخبر عنه أن [وصلتها].
وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ.وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} على قراءة من نصب {يَأْمُرَكُمْ} عطفا على {يُؤْتِيَهُ} فـ[لا] زائدة مؤكدة لمعنى النفي السابق.
وقيل: عطف على {يَقُولَ}، والمعنى: ما كان لبشر أن ينصبه الله للدعاء إلى عبادته وترك الأنداد ثم يأمر الناس بأن يكونوا عبادا له ويامركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا.
وقيل: ليست زائدة لأنه عليه الصلاة والسلام كان ينهى قريشا عن عبادة الملائكة وأهل الكتاب عن عبادة عزيز وعيسى فلما قالوا له: أنتخذك ربا ؟ قيل لهم: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكمة ثم يأمر الناس بعبادته وينهاهم عن عبادة الملائكة والأنبياء.
زيادة "من".
وأما [من] فإنها تزاد في الكلام الوارد بعد نفي أو شبهه، نحو: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا}.{مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}.{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ}.
وجوز الأخفش زيادتها مطلقا محتجا بنحو قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ}.{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}.{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ}.{وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ}.
وأما [ما] في نحو قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} وقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} فـ[ما] في هذين الموضعين زائدة إلا أن فيها فائدة جليلة وهي أنه لو قال: فبرحمة من الله لنت لهم وبنقضهم لعناهم جوزنا أن اللين واللعن كانا للسببين المذكورين ولغير ذلك فلما أدخل [ما] في الموضوعين قطعنا بأن اللين لم يكن إلا للرحمة وأن اللعن لم يكن إلا لأجل نقض الميثاق.
زيادة "الباء".
وأما [الباء] فتزاد في الفاعل نحو:{كَفَى بِاللَّهِ}،أي كفى الله ونحو[ أحسن بزيد! ]إلا أنها في التعجب لازمة ويجوز حذفها في فاعل {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً}،{وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} وإنما هو [كفى الله] و[كفانا].
وقال الزجاج: دخلت لتضمن [كفى] معنى اكتفى وهو حسن.
وفي المفعول، نحو: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} لأن الفعل يتعدى بنفسه بدليل قوله :{وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} ،ونحو: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ}. {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}.{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ}. {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ}.{فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ}،أي يمسح السوق مسحا.
وقيل: في الأول ضمن [تُلْقُوا] معنى [تُفْضُوا].
وقيل: المعنى لا تلقوا أنفسكم بسبب أيديكم كما يقال لا تفسد أمرك برأيك.
وقيل: في قوله تعالى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} :إن الباء زائدة والمراد: [تنبت الدهن].
وفي المبتدأ، وهو قليل ومنه عند سيبويه: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ}.
وقال أبو الحسن: {بِأَيِّكُمُ} متعلق باستقرار محذوف مخبر عنه بالمفتون ثم اختلف فقيل: [المفتون] مصدر بمعنى الفتنة وقيل: الباء ظرفية أي في أيكم الجنون.
وفي خبر المبتدأ، نحو: {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا}. وقال أبو الحسن: الباء زائدة، بدليل قوله في موضع آخر: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}.
وفي خبر ليس، كقوله تعالى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}.{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}.
وقال ابن عصفور في [المقرب]: وتزاد في نادر كلام لا يقاس عليه، كقوله تعالى: {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}. انتهى.
ومراده الآية التي أولها: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ} ولذا صرح به ابن أبي الربيع في القراءتين.
ويدل على الزيادة الاية التي في [الإسراء]: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ}.
وزعم ابن النحاس أنه أراد الآية الآولى، أعنى قوله: ويعني بقوله في [نادر] في القياس لا في الاستعمال.
زيادة "اللام".
وأما اللام، فتزاد معترضة بين الفعل ومفعوله: كقوله:{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} ، فاعتذر عنه بأنه إنما قال ذلك - وإن كان في خبر ليس - لأن [ليس] هنا بدخول الهمزة عليها لم يبق معناها من النفي فصار الكلام تقريرا
وملكت ما بين العراق ويثرب ... ملكا أجار لمسلم ومعاهد
وجعل منه المبرد قوله تعالى: {رَدِفَ لَكُمْ} ،والأكثرون على أنه ضمن[ ردف ]معنى: اقترب كقوله: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}.
واختلف في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ} ،فقيل: زائدة، وقيل: للتعليل والمفعول محذوف، أي يريد الله التبيين وليبين لكم ويهديكم أي فيجمع لكم بين الأمرين.
وقال الزمخشري في قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}،في سورة الزمر: لك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في[ أردت لأن أفعل ]ولا تزاد إلا مع [أن] خاصة دون الاسم الصريح كأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه، كما أتت السين في [أسطاع] يعني بقطع الهمزة عوضا من ترك الأصل الذى هو [أطوع] والدليل على هذا مجيئة بغير لام، في قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. انتهى.
وزيادتها في[ أردت لأن أفعل ]لم يذكره أكثر النحويين وإنما تعرضوا لها في إعراب: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ}.
وتزاد لتقوية العامل الضعيف إما لتأخره نحو: {هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} ،ونحو: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ}.
أو لكونه فرعا في العمل، نحو: {مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ}،{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}،{نَزَّاعَةً لِلشَّوَى}.
وقيل منه: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} ،وقيل: بل يتعلق بمستقر محذوف صفة لعدو وهي للاختصاص.
وقد اجتمع التأخر والفرعية، في نحو: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ}.
وأما قوله تعالى: {نَذِيراً لِلْبَشَرِ} ،فإن كان [نذيرا] بمعنى المنذر، فهو مثل: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}، وإن كان بمعنى الإنذار فاللام مثلها في:[سقيا لزيد].
وقد تجيء اللام للتوكيد بعد النفي وتسمى لام الجحود وتقع بعد [كان] مثل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} ،اللام لتأكيد النفي كالباء الداخلة في خبر [ليس]، ومعنى قولهم:[إنها للتأكيد] إنك إذا قلت: ما كنت أضربك. بغير لام، جاز أن يكون الضرب مما يجوز كونه فإذا قلت ما كنت لأضربك فاللام جعلته بمنزلة ما لا يكون أصلا.
وقد تأتي مؤكدة في موضع وتحذف في آخر لاقتضاء المقام ذلك.
ومن أمثلته قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ.ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} فإنه سبحانه أكد إثبات الموت الذي لا ريب فيه تأكيدين وأكد إثبات البعث الذي أنكروه تأكيدا واحدا وكان المتبادر العكس لأن التأكيد إنما يكون حيث الإنكار لكن في النظم وجوه:.
أحدها: أن البعث لما قامت البراهين القطعية عليه صار المنكر له كالمنكر للبدهيات فلم يحتج إلى تأكيد وأما الموت فإنه وإن أقروا به لكن لما لم يعلموا ما بعده نزلوا منزلة من لم يقر به فاحتاج إلى تأكيد ذلك لأنه قد ينزل المنكر كغير المنكر إذا كان معه مالو تأمله ارتدع من الإنكار.ولما ظهر على المخاطبين من التمادى في الغفلة والإعراض عن العمل.
لما بعده والانهماك في الدنيا وهي من أمارات إنكار الموت فلهذا قال:[ميتون] ولم يقل: تموتون وإنما أكد إثبات البعث الذي أنكروه تأكيدا واحدا لظهور أدلته المزيلة للإنكار إذا تأملوا فيها ولهذا قيل: تبعثون على الأصل، وهو الاستقبال بخلاف [تموتون].
الثاني: أن دخول اللام على ميتون أحق لأنه تعالى يرد على الدهرية القائلين ببقاء النوع الإنساني خلفا عن سلف وقد أخبر تعالى عن البعث في مواضع من القرآن وأكده وكذب منكره كقوله: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} قاله الشيخ تاج الدين بن الفركاح.
الثالث: أنه لما كان العطف يقتضى الاشتراك في الحكم استغنى به عن إعادة لفظ اللام وكأنه قيل: [لتبعثون] واستغنى بها في الثاني لذكرها في الأول.
الرابع: قال الزمخشري بولغ في تأكيد الموت تنبيها للإنسان أن يكون الموت نصب عينيه ولا يغفل عن ترقبه فإن مآله إليه فكأنه أكدت جملته ثلاث مرات لهذا المعنى لأن الإنسان في الدنيا يسعى فيها غاية السعى كأنه مخلد ولم يؤكد جملة البعث إلا بـ[إن] لأنه أبرز بصورة المقطوع به الذي لا يمكن فيه نزاع ولا يقبل إنكارا.
قلت: هذه الأجوبة من جهة المعنى وأما الصناعة فتوجب ما جاءت الاية الشريفة عليه وهو حذف اللام في [تبعثون] لأن اللام تخلص المضارع للحال فلا يجاء به مع يوم القيامة لأنه مستقبل ولأن تبعثون عامل في الظرف المستقبل.
وأما قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} فيمكن تأويلها بتقدير عامل.
ونظير هذا آية الواقعة وهي قوله سبحانه: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ}. وقال سبحانه في الماء: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} بغير لام، والفرق بينهما من أربعة أوجه:.
أحدها: أن صيرورة الماء ملحا أسهل وأكثر من جعل الحرث حطاما إذ الماء العذب يمر بالأرض السبخة فيصير ملحا فالتوعد به لا يحتاج إلى تأكيد وهذا كما أن الإنسان إذا توعد عبده بالضرب بعصا ونحوه لم يحتج إلى توكيد وإذا توعد بالقتل احتاج إلى تأكيد.
والثاني: إن جعل الحرث حطاما قلب للمادة والصورة وجعل الماء أجاجا قلب للكيفية فقط وهو أسهل وأيسر.
الثالث: أن [لو] لما كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعليق الجزاء [بالشرط] أتى باللام علما على ذلك ثم حذف الثاني للعلم بها لأن الشيء إذا علم [وشهر موقعه وصار مألوفا ومأنوسا به] لم يبال بإسقاطه عن اللفظ [استغناء بمعرفة السامع] ويساوى لشهرته حذفه وإثباته مع ما في حذفه من خفة اللفظ ورشاقته لأن تقدم ذكرها - والمسافة قصيرة - يغنى عن ذكرها ثانيا.
الرابع: أن اللام أدخلت في آية المطعوم للدلالة على أنه يقدم على أمر المشروب وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعا للمطعوم ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب ذكرها والذي قبله الزمخشري.
ومن ذلك حذف اللام في قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} وإثباتها بعد قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الآية. والجواب أنك إذا عطفت على مجرور..
القسم السابع والعشرون: باب الاشتغال.
فإن الشيء إذا أضمر ثم فسر كان أفخم مما إذا لم يتقدم إضمار ألا ترى أنك تجد اهتزازا في نحو قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ}.
وفي قوله: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي}.
وفي قوله: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}.
وفي قوله: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ}- لا تجد مثله إذا قلت: وإن استجارك أحد من المشركين فأجره. وقولك: لو تملكون خزائن رحمة ربي. وقولك: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ أَعَدَّ لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً} وقولك: هدى فريقا وأضل فريقا إذ الفعل المفسر في تقدير المذكور مرتين.
وكذا قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}،{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} ،ونظائره، فهذه فائدة اشتغال الفعل عن المفعول بضميره.
القسم الثامن والعشرون: التعليل.
بأن يذكر الشيء معللا فإنه أبلغ من ذكره بلا علة لوجهين:.
أحدهما: أن العلة المنصوصة قاضية بعموم المعلول ولهذا اعترفت الظاهرية بالقياس في العلة المنصوصة.
الثاني: أن النفوس تنبعث إلى نقل الأحكام المعللة بخلاف غيرها وغالب التعليل في القرآن فهو على تقدير جواب سؤال اقتضته الجملة الأولى وهو سؤال عن العلة.
ومنه: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}.{إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}.{إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}.
وتوضيح التعليل أن الفاء السببية لو وضعت مكان [إن] لحسن.
والطرق الدالة على العلة أنواع:.
الأول: التصريح بلفظ الحكم كقوله تعالى: { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ}.
وقال: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} ،والحكمة هي العلم النافع. والعمل الصالح.
الثاني: أنه فعل كذا لكذا أو أمر بكذا لكذا كقوله تعالى: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}.
وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا}.
{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ}.
{لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ}.
{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ}.
{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}.
{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} وهو كثير.
فإن قيل: اللام فيه للعاقبة كقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} ،وقوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً} ،وإنما قلنا ذلك لأن أفعال الله تعالى لا تعلل.
فالجواب أن معنى قولنا: إن أفعال الله تعالى لا تعلل أي لا تجب ولكنها لا تخلو عن الحكمة وقد أجاب الملائكة عن قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا}بقوله:{قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}.
ولو كان فعله سبحانه مجردا عن الحكم والغايات لم يسأل الملائكة عن حكمته ولم يصح الجواب بكونه يعلم ما لا يعلمون من الحكمة والمصالح وفرق بين العلم والحكمة،.
ولأن لام العاقبة إنما تكون في حق من يجهل العاقبة كقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} وأما من هو بكل شيء عليم فمستحيله في حقه وإنما اللام الواردة في أحكامه وأفعاله لام الحكمة والغاية المطلوبة من الحكمة ثم قوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} هو تعليل لقضاء الله بالتقاطه وتقديره لهم فإن التقاطهم لهم إنما كان بقضائه وقدره وذكر فعلهم دون قضائه لأنه أبلغ في كونه حزنا لهم وحسرة عليهم.
قاعدة تفسيرية:.
حيث دخلت واو العاطف على لام التعليل فله وجهان:.
أحدهما: أن يكون تعليلا معللة محذوف كقوله تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً} ، فالمعنى وللإحسان إلى المؤمنين فعل ذلك.
الثاني: أن يكون معطوفا على علة أخرى مضمرة ليظهر صحة العطف كقوله تعالى: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى}، التقدير: ليستدل بها المكلف على قدرته تعالى ولتجزى. وكقوله: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ}، التقدير: ليتصرف فيها ولنعلمه.
والفرق بين الوجهين: أنه في الأول عطف جملة على جملة، وفي الثاني عطف مفرد على مفرد.
وقد يحتملهما الكلام كقوله تعالى: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} ، فالتقدير على الأول ولنجعله آية فعلنا ذلك، وعلى الثاني: ولنبين للناس قدرتنا ولنجعله آية ويطرد الوجهان في نظائره ويرجح كل واحد بحسب المقام وحذف المعلل هاهنا أرجح إذ لو فرض علة أخرى لم يكن بد من معلل محذوف وليس قبلها ما يصلح له.
فإن قلت: لم قدر المعلل مؤخرا ؟.
قلت: فائدة هذا الاسلوب هو أن يجاء بالعلة بالواو للاهتمام بشأن العلة المذكورة لأنه إما أن يقدر علة أخرى ليعطف عليها فيكون اختصاص ذكرها لكونها أهم وإما أن يكون على تقدير معلل فيجب أن يكون مؤخرا ليشعر تقديمه بالاهتمام.
الثالث: الإتيان بكي، كقوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} ،فعلل سبحانه الفىء بين هذه الأصناف كيلا يتداوله الأغنياء دون الفقراء.
وقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ.لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} ،وأخبر سبحانه أنه قدر ما يصيبهم من البلاء في أنفسهم قبل أن تبرأ الأنفس أو المصيبة او الأرض أو المجموع ثم أخبر أن مصدر ذلك قدرته عليه وأنه هين عليه وحكمته البالغة التي منها ألا يحزن عباده على ما فاتهم ولا يفرحوا بما آتاهم فإنهم إذا علموا أن المصيبة فيه مقدرة كائنة ولا بد قد كتبت قبل خلقهم هان عليهم الفائت فلم يأسوا عليه ولم يفرحوا.
الرابع: ذكر المفعول له وهو علة للفعل المعلل به كقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً}.
ونصب ذلك على المفعول له أحسن من غيره كما صرح به في قوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}.
وقوله: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.
وقوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} ،أي لأجل الذكر كما قال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
وقوله: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً.عُذْراً أَوْ نُذْراً} ،أي للإعذار والإنذار.
وقد يكون معلولا بعلة أخرى، كقوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} ،فـ[ من الصواعق ] يحتمل أن تكون فيه [من] لابتداء الغاية فتتعلق بمحذوف أي خوفا من الصواعق ويجوز أن تكون معللة بمعنى اللام كما في قوله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ} أي لغم وعلى كلا التقديرين فـ[ من الصواعق ]في محل نصب على أنه مفعول له والعامل فيه [يجعلون]. [و حذر الموت] مفعول له أيضا فالعامل فيه [من الصواعق] فـ[ من الصواعق ]علة لـ[ يجعلون ]. معلول لحذر الموت لأن المفعول الأول الذي هو [من الصواعق] يصلح جوابا لقولنا: لم يجعلون أصابعهم في آذانهم ؟ والمفعول الثاني الذي هو [حذر الموت] يصلح جوابا لقولنا: لم يخافون من الصواعق ؟فقد ظهر ذلك.
الخامس: اللام في المفعول له، وتقوم مقامه الباء، نحو: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا}.
ومن، نحو: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا}.
والكاف، نحو: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ} ،وقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} ،وقال: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ }أي لإرسالنا وتعليمنا.
السادس: الإتيان بإن، كقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}.
{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}.
{فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً}.
وكقوله: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} ، وليس هذا من قولهم لأنه لو كان قولهم لما حزن الرسول وإنما جيء بالجملة لبيان العلة والسبب في أنه لا يحزنه قولهم.
وكذلك قوله تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} والوقف على القول في هاتين الآيتين والابتداء بإن لازم.
وقد يكون علة كقوله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً.إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} وفيها وجهان لأهل المعاني.
أحدهما: أن سؤالهم لصرف العذاب معلل بأنه غرام أي ملازم الغريم وبأنها ساءت مستقرا ومقاما.
الثاني: أن [ساءت]. تعليل لكونه غراما.
السابع: أن والفعل المستقبل بعدها تعليلا لما قبله، كقوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا}.
وقوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}.
وقوله: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}.
كأنه قيل: لم فاضت أعينهم من الدمع ؟ قيل: للحزن، فقيل: لم حزنوا ؟ فقيل: لئلا يجدوا.
وقوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}.
ونظائره كثيرة. وفي ذلك طريقان:.
أحدهما: للكوفيين، أن المعنى لئلا يقولوا ولئلا تقول نفس.
الثاني: للبصريين، أن المفعول محذوف، أي كراهة أن يقولوا أو حذار أن يقولوا فإن قيل: كيف يستقيم الطريقان في قوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} ؟فإنك إذا قدرت:[ لئلا تضل إحداهما ]لم يستقم عطف [فتذكّر] عليه وإن قدرت:[حذار أن تضل إحداهما] لم يستقم العطف أيضا لأنه لا يصح أن تكون الضلالة علة لشهادتهما.
قيل: بظهور المعنى يزول الإشكال، فإن المقصود إذكار إحداهما الأخرى إذا ضلت نسيت، فلما كان الضلال سببا للإذكار جعل موضع العلة، تقول:[ أعددت هذه الخشبة ان تميل الحائط فأدعم بها]، فإنما أعددتها للدعم لا للميل، وأعددت هذا الدواء أن أمرض فأدواى به ونحوه. هذا قول سيبويه والبصريين.
وقال الكوفيون: تقديره في:[ تذكِّر إحداهما الأخرى ] إن ضلت فلما تقدم الجزاء اتصل بما قبله ففتحت أن.
الثامن:[ من أجل ]في قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ} فإنه لتعليل الكتب، وعلى هذا فيجب الوقف على: {مِنَ النَّادِمِينَ} وظن قوم أنه تعليل لقوله: {مِنَ النَّادِمِينَ} ،أي من أجل قتله لأخيه وهو غلط لأنه يشوش صحة النظم ويخل بالفائدة.
فإن قلت: كيف يكون قتل أحد ابني آدم للآخر علة للحكم على أمة أخرى بذلك الحكم؟ وإذا كان علة فكيف كان قتل نفس واحدة بمنزلة قاتل الناس كلهم؟.
قيل: إن الله - سبحانه - يجعل أقضيته وأقداره عللآ لأسبابه الشرعية وأمره فجعل حكمه الكوني القدري علة لحكمة أمره الديني لأن القتل لما كان من أعلى.
أنواع الظلم والفساد فخم أمره وعظم شأنه وجعل أنمة أعظم من أثم غيره ونزل قاتل النفس الواحدة منزلة قاتل الأنفس كلها في أصل العذاب لا في وصفه.
التاسع: التعليل بلعل، كقوله تعالى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، قيل: هو تعليل لقوله:[ اعبدوا ]، وقيل لقوله:[خلقكم].
وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} حيث لمح فيها معنى الرجاء رجعت إلى المخاطبين.
العاشر: ذكر الحكم الكوني أو الشرعي عقب الوصف المناسب له، فتارة يذكر بأن وتارة بالفاء وتارة يجرد.
فالأول: كقوله تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} إلى قوله: {خَاشِعِينَ}. وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ.آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ}.
والثاني : كقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}.{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}.
والثالث: كقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ.ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ} {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
الحادي عشر: تعليله سبحانه عدم الحكم بوجود المانع منه، كقوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} الآية.
وقوله: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ}.
{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ}، أي آيات الاقتراح لا الآيات الدالة على صدق الرسل التي تأتي منه سبحانه ابتداء.
وقوله :{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ}.
وقوله: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ} ،فأخبر سبحانه عما يمنع من إنزال الملك عيانا بحيث يشاهدونه وإن عنايته وحكمته بخلقه اقضت منع ذلك بأنه لو أنزل عليه الملك ثم عاينوه ولم يؤمنوا به لعوجلوا بالعقوبة جعل الرسول بشرا ليمكنهم التلقي عنه والرجوع إليه ولو جعله ملكا فإما أن يدعه على هيئته الملكية أو يجعله على هيئة البشر والأول يمنعهم من التلقي عنه والثاني لا يحصل مقصوده إذا كانوا يقولون: هو بشر لا ملك.
الثاني عشر: إخباره عن الحكم والغايات التني جعلها في خلقه وأمره، كقوله:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} الآية.
وقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً} الآيات.
وقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً} . الآية.
وكما يقصدون البسط والاستيفاء يقصدون الإجمال والإيجاز كما قيل:
يَرْمُوْنَ بِالخَطْبِ الطِوَاِل وتارة
وَحْيَ المُلاَحظ خِيْفَةَ الرُقَبَاِء
وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً}.
الأسلوب الثاني: الحذف.
وهو لغة الإسقاط، ومنه حذفت الشعر إذا أخذت منه.
واصطلاحا إسقاط جزء الكلام أو كله لدليل. وأما قول النحويين الحذف لغير دليل، ويسمى اقتصارا، فلا تحرير فيه، لأنه لا حذف فيه بالكلية كما سنبينه فيما يلتبس به الإضمار والإيجاز.
والفرق بينهما: أن شرط الحذف والإيجاز أن يكون [في الحذف] ثم مقدر، نحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} بخلاف الإيجاز فإنه عبارة عن اللفظ القليل الجامع للمعاني الجمة بنفسه.
والفرق بينه وبين الإضمار: أن شرط المضمر بقاء أثر المقدر في اللفظ، نحو: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}.{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ}.{انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ}. أي ائتوا أمرا خيرا لكم وهذا لا يشترط في الحذف.
ويدل على أنه لا بد في الإضمار من ملاحظة المقدر باب الاشتقاق فإنه من أضمرت الشيء أخفيته، قال:
سيبقى لها في مضمر القلب والحشا
وأما الحذف فمن حذفت الشيء قطعته وهو يشعر بالطرح بخلاف الإضمار ولهذا قالوا: [أن] تنصب ظاهرة ومضمرة.
ورد ابن ميمون قول النحاة: إن الفاعل يحذف في باب المصدر وقال الصواب: أن يقال: يضمر ولا يحذف لأنه عمدة في الكلام.
وقال ابن جنى في [خاطرياته]: من اتصال الفاعل بالفعل أنك تضمره في لفظ إذا عرفته نحو قم ولا تحذفه كحذف المبتدأ ولهذا لم يجز عندنا ما ذهب إليه الكسائي في ضربني وضربت قومك.
فصل: في أن الحذف نوع من أنواع المجاز على المشهور.
المشهور أن الحذف مجاز وحكى إمام الحرمين في [التلخيص] عن بعضهم: أن الحذف ليس بمجاز إذ هو استعمال اللفظ في غير موضعه والحذف ليس كذلك.
وقال ابن عطية في تفسير سورة يوسف: وحذف المضاف هو عين المجاز أو معظمه وهذا مذهب سيبويه وغيره من أهل النظر وليس كل حذف مجازا. انتهى.
وقال الزبخاني في [المعيار]: إنما يكون مجازا إذا تغير بسببه حكم، فأما إذا لم يتغير به حكم كقولك زيد منطلق وعمرو بحذف الخبر فلا يكون مجازا إذا لم يتغير حكم ما بقى من الكلام.
والتحقيق أنه إن أريد بالمجاز استعمال اللفظ في غير موضعه فالمحذوف ليس كذلك لعدم استعماله وإن أريد بالمجاز إسناد الفعل إلى غيره - وهو المجاز العقلي - فالحذف كذلك.
فصل: في أن الحذف خلاف الأصل.
والحذف خلاف الأصل وعليه ينبني فرعان:.
أحدهما: إذا دار الأمر بين الحذف وعدمه كان الحمل على عدمه أولى لأن الأصل عدم التغيير.
والثاني: إذا دار الأمر بين قلة المحذوف وكثرته كان الحمل على قلته أولى.
أوجه الكلام على الحذف.
ويقع الكلام في الحذف من خمسة أوجه في فائدته وفي أسبابه ثم في أدلته ثم في شروطه ثم في أقسامه.

[ البرهان في علوم القرآن ( 3 / 73 ـ 103 ) ]


رد مع اقتباس
  #7  
قديم 12 ذو القعدة 1430هـ/30-10-2009م, 06:17 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي

فوائد الحذف .
الوجه الأول: في فوائده:.
فمنها: التفخيم والإعظام، لما فيه من الإبهام لذهاب الذهن في كل مذهب وتشوفه إلى ما هو المراد فيرجع قاصرا عن إدراكه فعند ذلك يعظم شأنه ويعلو في النفس مكانه ألا ترى أن المحذوف إذا ظهر في اللفظ زال ما كان يختلج في الوهم من المراد وخلص للمذكور!.
ومنها: زيادة لذة بسبب استنباط الذهن للمحذوف وكلما كان الشعور بالمحذوف أعسر كان الالتذاذ به أشد وأحسن.
ومنها: زيادة الأجر بسبب الاجتهاد في ذلك بخلاف غير المحذوف كما تقول في العلة المستنبطة والمنصوصة.
ومنها: طلب الإيجاز والاختصار وتحصيل المعنى الكثير في اللفظ القليل.
ومنها : التشجيع على الكلام ومن ثم سماه ابن جنى:[ شجاعة العربية].
ومنها : موقعه في النفس في موقعه على الذكر ولهذا قال شيخ الصناعتين عبد القاهر الجرجاني: ما من اسم حذف في الحالة التي ينبغي أن يحذف فيها إلا وحذفه أحسن من ذكره. ولله در القائل:
إذا نطقت جاءت بكل مليحة وإن سكتت جاءت بكل مليح
أسباب الحذف
الثاني: في أسبابه:.
فمنها: مجرد الاختصار والاحتراز عن العبث بناء على الظاهر نحو الهلال والله أي هذا فحذف المبتدأ استغناء عنه بقرينة شهادة الحال إذ لو ذكره مع ذلك لكان عبثا من القول.
ومنها : التنبيه على أن الزمان يتقاصر عن الإتيان بالمحذوف وأن الاشتغال بذكره يفضى إلى تفويت المهم وهذه هي فائدة باب التحذير، نحو: إياك والشر والطريق الطريق الله الله وباب الإغراء هو لزوم أمر يحمد به وقد اجتمعا في قوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} على التحذير أي احذروا ناقة الله فلا تقربوها و[سقياها] إغراء بتقدير الزموا ناقة الله.
ومنها: التفخيم والإعظام قال حازم في [منهاج البلغاء]: إنما يحسن الحذف ما لم.
شكل به المعنى لقوة الدلالة عليه أو يقصد به تعديد أشياء فيكون في تعدادها طول وسآمة فيحذف ويكتفى بدلالة الحال عليه وتترك النفس تجول في الاشياء المكتفى بالحال عن ذكرها على الحال قال: وبهذا القصد يؤثر في المواضع التي يراد بها التعجب والتهويل علىالنفوس ومنه قوله تعالى في وصف أهل الجنة: {إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} فحذف الجواب، إذ كان وصف ما يجدونه ويلقونه عند ذلك لا يتناهى فجعل الحذف دليلا على ضيق الكلام عن وصف ما يشاهدونه وتركت النفوس تقدر ما شأنه ولا يبلغ مع ذلك كنه ما هنالك لقوله عليه الصلاة والسلام: " لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ".
قلت ومنه: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ } ما لا يعلم كنهه إلا الله قال الزمخشري وهذا من باب الاختصار ومن جوامع الكلم المتحملة مع قلتها للمعاني الكثيرة.
ومنها: التخفيف لكثرة دورانه في كلامهم كما حذف حرف النداء في نحو: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} وغيره. قال سيبويه: العرب تقول لا أدر فيحذفون الياء والوجه [لا أدري] لأنه رفع وتقول:[لم أبل] فيحذفون الألف والوجه لم أبال ويقولون:[لم يك] فيحذفون النون كل ذلك يفعلونه استخفافا لكثرته في كلامهم.
ومنها: حذف نون التثنية والجمع وأثرها باق نحو: الضاربا زيدا، والضاربو زيدا. وقراءة من قرأ: {والمُقِيمِى الصَّلاةَ} كأن النون ثابتة فعلوا ذلك لاستطالة الموصول.
في الصلة، نحو: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} حذفت الياء للتخفيف.
ويحكى عن الأخفش أن المؤرج السدوسي سأله:[ عن ذلك ] فقال: لا أجيبك حتى تنام على بابي ليلة ففعل فقال له: إن عادة العرب إذا عدلت بالشيء عن معناه نقصت حروفه والليل لما كان لا يسري وإنما يسري فيه نقص منه حرف كما في قوله: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} الأصل [بغية] فلما حول ونقل عن فاعل نقص منه حرف انتهى.
ومنها: رعاية الفاصلة، نحو: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}. {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} ونحوه. وقال الرماني: إنما حذفت الياء في الفواصل لأنها على نية الوقف وهي في ذلك كالقوافي التي لا يوقف عليها بغير ياء.
ومنها: أن يحذف صيانة له كقوله تعالى :{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} إلى قوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} حذف المبتدأ في ثلاثة مواضع: قبل ذكر الرب، أي هو رب السموات. والله ربكم. والله رب المشرق، لأن موسى عليه السلام استعظم حال فرعون وإقدامه على السؤال تهيبا وتفخيما فاقتصر على ما يستدل به من أفعاله الخاصة به ليعرفه أنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
ومنها: صيانة اللسان عنه كقوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} أي هم.
ومنها: كونه لا يصلح إلا له كقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}.
ومنها: شهرته حتى يكون ذكره وعدمه سواء قال الزمخشري وهو نوع من دلالةالحال التي لسانها أنطق من لسان المقال كقول رؤبة خير جواب من قال كيف أصبحت فحذف الجار وعليه حمل قراءة حمزة: {تَسَاءَلُونَ بِهِ}. لأن هذا مكان شهر بتكرير الجار فقامت الشهرة مقام الذكر.
وكذا قال الفارسي متلخصا من عدم إعادة حرف الجر في المعطوف على الضمير المجرور: إنه مجرور بالجار المقدر أي و[بالأرحام] وإنما حذفت استغناء به في المضمر المجرور قبله.
فإن قلت: هذا المقدر يحيل المسألة لأنه يصير من عطف الجار والمجرور على مثله!.
قلت: إعادة الجار شرط لصحة العطف لا أنه مقصود لذاته.
أدلة الحذف.
الوجه الثالث: في أدلته :.
ولما كان الحذف لا يجوز إلا لدليل احتيج إلى ذكر دليله.
والدليل تارة يدل على محذوف مطلق وتارة على محذوف معين.
فمنها: أن يدل عليه العقل حيث تستحيل صحة الكلام عقلا إلا بتقدير محذوف،.
كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} فإنه يستحيل عقلا تكلم الأمكنة إلا معجزة.
ومنها: أن تدل عليه العادة الشرعية كقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ}.
فإن الذات لا تتصف بالحل والحرمة شرعا إنما هما من صفات الأفعال الواقعة على الذوات فعلم أن المحذوف التناول ولكنه لما حذف وأقيمت الميتة مقامه أسند إليها الفعل وقطع النظر عنه فلذلك أنث الفعل في بعض الصور كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وقول صاحب التلخيص: إن هذه الآية من باب دلالة العقل ممنوع لأن العقل لا يدرك محل الحل ولا الحرمة فلهذا جعلناه من دلالة العادة الشرعية.
ومنها: أن يدل العقل عليهما أي على الحذف والتعيين كقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} ،أي أمره أو عذابه أو ملائكته لأن العقل دل على أصل الحذف ولاستحالة مجيء البارىء عقلا لأن المجيء من سمات الحدوث ودل العقل ايضا على التعيين وهو الأمر ونحوه وكلام الزمخشري يقتضي أنه لا حذف البتة، فإنه قال: هذه الآية الكريمة تمثيل مثلت حاله سبحانه وتعالى في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه.
وكقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ} ،لأنه في معرض التوحيد فعدم الفساد دليل على عدم تعدد الآلهة وإنما حذف لأن انتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم ضرورة ولذلك لم يذكر المقدمة الثانية عند استعمال الشرط بلوغا لها.
ومنها: أن يدل العقل على أصل الحذف وتدل عادة الناس على تعيين المحذوف، كقوله تعالى: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} فإن يوسف عليه السلام ليس ظرفا للومهن فتعين أن يكون غيره فقد دل العقل على أصل الحذف.
ثم يجوز أن يكون الظرف حبه بدليل: {شَغَفَهَا حُبّاً} أو مراودته بدليل: {تُرَاوِدُ فَتَاهَا} ،ولكن العقل لا يعين واحدا منها بل العادة دلت على أن المحذوف هو الثاني فإن الحب لا يلام عليه صاحبه لأنه يقهره ويغلبه وإنما اللوم فيما للنفس فيه اختيار وهو المراودة لقدرته على دفعها.
ومنها: أن تدل العادة على تعيين المحذوف كقوله تعالى: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً} ، أي مكان قتال والمراد مكانا صالحا للقتال لأنهم كانوا أخبر الناس بالقتال والعادة تمنع أن يريدوا لو نعلم حقيقة القتال فلذلك قدره مجاهد: [مكان قتال].
وقيل: إن تعيين المحذوف هنا من دلالة السياق لا العادة.
ومنها: أن يدل اللفظ على الحذف والشروع في الفعل على تعيين المحذوف كقوله: { بِسْمِ اللَّهِ} فإن اللفظ يدل على أن فيه حذفا لأن حرف الجر لا بد له من متعلق ودل الشروع على تعيينه وهو الفعل الذي جعلت التسمية في مبدئه من قراءة أو أكل أو شرب ونحوه ويقدر في كل موضع ما يليق ففي القراءة أقرأ وفي الأكل: آكل ونحوه.
وقد اختلف هل يقدر الفعل أو الاسم وعلى الأول فهل يقدر عام كالابتداء أو خاص كما ذكرنا ؟.
ومنها: اللغة كضربت فإن اللغة قاضية أن الفعل المتعدي لا بد له من مفعول نعم هي تدل على أصل الحدث لا تعيينه وكذلك حذف المبتدأ والخبر.
ومنها: تقدم ما يدل على المحذوف وما في سياقه كقوله: {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} ، وفي موضع آخر نحو: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} وفي موضع: {أَلاَّ تَسْجُدَ}. وكقوله: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ} أي هذا، بدليل ظهوره في سورة إبراهيم فقال تعالى :{هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ} ونظائره.
ومنها: اعتضاده بسبب النزول، كما في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} فإنه لا بد فيه من تقدير فقال زيد بن أسلم أي قمتم من المضاجع يعني النوم وقال غيره إنما يعني إذا قمتم محدثين.
واحتج لزيد بأن هذه الآية إنما نزلت بسبب فقدان عائشة رضي الله عنها عقدها فأخروا الرحيل إلى أن أضاء الصبح فطلبوا الماء عند قيامهم من نومهم فلم يجدوه فأنزل الله هذه الاية.
وبما رجح من طريق النظر بأن الأحداث المذكورة بعد قوله: {إِذَا قُمْتُمْ} الأولى أن يحمل قوله: {إِذَا قُمْتُمْ} معنى غير الحدث لما فيه من زيادة الفائدة فتكون الآية جامعة للحدث ولسبب الحدث، فإن النوم ليس بحدث بل سبب للحدث.
شروط الحذف.
الوجه الرابع: في شروطه.
فمنها: أن تكون في المذكور دلالة على المحذوف إما من لفظه أو من سياقه وإلا لم يتمكن من معرفته فيصير اللفظ مخلا بالفهم ولئلا يصير الكلام لغزا فيهج في الفصاحة وهو معنى قولهم: لا بد أن يكون فيما أبقى دليل على ما ألقى.
وتلك الدلالة مقالية وحالية.
فالمقالية قد تحصل من إعراب اللفظ وذلك كما إذا كان منصوبا فيعلم أنه لا بد له.
من ناصب وإذا لم يكن ظاهرا لم يكن بد من أن يكون مقدرا نحو: أهلا وسهلا ومرحبا أي وجدت أهلا وسلكت سهلا وصادفت رحبا. ومنه قوله تعالى: {الْحَمْدَ لِلَّهِ} على قراءة النصب. وكذلك قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} والتقدير: احمدوا الحمد واحفظوا الأرحام، وكذلك قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً}.{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}.
والحالية قد تحصل من النظر إلى المعنى والنظر والعلم، فإنه لا يتم إلا بمحذوف وهذا يكون أحسن حالا من النظم الأول لزيادة عمومه كما في قوله فلان يحل ويربط أي يحل الأمور ويربطها أي ذو تصرف.
وقد تدل الصناعة النحوية على التقدير، كقولهم في: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} :إن التقدير لأنا أقسم لأن فعل الحال لا يقسم عليه. وقوله تعالى: {تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} التقدير لا تفتأ لأنه لو كان الجواب مثبتا لدخلت اللام والنون كقوله: {بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنّ}.
وهذا كله عند قيام دليل واحد وقد يكون هنا أدلة يتعدد التقدير بحسبها كما في قوله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} فإنه يحتمل ثلاثة أمور أحدها كمن لم يزين له سوء عمله والمعنى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} من الفريقين اللذين تقدم ذكرهما كمن لم يزين له!! ثم كأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قيل له ذلك، قال: لا، فقيل: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} ثانيها: تقدير: ذهبت نفسك عليهم حسرات فحذف الخبر لدلالة {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}.
ثالثها: تقدير:[ كمن هداه الله ]،فحذف لدلالة: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} واعلم أن هذا الشرط إنما يحتاج إليه إذا كان المحذوف الجملة بأسرها نحو :{قَالُوا سَلاماً} أي سلمنا سلاما أو أحد ركنيها نحو :{قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ } أي سلام عليكم أنتم قوم منكرون فحذف خبر الأولى ومتبدأ الثانية.
وأما إذا كان المحذوف فضلة فلا يشترط لحذفه دليل، ولكن يشترط ألا يكون في حذفه إخلال بالمعنى أو اللفظ كما في حذف العائد المنصوب ونحوه.
وشرط ابن مالك في حذف الجار ايضا أمن اللبس ومنع الحذف في نحو: رغبت أن تفعل أو عن أن تفعل لإشكال المراد يعد الحذف.
وأورد عليه {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} ،فحذف الحرف.
وجوابه أن النساء يشتملن على وصفين وصف الرغبة فيهن وعنهن فحذف للتعميم.
وشرط بعضهم في الدليل اللفظي أن يكون على وفق المحذوف. وأنكر قول الفراء في قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ.بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} أن التقدير: بلى حسبنا قادرين والحساب المذكور بمعنى الظن والمحذوف بمعنى العلم إذ التردد في الإعادة كفر فلا يكون مأمورا به.
ويجاب بأن الحساب المقدر بمعنى الجزم والاعتقاد لا بمعنى الظن وتقديره بذلك أولى لموافقته الملفوظ.
وقد يدل على المحذوف ذكره في مواضع أخر:.
منها: وهو أقواها، كقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} أي أمره بدليل قوله: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ}.
وقوله في آل عمران: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} ،أي كعرض بدليل التصريح به في آية الحديد.
وفيه إيجاز بليغ فإنه إذا كان العرض كذلك فما ظنك بالطول! كقوله: {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ}.
وقيل: إنما أراد التعظيم والسعة لأحقية العرض، كقوله:
كأن بلاد الله وهي عريضة على الخائف المظلوم كفة حابل
ومنها: ألا يكون الفعل طالبا له بنفسه، فإن كان امتنع حذفه كالفاعل ومفعول ما لم يسم فاعله واسم كان وأخواتها وإنما لم يحذف لما في ذلك من نقض الغرض.
ومنها: قال أبو الفتح بن جنى ومن حق الحذف أن يكون في الأطراف لا في الوسط لأن طرف الشيء أضعف من قلبه ووسطه،قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} وقال الطائي الكبير:
كانت هي الوسط الممنوع فاستلبت ما حولها الخيل حتى أصبحت طرفا
فكأن الطرفين سياج للوسط ومبذولان للعوراض دونه، ولذلك تجد الإعلال عند التصريفيين بالحذف منها فحذفوا الفاء في المصادر من باب وعد نحو العدة والزنة والهبة واللام في نحواليد والدم والفم والأب والأخ وقلما تجد الحذف في العين لما ذكرنا وبهذا يظهر لطف هذه اللغة العربية.
[ البرهان في علوم القرآن ( 3 / 104 ـ 114 ) ]


رد مع اقتباس
  #8  
قديم 12 ذو القعدة 1430هـ/30-10-2009م, 06:21 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي

تنبيهات:.
الأول: قد توجب صناعة النحو التقدير وإن كان المعنى غير متوقف عليه كما في قوله" لا إله إلا الله " فإن الخبر محذوف وقدره النحاة: [موجود] أو [لنا].
وأنكره الإمام فخر الدين وقال: هذا كلام لا يحتاج إلى تقدير وتقديرهم فاسد لأن نفي الحقيقة مطلقة أعم من نفيها مقيدة فإنها إذا انتفت مطلقة كان ذلك دليلا على سلب الماهية مع القيد وإذا انتفت مقيدة بقيد مخصوص لم يلزم نفيها مع قيد آخر.
ولا معنى لهذا الإنكار فإن تقدير [في الوجود] يستلزم نفي كل إله غير الله قطعا فإن العدم لا كلام فيه فهو في الحقيقة نفي للحقيقة مطلقة لا مقيدة. ثم لا بد من تقدير خبر لاستحالة مبتدأ بلا خبر ظاهرا أو مقدرا وإنما يقدر النحوي القواعد حقها وإن كان المعنى مفهوما وتقديرهم هنا أو غيره ليروا صورة التركيب من حيث اللفظ مثالا، لا من حيث المعنى ولهم تقديران إعرابي وهو الذي خفي على المعترض ومعنوي وهو الذي ألزمه وهو غير لازم.
ومن المنكر في هذا أيضا قول ابن الطراوة: إن الخبر في هذا [إلا الله] وكيف يكون المبتدأ نكرة والخبر معرفة!.
الثاني: اعتبر أبو الحسن في الحذف التدريج حيث أمكن ولهذا قال في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} إن أصل الكلام: [يوم لا تجزي فيه] فحذف حرف الجر فصار [تجزيه] ثم حذف الضمير فصار [تجزي].
وهذا ملاطفة في الصناعة، ومذهب سيبويه أنه حذف فيه دفعة واحدة.
وقال أبو الفتح في [المحتسب]: وقول أبي الحسن أوثق في النفس وآنس من أن يحذف الحرفان معا في وقت واحد.
الثالث: المشهور في قوله تعالى: {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ} ،أنه معطوف على جملة محذوفة التقدير:[ فضرب فانفجرت ]ودل [انفجرت] على المحذوف لأنه يعلم من الانفجار أنه قد ضرب.
وكذا: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} ،إذ لا جائز أن يحصل الانفجار والانفلاق دون ضرب.
وابن عصفور يقول في مثل هذا: إن حرف العطف المذكور مع المعطوف هو الذي كان مع المعطوف عليه وإن المحذوف هو المعطوف عليه وحذف حرف العطف من المعطوف
فالفاء في [انفلق] هو فاء الفعل المحذوف وهو [ضرب] فذكرت فاؤه وحذف فعلها وذكر فعل [انفلق] وحذفت فاؤه ليدل المذكور على المحذوف وهو تحيل غريب.
أقسام الحذف.
الخامس: في أقسامه:.
الأول: الاقتطاع، وهو ذكر حرف من الكلمة وإسقاط الباقي، كقوله:
*درس المنا بمتالع فأبان*
أي المنازل وأنكر صاحب [المثل السائر] ورود هذا النوع في القرآن العظيم وليس كما قال.
وقد جعل منه بعضهم فواتح السور لأن كل حرف منها يدل على اسم من أسماء الله تعالى كما روى ابن عباس:" [الم] معناه:[ أنا الله أعلم وأرى ]و [المص] أنا لله أعلم وأفصل وكذا الباقي.
وقيل في قوله:{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}:إن الباء هنا أول كلمة [بعض] ثم حذف الباقي كقوله:
*قلت لها قفي لنا قالت قاف*
أي وقفت، وفي الحديث: " كفى بالسيف شا " أي شاهدا.
وقال الزمخشري في قوله:{من الله}في القسم: إنها [أيمن] التي تستعمل في القسم حذفت نونها.
ومن هذا الترخيم ومنه قراءة بعضهم:[ يا مال ]على لغة من ينتظر ولما سمعها بعض السلف قال ما أشغل أهل النار عن الترخيم وأجاب بعضهم بأنهم لشدة ما هم فيه عجزوا عن إتمام الكلمة.
الثاني: الاكتفاء وهو أن يقتضى المقام ذكر شيئين بينهما تلازم وارتباط فيكتفى بأحدهما عن الآخر ويخص بالارتباط العطفي غالبا فإن الارتباط خمسة أنواع وجودي ولزومي وخبري وجوابي وعطفي.
ثم ليس المراد الاكتفاء بأحدهما كيف اتفق بل لأن فيه نكتة تقتضى الاقتصار عليه.
والمشهور في مثال هذا النوع قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} أي والبرد هكذا قدروه. وأوردوا عليه سؤال الحكمة من تخصيص الحر بالذكر وأجابوا بأن الخطاب للعرب وبلادهم حارة والوقاية عندهم من الحر أهم لأنه أشد من البرد عندهم.
والحق أن الآية ليست من هذا القسم فإن البرد ذكر الامتنان بوقايته قبل ذلك صريحا في قوله: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} وقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ
الْجِبَالِ أَكْنَاناً} وقوله في صدر السورة: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ}.
فإن قيل: فما الحكمة في ذكر الوقايتين بعد قوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً} ،فإن هذه وقاية الحر، ثم قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً} ،فهذه وقاية البرد على عادة العرب ؟.
قيل: لأن ما تقدم بالنسبة إلى المساكن وهذه إلى الملابس، وقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً} لم يذكره السهيلي، وفيه الجوابان السابقان.
وأمثلة هذا القسم كثيرة، كقوله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}.
فإنه قيل: المراد:[ وما تحرك ]وإنما آثر ذكر السكون لأنه أغلب الحالين على المخلوق من الحيوان والجماد ولأن الساكن أكثر عددا من المتحرك أو لأن كل متحرك يصير إلى السكون ولأن السكون هو الأصل والحركة طارئة.
وقوله: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} تقدير: [والشر] إذ مصادر الأمور كلها بيده جل جلاله وإنما آثر ذكر الخير لأنه مطلوب العباد ومرغوبهم إليه أو لأنه أكثر وجودا في العالم من الشر ولأنه يجب في باب الأدب إلا يضاف إلى الله تعالى كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "والشر ليس إليك" .
وقيل: إن الكلام إنما ورد ردا على المشركين فيما أنكروه مما وعده الله به على لسان جبريل من فتح بلاد الروم وفارس ووعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه بذلك فلما كان الكلام في الخير خصه بالذكر باعتبار الحال.
وقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ،أي والشهادة لأن الإيمان بكل منهما واجب وآثر الغيب لأنه أبدع ولأنه يستلزمالإيمان بالشهادة من غير عكس.
ومثله: {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً.عَالِمُ الْغَيْبِ} ،أي والشهادة بدليل التصريح به في موضع آخر.
وقوله: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} ،فإنه سبحانه ذكر أولا الظلمات والرعد والبرق وطوى الباقي.
ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ} أي والبر، وإنما آثر ذكر البحر لأن ضرره أشد.
وقوله: {وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} ،أي والمغارب.
وقوله: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} أي ولا غير إلحاف.
وقوله: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} ،أي وأخرى غير قائمة.
وقوله: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} ،أي والمؤمنين.
وقوله: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} ،أي والكافرين. قاله ابن الأنباري، ويؤيده قوله: {هُدىً لِلنَّاسِ}.
وقوله: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} ،قيل: المعنى وآخر كافر به فحذف المعطوف لدلالة قوة الكلام من جهة أن أول الكفر وآخره سواء وخصت الأولوية بالذكر لقبحها بالابتداء.
وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ} ،أي ويبسطن قاله الفارسي.
وحكى في [التذكرة] عن بعض أهل التأويل في قوله تعالى: {أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى} أن المعنى:[ أكاد أظهرها أخفيها لتجزي ]، فحذف [أظهرها] لدلالة [أخفيها عليه].
قال: وعندي أن المعنى:[ أزيل خفاءها ]،فلا حذف.
وقوله: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} ،أي بين أحد وأحد.
وقوله: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} ،أي ومن أنفق بعده وقاتل لأن الاستواء يطلب اثنين وحذف المعطوف لدلالة الكلام عليه ألا تراه قال بعده: {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا}.
وقوله: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً} ،أي ومن لا يستنكف ولا يستكبر بدليل التقسيم بعده بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا}.
وقوله: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} ،فاكتفى هنا بذكر الجهات الأربع عن الجهتين.
وقوله: {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ}، الاكتفاء بجهتين عن سائرها.
وقوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} ،أي ولم تعبدني.
وقوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} ،أي ولا والد بدليل أنه أوجب للأخت النصف وإنما يكون ذلك مع فقد الأب فإن الأب يسقطها.
وقوله: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ }ولم يذكر القسم الآخر الذي تقتضيه [أما] إذ وضعها لتفصيل كلام مجمل وأقل أقسامها قسمان ولا ينفك عنهما في جميع القرآن إلا في موضعين هذا أحدهما والتقدير: وأما من لم يتب ولا يؤمن ولم يعمل صالحا فلا يكون من المفلحين. والثاني في آل عمران:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} إلى قوله:{إِلاَّ اللَّهَ}هذا أحد القسمين والقسم الثاني ما بعده، وتقديره: وأما الراسخون في العلم فيقولون.
وقوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} ،أي وفعلا غير الذي أمروا به لأنهم أمروا بشيئين: بأن يدخلوا الباب سجدا وبأن يقولوا حطة فبدلوا القول في [حنطة] [حطة] وبدلوا الفعل بأن دخلوا يزحفون على أستاههم ولم يدخلوا ساجدين والمعنى إرادتنا حطة أي حط عنا ذنوبنا.
وقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ.وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ.وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} ،قال ابن عطية: دخول [لا] على نية التكرار كأنه قال ولا الظلمات ولا النور ولا النور والظلمات واستغنى بذكر الأوائل عن الثواني ودل بمذكور الكلام على متروكه.
وقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}.
فإن قيل: ليس للفجر خيط أسود إنما الأسود من الليل.
فأجيب: إن {مِنَ الْفَجْرِ} متصل بقوله:{الْخَيْطُ الأَبْيَضُ}والمعنى حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر من الخيط الأسود من الليل لكن حذف [من الليل] لدلالة الكلام ثم عليه ولوقوع الفجر في موضعه لأنه لا يصح أن يكون [من الفجر] متعلقا بالخيط الأسود ولو وقع [من الفجر] في موضعه متصلا بالخيط الأبيض لضعفت الدلالة على المحذوف وهو [من الليل] فحذف [من الليل] للإختصار وآخر [من الفجر] للدلالة عليه.
الثالث: من هذا قسم يسمى الضمير والتمثيل، وأعني بالضمير أن يضمر من القول المجاور لبيان أحد جزأيه كقول الفقيه: النبيذ مسكر فهو حرام فإنه أضمر [وكل مسكر حرام].
ويكون في القياس الاستثنائي، كقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا}.
وقوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} ،وقد شهد الحسن والعيان أنهم ما انفضوا من حوله وهي المضمرة وانتفى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه فظ غليط القلب.
وقوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} ،المعنى لو أفهمتهم لما أجدى فيهم التفهيم فكيف وقد سلبوا القوة الفاهمة فعلم بذلك أنهم مع انتفاء الفهم أحق بفقد القبول والهداية.
الرابع: أن يستدل بالفعل لشيئين وهو في الحقيقة لأحدهما فيضمر للآخر فعل يناسبه كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ} أي واعتقدوا الإيمان.
وقوله تعالى: {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} أي وشموا لها زفيرا.
وقوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} ، والصلوات لا تهدم فالتقدير: ولتركت صلوات.
وقوله: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} فالفاكهة ولحم الطير والحور العين لا تطوف وإنما يطاف بها.
وأما قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} ،فنقل ابن فارس عن البصريين أن الواو بمعنى [مع] أي شركائكم كما يقال: لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها أي مع فصيلها.
وقال الآخرون: أجمعوا أمركم وادعوا شهداءكم، اعتبارا بقوله تعالى: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ}.
واعلم أن تقدير فعل محذوف للثاني ليصح العطف هو قول الفارسي والفراء وجماعة من البصريين والكوفيين لتعذر العطف. وذهب أبو عبيدة والأصمعي واليزيدي وغيرهم إلى أن ذلك من عطف المفردات وتضمين العامل معنى ينتظم المعطوف والمعطوف عليه جميعا، فيقدر آثروا الدار والإيمان ويبقى النظر في أنه أيهما أولى ترجيح الإضمار أو التضمين ؟.
واختار الشيخ أبو حيان تفصيلا حسنا وهو: إن كان العامل الأول تصح نسبته إلى الاسم الذي يليه حقيقة كان الثاني محمولا على الإضمار لأنه أكثر من التضمين نحو:[ يجدع الله أنفه وعينيه ]،أي ويفقأ عينيه فنسبة الجدع إلى الأنف حقيقة وإن كان لا يصح فيه ذلك كان العامل مضمنا معنى ما يصح نسبته إليه لأنه لا يمكن الإضمار كقولهم:
*علفتها تبنا وماء باردا*
وجعل ابن مالك من هذا القبيل قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} قال: لأن فعل أمر المخاطب لا يعمل في الظاهر فهو على معنى:[ اسكن أنت ولتسكن زوجك ]لأن شرط المعطوف أن يكون صالحا لأن يعمل فيه ما عمل في المعطوف عليه وهذا متعذر هنا لأنه لا يقال: [اسكن زوجك].
ومنه قوله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ} ولا يصح أن يكون [مولود] معطوفا على [والدة] لأجل تاء المضارعة أو للأمر فالواجب في ذلك أن تقدر مرفوعا بمقدر من جنس المذكور أي ولا يضار مولود له.
وقوله تعالى: {وَالطَّيْرَ}، قال الفراء: التقدير: [وسخرنا له الطير] عطفا على قوله: {فَضْلاً} وقيل: هو مفعول معه، ومن رفعه فقيل: على المضمر في [ آتى ]، وجاز ذلك لطول الكلام بقوله:[ معه ]، وقيل: بإضمار فعل أي ولتؤوب معه الطير.
الخامس: أن يقتضى الكلام شيئين فيقتصر على أحدهما لأنه المقصود، كقوله تعالى حكاية عن فرعون: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} ولم يقل: وهارون لأن موسى المقصود المتحمل أعباء الرسالة كذا قاله ابن عطية.
وغاص الزمخشري فقال: أراد أن يتم الكلام فيقول: [وهارون] ولكنه نكل عن خطاب هارون توقيا لفصاحته وحدة جوابه ووقع خطابه إذ الفصاحة تنكل الخصم عن الخصم للجدل وتنكبه عن معارضته.
السادس: أن يذكر شيئان ثم يعود الضمير إلى أحدهما دون الآخر، كقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} قال الزمخشري: تقديره: إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوا انفضوا إليه فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه.
ويبقى عليه سؤال وهو أنه لم أوثر ذكر التجارة ؟ وهلا أوثر اللهو ؟.
وجوابه ما قال الراغب في تفسير سورة البقرة: إن التجارة لما كانت سبب انفضاض الذين نزلت فيهم هذه الآية أعيد الضمير إليها. ولأنه قد تشغل التجارة عن العبادة ما لا يشغله اللهو.
واختلف في مواضع: منها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ،فإنه سبحانه ذكر الذهب والفضة وأعاد الضمير.
على الفضة وحدها، لأنها أقرب المذكورين ولأن الفضة أكثر وجودا في أيديالناس والحاجة إليها أمس فيكون كنزها أكثر وقيل أعاد الضمير على المعنى لأن المكنوز دنانير ودراهم وأموال.
ونظيره: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} ،لأن الطائفة جماعة. وقيل: من عادة العرب إذا ذكرت شيئين مشتركين في المعنى تكتفي بإعادة الضمير على أحدهما استغناء بذكره عن الاخر اتكالا على فهم السامع كقول حسان:
إن شَرْح الشباب والشعر الأسـ ود ما لم يعاص كان جنونا
ولم يقل:[ يعاصا ].
ومنها قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} وقد جعل ابن لأنباري في كتاب [الهاءات] ضمير {لَمْ تَرَوْهَا} راجعا إلى الجنود.
ونقل عن قتادة قال: هم الملائكة. والأشبه أن يأتي هنا بما سبق.
ومنها قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} فقيل [أحق] خبر عنهما وسهل إفراد الضمير بعدم إفراد [أحق] وأن إرضاء الله سبحانه إرضاء لرسوله.
وقيل: [أحق] خبر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحذف من الأول لدلالة الثاني عليه.
وقيل: العكس، وإنما أفرد الضمير لئلا يجمع بين اسم الله ورسوله في ضمير واحد كما جاء في الحديث: "قل ومن يعص الله ورسوله". قال الزمخشري: قد يقصدون ذكر الشيء.
فيذكرون قبله ما هو سبب منه ثم يعطفونه عليه مضافا إلى ضميره وليس لهم قصد إلى الأول كقوله سرني زيد وحسن حاله والمواد حسن ماله وفائدة هذا الدلالة على قوة الاختصاص بذكر المعنى ورسول الله أحق أن يرضوه ويدل عليه ما تقدمه من قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ}، ولهذا وحد الضمير ولم يثن.
ومنها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ}.
ومنها قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} ،فقيل: الضمير للصلاة لأنها أقرب المذكورين وقيل أعاده على المعنى وهو الاستعانة المفهومة من استعينوا.
وقيل: المعنى على التثنيةوحذف من الأول لدلالة الثاني عليه.
ومنها قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} ،وهو نظير آية الجمعة كما سبق.
وفي هاتين الآيتين لطيفتان: وهما أن الكلام لما اقتضى إعادة الضمير على أحدهما أعاده في آية الجمعة على التجارة وإن كانت أبعد ومؤنثة ايضا لأنها أجذب للقلوب عن طاعة الله من اللهو لأن المشتغلين بالتجارة أكثر من المشتغلين باللهو أو لأنها أكثر نفعا من اللهو أو لأنها كانت أصلا واللهو تبعا لأنه ضرب بالطبل لقدومه كما جاء في صحيح البخاري :" أقبلت عير يوم الجمعة " ،وأعاده في قوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً} على الإثم رعاية لمرتبة القرب والتذكير فتدبر ذلك.
وأما قوله تعالى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} أي بذلك القول.
السابع: الحذف المقابلي: وهو أن يجتمع في الكلام متقابلان، فيحدف من واحد منهما مقابلة لدلالة الاخر عليه، كقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} ، الأصل فإن افتريته فعلى إجرامي وأنتم براء منه وعليكم إجرامكم وأنا برىء مما تجرمون فنسبة قوله تعالى: [إجرامي] وهو الأول إلى قوله: {وعليكم إجرامكم} - وهو الثالث - كنسبة قوله: {وأنتم براء منه} - وهو الثاني - إلى قوله:{وعليكم إجرامكم}- وهو الثالث -كنسبة قوله:{وأنتم براء منه} - وهو الثاني - إلى قوله تعالى: {وَأَنَا بَرِىءٌ مِمَا تُجْرِمُونُ} ،وهو الرابع،واكتفى من كل متناسبين بأحدهما.
ومنه قوله تعالى: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ}، تقديره: إن أرسل فليأتنا بآية كما ارسل الأولون فأتوا بآية.
وقوله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}، تقديره كما قال المفسرون:" ويعذب المنافقين إن شاء فلا يتوب عليهم أو يتوب عليهم فلا يعذبهم "، عند ذلك يكون مطلق قوله: فلا يتوب عليهم أو يتوب عليهم مقيدا بمدة الحياة الدنيا.
وقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} ، فتقديره: لا تقربوهن حتى يطهرن ويطهرن فإذا طهرن وتطهرن فآتوهن وهو قول مركب من أربعة اجزاء نسبة الأول إلى الثالث كنسبة الثاني إلى الرابع ويحذف من أحدهما لدلالة الآخر عليه.
وأعلم أن دلالة السياق قاطعة بهذه المحذوفات وبهذا التقدير يعتضد القول بالمنع من وطء الحائض إلا بعد الطهر والتطهر جميعا وهو مذهب الشافعي.
ومنه قوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}، تقديره:[ أدخل يدك تدخل وأخرجها تخرج ]، إلا أنه قد عرض في هذه المادة تناسب بالطباق فلذلك بقى القانون فيه الذي هو نسبة الأول إلى الثالث ونسبة الثاني إلى الرابع علىحالة الأكثرية فلم يتغير عن موضعه ولم يجعل بالنسبة التي بين الأول والثاني وبين الثالث والرابع وهي نسبة النظير كقوله:
وإني لتعروني لذكراكِ هِزَّةٌ كما انتفض العصفور بَلَّلَة القَطْرُ
أي هزة بعد انتفاضة كما انتفض العصفور بلله القطر ثم اهتز. كذا قاله جماعة.
وأنكره ابن الصائغ، وقال: هذا التقدير لا يحتاج إليه ولو يكون لكان خلفا وإنما أحوجهم إليه أنهم رأوا أنه لا يلزم من إدخالها خروجها، و[يخرج] مجزوم على الجواب فاحتاج أن تقدر جوابا لازما وشرطا ملزوما حذفا لأنهما نظير ما ثبت لكن وقع في تقدير ما لا يفيد لأنه معلوم أنه إن أدخلها تدخل لكنه قد يقدره تقديرا بعيدا وهو أدخلها تدخل كما هي وأخرجها تخرج بيضاء وهو بعد ذلك ضعيف فيقال له: لا يلزم في الشرط وجوابه أن يكون اللزوم بينهما ضروريا بالفعل فإذا قيل: إن جاءني زيدا أكرمته فهذا اللازم بالوضع وليس بالضرورة والإكرام لازم للمجيء بل لوضع المتكلم فالموضوع هنا أن الإدخال سبب في خروجها بيضاء بقدرة الله تعالى ألا ترى أنه لا يلزم من إخراجها أن تخرج بيضاء لزوما ضروريا إلا بضرورة صدق الوعد فإن قال: لم أرد هذا وإنما أردت أنها لا تخرج إلا حتى تخرج قيل هذا من المعلوم الذي لا معنى للتنصيص عليه.
ومنه قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً}.
أصل الكلام: خلطوا عملا صالحا بسيء وآخر سيئا بصالح لأن الخلط يستدعي مخلوط ومخلوطا به أي تارة أطاعوا وخلطوا الطاعة بكبيرة وتارة عصوا وتداركوا المعصية بالتوبة.
وقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ} الآية، فإن مقتضى التقسيم اللفظي من اتبع الهدى فلا خوف ولا حزن يلحقه وهو صاحب الجنة ومن كذب يلحقه الخوف والحزن وهو صاحب النار فحذف من كل ما أثبت نظيره في الأخرى.
قيل: ومنه قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً} ،قال سيبويه [في باب استعمال الفعل في اللفظ لا في المعنى]: لم يشبهوا بالناعق وإنما شبهوا بالمنعوق به وإنما المعنى: ومثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به الذي لا يسمع إلا دعاء ولكنه جاء على سعة الكلام والإيجاز لعلم المخاطب بالمعنى. انتهى.
والذي أحوجه إلى هذا التقدير أنه لما شبه الذين كفروا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،- وهذا بناه على أن الناعق بمعنى الداعي وليس بمتعين لجواز ألا يراد به الداعي بل الناعق من الحيوان - شبههم في تألهم وتأتيهم بما ينعق من الغنم بصاحبه من أنهم يدعون مالا يسمع ولا يبصر ولا يفهم ما يريده فيكون ثم حذف.
وقيل: ليس من هذا النوع إلا الاكتفاء من الأول بالثالث لنسبة بينهما وذلك أنه اكتفى بالذي ينعق -وهو الثالث المشبه به - عن المشبه وهو الكناية المضاف إليها في قوله: ومثلك وهو الأول وأقرب إلى هذا التشبيه المركب والمقابلة وهو الذي غلط من وضعه في هذا النوع وإنما هو من نوع الاكتفاء للارتباط العطفي على ما سلف.
وقد قال الصفار: هذا الذي صار إليه سيبويه - من أنه حذف من الأول المعطوف عليه ومن الثاني المعطوف - ضعيف لا ينبغي أن يصار إليه إلا عند الضرورة لأن فيه حدفا كثيرا مع إبقاء حرف العطف وهو الواو ألا ترى أن ما قبلها مستأنف والأصل مثلك ومثلهم إلا أن يدعى أن الأصل ومثلك ومثلهم ثم حذف [مثلك] والواو التي عطفت ما بعدها وبقيت الواو الأولى ويزعم أن الكلام ربط مع ما قبله بالواو وليس بينهما ارتباط وفيه ما ترى.
وقال ابن الحجاج: عندي أنه لا حذف في الآية والقصد تشبيه الكفار في عبادتهم لاصنام بالذي ينعق بما لا يسمع فهو تمثيل داع بداع محقق لا حذف فيه والكفار على هذا داعون وعلى التأويل الأول. مدعوون.
ونظيرها قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فإن فيه جملتين حذف نصف كل واحدة منهما اكتفاء بنصف الآخرى وأصل الكلام: أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى ممن يمشي سويا على صراط مستقيم أمن يمشي سويا على صراط مستقيم أهدى ممن يمشي مكبا !.
وإنما قلنا: إن أصله هكذا لأن أفعل التفضيل لا بد في معناه من المفضل عليه.
وهاهنا وقع السؤال عمن في نفس الأمر هل هذا أهدى من ذلك أم ذاك أهدى من هذا ؟فلا بد من ملاحظة أربعة أمور وليس في الآية إلا نصف إحدى الجملتين ونصف الأخرى والذي حذف من هذه مذكور في تلك والذي حذف من تلك مذكور في هذه فحصل المقصود مع الإيجاز والفصاحة ثم ترك أمر آخر لم يتعرض له وهو الجواب الصحيح لهذين الاستفهامين وأيهما هو الآهدى لم يذكره في الآية أصلا اعتمادا على أن العقل يقول الذي يمشي على صراط مستقيم أهدى ممن يمشي مكبا على وجهه.
وهذا كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} وقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}.
فائدة.
قد يحذف من الأول لدلالة الثاني عليه وقد يعكس وقد يحتمل اللفظ الأمرين.
فالأول: كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتُهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} في قراءة من رفع [ملائكته] أي إن الله يصلي فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه وليس عطفا عليه.
والثاني: كقوله: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ}، أي ما يشاء.
وقوله: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} ، أي برىء أيضا.
وقوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ}.
وقوله: {يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ لم يحضن} ، أي كذلك.
وجعل منه ابو الفتح قوله تعالى:{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ}التقدير: وأبصر بهم لكنه حذف لدلالة ما قبله عليه، حيث كان بلفظ الفضلة وإن كان ممتنعا في الفاعل.
وهذا التوجيه إنما يتم إذا قلنا إن الجار والمجرور في أسمع بهم وأبصر في محل الرفع فإن قلنا في محل النصب فلا.
وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، والتقدير خلقهن الله فحذف [خلقهن] لقرينة تقدمت في السؤال.
وقوله: {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ.كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ولم يقل: [إنا كذلك] اختيارا واستغناء عنه بقوله فيما سبق [إنا كذلك].
والثالث: كقوله: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} ،فقد قيل: إن [أحق] خبر عن اسم الله تعالى وقيل: بالعكس.
وأما قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا}، فالفائدة في إعادة الجار والمجرور أعنى [بها] لأنه لو حذف من الثاني لم يحصل الربط لوجوب الضمير فيما وقع مفعولا ثانيا أو كالمفعول الثاني لـ[ سمعتم ]، ولو حذف من الأول لم يكن نصا على أن الكفر يتعلق بالإثبات لجواز أن يكون متعلق الأول غير متعلق الثاني..
الثامن: الاختزال، وهو الافتعال من خزله قطع وسطه ثم نقل في الإصطلاح إلى حذف كلمة أو أكثر. وهي إما اسم أو فعل أو حرف.
الأول: الاسم.
" حذف المبتدأ ".
فمنه حذف المبتدأ، كقوله تعالى:[ ثلاثة ]و[ خمسة ]،و[ سبعة ]،أي هم ثلاثة وهم خمسةوهم سبعة.
وقوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ}، أي إحداهما، بدليل قوله بعده: {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ}.
وقوله: {بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ}، أي هذا بلاغ.
وقوله: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}، أي هم عباد.
وعلى هذا قال أبو علي: قوله تعالى: {بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ} ، أي هي النار.
وقوله: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ.النَّارُ}، أي هو النار.
ويمكن أن يكون [النار] في الآيتين مبتدأ والخبر الجملة التي بعدها ويمكن في الثانية أن تكون النار بدلا من [سوء العذاب].
وقوله: {فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} ،أي ساحر.
وقوله: {إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}.{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}.
{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} ،أي هذا الحق من ربكم وليس هذا كما يضلنه بعض الجهال أي قل القول الحق فإنه لو أريد هذا لنصب [الحق] والمراد: إثبات أن القرآن حق ولهذا قال:{مِنْ رَبِّكُمْ}، وليس المراد هنا قول حق مطلق بل هذا المعنى مذكور في قوله:{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا}، وقوله: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ}.
وقوله: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} ، أي هذه سورة.
{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}، أي فعمله لنفسه وإساءته عليها.
وقوله: {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ}، أي فهو يئوس.
{لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ.مَتَاعٌ قَلِيلٌ}، أي تقلبهم متاع أو ذاك متاع.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ.نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ}، أي والحطمة نار الله.
{إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} ، أي كل واحدة منها كالقصر فيكون من باب قول: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، أي كل واحدمنهم والمحوج إلى ذلك أنه لا يجوز أن يكون الشرر كله كقصر واحد والقصر هو البيت من أدم كان يضرب.
على المال، ويؤيده قوله: {جِمَالَتٌ صُفْرٌ}، أفلا تراه كيف شبهه بالجماعة أي كل واحدة من الشرر كالجمل لجماعاته فجماعاته إذن مثل الجمالات الصفر وكذلك الأول شررة منه كالقصر قاله أبو الفتح بن جنى.
وأما قوله: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ}، فقيل: إن [ثلاثة] خير مبتدأ محذوف تقديره:[ آلهتنا ثلاثة ].
واعترض باستلزامه إثبات الإلهية لانصراف النفي الداخل على المبتدأ او الخبر إلى المعنى المستفاد من الخبر لا إلى معنى المبتدأ وحينئذ يقتضى نفى عدة الآلهة لا نفى وجودهم.
قيل: وهو مردود لأن نفي كون آلهتهم ثلاثة يصدق بالا يكون للآلهة الثلاثة وجود بالكلية لأنه من السالبة المحصلة فمعناه: ليس آلهتكم ثلاثة وذلك يصدق بألا يكون لهم آلهة وإنما حذف إيذانا بالنهي عن مطلق العدد المفهم للمساواة بوجه ما فما ظنك بمن صرح بالشركة كما قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} وقال سبحانه: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فأفهم أنه لو وجد الإله يكون غيره معه خطأ لإفهامه مساواة ما كقوله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} ولزم من نفي الثلاثة لامتناع المساواة المعلومة عقلا والمدلول عليها بقوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} نفي الشركة مطلقا فإن تخصيص النهي وقع في مقابلة الفعل ودليلا عليه فإنهم كانوا يقولون في الله وعيسى وأمه: ثلاثة.
ونحوه في الخروج على السبب: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً}.
وقال صاحب [إسفار الصباح]: الوجه تقدير كون ثلاثة أو في [الوجود] ثم حذف الخبر الذي هو [لنا] أو في الوجود الحذف المطرد وما دل عليه توحيد لا إله إلا الله.
ثم حذف المبتدأ حذف الموصوف كالعدد إذا كان معلوما كقولك: عندي ثلاثة أي دراهم وقد علم بقرينة قوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ}.
وقد عورض هذا بأن نفي وجود ثلاثة لا ينفى وجود إلهين. وأجيب بأن تقديره [آلهتنا ثلاثة] يوجب ثبوت الآلهة وتقدير [لنا آلهة] لا يوجب ثبوت إلهين.
فعورض بأنه كما لا يوجبه فلا ينفيه.
فأجيب بأنه إذا لم ينفه فقد نفاه ما بعده من قوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ}.
فعورض بأن ما بعده إن نفي ثبوت إلهين فكيف ثبوت آلهة !.
فأجاب بأنه لا ينفيه ولكن يناقضه لأن تقدير آلهتنا ثلاثة يثبت وجود إلهين لانصراف النفي في الخبر عنه بخلاف تقدير:[ لنا آلهة ثلاثة ]، فإنه لا يثبت وجود إلهين لانصراف النفي إلى أصل الإثبات للآلهة.
وفي أجوبة هذه المقدمات نظر.
قلت: وذكر ابن جني أن الآية من حذف المضاف أي ثالث ثلاثة لقوله في موضع آخر: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ}.
حذف الخبر.
نحو: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا}، أي دائم.
وقوله في سورة ص بعد ذكر من اقتص ذكره من الأنبياء، فقال: {هَذَا ذِكْرٌ} ثم لما ذكر مصيرهم إلى الجنة وما أعد لهم فيها من النعيم قال: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ.جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ.هَذَا} قد أشارت الآية إلى مآل أمر الطاغين ومنه يفهم الخبر.
وقوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} أي أهذا خير أمن جعل صدره ضيقا حرجا وقسا قلبه فحذف بدليل قوله: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّه}.
وقوله تعالى: {قَالُوا لا ضَيْرَ}.
{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ}.
وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} قال سيبويه: الخبر محذوف أي فيما أتلوه السارق والسارقة وجاء [فاقطعوا] جملة أخرى. وكذا قوله:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} فيما نقص لكم.
وقال غيره: السارق مبتدأ فاقطعوا خبره وجاز ذلك لأن الاسم عام فإنه لا يريد.
به سارقا مخصوصا فصار كأسماء الشرط تدخل الفاء في خبرها لعمومها وإنما قدر سيبويه ذلك لجعل الخبر أمرا وإذا ثبت الإضمار فالفاء داخلة في موضعها تربط بين الجملتين ومما يدل على أنه على الإضمار إجماع القراء على الرفع مع أن الأمر الاختياري فيه النصب قال وقد قرأ ناس بالنصب ارتكانا للوجه القوي في العربية ولكن أبت العامة إلا الرفع. وكذا قال في قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}: مثل، هنا خبر مبتدأ محذوف أي فيما نقض عليكم مثل الجنة وكذا قال أيضا في قوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا}: إنه على الإضمار.
وقد رد بأنه أي ضرورة تدعو إليه هنا فإنه إنما صرنا إليه في السارق ونحوه لتقديره دخول الفاء في الخبر فاحتيج للإضمار حتى تكون الفاء على بابها في الربط وأما هذا فقد وصل بفعل هو بمنزلة الذي يأتيك فله درهم.
وأجاب الصفار بأن الذي حمله على هذا أن الأمر دائر مع الضرورة كيف كان لأنه إذا أضمر فقد تكلف وإن لم يضمر كان الاسم مرفوعا وبعده الأمر فهو قليل بالنظر [إلى للذين يأتيانها ]فكيفما عمل لم يخل من قبح.
وإن قدر منصوبا وجاء القرآن بالألف على لغة من يقول [الزيدان] في جميع الأحوال وقع أيضا في محذور آخر فلهذا قدره هذا التقدير لأن الإضمار مع الرفع يتكافآن.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ} الخبر محذوف أي يعذبون ويجوز أن يكون الخبر: {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}.
وقوله: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} ، فأنتم مبتدأ والخبر محذوف أي حاضرون وهو لازم الحذف هنا.
وقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ، أي حل لكم كذلك.
وأما قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} ، أما على قراءة التنوين فلا حذف لأنه يجعله مبتدأ [وابن الله ]خبر حكاية عن مقالة اليهود وأما على قراءة من لم ينون فقيل: إنه صفة والخبر محذوف أي عزيز ابن الله إلهنا وقيل: بل المبتدأ محذوف أي إلهنا عزيز وابن صفة.
ورد بوجهين:.
أحدهما: أنه لا يطابق:{وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}.
والثاني: أنه يلزم عليه أن يكون التكذيب ليس عائدا إلى البنوة فكذب لأن صدق الخبر وكذبه راجع إلى نسبة الخبر لا إلى الصف فلو قيل زيد القائم فقيه فكذب انصرف التكذيب لإسناد فقهه لا لوصفه بالقائم.
وفيه نظر لأن الصفة ليست إنشاء فهي خبر إلا أنها غير تامة الإفادة فيصح تكذيبها والأولى تقويته وأن يقال الصفة والإضافة ونحوهما في المسند إليه لواحق بصورة الإفراد أي يريد أن يصوره بهيئة خاصة ويحكم عليه كذلك لكن لا سبيل إلى كذبها مع أنها تصورت فالوجه أن يقال: إن كذب الصفة بإسناد مسندها إلى معدوم الثبوت ونظير هذه المسألة في الفقه ما لو قال والله لا أشرب ماء هذا الكوز ولا ماء فيه.
وقال بعضهم: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} خبر الجملة أي حكى فيه لفظهم أي قالوا هذه العبارة القبيحة وحينئذ فلا يقدر خبر ولا مبتدأ.
وقيل: [ابن الله] خبر وحذف التنوين من [عزير] للعجمة والعلمية.
وقيل: حذف تنوينه لالتقاء الساكنين لأن الصفة مع الموصوف كشىء واحد كقراءة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.اللَّهُ الصَّمَدُ} على إراد التنوين بل هنا أوضح لأنه في جملة واحدة.
وقيل:[ ابن الله ]نعت ولا محذوف وكأن الله تعالى حكى أنهم ذكروا هذا اللفظ إنكارا عليهم إلا أن فيه نعتا لأن سيبويه قال إن قلت وضعته العرب لتحكى به ما كان كلاما لا قولا وأيضا إنه لا يطابق قوله: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} والظاهر أنه خبر والقولان منقولان.
والصحيح في هذه القراءة أنه ليس الغرض إلا أن اليهود قد بلغوا في رسوخ الاعتقاد في هذا الشيء إلى أن يذكرون هذا النكر كما تقول في قوم تغالوا في تعظيم صاحبهم أراهم اعتقدوا فيه أمرا عظيما ثابتا يقولون: زيد الأمير !.
ما يحتمل الأمرين.
قوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} يحتمل حذف الخبر أي أجمل أو حذف المبتدأ أي فأمري صبر جميل وهذا أولى لوجود قرينة حالية - هي قيام الصبر به - دالة على المحذوف وعدم قرينة حالية أو مقالية تدل على خصوص الخبر وأن الكلام مسوق للإخبار بحصول الصبر له واتصافه به وحذف المبتدأ يحصل ذلك دون حذف الخبر لأن معناه أن الصبر الجميل أجمل ممن لأن المتكلم متلبس به.
وكذلك يقوله من لم يكن وصفا له ولأن الصبر مصدر والمصادر معناها الإخبار فإذا حمل على حذف المبتدأ فقد أجرى على أصل معناه من استعماله خبرا وإذا حمل على حذف الخبر فقد أخرج عن أصل معناه.
ومثاله قوله: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ } أي أمثل أو أولى لكم من هذا أو أمركم الذي يطلب منكم.
ومثله قوله: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} إما أن يقدر فيما أوحينا إليك سورة أو هذه سورة.
وقد يحذفان جملة كقوله تعالى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} الاية.
حذف الفاعل.
المشهور امتناعه إلا في ثلاثة مواضع:.
أحدها: إذا بنى الفعل للمفعول.
ثانيها: في المصدر إذا لم يذكر معه الفاعل مظهرا يكون محذوفا ولا يكون مضمرا نحو :{أَوْ إِطْعَامٌ}.
ثالثها: إذا لاقى الفاعل ساكنا من كلمة أخرى كقولك للجماعة: اضرب القوم، وللمخاطبة: اضرب القوم.
وجوز الكسائي حذفه مطلقا إذا ما وجد ما يدل عليه كقوله تعالى: {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} أي بلغت الروح.
وقوله: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} أي الشمس.
{فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} يعنى العذاب، لقوله قبله :{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}.
{فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ} تقديره: فلما جاء الرسول سليمان.
والحق أنه في المذكورات مضمر لا محذوف وقد سبق الفرق بينهما.
أما حذفه وإقامة المفعول مقامه مع بناء الفعل للمفعول فله أسباب:.
منها: العلم به، كقوله تعالى: {خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ}. {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} ونحن نعلم أن الله خالقه.
قال ابن جنى: وضابطه أن يكون الغرض إنما هو الإعلام بوقوع الفعل بالمفعول ولا غرض في إبانة الفاعل من هو.
ومنها : تعظيمه كقوله: {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} إذ كان الذي قضاه عظيم القدر.
وقوله: {وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ}.
وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} قال الزمخشري في كشافه القديم: هذا أدل على كبرياء المنزل وجلالة شأنه من القراءة الشاذة [ أَنْزِلَ ] مبنيا للفاعل كما تقول الملك أمر بكذا ورسم بكذا وخاصة إذا كان الفعل فعلا لا يقدر عليه إلا الله كقوله:{وَ قُضِيَ الأَمْرُ}قال: كأن طى ذكر الفاعل كالواجب لأمرين:.
أحدهما: أنه إن تعين الفاعل وعلم أن الفعل مما لا يتولاه إلا هو وحده كان ذكره فضلا ولغوا.
والثاني: الإيذان بأنه منه غير مشارك ولا مدافع عن الاستئثار به والتفرد بإيجاده وايضا فما في ذلك من مصير أن أسمه جدير بأن يصان ويرتفع به عن الابتذال والامتهان وعن الحسن لولا أني مأذون لي في ذكر اسمه لربأت به عن مسلك الطعام والشراب.
ومنها: مناسبة الفواصل، نحو:{وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى}ولم يقل يجزيها.
ومنها: مناسبة ما تقدمه، كقوله في سورة براءة :{رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} ، لأن قبلها: {وَإِذَا أَنْزِلَتْ سُورَةٌ} على بناء الفعل للمفعول فجاء قوله: {وَطُبِعَ} ليناسب بالختام المطلع بخلاف قوله فيما بعدها: {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} فإنه لم يقع قبلها ما يقتضى البناء فجاءت على الأصل.
حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.
وهو كثير، قال ابن جنى: وفي القرآن منه زهاء ألف موضع وأما أبو الحسن فلا يقيس عليه ثم رده بكثرة المجاز في اللغة وحذف المضاف مجاز. انتهى.
وشرط المبرد في كتاب [ما اتفق لفظه واختلف معناه] لجوازه وجود دليل على المحذوف من عقل أو قرينة نحو: { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } ، أي أهلها قال: ولا يجوز على هذا أن نقول: جاء زيد وأنت تريد غلام زيد لأن المجيء يكون له ولا دليل [في مثل هذا] على المحذوف.
وقال الزمخشري في الكشاف القديم: لا يستقيم تقدير حذف المضاف في كل موضع ولا يقدم عليه إلا بدليل واضح وفي غير ملبس كقوله: { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ }.
وضعف بذلك قول من قدر في قوله: { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } أنه على حذف مضاف.
فإن قلت: كما لا يجوز مجيئه لايجوز خداعه فحين جرك إلى تقدير المضاف امتناع مجيئه فهلا جرك إلى مثله امتناع خداعه !.
قلت: يجوز في اعتقاد المنافقين تصور خداعه فكان الموضع ملبسا فلا يقدر. انتهى.
فمنه قوله تعالى: { لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِر } أي رحمته ويخاف عذابه.
{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} أي: سد يأجوج ومأجوج.
{ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} أي: شعر الرأس.
{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا } أي بقراءة صلاتك ولا تخافت بقراءتها.
{ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّه ِ} أي بر من آمن بالله.
{ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ } أي ناحيتها والجهة التي هو فيها.
{هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} أي هل يسمعون دعاءكم بدليل الآية الآخرى {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ}.
{عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلأِهِمْ}، أي من آل فرعون.
{إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} أي ضعف عذابهما.
{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} أي ومثل واعظ الذين كفروا كناعق الأنعام.
{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أي مثل أمهاتهم.
{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أي شكر رزقكم. وقيل: تجعلون التكذيب شكر رزقكم.
وقوله: {وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} أي على ألسنة رسلك.
وقوله: {أَمَانَاتِكُمْ} أي ذوي أماناتكم كالمودع والمعير والموكل.
والشريك ومن يدك في ماله أمانة لا يد ضمان ويجوز أن لا حذف فيه لأن [خنت] من باب [أعطيت] فيتعدى إلى مفعولين ويقتصر على أحدهما.
وقوله: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} ، أي أهل مدين بدليل قوله:{ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ}.
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} أي أهل القرية وأهل العير.
وقيل: فيه وجهان: أحدهما: أن القرية يراد بها نفس الجماعة، والثاني: أن المراد الأبنية نفسها لأن المخاطب نبي صاحب معجزة.
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ويجوز أن يقدر الحج حج أشهر معلومات.
{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} أي أمر ربك.
{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} أي حب العجل قال الراغب: إنه على بابه فإن في ذكر العجل تنبيها على أنه لفرط محبتهم صار صورة العجل في قلوبهم لا تمحى.
وقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ} فإرم اسم لموضع وهو في موضع جر إلا أنه منع الصرف للعملية والتأنيث أما للعلمية فواضح وأما التأنيث فلقوله: {ذَاتِ الْعِمَادِ}.
وقوله: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} أي بسؤالها فحذف المضاف ولم يكفروا بالسؤال إنما كفروا بربهم المسئول عنه فلما كان السؤال سببا للكفر فيما سألوا عنه نسب الكفر إليه على الاتساع.
وقيل: الهاء الهاء عائدة على غير ما تقدم لقوة هذا الكلام بدليل أن الفعل تعدى بنفسه والأول بغيره وإنما هذه الآية كناية عما سأل قوم موسى وقوم عيسى من الآيات ثم كفروا فمعنى السؤال الأول والثان الاستفهام ومعنى الثالث طلب الشيء.
وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} ، أي تناولها لأن الاحكام لا تتعلق بالأجرام إلا بتأويل الأفعال.
وقيل: إن الميتة يعبر بها عن تناولها فلا حذف ولو كان ثم حذف لم يؤنث الفعل ولأن المركب إنما يحذف إذا كان للكلام دلالة غير الدلالة الإفرادية والمفهوم من هذا التركيب التناول من غير تقدير فيكون اللفظ موضوعا له والمشهور في الأصول أنه من محال الحذف.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} ، فهاهنا إضمار لأن قائلا لو قال:[ من عمل صالحا جعلته في جملة الصالحين ] لم يكن فائدة وإنما المعنى لندخلنهم في زمرة الصالحين.
وقوله: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} أي ذا قراطيس أو مكتوبا في قراطيس {تُبْدُونَهَا} أي تبدون مكتوبها.
وقوله: {وَتُخْفُونَ كَثِيراً} ليس المعنى تخفونها إخفاء كثيرا ولكن التقدير: تخفون كثيرا من إنكار ذي القراطيس أي يكتمونه فلا يظهرونه كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ}. ويدل له قوله: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ}.
وقوله: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} ، أي بقدر مياهها.
وقوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا}، أي هم بدفعها أي عن نفسه في هذا التأويل بتنزيله يوسف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عما لا يليق به لأن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصومون من الصغائر والكبائر وعليه فينبغي الوقف على قوله :{لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ}.
تنبيه.
في جواز حذف المضاف مع الالتفات إليه.
اعلم أن المضاف إذا علم جاز حذفه مع الالتفات إليه فيعامل معاملة الملفوظ به من عود الضمير عليه ومع اطراحه يصير الحكم في عود الضمير للقائم مقامه.
فمثال استهلاكه حكمه وتناسى أمره قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ} : فإن الضمير في [يغشاه] عائد على المضاف المحذوف بتقدير أو كذى ظلمات.
وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ} أي كمثل ذوي صيب ولهذا رجع الضمير إليه مجموعا في قوله: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} ولو لم يراع لأفرده أيضا.
وقوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} ولولا ذلك لحذفت التاء لأن القوم مذكر ومنه قول حسان:
يسقون من وَرَدَ البريصَ عليهم بَرَدَىَ يُصَفِّقُ بالرحيق السَّلْسَلِ
بالياء أي ماء بردى ولو راعى المذكور لأتى بالتاء.
قالوا: وقد جاء في آية واحدة مراعاة التأنيث والمحذوف وهي قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} أنث الضمير في [أهلكناها] و[فجاءها] لإعادتهما على القرية المؤنثة وهي الثابتة ثم قال: { أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} فأتى بضمير من يعقل حملا على [أهلها] المحذوف.
وفي تأويل إعادة الضمير على التأنيث وجهان: أحدهما: أنه لما قام مقام المحذوف صارت المعاملة معه والثاني: أن يقدر في الثاني حذف المضاف كما قدر في الأول فإذا قلت: سألت القرية وضربتها فمعناه وضربت أهلها فحذف المضاف كما حذف من الأول إذ وجه الجواز قائم.
وقيل: هنا مضاف محذوف والمعنى أهلكنا أهلها وبياتا حال منهم أي مبيتين و{أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} جملة معطوفة عليها ومحلها النصب.
وأنكر الشلوبين مراعاة المحذوف وأول ما سبق على أنه من باب الحمل على المعنى ونقله عن المحققين لأن القوم جماعة ولهذا يؤنث تأنيث الجمع نحو هي الرجال وجمع التكسير عندهم مؤنث وأسماء الجموع تجري مجراها وعلى هذا جاء التأنيث لا على الحذف وكذا القول في البيت.
وفي قراءة بعضهم: {وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} قدروه عرض الآخرة والأحسن أن يقدر ثواب الآخرة لأن العرض لا يبقى بخلاف الثواب.
حذف المضاف إليه.
وهو أقل استعمالا كقوله: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}.
وقوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}.
وكذا كل ما قطع عن الإضافة مما وجبت إضافته معنى لا لفظا كقوله تعالى: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}، أي من قبل ذلك ومن بعده.
حذف المضاف والمضاف إليه.
قد يضاف المضاف إلى مضاف فيحذف الأول والثاني ويبقى الثالث كقوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} أي بدل شكر رزقكم.
وقوله: {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ.} أي كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت.
وقيل: الرزق في الآية الأولى الحظ والنصيب فلا حاجة إلى تقدير وكذلك قدرت الثانية [كالذي] حالا من الهاء والميم في [أعينهم] لأن المضاف بعض فلا تقدير.
وقوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} وقدره أبو الفتح في المحتسب على أفعال أهل النار.
وأما قوله:{مِنَ الْمَوْتِ} فالتقدير من مداناة الموت أو مقاربته ولا ينكر عسره على الإنسان ولكن إذا دفع إلى أمر هابه.
ومثله الآية الاخرى: {ينْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}.
وقوله: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ}، أي من أثر حافر فرس الرسول.
وقوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} ، أي من أموال كفار أهل القرى.
وقوله: {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} أي من أفعال ذوي تقوى القلوب وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} الآية، فإن التقدير كمثل ذوي صيب فحذف المضاف والمضاف إليه أما حذف المضاف فلقرينة عطفه على{كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} وأما المضاف إليه فلدلالة:{جْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} عليه فأعاد الضمير عليه مجموعا وإنما صير إلى هذا التقدير لأن التشبيه بين صفة المنافقين وصفة ذوي الصيب لا بين صف المنافقين وذوي الصيب.
حذف الجار والمجرور.
كقوله: {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً} أي بسيء {وَآخَرَ سَيِّئاً} أي بصالح.
وكذا بعد أفعل التفضيل كقوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي من كل شيء.
{فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} أي من السر وكلام الزمخشري في المفصل يقتضي أنه مما قطع3 فيه عن متعلقة قصدا لنفي الزيادة نحو فلان يعطى ليكون كالفعل المتعدي إذا جعل قاصر للمبالغة فعلى هذا لا يكون من الحذف فإنه قال أفعل التفضيل له معنيان أحدهما أن يراد أنه زائد على المضاف إليه في الجملة التي هو وهم فيها شركاء والثاني أن يوجد مطلقا له الزيادة فيها إطلاقا ثم يضاف للتفضيل على المضاف إليه لكن بمجرد التخصيص كما يضاف ما لا تفضيل فيه نحو قولك الناقص والأشج أعدلا بني مروان كأنك قلت: عادلا. انتهى.
حذف الموصوف.
يشترط فيه أمران:.
أحدهما: كون الصفة خاصة بالموصوف حتى يحصل العلم بالموصوف فمتى كانت الصفة عامة امتنع حذف الموصوف نص عليه سيبويه في آخر باب ترجمة [هذا باب مجارى أواخر الكلم العربية] وكذلك نص عليه أرسطاطا ليس في كتابه الخطابة.
الثاني: أن يعتمد على مجرد الصفة من حيث هي لتعلق غرض السياق كقوله تعالى:{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ}.{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} فإن الاعتماد في سياق القول على مجرد الصفة لتعلق غرض القول من المدح أو الذم بها.
كقوله تعالى :{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} أي حور قاصرات.
وقوله: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا} أي وجنة دانية.
وقوله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} أي العبد الشكور.
وقوله: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} أي القوم المتقين.
وقوله: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} أي سفينة ذات ألواح.
وقوله: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} أي الأمة القيمة.
وقوله: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} أي دروعا سابغات.
وقوله: {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ} أي يا أيها الرجل الساحر.
وقوله: {أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} أي القوم المؤمنون.
وقوله: {وَعَمِلَ صَالِحاً} أي عملا صالحا.
حذف الصفة.
وأكثر ما يرد للتفخيم والتعظيم في النكرات وكأن التنكير حينئذ علم عليه كقوله تعالى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} أي وزنا نافعا.
وقوله: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} أي من جوع شديد وخوف عظيم.
وقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} أي شيء نافع.
وقوله: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ} أي سلطت عليه.
وقوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} أي جامعا لأكمل كل صفات الرسل.
وقوله: {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} أي صالحة وقيل إنها قراءة ابن عباس وفيه بحث وهو أنا لا نسلم الإضمار بل هو عام مخصوص.
وقوله: {بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} أي كثير بدليل ما قبله ويجيء في العرف.
كقوله تعالى :{الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي المبين.
وقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} أي الناس الذين يعادونكم.
وقوله: {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أي الناجين.
وقوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} أي قومك المعاندون.
ومنه: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ} أي من أولى الضرر، {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ} أي من غير أولي الضرر.
قاله ابن مالك وغيره وبهذا التقدير يزل إشكال التكرار من الآية.
وقوله تعالى: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ} أي لم أتل عليكم فيه شيئا فحذفت الصفة أو الحال قيل والعمر هنا أربعون سنة.
حذف المعطوف.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا}، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا}، {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} التقدير أعموا! أمكثوا !! أكفرتم!!.
وقوله: {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} ، أي ما شهدنا مهلك أهله ومهلكه بدليل قوله: { لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ}، أي ما شهدنا مهلك أهله ومهلكه بدليل قوله لنبيتنه وأهله وما روى أنهم كانوا عزموا على قتله وقتل أهله وعلى هذا فقولهم: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} كذب في الإخبار وأوهموا قومهم أنهم قتلوه وأهله سرا ولم يشعر بهم أحد وقالوا تلك المقالة يوهمون أنهم صادقون وهم كاذبون.
ويحتمل أن يكون من حذف المعطوف عليه أي ما شهدنا مهلكه ومهلك أهله وقال بعض المتأخرين أصله ما شهدنا مهلك أهلك بالخطاب ثم عدل عنه إلى الغيبة فلا حذف.
وقد يحذف المعطوف مع حرف العطف مثل: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ}.
وقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} أي أمرنا مترفيها فخالفوا الأمر ففسقوا وبهذا التقدير يزول الإشكال من الاية وأنه ليس الفسق مأمورا به. ويحتمل أن يكون {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} صفة للقرية لا جوابا لقوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا} التقدير وإذا أردنا أن نهلك قرية من صفتها أنا أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ويكون إذا على هذا لم يأت لها جوابا ظاهر استغناء بالسياق كما في قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}.
حذف المعطوف عليه.
{فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} أي لو ملكا ولو افتدى به.
ويجوز حذفه مع حرف العطف كقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي فأفطر فعدة.
وقوله: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} فانفلق التقدير: فضرب فانفلق فحذف المعطوف عليه وهو ضرب وحرف العطف وهو الفاء المتصلة انفلق فصار:[ فانفلق ] فالفاء الداخلة على انفلق هي الفاء التي كانت متصلة بـ[ضرب] وأما المتصلة بـ[انفلق] فمحذوفة.
كذا زعم ابن عصفور والأبذي قالوا والذي دل على ذلك أن حرف العطف إنما نوى به مشاركة الأول للثاني فإذا حذف أحد اللفظين أعنى لفظ المعطوف أو المعطوف عليه ينبغي ألا يؤتى به ليزول ما أتى به من أجله.
وقال ابن الضائع: ليس هذا من الحذف بل من إقامة المعطوف مقام المعطوف عليه لأنه سببه ويقام السبب كثيرا مقام مسببه وليس ما بعدها معطوفا على الجواب بل صار هو الجواب بدليل: {فَانْبَجَسَتْ} هو جواب الأمر.
حذف المبدل منه.
اختلفوا فيه وخرج عليه قوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ}.
حذف الموصول .
قوله: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} أي والذي أنزل إليكم لأن [الذي أنزل إلينا] ليس هو الذي أنزل إلى من قبلنا ولذلك أعيدت [ما] بعد [ما].
في قوله: { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} وهو نظير قوله: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ}.
وقوله: {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}.
وقوله: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} أي من له.
وشرط ابن مالك في بعض كتبه لجواب الحذف كونه معطوفا على موصول آخر ويؤيده هذه الآية قال: ولا يحذف موصول حرفي إلا [أن] كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ}.
حذف المخصوص في باب نعم إذا علم من سياق الكلام.
كقوله تعالى: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} التقدير نعم العبد أيوب أو نعم العبد هو لأن القصة في ذكر أيوب فإن قدرت نعم العبد هو لم يكن هو عائدا على العبد بل على أيوب.
وكذلك قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ} فسليمان هو المخصوص الممدوح وإنما لم يكرر لأنه تقدم منصوبا.
وكذلك قوله تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} أي نحن.
وقوله تعالى: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} أي الجنة أو دارهم.
{فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} أي عقباهم.
{وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} أي أجرهم.
وقال: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} أي من ضره أقرب من نفعه وقال تعالى: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} أي إيمانكم بما أنزل عليكم وكفركم بما وراءه.
وقد يحذف الفاعل والمخصوص كقوله تعالى: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} أي بئس البدل إبليس وذريته ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فبها ونعمت " أي نعمت الرخصة.
حذف الضمير المنصوب المتصل.
يقع في أربعة أبواب:.
أحدها: الصلة، كقوله تعالى: {هَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً:}.
الثاني: الصفة، كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً}، أي فيه، بدليل قوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} ولذلك يقدر في الجمل المعطوف على الأولى لأن حكمهن حكمها، فالتقدير: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} فيه.
ثم اختلفوا فقال الأخفش: حذفت على التدريج أي حذف العطف فاتصل الضمير فحذف وقال سيبويه حذفا معا لأول وهلة.
وقيل: عدى الفعل إلى الضمير أولا اتساعا وهو قول الفارسي.
وجعل الواحدي من هذا قوله تعالى :{يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً}، أي منه وقوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} أي ما للظالمين منه.
وفيه نظر، أما الأولى فلأن [يغني] جملة قد أضيف إليها أسم الزمان وليست صفة.
وقد نصوا على أن عود ضمير إلى المضاف من الجملة التي أضيف إليها الظرف غير جائز حتى قال ابن السراج: فإن قلت أعجبني يوم قمت فيه امتنعت الإضافة لأن الجملة حينئذ صفة ولا يضاف موصوف إلى صفته قال ابن مالك وهذا مما خفي على أكثر النحويين. وأما الثانية فكأنه يريد أن {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ} صفة ليوم المضاف إليها الأزمنة وذلك متعذر لأن الجملة لا تقع صفة للمعرفة والظاهر أن الجملة حال منه ثم حذف العائد المجرور [في] كما يحذف من الصفة.
الثالث: الخبر، كقوله تعالى: {وَكُلٌ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى} في قراءة ابن عامر.
الرابع: الحال .
تنبيه.
[عن ابن الشجري في تفاوت أنواع الحذف].
قال ابن الشجري: أقوى هذه الأمور في الحذف الصلة لطول الكلام فيها لأنه اربع كلمات نحو: جاء الذي ضربت وهو الموصول والفعل والفاعل والمفعول ثم الصفة لأن الموصوف قائم بنفسه وإنما أتى بالصفة للتوضيح ثم الخبر لانفصاله عن المبتدأ باعتبار أنه محكوم عليه.
ووجه التفاوت أن الصفة رتبة متوسطة بين الصلة والخبر لأن الموصول وصلته كالكلمة الواحدة ولهذا لا يفصل بينهما والصفة دونها في ذلك ولهذا يكثر حذف الموصوف وإقامة الصفةمقامه والخبر دون ذلك فكان الحذف آكد في الصلة من الصفة لأن هناك شيئين يدلان على الحذف الصفة تستدعي موصوفا والعامل يستدعيه أيضا.
ويستحسن ابن مالك هذا الكلام ولم يتكلم على الحال لرجوعه إلى الصفة.
حذف المفعول.
وهو ضربان:.
أحدهما: أن يكون مقصودا مع الحذف فينوى لدليل ويقدر في كل موضع ما يليق ب، كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} أي يريده.
{فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} أي غشاها إياه.
{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِر}.
{لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ}.
{وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}.
{أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}.
وكل هذا على حذف ضمير المفعول وهو مراد حذف تخفيفا لطول الكلام بالصفة ولولا إرادة المفعول وهو الضمير لخلت الصلة من ضمير يعود على الموصول وذلك لا يجوز.
وكان في حكم المنطوق به فالدلالة عليه من وجهين اقتضاء الفعل له واقتضاء الصلة إذا كان العائد.
ومنه قوله تعالى: {وَمَا عَمِلَتْ أَيْدِيهِمْ} في قراءة حمزة والكسائي بغير هاء أي ما عملته بدليل قراءة الباقين فـ "ما" في موضع خفض للعطف على [ ثَمَرِهِ ].
ويجوز أن تكون [ما] نافية والمعنى ليأكلوا من ثمره ولم تعمله أيديهم فيكون أبلغ في الامتنان ويقوى ذلك قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} ، وعلى هذا فلا تكون الهاء مراده لأنها غير موصولة.
وجعل بعضهم منه قوله تعالى: {وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} وهو فاسد لأن [شرب] يتعدى بنفسه.
والغرض حينئذ بالحذف أمور:.
منها: قصد الاختصار عند قيام القرائن والقرائن إما حالية كما في قوله تعالى: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}، لظهور أن المراد أرني ذاتك ويحتمل أن يكون هاب المواجهة بذلك ثم براه الشوق ويجوز أن يكون أخر ليأتي به مع الأصرح لئلا يتكرر هذا المطلوب العظيم على المواجهة إجلالا.
ومنه قوله تعالى: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي} الظاهر أنه متعد حذف مفعوله أي تأجرني نفسك.
وجعل منه السكاكي قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} فمن قرأ بكسر الدال من {يُصْدِرَ} فإنه حذف المفعول في خمسة مواضع والأقرب أنه من الضرب الثاني كما سنبينه فيه إن شاء الله تعالى.
وقوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} أي أنفسكم.
وقوله: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} أي فذوقوا العذاب.
وقوله: {إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} أي ناسا أو فريقا.
وقوله: {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا} أي شيئا.
وقوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} أي غير السموات.
وقوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} على أن الدعاء بمعنى التسمية التي تتعدى إلى مفعولين أي سموه الله أو سموه الرحمن ايا ما تسموه فله الاسماء الحسنى إذ لو كان المراد بمعنى الدعاء المتعدى لواحد لزم الشرك إن كان مسمى الله غير مسمى الرحمن وعطف الشيء على نفسه إن كان عينه.
ومنها: قصد الاحتقار كقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} أي الكفار.
ومنها: قصد التعميم ولا سيما إذا كان في حيز النفي كقوله تعالى: { وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} وكذا {مَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} وكثيرا ما يعترى الحذف في رءوس الآى نحو: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} و{ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}.
{أَفَلا تَسْمَعُونَ}.
{أَفَلا تُبْصِرُونَ}.
{أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}.
{إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}.
{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
وكذا كل موضع كان الغرض إثبات المعنى الذي دل عليه الفعل لفاعل غير متعلق بغيره.
ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} أي كل أحد لأن الدعوة عامة والهداية خاصة.
وأما قوله تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} فكال ووزن يتعديان إلى مفعولين: أحدهما باللام والتقدير: كالوا ووزنوا لهم وحذف المفعول الثاني لقصد التعميم.
وما ذكرناه من كون [هم] منصوبا في الموضع بعد اللام هو الظاهر وقرره ابن الشجري في أماليه، قال: وأخطأ بعض المتأولين حيث زعم أن [هم] ضمير مرفوع أكدت به الواو كالضمير في قولك خرجوا هم ف هم على هذا التأويل عائد على المطففين.
ويدل على بطلان هذا القول أمران:
أحدهما: عدم ثبوت الألف في [كالوهم] و[وزنوهم] ولو كان كما قال لأثبتوها في خط المصحف كما أثبتوها في قوله تعالى: {خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} {قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ} ونحوه.
والثاني: أن تقدم ذكر الناس يدل على أن الضمير راجع إليهم فالمعنى: {إِِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} وإذا كالوا للناس أو وزنوا للناس يخسرون.
وجعل الزمخشري من حذف المفعول قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أي في المصر وعند أبي على أن الشهر ظرف والتقدير فمن شهد منكم المصر في الشهر.
ومنها: تقدم مثله في اللفظ كقوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} أي ويثبت ما يشاء.
فلما كان المفعول الثاني بلفظ الأول في عمومه واحتياجه إلى الصلة جاز حذفه لدلالة ما ذكر عليه كقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ}.
وقوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} أي غير السموات.
وقوله: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} ، أي ومن أنفق من بعده وقاتل بدليل ما بعده.
وقوله: {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } أي أبصرهم، بدليل قوله :{وَأَبْصِرْهُمْ}.
وسبق عن ابن ظفر السر في ذكر المفعول في الأول وحذفه في الثاني في هذه الآية الشريفة.
أن الأولى اقتضت نزول العذاب بهم يوم بدر فلما تضمنت التشفي قيل: [أبصرهم].
وأما الثاني فالمراد بها يوم الفتح واقترن بها مع الظهور عليهم تأمينهم والدعاء إلى إيمانهم فلم يكن وقتا للتشفي بل للبروز فقيل له: [أبصر] والمعنى: فسيبصرون منك عليهم.
وقوله: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ}، أي وعدكم ربكم فحذف لدلالة قوله قبله: {وَمَا وَعَدَنَا رَبُّنَا} قاله الزمخشري.
وقد يقال: أطلق ذلك ليتناول كل ما وعد الله من الحساب والبعث والثواب والعقاب وسائر أحوال القيامة لأنهم كانوا يكذبون بذلك أجمع ولأن الموعود كله مما ساءهم وما نعيم أهل الجنة إلا عذاب لهم فأطلق لذلك ليكون من الضرب الآتي.
وقوله :{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ}.
ومنها: رعاية الفاصلة، نحو: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} أي ما قلاك فحذف المفعول لأن فواصل الآي على الألف.
ويحتمل أنه للاختصار لظهور المحذوف قبله أي أفمن شرح الله صدره للإسلام كمن أقسى قلبه فحذف لدلالة {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ}.
ومنها: البيان بعد الإبهام كما في مفعول المشيئة والإرادة، فإنهم لا يكادون يذكرونه كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}.
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى}.
{وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}.
{فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ}.
{مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ}.
{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}.
التقدير: لو شاء الله أن يفعل ذلك لفعل.
وشرط ابن النحوية في حذفه دخول أداة الشرط عليه كما سبق من قوله: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ}.
{ولَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا}.
{مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
والحكمة في كثرة حذف مفعول المشيئة المستلزمة لمضمون الجواب لا يمكن أن تكون إلا مثيلة الجواب ولذلك كانت الإرادة كالمشيئة في جواز اطراد حذف مفعولها صرح به الزمخشري في تفسير سورة البقرة وابن الزملكاني في البرهان والتنوخي في الاقصى كقوله: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} وإنما حذفه لأن في الآية قبلها ما يدل على أنهم أمروا لكذب وهو بزعمهم إطفاء نور الله فلو ذكر أيضا لكان كالمتكرر فحذف وفسر بقوله: {لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} وكان في الحذف تنبيه على هذا المعنى الغريب.
وينبغي أن يتمهل في تقدير مفعول المشيئة فإنه يختلف المعنى بحسب التقدير ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} فإن التقدير كما قاله عبد القاهر الجرجاني: ولو شئنا أن نؤتي كل نفس هداها لآتيناها لا يصح إلا على ذلك لأنه إن لم يقدر هذا المفعول أدى والعياذ بالله إلى أمر عظيم وهو نفي أن يكون لله مشيئة على الإطلاق لأن من شأن [لو] أن يكون الإثبات بعدها نفيا ألا ترى أنك إذا قلت لو جئتني أعطيتك كان المعنى على أنه لم يكن مجىء ولا إعطاء وأما قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} فقدره النحويون: فلم نشأ فلم نرفعه.
وقال ابن الخباز: الصواب أن يكون التقدير: [فلم نرفعه فلم نشأ] لأن نفي اللازم يوجب نفي الملزوم فوجود الملزوم يوجب وجود اللازم فيلزم من وجود المشيئة وجود الرفع ومن نفي الرفع نفي المشيئة وأما نفي الملزوم فلا يوجب نفي اللازم ولا وجود اللازم وجود الملزوم. انتهى.
ويؤيده قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} فإن المقصود انتفاء وجود الآلهة لانتفاء لازمها وهو الفساد.
ويمكن توجيه كلام النحويين بأنهم جعلوا الأول شرطا للثاني لأنهم عدوا [لو] من حروف الشرط وانتفاء الشرط يوجب انتفاء المشروط وقد يكون الشرط مساويا للمشروط بحيث يلزم من وجوده وجود المشروط ومن عدمه عدمه. والمقصود في الآية تعليل عدم الرفع بعدم المشيئة لا العكس.
وأوضح منه قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} جعل انتفاء الملزوم سببا لانتفاء اللازم لأن كذبوا ملزوم عدم الإيمان والتقوى فأخذهم بذلك ملزوم عدم فتح بركات السماء والأرض عليهم. والفاء في قوله: {فَأَخَذْنَاهُمْ} للسببية وجعل التكذيب سببا لأخذهم بكفرهم ولعل ذلك يختلف باختلاف المواد ووقوع الأفراد مع أن القول ما قاله ابن الخباز وأما ما جاء على خلافه فذلك من خصوص المادة وذلك لا يقدح في القضية الكلية ألا ترى أنا نقول: الموجبة الكلية لا تنعكس كلية مع أنها تنعكس كلية في بعض المواضع كقولنا كل إنسان ناطق ولا يعد ذلك مبطلا للقاعدة.
[ البرهان في علوم القرآن ( 3 / 115 ـ 169 ) ]


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 12 ذو القعدة 1430هـ/30-10-2009م, 06:25 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي

تنبيهان.
التنبيه الأول: متى يذكر مفعول المشيئة والإرادة؟.
يستثنى من هذه القاعدة ثلاثة أمور:.
أحدها: ما إذا كان مفعول المشيئة عظيما أو غريبا فإنه لا يحذف، كقوله تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ} الآية. أراد رد قول الكفار: [اتخذ الله ولدا] بما يطابقه في اللفظ ليكون أبلغ في الرد لأنه لو حذفه فقال: [لو أراد الله لاصطفى] لم يظهر المعنى المراد لأن الأصطفاء قد لا يكون بمعنى التبني ولو قال: لو أراد الله لاتخذ ولدا لم يكن فيه. ما في إظهاره من تعظيم جرم قائله.
ومثله صاحب كتاب [القول الوجيز في استنباط علم البيان من الكتاب العزيز] بقوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا}. وقوله: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ}. و{مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وفيما ذكره نظر.
قلت: يجيء الذكر في مفعول الإرادة أيضا إذ كان كقوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً}.
الثاني : إذا احتيج لعود الضمير عليه فإنه يذكر كقوله: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ} فإنه لو حذف لم يبق للضمير ما يرجع عليه.
وقد يقال: الضمير لم يرجع عليه وإنما عاد على معمول معموله.
الثالث: أن يكون السامع منكرا لذلك أو كالمنكر فيقصد إلى أثباته عنده فإن لم يكن منكرا فالحذف.
والحاصل أن حذف مفعول [أراد] و[ شاء] لا يذكر إلا لإحد هذه الثلاثة.
التنبيه الثاني: في إنكار أبي حيان للقاعدة السابقة.
أنكر الشيخ ابو حيان في باب عوامل الجزم من شرح التسهيل هذه القاعدة وقال غلط البيانيون في دعواهم لزوم حذف مفعول المشيئة إلا فيما إذا كان مستغربا وفي القرآن: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} ولهم أن يقولوا: إن المفعول هاهنا عظيم فلهذا صرح به فلا غلط على القوم وأما قوله تعالى: {فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} فإذا جعلت [ماذا] بمعنى [الذي] فمفعول [ أراد ] متقدم عليه وإن جعلت [ذا] وحده بمعنى [الذي] فيكون مفعول [ أراد ] محذوفا وهو ضمير [ذا] ولا يجوز أن يكون [مثلا] مفعول [ أراد ] لأنه أحد معموليه ولكنه حال.
فصل.
وقد كثر حذف مفعول أشياء غير ما سبق منها الصبر، نحو: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا}.
وقد يذكر نحو: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} قال الزمخشري في تفسير سورة الحجرات: قولهم: صبر عن كذا محذوف منه المفعول وهو النفس.
ومنها: مفعول [رأى] كقوله: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى}.
قال الفارسي: الوجه أن يرى هنا للتعدية لمفعولين لأن رؤية الغائب لا تكون إلا علما والمعنى عيه قوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ} وذكره العلم، قال: والمفعولان محذوفان فكأنه قال: فهو يرى الغائب حاضرا أو حذف كما حذف في قوله: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}، أي تزعمونهم إياهم.
وقال ابن خروف: هو من باب الحذف لدليل لأن المعنى دال على المفعولين أي فهو يعلم ما يفعله ويعتقده حقا وصوابا ولا فائدة في الآية مع الاقتصار لأنه لا يعلم منه المراد وقد ذهب إليه بعض المحققين وعدل عن الصواب.
ومنها: وعد يتعدى إلى مفعولين، ويجوز الاقتصار على أحدهما كأعطيت قال تعالى: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ}، فـ[جانب] مفعول ثان ولا يكون ظرفا لاختصاصه والتقدير: واعدناكم إتيانه أو مكثا فيه.
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ}.
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} فإحدى الطائفتين في موضع نصب بأنه المفعول الثاني: وأنها لكم بدل منه والتقدير: وإذ يعدكم الله ثبات إحدى الطائفتين أو ملكها.
وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ}، فلم يعد الفعل فيها إلا إلى واحد {وليستخلفنهم} تفسير للوعد ومبين له كقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الإِنْثَيَيْنِ} فالجملة الثانية تبيين للوصية لا مفعول ثان.
وأما قوله: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} فإن هذا ونحوه يحتمل أمرين انتصاب الوعد بالمصدر وبأنه المفعول الثاني على تسمية الموعود به وعدا.
وأما قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} فمما تعدى فيه [وعد] إلى اثنين لأن [الأربعين[ لو كان ظرفا لكان الوعد في جميعه يعني من حيث إنه معدود فيلزم وقوع المظروف في كل فرد من أفراده وليس الوعد واقعا في الأربعين بل ولا في بعضها.
ثم قدر الواحدي وغيره محذوفا مضافا إلى [الأربعين] وجعلوه المفعول الثاني فقالوا التقدير وإذ واعدنا موسى انقضاء اربعين أو تمام أربعين ثم حذف وأقيم المضاف إليه مقامه.
قال بعضهم: ولم يظهر لي وجه عدولهم عن كون [أربعين] هو نفس المفعول إلى تقدير هذا المحذوف إلا أن يقال نفس الأربعين ليلة لا توعد لأنها واجبة الوقوع وإنما المعنى على تعليق الوعد بابتدائها وتمامها ليترتب على الانتهاء شيء.
قلت: وقال أبو البقاء: ليس أربعين ظرفا إذ ليس المعنى وعده في أربعين.
وقال غيره: لا يجوز أن يكون ظرفا لأنه لم يقع الوعد في كل من أجزائه ولا في بعضه.
ومنها: اتخذ تتعدى لواحد أو لاثنين، فمن الأول قوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا}.{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً}. {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ}. {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً}. ومن الثاني: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً}.{لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}.{فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً} والثاني من المفعولين هو الأول في المعنى.
قال الواحدي: فأما قوله تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} وقوله: {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ}{اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ}، فالتقدير: في هذا كله اتخذوه إلها فحذف المفعول الثاني.
والدليل على ذلك أنه لوكان على ظاهره لكان من صاغ عجلا أو نحوه أو عمله بضرب من الأعمال استحق الغضب من الله لقوله: {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ}.
وفيما قاله نظر، لأن الواقع أن اولئك عبدوه فالتقدير على هذا في المتعدي لواحد أن الذين اتخذوا العجل وعبدوه ولهذا جوز الشيخ أثير الدين في هذه الآيات كلها أن تكون اتخذ فيها متعدية إلى واحد قال ويكون ثم جملة محذوفة تدل على المعنى وتقديره: [وعبدتموه إلها] ورجحه على القول الآخر بأنها لو كانت متعدية في هذه القصة لاثنين لصرح بالثاني ولو في موضع واحد.

الضرب الثاني:.
ألا يكون المفعول مقصودا أصلا وينزل الفعل المتعدي منزلة القاصر وذلك عند إرادة وقوع نفس الفعل فقط وجعل المحذوف نسيا منسيا كما ينسى الفاعل عند بناء لفعل فلا يذكر المفعول ولا يقدر غير أنه لازم الثبوت عقلا لموضوع كل فعل متعد لأن الفعل لا يدري تعيينه.
وبهذا يعلم أنه ليس كل ما هو لازم من موضوع الكلام مقدرا فيه كقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا}.
وقوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} لأنه لم يرد الأكل من معين وإنما أراد وقوع هذين الفعلين.
وقوله: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} ويسمى المفعول حينئذ مماتا.
ولما كان التحقيق أنه لا يعد هذا من المحذوف فإنه لا حذف فيه بالكلية ولكن تبعناهم في العبارة نحو فلان يعطى قاصدا أنه يفعل الإعطاء وتوجد هذه الحقيقة إيهاما للمبالغة بخلاف ما يقصد فيه تعميم الفعل نحو هو يعطى ويمنع فإنه أعم تناولا من قولك يعطى الدرهم ويمنعه والغالب أن هذا يستعمل في النفي كقوله: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ}، والآخر في الإثبات، كقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
ومن أمثلة هذا الضرب قوله تعالى: { يُحْيِي وَيُمِيتُ} وقوله: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} وقوله: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ} الخ الآية حذف منها المفعول خمس مرات لأنه غير مراد وهو قوله [يسقون] وقوله [تذودان] وقوله: {لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} مواشيهم [فسقى لهما] غنمهما وقوله: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ} قيل: لو ذكر المفعول فيها نقص المعنى والمراد أن الله تعالى له الإحياء والإماتة وأن إلههم ليس له سمع ولا بصر وأن موسى عليه السلام وجد قوما يعانون السقي وامرأتين تعانيان الذود وأخبرتاه أنا لا نستطيع السقي فوجدا من موسى عليه السلام لهما السقي ووجد من أبيهما مكافأة على السقي وهذا مما حذف لظهور المراد وأن القصد الإعلام بأنه كان من الناس في تلك الحالة سقى ومن المرأتين ذود وأنهما قالتا لا يكون منا سقى حتى يصدر الرعاء وأن موسى سقى بعد ذلك فأما أن المسقى غنم أو إبل أو غيره فخارج عن المقصود لأنه لو قيل: يذودان غنمهما لجاز أن يكون الإنكار لم يتوجه من موسى على الذود من حيث هو ذود بل من حيث هو ذود غنم حتى لو كان ذود إبل لم ينكره.
واعلم أنا جعلنا هذا من الضرب الثاني موافقة للزمخشري فإنه قال ترك المفعول لأن الغرض هو الفعل لا المفعول ألا ترى أنه إنمارحمهما لأنهما كانتا على الذياد وهم على السقي ولم يرحمهما لأن مذودهما غنم ومسقيم إبل وكذلك قولهما: {لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} المقصود منه السقي لا المسقى.
وجعله السكاكي من الضرب الأول، أعني مما حذف فيه للاختصار مع الإرادة والأقرب قول الزمخشري ورجح الجزري قول السكاكي أنه للاختصار فإن الغنم ليست ساقطة عن الاعتبار بالأصالة فإن فيها ضعفا عن المزاحمة والمرأتان فيهما ضعف فإذا انضم إلى ضعف المسقى ضعف الساقي كان ذلك أدعى للرحمة والإعانة.
وكقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}.
وقوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى}.
وقوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى. وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا}.
وإنما ذكر المفعول في قوله: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ} لأن المراد جنس الزوجين فكأنه قال: يخلق كل ذكر وكل أنثى وكان ذكره هنا أبلغ ليدل على عموم ثبوت الخلق له بالتصريح.
وليس منه قوله تعالى: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} لوجود العوض من المفعول به لفظا او هو المفعول به وهو قوله في ذريتي ومعنى الدعاء به قصر الإصلاح له على الذرية إشعارا بعنايته بهم.
وقوله: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي عاقبة أمركم لأن سياق القول في التهديد والوعيد.
واعلم أن الغرض حينئذ بالحذف في هذا الضرب أشياء:.
منها: البيان بعد الإبهام كما في فعل المشيئة على ما سبق، نحو: أمرته فقام أي بالقيام وعليه قوله تعالى: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} أي أمرناهم بالفسق وهو مجاز عن تمكينهم وإقدارهم.
ومنها: المبالغة بترك التقييد، نحو: {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} وقوله: {فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} ونفى الفعل غير متعلق أبلغ من نفيه متعلقا به لأن المنفي في الأول نفس الفعل وفي الثاني متعلقة.
تنبيه.
قد يلحظ الأمران فيجوز الاعتباران، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أجاز الزمخشري في حذف المفعول منه الوجهين.
وكذلك في قوله في آخر سورة الحج: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ}.
حذف الحال.
كقوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي قائلين سلام عليكم.
قال ابن أبي الربيع: اعلم أن العرب قد تحذف الحال إذا كانت بالفعل لدلالة مصدر الفعل عليه فتقول قتلته صبرا وأتيته ركضا، قال تعالى: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً} فدأبا يقدر بالفعل تقديره [تدأبون] في موضع الحال.
قال أبو علي: لا خلاف بين سيبويه وأبي العباس في الحال المحذوف الذي المصدر منصوب به وإنما الخلاف بينهما في القياس فسيبويه يذهب إلى السماع ولا يقيس والأخفش والمبرد يقيسان.
حذف المنادى.

قوله تعالى: {ألا ياسجدوا} على قراءة الكسائي بتخفيف [ألا] على أنها تنبيه و[يا] نداء والتقدير ألا يا هؤلاء اسجدوا لله ويجوز أن يكون [يا] تنبيها ولا منادى هناك وجمع بينهن تأكيدا لأن الأمر قد يحتاج إلى استعطاف المأمور واستدعاء إقباله على الآمر.
وأما على قراءة الأكثر بالتشديد فعلى أن أن الناصبة للفعل دخلت عليها لا النافية والفعل المضارع بعدها منصوب وحذفت النون علامة النصب فالفعل هنامعرب وفي تلك القراءة مبني فاعرفه.
فائدة.
[في حذف الياء من المنادى المضاف إلى ياء المتكلم].
كثر في القرآن حذف الياء من المنادى المضاف إلى ياء المتكلم نحو يا رب يا قوم وعلل ذلك بأن النداء باب حذف ألا ترى أنه يحذف منه التنوين وبعض الاسم للترخيم وجاء فيه إثباتها ساكنة كقراءة من قرأ {يا عبادي فاتقون} ، ومحركة بالفتح كقراءة من قرأ { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}، ومنقلبة عن الياء في قوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى}.

حذف الشرط.
{قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} أي إن قلت لهم أقيموا يقيموا.
وجعل منه الزمخشري: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ}.
وجعل أبو حيان منه قوله تعالى: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، أي إن كنتم آمنتم بما أنزل إليكم فلم تقتلون ؟ وجواب [إن كنتم] محذوف دل عليه ما تقدم أي فلم فعلتم وكرر الشرط وجوابه مرتين للتأكيد إلا أنه حذف الشرط من الأول وبقى جوابه وحذف الجواب من الثاني وبقى شرطه انتهى.
وهو حسن إلا أنه قد كان خالف الزمخشري وأنكر قوله بحذف الشرط في: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} وفي {فَانْفَجَرَتْ}، وقال: إن الشرط لا يحذف في غير الأجوبة والآن قد رجع إلى موافقته.
وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ، تقديره: إن كنتم منكرين فهذا يوم البعث أي فقد تبين بطلان إنكاركم.
وقوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} بمعنى إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم فعدل عن الافتخار بقتلهم فحذف لدلالة الفاعلية.
وقوله: {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} ، تقديره: إن أرادوا أولياء فالله هو الولي بالحق لا وليَّ سواه.

حذف جواب الشرط.
قوله: { إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} ، أي أفلستم ظالمين بدليل قوله عقبه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وقدره البغوي: من المحق منا ومن المبطل ونقله عن أكثر المفسرين.
ومن حذف جواب الفعل: {اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ}، تقديره: [فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم]، والفاء العاطفة على الجواب المحذوف هي المسماة عندهم بالفاء الفصيحة.
وقال صاحب المفتاح: وانظر إلى الفاء الفصيحة في قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} كيف أفادت ففعلتم فتاب عليكم وقوله: {اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا}، تقديره: فضربوه فحيى {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى}.
وقال صاحب الكشاف في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ}، تقديره: فعملا به وعلماه وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة {وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ}.
وقال السكاكي: هو إخبار عما صنع بهما وعما قالاه حتى كأنه قيل نحن فعلنا إيتاء العلم وهما فعلا الحمد تعريضا لاستثارة الحمد على إيتاء العلم إلى فهم السامع مثله [قم يدعوك] بدل [قم فإنه يدعوك].

حذف الأجوبة.

ويكثر ذلك في جواب لو، ولولا، كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} .
وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ}.
وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ}.
وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ}.
وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ}.
وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} ، تقديره: في هذه المواضع [لرأيت عجبا] أو [أمرا عظيما] أو[لرأيت سوء منقلبهم] أو [لرأيت سوء حالهم].
والسر في حذفه في هذه المواضع أنها لما ربطت إحدى الجملتين بالأخرى حتى صارا جملة واحدة أوجب ذلك لها فضلا وطولا فخفف بالحذف خصوصا مع الدلالة على ذلك.
قالوا: وحذف الجواب يقع في مواقع التفخيم والتعظيم ويجوز حذفه لعلم المخاطب وإنما يحذف لقصد المبالغة لأن السامع مع أقصى تخيله يذهب منه الذهن كل مذهب ولو صرح بالجواب لوقف الذهن عند المصرح به فلا يكون له ذلك الوقع ومن ثم لا يحسن تقدير الجواب مخصوصا إلا بعد العلم بالسياق كما قدر بعض النحويين في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} الآية، فقال: تقديره: لكان هذا القرآن.
وحكاه أبو عمرو الزاهد في الياقوتة عن ثعلب والمبرد وهو مردود لأن الآية ما سيقت لتفضيل القرآن بل سيقت في معرض ذم الكفار بدليل قوله قبلها: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}، وبعدها: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} فلو قدر الخبر [لما آمنوا به] لكان أشد.
ونقل الشيخ محيي الدين النووي في كتاب [رءوس المسائل] كون الجواب [كان هذا القرآن] عن الأكثرين. وفيه ما ذكرت.
وقيل: تقديره: لو قضيت أنه لا يقرأ القرآن على الجبال إلا سارت ورأوا ذلك لما آمنوا.
وقيل: جواب [لو] مقدم معناه: يكفرون بالرحمن ولو أن قرآنا سيرت به الجبال وهذا قول الفراء.
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} ، محذوف والتقدير: لنفدت هذه الاشياء وما نفدت كلمات الله. ويحتمل أن يكون [ما نفدت] هو الجواب مبالغة في نفي النفاد لأنه إذا كان نفي النقاد لازما على تقدير كون ما في الأرض من شجرة أقلاما والبحر مدادا لكان لزومها على تقدير عدمها أولى.
وقوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ}.
فإنه قد قيل: ظاهره نفى وجود الهم منهم بإضلاله وهو خلاف الواقع فإنهم هموا وردوا القول.
وقيل: قوله: {لَهَمَّتْ} ليس جواب [لو] بل هو كلام تقدم على [لو] وجوابها مقول على طريق القسم وجواب [لو] محذوف تقديره: {لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} لولا فضل الله عليك لأضلوك.
وقوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ}، أي همت بمخالطته وجواب [لولا] محذوف، أي لولا أن رأى برهان ربه لخالطها.
وقيل: لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، والوقف على هذا {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} والمعنى أنه لم يهم بها.
ذكره أبو البقاء والأول للزمخشري.
ولا يجوز تقديم جواب [لو] عليها لأنه في حكم الشرط وللشرط صدر الكلام.
وقوله: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} جواب الشرط محذوف يدل عليه قوله: {إِنَّا لَمُهْتَدُون} أي إن شاء الله اهتدينا.
وقد توسط الشرط هنا بين جزأي الجملة بالجزاء لأن التقديم على الشرط فيكون دليل الجواب متقدما على الشرط والذي حسن تقديم الشرط عليه الاهتمام بتعليق الهداية بمشيئة الله تعالى.
وقوله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ} تقديره: لما استعجلوا فقالوا متى هذا الوعد.
وقال الزجاج: تقديره [لعلموا صدق الوعد] لأنهم قالوا: متى هذا الوعد وجعل الله الساعة موعدهم فقال تعالى: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً}.
وقيل: تقديره: [لما أقاموا على كفرهم ولندموا أو تابوا].
وقوله في سورة التكاثر: {لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} تقديره لما: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}.
وقيل: تقديره: لشغلكم ذلك عما أنتم فيه.
وقيل: لرجعتم عن كفركم أو لتحققتم مصداق ما تحذرونه.
وقوله: {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً} أي لا يتبعونهم.
وقوله: {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، تقديره: [لآمنتم] أو [لما كفرتم] أو [لزهدتم في الدنيا] أو [لتأهبتم للقائنا].
ونحوه: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ}، أي يهتدون في الدنيا لما رأوا العذاب في الاخرة أو لما اتبعوهم.
وقوله: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} ، قال محمد بن إسحاق: معناه لو أن لي قوة لحلت بينكم وبين المعصية.
وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ} أي رأيت ما يعتبر به عبرة عظيمة.
وقوله عقب آية اللعان: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ}، قال الواحدي: قال الفراء: جواب لو محذوف لأنه معلوم المعنى وكل ما علم فإن العرب تكتفي بترك جوابه ألا ترى أن الرجل يشتم الرجل فيقول المشتوم: أما والله لولا أبوك.. فيعلم أنك تريد: لشتمتك.
وقال المبرد: تأويله والله أعلم: لهلكتم أو لم يبق لكم باقية أو لم يصلح أمركم ونحوه من الوعيد الموجع فحذف لأنه لا يشكل.
وقال الزجاج: المعنى لنال الكاذب منكم أمر عظيم وهذا أجود مما قدره المبرد.
وكذلك [لولا] التي بعدها في قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}، جوابها محذوف وقدره بعضهم في الأولى لافتضح فاعل ذلك وفي الثانية: لعجل عذاب فاعل ذلك وسوغ الحذف طول الكلام بالمعطوف والطول داع للحذف.
وقوله: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} جوابها محذوف أي لولا احتجاجهم بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة.
وقال مقاتل: تقديره: لأصابتهم مصيبة.
وقال الزجاج: لولا ذلك لم يحتج إلى إرسال الرسول ومواترة الاحتجاج.
وقوله: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} أي لأبدت.
وقوله تعالى:{ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي}، تقديره: لو تملكون، [تملكون] فأضمر [تملك] الأولى على شريطة التفسير وابدل من الضمير المتصل الذي هو [الواو] ضمير منفصل وهو [أنتم] لسقوط ما يتصل به من الكلام فـ[أنتم] فاعل الفعل المضمر [وتملكون] تفسيره.
وقال الزمخشري: هذا ما يقتضيه الإعراب فأما ما يقتضيه علم البيان فهو أن [أنتم] تملكون فيه دلالة على الاختصاص وأن الناس هم المختصون بالشح المتتابع وذلك لأن الفعل الأول لما سقط لأجل المفسر برز الكلام في صورة المبتدأ والخبر.
ومن حذف الجواب قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، أي أعرضوا ؟ بدليل قوله بعده:{إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} وقوله في قصة إبراهيم في الحجر: {فَقَالُوا سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} وفي غيرها من السور: {قَالُوا سَلاماً} {قَالَ سَلامٌ} قال الكرماني: لأن هذه السورة متأخرة عن الأولى فاكتفى بما في هذه ولو ثبت تعدد الوقائع لنزلت على واقعتين.
وكقوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} قال الزمخشري حذف الجواب وتقديره مصرح به في سورتي التكوير والانفطار وهو قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ}.
وقال في: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}: الجواب محذوف أي أنهم ملعونون يدل عليه قوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ}.
وكقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} أي [حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها] والواو واو وحال وفي هذا ما حكى أنه اجتمع أبو علي الفارسي مع ابي عبد الله الحسين بن خالويه في مجلس سيف الدولة فسئل ابن خالويه عن قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}، في النار بغير واو، وفي الجنة بالواو! فقال ابن خالويه: هذه الواو تسمى واو الثمانية لأن العرب لا تعطف الثمانية إلا بالواو قال: فنظر سيف الدولة إلى أبي علي وقال أحق هذا فقال أبو علي: لا أقول كما قال إنما تركت الواو في النار لأنها مغلقة وكان مجيئهم شرطا في فتحها فقوله:{ فُتِحَتْ} فيه معنى الشرط وأما قوله:{ وَفُتِحَتْ} في الجنة فهذه واو الحال كأنه قال جاءوها وهي مفتحة الأبواب أو هذه حالها.
وهذا الذي قاله أبو علي هو الصواب ويشهد له أمران:.
أحدهما : أن العادة مطردة شاهدة في إهانة المعذبين بالسجون من إغلاقها حتى يردوا عليها وإكرام المنعمين بإعداد فتح الأبواب لهم مبادرة واهتماما.
والثاني: النظير في قوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ}.
وللنحويين في الآية ثلاثة أقوال:.
أحدها: أن الواو زائدة والجواب قوله: [فتحت] وهؤلاء قسمان منهم من جعل هذه الواو مع أنها زائدة واو الثمانية ومنهم من لم يثبتها.
والثاني: أن الجواب محذوف عطف عليه قوله: [وفتحت] كأنه قال:{حتى إذا جاءوها [جاءوها] وفتحت} قال الزجاج وغيره: وفي هذا حذف المعطوف وإبقاء المعطوف عليه.
والثالث: أن الجواب محذوف آخر الكلام كأنه قال بعد الفراغ استقروا أو خلدوا أواستووا مما يقتضه المقام وليس فيه حذف معطوف ويحتمل أن يكون التقدير إذا جاءوها إذن لهم في دخولها وفتحت أبوابها المجىء ليس سببا مباشرا للفتح بل الإذن في الدخول هو السبب في ذلك.
وكذلك قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} ، أي رحمهم ثم تاب عليهم وهذا التأويل أحسن من القول بزيادة [ثم].
وحذف المعطوف عليه وإبقاء المعطوف سائغ، كقوله تعالى: {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً}، التقدير والله أعلم: فذهبا فبلغا فكذبا فدمرناهم لأن المعنى يرشد إلى ذلك.
وكذا قوله تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ}، أي فامتثلتم أو فعلتم فتاب عليكم.
وقوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي رحما وسعدا وتله وابن عطية يجعل التقدير فلما أسلما اسلما وهو مشكل.
وقوله: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا} ، المعنى: حتى إذا كان ذلك ندم الذين كفروا ولم ينفعهم إيمانهم لأنه من الآيات والأشراط.
وقد يجيء في الكلام شرطان ويحذف جواب أحدهما اكتفاء بالآخر كقوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} في الاعتراض به مجرى الظرف لأن الشرط وإن كان جملة فإنه لما لم يقم بنفسه جرى مجرى الجزء الواحد ولو كان عنده جملة لما جاز الفصل به بين [أما] وجوابها لأنه لا يجوز. أما زيد فمنطلق وذهب الأخفش إلى أن الفاء جواب لهما.
ونظيره: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} فقوله:[ لَعَذَّبْنَا ]جواب للولا ولو جميعا.
واختار ابن مالك قول سيبويه أن الجواب [لأما] واستغنى به عن جواب [إن] لأن الجواب الأول الشرطين المتواليين في قوله: {إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} ونظائره.
فإذا كان أول الشرطين [أما[ كانت أحق بذلك لوجهين:.
أحدهما: أن جوابها إذا انفردت لا يحذف أصلا وجواب غيرها إذا انفرد يحذف كثيرا لدليل وحذف ما عهد حذفه أولى من حذف ما لم يعهد.
والثاني: أن أما قد التزم معها حذف فعل الشرط وقامت هي مقامة فلو حذف جوابها لكان ذلك إجحافا وإن ليس كذلك انتهى.
والظاهر أنه لا حذف في الآية الكريمة وإما الشرط الثاني وجوابه جواب الأول والمحذوف إنما هو أحد الفاءين.
وقال الفارسي في قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} الآية. إنه حذف منه أعزنا ولا تذلنا.
وقال في قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}، تقديره:[ فكيف تجدونهم مسرورين أو محزونين] فـ "كيف" في موضع نصب بهذا الفعل المضمر وهذا الفعل المضمر قد سد مسد جواب إذا.

حذف جواب القسم.
لعلم السامع المراد منه كقوله تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً يوم ترجف الراجفة}، تقديره: لتبعثن ولتحاسبن بدليل إنكارهم للبعث في قولهم: {أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ}.
وقيل: القسم وقع على قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى}.
وكقوله تعالى: {لَنْ نُؤْثِرَكَ} وحذف لدلالة الكلام السابق عليه.
واختلف في جواب القسم في: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} فقال الزجاج: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ}، واستبعده الكسائي.
وقال الفراء: قد تأخر كثيرا وجرت بينهما قصص مختلفة فلا يستقيم ذلك في العربية.
وقيل: {كَمْ أَهْلَكْنَا} ومعناه: لكم أهلكنا وما بينهما اعتراض وحذفت اللام لطول الكلام.
وقال الأخفش: {إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} والمعترض بينهما قصة واحدة.
وعن قتادة: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} ، مثل: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا}.
وقال صاحب النظم في هذا القول: معنى "بل" توكيد الأمر بعده فصار مثل أن الشديدة تثبت ما بعدها وإن كان لها معنى آخر في نفي خبر متقدم كأنه قال: إن الذين كفروا في عزة وشقاق.
وقال أبو القاسم الزجاجي: إن النحويين قالوا: إن "بل" تقع في جواب القسم كما تقع "إن" لأن المراد بها توكيد الخبر وذلك في {ص وَالْقُرْآنِ} الآية. وفي: {ق وَالْقُرْآنِ} الآية. وهذا من طريق الاعتبار ويصلح أن يكون بمعنى "إن" لأنه سائغ في كلامهم أو يكون "بل" جوابا للقسم لكن لما كانت متضمنة رفع خبر وإتيان خبر بعده كانت أوكد من سائر التوكيدات فحسن وضعها موضع "إن".
وقيل: الجواب محذوف أي والقرآن المجيد ما الأمر كما يقول هؤلاء أو الحق ما جاء به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال الفراء في قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} جوابه محذوف أي فيومئذ يلاقي حسابه.
وعن قتاده أن جوابه: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} يعني أن الواو فيها بمعنى السقوط كقوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ} ، أي ناديناه.

حذف الجملة.
هي أقسام: قسم هي مسببة عن المذكور وقسم هي سبب له وقسم خارج عنها، فالأول: كقوله تعالى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} فإن اللام الداخلة على الفعل لا بد لها من متعلق يكون سببا عن مدخول اللام فلما لم يوجد لها متعلق في الظاهر وجب تقديره ضرورة فيقدر: فعل ما فعل ليحق الحق.
والثاني: كقوله تعالى: {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً}، فإن الفاء إنما تدخل على شيء مسبب عن شيء ولا مسبب إلا له سبب فإذا وجد المسبب - ولا سبب له ظاهرا - أوجب أن يقدر ضرورة فيقدر: فضربه فانفجر.
والثالث: كقوله تعالى: {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} أي نحن هم أو هم نحن.
وقد يكون المحذوف أكثر من جملةكقوله تعالى: {فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ} الآية. فإن التقدير:" فأرسلون إلى يوسف لأستعبره الرؤيا فأرسلوه إليه لذلك فجاء فقال له: يا يوسف" وإنما قلنا إن هذا الكل محذوف لأن قوله: {أَرْسِلُونِ} يدل لا محالة على المرسل إليه فثبت أن "إلى يوسف" محذوف ثم إنه لما طلب الإرسال إلى يوسف عند العجز الحاصل للمعبرين عن تعبير رؤيا الملك دل ذلك على أن المقصود من طلب الإرسال إليه استعباره الرؤيا التي عجزوا عن تعبيرها ومنه قوله تعالى:{اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} الآية، فأعقب بقوله حكاية عنها: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ}، تقديره: فأخذ الكتاب فألقاه إليهم فرأته بلقيس وقرأته و{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ}.
وقوله: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} حذف يطول تقديره: فلما ولد يحيى ونشأ وترعرع قلنا: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ}.
ومنه قوله تعالى حكاية عن قوم موسى: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}.
وقوله: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ} إلى قوله: {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا}.
وقوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} أي كمن قسا قلبه ترك على ظلمه وكفره ودل على المحذوف قوله: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ}.
ومن حذف الجملة قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} قيل: المعنى جاعل في الأرض خليفة يفعل كذا وكذا وإلا فمن أين علم الملائكة أنهم يفسدون وباقي الكلام يدل على المحذوف.
وقوله: {يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ}، قال الفارسي: المعنى فكما كرهتموه فاكرهوا الغيبة:" واتقوا الله" عطف على قوله:" فاكرهوا" إن لم يذكر لدلالة الكلام عليه كقوله تعالى:" فانفجرت" أي فضرب فانفجرت فقوله:" كرهتموه" كلام مستأنف وإنما دخلت الفاء لما في الكلام من معنى الجواب لأن قوله:" أيحب أحدكم" كأنهم قالوا في جوابه لا، فقال: فكرهتموه أي فكما كرهتموه فاكرهوا الغيبة.
قال ابن الشجري: وهذا التقدير بعيد لأنه قدر المحذوف موصولا وهو "ما" المصدرية وحذف الموصول وإبقاء صلته ضعيف وإنما التقدير فهذا كرهتموه والجملة المقدرة المحذوفة ابتدائية لا أمرية والمعنى فهذا كرهتموه والغيبة مثله وإنما قدرها أمرية ليعطف عليها الجملة الأمرية في قوله:" واتقوا الله".

حذف القول.
قد كثر في القرآن العظيم حتى إنه في الإضمار بمنزلة الإظهار كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، أي يقولون: ما نعبدهم إلا للقربة.
ومنه: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا} أي وقلنا كلوا أو قائلين.
وقوله: {عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا} أي قلنا.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا} أي وقلنا خذوا.
{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} أي وقلنا: اتخذوا.
وقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا} أي يقولان: ربنا وعليه قراءة عبد الله.
{فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ} أي فيقال لهم لأن أما لا بد لها في الخبر من فاء فلما أضمر القول أضمر الفاء.
وقوله: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ هَذَا مَا تُوعَدُونَ} يقال لهم هذا.
وقوله: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي يقولون سلام.
وقوله: {تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} أي يقولون لهم ذلك.
وقوله: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ} أي يقولون ما نعبدهم.
وقوله: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} أي يقولون إنا لمغرمون أي معذبون وتفكهون: تندمون.
وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} أي يقولون ربنا وقوله: { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} أي قالوا قال الحق.

حذف الفعل.
وينقسم إلى عام وخاص:.
الخاص
فالخاص نحو: أعنى مضمرا وينتصب المفعول به في المدح نحو: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} ، وقوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي أمدح.
واعلم أنه إذا كان المنعوت متعينا لم يجز تقديره ناصب نعته بأعنى نحو الحمد لله الحميد بل المقدر فيه وفي نحوه أذكر أو أمدح فاعرف ذلك والذم نحو قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} في قراءة النصب والأخفش ينصب في المدح بأمدح وفي الذم بأذم.
وأعلم أن مراد المادح إبانة الممدوح من غيره فلا بد من إبانة إعرابه عن غيره ليدل اللفظ على المعنى المقصود ويجوز فيه النصب بتقدير أمدح والرفع على معنى "هو" ولا يظهران لئلا يصيرا بمنزلة الخبر.
والذي لا مدح فيه فاختزال العامل فيه واجب كاختزاله في والله لأفعلن إذ لو قيل: أحلف بالله لكان عدة لا قسما.
العام.
والعام كل منصوب دل عليه الفعل لفظا أو معنى أو تقديرا ويحذف لأسباب:.
أحدها: أن يكون مفسرا، كقوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}،{وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}.
ومنه: {أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ} {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا} {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} {وَإِنْ طَائِفَتَانِ} فإنه ارتفع "باقتتل" مقدرا.
قالوا: ولا يجوز حذف الفعل مع شيء من حروف الشرط العاملة سوى "إن" لأنها الأصل.
وجعل ابن الزملكاني هذا مما هو دائر بين الحذف والذكر فإن الفعل المفسر كالمتسلط على المذكور ولكن لا يتعين إلا بعد تقدم إبهام ولقد يزيده الإضمار إبهاما إذا لم يكن المضمر من جنس الملفوظ به نحو: {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}.
الثاني: أن يكون هناك حرف جر نحو: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فإنه يفيد.
أن المراد: بسم الله أقرأ أو أقوم أو أقعد عند القراءة وعند الشروع في القيام أو القعود أي فعل كان.
واعلم ان النحاة اتفقوا على أن بسم الله بعض جملة واختلفوا.
فقال البصريون: الجملة اسمية أي ابتدائي بسم الله.
وقال الكوفيون: الجملة فعلية وتابعهم الزمخشري في تقدير الجملة فعلية ولكن خالفهم في موضعين: أحدهما: أنهم يقدرون الفعل مقدما وهو يقدره مؤخرا. والثاني: أنهم يقدرونه فعل البداية وهو يقدره في كل موضع بحسبه فإذا قال الذابح: بسم الله كان التقدير: بسم الله أذبح وإذا قال القارىء: بسم الله فالتقدير: بسم الله أقرأ.
وما قال أجود مما قالوا لأن مراعاة المناسبة أولى من إهمالها ولأن اسم الله أهم من الفعل فكان أولى بالتقديم ومما يدل على ذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " باسمك ربي وضعت " ، جنبي فقدم اسم الله على الفعل المتعلق ثم الجار وهو "وضعت".
الثالث: أن يكون جوابا لسؤال وقع، كقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وقوله: {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} أي بل نتبع.
أو جوابا لسؤال مقدر كقراءة: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ} ببناء الفعل للمفعول فإن التقدير: يسبحه رجال.
وفيه فوائد: منها: الإخبار بالفعل مرتين. ومنها جعل الفضلة عمدة.
ومنها: أن الفاعل فسر بعد اليأس منه كضالة وجدها بعد اليأس، ويصح أن يكون "يُسَبَّح" بدل من "يُذْكَر"على طريقة: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} و"له فيها" خبر مبتدأ هو "رجال".
مثله قراءة من قرأ: {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} ، قال أبو العباس: المعنى زينه شركاؤهم فيرفع الشركاء بفعل مضمر دل عليه "زين".
ومثله قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} إن جعلنا قوله "لله شركاء" مفعولي "جعلوا" لأن لله في موضع الخبر المنسوخ وشركاء نصب في موضع المبتدأ وعلى هذا فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون مفعولا بفعل محذوف دل عليه سؤال مقدر كأنه قيل: أجعلوا لله شركاء قيل جعلوا الجن فيفيد الكلام إنكار الشريك مطلقا فدخل اعتقاد الشريك من غير الجن في إنكار دخول اتخاذه من الجن.
والثاني: ذكره الزمخشري أن الجن بدل من "شركاء" فيفيد إنكار الشريك مطلقا كما سبق وإن جعل "لله" صلة كان "شركاء الجن" مفعولين قدم ثانيهما على أولهما وعلى هذا فلا حذف.
فأما على الوجه الأول فقيل: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} ولم يقل: "وجعلوا.
الجن شركاء لله" تعظيما لاسم الله تعالى لأن شأن الله أعظم في النفوس فإذا قدم "لله" والكلام فيه يستدعي طلب المجعول له ما هو؟ فقيل: شركاء وقع في غاية التشنيع لأن النفس منتظرة لهذا المهم المعلق بهذا المعظم نهاية التعظيم فإذا علم أنه علق به هذا المستبشع في النهاية كان أعظم موقعا من العكس لأنه إذا قيل: وجعلوا شركاء لم يعطه تشوف النفوس لجواز أن يكون: جعلوا شركاء في أموالهم وصدقاتهم أو غير ذلك.
الثالث: أن الجعل غالبا لا يتعلق بالله ويخبر به إلا وهو جعل مستقبح كاذب إذ لا يستعمل جعل الله رحمة ومشيئة وعلما ونحوه لا سيما بالاستقراء القرآني كـ {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} إلى غير ذلك.
الرابع: أن أصل الجعل وإن جاز وإسناده إلى الله فيما إذا كان الأمر لائقا فإن بابه مهول لأن الله تعالى قد علمنا عظيم خطره وألا نقول فيه إلا بالعلم كقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}، إلى غير ذلك، مع ما دل عليه الأدب عقلا وكان نفس الجعل مستنكرا إن لم يتبع بمجعول لائق فإذا أتبع بمجعول غير لائق منهم ثم فسر بخاص مستنكر صار قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} في قوة إنكار ذلك ثلاث مرات الأول جسارتهم في أصل الجعل الثاني في كون المجعول شركاء الثالث في أنهم شركاء جن.
الخامس: أن في تقديم "لله" إفادة تخصيصهم إياه بالشركة على الوجه الثالث دون جميع ما يعبدون لأنه الإله الحق.
السادس: أنه جيء بكلمة "جعلوا" لا "اعتقدوا" ولا "قالوا" لأنه أدل على إثبات المعتقد لأنه يستعمل في الخلق والإبداع.
السابع: كلمة "شركاء" ولم يقل: شريكا، وفاقا لمزيد ما فتحوا من اعتقادهم.
الثامن: لم يقل "جنا" وإنما قال: الجن، دلالة على أنهم اتخذوا الجن كلها جعلوه من حيث هو صالح لذلك وهو أقبح من التنكير الذي وضعه للمفردات المعدولة.
الرابع: أن يدل عليه معنى الفعل الظاهر، كقوله تعالى: {انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ} أي وائتوا أمرا خيرا لكم فعند سيبويه أن "خيرا" انتصب بإضمار ائت لأنه لما نهاء علم أنه يأمره بما هو خير فكأنه قال:" وائتوا خيرا" لأن النهي عن الشيء أمر بضده ولأن النهي تكليف وتكليف العدم محال لأنه ليس مقدورا فثبت أن متعلق التكليف أمر وجودي ينافي المنهى عنه وهو الضد.
وحمله الكسائي على إضمار كان أي يكن الانتهاء خيرا لكم ويمنعه إضمار كان ولا تضمر في كل موضع ومن جهة المعنى إذ من ترك ما نهى عنه فقد سقط عنه اللوم وعلم أن ترك المنهي عنه خير من فعله فلا فائدة في قوله "خيرا".
وحمله الفراء على أنه صفة لمصدر محذوف أي انتهوا انتهاء خيرا لكم وقال إن هذا الحذف لم يأت إلا فيما كان أفعل نحو خير لك، وأفعل.
ورد مذهبه ومذهب الكسائي بقوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً} لو حمل على ما قالا لا يكون خيرا لأن من انتهى عن التثليث وكان معطلا لا يكون خيرا له. وقول سيبويه: وأنت خيرا يكون أمرا بالتوحيد الذي هو خير فلله در الخليل وسيبويه ما أطلعهما على المعاني !.
وقوله: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} إن لم يجعل مفعولا معه أي وادعوا شركاءكم وبإظهار "ادعوا" قرأ وكذلك هو مثبت في مصحف ابن مسعود.
وقوله تعالى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ}، قال ابن الشجري: معناه مال عليهم بضربهم ضربا. ويجوز نصبه على الحال نحو أتيته مشيا أي ماشيا.
{ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً} أي ساعيات. وقوله: "باليمين" إما اليد أو القوة.
وجوز ابن الشجري إرادة القسم والباء للتعليل أي لليمين التي حلفها وهي قوله تعالى: {لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}.
وزعم النووي في قوله تعالى: { قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} ، أن التقدير ليكن منكم طاعة معروفة.
الخامس: أن يدل عليه العقل، كقوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} أي فضرب فانفجرت.
وقوله: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ. فَفَتَحْنَا} قال النحاس: التقدير فنصرناه ففتحنا أبواب السماء لأن ما ظهر من الكلام يدل على ما حذف.
وقوله: {يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} أي يكتب بذلك كلمات الله ما نفدت قاله أبو الفتح.
وقوله: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}.
فقوله:" ثم أحياهم "معطوف على فعل محذوف تقديره فماتوا ثم أحياهم ولا يصح عطف قوله:" ثم أحياهم " على قوله:" موتوا " لأنه أمر وفعل الأمر لا يعطف على الماضي.
وقوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} أي فاختلفوا فبعث وحذف لدلالة قوله: {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} وهي في قراءة عبد الله كذلك.
وقيل: تقديره كان الناس أمة واحدة كفارا فبعث الله النبيين فاختلفوا والأول أوجه.
وقوله: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ} فالهمزة للإنكار والواو للعطف والمعطوف عليه محذوف تقديره: أكذبتم وعجبتم أن جاءكم.
وقوله: {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} ، هو معطوف على محذوف سد مسده حرف الإيجاب كأنه قال إيجابا لقولهم: {نَّ لَنَا لأَجْراً} ، نعم إن لكم أجرا وإنكم لمن المقربين.
وقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ}، أي فأفطر فعدة، خلافا للظاهرية حيث أوجبوا الفطر على المسافر أخذا من الظاهر.
وقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَة}، أي فحلق ففدية.
وقوله: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} قال الزمخشري: التقدير فضربوه فحيى.
فحذف ذلك لدلالة قوله: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى}.
وزعم ابن جنى أن التقدير في قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} أن التقدير فكيف يكون إذا جئنا.
السادس: أن يدل عليه ذكره في موضع آخر، كقوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً}، قال الواحدي: هو بإضمار "اذكر" ولهذا لم يأت لإذ بجواب. ومثله قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} وليس شيء قبله تراه ناصبا لـ"صالحا"، بل علم بذكر النبي والمرسل إليه أن فيه إضمار" أرسلنا ".
وقوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} أي وسخرنا.
ومثله: {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ} {وَذَا النُّونِ}.
وكذا: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ}، أي واذكر.
قال: ويدل على "اذكر" في هذه الآيات قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ} {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ}.
وما قاله ظاهر، إلا أن مفعول "اذكر" يكون محذوفا أيضا تقديره:" واذكروا أخالكم "ونحوه إذا كان كذا وذلك ليكون "إذ" في موضع نصب على الظرف ولو لم يفد ذلك المحذوف لزم وقوع "إذ" مفعولا به والأصح أنها لا تفارق الظرفية.
السابع: المشاكلة كحذف الفاعل في" بسم الله "لأنه موطن لا ينبغي أن يتقدم فيه سوى ذكر الله فلو ذكر الفعل وهو لا يستغني عن فاعله كان ذلك مناقضا للمقصود وكان في حذفة مشاكلة اللفظ للمعنى ليكون المبدوء به اسم الله كما تقول في الصلاة الله أكبر ومعناه:" من كل شيء "ولكن لا تقول هذا المقدر ليكون اللفظ في اللسان مطابقا لمقصود الجنان وهو أن يكون في القلب ذكر الله وحده وأيضا فلأن الحذف أعم من الذكر فإن أي فعل ذكرته كان المحذوف أعم منه لأن التسمية تشرع عند كل فعل.
الثامن: أن يكون بدلا من مصدره، كقوله تعالى: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} وقوله: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} أي فإما أن تمنوا وإما أن تفادوا.
وقد اختلف في نصب السلام في قوله تعالى في سورة هود: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً} وفي الذاريات: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً} وفي نصبها وجهان:.
أحدهما: أن يكون منصوبا بالقول أي يذكرون قولا سلاما فيكون من قلت حقا وصدقا.
الثاني: أن يكون منصوبا بفعل محذوف تقديره فقالوا سلمنا سلاما أي سلمنا تسليما فيكون قد حكى الجملة بعد القول ثم حذفها واكتفى ببعضها.
والحاصل أنه هل هو منصوب بالقول أو بكونه مصدر لفعل محذوف ؟.
ومثله قوله تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً}.
منصوب "بقالوا" كقولك فقلت حقا أو منصوب بفعل مضمر أي قالوا: أنزل خيرا من باب حذف الجملة المحكية وتبقية بعضها.
وأما قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} فمرفوع لأنه لا يمكن نصبه على تقدير قالوا أساطير الأولين لأنهم لم يكونوا يرونه من عند الله حتى يقولوا ذلك ولا هو أيضا من باب قلت حقا وصدقا فلم يبق إلا رفعه.

تنبيه:.
قد يشتبه الحال في أمر المحذوف وعدمه لعدم تحصيل معنى الفعل كما قالوا في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} فإنه قد يظن أن الدعاء فيه بمعنى النداء فلا يقدر في الكلام حذف وليس كذلك وإلا لزم الاشتراك إن كانا متفاوتين أو عطف الشيء على نفسه وإنما الدعاء هنا بمعنى التسمية التي تتعدى لمفعولين أي سموه الله أو الرحمن.
قد يشتبه في تعيين المحذوف لقيام قرينتين كقوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ} قدره سيبويه بـ"بلى نجمعها قادرين"، فقادرين حال وحذف الفعل لدلالة: {أَلَّنْ نَجْمَعَ} عليه.
وقدره الفراء " نحسب " لدلالة {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ} أي بلى نحسبنا قادرين.
وتقدير سيبويه أولى لأن بلى ليس جوابا لـ"يحسب" إنما هو جواب لـ"ألن نجمع" وقدره بعضهم: بلى نقدر قادرين.
وقيل: منصوب لوقوعه موقع الفعل وهو باطل لأنه ليس من نواصب الاسم وقوعه موقع الفعل.

تنبيه آخر:.
إن الحذف على ضربين: أحدهما: ألا يقام شيء مقام المحذوف كما سبق والثاني: أن يقام مقامه ما يدل عليه كقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ}، ليس الإبلاغ هو الجواب لتقدمه على قولهم، فالتقدير: فإن تولوا فلا ملام على لأني قد أبلغتكم.
وقوله: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ } فلا تحزن واصبر.
وقوله: {وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} أي يصيبهم ما أصاب الأولين.

حذف الحرف.
قال أبو الفتح في" المحتسب ": أخبرنا أبو علي قال: قال أبو بكر بن السراج: حذف الحرف ليس يقاس وذلك لأن الحرف نائب عن الفعل بفاعله ألاتراك إذا قلت: ما قام زيد فقد نابت ما عن أنفي كما نابت إلا عن أستثنى وكما نابت الهمزة وهل عن أستفهم وكما نابت حروف العطف عن أعطف ونحو ذلك. فلو ذهبت.
تحذف الحرف لكان ذلك اختصارا واختصار المختصر إجحاف به إلا إذا صح التوجه إليه وقد جاز في بعض الأحوال حذفه لقوة الدلالة عليه. انتهى.
فمنه الواو تحذف لقصد البلاغة فإن في إثباتها ما يقتضى تغاير المتعاطفين فإذا حذفت أشعر بأن الكل كالواحد: كقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} تقديره: ولا يألونكم خبالا.
وقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} أي ووجوه.
وخرج عليه الفارسي قوله تعالى: { وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا } الآية. وقال: تقديره: "وقلت لا أجد" فهو معطوف على قوله: "أتوك" لأن جواب "إذا" قوله: "تولوا".
ومنعه ابن الشجري في أماليه وعلى هذا فلا موضع له من الإعراب لأنه معطوف على الصلة والصلة لا موضع لها من الإعراب فكذلك ما عطف عليها.
وقال الزمخشري: هي حال من الكاف في" أتوك "، "وقد" قبله مضمرة كما في قوله: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} أي إذا ما أتوك قائلا لا أجد تولوا وعلى هذا فله موضع من الإعراب لأنه حال.
قال السهيلي في أماليه: ليس معنى الآية كما قالوا لأن رفع الحرج عن القوم ليس مشروطا بالبكاء عند التولي وإنما شرطه عدم الجدة ونزلت في السبعة الذين سمى أبو إسحاق ولو كان جواب "إذا أتوك" في قوله: { تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ } لكان من لم تفض عيناه من الدمع هو الذي حرج وأثم وما رفع الله الحرج عنهم إلا لأن الرسول.
لم يجد ما يحملهم عليه وإذا عطفت "قلت لا أجد" على "أتوك" كان الحرج غير مرفوع عنهم حتى يقال: {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ} فجواب إذا في قوله لا أجد وما بعد ذلك خبر ونبأ على هؤلاء السبعة الذين كانوا سبب نزول هذه الآية ففضيلة البكاء مخصوصة بهم ورفع الحرج بشرط عدم الجدة عام فيهم وفي غيرهم.
وقال الواحدي في قوله تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً}: آية البقرة في مصاحف الشام بغير واو - يعني قراءة ابن عامر - لأن هذه الآية ملابسة لما قبلها من قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} لأن القائلين:" اتخذ الله ولدا " من جملة المتقدم ذكرهم فيستغنى عن ذكر الواو لالتباس الجملة بما قبلها كما استغنى عنها في نحو قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، ولو كان وهم كان حسنا إلا أن التباس إحدى الجملتين بالأخرى وارتباطها بها أغنى عن الواو.
ومثله: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ} ولم يقل: ورابعهم كما قال: {وَثَامِنُهُمْ} ولو حذف الواو منها كما حذف من التي قبلها واستغنى عن الواو بالملابسة التي بينهما كان حسنا ويمكن أن يكون حذف الواو لاستئناف الجملة ولا يعطف على ما تقدم. انتهى.
وحصل من كلامه أنه عند حذف الواو يجوز أن يلاحظ معنى العطف ويكتفى للربط بينها وبين ما قبلها بالملابسة كما ذكر. ويجوز ألا يلاحظ ذلك فتكون الجملة مستأنفة.
قال ابن عمرون: وحذف الواو في الجمل أسهل منه في المفرد وقد كثر حذفها في الجمل.
في الكلام المحمول بعضه على بعض نحو قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } كله محمول بعضه على بعض والواو مزيدة حذفت لاستقلال الجمل بأنفسها بخلاف المفرد ولأنه في المفرد ربما أوقع لبسا في نحو: رأيت زيدا ورجلا عاقلا.، ولو جاز حذف الواو احتمل أن يكون رجلا بدلا بخلاف الجملة.
وقريب منه قوله تعالى: { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ} أي وقال.
ومنه الفاء في جواب الشرط على رأى، وخرج عليه قوله تعالى: { إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ } أي فالوصية.
والفاء في العطف كقوله: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ }، تقديره: " فقال أعوذ بالله "ذكره ابن الشجري في أماليه.
وقوله تعالى: { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ } حذف حرف العطف من قوله:" قال" ولم يقل: "فقال" كما في قصة نوح لأنه على تقدير سؤال سائل قال: ما قال لهم هود ؟ فقيل: قال يا قوم اعبدوا الله واتقوه.
ومنه حذف همزة الاستفهام، كقوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي} أي أهذا ربي ؟.
وقوله: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} أي أفمن نفسك !.
وقوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} أي أو تلك نعمة !.
وقوله: {إِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ} على قراءة ابن كثير بكسر الهمزة على خلاف في ذلك جميعه.
ومنه حذف ألف ما الاستفهامية مع حرف الجر للفرق بين الاستفهامية والخبرية، كقوله تعالى: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ}{فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} و{مِمَّ خُلِقَ}.
ومنه حذف الياء في: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} للتخفيف ورعاية الفاصلة.
ومنه حذف حرف النداء،كقوله: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ} أي يا هؤلاء.
وقوله: {يُوسُفُ} أي يا يوسف.
وقوله: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ} أي يا رب.
ويكثر في المضاف نحو: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ} {رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً}.
وكثر ذلك في نداء الرب سبحانه وحكمة ذلك دلالته على التعظيم والتنزيه لأن النداء يتشرب معنى الأمر لأن إذا قلت يا زيد فمعناه أدعوك يا زيد فحذفت يا من نداء الرب ليزول معنى الأمر ويتمحص التعظيم والإجلال.
وقال الصفار: يجوز حذف حرف النداء من المنادى إلا إذا كان المنادى نكرة مقبلا عليها إذ لا دليل عليه وإلا إذا كان اسم إشارة.
ومنه حذف "لو" في قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} تقديره: لو كان معه إله لذهب كل إله بما خلق.
وقوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} معناه لو كان كذلك لارتاب المبطلون.
ومنه حذف "قد" في قوله تعالى: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} أي وقد اتبعك لأن الماضي لا يقع موقع الحال إلا و"قد" معه ظاهرة أو مقدرة.
ومثلها: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً} أي وقد كنتم.
وقوله: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} قيل معناه:" قد حصرت " بدلالة قراءة يعقوب "حصرةً صدورهم". وقال الأخفش: الحال محذوفة، و"حصرت صدورهم" صفتها أي جاءوكم يوما حصرت دعاء عليهم بأن تحصر صدورهم عن قتالهم لقومهم طريقته قاتلهم الله. ورده أبو علي بقوله أي قاتلوا قومهم فلا يجوز أن يدعى عليهم بأن تحصر صدورهم عن قتالهم لقومهم لكن بقول اللهم ألق بأسهم بينهم.
ومنه حذف " أن " في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً}، المعنى أن يريكم.
وحذف "لا" في قوله: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ} أي لا تفتأ لأنها ملازمة للنفي ومعناها لا تبرح.
قوله: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}، أي لا تميد.
وقوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ} أي لا تبوء.
وبهذا يزول الإشكال من الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ}، أي لا يطيقونه على قول.


[ البرهان في علوم القرآن ( 3 / 170 ـ 214 ) ]


رد مع اقتباس
  #10  
قديم 12 ذو القعدة 1430هـ/30-10-2009م, 06:30 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي

فائدة
[في حذف الجار ثم إيصال الفعل إلى المجرور].
كثر في القرآن حذف الجار ثم إيصال الفعل إلى المجرور به كقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} أي من قومه.
{وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} أي على عقدة.
{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} ، أي يخوفكم بأوليائه، ولذلك قال: {فَلا تَخَافُوهُمْ}.
{وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} أي يبغون لها.
{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاه} أي قدرنا له.
{سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا} أي على سيرتها.

فصل.
[فيما حذف في آية وأثبت في أخرى].
من الأنواع ما حذف في آية وأثبت في أخرى وهو قسمان:.
أحدهما: أن يكون ما حذف منه محمولا على المذكور كالمطلق في الرقبة في كفارة لظهار مقيدا بالمؤمنة في كفارة القتل.
وكقوله: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ}، قيدت بالتشبيه في موضع آخر ومنه قوله تعالى في سورة البقرة: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} وقوله في سورة النحل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} فإن هذه تقتضي أن الأولى على حذف مضاف.
والقسم الثاني : لا يكون مرادا. فمنه قوله تعالى في سورة المؤمنين: {لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} وفي الزخرف: {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ}.
وقوله في البقرة: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وفي سورة الأعراف: {أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.
وحكمته: أنه قد اختلف الخبران في سورة البقرة فلذلك دخل العاطف بخلاف الخبرين في الأعراف فإنهما متفقان لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم واحد فكانت الجملة الثالثة مقررة ما في الأولى فهي من العطف بمعزل.
ومنه قوله تعالى في البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} وقال في يس: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} مع العاطف وحكمته أن ما في يس وما بعده جملة معطوفة على جملة أخرى فاحتاجت إلى العاطف والجملة هنا ليست معطوفة فهي من العطف بمعزل.
ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ} فأثبت الواو في الأعراف وحذفها في الكهف فقال: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى} والفرق بينهما أن الذي في الأعراف خطاب لجمع وأصله تدعونهم حذفت للجزم والتي في الكهف خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو واحد وعلامة الجزم فيه سقوط الواو.
ومنه في آل عمران: {جاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} وفي فاطر: {جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} والفرق أن الأولى حذفت الباء ففيها للاختصار استغناء بالتي قبلها وخرجت عن الأصل للتوكيد وتقدير المعنى كما تقول مررت بك وبأخيك وبأبيك إذا اختصرت.
ومنه قوله في قصة ثمود: {مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} وفي قصة شعيب: {وَمَا أَنْتَ} بالواو، والفرق أن الأولى جرى على انقطاع الكلام عند النحويين واستئناف {وَمَا أَنْتَ} فاستغنى عن الواو لما تقرر من الابتداء وفي الثانية جرى في العطف وأن يكون قوله: {وَمَا أَنْتَ} معطوفا على {إِنَّمَا أَنْتَ}.
ومنه قوله تعالى في سورة النحل: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} وفي سورة النمل: {وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ} بإثبات النون وحكمته أن القصة لما طالت في سورة النحل ناسب التخفيف بحذف النون بخلافه في سورة النمل فإن الواو استئنافية ولا تعلق لها بما قبلها.
وقوله في البقرة: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} وفي آل عمران: {فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} وحكمته أن الخطاب في البقرة لليهود وهم أشد جدالا.
ومنه قوله في الأعراف: {لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} وفي الأنعام: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا}.
ومنه قوله تعالى: في سورة البقرة { ويقتلون النبيين بغير الحق } 1 وفي سورة آل عمران { بغير حق } والحكمة فيه أن الجملة في آل عمران خرجت مخرج الشرط وهو عام فناسب أن يكون النفي بصيغة التنكير حتى يكون عاما وفي سورة البقرة جاء عن أناس معهودين وهو قوله تعالى { ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق } فناسب أن يؤتى بالتعريف لأن الحق الذي كان يستباح به قتل الأنفس عندهم كان معروفا كقوله تعالى { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } فالحق هنا الذي تقتل به الأنفس معهود معروف بخلاف ما في سورة آل عمران
ومنه قوله تعالى في هود حاكيا عن شعيب { ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون } وأمر نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول لقريش { ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون }
ويمكن أن يقال لما كررت مراجعته لقوم ناسب اختصاص قصته بالاستئناف الذي هو أبلغ في الإنذار والوعيد وأما نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكانت مدة إنذاره لقومه قصيرة فعقب عملهم على مكافأتهم بوعيدهم بالفاء إشارة إلى قرب نزول الوعيد لهم بخلاف شعيب فإنه طالت مدته في قومه فاستأنف لهم ذكر الوعيد
ولعل قوم شعيب سألوه السؤال المتقدم فأجابهم بهذا الجواب والفاء لا تحسن فيه والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل ذلك جوابا للسؤال ولا يحسن معه الحذف
ومنه أنه تعالى قال في خطاب المؤمنين { هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } ، إلى أن قال: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، وقال في خطاب الكافرين: {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}، {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}.
قال الزمخشري في تفسير سورة إبراهيم: ما علمته جاء الخطاب هكذا في القرآن إلا في خطاب الكافرين وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين ولئلا يسوي بين الفريقين في الميعاد.
واعترض الإمام فخر الدين بأن هذا التبعيض إن حصل فلا حاجة إلى ذكر هذا الجواب وإن لم يحصل كان هذاالكلام فاسدا.
وقال الشيخ أثير الدين أبو حيان في تفسيره: ويقال: ما فائدة الفرق في الخطاب والمعنى مشترك؟ إذ الكافر إذا آمن والمؤمن إذا تاب مشتركان في الغفران وما تخيلت فيه مغفرة بعض الذنوب منالكافر إذا هو آمن موجود في المؤمن إذا تاب.
وسيأتي بسط الكلام على ذلك في آخر الكتاب.

الإيجاز.
وهو قسم من الحذف ويسمى إيجاز القصر فإن الإيجاز عندهم قسمان وجيز بلفظ ووجيز بحذف.
فالوجيز باللفظ أن يكون اللفظ بالنسبة إلى المعنى أقل من القدرالمعهود عادة وسبب حسنه أنه يدل على التمكن في الفصاحة ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أوتيت جوامع الكلم ".و.
اللفظ لا يخلو إما أن يكون مساويا لمعناه وهو المقدر أو أقل منه وهو المقصور.
أما المقدر فكقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} الاية.
وقوله: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} وهو كثير.
وأما المقصور فإما أن يكون نقصان لفظه عن معناه لاحتمال لفظه لمعان كثيرة أولا.
الأول: كاللفظ المشترك الذي له مجازان، أو حقيقة ومجاز إذا أريد معانيه كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} فإن الصلاة من الله مغايرة للصلاة من الملائكة والحق أنه من القدر المشترك وهو الاعتناء والتعظيم وكذلك قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} الآية. فإن السجود في الكل يجمعه معنى واحد وهو الانقياد.
والثاني: كقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}.
وقوله: {أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}.
وكذلك قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} إذ معناه كبير ولفظه يسير.
وقد نظر لقول العرب:" القتل أنفى للقتل "وهو بنون ثم فاء ويروي بتاء ثم قاف ويروي " أوقى " والمعنى أنه إذا أقيم وتحقق حكمة خاف من يريد قتل أحد أن يقتص منه وقد حكاه الحوفي في تفسيره عن علي بن أبي طالب وقال: قول علي في غاية البلاغة وقد أجمع الناس على بلاغته وفصاحته وأبلغ منه قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وقد تكلموا في وجه الأبلغية. انتهى.
وقد أشار صاحب "المثل السائر" إلى إنكار ذلك وقال: لا نسبة بين كلام الخالق عز وجل وكلام المخلوق وإنما العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك.
وهو كما قال وكيف يقابل المعجز بغيره مفاضلة وهو منه في مرتبة العجز عن إدراكه:
وماذا يقول القائلون إذا بدا جمال خطاب فات فهم الخلائق
وجملة ما ذكروا في ذلك وجوه:.
أحدها: أن قوله: {الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أوجز فإن حروفه عشرة وحروف "القتل أنفى للقتل" أربعة عشر حرفا والتاء وألف الوصل ساقطان لفظا وكذا التنوين لتمام الكلام المقتضى للوقف.
الثاني: أن قولهم فيه كلفة بتكرير القتل ولا تكرير في الآية.
الثالث : أن لفظ القصاص فيه حروف متلائمة لما فيه من الخروج من القاف إلى الصاد إذ القاف من حروف الاستعلاء والصاد من حروف الاستعلاء والإطباق، بخلاف الخروج من القاف إلى التاء التي هي حرف منخفض فهو غير ملائم وكذا الخروج من الصاد إلى الحاء أحسن من الخروج من اللام إلى الهمزة لبعد مادون طرف اللسان وأقصى الحلق.
الرابع: في النطق بالصاد والحاء والتاء حسن الصوت ولا كذلك تكرير القاف والفاء.
الخامس: تكرير ذلك في كلمتين متماثلتين بعد فصل طويل وهو ثقل في الحروف أو الكلمات.
السادس: الإثبات أول والنفي ثان عنه والإثبات أشرف.
السابع: أن القصاص المبني على المساواة أوزن في المعادلة من مطلق القتل ولذلك يلزم التخصيص بخلاف الآية.
الثامن: الطباع أقبل للفظ الحياة من كلمة القتل لما فيه من الاختصار وعدم تكرار الكلمة وعدم تنافر الحروف وعدم تكرار الحرفين وقبول الطبع للفظ "الحياة" وصحة الإطلاق.
التاسع : أن نفي القتل لا يستلزم الحياة والآية ناصة على ثبوتها التي هي الغرض المطلوب منه.
العاشر: أن قولهم لا يكاد يفهم إلا بعد فهم أن القصاص هو الحياة وقوله في القصاص حياة مفهوم لأول وهلة.
الحادي عشر: أن قولهم خطأ فإن القتل كله ليس نافيا للقتل فإن القتل العدواني لا ينفى القتل وكذا القتل في الردة والزنا لا ينفيه وإنما ينفيه قتل خاص.
وهو قتل القصاص الذي في الآية تنصيص على المقصود والذي في المثل لا يمكن حمله على ظاهره.
الثاني عشر: فيه دلالة على ربط المقادير بالأسباب وإن كانت الأسباب أيضا بالمقادير وكلام العرب يتضمنه إلا أن فيه زيادة وهي الدلالة على ربط الأجل في الحياة بالسبب لا من مجرد نفي القتل.
الثالث عشر: في تنكير "حياة" نوع تعظيم يدل على أن في القصاص حياة متطاولة كقوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} ولا كذلك المثل فإن اللام فيه للجنس ولهذا فسروا الحياة فيها بالبقاء.
الرابع عشر: فيه بناء أفعل التفضيل من متعد والآية سالمة منه الخامس عشر: أن أفعل في الغالب تقتضي الاشتراك فيكون ترك القصاص نافيا القتل ولكن القصاص أكثر نفيا وليس الأمر كذلك والآية سالمة من هذا.
السادس عشر: أن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكن اللسان من النطق وظهرت فصاحته بخلافه إذا تعقب كل حركة سكون والحركات تنقطع بالسكنات نظيره إذا تحركت الدابة أدنى حركة فخنست ثم تحركت فخنست لا يتبين انطلاقها ولا تتمكن من حركتها على ما تختاره وهي كالمقيدة وقولهم: "القتل أنفي للقتل" حركاته متعاقبة بالسكون بخلاف الآية.
السابع عشر: الآية اشتملت على فن بديع وهو جعل أحد الضدين الذي هو الفناء والموت محلا ومكانا لضده الذي هو الحياة واستقرار الحياة في الموت مبالغة عظيمة ذكره في الكشاف.
الثامن عشر: أن في الآية طباقا لأن القصاص مشعر بضد الحياة بخلاف المثل.
التاسع عشر: القصاص في الأعضاء والنفوس وقد جعل في الكل حياة فيكون جمعا بين حياةالنفس والأطراف وإن فرض قصاص بما لا حياة فيه كالسن فإن مصلحة الحياة تنقص بذهابه ويصير كنوع آخر وهذه اللطيفة لا يتضمنها المثل.
العشرون: أنها أكثر فائدة لتضمنه القصاص في الأعضاء وأنه نبه على حياة النفس من وجهين من وجه به القصاص صريحا ومن وجه القصاص في الطرف لأن أحد أحوالها أن يسري إلى النفس فيزيلها ولا كذلك المثل.
وقد قيل غير ذلك.
وأما زيادة {لكم} ففيها لطيفة وهي بيان العناية بالمؤمنين على الخصوص وأنهم المراد حياتهم لا غيرهم لتخصيصهم بالمعنى مع وجوده فيمن سواهم.
والحاصل أن هذا من البيان الموجز الذي لا يقترن به شيء.
ومن بديع الإيجاز قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ}. الآية، فإنها نهاية التنزيه.
وقوله: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}، وهذا بينا عجيب يوجب التحذير من الاغترار بالإمهال.
وقوله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} ، وهذا من أحسن الوعد والوعيد.
وقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} فهذه ثلاث كلمات اشتملت على جميع ما في الرسالة.
وقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، فهذه جمعت مكارم الأخلاق كلها لأن في {خُذِ الْعَفْوَ} صلة القاطعين والصفح عن الظالمين وفي الأمر بالمعروف تقوى الله وصلة الأرحام وصرف اللسان عن الكذب وفي الإعراض عن الجاهلين الصبر والحلم وتنزيه النفس عن مماراة السفيه.
قوله: {مُدْهَامَّتَانِ} معناه مسودتاه من شدة الخضرة.
وقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}.
وقوله: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} فدل بأمرين على ججميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للأنام من العشب والشجر والحب والتمر والعصف والحطب واللباس والنار والملح لأن النار من العيدان والملح من الماء.
وقوله: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ}، فدل على نفسه ولطفه ووحدانيته وقدرته وهدى للحجة عل من ضل عنه لأنه لو كان ظهور الثمرة بالماء والتربة لوجب في القياس ألا تختلف الطعوم والروائح ولا يقع التفاضل في الجنس الواحد إذا نبت في مغرس واحد ولكنه صنع اللطيف الخبير.
وقوله: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ}، كيف نفى بهذين جميع عيوب الخمر وجمع بقوله: {وَلا يُنْزِفُونَ} عدم العقل وذهاب المال ونفاد الشراب.
وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} فدل على فضل السمع والبصر حيث جعل مع الصم فقدان العقل ولم يجعل مع العمي إلا فقدان البصر وحده.
وقوله: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} كيف أمر ونهى وأخبر ونادى ونعت وسمى وأهلك وأبقى وأسعد وأشقى قص من الأنباء مالو شرح ما اندرج في هذه الجملة من بديع اللفظ والبلاغة والإيجاز والبيان لجفت الأقلام وانحسرت الأيدي.
وقوله تعالى عن النملة: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} فجمع في هذه اللفظة أحد عشر جنسا من الكلام نادت وكنت ونبهت وسمعت وأمرت وقضت وحذرت وخصت وعمت وأشارت وغدرت فالنداء "يا" والكناية " أيّ " والتنبيه "ها" والتسمية النمل والأمر "ادخلوا" والقصص "مساكنكم" والتحذير "لا يحطمنكم" والتخصيص سليمان والتعميم جنوده والإشارة "وهم" والغدر لا يشعرون. فأدت خمس حقوق حق الله وحق رسوله وحقها وحق رعيتها وحق جنود سليمان فحق الله أنها استرعيت على النمل فقامت بحقهم وحق سليمان أنها نبهته على النمل وحقها إسقاطها حق الله عن الجنود في نصحهم4 وحق الجنود بنصحها لهم ليدخلوا مساكنهم وحق الجنود إعلامها إياهم وجميع الخلق أن من.
استرعاه رعية فوجب عليه حفظها والذب عنها وهو داخل في الخبر المشهور: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ".
ويقال إن سليمان عليه السلام لم يضحك في عمره إلا مرة واحدة وأخرى حين أشرف على وادي النمل فرآها على كبر الثعالب لها خراطيم وأنياب فقال رئيسهم: ادخلوا مساكنكم فخرج كبير النمل في عظم الجواميس فلما نظر إليه سليمان هاله فأراه الخاتم فخضع له ثم قال: أهذه كلها نمل ؟ فقال: إن النمل لكبيرة إنها ثلاثة اصناف: صنف في الجبال وصنف في القرى وصنف في المدن. فقال سلميان عليه السلام: اعرضها علي فقال له: قف. فبقى سليمان عليه السلام تسعين يوما واقفا يمر عليه النمل، فقال: هل انقطعت عساكركم، فقال ملك النمل: لو وقفت إلى يوم القيامة ما انقطعت. فذكر الجنيد أن سليمان عليه السلام قال لعظيم النمل: لم قلت للنمل: ادخلوا مساكنكم ؟ أخفت عليهم من ظلمنا ؟ قال: لا، ولكن خفت أن يفتتنوا بما رأوا من ملكك فيشغلهم ذلك عن طاعة الله.
وقوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وهذا أشد ما يكون من الحجاج.
وقوله: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} وهذا أعظم ما يكون من التحسير.
وقوله: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} وهذا أشد ما يكون من التنفير عن الخلة إلا على التقوى.
وقوله: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}، وهذا أشد ما يكون من التحذير من التفريط.
وقوله: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، وهذا أشد ما يكون من التبعيد.
وقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}، فهذا أعظم ما يكون من التخيير.
وقوله: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} ، وهذا أبلغ ما يكون من التذكير.
وقوله: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}، وهذا أشد ما يكون في التقريع على التمادى في الباطل.
وقوله: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}، وهذا أشد ما يكون من التقريع.
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} وهذا غاية الترهيب.
وقوله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}، وهذه غاية الترغيب.
وقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}.
وقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وهذا أبلغ ما يكون من الحجاج وهو الأصل الذي عليه أثبتت دلالة التمانع في علم الكلام.
وقوله: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وهذا أبلغ ما يكون من الوصف بكل ما تميل إليه النفس من الشهوات وتلذ الأعين من المرئيات ليعلم أن هذا اللفظ القليل جدا حوى معاني كثيرة لا تنحصر عددا.
وقوله: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ} وهذا أشد ما يكون من الخوف.
وقوله: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ}.
وقوله: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ}.
وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ}.
وقوله: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}.
وقوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ}.
وقوله: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} معناه قابلهم بما يفعلونه معك وعاملهم مثل معاملتهم لك سواء مع ما يدل عليه سواء من الأمر بالعدل.
وقوله: {وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} فإنه أشار به إلى انقطاع مدة الماء النازل.
من السماء والنابع من الأرض وقوله: {وَقُضِيَ الأَمْرُ} أي هلك من قضى هلاكه ونجا من قدرت نجاته وإنما عدل عن لفظه إلى لفظ التمثيل لأمرين اختصار اللفظ وكون الهلاك والنجاة كانا بأمر مطاع إذ الأمر يستدعى آمرا ومطاعا وقضاؤه يدل على قدرته.
ومن أقسام الأيجاز الاقتصار على السبب الظاهر للشيء اكتفاء بذلك عن جميع الأسباب كما يقال فلان لا يخاف الشجعان والمراد لا يخاف أحدا.
ومنه قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} ولا شك أن من فسخت النكاح ايضا تتربص لأن السبب الغالب للفراق الطلاق.
وقوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} ولم يذكر النوم وغيره لأن السبب الضروري النقاض خروج الخارج فإن النوم الناقض ليس بضروري فذكر السبب الظاهر وعلم منه الحكم في الباقي.
ومنه قوله: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} أي وهو مالم يقع في وهم الضمير من الهواجس ولم يخطر على القلوب من مخيلات الوساوس.
ومنه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} ونظائره.
وكذلك زيد وعمرو قائم على القول بأن قائم خبر عن أحدهما واستغنى به عن خبر الآخر.
ومنها الاقتصار على المبتدأ وإقامة الشيء مقام الخبر نحو أقائم الزيدان فإن قائم مبتدأ لا خبر له.
ومنها باب "علمت أنك قائم" إذا جعلنا الجملة سادة مسد المفعولين فإن الجملة محلة لاسم واحد سد مسد اسمين مفعولين من غير حذف.
ومنه باب النائب عن الفاعل في ضرب زيد ف زيد دل على الفاعل بإعطائه حكمه وعلى المفعول بوضعه.
ومنها جميع أدوات الاستفهام والشرط فإن " كم مالك "؟ يغنى عن عشرين أو ثلاثين ومن يقم أكرمه يغنى عن زيد وعمرو قال ابن الأثير في "الجامع".
ومنه الألفاظ اللازمة للعموم مثل أحد وديار قاله ابن الأثير أيضا.
ومنه لفظ الجمع فإن الزيدين يغنى عن زيد وزيد وزيد وكذا التثنية أصلها رجل ورجل فحذفوا العطف والمعطوف وأقاموا حرف الجمع والتثنية مقامهما اختصارا وصح ذلك لاتفاق الذاتين في التسمية بلفظ واحد فإن اختلف لفظ الاسمين رجعوا إلى التكرار بالعطف نحو مررت بزيد وبكر.
منه باب الضمائر على ما سيأتي بيانه في قاعدة الضمير.
ومنه لفظ "فعل" فإنه يجيء كثيرا كناية عن أفعال متعددة قال تعالى: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ}.
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} أي فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة من مثله.
القول في التقديم والتأخير.
هو أحد أساليب البلاغة فإنهم أتوا به دلالة على تمكنهم في الفصاحة وملكتهم في الكلام وانقياده لهم وله في القلوب أحسن موقع وأعذب مذاق.
وقد اختلف في عدة من المجاز فمنهم من عده منه لأنه تقديم ما رتبته التأخير كالمفعول وتأخير ما رتبته التقديم كالفاعل نقل كل واحد منهما عن رتبته وحقه.
والصحيح أنه ليس منه فإن المجاز نقل ما وضع له إلى ما لم يوضع.

ويقع الكلام فيه في فصول.
الفصل الأول: في أسباب التقديم والتأخير.
الأول: في أسبابه، وهي كثيرة:.
أحدها: أن يكون أصله التقديم ولا مقتضى للعدول عنه كتقديم الفاعل على المفعول والمبتدأ على الخبر وصاحب الحال عليها نحو جاء زيد راكبا.
والثاني: أن يكون في التأخير إخلال ببيان المعنى كقوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} ، فإنه لو أخر قوله: {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} فلا يفهم أنه منهم.
وجعل السكاكي من الأسباب كون التأخير مانعا مثل الإخلال بالمقصود،.
كقوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بتقديم الحال أعنى {مِنْ قَوْمِهِ} على الوصف أعنى {الَّذِينَ كَفَرُوا} ولو تأخر لتوهم أنه من صفة الدنيا لأنها هاهنا اسم تفضيل من الدنو وليست أسما والدنو يتعدى بـ"من" وحينئذ يشتبه الأمر في القائلين أنهم أهم من قومه أم لا فقدم لاشتمال التأخير على الإخلال ببيان المعنى المقصود وهو كون القائلين من قومه وحين أمن هذا الإخلال بالتأخير قال تعالى في موضع آخر من هذه السورة: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} بتأخير المجرور عن صفة المرفوع.
الثالث: أن يكون في التأخير إخلال بالتناسب فيقدم لمشاكلة الكلام ولرعاية الفاصلة كقوله: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ، بتقديم "إياه" على "تعبدون" لمشاكلة رءوس الآي وكقوله: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} فإنه لو أخر {فِي نَفْسِهِ} عن {مُوسَى} فات تناسب الفواصل لأن قبله: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} وبعده،: {إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى}.
وكقوله: {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} فإن تأخير الفاعل عن المفعول لمناسبته لما بعده.
وكقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}، وهو أشكل بما قبله لأن قبله: {مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ}.
وجعل منه السكاكي: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} بتقديم "هارون" مع أن "موسى" أحق بالتقديم.
الرابع: لعظمة والاهتمام به، وذلك أن من عادة العرب الفصحاء إذا أخبرت عن مخبر ما - وأناطت به حكما - وقد يشركه غيره في ذلك الحكم أو فيما أخبر به عنه وقد عطفت أحدهما على الآخر بالواو المقتضية عدم الترتيب - فإنهم مع ذلك إنما يبدءون بالأهم والأولى. قال سيبويه: كأنهم يقدمون الذي شأنه أهم لهم وهم ببيانه أعنى وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم. انتهى.
قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، فبدأ بالصلاة لأنها أهم.
وقال سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}.
وقال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، فقدم العبادة للاهتمام بها.
ومنه تقدير المحذوف في بسم الله مؤخرا.
وأوردوا: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ، وأجيب بوجهين:.
أحدهما: أن تقديم الفعل هناك أهم لأنها أول سورة نزلت.
والثاني : أن بأسم ربك متعلق ب أقرأ الثاني ومعنى الأول أوجد القراءة والقصد التعميم.
الخامس : أن يكون الخاطر ملتفتا إليه والهمة معقودة به، وذلك كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} ، بتقديم المجرور على المفعول الأول لأن الإنكار متوجه إلى الجعل لله لا إلى مطلق الجعل.
السادس: أن يكون التقديم لإرادة التبكيت والتعجيب من حال المذكور كتقديم المفعول الثاني على الأول في قوله تعالى: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ}، والأصل" الجن شركاء "، وقدم لأن المقصود التوبيخ وتقديم الشركاء أبلغ في حصوله.
ومنه قوله تعالى في سورة يس: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} وسنذكره.
السابع: الاختصاص، وذلك بتقديم المفعول والخبر والظرف والجار والمجرور ونحوها على الفعل كقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، أي نخصك بالعبادة فلا نعبد غيرك.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي إن كنتم تخصونه بالعبادة.
والخبر كقوله: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي}، وقوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ}.
وأما تقديم الظرف، ففيه تفصيل فإن كان في الإثبات دل على الاختصاص كقوله تعالى :{إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}، وكذلك: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} ، فإن ذلك يفيد اختصاص ذلك بالله تعالى: وقوله: {لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ}.
أي لا إلى غيره وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} أخرت صلة الشهادة في الأول وقدمت في الثاني لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم وفي اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم.
وقوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} أي لجميع الناس من العجم والعرب على أن التعريف للاستغراق.
وإن كان في النفي فإن تقديمه يفيد تفضيل المنفى عنه كما في قوله تعالى: {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ}، أي ليس في خمر الجنة ما في خمرة غيرها من الغول وأما تأخيره فإنها تفيد النفي فقط كما في قوله: {لا رَيْبَ فِيهِ} فكذلك إذا قلنا لاعيب في الدار كان معناه نفي العيب في الدار وإذا قلنا لا في الدار عيب كان معناه أنها تفضل على غيرها بعدم العيب.

تنبيه:.
ما ذكرناه من أن تقديم المعمول يفيد الاختصاص فهمه الشيخ أبو حيان في كلام الزمخشري وغيره، والذي عليه محققو البيانيين أن ذلك غالب لا لازم، بدليل قوله تعالى: {كلاًًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} وقوله: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} إن جعلنا ما بعد الظرف مبتدأ.
وقد رد صاحب "الفلك الدائر" القاعدة بالآية الأولى وكذلك ابن الحاجب والشيخ أبو حيان وخالفوا البيانيين في ذلك وأنت إذا علمت أنهم.
ذكروا في ذلك قيد الغلبة سهل الأمر. نعم له شرطان:.
أحدهما: ألا يكون المعمول مقدما بالوضع فإن ذلك لا يسمى تقديما حقيقة كأسم الاستفهام وكالمبتدأ عند من يجعله معمولا لخبره.
والثاني: ألا يكون التقديم لمصلحة التركيب مثل: {وَأَمَّا ثَمُودَ فَهَدَيْنَاهُمْ} على قراءة النصب.
وقد اجتمع الاختصاص وعدمه في آية واحدة وهي قوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ} ، التقديم في الأول قطعا ليس للاختصاص بخلاف الثاني.

الفصل الثاني: في أنواعه.
وهي إما أن يقدم والمعنى عليه أو يقدم وهو في المعنى مؤخر أو بالعكس.
النوع الأول: ما قدم والمعنى عليه.
ومقتضياته كثيرة قد يسر الله منها خمسا وعشرين ولله در ابن عبدون في قوله:
سقاك الحيا من معان سفاح فكم لي بها من معان فصاح
أحدها: السبق.
وهو أقسام: منها السبق بالزمان والإيجاد، كقوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} قال ابن عطية: المراد بالذين اتبعوه في زمن الفترة.
وقوله: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} فإن مذهب أهل السنة تفضيل البشر وإنما قدم الملك لسبقه في الوجود.
وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ} فإن الأزواج أسبق بالزمان لأن البنات أفضل منهن لكونهن بضعة منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}.
واعلم أنه ينضم إليه مع ذلك التشريف كقوله :{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ}.
وقوله: {وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى}.
{صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}.
وأما قوله: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} فإنما قدم ذكر موسى لوجهين: أحدهما : أنه في سياق الاحتجاج عليهم بالترك وكانت صحف موسى منتشرة أكثر انتشارا من صحف إبراهيم. وثانيهما: مراعاة رءوس الآى.
وقد ينضم إليه التحقير، كما في قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}، تقدم اليهود لأنهم كانوا أسبق من النصارى ولأنهم كانوا أقرب إلى المؤمنين بالمجاورة.
وقد لا يلحظ هذا كقوله تعالى: {وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} وقوله: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى}.
ومن التقديم بالإيجاد تقديم السنة على النوم في قوله: {تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} لأن العادة في البشر أن تأخذ العبد السنة قبل النوم فجاءت العبارة على حسب هذه العادة.
ذكره السهيلي وذكر معه وجها آخر، وهو أنها وردت في معرض التمدح والثناء وافتقاد السنة أبلغ في التنزيه فبدىء بالأفضل لأنه إذا استحالت عليه السنة فأحرى أن يستحيل عليه النوم.
ومنه تقديم الظلمة على النور في قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} فإن الظلمات سابقة على النور في الإحساس وكذلك الظلمة المعنوية سابقة على النور المعنوي قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} فانتفاء العلم ظلمة وهو متقدم بالزمان على نور الإدراكات.
ومنه تقديم الليل على النهار: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} ولذلك اختارت العرب التاريخ بالليالي دون الأيام وإن كانت الليالي مؤنثة والأيام مذكرة وقاعدتهم تغليب المذكر إلا في التاريخ.
فإن قلت: فما تصنع بقوله تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ}.
قلت: استشكل الشيخ أبو محمد بن عبد السلام في قواعده بالإجماع على سبق الليلة على اليوم وأجاب بأن المعنى: تدرك القمر في سلطانه وهو الليل أي لا تجيء الشمس في أثناء الليل فقوله بعده: {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي لا يأتي في بعض سلطان الشمس وهو النهار وبين الجملتين مقابلة.
فإن قيل: قوله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} مشكل على هذا لأن الإيلاج إدخال الشيء في وهذا البحث ينافيه.
قلت: المشهور في معنى الآية أن الله يزيد في زمن الشتاء مقدارا من النهار ومن النهار في الصيف مقدارا من الليل وتقدير الكلام: يولج بعض مقدار الليل في النهار وبعض مقدار النهار في الليل وعلى غير المشهور يجعل الليل في المكان الذي كان فيه النهار ويجعل النهار في المكان الذي كان فيه الليل والتقدير: يولج الليل في مكان النهار ويولج النهار في مكان الليل.
ومنه تقديم المكان على الزمان في قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} أي الليل والنهار، وقوله: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ وََهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}.
وهذه مسألة مهمة قل من تعرض لها أعنى سبق المكان على الزمان وقد صرح بها الإمام أبو جعفر الطبري في أول تاريخه واحتج على ذلك بحديث ابن عباس: إن الله خلق التربة يوم السبت وخلق الشمس والقمر وكان ذلك كله ولا ليل ولا نهار إذ كانا إنما هما أسماء لساعات معلومة من قطع الشمس والقمر "درج الفلك" وإذا كان ذلك صحيحا وأنه لا شمس ولا قمر كان معلوما أنه لا ليل ولا نهار قال: وحديث أبي هريرة - يعني في صحيح مسلم - صريح فيه فإن فيه: " وخلق [الله] النور يوم الأربعاء " قال: ويعني به الشمس إن شاء الله.
والحاصل أن تأخر خلق الأيام عن بعض الأشياء المذكورة في الخبر لازم.
فإن قلت: الحديث كالمصرح بخلافه فإنه قال خلق الله التربة يوم السبت حين خلق البرية وهي أول المخلوقات المذكورة فلا يمكن أن يكون خلق الأيام كلها متأخرا عن ذلك.
قلت: قد نبه الطبري على جواب ذلك بما حاصله أن الله تعالى سمى أسماء الأيام قبل خلق التربة وخلق الأيام كلها ثم قدر كل يوم مقدارا فخلق التربة في مقدار يوم السبت قبل خلقه يوم السبت وكذا الباقي.
وهذا وإن كان خلاف الظاهر لكن أوجبه ما قاله الطبري من أنه يتعين تأخير الأيام لما ذكرناه من الدليل المستفاد من الخبرين.
والحاصل أن الزمان قسمان تحقيقي وتقديري والمذكور في الحديث التقديري.
ومنه قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ}، {مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا}، ولذلك لما استغنى عن أحدهما ذكر المشرق فقد فقال: {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا}.
ومنه قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} وقوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ}.
ويمكن فيه وجوه آخر:.
منها: أن فيه قهرا للخلق والمقام يقتضيه.
ومنها: أن حياة الإنسان كلاحياة ومآله إلى الموت ولا حياة إلا بعد الموت.
ومنها: أن الموت تقدم في الوجود إذ الإنسان قبل نفخ الروح فيه كان ميتا لعدم الروح.
وهذا إن أريد بالموت عدم الوجود بدليل {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} وإن أريد به بعد الوجود فالناس منتازعون في الموت هل هو أمر وجودي كالحياة أولا ؟.
وقيل بالوقف، فقالت الفلاسفة: الموت عدم الحياة عما من شأنه أن يكون حيا.
والجمهور على أنه أمر وجودي يضاد الحياة محتجين بقوله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} والحديث في الإتيان بالموت في صورة كبش وذبحه.
وأجيب عن الآية بأن الخلق بمعنى التقدير، ولا يجب في المقدر أن يكون وجوديا وعن الثاني بأن ذلك على طريق التمثيل لبيان انقطاع الموت وثبوت الخلود.
فإن قلنا: عدمي، فالتقابل بينه وبين الحياة تقابل العدم والملكة وعلى الصحيح تقابل التضاد وعلى القول بأنه وجودي يجب أن يقال تقديم الموت الذي هو عدم الوجود، لكونه سابقا أو معدوم الحياة الذي هو مفارقة الروح البدني يجوز أن يكون لكونه الغاية التي يساق إليها في دار الدنيا فهي العلة الغائبة بعدم تحقيقها لتحقق فخص العلة العامة كما وقع تأكيده في قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} أو تزهيدا في الدار الفانية وترغيبا فيما بعد الموت.
فإن قيل: فما وجه تقدم "الحياة" في قوله: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ} وقوله: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ؟.
قلنا: إن كان الخطاب لآدم وحواء فلأن حياتهما في الدنيا سبقت الموت وإن كان للخلق بالخطاب لمن هو حي يعقبه الموت فما التقديم بالترتيب وكذا الآية بعده.
فإن قيل: فما وجه تقديم الموت على الحياة في الحكاية عن منكر البعث: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} ؟.
قلت: لأجل مناسبة رءوس الآي.
فإن قلت: فما وجه تقدم التوفي على الرفع في قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} مع أن الرفع سابق ؟.
قيل: فيه جوابان:.
أحدهما: المراد بالتوفي النوم، كقوله تعالى: { يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ}.
وثانيهما: أن التاء في "متوفيك" زائدة أي موفيك عملك.
ومنها سبق إنزال، كقوله: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} . وقوله: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ}.
وأما قوله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} فإنما قدم القرآن منبها له على فضيلة المنزل إليهم.
ومنها سبق وجوب كقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} وقوله: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً}.
فإن قيل فقد قال: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}.
قيل: يحتمل أنه كان في شريعتهم السجود قبل الركوع ويحتمل أن يراد بالركوع ركوع الركعة الثانية.
وقيل: المراد بـ"اركعي" اشكري.
وقيل: أراد بـ"اسجدي" صلي وحدك. وبـ"اركعي" صلي في جماعة، ولذلك قال: {مَعَ الرَّاكِعِينَ}.
ومنها سبق تنزيه، كقوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ} فبدأ بالرسول قبل المؤمنين، ثم قال: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ} فبدأ بالإيمان بالله لأنه قد يحصل بدليل العقل والعقل سابق في الوجود على الشرع ثم قال:" وملائكته " مراعاة لإيمان الرسول فإنه يتعلق بالملك الذي هو جبريل أولا ثم بالكتاب الذي نزل به جبريل ثم بمعرفة نفسه أنه رسول. وإنما عرف نبوة نفسه بعد معرفته بجبريل عليه السلام وإيمانه فترتب الذكر المنزل عليه بحسب ذلك فظهرت الحكمة والإعجاز فقال: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} لأن الملك هو النازل بالكتاب وإن كان الكتاب أقدم من الملك ولكن رؤية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للملك كانت قبل سماعه الكتاب وأما إيماننا نحن بالعقل آمنا بالله أي.
بوجوده ولكن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم عرفنا اسمه وجوب النظر المؤدي إلى معرفته فآمنا بالرسول ثم بالكتاب المنزل عليه وبالملك النازل به فلو ترتب اللفظ على حسب إيماننا لبدأ بالرسول قبل الكتاب ولكن إنما ترتب على حسب إيمان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم الذي هو إمام المؤمنين. ذكره السهيلي في آماليه.
وقال غيره: في هذا الترتيب سر لطيف وذلك لأن النور والكمال والرحمة والخير كله مضاف إلى الله تعالى والوسائط في ذلك الملائكة والمقابل لتلك الرحمة هم الأنبياء والرسل فلا بد أولا من أصل وثانيا من وسائط وثالثا من حصول تلك الرحمة ورابعا من وصولها إلى المقابل لها والأصل المقتضى للخيرات والرحمة هو الله ومن أعظم رحمة رحم بها عباده إنزال كتبه إليهم والموصل لها هم الملائكة والمقابل لها المنزلة عليهم هم الأنبياء فجاء الترتيب على ذلك بحسب الوقائع.
الثاني: بالذات.
كقوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ}. ونحوه {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} وقوله: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} وكذلك جميع الأعداد كل مرتبة هي متقدمة على ما فوقها بالذات.
وأما قوله تعالى: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ} فوجه تقديم المثنى أن المعنى حثهم على القيام بالنصيحة لله وترك الهوى مجتمعين متساويين أو منفردين متفكرين ولا شك أن الأهم حالة الاجتماع فبدأ بها.
الثالث: بالعلة والسببية.
كتقديم "العزيز" على "الحكيم" لأنه عز فحكم وتقديم "العليم" على "الحكيم" لأن الإتقان ناشىء عن العلم وكذا أكثر ما في القرآن من تقديم وصف العلم على الحكمة: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.
ويجوز أن يكون قدم وصف العلم هنا ليتصل بما يناسبه وهو {لا عِلْمَ لَنَا} وفي غيره من نظائره لأنه صفات ذات فيكون من القسم قبله.
ومنه قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قدمت العبادة لأنها سبب حصول الإعانة.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} فإن التوبة سبب الطهارة.
وكذا: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} لأن الإفك سبب الإثم.
وكذا: {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ}.
وقوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} قدم إحياء الأرض لأنه سبب إحياء الأنعام والأناسي وقدم إحياء الأنعام لأنه مما يحيا به الناس بأكل لحومها وشرب ألبانها.
وكذا كل علة مع معلولها كقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ}، قيل: قدم الأموال من باب تقديم السبب فإنه إنما شرع النكاح عند قدرته على مؤونته فهو سبب والتزويج سبب للتناسل ولأن المال سبب للتنعيم بالولد وفقده سبب لشقائه.
وكذا تقديم البنات على البنين في قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} وأخر ذكر الذهب والفضة عن النساء والبنين لأنهما أقوى في الشهوة الجبلية من المال فإن الطبع يحث على بذل المال فيحصل النكاح والنساء أقعد من الأولاد في الشهوة الجبلية والبنون أقعد من الأموال والذهب أقعد من الفضة والفضة أقعد من الأنعام إذ هي وسيلة إلى تحصيل النعم فلما صدرت الآية بذكر الحب وكان المحبوب مختلف المراتب اقتضت حكمة الترتيب أن يقدم ما هو الأهم فالأهم في رتبة المحبوبات.
وقال الزمخشري في قوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} قدم الشكر على الإيمان لأن العاقل ينظر "إلى" ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه وتعريضة للمنافع فيشكر شكرا مبهما فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به ثم شكر شكرا متصلا فكان الشكر متقدما على الإيمان وكأنه أصل التكليف ومداره. انتهى.
وجعله غيره من عطف الخاص على العام لأن الإيمان من الشكر وخص بالذكر لشرفه.
الرابع: بالرتبة.
كتقديم "سميع" على "عليم" فإنه يقتضى التخويف والتهديد فبدأ بالسميع لتعلقه بالأصوات وإن من سمع حسك فقد يكون أقرب إليك في العادة ممن يعلم وإن كان علم الله تعلق بما ظهر وما بطن.
وكقوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} فإن المغفرة سلامة والرحمة غنيمة والسلامة مطلوبة قبل الغنيمة وإنما تأخرت في آية سبأ في قوله: {الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} لأنها منتظمة في سلك تعداد أصناف الخلق من المكلفين وغيرهم وهو قوله: {مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} فالرحمة شملتهم جميعا والمغفرة تخص بعضا والعموم قبل الخصوص بالرتبة.
وقوله تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} فإن الهماز هو المغتاب وذلك لا يفتقر إلى شيء بخلاف النميمة.
وقوله: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} فإن الغالب أن الذين يأتون رجالا من مكان قريب والذين يأتون على الضامر من البعيد. ويحتمل أن يكون من التقديم بالشرف لأن الأجر في المشي مضاعف.
وأما قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} مع أن الراكب متمكن من الصلاة أكثر من الماشي فجبرا له في باب الرخصة.
ومنه قوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فقدم الطائفين لقربهم من البيت ثم ثنى بالقائمين وهم العاكفون لأنهم يخصون موضعا بالعكوف والطواف بخلافه فكان أعم منه والأعم قبل الأخص ثم ثلث بالركوع لأن الركوع لا يلزم أن يكون في البيت ولا عنده.
ثم في هذه الآية ثلاثة أسئلة:.
الأول: كيف جمع الطائفين والقائمين جمع سلامة والركع جمع تكسير ؟ والجواب: أن جمع السلامة أقرب إلى لفظ الفعل فطائفون بمنزلة يطوفون ففي لفظة إشعار بصلة التطهير وهو حدوث الطواف وتجدده ولو قال: بالطواف لم يفد ذلك لأن لفظ المصدر يخفي ذلك وكذا القول في القائمين وأما الراكعون فلما سبق أنه لا يلزم كونه في البيت ولا عنده فلهذا لم يجمع جمع سلامة إذ لا يحتاج فيه إلى بيان الفعل الباعث على التطهير كما احتيج فيما قبله.
الثاني: كيف وصف الركع بالسجود ولم يعطف بالواو ؟.
والجواب: لأن الركع هم السجود والشيء لا يعطف على نفسه لأن السجود يكون عبارة عن المصدر وهو هنا عبارة عن الجمع فلو عطف بالواو لأوهم إرادة المصدر دون اسم الفاعل لأن الراكع إن لم يسجد فليس براكع شرعا ولو عطف بالواو لأوهم أنه مستقل كالذي قبله.
الثالث: هلا قيل السجد كما قيل الركع وكما جاء في آية أخرى: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} والركوع قبل السجود! والجواب: أن السجود يطلق على وضع الجبهة بالأرض وعلى الخشوع فلو قال: المسجد لم يتناول إلا المعنى الظاهر ومنه: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} وهو من رؤية العين ورؤية العين لا تتعلق إلا بالظاهر فقصد بذلك الرمز إلى السجود المعنوي والصوري بخلاف الركوع فإنه ظاهر في أعمال الظاهر التي يشترط فيها البيت كما في الطواف والقيام المتقدم دون أعمال القلب فجعل السجود وصفا للركوع وتتميما له لأن الخشوع روح الصلاة وسرها الذي شرعت له.
الخامس: بالداعية.
كتقدم الأمر بغض الأبصار على حفظ الفروج في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} لأن البصر داعية إلى الفرج لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " العينان تزنيان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ".
السادس: التعظيم.
كقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ}.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}.
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ}.
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا}.
السابع: الشرف وهو أنواع.
منها: شرف الرسالة، كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} فإن الرسول أفضل من النبي خلافا لابن عبد السلام.
وقوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} {وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً}.
ومنها: شرف الذكورة:.
كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ}.
وقوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى}.
وقوله: {رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً}.
وأما تقديم الإناث في قول تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً} فلجبرهن إذ هن موضع الانكسار ولهذا جبر الذكور بالتعريف للإشارة إلى ما فاتهم من فضيلة التقديم.
ويحتمل أن تقديم الإناث لأن المقصود بيان أن الخلق كله بمشيئة الله تعالى لا على وفق غرض العباد.
ومنها: شرف الحرية، كقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} ومن الغريب حكاية بعضهم قولين في أن الحر أشرف من العبد أم لا حكاه القرطبي في تفسير سورة النساء فلينظر فيه.
ومنها: شرف العقل، كقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ}.
وقوله: {مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}.
وأما تقديم الأنعام عليهم في قوله: {تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ} فمن باب تقديم السبب وقد سبق.
ومنها: شرف الإيمان، كقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا} وكذلك تقديم المسلمين على الكافرين في كل موضع والطائع على العاصي وأصحاب اليمين عن أصحاب الشمال.
ومنها: شرف العلم، كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}.
ومنها: شرف الحياة، كقوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ}.
وقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ}. وأما تقديم الموت في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} فمن تقدم السبق بالوجود وقد سبق.
ومنها: شرف المعلوم، نحو: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} فإن علم الغيبيات أشرف من المشاهدات.
ومنه: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ}.{وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}.
وأما قوله: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} ، أي من السر فعن ابن عباس وغيره: " السر: ما أسررت في نفسك وأخفى منه ما لم تحدث به نفسك مما يكون في عد علم الله فيهما سواء " ولا شك أن الآتي أبلغ وفيه وجهان:.
أحدهما: أنه أفعل تفضيل يستدعي مفضلا عليه علم حتى يتحقق في نفسه فيكون حينئذ تقديم السر من النوع الأول.
وثانيهما: مراعاة رءوس الآي.
ومنها شرف الإدراك، كتقديم السمع على البصر والسميع على البصير لأن السمع أشرف على أرجح القولين عند جماعة وقدم القلب عليهما في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} لأن الحواس خدمة القلب وموصلة إليه وهو المقصود وأما قوله: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} فأخر القلب فيها لأن العناية هناك بذم المتصامين عن السماع ومنهم الذين كانوا يجعلون القطن في آذانهم حتى لا يسمعوا ولهذا صدرت السورة بذكرهم في قوله: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا}.
ومنها: شرف المجازاة، كقوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ}.
ومنها: شرف العموم، فإن العام أشرف من الخاص كتقديم العفو على الغفور أي عفو عما لم يؤاخذنا به مما نستحقه بذنوبنا غفور لما واخذنا به في الدنيا قبلنا ورجعنا إليه فتقدم العفو على الغفور لأنه أعم وأخرت المغفرة لأنها أخص.
ومنها: شرف الإباحة للإذن بها، كقوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ}، وإنما تقديم الحرام في قوله: {فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً} فللزيادة في التشنيع عليهم أو لأجل السياق لأن قبله: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً}. ثم {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ}.
ومنها: الشرف بالفضيلة، كقوله تعالى: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} وقوله: {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} وقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} الآية. وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ}{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ} وقوله: {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} في الأعراف والشعراء فإن موسى استأثر باصطفائه تعالى له بتكليمه وكونه من أولى العزم فإن قلت فقد جاء هارون وموسى في سورة طه بتقديم هارون قلنا لتناسب رءوس الآي ومنه تقديم جبريل على ميكائيل في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} لأن جبريل صاحب الوحي والعلم وميكائيل.
صاحب الأرزاق والخيرات النفسانية أفضل من الخيرات الجسمانية.
ومنه تقديم المهاجرين، في قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَار}.
وقوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} ويدل على فضيلة الهجرة قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لولا الهجرة لكنت أمرأ من الأنصار" وبالآية احتج الصديق على تفضيلهم وتعيين الإمامة فيهم.
ومنه قوله: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فإن الصلاة أفضل من السلام وقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} قدم القريب لأن الصدقة عليه أفضل من الأجنبي.
ومنه تقديم الوجه، في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ}.
وتقديم اليمين على الشمال، في نحو: {جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ}.
ومنه تقديم الأنفس على الأموال، في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}. وأما تقديم الأموال في سورة الأنفال في قوله: {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فوجه التقديم أن الجهاد يستدعي تقديم إنفاق الأمولا فهو من باب السبق بالسببية.
ومنه :{مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} فإن الحلق أفضل من التقصير.
ومنه تقديم السموات على الأرض، كقوله: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} وهو كثير وكذلك كثير ما يقع السموات بلفظ الجمع والأرض لم تقع إلا مفردة.
وأما تأخيرها عنها في قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} فلأنه لما ذكر المخاطبين، وهو قوله: {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} وهو خطاب لأهل الأرض وعملهم يكون في الأرض وهذا بخلاف الآية التي في سبأ فإنها منتظمة في سياق علم الغيب.
وكذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ}.
وأما تأخيرها عنها في قوله: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} فلأن الآية في سياق الوعد والوعيد وإنما هو لأهل الأرض.
وكذا قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ}.
ومنه تقديم الإنس على الجن في قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} الاية.
وقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} وقوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} وقوله: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً}.
وقوله: {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}.
وأما تقديم الجن في مواضع أخر كقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} فلأنهم أقدم في الخلق فيكون من النوع الأول - أعنى التقديم بالزمان - ولهذا لما أخر في آية الحجر صرح بالقبلية بذكر الإنسان ثم قال: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ}.
ويجوز أن يكون في الأمثلة السالفة من باب تقديم الأعجب لأن خلقها أغرب كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ}.
أو لأنهم أقوى أجساما وأعظم أقداما ولهذا قدموا في: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وفي: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ}.
ومنه تقديم السجد على الراكعين في قوله: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} وسبق فيه شيء آخر.
ومنه تقديم الخيل على البغال والبغال على الحمير في قوله تعالى :{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا}.
ومنه تقديم الذهب على الفضة في قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}.
فإن قلت: فهل يجوز أن يكون من تقديم المذكر على المؤنث ؟.
قلت: هيهات الذهب أيضا مؤنت ولهذا يصغر على ذهيبة كـ"قدم".
ومنه تقديم الصوف في قوله: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} ولهذا احتج به بعض الصوفية على اختيار لبس الصوف على غيره من الملابس وأنه شعار الملائكة في قوله: { مُسَوِّمِينَ} قيل: سيماهم يؤمئذ الصوف. وعن علي: الصوف الأبيض رواه أبو نعيم في مدح الصوف وقال: إنه شعار الأنبياء. وقال ابن مسعود: " كانت الأنبياء قبلكم يلبسون الصوف " وفي الصحيح في موسى عليه السلام: " عليه عباءة ".
منه تقديم الشمس على القمر في قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} وقوله: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً} ولهذا قال تعالى: {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً}، والحكماء يقولون: إن نور القمر مستمد من نور الشمس، قال الشاعر:
يا مفردا بالحسن والشكل من دل عينيك على قتلي
البدر من شمس الضحى نوره والشمس من نورك تستملي
وأما قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} فيحتمل وجهين مناسبة رءوس الآي أو أن انتفاع أهل السموات به أكثر قال ابن الأنباري يقال إن القمر وجهه يضيء لأهل الشمس.
وظهره إلى الأرض ولهذا قال تعالى: {فِيهِنَّ} لما كان أكثر نوره يضيء إلى أهل السماء.
الثامن: الغلبة والكثرة.
كقوله تعالى: {مِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} قدم الظالم لكثرته ثم المقتصد ثم السابق.
وقوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ}.
{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ}.
وجعل منه الزمخشري: {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} يعني بدليل قوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} وحديث بعث النار.
وأما قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} قدم ذكر العذاب لكون الكلام مع اليهود الذين كفروا بعيسى وراموا قتله.
وجعل من هذا النوع قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} لأن السرقة في الذكور أكثر.
وقدم في الزنى المرأة في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} لأن الزنى فيهن أكثر وأما قوله:.
{الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ}.
فقال الزمخشري: سيقت الآية التي قبلها لعقوبتهما على ما جنيا والمرأة هي المادة التي نشأت منها الخيانة لأنها لو لم تطمع الرجل [ولم تومض له] وتمكنه لم يطمع ولم يتمكن فلما كانت أصلا وأولا في ذلك بدأ بذكرها وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل [فيه] لأنه هو الراغب والخاطب يبدأ الطلب.
ومنه قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}، قال الزمخشري: قدم غض البصر لأن النظر يريد الزنى ورائد الفجور والبلوى به أشد وأكثر ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه.
ومنه تقديم الرحمة على العذاب، حيث وقع في القرآن ولهذا ورد: " إن رحمتي غلبت غضبي ".
وأما تقديم التعذيب على المغفرة في آية المائدة فللسياق.
ومنه قوله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ} قال ابن الحاجب في أماليه: إنما قدم الأزواج لأن المقصود الإخبار أن فيهم أعداء ووقوع ذلك في الأزواج أقعد منه في الأولاد فكان أقعد في المعنى المراد فقدم ولذلك قدمت الأموال في قوله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} لأن الأموال لا تكاد تفارقها الفتنة: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}{مَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} ، وليست الأولاد في استلزام الفتنة مثلها وكان تقدمها أولى.
التاسع: سبق ما يقتضى تقديمه.
وهو دلالة السياق كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} لما كان إسراحها وهي خماص وإراحتها وهي بطان قدم الإراحة لأن الجمال بها حينئذ أفخر.
وقوله: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} لأن السياق في ذكر مريم في قوله: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} ولذلك قدم الابن في غير هذا المكان قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} وقوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} فإنه قدم الحكم مع أن العلم لا بد من سبقه للحكم ولكن لما كان السياق في الحكم قدمه قال تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} ، ويحتمل أن المراد بالحكم الحكمة وبها فسر الزمخشري قوله تعالى في سورة يوسف: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} وأما تقديم الحكيم على العليم في سورة الانعامفلأنه مقام تشريع الأحكام وأما في أول سورة يوسف فقدم العليم على الحكيم لقوله في آخرها: {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ}.
ومنه تقديم المحو على الإثبات في قوله: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} فإن قبله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} ويمكن أن يقال ما يقع عليه المحو أقل مما يقع عليه غيره ولا سيما على قراءة تشديد يثبت فإنها ناصة على الكثرة والمراد به الاستمرار لا الاستئناف.
وقوله: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ}.
ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً}، قدم "رسلا" هنا على "من قبلك" وفي غير هذه بالعكس لأن السياق هنا في الرسل.
ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} قدم القبض لأن قبله من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له اضعافا كثيرة وكان هذا بسطا فلا يناسب تلاوة البسط فقدم القبض لهذا وللترغيب في الإنفاق لأن الممتنع منه سببه خوف القلة فبين أن هذا لا ينجيه فإن القبض مقدر ولا بد.
العاشر: مراعاة اشتقاق اللفظ.
كقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}.
{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}.
{يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ}.
{قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}.
{ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ}.
{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ}.
وأما قوله: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ } فقدم نفي التأخير لأنه الأصل في الكلام وإنما ذكر التقدم مع عدم إمكان التقدم نفيا لأطراف الكلام كله.
وكقوله: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ}.
وقوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}.
{لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}.
{لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ}.
وقوله: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ}.
{فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}.
فإن قلت قد جاء: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى}.{أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى}.
قلت: لمناسبة رءوس الآى.
ومثله: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ} ولأن الخطاب لهم فقدموا.
الحادي عشر: للحث عليه خيفة من التهاون به.
كتقديم تنفيذ الوصية على وفاء الدين في قوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فإن وفاء الدين سابق على الوصية لكن قدم الوصية لأنهم كانوا يتساهلون بتأخيرها بخلاف الدين.
ونظيره: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً} قدم الإناث حثا على الإحسان إليهم.
وقال السهيلي في [النتائج]: إنما قدمت الوصية لوجهين:.
أحدهما: أنها قربة إلى الله تعالى بخلاف الدين الذي تعوذ الرسل منه فبدىء بها للفضل.
والثاني: أن الوصية للميت والدين لغيره ونفسك قبل نفس غيرك تقول هذا لي وهذا لغيري ولا تقول في فصيح الكلام هذا لغيري وهذا لي.
الثاني عشر: لتحقق ما بعده واستغنائه هو عنه في تصوره .
كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}.
وقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً}.
وقوله: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تَابُوا}.
الثالث عشر: الاهتمام عند المخاطب.
كقوله: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}.
ونظيره قوله عليه السلام: " وأن تقرأ السلام على من عرفته ومن لم تعرفه ".
وقوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} لفضل الصدقة على القريب.
وكقوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}.
وقوله: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} فقدم الكفارة على الدية وعكس في قتل المعاهد حيث قال: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}.
قال الماوردي في [الحاوي]: ووجهه أن المسلم يرى تقديم حق الله على نفسه والكافر يرى تقديم نفسه على حق الله قال: وقال ابن أبي هريرة: " إنما خالف بينهما ولم يجعلهما على نسق واحد لئلا يلحق بهما ما بينهما من قتل المؤمن في دار الحرب في قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فضم إليه الدية إلحاقا بأحد الطرفين "، فأزال هذا الاحتمال باختلاف اللفظين.
وقال الفقيه نجم الدين بن الرفعة: يحتمل أن يقال إنه لما كان الكفر يهدر الدماء وهو موجود كان الغاية ببذل الدم عند العصمة لأجل الميثاق أتم لأنه يغمض حكمته فلذلك قدمت الدية فيه وأخرت الكفارة لأن حكمها قد سبق. ولما كانت عصمة المسلم ثابتة وقياس الأصول أنه لا تجب الكفارة في قتل الخطأ لأنه لا إثم فيه خصوصا على المسلمين لرفع القلم عن الخطأ كانت العناية بذكر الكفارة فيه أتم لأنها التي تغمض فقدمت.
ومن هذا النوع قوله تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} قيل: لماذا بدأ بالمغرب قبل المشرق وكان مسكن ذي القرنين من ناحية المشرق ؟ قيل: لقصد الاهتمام إما لتمرد أهله وكثرة طغيانهم في ذلك الوقت أو غير ذلك مما لم ينته إلينا علمه.
ومن هذا أن تأخر المقصود بالمدح والذم أولىمن تقدمه كقوله نعم الرجل زيد أحسن من قولك زيد نعم الرجل لأنهم يقدمون الأهم وهم في هذا بذكر المدح والذم أهم.
فأما تقديمه في قوله تعالى: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} فإن الممدوح هنا بـ"نعم العبد" هو سليمان عليه السلام وقد تقدم ذكره. وكذلك أيوب في الآية الآخرى والمخصوص بالمدح في الآيتين ضمير سليمان وأيوب وتقديره نعم العبد هو إنه أواب.
الرابع عشر: للتنبيه على أنه مطلق لا مقيد.
كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ}، على القول بأن "الله" في موضع المفعول الثاني لـ"جعل" و"شركاء" مفعول أول ويكون "الجن" في كلام ثان مقدر،كأنه قيل: فمن جعلوا شركاء ؟ قيل: الجن وهذا يقتضى وقوع الإنكار على جعلهم "لله شركاء" على الإطلاق فيدخل مشركة غير الجن ولو أخر فقيل: وجعلوا الجن شركاء لله كان الجن مفعولا أولا وشركاء ثانيا فتكون الشركة مقيدة غير مطلقة لأنه جرى على الجن فيكون الإنكار توجه لجعل المشاركة للجن خاصة وليس كذلك وفيه زيادة سبقت.
الخامس عشر: للتنبيه على أن السبب مرتب.
كقوله تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} قدم الجباه ثم الجنوب لأن مانع الصدقة في الدنيا كان يصرف وجهه أولا عن السائل ثم ينوه بجانبه ثم يتولى بظهره.
السادس عشر: التنقل.
وهو أنواع: إما من الأقرب إلى الأبعد، كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} قدم ذكر المخاطبين على من قبلهم وقدم الأرض على السماء.
وكذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ}، لقصد الترقي.
وقوله: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}.
وإما بالعكس كقوله في اول الجاثية: {إِِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ}.
وإما من الأعلى كقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}.
وقوله: {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ}.
وإما من الأدنى كقوله: {وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً}.
وقوله: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً}.
وقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}.
فإن قلت: لم لا اكتفي بنفي الأدنى ليعلم منه نفى الأعلى بطريق الأولى ؟ قلت: جوابه مما سبق من التقديم بالزمان.
وكقوله: {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} الآية، وبهذا يتبين فساد استدلال المعتزلة على تفضيل الملك على البشر بقوله: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ} فإنهم زعموا أن سياقها يقتضي الترقي من الأدنى إلى الأعلى إذ لا يحسن أن يقال لا يستنكف فلان عن خدمتك ولا من دونه بل ولا من فوقه.
وجوابه أن هؤلاء لما عبدوا المسيح واعتقدوا فيه الولدية لما فيه من القدرة على الخوارق.
والمعجزات من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغيره ولكونه خلق من غير تراب والتزهيد في الدنيا وغالب هذه الامور هي للملائكة أتم وهم فيها أقوى فإن كانت هذه الصفات أوجبت عبادته فهو مع هذه الصفات لا يستنكف عن عبادة الله بل ولا من هو أكبر منه في هذه الصفات للترقي من الأدنى إلى الأعلى في المقصود ولم يلزم منه الشرف المطلق والفضيلة على المسيح.
السابع عشر: الترقي.
كقوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} الآية، فإنه سبحانه بدأ منها بالأدنى لغرض الترقي لأن منفعة الرابع أهم من منفعة الثالث فهو أشرف منه ومنفعة الثالث أعم من منفعة الثاني ومنفعة الثاني أعم من منفعة الأول فهو أشرف منه.
وقد قرن السمع بالعقل ولم يقرن به البصر في قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} وما قرن بالأشرف كان أشرف وحكى ذلك عن علي بن عيسى الربعي.
قال الشيخ أبو الفتح القشيري:.
فإن قيل: قد كان الأولى أن يقدم الوصف الأعلى ثم ما دونه حتى ينتهي إلى أضعفها لأنه إذا بدا بسلب الوصف الأعلى ثم بسلب مادونه كان ذلك أبلغ في الذم.
لأنه لا يلزم من سلب الأعلى سلب ما دونه كما تقول ليس زيد بسلطان ولا وزير ولا أمير ولا وال والغرض من الآية المبالغة في الذم.
قلت: ما ذكرته طريق حسنة في علم المعاني والمقصود من الآية طريقة أخرى وهي أنه تعالى أثبت أن الأصنام التي تعبدها الكفار أمثال الكفار في أنها مقهورة مربوبة ثم حطها عن درجة المثلية بنفي هذه الصفات الثابتة للكفار عنها. وقد علمت أن المماثلة بين الذوات المتنائية إنما تكون باعتبار الصفات الجامعة بينها إذ هي أسباب في ثبوت المماثلة بينها وتقوى المماثلة بقوة أسبابها وتضعف بضعفها فإذا سلب وصف ثابت لإحدى الذاتين عن الأخرى انتفى وجه من المماثلة بينهما ثم إذا سلب وصف من الأول انتفى وجه من المماثلة أقوى من الأول ثم لا يزال يسلب أسباب المماثلة أقواها فأقواها حتى تنتفي المماثلة كلها بهذا التدريج وهذه الطريقة ألطف من سلب أسباب المماثلة أقواها ثم أضعفها فأضعفها.
الثامن عشر: مراعاة الإفراد.
فإن المفرد سابق على الجمع كقوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ}، وقوله: {مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} ولهذا لما عبر عن المال بالجمع أخر عن البنين في قوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ}.
ومنه تقديم الوصف بالمفرد على الوصف بالجملة، في قوله: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} وقوله: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ}.
التاسع عشر: التحذير منه والتنفير عنه.
كقوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} ، قرن الزنى بالشرك وقدمه.
وقوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ} قدمهن في الذكر لأن المحنة بهن أعظم من المحنة بالأولاد وفي صحيح مسلم: "ما تركت بعدي [في الناس] فتنة أضر على الرجال من النساء". ومن الحكمة العظيمة أنه بدأ بذكر النساء في الدنيا وختم [الحرث] وهما طرفان متشابهان وفيهما الشهوة والمعاش الدنيوي ولما ذكر بعد ذلك ما أعده للمتقين أخر ذكر الأزواج كما يجب في الترتيب الأخروي وختم بالرضوان. وكم في القرآن من مثل هذا العجب إذا حضر له الذهن وفرغ له الفهم !.
ومنه تقديم نفي الولد على نفي الوالد في قوله: { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} فإنه لما وقع في الأول منازعة الكفرة وتقولهم اقتضت الرتبة بالطبع تقديمه في الذكر اعتناء به قبل التنزيه عن الوالد الذي لم ينازع فيه أحد من الأمم.
العشرون: التخويف منه.
كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} ونظائره السابقة في الثامن.
الحادي والعشرون: التعجيب من شأنه.
كقوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ}.
قال الزمخشري: قدم الجبال على الطير لأن تسخيرها له وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز لأنها جماد والطير حيوان ناطق.
قال ابن النحاس: وليس مراد الزمخشري بناطق ما يراد به في حد الإنسان.
الثاني والعشرون: كونه أدل على القدرة.
كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ}.
والثالث والعشرون: قصد الترتيب.
كما في آية الوضوء فإن ادخال المسح بين الغسلين وقطع النظر عن النظير مع مراعاة ذلك في لسانهم دليل على قصد الترتيب.
وكذلك البداءة في الصفا بالسعي ومثله الكفارة المرتبة في الظهار والقتل.
وهنا قاعدة ذكرها أصحابنا وهي أن الكفارة المرتبة بدأ الله فيها بالأغلظ والمخيرة بدأ فيها بالأخف كما في كفارة اليمين ولهذا حملوا آية المحاربة في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا}، الآية على الترتيب لا التخيير لأنه بدأ فيها بالأغلظ طردا للقاعدة خلافا لمالك حيث جعلها على التخيير.
الرابع والعشرون: خفة اللفظ.
كما في قولهم: ربيعة ومضر مع أن مضر أشرف لكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم لأنهم لو قدموا مضر لتوالي حركات كثيرة وذلك يثقل فإذا قدموا ربيعة ووقفوا على مضر بسكون الراء نقص الثقل لقلة الحركات المتوالية.
وقد يكون تقديم الإنس على الجن من ذلك فالإنس أخف لمكان النون والسين المهموسة.
الخامس والعشرون: رعاية الفواصل.
كتأخير الغفور في قوله: {عَفُوٌّ غَفُورٌ} وقوله: {وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً}.
وإن كانت القاعدة في علم البيان تأخير ما هو الأبلغ فإنه يقال عالم نحرير وشجاع باسل وسبق له نظائر.
وكقوله: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ}، ولو قال: صلوه الجحيم لأفاد المعنى ولكن يفوت الجمع.
وقيل: فائدته الاختصاص.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} فقدم [إياه] على [تعبدون] لمشاكلة رءوس الآى.

تنبيه:.
قد يكون في كل واحد مما ذكرنا من الأمثلة سببان فأكثر للتقديم فإما أن يعتقد إعادة الكل أو يرجح بعضها لكونه أهم في ذلك المحل. وإن كانت الأخرى أهم في محل آخر وإذا تعارضت الأسباب روعى أقواها فإن تساوت كان المتكلم بالخيار في تقديم أي الأمرين شاء.
النوع الثاني: مما قدم النية به التأخير.
فمنه ما يدل على ذلك الإعراب كتقديم المفعول على الفاعل في نحو قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}،{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا}، {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ}.
ونحوه مما يجب في الصناعة النحوية كذلك ولكن ذلك لقصد الحصر.
كتقديم المفعول. كقوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي}{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ}.
وكتقديم الخبر على المبتدأ في قوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} ولو قال:" وظنوا أن حصونهم مانعتهم " لما أشعر بزيادة وثوقهم بمنعها إياهم.
وكذا: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي} ولو قال:" أأنت راغب عنها " ؟ ما أفادت زيادة الإنكار على إبراهيم.
وكذلك: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ولم يقل: فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة وكان يستغنى عن الضمير لأن هذا لا يفيد اختصاص الذين كفروا بالشخوص.
ومنه ما يدل على المعنى، كقوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا}، قال البغوي: هذا أول القصة وإن كانت مؤخرة في التلاوة.
وقال الواحدي: كان الاختلاف في القاتل قبل ذبح البقرة وإنما أخر في الكلام لأنه سبحانه لما قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} الآية علم المخاطبون أن البقرة لا تذبح إلا للدلالة على قاتل خفيت عينه عليهم فلما استقر علم هذا في نفوسهم أتبع بقوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} على جهة التوكيد لا أنه عرفهم الاختلاف في القاتل بعد أن دلهم على ذبح البقرة وقيل إنه من المؤخر الذي يراد به التقدم،.
وتأويله: وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها فسألتم موسى فقال لكم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}.
وأما الزمخشري ففي كلامه ما يدل على أن إيرادها إنما كان يتأتى على الوجه الواقع في القرآن لمعنى حسن لطيف استخرجه وأبداه.
ومنه قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} وأصل الكلام هواه إلهه كما تقول اتخذ الصنم معبودا لكن قدم المفعول الثاني على الأول للعناية كما تقول علمت منطلقا زيدا لفضل عنايتك بانطلاقه.
ومنه قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} الآية، أي أنزله قيما ولم يجعل له عوجا قاله جماعة، منهم الواحدي.
ورده فخر الدين في تفسيره بأن قوله: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً} معناه أنه كامل في ذاته وأن " قيما " معناه أنه مكمل لغيره وكونه كاملا في ذاته سابق على كونه مكملا لغيره لأن معنى كونه " قيما " أنه قائم بمصالح الغير. قال: فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح ما ذكر في الآية وما ذكر من التقديم والتأخير فاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه. انتهى.
وهذا فهم عجيب من الإمام لأن القائل بالتقديم والتأخير لا يقول بأن كونه غير ذي عوج متأخر عن كونه قيما في المعنى وإنما الكلام في ترتيب اللفظ لأجل الإعراب وقد يكون أحد المعنيين ثابتا قبل الآخر ويذكر بعده.
وأيضا فإن هذا البحث إنما هو على تفسير القيم بالمستقيم فأما إذا فسر بالقيام على غيره فلا نسلم أن القائل يقول بالتقديم والتأخير.
وهاهنا أمران:.
أحدهما: أن الأظهر جعل هذه الجملة أعنى قوله: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً} من جملة صلة "الذي" وتمامها وعلى هذا لا موضع لها من الإعراب لوجهين: أحدهما: أنها في حيز الصلة لأنها معطوفة عليها. والثاني : أنها اعتراض بين الحال وعاملها ويجوز في الجملة المذكورة أن يكون موضعها النصب على أنها حال من الكتاب والعامل فيها " أنزل ".
قاله جماعة، وفيه نظر.
وأما قوله:[ قيما ] فيجوز في نصبه وجوه:.
أحدها:- وهو قول الأكثر - أنه منصوب على الحال من [الكتاب] والعامل فيه [ أنزل ] وفي الكلام تقديم وتأخير وتقديره:[ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا ] فتكون الجملة على هذا اعتراضا.
والثاني: أن يكون منصوبا بفعل مقدر وتقديره: ولكن جعله قيما فيكون مفعولا للفعل المقدر.
والثالث : أن يكون حالا من الضمير في قوله: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} وتكون حالا مؤكدة.
واختار صاحب الكشاف أن يكون [قيما] مفعولا لفعل مقدر كما ذكرناه لأن الجملة التي قبلها عنده معطوفة على الصلة و[قيما] من تمام الصلة وإذا كان حالا يكون فيه فصل بين بعض الصلة وتمامها فكان الأحسن جعله معمولا لمقدر.
وقال جماعة منهم ابن المنير في تفسير البحر بعد نقله كلام الزمخشري: وعجيب من كونه لم يجعل الفاصل المذكور حالا أيضا ولا فصل بل هما حالان متواليان من شيء واحد والتقدير أنزل الكتاب غير معوج.
وهذا القول - وهو جعل الجملة حالا - قد ذكره جماعة قبل ابن المنير والظاهر أن الزمخشري لم يرتض هذا القول لأن جعل الجملة حالا يفيده لا ما يفيد العطف من نفي العوج عن الكتاب مطلقا غير مقيد بالإنزال وهو المقصود فالفائدة التي هي أتم إنما تكون على تقدير استقلال الجملة كيف والقول بالتقديم والتأخير منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما نقله الطبري وغيره.
وقال الواحدي: هو قول جميع أهل اللغة والتفسير والزمخشري ربما لاحظ هذا المعنى ولم يمنع جواز غير ما قال لكن ما قال هو الأحسن.
وقال غير ابن المنير في الاعتراض على الزمخشري: إن الجملة وإن كانت مستقلة فهي في حيز الصلة للعطف فلم يقع فصل ويؤيد ما ذكره صاحب الكشاف أن بعض القراء يسكت عند قوله:[ عوجا ]ويفصل بينه وبين " قيما " بسكتة لطيفة وهي رواية حفص عن عاصم وذلك يحتمل أن يكون لما ذكرنا من تقدير الفصل وانقطاع الكلام عما قبله قال ابن المنير وتحتمل السكتة وجها آخر وهو أن يكون ذلك لرفع توهم أن يكون قيما نعتا للعوج لأن النكرة تستدعي النعت غالبا وقد كثر في كلامهم إيلاء النكرة الجامدة نعتها كقوله: {صِرَاطاً مُسْتَقِيماً}، و{قُرْآناً عَرَبِيّاً} فإذا ولي النكرة الجامدة اسم مشتق نكرة ظهر فيه معنى الوصف فربما خيف اللبس في جعل [قيما] نعتا لـ[عوج] فوقع اللبس بهذه السكتة وهذا أيضا فيه نظر لأن ذلك إنما يتوهم فيما يصلح أن يكون وصفا ولا يصلح قيما أن يكون وصفا ل عوج فإن الشيء لا يوصف بضده لأن العوج لا يكون قيما والأولى ما ذكرناه أولا
الثاني: نقل الإمام عن بعضهم أن قيما بدل من قوله عوجا وهو مشكل لأنه لا يظهر له وجه.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} قيل: التقدير: لقد همت به لولا أن رأى برهان ربه وهم بها وهذا أحسن لكن في تأويله قلق ولا يحتاج إلى هذا التأويل إلا على قول من قال: إن الصغائر يجوز وقوعها منهم.
وقوله: {فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} قيل: أصله: فبشرناها بإسحاق فضحكت. وقيل: ضحكت أي حاضت بعد الكبر عند البشرى فعادت إلى عادات النساء من الحيض والحمل والولادة.
وقوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا}، قدم علىما بعده وهو مؤخر عنه في المعنى لأن ذلك يحصل للتوافق.
وقوله: {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} أي أحوى غثاء أي أخضر يميل إلى السواد والموجب لتأخير أحوى رعاية الفواصل.
وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً} قال ابن برهان النحوي: أصله: ومن يبتغ دينا غير الإسلام.
وقوله: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} قال أبو عبيد: الغربيب: الشديد السواد ففي الكلام تقديم وتأخير وقال صاحب [العجائب والغرائب]: قال ابن عيسى:.
الغربيب: الذي لونه لون الغراب فصار كأنه غراب. قال: والغراب يكون أسود وغير أسود وعلى هذا فلا تقديم ولا تأخير فيه.
وقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} على قول من يقول إن الذكر هنا القرآن.
وقوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا}.
وقوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}.
وقوله: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} أي فعقروها ثم كذبوه في عقرها وفي إجابتهم.
وقوله: {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ} تقديره: ثم قضى أجلا وعنده أجل مسمى أي وقت مؤقت.
وقوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} أ ي الأوثان من الرجس.
{هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} أي يرهبون ربهم.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} أي الذين هم حافظون لفروجهم.
{فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} أي مخلف رسله وعده.
{بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} أي بل الإنسان بصير على نفسه في شهود جوارحه عليه.
{خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} خلق العجل من الإنسان.
{وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً} أي ولولا.
كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان العذاب لازما لهم.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} أي كيف مده ربك.
{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} أي لشديد لحب الخير.
{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ}.أي زين للمشركين شركاؤهم قتل أولادهم لأن الشياطين كانوا يحسنون لهم قتل بناتهم خشية العار.
وقوله: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ}.
وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.
وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} تقديره: مثل الذين كفروا بربهم كرماد اشتدت به الريح.
وقوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} أي فأنا عدو آلهتهم وأصنامهم وكل معبود يعبدونه من دون الله.
وقوله: { وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا} أي فزعوا وأخذوا فلا فوت لأن الفوت يكون بعد الأخذ.
وقوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ، يعني القيامة. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ}.
وذلك يوم القيامة. ثم قال: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} والنصب والعمل يكونان في الدنيا فكأنه على التقديم والتأخير معناه وجوه عاملة ناصبة ويوم القيامة خاشعة والدليل عليه قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ}.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ}، تقديره: لمقت الله إياكم في الدنيا حين دعيتم إلا الإيمان فكفرتم ومقته إياكم اليوم أكبر من مقتكم أنفسكم إذ دعيتم إلى النار.
وقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ، لأن الفجر ليس له سواد والتقدير حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر من الخيط الأسود من الليل أي حتى يتبين لكم بياض الصبح من بقية سواد الليل.
وقوله: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ}.
وقوله: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ} منظوم بقوله: {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ} لأنه موضع الشماتة.
وقوله: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ}، أي اثنين إلهين لأن اتخاذاثنين يقع على ما يجوز وما لايجوز و"إلهين" لا يقع إلا على ما لا يجوز ف إلهين أخص فكان جعله صفة أولى.
النوع الثالث: ما قدم في آية وأخر في أخرى.
فمن ذلك قوله في فاتحة الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وفي خاتمة الجاثية: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ} فتقديم "الحمد" في الأول جاء على الأصل والثاني على تقدير الجواب فكأنه قيل عند وقوع الأمر لمن الحمد ومن أهله فجاء الجواب على ذلك نظيره: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ثم قال: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}.
وقوله في سورة يس: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} قدم المجرور على المرفوع لاشتمال ما قبله من سوء معاملة أصحاب القرية الرسل وإصرارهم على تكذيبهم فكان مظنة التتابع على مجرى العبارة تلك القرية ويبقى مخيلا في فكره أكانت كلها كذلك أم كان فيها.. على خلاف ذلك، بخلاف ما في سورة القصص.
ومنها قوله في سورة النمل: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} ، وفي سورة المؤمنين: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ} ، فإن ما قبل الأولى {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا} وما قبل الثانية {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً}، فالجهة المنظور فيها هناك كون أنفسهم وأبائهم ترابا والجهة المنظور فيها هنا كونهم ترابا وعظاما ولا شبهة أن الأولى أدخل عندهم في تبعيد البعث.
ومنها قوله في سورة المؤمنين: {وَقَالَ الْمَلأُُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا}، فقدم المجرور على الوصف لأنه لو أخبر عنه - وأنت تعلم أن تمام الوصف بتمام ما يدخل عليه الموصوف وتمامه {وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} - لاحتمل أن يكون من نعيم الدنيا واشتبه الأمر في القائلين أهم من قومه أم لا ؟ بخلاف قوله في موضع آخر منها: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} فإنه جاء على الأصل.
ومنها قوله في سورة طه: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى}.
بخلاف قوله في سورة الشعراء: {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}.
ومنها قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}، وقال في سورة الإسراء: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} قدم المخاطبين في الأولى دون الثانية لأن الخطاب في الأولى في الفقراء بدليل قوله :{مِنْ إِمْلاقٍ} فكان رزقهم عندهم أهم من رزق أولادهم فقدم الوعد برزقهم على الوعد برزق أولادهم والخطاب في الثانية للأغيناء بدليل: {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} فإن الخشية إنما تكون مما لم يقع فكان رزق أولادهم هو المطلوب دون رزقهم لأنه حاصل فكان أهم فقدم الوعد برزق أولادهم على الوعد برزقهم.
ومنها ذكر الله في أواخر سورة الملائكة: {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فقدم ذكر السموات لأن معلوماتها أكثر فكان تقديمها أدل على صفة العالمية ثم قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} فبدأ بذكر الأرض لأنه في سياق تعجيز الشركاء عن الخلق والمشاركة وأمر الأرض في ذلك أيسر من السماء بكثير فبدأ بالأرض مبالغة في بيان عجزهم لأن من عجز عن أيسر الأمرين كان عن أعظمهما أعجز ثم قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا}، فقدم السموات تنبيها على عظم قدرته سبحانه لأنه خلقها أكبر من خلق الأرض كما صرح به في سور المؤمن ومن قدر على إمساك الأعظم كان على إمساك الأصغر أقدر.
فإن قلت: فهلا اكتفى من ذكر الأرض بهذا التنبيه البين الذي لا يشك فيه أحد !.
قلت: أراد ذكرها مطابقة لأنه على كل حال أظهر وأبين فانظر أيها العاقل حكمة القرآن وما أودعه من البيان والتبيان تحمد عاقبة النظر وتنتظر خير منتظر!.
ومن أنواعه أن يقدم اللفظ في الآية ويتأخر فيها لقصد أن يقع البداءة والختم به للاعتناء بشأنه وذلك كقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ}.
وقوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} إلى قوله: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ}.
وكذلك قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} فإنه لولا ما أسلفناه لقيل ما تكتمون وتبدون لأن الوصف بعلمه.
أمدح كما قيل: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} و{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}.
فإن قلت: فقد قال تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}.
قلت لأجل تناسب رءوس الآى.
ومنها أن يقع التقديم في موضع والتأخير في آخر، واللفظ واحد، والقصة واحدة، للتفنن في الفصاحة وإخراج الكلام على عدة أساليب كما في قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ} وقوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً}.
وقوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} وقوله: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} قال الزمخشري في كشافه القديم علم بذلك أن كلا الطريقين داخل تحت الحسن وذلك لأن العطف في المختلفين كالتثنية في المتفقين فلا عليك أن تقدم أيهما شئت فإنه حسن مؤد إلى الغرض. وقد قال سيبويه: ولم يجعل للرجل منزلة بتقديمك إياه بكونه أولى بها من الجائي كأنك قلت: مررت بهما يعني في قولك مررت برجل وجاءني إلا أن الأحسن تقديم الأفضل فالقلب رئيس الأعضاء والمضغة لها الشأن ثم السمع طريق إدرك وحي الله وكلامه الذي قامت به السماوات والأرض وسائر العلوم التي هي الحياة كلها.
قلت: وقد سبق توجيه كل موضع بما ورد فيه من الحكمة.
القلب:.
وفي كونه من أساليب البلاغة خلاف فأنكره جماعة منهم حازم في كتاب: "منهاج البلغاء" وقال: إنه مما يجب أن ينزه كتاب الله عنه لأن العرب إن صدر ذلك منهم فبقصد العبث أو التهكم أو المحاكاة أو حال اضطرار والله منزه عن ذلك.
وقبله جماعة مطلقة بشرط عدم اللبس كما قاله المبرد في كتاب: "ما اتفق لفظه واختلف معناه".
وفصل آخرون بين أن يتضمن اعتبارا لطيفا فبليغ وإلا فلا ولهذا قال ابن الضائع: يجوز القلب على التأويل ثم قد يقرب التأويل فيصح في فصيح الكلام وقد يبعد فيختص بالشعر.
وهو أنواع:.
أحدها: قلب الإسناد.
وهو أن يشمل الإسناد إلى شيء والمراد غيره كقوله تعالى: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} إن لم تجعل الباء للتعدية لأن ظاهره أن المفاتح تنوء بالعصبة ومعناه أن العصبة تنوء بالمفاتح لثقلها فأسند " لتنوء " إلى "المفاتح" والمراد إسناده إلى العصبة.
لأن الباء للحال والعصبة مستصحبة المفاتح لا تستصحبها المفاتيح وفائدته المبالغة يجعل المفاتح كأنها مستتبعة للعصبة القوية بثقلها.
وقيل: لا قلب فيه والمراد والله أعلم أن المفاتح تنوء بالعصبة أي تميلها من نقلها وقد ذكر هذا الفراء وغيره.
وقال ابن عصفور: والصحيح ما ذهب إليه الفارسي أنها بالنقل ولا قلب والفعل غير متعد فصار متعديا بالباء لأن [ناء] غير متعد يقال: ناء النجم أي نهض ويقال: ناء أي مال للسقوط فإذا نقلت الفعل بالباء قلت: نؤت به أي أنهضته وأملته للسقوط فقوله: {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} أي تميلها المفاتح للسقوط لثقلها.
قال: وإنما كان مذهب الفارسي أصح لأن نقل الفعل غير المتعدي بالباء مقيس والقلب غير مقيس فحمل الآية على ما هو مقيس أولى.
ومنه قوله تعالى: {خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} أي خلق العجل من الإنسان قاله ثعلب وابن السكيت.
قال الزجاج: ويدل على ذلك: {وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً}.
قال ابن جنى: والأحسن أن يكون تقديره: خلق الإنسان من العجلة لكثرة فعله إياه واعتماده له وهو أقوى في المعنى من القلب لأنه أمر قد اطرد واتسع فحمله على القلب يبعد في الصنعة ويضعف المعنى.
ولما خفي هذا على بعضهم قال إن العجل هاهنا الطين قال: ولعمري إنه في اللغة كما ذكر غير أنه ليس هنا إلا نفس العجل ألا ترى إلى قوله عقبه: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ}، ونظيره قوله: { وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً}{وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً} لأن العجلة ضرب من الضعف لما تؤذن به الضرورة والحاجة.
وقيل في قوله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} أي إنه من المقلوب، وأنه {وجاءت سكرة الحق بالموت} وهكذا في قراءة أبي بكر.
مثله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}، قال الفراء: أي لكل أمر كتبه الله أجل مؤجل. وقيل في قوله: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} : هو من المقلوب أي يريد بك الخير ويقال: أراده بالخير وأراد به الخير.
وجعل ابن الضائع منه: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} ، قال: فآدم صلوات الله على نبينا وعليه هو المتلقي للكلمات حقيقة ويقرب أن ينسب التلقي للكلمات لأن من تلقى شيئا أو طلب أن يتلقاه فلقيه كان الآخر أيضا قد طلب ذلك لأنه قد لقيه قال: ولقرب هذا المعنى قرىء بالقلب.
وجعل الفارسي منه قوله تعالى: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} أي فعميتم عليها.
وقوله: {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ}.
وقوله: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً}، {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} أي بلغت الكبر.
وقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} وقوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} ، فإن الأصنام لا تعادي وإنما المعنى فإني عدو لهم مشتق من عدوت الشيء إذا جاوزته وخلفته وهذا لا يكون إلا فيمن له إرادة وأما عاديته فمفاعة لا يكون إلا من اثنين.
وجعل منه بعضهم: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} أي إن حبه للخير لشديد.
وقيل ليس منه لأن المقصود منه أنه لحب المال لبخيل والشدة البخل أي من أجل حبه للمال يبخل.
وجعل الزمخشري منه قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} كقوله: عرضت الناقة على الحوض لأن المعروض ليس له اختيار وإنما الاختيار للمعروض عليه فإنه قد يفعل ويريد وعلى هذا فلا قلب في الآية لأن الكفار مقهورون فكأنهم لا اختيار لهم والنار متصرفة فيهم وهو كالمتاع الذي يقرب منه من يعرض عليه كما قالوا: عرضت الجارية على البيع.
وقوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} ومعلوم أن التحريم لا يقع إلا على الملكف فالمعنى وحرمنا على المراضع أن ترضعه ووجه تحريم إرضاعه عليهن إلا يقبل إرضاعهن حتى يرد إلى أمه.
وقوله تعالى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ}، وقيل: الأصل وما تخدعهم إلا أنفسهم لأن الأنفس هي المخادعة والمسولة، قال تعالى: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ}.
ورد بأن الفاعل في مثل هذا هوالمفعول في المعنى وأن التغاير في اللفظ فعلى هذا يصح إسناد الفعل إلى كل منهما ولا حاجة إلى القلب.
الثاني: قلب المعطوف.
إما بأن تجعل المعطوف عليه معطوفا والمعطوف معطوفا عليه كقوله تعالى: {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ}، حقيقته فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم لأنه نظره ما يرجعون من القول غير متأت مع توليه عنهم. وما يفسر به التولي من أنه يتوارى في الكوة التي ألقى منها الكتاب مجاز والحقيقة راجحة عليه.
وقوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} أي تدلى فدنا لأنه بالتدلي نال الدنو والقرب إلى المنزلة الرفيعة وإلى المكانة لا إلى المكان.
وقيل: لا قلب، والمعنى: ثم أراد الدنو وفي صحيح البخاري: "{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} المعنى فإذا استعذت فأقرأ ".
وقوله: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا}، وقال صاحب الإيضاح: لا قلب فيه لعدم تضمنه اعتبارا لطيفا.
ورد بتضمنه المبالغة في شدة سورة البأس يعنى هلكت بمجرد توجه الناس إليها ثم جاءها.
الثالث: العكس.
العكس، وهو أمر لفظي كقوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ}.
وقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}.
{لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}.
{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}.
الرابع: المستوى.
وهو أن الكلمة او الكلمات تقرأ من أولها إلى آخرها ومن آخرها إلى أولها لا يختلف لفظها ولا معناها كقوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}.
{كُلٌّ فِي فَلَكٍ}.
الخامس: مقلوب البعض.
وهو أن تكون الكلمة الثانية مركبة من حروف الكلمة الأولى مع بقاء بعض حروف الكلمة الأولى كقوله تعالى: {فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ} فـ"بني" مركب من حروف "بين" وهو مفرق إلا أن الباقي بعضها في الكلمتين وهو أولها.
المدرج.
هذا النوع سميته بهذه التسمية بنظير المدرج من الحديث وحقيقته في أسلوب القرآن أن تجيء الكلمة إلى جنب أخرى كأنها في الظاهر معها وهي في الحقيقة غير متعلقة بها كقوله تعالى ذاكرا عن بلقيس: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} هو من قول الله لا من قول المرأة.
ومنه قوله تعالى: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}.
انتهى قول المرأة ثم قال يوسف عليه السلام: { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} معناه ليعلم الملك أني لم أخنه.
ومنه: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} تم الكلام فقالت الملائكة: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} فهذه صفة لأتقياء المؤمنين ثم قال: {يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ} فهذا يرجع إلى كفار مكة تمدهم إخوانهم من الشياطين في الغي.
وقوله: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} ثم أخبر عن فرعون متصلا: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}.
وقوله: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ} فالظاهر أن الكلام كله من كلام الزبانيةوالأمر ليس كذلك.
وقوله: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} من كلامه تعالى وقال: {إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
الترقي.
كقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}،{لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً}.
فإن قيل فقد ورد: {فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} والغالب أن يقدم في القليل على الكثير مع أن الظلم منع للحق من أصله والهضم منع له من وجه كالتطفيف فكان يناسبه تقديم الهضم.
قلت: لأجل فواصل الاى فإنه تقدم قبله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} فعدل عنه في الثاني كيلا يكون أبطأ وقد سيقت أمثلة الترقي في أسباب التقديم.

الاقتصاص.
ذكره أبو الحسين بن فارس وهو أن يكون كلام في سورة مقتصا من كلام في سورة آخرى أو في السورة نفسها ومثله بقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}، والآخرة دار ثواب لا عمل فيها فهذا مقتص من قوله: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى}.
ومنه قوله تعالى: {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} مأخوذ من قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ}.
وقوله: {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً}.
فأما قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} فيقال: إنها مقتصة من أربع آيات لأن الإشهاد أربعة:.
الملائكة عليهم السلام في قوله: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ}.
والأنبياء عليهم السلام لقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً}.
وأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}.
والأعضاء لقوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
ومنه قوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} وقرئت مخففة ومثقلة فمن شدد فهو من [ نَدَّ ] إذا نفر وهو مقتص من قوله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} الآية. ومن خفف فهو تفاعل من النداء مقتص من قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ}.
الألغاز.
واللغز الطريق المنحرف سمى به لانحرافه عن نمط ظاهر الكلام ويسمى ايضا أحجية لأن الحجى هو العقل وهذا النوع يقوي العقل عند التمرن والارتماض بحله والفكر فيه.
وذكر بعضهم أنه وقع في القرآن العظيم وجعل منه ما جاء في أوائل السور من الحروف المفردة والمركبةالتي جهل معناها وحارت العقول في منتهاها.
ومنه قوله تعالى في قصة إبراهيم لما سئل عن كسر الأصنام وقيل له: أنت فعلته فقال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} قابلهم بهذه المعارضة ليقيم عليهم الحجة ويوضح لهم المحجة.
وكذلك قول نمروذ: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} أتى باثنين فقتل أحدهما وأرسل الآخرة فإن هذه مغالطة.

الاستطراد.
وهو التعريض بعيب إنسان بذكر عيب غيره كقوله تعالى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ}.
وكقوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} وقوله: {أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ}.

الترويد.
وهو أن يعلق المتكلم لفظة من الكلام ثم يردها بعينها ويعلقها بمعنى آخر كقوله: {حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ} الآية فإن الأول مضاف إليه والثاني مبتدأ.
وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
وقوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ}.
وقد يحذف أحدها ويضمر أولا يلاحظ على الخلاف في قوله تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}.

التغليب.
وحقيقته إعطاء الشيء حكم غيره. وقيل ترجيح أحد المغلوبين على الآخر أو إطلاق لفظة عليهما إجراء للمختلفين مجرى المتفقين.
وهو أنواع:.
الأول : تغليب المذكر.
كقوله تعالى: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} غلب المذكر لأن الواو جامعة لأن لفظ الفعل مقتص ولو أردت العطف امتنع.
وقوله: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}.
وقوله: {إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} والأصل:" من القانتات والغابرات " فعدت الأنثى من المذكر بحكم التغليب.
هكذا قالوا، وهو عجيب فإن العرب تقول نحن من بني فلان لا تريد إلا موالاتهم والتصويب لطريقتهم وفي الحديث الصحيح في الأشعريين: " هم مني وأنا منهم " فقوله سبحانه: {مِنَ الْقَانِتِينَ} ولم يقل: من "القانتات" إيذانا بان وضعها في العباد جدا واجتهادا وعلما وتبصرا ورفعة من الله لدرجاتها في أوصاف الرجال القانتين وطريقهم.
ونظيره ولكن بالعكس قول عقبة بن أبي معيط لأمية بن خلف لما أجمع القعود.
عن وقعة بدر لأنه كان شيخا فجاء بمجمرة فقال: يا أبا علي استجمر فإنما أنت من النساء فقال: قبحك الله وقبح ما جئت به ثم تجهز.
ونازعهم بعضهم في ذلك من وجه آخر فقال: يحتمل ألا يكون [من] للتبعيض بل لابتداء الغاية أي كانت ناشئة من القوم القانتين لأنها من أعقاب هارون أخي موسى عليه السلام.
الثاني: تغليب المتكلم على المخاطب والمخاطب على الغائب.
فيقال: أنا وزيد فعلنا وأنت وزيد تفعلان ومنه قوله تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} بتاء الخطاب غلب جانب [ أنتم ] على جانب [ قوم ] والقياس أن يجيء بالياء لأنه وصف القوم وقوم اسم غيبة ولكن حسن آخر الخطاب وصفا ل قوم لوقوعه خبرا عن ضمير المخاطبين. قال ابن الشجري.
ولو قيل: إنه حالل لـ {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} لن في الضمير الخطاب معنى الإشارة لملازمته لها أو لمعناها لكان متجها وإن لم تساعده الصناعة لكن يبعده أن المراد وصفهم بجهل مستمر لا مخصوص بحال الخطاب ولم يقل:[ جاهلون ] إيذانا بأنهم يتجددون عند كل مصيبة لطلب آيات جهلهم.
وقال أبو البركات بن الأنباري: ولو قيل: إنما قال:[ تجهلون] بالتاء – لأن [ قوم ] هو [ أنتم ] في المعنى فلذلك، قال:[ تجهلون ] حملا على المعنى - لكان حسنا ونظيره قوله:
*أنا الذي سمتني أمي حيدره*
بالياء حملا على [ أنا ] لأن الذي هو[ أنا ] في المعنى.
ومنه قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} غلب فيه جانب [ أنت ]على جانب [مَن] فاسند إليه الفعل وكان تقديره: فاستقيموا فغلب الخطاب على الغيبة لأن حرف العطف فصل بين المسند إليهم الفعل فصار كما ترى. قال صاحب الكشاف تقديره:فاستقم كما أمرت وليستقم كذلك من تاب معك.
وما قلنا أقل تقديرا من هذا فاختر أيهما شئت.
وقوله تعالى: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ} فأعاد الضمير بلفظ الخطاب وإن كان [من تبعك] يقتضى الغيبة تغليبا للمخاطب وجعل الغائب تبعا له كما كان تبعا له في المعصية والعقوبة فحسن أن يجعل تبعا له في اللفظ وهو من محاسن ارتباط اللفظ بالمعنى.
وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فإن الخطاب في [ لعلكم ] متعلق بقوله [خلقكم] لا بقوله [اعبدوا] حتى يختص بالناس المخاطبين إذ لا معنى لقوله [اعبدوا لعلكم تتقون].
ومنه قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فيمن قرأ بالتاء.
ويجوز أن يكون المراد بـ[ما تعملون] الخلق كلهم والمخاطب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكل سامع أبدا فيكون تغليبا ولا يجوز أن يعتبر خطاب من سواه بدونه من غير اعتبار التغليب لامتنان أن يخاطب في كلام واحد اثنان أو أكثر من غير عطف او تثنية أو جمع.
ومنه قوله تعالى:.......
الثالث: تغليب العاقل على غيره.
بأن يتقدم لفظ يعم من يعقل ومن لا يعقل فيطلق اللفظ المختص بالعاقل على الجميع كما تقول: "خلق الله الناس والأنعام ورزقهم"، فإن لفظ [هم] مختص بالعقلاء.
ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} لما تقدم لفظ الدابة والمراد بها عموم من يعقل ومن لا يعقل غلب من يعقل فقال: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي}.
فإن قيل: هذا صحيح في {فمنهم} لأنه لمن يعقل وهو راجع إلى الجميع فلم قال: [من] وهو لا يقع على العام بل خاص بالعاقل ؟.
قلت:[ مَن ] هنا بعض [ هم ]وهو ضمير من يعقل.
فإن قلت: فكيف يقع على بعضه لفظ ما لا يعقل ؟.
قلت: من هنا قال أبو عثمان: إنه تغليب من غير عموم لفظ متقدم فهو بمنزله من يقول رأيت ثلاثة زيدا وعمرا وحمارا.
وقال ابن الصائغ:[ هم ] لا تقع إلا على من يعقل فلما أعاد الضمير على كل دابة غلب من يعقل فقال:[ هم ] ومن بعض هذا الضمير وهو للعاقل فلزم أن يقول [من] فلما قال: بوقوع التغليب في الضمير صار ما يقع عليه حكمه حكم العاقلين فتمم ذلك بأن أوقع [من].
وقوله تعالى حاكيا عن السماء والأرض: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} ، إنما جمعهما جمع السلامة، ولم يقل [طائعين] ولا [طائعات] لأنه أراد: ائنيا بمن فيكم من الخلائق طائعين فخرجت الحال على لفظ الجمع وغلب من يعقل من الذكور.
وقال بعض النحويين: لما أخبر عنهما أنهما يقولان كما يقول الآدميون أشبهتا الذكور من بني آدم. وإنما قال: [طائعين] ولم يقل: [مطيعين] لنه من طعنا أي أنقدنا وليس من أطعنا يقال طاعت الناقة تطوع طوعا إذا انقادت.
وقوله تعالى: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} ، قيل: أوقع [ما] لأنها تقع على أنواع من يعقل لأنه إذا اجتمع من يعقل ومالا يعقل فغلب مالا يعقل كان الأمر بالعكس ويناقضه {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}.
وقال الزمخشري جاء بـ[ما] تحقيرا لشأنهم وتصغيرا قال:[ له قانتون] تعظيم.
ورد عليه ابن الضائع بصحة وقوعها على الله عز وجل قال: وهذا غاية الخطأ، وقوله في دعاء الأصنام: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ}.
وقوله: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} وأما قوله: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} وقوله: {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ}.
{إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}.
{لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا}.{يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ}.
لما أخبر عنها باخبار الآدميين جرى ضميرها على حد من يعقل وكذا البواقي.
فإن قيل: فقد غلب غير العاقل على العاقل في قوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ} فإنه لو غلب العاقل على غير العاقل لآتى بـ[مَن].
فالجواب أن هذا الموضع غلب فيه من يعقل وعبر عن ذلك ب ما لأنها واقعة على أجناس من يعقل خاصة كهذه الآية.
قوله: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ} ولم يقل [ومن فيهن] قيل: لأن كلمة [ما] تتناول الأجناس كلها تناولا عاما باصل الوضع و[من] لا تتناول غير العقلاء بأصل الوضع فكان استعمال [ما] هنا أولى.
وقد يجتمع في لفظ واحد تغليب المخاطب على الغائب والعقلاء على غيرهم، كقوله: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ} ، أي خلق لكم أيها الناس من جنسكم ذكورا وإناثا وخلق الأنعام أيضا من أنفسها ذكورا وإناثا يذرؤكم أي ينبتكم ويكثركم أيها الناس والأنعام في هذا التدبير والجعل فهو خطاب للجميع للناس المخاطبين وللأنعام المذكور بلفظ الغيبة ففيه تغليب المخاطب على الغائب وإلا لما صح ذكر الجميع - أعنى الناس والأنعام - بطريق الخطاب لأن الأنعام غيب [وفيه] تغليب العقلاء على غيرهم وإلا لما صح خطاب الجمع بلفظ [كم] المختص بالعقلاء ففي لفظ [كم] تغليبان ولولا التغليب لكان القياس أن يقال: يذرؤكم وإياها هكذا قرره السكاكي والزمخشري.
ونوزعا فيه بأن جعل الخطاب شاملا للأنعام تكلف لا حاجة إليه لأن الغرض إظهار القدرة وبيان الألطاف في حق الناس فالخطاب مختص بهم والمعنى: يكثركم.
أيها الناس في التدبير حيث مكنكم من التوالد والتناسل وهيأ لكم من مصالحكم ما تحتاجون إليه في ترتيب المعاش وتدبير التوالد وجعلها أزواجا تبقى ببقائكم وعلى هذا يكون التقدير: وجعل لكم من الآنعام أزواجا وهذا أنسب بنظم الكلام مما قرروه وهو جعل الأنعام أنفسها أزواجا.
وقوله: {يَذْرَأُكُمْ فِيهِ} أي في هذا التدبير، كأنه محل لذلك ولم يقل [به] كما قال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} لأنه مسوق لإظهار الاقتدار مع الوحدانية فأسقط السببية وأثبت [في] الظرفية وهذا وجه من إعجاز قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} لأن الحياة من شأنها الاستناد إليه سبحانه لا إلى غيره فاختيرت [في] على الباء لأنه مسوق لبيان الترغيب والمعنى مفهوم والقصاص مسوق للتجويز وحسن المشروعية، {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.
الرابع: تغليب المتصف بالشيء على ما لم يتصف به.
كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} قيل: غلب غير المرتابين علىالمرتابين واعترض بقوله تعالى: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وهذا خطاب للكفار فقط قطعا فهم المخاطبون أولا بذلك ثم إن كنتم صادقين لا يتميز فيها التغليب ثم هي شاهدة بأن المتكلم معهم يخص.
الجاحدين بقوله :{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وإذا لم يكن الخطاب إلا فيهم فتغليب حال من لم يدخل في الخطاب لا عهد به في مخاطبات العرب.
الخامس: تغليب الأكثر على الأقل.
بأن ينسب إلى الجميع وصف يختص بالأكثر كقوله تعالى: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} أدخل شعيب عليه السلام في قوله :{لَتَعُودُنَّ} بحكم التغليب، إذ لم يكن في ملتهم أصلا حتى يعود إليها ومثله قوله :{إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} ، واعترض بأن عاد بمعنى صار لغة معروفة، وأنشدوا:
فإن تكن الأيام أحسن مرة ... إلى فقد عادت لهن ذنوب
ولا حجة فيه لجواز أن يكون ضمير الأيام فاعل عادت وإنما الشاهد في قول أمية:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
ويحتمل جوابا ثالثا وهو أن يكون قولهم لشعيب ذلك من تعنتهم وبهتانهم وادعائهم أن شعيبا كان على ملتهم لا كما قال فرعون لموسى. وقوله: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا} كناية عن أتباعه لمجرد فائدتهم وأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن قال ذلك عن نفسه وأتباعه فقد استثنى والمعلق بالمشيئة لايلزم إمكانه شرعا تقديرا والاعتراف بالقدرة والرجوع لعلمه سبحانه وأن علم العبد عصمة نفسه أدبا مع ربه لاشكا.
ويجوز أن يراد بالعود في ملتهم مجرد المساكنة والاختلاط بدليل قوله: {إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا}. ونظيره: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ويكون ذلك إشارة إلى الهجرة عنهم وترك الإجابة لهم لا جوابا لهم. وفيه بعد.
السادس: تغليب الجنس الكثير الأفراد على فرد من غير هذا الجنس مغموز فيما بينهم بأن يطلق اسم الجنس على الجميع.
كقوله: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ} وأنه عد منهم مع أنه كان من الجن تغليبا لكونه جنيا واحدا فيما بينهم ولأن حمل الاستثناء على الاتصال هو الأصل. ويدل على كونه من غير الملائكة ما رواه مسلم في صحيحه: " خلقت الملائكة من نور والجن من النار ".
وقيل: إنه كان ملكا فسلب الملكية وأجيب عن كونه من الجن بأنه اسم لنوع من الملائكة.
قال الزمخشري: كان مختلطا بهم فحينئذ عمته الدعوة بالخلطة لا بالجنس فيكون من تغليب الأكثر.
هذا إن جعلنا الاستثناء متصلا ولم يجعل [إلا] بمعنى [لكن].
وقال ابن جنى في [ القد ]: قال أبو الحسن في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وإنما المتخذ عيسى دون أمه فهو من باب:
*لنا قمراها والنجوم الطوالع*
السابع: تغليب الموجود على ما لم يوجد.
كقوله: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} قال الزمخشري: فإن المراد: المنزل كله وإنما عبر عنه بلفظ المضى وإن كان بعضه مترقبا تغليبا للموجود على ما لم يوجد.
الثامن: تغليب الإسلام.
كقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ} قاله الزمخشري: لأن الدرجات للعلو والدركات للسفل فاستعمل الدرجات في القسمين تغليبا.
التاسع: تغليب ما وقع بوجه مخصوص على ما وقع بغير هذا الوجه.
كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} ذكر الأيدي لأن أكثر الأعمال.
نزاول بها فحصل الجمع بالواقع بالأيدي تغليبا أشار إليه الزمخشري في آخر آل عمران.
ويشاكله ما أنشده الغزنوي في "العامريات" لصفية بنت عبد المطلب:
فلا والعاديات غداة جمع
بأيديها إذا سطع الغبار
العاشر: تغليب الأشهر.
كقوله تعالى: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} أراد المشرق والمغرب فغلب المشرق لأنه أشهر الجهتين قاله ابن الشجري وسيأتي فيه وجه آخر.

[ البرهان في علوم القرآن ( 3 / 215 ـ 311 )]


رد مع اقتباس
  #11  
قديم 12 ذو القعدة 1430هـ/30-10-2009م, 06:31 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي

فائدتان:.
أحداهما: جميع باب التغليب من المجاز لأن اللفظ لم يستعمل فيما وضع له ألا ترى أن القانتين موضوع للذكور الموصوفين بهذا الوصف فإطلاقه على الذكور والإناث على غير ما وضع له وقس على هذا جميع الأمثلة السابقة.
الثانية: الغالب من التغليب أن يراعى الأشرف كما سبق ولهذا قالوا في تثنية الأب والأم: أبوان وفي تثنية المشرق والمغرب: المشرقان لأن الشرق دال على الوجود والغرب دال على العدم والوجود لا محالة أشرف وكذلك القمران، قال:
*لنا قمراها والنجوم الطوالع*
أراد الشمس والقمر فغلب القمر لشرف التذكير وأما قولهم سنة العمرين، يريدون.
أبا بكر وعمر قال ابن سيده في "المحكم": إنما فعلوا ذلك إيثارا للخفة أي غلب الأخف على الأثقل لأن لفظ [عمر] مفرد ولفظ أبي بكر مركب.
وذكر أبو عبيدة في غريب الحديث أن ذلك للشهرة وطول المدة.
وذكر غيرهما أن المراد به عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وعلى هذا فلا تغليب.
ورد بأنهم نطقوا بالعمرين قبل أن يعرفوا عمر بن عبد العزيز فقالوا يوم الجمل لعلي بن أبي طالب: سنة العمرين.

الالتفات .
وفيه مباحث:.
الأول: في حقيقة .
وهو نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب آخر تطرية واستدرارا للسامع وتجديدا لنشاطه وصيانة لخاطره من الملال والضجر بدوام الأسلوب الواحد على سمعه كما قيل:
لا يصلح النفس إن كانت مصرفة ... إلا التنقل من حال إلى حال
قال حازم في "منهاج البلغاء": وهم يسأمون الاستمرار على ضمير متكلم أو ضمير مخاطب فينتقلون من الخطاب إلى الغيبة وكذلك ايضا يتلاعب المتكلم بضميره فتارة يجعله تاء على جهة الإخبار عن نفسه وتارة يجعله كافا فيجعل نفسه مخاطبا وتارة يجعله هاء فيقيم نفسه مقام الغائب. فلذلك كان الكلام المتوالي فيه ضمير المتكلم والمخاطب لا يستطاب وإنما يحسن الانتقال من بعضها إلى بعض وهو نقل معنوي لا لفظي وشرطه أن يكون الضمير في المتنقل إليه عائدا في نفس الأمر إلى الملتف عنه ليخرج نحو أكرم زيدا وأحسن إليه فضمير أنت الذي هو في أكرم غير الضمير في إليه.
واعلم أن للمتكلم والخطاب والغيبة مقامات والمشهور أن الالتفات هو الانتقال من أحدها إلى الآخر بعد التعبير بالأول.
وقال السكاكي: إما ذلك وإما التعبير بأحدهما فيما حقه التعبير بغيره.
البحث الثاني في أقسامه.
وهي كثيرة:.
الأول: الالتفات من التكلم إلى الخطاب .
ووجهه حث السامع وبعثه على الاستماع حيث أقبل المتكلم عليه وأنه أعطاه فضل عنايةوتخصيص بالمواجهة كقوله تعالى: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، الأصل: "وإليه أرجع" فالتفت من التكلم إلى الخطاب وفائدته أنه أخرج الكلام في معرض مناصحته لنفسه وهو يريد نصح قومه تلطفا وإعلاما أنه يريده لنفسه ثم التفت إليهم لكونه في مقام تخويفهم ودعوتهم إلى الله.
وأيضا فإن قومه لما أنكروا عليه عبادته لله أخرج الكلام معهم بحسب حالهم فاحتج عليهم بأنه يقبح منه أنه لا يعبد فاطره ومبدعه ثم حذرهم بقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
لذا جعلوه من الالتفات وفيه نظر لأنه إنما يكون منه إذا كان القصد الإخبار عن نفسه في كلتا الجملتين وهاهنا ليس كذلك لجواز أن يكون أراد بقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} الخاطبين ولم يرد نفسه ويؤيده ضمير الجمع ولو أراد نفسه لقال:[ نرجع].
وأيضا فشرط الالتفات أن يكون في جملتين و[ فطرني ] [ وإليه ترجعون ] كلام واحد.
وأجيب بأنه لو كان المراد بقوله:[ ترجعون ] ظاهره لما صح الاستفهام الإنكاري، لأن رجوع العبد إلى مولاه ليس بمعنى أن يعبده غير ذلك الراجع فالمعنى: كيف أعبد من إليه رجوعي وإنما ترك [ وإليه أرجع ]إلى [ وإليه ترجعون ] لأنه داخل فيهم.
ومع ذلك أفاد فائدة حسنة وهي أنه نبههم أنهم مثله في وجوب عبادة من إليه الرجوع فعلى هذا الواو للحال وعلى الأول واو العطف.
ومنه قوله: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} عدل عن قوله: {رَحْمَةً مِنَّا} إلى قوله: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} لما فيه من الإشعار بأن ربوبيته تقتضي رحمته وأنه رحيم بعبده كقوله: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ}.
وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ} {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} وهو كثير.
وقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} ولم يقل:[ لنغفر لك ] تعليقا لهذه المغفرة التامة باسمه المتضمن لسائر أسمائه الحسنى ولهذا علق به النصر فقال: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً}.
الثاني: من التكلم إلى الغيبة.
ووجهه أن يفهم السامع أن هذا نمط المتكلم وقصده من السامع حضر أو غاب،.
وأنه في كلامه ليس ممن يتلون ويتوجه فيكون في المضمر ونحوه ذا لونين وأراد بالانتقال إلى الغيبة الإبقاء على المخاطب من قرعه في الوجه بسهام الهجر فالغيبة أروح له وأبقى على ماء وجهه أن يفوت كقوله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ} حيث لم يقل: [ لنا ] تحريضا على فعل الصلاة لحق الربوبية.
وقوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
وقوله: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} إلى قوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} ولم يقل:[ بي ].و.

له فائدتان:.
إحداهما: دفع التهمة عن نفسه بالعصبية لها، والثاني : تنبيههم على استحقاقه الاتباع بما اتصف به من الصفات المذكورة من النبوة والأمية التي هي أكبر دليل على صدقه وأنه لا يستحق الاتباع لذاته بل لهذه الخصائص.
الثالث: من الخطاب إلى التكلم.
كقوله: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا}، وهذا إنما يتمشى على قول من لم يشترط أن يكون المراد بالالتفات واحدا فأما من اشترطه فلا يحسن أن يمثل به ويمكن أن يمثل بقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} على أنه سبحانه نزل نفسه منزلة المخاطب

الرابع: من الخطاب إلى الغيبة .
كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} فقد التفت عن {كُنْتُمْ} إلى {جَرَيْنَ بِهِمْ} وفائدة العدول عن خطابهم إلى حكاية حالهم لغيرهم لتعجبه من فعلهم وكفرهم إذ لو استمر علىخطابهم لفاتت تلك الفائدة.
وقيل: لأن الخطاب أولا كان مع الناس مؤمنهم وكافرهم بدليل قوله: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} فلو قال:[ وجرين بكم ] للزم الذم للجميع فالتفت عن الأول للإشارة إلى الاختصاص بهؤلاء الذين شأنهم ما ذكره عنهم في آخر الآية فعدل عن الخطاب العام إلى الذم الخاص ببعضهم وهم الموصوفون بما أخبر به عنهم.
وقيل: لأنهم وقت الركوب حصروا لأنهم خافوا الهلاك وتقلب الرياح فناداهم نداء الحاضرين ثم أن الرياح لما جرت بما تشتهي النفوس وأمنت الهلاك لم يبق حضورهم كما كان على ما هي عادة الإنسان أنه إذا أمن غاب فلما غابوا عند جريه بريح طيبة فكرهم الله بصيغة الغيبة فقال :{وَجَرَيْنَ بِهِمْ}.
وقوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} ثم قال: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} فانتقل عن الخطاب إلى الغيبة ولو ربط بما قبله لقال:" يطاف عليكم" لأنه مخاطب لا مخبر ثم التفت فقال: {وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فكرر الالتفات.
وقوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}

وقوله: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}.
وقوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} والأصل [فقطعتم] عطفا على ما قبله لكن عدل من الخطاب إلى الغيبة فقيل إنه سبحانه نعى عليهم ما أفسدوه من أمر دينهم إلى قوم آخرين ووبخهم عليه قائلا: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله لم !.
وجعل منه ابن الشجري: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} وقد سبق أنه على حذف المفعول فلا التفات.
الخامس: من الغيبة إلى التكلم.
كقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}.
{وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا}.
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً}.
وقوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ} وفائدته أنه لما كان سوق السحاب إلى البلد إحياء للأرض بعد موتها بالمطر دالا على القدرة الباهرة والآية العظيمة التي لا يقدر عليها غيره عدل عن لفظ الغيبة إلى التكلم لأنه أدخل في الاختصاص وأدل عليه وأفخم.
وفيه معنى آخر وهو أن الأقوال المذكورة في هذه الآية منها ما أخبر به سبحانه بسببه وهو سوق السحاب فإنه يسوق الرياح فتسوقه الملائكة بأمره وإحياء الأرض به بواسطة إنزاله وسائر الأسباب التي يقتضيها حكمه وعلمه. وعادته سبحانه في كل هذه الأفعال أن يخبر بها بنون التعظيم الدالة على أن له جندا وخلقا قد سخرهم في ذلك كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي إذا قرأه رسولنا جبريل. وقوله: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً}.
وأما إرسال السحاب فهو سحاب يأذن في إرسالها ولم يذكر له سببا بخلاف سوق السحاب وإنزال المطر فإنه قد ذكر أسبابه: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ}.
وجعل الزمخشري منه قوله: في سورة طه: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى}: وزعم الجرجاني أن في هذه الآية التفاتا وجعل قوله: { وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} آخر كلام موسى ثم ابتدأ الله تعالى فأخبر عن نفسه بأوصافه لمعالجتها.
وأشار الزمخشري إلى أن فائدة الالتفات إلى التكلم في هذه المواضع التنبيه على التخصيص بالقدرة وأنه لا يدخل تحت قدرة واحد وهو معنى قول غيره إن الإشارة إلى حكاية الحال واستحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة. وكذا يفعلون لكل فعل فيه نوع تمييز وخصوصية بحال تستغرب أو تهم المخاطب وإنما قال: {فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} لإفادة بقاء المطر زمانا بعد زمان.
ومثله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} ، عدل عن الغيبة في[ قضاهن ] و[ سواهن ] إلى التكلم في قوله: {وَزَيَّنَّا}، فقيل للاهتمام بذلك والإخبار عن نفسه بأنه جعل الكوكب زينة السماء الدنيا وحفظا تكذيبا لمن أنكر ذلك.
وقيل: لما كانت الأفعال المذكورة في هذه الآية نوعين:.
أحدهما : وجه الإخبار عنه بوقوعه في الأيام المذكورة وهو خلق الأرض في يومين وجعل الرواسي من فوقها وإلقاء البركة فيها وتقدير الأقوات في تمام أربعة أيام ثم الإخبار بأنه استوى إلى السماء وأنه أتمها وأكملها سبعا في يومين فأتى في هذا النوع بضمير الغائب عطفا على أول الكلام في قوله: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} إلى قوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} الآية.
والثاني: قصد به الإخبار مطلقا من غير قصد مدة خلقه وهو تزيين سماء الدنيا بمصابيح وجعلها حفظا فإنه لم يقصد بيان مدة ذلك بخلاف ما قبله فإن نوع الأول يتضمن إيجادا لهذه المخلوقات العظيمة في هذه المدة اليسيرة وذلك من أعظم آثار قدرته. وأما تزيين.
السماء الدنيا بالمصابيح فليس المقصود به الإخبار عن مدة خلق النجوم فالتفت من الغيبة إلى التكلم فقال: {زَيَّنَّا}.

فائدة في تكرار الالتفات في موضع واحد
وقد تكرر الالتفات في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} في أربعة مواضع، فانتقل عن الغيبة في قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}، إلى التكلم في قوله: {بَارَكْنَا حَوْلَهُ} ثم عن التكلم إلى الغيبة في قوله:{ليريه} بالياء على قراءة الحسن ثم عن الغيبة إلى التكلم في قوله: {آياتنا} ثم عن التكلم إلى الغيبة في قوله: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
وكذلك في الفاتحة فإن من أولها إلى قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أسلوب غيبة ثم التفت بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إلى أسلوب خطاب في قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ثم التفت إلى الغيبة بقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ولم يقل[ الذين غضبت ] كما قال: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}.
السادس: من الغيبة إلى الخطاب.
كقوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} ولم يقل: [ لقد جاءوا ] للدلالة على أن من قال مثل قولهم ينبغي أن يكون موبخا علهي منكرا عليه قوله كأنه يخاطب به قوما حاضرين.
وقوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ} ثم قال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا}.
وقوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً}.
وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ}.
وقوله: {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ}.
وقوله: {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل} ثم قال: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً}.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ } الآية.
وقوله: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى}.
وقوله: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}.
وقوله: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ}.
وقوله حكاية عن الخليل: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ .إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} إلى قوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ}.
وقوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً}.
وقوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} إلى قوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}.
وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ..} الآية.
وجعل بعضهم منه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} ، وهو عجيب لأن [الذين] موصول لفظه للغيبة ولا بد له من عائد وهو الضمير في [آمنوا] فكيف يعود ضمير مخاطب على غائب ! فهذا مما لا يعقل.
وقوله: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، فقد التفت عن الغيبة وهو [مالك] إلى الخطاب وهو [إياك نعبد].
ولك أن تقول: إن كان التقدير: قولوا الحمد لله ففيه التفاتان - أعنى في الكلام المأمور به:.
أحدهما : في لفظ الجلالة فإن الله تعالى حاضر فأصله الحمد لك.
والثاني:[ إياك ] لمجيئه على خلاف الاسلوب السابق وإن لم يقدر: [قولوا] كان في [الحمد لله] التفات عن التكلم إلى الغيبة فإن الله سبحانه حمد نفسه ولا يكون في { إياك نعبد} التفات لأن [قولوا] مقدرة معها قطعا فإما أن يكون في الآية التفات أو لا التفات بالكلية.
السابع: بناء الفعل للمفعول بعد خطاب فاعله أو تكلمه.
فيكون التفاتا عنه كقوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} بعد { أَنْعَمْتَ} فإن المعنى: غير الذين غضبت عليهم. ذكره التنوخي في "الأقصى القريب" والخفاجي وابن الأثير وغيرهم.
واعلم أنه على رأى السكاكي تجيء الأقسام الستة في القسم الاخير وهو الانتقال التقديري.
وزعم صحاب "ضوء المصباح" أنه لم يستعمل منها إلا وضع الخطاب والغيبة موضع التكلم ووضع التكلم موضع الخطاب ومثل الثالث بقوله: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي}، مكان [ وما لكم لا تعبدون الذي فطركم ].
وجعل بعضهم من الالتفات قوله تعالى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ} ثم قال: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}، وقوله: {الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}.
البحث الثالث: في أسبابه.
اعلم أن للالتفات فوائد عامة وخاصة فمن العامة التفنن والانتقال من أسلوب إلى آخر.
لما في ذلك من تنشيط السامع واستجلاب صفائه واتساع مجاري الكلام وتسهيل لوزن والقافية.
وقال البيانيون: إن الكلام إذا جاء على أسلوب واحد وطال حسن تغيير الطريقة.
ونازعهم القاضي شمس الدين بن الجوزي وقال: الظاهر أن مجرد هذا لا يكفي في المناسبة فإنا رأينا كلاما أطول في هذا والأسلوب محفوظ قال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ..} إلى أن ذكر عشرة أصناف وختم بـ {الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ}، ولم يغير الأسلوب وإنما المناسبة أن الإنسان كثير التقلب وقلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن ويقلبه كيف يشاء فإنه يكون غائبا فيحضر بكلمة واحدة وآخر يكون حاضرا فيغيب فالله تعالى لما قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تنبه السامع وحضر قلبه فقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وأما الخاصة فتختلف باختلاف محاله ومواقع الكلام فيه على ما يقصده المتكلم.
فمنها: قصد تعظيم شأن المخاطب، كما في: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فإن العبد إذا افتتح حمد مولاه بقوله: [الحمد لله] الدال على اختصاصه بالحمد وجد من نفسه التحرك للإقبال عليه سبحانه فإذا انتقل إلى قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} الدال على ربوبيته لجميعهم قوى تحركه فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الدال على أنه منعم بأنواع النعم جليلها وحقيرها تزايد التحرك عنده فإذا وصل لـ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وهو خاتمة الصافات الدالة على أنه مالك الأمر يوم الجزاء فيتأهب قربه وتيقن الإقبال عليه بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمات.
وقيل: إنما اختير للحمد لفظ الغيبة وللعبادة الخطاب للإشارة إلى أن الحمد دون العبادة في الرتبة فإنك تحمد نظيرك ولا تعبده إذ الإنسان يحمد من لا يعبده ولا يعبد من لا يحمده فلما كان كذلك استعمل لفظ الحمد لتوسطه مع الغيبة في الخبر فقال:[ الحمد لله ] ولم يقل:[ الحمد لك ] ولفظ العبادة مع الخطاب فقال: { إياك نعبد } لينسب إلى العظيم حال المخاطبة والمواجهة على ما هو أعلى رتبة وذلك على طريق التأدب. وعلى نحو من ذلك جاء آخر السورة فقال: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} مصرحا بذكر المنعم وإسناد الإنعام إليه لفظا ولم يقل:[ صراط المنعم علهيم ] فلما صار إلى ذكر الغضب روى عنه لفظ الغضب في النسبة إليه لفظا وجاء باللفظ متحرفا عن ذكر الغاضب فلم يقل غير الذين غضبت عليهم تفاديا عن نسبة الغضب في اللفظ حال المواجهة.
ومن هذا قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً}، فإن التأدب في الغيبة دون الخطاب.
وقيل: لأنه لما ذكر الحقيق بالحمد وأجرى عليه بالصفات العظيمة من كونه ربا للعالمين ورحمانا ورحيما ومالكا ليوم الدين تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بأن يكون معبودا دون غيره مستعانا به فخوطب بذلك لتميزه بالصفات المذكورة تعظيما لشأنه كله حتى كأنه قيل إياك يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة لا غيرك.
قيل: ومن لطائف التنبيه على أن مبتدأ الخلق الغيبة منهم عنه سبحانه وقصورهم عن محاضرته ومخاطبته وقيام حجاب العظمة عليهم فإذا عرفوه بما هو له وتوسلوا للقرب بالثناء عليه وأقروا بالمحامد له وتعبدوا له بما يليق بهم تأهلوا لمخاطباته ومناجاته فقالوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وفيه أنهم يبدون بين يدي كل دعاء له سبحانه ومناجاة له صفات عظمته لمخاطبته على الأدب والتعظيم لا عن الغفلة والإغفال ولا عن اللعب والاستخفاف كما يدعو بلا نية أو على تلعب وغفلة وهم كثير.
ومنه أن مناجاته لا تصعد إلا إذا تطهر من أدناس الجهالة به كما لا تسجد الإعضاء إلا بعد التطهير من حدث الأجسام ولذلك قدمت الاستعاذة على القرآن.
قال الزمخشري: وكما في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} ولم يقل:" واستغفرت لهم " [وعدل عنه إلى طريق الالتفات] لأن في هذا الالتفات بيان تعظيم استغفاره وأن شفاعة من اسمه الرسول بمكان.
ومنها: التنبيه على ما حق الكلام أن يكون واردا عليه، كقوله تعالى: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، أصل الكلام:[ وما لكم لا تعبدون الذي فطركم ] ولكنه أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه وهو يريد مناصحتهم ليتلطف بهم ويريهم أنه لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه ثم لما انقضى غرضه من ذلك قال: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ليدل على ما كان من أصل الكلام ومقتضيا له ثم ساقه هذا المساق إلى أن قال :{إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ}.
ومنها : أن يكون الغرض به التتميم لمعنى مقصود للمتكلم، فيأتي به محافظة على تتميم.
ما قصد إليه من المعنى المطلوب له، كقوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، أصل الكلام:[ إنا مرسلين رحمة منا ] ولكنه وضع الظاهر موضع المضمر للإنذار بأن الربوبية تقتضي الرحمة للمربوبين للقدرة عليهم أو لتخصيص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالذكر أو الإشارة إلى أن الكتاب إنما هو إليه دون غيره ثم التفت بإعادة الضمير إلى الرب الموضوع موضع المضمر للمعنى المقصود من تتميم المعنى.
ومنها: قصد المبالغة، كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} كأنه يذكرلغيرهم حالهم ليتعجب منها ويستدعي منه الإنكار والتقبيح لها إشارة منه على سبيل المبالغة إلى أن ما يعتمدونه بعد الإنجاء من البغي في الأرض بغير الحق مما ينكر ويقبح.
ومنها: قصد الدلالة على الاختصاص، كقوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ } فإنه لما كان سوق السحاب إلى البلد الميت وإحياء الأرض بعد موتها بالمطر دالا على القدرة الباهرة التي لا يقدر عليها غيره عدل عن لفظ الغيبة إلى التكلم لأنه أدخل في الاختصاص وأدل عليه: [ سقنا ] و[ أحيينا ].
ومنها: قصد الاهتمام، كقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} فعدل عن الغيبة في[ قضاهن ] و[ أوحى ] إلى التكلم في [ وزينا السماء الدنيا ] للاهتمام بالإخبار عن نفسه فإنه تعالى جعل الكواكب في سماء الدنيا للزينة والحفظ وذلك لأن طائفة اعتقدت في النجوم أنها ليست في سماء الدنيا وأنها ليست حفظا ولا رجوما فعدل إلى التكلم والإخبار عن ذلك لكونه مهما من مهمات الاعتقاد ولتكذيب الفرقة المعتقدة بطلانه.
ومنها: قصد التوبيخ، كقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً}، عدل عن الغيبة إلى الخطاب للدلالة على أن قائل مثل قولهم ينبغي أن يكون موبخا ومنكرا عليه ولما اراد توبيخهم على هذا أخبر عنه بالحضور، فقال: {لَقَدْ جِئْتُمْ} لأن توبيخ الحاضر ابلغ في الإهانة له.
ومنه قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ}، قال: {تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} دون [تقطعتم أمركم بينكم]، كأنه ينعى عليهم ما أفسدوه من أمر دينهم إلى قوم آخرين ويقبح عندهم ما فعلوه ويوبخهم عليه قائلا ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله فجعلوا أمر دينهم به قطعا تمثيلا لأخلاقهم في الدين.


[ البرهان في علوم القرآن ( 3 / 312 ـ 330) ]


رد مع اقتباس
  #12  
قديم 12 ذو القعدة 1430هـ/30-10-2009م, 06:34 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي

فائدة.
اختلف في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} بعد {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ}.
فقيل: إن الكلام تم عند قوله: {لا رَيْبَ فِيهِ} وهذا الذي بعده من مقولا لله تصديقا لهم.
وقيل: بل هو من بقية كلامهم الأول على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة كقوله: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ}.
فإن قلت: قد قال في آخر السورة: {وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}، فلم عدل عن الخطاب هنا قلت إنما جاء الالتفات في صدر السورة لأن المقام يقتضيه فإن الإلهية تقتضي الخير والشر لتنصف المظلومين من الظالمين فكان العدول إلى ذكر الاسم الأعظم أولى. وأما قوله تعالى في آخر السورة: {إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}، فذلك المقام مقام الطلب للعبد من ربه أن ينعم عليه بفضله وأن يتجاوز عن سيئاته فلم يكن فيه ما يقتضى العدول عن الأصل المستمر.
البحث الرابع: في شرطه.
تقدم أن شرط الالتفات أن يكون الضمير في المنتقل إليه عائدا في نفس الأمر إلى المنتقل عنه وشرطه أيضا أن يكون في جملتين أي كلامين مستقلين حتى يمتنع بين الشرط وجوابه.
وفي هذا الشرط نظره فقد وقع في القرآن مواضع الالتفات فيها وقع في كلام واحد وإن لم يكن بين جزأى الجملة، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي}.
وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا}.
وقوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ}، بعد قوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ} التقدير إن وهبت أمرأة نفسها للنبي إنا أحللنا لك وجملتا الشرط والجزاء كلام واحد.
وقوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ}.
وقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} وفيه التفاتان: أحدهما بين [ أرسلنا ] والجلالة، والثاني بين الكاف في[ أرسلناك ] [ ورسوله ] وكل منهما في كلام واحد.
وقوله: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ}.
وقوله: {فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً}، وجوز الزمخشري فيه أن يكون ضمير [ جزاؤكم ] يعود على[ التابعين ] على طريق الالتفات.
وقوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}، على قراءة الياء.

وقوله: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً}، قال التنوخي في" الأقصى القريب ": الواو للحال.
وقوله: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
البحث الخامس: أنه يقرب من الالتفات نقل الكلام إلى غيره.
وإنما يفعل ذلك إذا ابتلي العاقل بخصم جاهل متعصب فيجب أن يقطع الكلام معه في تلك المسألة لأنه كلما كان خوضه معه أكثر كان بعده عن القبول أشد فالوجه حينئذ أن يقطع الكلام معه في تلك المسألة وأن يؤخذ في كلام آخر أجنبي ويطنب فيه بحيث ينسى الأول فإذا اشتغل خاطره به أدرج له أثناء الكلام الأجنبي مقدمة تناسب ذلك المطلب الأول ليتمكن من انقياده.
وهذا ذكره الإمام أبو الفضل في كتاب" درة التنزيل"، وجعل منه قوله تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ}، قال: إن قوله: [ واذكر ] ليس متصلا بما قبله بل نقلا لهم عما هم عليه والمقدمة المدرجة قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} إلى قوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ}.
وهذا الذي قاله يخرج الآية عن الاتصال مع أن في الاتصال وجوها مذكورة في موضعها.
وألحق به الأستاذ أبو جعفر بن الزبير قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا..} الآية، فهذا إنكار منهم للبعث واستبعاد نحو الوارد في سورة ص، فأعقب ذلك بما يشبه الالتفات بقوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا..} إلى قوله: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}، فبعد العدول عن مجاوبتهم في قولهم: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} وذكر اختلافهم المسبب عن تكذيبهم في قوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}، صرف تعالى الكلام إلى نبيه والمؤمنين فقال: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا..} إلى قوله: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً} وذلك حكمة تدرك مشاهدة لا يمكنهم التوقف في شيء منه ولا حفظ عنهم إنكاره فعند تكرر هذا قال تعالى: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}.
ومما يقرب من الالتفات أيضا الانتقال من خطاب الواحد والاثنين والجمع إلى خطاب آخر وهو ستة أقسام كما سبق تقسيم الالتفات:.
أحدها: الانتقال من خطاب الواحد لخطاب الاثنين، كقوله تعالى: {جِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ}.
الثاني: من خطاب الواحد إلىخطاب الجمع: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}.
الثالث: من الاثنين إلى الواحد، كقوله: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى}،{فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}.
الرابع: من الاثنين إلى الجمع، كقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}، وفيه انتقال آخر من الجمع إلى الواحد فإنه ثنى ثم جمع ثم وحد توسعا في الكلام.
وحكمة التثنية أن موسى وهارون هما اللذان يقرران قواعد النبوة ويحكمان في الشريعة فخصهما بذلك ثم خاطب الجميع باتخاذ البيوت قبلة للعبادة لأن الجميع مأمورون بها ثم قال لموسى وحده:{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} لأنه الرسول الحقيقي الذي إليه البشارة والإنذار.
الخامس: من الجمع إلى الواحد، كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} وقد سبق حكمته. ومن نظائره قول بعضهم في قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً } ثم قال: {إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} ، ولم يقل [منا] مع أنه للجمع أو للواحد المعظم نفسه وحكمته المناسبة للواقع فالهدى لا يكون إلا من الله فناسب الخاص للخاص.
السادس : من الجمع إلى التثنية، كقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا} إلى قوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
السابع: ذكر بعضهم من الالتفات تعقيب الكلام بجملة مستقلة ملاقية له في المعنى على طريق المثل أو الدعاء، فالأول كقوله: {وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} والثاني كقوله: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}.
الثامن: من الماضي إلى الأمر، كقوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ} وقوله: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} التاسع: من المستقبل إلى الأمر، تعظيما لحال من أجرى عليه المستقبل. وبالضد من ذلك في حق من أجرى عليه الأمر، كقوله تعالى: {يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} إلى قوله: {بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} فإنه أنما قال: {أُشْهِدُ اللَّهَ} ،و {اشْهَدُوا} ولم يقل [ وأشهدكم ] ليكون موازنا له ولا شك أن معنى إشهاد الله على البراءة صحيح في معنى يثبت التوحيد بخلاف إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم ودلالة على قلة المبالاة به فلذلك عدل عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما وجىء به على لفظ الأمر كما تقول للرجل منكرا أشهد على أني أحبك.
العاشر: من الماضي إلى المستقبل، نحو: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ}،{فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ}،{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
والحكمة في هذه أن الكفر لما كان من شأنه إذا حصل أن يستمر حكمه عبر عنه بالماضي ليفيد ذلك مع كونه نافيا أنه قد مضى عليه زمان ولا كذلك الصد عن سبيل الله فإن حكمه إنما ثبت حال حصوله مع أن في الفعل المستقبل إشعارا بالتكثير،.
فيشعر قوله: {وَيَصُدُّونَ} أنه في كل وقت بصدد ذلك ولو قال وصدوا لأشعر بانقطاع صدهم.
الحادي عشر: عكسه، كقوله: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ}،{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ}.
قالوا: والفائدة في الفعل الماضي إذا أخبر به عن المستقبل الذي لم يوجد أنه أبلغ وأعظم موقعا لتنزيله منزلة الواقع والفائدة في المستقبل إذا أخبر به عن الماضي لتتبين هيئة الفعل باستحضار صورته ليكون السامع كأنه شاهد وإنما عبر في الأمر بالتوبيخ بالماضي بعد قوله: [ ينفخ ] للإشعار بتحقيق الوقوع وثبوته وأنه كائن لا محالة كقوله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً} والمعنى: يبرزون، وإنما قال: [ وحشرناهم ] بعد [نسير ] [ وترى ] وهما مستقبلان لذلك.
التضمين.
وهو إعطاء الشيء معنى الشيء وتارة يكون في الاسماء وفي الأفعال وفي الحروف فأما في الأسماء فهو أن تضمن اسما معنى اسم لإفادة معنى الاسمين جميعا كقوله تعالى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} ضمن حقيق معنى حريص ليفيد أنه محقوق بقول الحق وحريص عليه.
وأما الأفعال فأن تضمن فعلا معنى فعل آخر ويكون فيه معنى الفعلين جميعا وذلك بأن يكون الفعل يتعدى بحرف فيأتي متعديا بحرف آخر ليس من عادته التعدي به فيحتاج إما إلى تأويله أو تأويل الفعل ليصح تعديه به.
واختلفوا أيهما أولى فذهب أهل اللغة وجماعة من النحويين إلى أن التوسع في الحرف وأنه واقع موقع غيره من الحروف أولى.
وذهب المحققون إلى أن التوسع في الفعل وتعديته بما لا يتعدى لتضمنه معنى ما يتعدى بذلك الحرف أولى لأن التوسع في الأفعال أكثر.
مثاله قوله تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} فضمن [ يشرب ] معنى [ يروي ] لأنه لا يتعدى بالباء فلذلك دخلت الباء وإلا فـ[يشرب] يتعدى بنفسه فأريد باللفظ الشرب والري معا فجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد.
وقيل التجوز في الحرف وهو الباء فإنها بمعنى [من].
وقيل لا مجاز أصلا بل العين هاهنا إشارة إلى المكان الذي ينبع منه الماء، لا إلى الماء نفسه نحو نزلت بعين فصار كقوله: مكانا يشرب به.
وعلى هذا: {فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ}، قاله الراغب.
وهذا بخلاف المجاز فإن فيه العدول عن مسماه بالكلية ويراد به غيره كقوله: {جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} ، فإنه استعمل [ أراد ] في معنى مقاربة السقوط لأنه من لوازم الإرادة وإن من أراد شيئا فقد قارب فعلهولم يرد باللفظ هذا المعنى الحقيقي الذي هو الإرادة البتة. والتضمين أيضا مجاز لأن اللفظ لم يوضع للحقيقة والمجاز معا والجمع بينهما مجاز خاص يسمونه بالتضمين تفرقه بينه وبين المجاز المطلق.
ومن التضمين قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} لأنه لا يقال: رفثت إلى المرأة لكن لما كان بمعنى الإفضاء ساغ ذلك.
وهكذا قوله: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} وإنما يقال: هل لك في كذا ؟ لكن المعنى أدعوك إلى أن تزكى.
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}، فجاء بـ[من] لأنه ضمن التوبة معنى العفو والصفح.
وقوله : {إِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} ، وإنما يقال: خلوت به لكن ضمن [ خلوا ] معنى [ ذهبوا ] [ وانصرفوا ] وهو معادل لقوله لقوا وهذا أولى من قول من قال: إن [ إلى ] هنا بمعنى [الباء] أو بمعنى [مع].
وقال مكي: إنما لم تأت الباء لأنه يقال خلوت به إذا سخرت منه فأتى بـ[إلى] لدفع هذا الوهم.
وقوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}، قيل: الصراط منصوب على المفعول به أي لألزمن لك صراطك أو لأملكنه لهم و[ أقعد ] وإن كان غير متعد ضمن معنى فعل متعد.
وقوله: {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ}، ضمن [تعد] معنى [تنصرف] فعدى بـ[من] قال ابن الشجري: ومن زعم أنه كان حق الكلام " لا تعد عينيك عنهم " بالنصب لأن تعد متعد بنفسه فباطل لأن عدوت وجاوزت بمعنى واحد. وأنت لا تقول: جاوز فلان عينه عن فلان ولو كانت التلاوة بنصب العين لكان اللفظ يتضمنها محمولا ايضا على لا تصرف عينك عنهم وإذا كذلك فالذي وردت به التلاوة من رفع العين يئول إلى معنى النصب فيها إذ كان [لا تعد عيناك] بمنزلة [لا تنصرف] ومعناه لا تصرف عينك عنهم فالفعل مسند إلى العين وهو في الحقيقة موجه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال: {وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ} اسند الإعجاب إلى الأموال والمعنى لا تعجب بأموالهم.
وقوله: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}، ضمن معنى [ لتدخلن ] أو [ لتصيرن ] أما قول شعيب: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا} فليس اعترافا بأنه كان فيهم بل مؤول على ما سبق وتأويل آخر وهو أن يكون من نسبة فعل البعض إلى الجماعة أو قال على طريق المشاكلة لكلامهم وهذا أحسن.
وقوله: {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} ضمن [ لا تشرك ] معنى [ لا تعدل ] والعدل: التسوية أي لا تسوى به شيئا.
وقوله: {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} ضمن معنى [ أنابوا ] فعدى بحرفه.
وقوله: {إِِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} ضمن {لَتُبْدِي بِهِ} معنى [ تخبر به ] أو [ لتعلم ] ليفيد الإظهار معنى الإخبار لأن الخبر قد يقع سرا غير ظاهر.
وقوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} جوز الزمخشري نصب {مَقَاماً} على الظرف على تضمين {يَبْعَثَكَ} معنى يقيمك.
وقوله: {فأجمعوا أمركم وشركاءكم}، قال الفارسي: ومن قرأ { فَأَجْمِعُوا } بالقطع أراد فاجمعوا أمركم وشركاءكم كقوله:
*متقلدا سيفا ورمحا*
وقوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ}، قال ابن سيده: عداه بـ[من] لأنه في معنى كشف الفزع.
وقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}، فإنه يقال ذل له لا عليه ولكنه هنا ضمن معنى التعطف والتحنن.
وقوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} ضمن {يُؤْلُونَ} معنى [ يمتعنون ] من وطئهن بالآلية.
وقوله: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلأِ الأَعْلَى} أي لا يصغون.
{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} أي أنزل.
{فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} أي أحل له.
{وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي مميزك.
{إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} أي لا يرضى.
{اسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} أي أنيبوا إليه وارجعوا.
{هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} أي زال.
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} فإنه يقال: خالفت زيدا من غير احتياج لتعديه بالجار وإنما جاء محمولا على [ ينحرفون ] أو[ يزيغون ].
ومثله تعدية [رحيم] بالباء في نحو: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} حملا على [رءوف] في نحو: {رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ألا ترى أنك تقول: رأفت به ولا تقول رحمت به ولكن لما وافقه في المعنى تنزل منزلته في التعدية.
وقوله: {إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ضمن معنى سائل.
{الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} قال الزمخشري: ضمن معنى [ تحاملوا ] فعداه بـ[على] والأصل فيه من.

تنبيهان:.
الأول: الأكثر أن يراعى في التعدية ما ضمن منه وهو المحذوف لا المذكور كقوله تعالى: {الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} أي الإفضاء.
وقوله: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} أي يروى بها وغيره مما سبق.
ولم أجد مراعاة الملفوظ به إلا في موضعين: أحدهما قوله تعالى: {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} على قول ابن الضائع أنه ضمن [ يقال ] معنى [ ينادي ] و[ إبراهيم ] نائب عن الفاعل وأورد على نفسه كيف عدى باللام والنداء لا يتعدى به وأجاب بأنه روعي الملفوظ به وهو القول لأنه يقال: قلت له.
الثاني: قوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ}، فإنه قد يقال: كيف يتعلق التكليف بالمرضع ؟ فأجيب بأنه ضمن [حرم] المعنى اللغوي وهو المنع. فاعترض كيف عدى بـ[علي] والمنع لا يتعدى به فأجيب بأنه روعي صورة اللفظ.
الثالث: أن التضمين يطلق على غير ما سبق قال القاضي أبو بكر في كتاب:" إعجاز القرآن" هو حصول معنى فيه من غير ذكره له باسم [أو صفة ] هي عبارة عنه ثم قسمه إلى قسمين أحدهما ما يفهم من البنية كقولك معلوم فإنه يوجب أنه لا بد من عالم.
والثاني من معنى العبارة [من حيث لا يصح إلا به] كالصفة فضارب يدل على مضروب.
قال: والتضمين كله إيجاز، قال: وذكر أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} من باب التضمين لأنه تضمن تعليم الاستفتاح في الأمور باسمه على جهة التعظيم لله تعالى أو التبرك باسمه.
وذكر ابن الاثير في كتاب:" المعاني المتبدعة " أن التضمين واقع في القرآن خلافا لماأجمع عليه أهل البيان وجعل منه قوله تعالى في الصافات: {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ الأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}.
ويطلق التضمين أيضا على إدراج كلام الغير في أثناء الكلام لتأكيد المعنى،.
أو لترتيب النظم ويسمى الإبداع كإبداع الله تعالى في حكايات أقوال المخلوقين كقوله تعالى حكاية عن قول الملائكة: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}.
ومثل ما حكاه عن المنافقين: {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}.
وقوله: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ}.
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ}.
{وَقَالَتِ النَّصَارَى}. ومثله في القرآن كثير.
وكذلك ما أودع في القرآن من اللغات الأعجمية.
ويقرب من التضمين في إيقاع فعل موقع آخر إيقاع الظن موقع اليقين في الأمور المحققة، كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ}.
{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ}.
{وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا}.
{وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ}.
{وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ}.
وشرط ابن عطية في ذلك ألا يكون متعلقة حسيا كما تقول العرب في رجل يرى حاضرا: أظن هذا إنسانا وإنما يستعمل ذلك فيما لم يخرج إلى الحس بعد كالآيات السابقة.
قال الراغب في "الذريعة": الظن إصابة المطلوب بضرب من الإمارة متردد بين يقين وشك فيقرب تارة من طرف اليقين وتارة من طرف الشك فصار أهل اللغة يفسرونه بهما فمتى رئي إلى طرف اليقين أقرب استعمل معه أن المثقلة والمخففة فيهما كقوله تعالى: { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ} {وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ}.
ومتى رئي إلى الشك أقرب استعمل معه أن التي للمعدومين من الفعل نحو ظننت أن يخرج.
قال: وإنما استعمل الظن بمعنى العلم في قوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} لأمرين:.
أحدهما: للتنبيه على أن علم أكثر الناس في الدنيا بالنسبة إلى علمهم في الآخرة كالظن في جنب العلم.
والثاني: أن العلم الحقيقي في الدنيا لا يكاد يحصل إلا للنبيين والصديقين المعنيين بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} والظن متى كان عن أمارة قوية فإنه يمدح به ومتى كان عن تخمين لم يمدح به كما قال تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}.
وجوز أبو الفتح في قوله: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} أن يكون المراد بها اليقين وأن تكون على بابها وهو أقوى في المعنى أي فقد يمنع من هذا التوهم فكيف عند تحقيق الأمر فهذا أبلغ كقوله: " يكفيك من شر سماعه " أي لو توهم البعث والنشور وما هناك من عظم الأمر وشدته لاجتنب المعاصي فكيف عند تحقق الأمر ! وهذا أبلغ.
وقيل: آيتا البقرة بمعنى الاعتقاد والباقي بمعنى اليقين والفرق بينهما أن الاعتقاد يقبل التشكيك بخلاف اليقين وإن اشتركا جميعا في وجوب الجزم بهما.
وكذلك قوله: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ}.
وقد جاء عكسه وهو التجوز عن الظن بالعلم، كقوله تعالى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا}، ولم يكن ذلك علما جازما بل اعتقادا ظنيا.
وقوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وكان يحكم بالظن وبالظاهر.
وقوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} وإنما يحصل بالامتحان في الحكم ووجه التجوز أن بين الظن والعلم قدرا مشتركا وهو الرجحان فتجوز بأحدهما عن الآخر.
وضع الخبر موضع الطلب في الأمر والنهي.
كقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ}.
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ}.
{سَلامٌ عَلَيْكُمْ}.
{الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ}.
وقوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} الآية، ولهذا جعلها العلماء من أمثلة الواجب.
{فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} على قراءة نافع أي لا ترفثوا ولا تفسقوا.
{وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} ، قالوا: هو خبر وتأويله نهى أي لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله كقوله: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} وكقوله: {لا تُضَارُّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} على قراءة الرفع وقيل إنه نهى مجزوم أعنى – قوله: {لا يَمَسُّهُ}- ولكن ضمت إتباعا للضمير كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ".
وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} ضمن {لا تَعْبُدُونَ} معنى: لا تعبدوا، بدليل قوله بعده: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} وبه يزول الإشكال في عطف الإنشاء على الخبر لكن إن كان حسنا معمولا لأحسنوا فعطف.
[قولوا] عليه أولى لاتفاقهما لفظا ومعنى وإن كان التقدير:[ ويحسنون ] فهو الذي قبله والعطف على القريب أولى. وقيل: {لا تَعْبُدُونَ} أبلغ من صريح النهي لما فيه من إيهام أن المنهي يسارع إلى الانتهاء فهومخبر عنه.
وكذا قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} في موضع [لا تسفكوا].
وقوله في سورة الصف: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} عطفا على قوله: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} ولهذا جزم الجواب.
وقوله: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} إلى قوله: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ} فإن المقام يشتمل على تضمين [إن أصحاب الجنة اليوم] معنى الطلب بدليل ما قبله: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} فإنه كلام وقت الحشر لوروده ومعطوفا بالفاء على قوله: {إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} وعام لجميع الخلق لعموم قوله: {لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} وإن الخطاب الوارد بعده على سبيل الالتفات وهو قوله: {وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} خطاب عام لأهل المحشر، فيكون قوله: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} إلى قوله: {أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} مقيدا بهذا الخطاب لكونه تفصيلا لما أجمله: {وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وإن التقدير أن أصحاب الجنة منكم يا أهل المحشر ثم جاء في التفسير أن قوله هذا: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} يقال لهم حين يساق بهم إلى الجنة بتنزيل ما هو للتكوين منزلة الكائن أي إن أصحاب الجنة منكم يا أهل المحشر يؤول حالهم.
إلى أسعد حال والتقدير حينئذ: فامتازوا عنكم إلى الجنة، هكذا قرره السكاكي في"المفتاح".
قيل: وفيه نظر لأنها إذا كانت طلبية ومعناها أمر المؤمنين بالذهاب إلى الجنة فليكن الخطاب معهم لا مع أهل المحشر.
ولهذا قال بعضهم: إن تضمين أصحاب أهل الجنة للطلب ليس المراد منه أن الجملة نفسها طلبية بل معناه أن يقدر جملة إنشائية بعدها بخلاف قوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً}.
ومنه قوله تعالى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فإنه يقال: كيف جاء الجزم في جواب الخبر وجوابه أنه لما كان في معنى الأمر جاز ذلك إذ المعنى: آمنوا وجاهدوا.
وقال ابن جنى: لا يكون [يغفر] جوابا لـ[هل أدلكم] وإن كان أبو العباس قد قاله لأن المغفرة تحصل بالإيمان لا بالدلاة. انتهى. وقد يقال الدلالة: سبب السبب.
إذا علمت هذا فإنما يجيء الأمر بلفظ الخبر الحاصل تحقيقا لثبوته وأنه مما ينبغي أن يكون واقعا ولا بد وهذا هو المشهور.
وفيه طريقة أخرى نقلت عن القاضي ابي بكر وغيره وهي أن هذا خبر حقيقة غير مصروف عن جهة الخبرية ولكنه خبر عن حكم الله وشرعه ليس خبرا عن الواقع حتى يلزم ما ذكره من الإشكال وهو احتمال عدم وقوع مخبره فإن هذا إنما يلزم الخبر عن الواقع أما الخبر عن الحكم فلا لأنه لا يقع خلافه أصلا.
وضع الطلب موضع الخبر.
كقوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً}.
وقوله: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً}.
وقوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}.
وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ} فقوله :{وألق} معطوف على قوله :{أن بورك} فـ[ألق] وإن كان إنشاء لفظا لكنه خبر معنى. والمعنى: فلما جاءها قيل: بورك من في النار وقيل: ألق.
والموجب لهذا قول النحاة إن أن هذه مفسرة لا تأتي إلا بعد فعل في معنىالقول وإذا قيل كتبت إليه أن ارجع وناداني أن قم كله بمنزلة: قلت له وقال لي قم كذا قاله صاحب المفتاح.
وما ذكره من أن بورك خبرية لفظا ومعنى ممنوع لجواز أن يكون دعاء وهو إنشاء وقد ذكر هذا التقدير الفارسي وابو البقاء فتكون الجملتان متفقتين في معنى الإنشاء فتكون مثل {لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ}.
وقوله: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ} إلى قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فإنه يقال: كيف ورد التمني على التكذيب وهو إنشاء ؟.
وأجاب الزمخشري أنه ضمن معنى العدة وأجاب غيره بأنه محمول على المعنى من الشرط والخبر كأنه قيل: إن زددنا لم نكذب وآمنا والشرط خبر فصح ورود التكذيب عليه.
وقوله: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} أي ونحن حاملون بدليل قوله: {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} والكذب إنما يرد على الخبر.
وقوله: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} تقديره: ما أسمعهم وأبصرهم ! لأن الله تعالى لم يتعجب منهم ولكنه دل المكلفين على أن هؤلاء قد نزلوا منزلة من يتعجب منه.
ومما يدل على كونه ليس أمرا حقيقيا ظهور الفاعل الذي هو الجار والمجرور في الأول وفعل الأمر لا يبرز فاعله أبدا.
ووجه التجوز في هذا الأسلوب أن الأمر شأنه أن يكون ما فيه داعية للأمر وليس الخبر كذلك فإذا عبر عن الخبر بلفظ الأمر أشعر ذلك بالداعية فيكون ثبوته وصدقه أقرب. هذا بالنسبة لكلام العرب لا لكلام الله إذ يستحيل في حقه سبحانه الداعية للفعل.
بقى الكلام في أيهما أبلغ ؟ هذا القسم أو الذي قبله ؟.
قال الكواشي في قوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً} الأمر بمعنى الخبر لتضمنه اللزوم نحو إن زرتنا فلنكرمك يريدون تأكيد إيجاب الإكرام عليهم.
وقال الزمخشري في قوله تعالى: {لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} ورود الخبر والمراد الأمر أو النهي أبلغ من صريح الأمر والنهي كأنه سورع فيه إلى الامتثال والخبر عنه.
وقال النووي في شرح "مسلم" في باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها: وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يسوم على سوم أخيه " ، هكذا هو في جميع النسخ ولا يسوم بالواو ولا يخطب بالرفع وكلاهما لفظه لفظ الخبر والمراد به النهي وهو أبلغ في النهي لأن خبر الشارع لا يتصور وقوع خلافه والنهي قد يقع مخالفته فكأن المعنى عاملوا هذا النهي معاملة خبر الحتم ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ولا تسأل المرأة طلاق أختها " يجوز في تسأل الرفع والكسر والأول على الخبر الذي يراد به النهي وهو المناسب لقوله قبله: " لا يخطب ولا يسوم " والثاني على النهي الحقيقي. انتهى.
وضع النداء موضع التعجب
كقوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} قال الفراء: معناه: فيالها من حسرة والحسرة في اللغة أشد الندم لأن القلب يبقى حسيرا.
وحكى أبو الحسين بن خالويه في كتاب:" المبتدأ " عن البصريين أن هذه من أصعب مسألة في القرآن لأن الحسرة لا تنادي وإنما تنادى الاشخاص لأن فائدته التنبيه ولكن المعنى على التعجب كقوله: يا عجبا لم فعلت! {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ} وهو أبلغ من قولك: العجب. قيل: فكأن التقدير يا عجبا احضر يا حسرة احضري!.
وقرأ الحسن {يَا حَسْرَةَ العِبَادِ}.
ومنهم قال: الأصل [يا حسرتاه] ثم اسقطوا الهاء تخفيفا ولهذا قرأ عاصم {يَا أَسَفَاهُ عَلَى يُوسُفَ}.
وقال ابن جنى في كتاب:" الفسر ": معناه أنه لو كانت الحسرة مما يصح نداؤه لكان هذا وقتها.
وأما قوله تعالى: {يَا بُشْرَى}، فقالوا: معنى النداء فيما لا يعقل تنبيه المخاطب وتوكيد القصة فإذا قلت يا عجبا ! فكأنك قلت: اعجبوا فكأنه قال: يا قوم أبشروا.
قال أبو الفتح في:" الخاطريات": وقد توضع الجملة من المبتدأ والخبر موضع لمفعول به، كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} بعد قوله: {لَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا} المعنى: ولتنتفعوا بها عطفا على قوله: {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا} وعلى هذا قال: {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ}. وكذلك قوله: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} أي ولتأكلوا منها ولذلك أتى وعليها وعلى الفلك تحملون فعطف الجملة من الفعل ومرفوعة على المفعول له.
ونظيره قوله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ} أي ولأني ربكم فاتقون فوضع الجملة من المبتدأ والخبر موضع المفعول له.
وبهذا يبطل تعلق من تعلق على ثبوته في قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} وقوله: إن هذا ليس من مواضع الابتداء لجواز تقدير وأذان بأن الله برىء وبأن رسوله كذلك.
وضع جمع القلة موضع الكثرة.
لأن الجموع يقع بعضها موقع بعض لاشتراكها في مطلق الجمعية كقوله تعالى: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} فإن المجموع بالألف والتاء للقلة وغرف الجنة لا تحصى.
وقوله: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} ورتب الناس في علم الله أكثر من العشرة لا محالة.
وقوله: { الله يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ}.
وقوله: {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} وهو كثير.
وقيل: سبب ذلك في الآية الأولى دخول الألف واللام الجنسية فيكون ذلك تكثيرا لها وكان دخولها على جمع القلة أولى من دخولها على جمع الكثرة إشارة إلى قلة من يكون فيها ألا ترى أنه لا يكون فيها إلا المؤمنون !.
وقد نص سبحانه على قتلهم بالإضافة إلى غيرهم في قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} فيكون التكثير الداخل في قوله: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ} لا من جهة وضع جمع القلة موضع جمع الكثرة ولكن من جهة ما اقتضته الألف واللام للجنس.
واعلم أن جموع التكثير الأربعة وجمعى التصحيح - أعنى جمع التأنيث وجمع التذكير - كل ذلك للقلة أما جموع التكسير فبالوضع وأما جمعا التصحيح، فلأنهما أقرب إلى التثنية، وهي أقل العدد فوجب أن يكون الجمع المشابه لها بمنزلتها في القلة وما عداها من الجموع فيرد تارة للقلة وتارة للكثرة بحسب القرائن قال تعالى: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}.{هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}.{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}،{إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}.{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ}.{إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً}{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ}{وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء} {وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى} {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} {بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} فإن قلت: ليس هذا منه بل هي للقلة لأنها خمس.
قلت: لو كان كذلك لما صح: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء}.
{فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} فالمراد منها واحد والجواب عن أحدهما الجواب عن الآخر.
وقوله تعالى: {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ} الآية.{وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية.ولا تحصى كثرة.
ومن شواهد مجيء جمع القلة مرادا به الكثرة قول حسان رضي الله عنه:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
وحكى أن النابغة قال له:
قد قللت جفتاك وأسيافك ...
وطعن الفارسي في هذه الحكاية لوجود وضع جمع القلة موضع الكثرة فيما له جمع كثرة وفيما لا جمع له كثرة في كلامهم وصححها بعضهم قال يعنى أنه كان ينبغي لحسان تجنب اللفظ الذي أصله أن يكون في القلة وإن كان جائزا في اللسان وضعه لقرينة إذا كان الموضع موضع مدح أو أنه وإن كانت القلة لمعنى الكثرة لكن ليس في كل مقام.
ومن المشكل قوله تعالى: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} فإن أضعافا جمع قلة فكيف جاء بعد كثرة !.
والجواب أن جمع القلة يستعمل مرادا به الكثرة وهذا منه.

تنبيهان:.
الأول: إنما يسأل عن حكمة ذلك حيث كان له جمع كثرة فإن لم يكن فلا.
كقوله: { أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ } فإن أياما أفعال مع أنها ثلاثون لكن ليس لليوم جمع غيره ومن ثم أفرد السمع وجمع الأبصار في قوله: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ} لأن فعلا ساكن العين صحيحها لا يجمع على أفعال غالبا وليس له جمع تكسير فلما كان كذلك اكتفى بدلالة الجنس على الجمع.
وجعل بعضهم من هذا أنفسكم على كثرتها في القرآن وليس كذلك فقد جاء {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} وحكمته هنا ظاهرة لأن المراد استعياب جميع الخلق في المحشر.
ونظيره: {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} لإمكان الثمار وليس رأس آية.
منه: {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} لإمكان آي ولا يقال إنه لطلب المشاكلة فقد قال تعالى بعده: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فدل على عدم المشاكلة لإمكان أخريات.
وكذلك قوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} وليس رأس آية ولا فيه مشاكلة لإمكان الأنهر.
وقد جاء أنفس للقلة، كقوله: {وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} وقيل: المراد نفسان من باب :{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}.
الثاني إنما يتم في المنكر أما المعرف فيستغنى بالعموم عن ذلك وبهذا يخدش في كثير مما سبق جعله من هذا النوع.وقد قال الزمخشري في قوله تعالى: {مِنَ الثَّمَرَاتِ} : إنه جمع قلة وضع موضع جمع الكثرة ورد عليه بأن [ أل ] في الثمرات للعموم فيصير كالثمار ولا حاجة إلى إرتكاب وضع جمع قلة موضع جمع كثرة وكذلك بيت حسان السابق فإن الجفنات معرفة [ أل ] وأسيافنا مضاف ليعم.

تذكير المؤنث.
يكثر في تأويله بمذكر، كقوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} على تأويلها بالوعظ.
وقوله: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً} على تأويل البلدة بالمكان وإلا لقال:[ ميتة ].
وقوله: {فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي} أي الشخص أو الطالع.
وقوله: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أي بيان ودليل وبرهان.
وقوله: {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً}.
وإنما يترك التأنيث كما يترك في صفات المذكر لا كما في قولهم: أمرأة معطار لأن السماء بمعنى المطر مذكر قال:
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
ويجمع على أسمية وسمي قال العجاج:
تلفه الأرواح والسمى ...
وقوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} إ لى قوله: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} ذكر الضمير لأنه ذهب بالقسمة إلى المقسوم.
وقوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} ذهب بالانعام إلى معنى النعم أو حمله على معنى الجمع.
وقوله: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} ، ولم يقل قريبة قال الجوهري: ذكرت على معنى الإحسان. وذكر الفراء أن العرب تفرق بين النسب والقرب من المكان فيقولون: هذه قريبتي من النسب وقريبي من المكان فعلوا ذلك فرقا بين قرب النسب والمكان.
قال الزجاج: وهذا غلط لأن كل ما قرب من مكان ونسب فهو جار على ما يقتضيه من التذكير والتأنيث يريد أنك إذا أردت القرب من المكان قلت زيد قريب من عمرو وهند قريبة من العباس فكذا في النسب.
وقال أبو عبيدة: ذكر [ قريب ] لتذكير المكان أي مكانا قريبا. ورده ابن الشجري بأنه لو صح لنصب [ قريب ] على الظرف.
وقال الأخفش: المراد بالرحمة هنا المطر لأنه قد تقدم ما يقتضيه فحمل المذكر عليه.
وقال الزجاج: لأن الرحمة والغفران بمعنى واحد وقيل لأنها والرحم سواء.
ومنه: {وَأَقْرَبَ رُحْماً} فحملوا الخبر على المعنى ويؤيده قوله تعالى: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي}.
وقيل: الرحمة مصدر والمصادر كما لا تجمع لا تؤنث.
وقيل:[ قريب ] على وزن [فعيل] [وفعيل] يستوي فيها المذكر والمؤنث حقيقيا كان أو غير حقيقي. ونظيره قوله تعالى: {وَهِيَ رَمِيمٌ}.
وقيل: من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه مع الالتفات إلى المحذوف فكأنه قال: وإن مكان رحمة الله قريب ثم حذف المكان وأعطى الرحمة إعرابه وتذكيره.
وقيل: من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه أي إن رحمة الله شيء قريب أو لطيف أو بر أو إحسان.
وقيل: من باب إكساب المضاف حكم المضاف إليه إذا كان صالحا للحذف والاستغناء عنه بالثاني والمشهور في هذا تأنيث المذكر لإضافته إلى مؤنث كقوله:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم
فقال: تسفهت والفاعل مذكر لأنه اكتسب تأنيثا من الرياح إذ الاستغناء عنه جائز وإذا كانت الإضافة على هذا تعطى المضاف تأنيثا لم يكن له فلأن تعطيه تذكيرا لم يكن له كما في الآية الكريمة أحق وأولى لأن التذكير أولى والرجوع إليه أسهل من الخروج عنه.
وقيل: من الاستغناء بأحد المذكورين لكون الاخر تبعا له ومعنى من معاينة.
ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} فاستغنى عن خبر الأعناق بخبر أصحابها والأصل هنا إن رحمة الله قريب وهو قريب من المحسنين فاستغنى بخبر المحذوف عن خبر الموجود وسوغ ظهور ذلك المعنى.
ونظير هذه الآية الشريفة قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ}، قال البغوى: لم يقل قريبة لأن تأنيثها غير حقيقي ومجازها الوقت.
وقال الكسائي: إتيانها قريب.
وقيل في قوله تعالى: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} ولم يقل: [صرصرة] كما قال: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} لأن الصرصر وصف مخصوص بالريح لا يوصف به غيرها فأشبه باب [حائض] ونحوه بخلاف [عاتية] فإن غير الريح من الأسماء المؤنثة يوصف به.
وأما قوله تعالى: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} ففي تذكير [منفطر] خمسة أقوال:.
أحدها : للفراء أن السماء تذكر وتؤنث فجاء [منفطر] على التذكير.
والثاني : لأبي على أنه من باب اسم الجنس الذي بينه وبين واحده التاء مفرده سماءة واسم الجنس يذكر ويؤنث نحو: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ}.
والثالث: للكسائي أنه ذكر حملا على معنى السقف.
والرابع : لأبي علي أيضا على معنى النسب أي ذات انفطار كقولهم امرأة مرضع أي ذات رضاع.
والخامس: للزمخشري أنه صفة لخبر محذوف مذكر أي شيء منفطر.
وسأل أبو عثمان المازني بحضرة المتوكل قوما من النحويين منهم ابن السكيت وأبو بكر بن قادم عن قوله تعالى: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً}: كيف جاء بغيرها.
ونحن نقول: امرأة كريمة إذا كانت هي الفاعل وليست بمنزلة [القتيل] التي هي بمعنى [المفعول] ؟ فأجاب ابن قادم وخلط فقال له المتوكل: أخطأت قل يا بكر للمازني قال: بغي ليس لـ[فعيل] وإنما هو [فعول] والأصل فيه [بغوى] فلما التقت واو وياء وسبقت إحدهما بالسكون أدغمت الواو في الياء فقيل:[ بغى ]كما تقول: امرأة.
صبور بغير هاء لأنها بمعنى صابرة فهذا حكم فعول إذا عدل عن فاعله فإن عدل عن مفعوله جاء بالهاء كما قال.
*منها اثنتان واربعون حلوبة*
بمعنى [محلوبة] حكاه التوحيدي في "البصائر".
وقال البغوي في قوله تعالى: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} ولم يقل: [رميمة] لأنه معدول عن فاعله وكلما كان معدولا عن جهته ووزنه كان مصروفا عن فاعلة كقوله: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} اسقط الهاء لأنها مصروفة عن [باغية].
وقال الشريف المرتضى في قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} إن الضمير في ذلك يعود للرحمة وإنما لم يقل و[لتلك] لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي كقوله تعالى: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} ولم يقل [هذه] على أن قوله: {إِلاَّ مَنْ رَحِمَ} كما يدل على الرحمة يدل على أن [يرحم] ويجوز رجوع الكتابة إلى قوله إلا أن يرحم والتذكير في موضعه.
قال: ويجوز أن يكون قوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} كناية عن اجتماعهم على الإيمان وكونهم فيه أمة واحدة ولا محالة أنه لهذا خلقهم.
ويطابق هذه الآية قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}، قال: فأما قوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} فمعناه الاختلاف في الدين والذهاب عن الحق فيه.
بالهوى والشبهات. وذكر أبو مسلم بن بحر فيه معنى غريبا فقال: معناه أن خلف هؤلاء الكفار يخلف سلفهم في الكفر لأنه سواء قولك: خلف بعضهم بعضا وقولك اختلفوا كما سواء قولك: قتل بعضهم بعضا وقولهم: اقتتلوا. ومنه قولهم: لا أفعله ما اختلف العصران، [والجديدان]، أي جاء كل واحد منهم بعد الآخر.
واختلف في قوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ}، فقال الكسائي: أي من بطون ما ذكرنا.
وقال الفراء: ذكر لأنه ذهب إلى المعنى يعنى معنى النعم وقيل: الأنعام تذكر وتؤنث.
وقال أبو عبيدة: أراد البعض أي من بطون أيها كان ذا لبن.
وأنكر أبو حاتم تذكير الأنعام لكنه أراد معنى النعم.

تأنيث المذكر.
كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا} فأنث [ الفردوس ] وهو مذكر، حملا على معنى الجنة.
وقوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ، فأنث [ عشر ] حيث جردت من الهاء مع إضافته إلى الأمثال وواحدها مذكر وفيه أوجه:.
أحدها: أنث لإضافة الأمثال إلى مؤنث، وهو ضمير الحسنات والمضاف يكتسب أحكام المضاف إليه فتكون كقوله: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ}.
والثاني : هو من باب مراعاة المعنى لأن الأمثال في المعنى مؤنثه لأن مثل الحسنة حسنة لا محالة فلما أريد توكيد الإحسان إلى المطيع وأنه لا يضيع شيء من علمه كأن الحسنة المنتظرة واقعة جعل التأنيث في أمثالها منبهة على ذلك الوضع وإشارة إليه كما جعلت الهاء في قولهم: رواية وعلامة تنبيها على المعنى المؤنث المراد في أنفسهم وهو الغاية والنهاية ولذلك أنث المثل هنا توكيدا لتصوير الحسنة في نفس المطيع ليكون ذلك أدعى له إلى الطاعة حتى كأنه قال فله عشر حسنات أمثالها حذف وأقيمت صفته مقامه وروعي ذلك المحذوف الذي هو المضاف إليه كما يراعى المضاف في نحو قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ}، أي أو [كذى ظلمات] وراعاه في قوله: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ}، وهذا الوجه هو الذي عول عليه الزمخشري ولم يذكر سواه.
وأما ابن جنى فذكر في "المحتسب" الوجه الأول وقال: فإن قلت: فهلا حملته.
على حذف الموصوف فكأنه قال:[ فله عشر حسنات وأمثالها ]؟ قيل: حذف وإقامة الموصوف مقامه ليس بمستحسن في القياس وأكثر ما أتى في الشعر ولذلك حمل{دانية}من قوله: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا}، على أنه وصف جنة أو [وجنة دانية] عطف على [جنة] من قولهم: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً} ، لما قدر حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه حتى عطف على قوله: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ} فكانت حالا معطوفة على حال.
وفي "كشف المشكلات" للأصبهاني: حذف الموصوف هو اختيار سيبويه وإن كان لا يرى حسن [ثلاثة مسلمين]، بحذف الموصوف.
وقوله تعالى حكاية عن لقمان: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} فأنث الفعل المسند لـ[مثقال] وهو مذكر ولكن لما أضيف إلى [حبة] اكتسب منه التأنيث فساغ تأنيث فعله.
وذكر أبو البقاء في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} أن التأنيث في [ذائقة] باعتبار معنى [كل] لأن معناها التأنيث قال: لأن كل نفس نفوس ولو ذكر على لفظ [كل] جاز يعنى - أنه لو قيل كل نفس ذائق جاز.
وهو مردود لأنه يجب اعتبار ما يضاف إليه [كل] إذا كانت نكرة ولا يجوز أن يعتبر كل.
وقوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ}، فإن الظاهر عود الضمير إلى الإبداء بدليل قوله: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، فذكر الضمير العائد على الإخفاء ولو قصد الصدقات لقال: [فهي] وإنما أنث [هي] والذي عاد إليه مذكر على حذف مضاف أي وإبداؤها نعم ما هي كقوله: القرية أسألها.
ومنه: {سَعِيراً} وهو مذكر، ثم قال: {إِذَا رَأَتْهُمْ} فحمله على النار.
وأما قوله: { لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ}، فقيل: الضمير عائد على الآيات المتقدمة في اللفظ.
وقال البغوي: إنما قال: {خَلَقَهُنَّ}، بالتأنيث، لأنه أجرى على طريق جمع التكسير ولم يجر على طريق التغليب للمذكر على المؤنث لأنه فيما لا يعقل.
وقيل: في قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}: إن المراد آدم فأنثه ردا إلى النفس. وقد قرىء شاذا [ من نفس واحد ].
وحكى الثعلبي في تفسيره في سورة " اقترب " بإسناده إلى المبرد، سئل عن ألف مسألة، منها: ما الفرق بين قوله تعالى: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} وقوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} وقوله: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} و{كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} ، فقال: كل ما ورد عليك من هذا الباب، فلك أن ترده إلى اللفظ تذكيرا ولك أن ترده إلى المعنى تأنيثا وهذا من قاعدة أن اسم الجنس تأنيثه غير حقيقي فتارة يلحظ معنى الجنس فيذكر وتارة معنى الجماعة فيؤنث قال تعالى في قصة شعيب: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ}، وفي قصة صالح: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ}. وقال: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} وقرئ:[ تشابهت ].
وأبدى السهيلي للحذف والإثبات معنى حسنا فقال: إنما حذفت منه لأن [الصيحة] فيها بمعنى العذاب والخزي إذ كانت منتظمة بقوله: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} فقوى التذكير بخلاف قصة شعيب فإنه لم يذكر فيها ذلك.
وأجاب غيره: بأن الصيحة يراد بها المصدر بمعنى الصياح فيجىء فيها التذكير فيطلق ويراد بها الوحدة من المصدر فيكون التأنيث أحسن.
وقد أخبر سبحانه عن العذاب الذي أصاب به قوم شعيب بثلاثة أمور كلها مفردة اللفظ:.
أحدها : الرجفة في قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ}.
والثاني: الظلة في قوله: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ}.
والثالث: الصيحة وجمع لهم الثلاثة لأن الرجفة بدأت بهم فأصحروا في الفضاء خوفا من سقوط الأبنية عليهم فضربتهم الشمس بحرها ورفعت لهم الظلة فهرعوا إليها يستظلون بها من الشمس فنزل عليهم العذاب وفيه الصيحة فكان ذكر الصيحةمع الرجفة والظلة أحسن من ذكر الصياح فكان ذكر التاء أحسن.
فإن قلت: ما الفرق بين قوله سبحانه: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} وبين قوله: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ}.
قيل: الفرق بينهما من وجهين:.
لفظي ومعنوي:.
أما اللفظي، فهو أن الفصل بين الفعل والفاعل في قوله: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ}، أكثر منها في قوله: {حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} والحذف مع كثرة الحواجز أحسن.
وأما المعنوى، فهو أن [مَن] في قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} راجعة على الجماعة وهي مؤنثة لفظا، بدليل {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً}، ثم قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} ، أي من تلك الأمم ولو قال: [ضلت] لتعينت التاء - والكلامان واحد وإن كان معناهما واحدا - فكان إثبات التاء أحسن من تركها لأنها ثابتة فيما هو من معنى الكلام المتأخر.
وأما {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ}، فالفريق مذكر ولو قال: [ضلوا] لكان بغير تاء وقوله: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} في معناه، فجاء بغير تاء وهذا أسلوب لطيف من أساليب العرب أن يدعو حكم اللفظ الواجب في قياس لغتهم إذا كان في مركبه كلمة لا يجب لها حكم ذلك الحكم.

تنبيه:.
جاء عن ابن مسعود ذكروا القرآن. ففهم منه ثعلب أن ما احتمل تأنيثه وتذكيره كان تذكيره أجود.
ورد بأنه يمتنع إرادة تذكير غير الحقيقي التأنيث لكثرة ما في القرآن منه بالتأنيث: {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ} {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ}.
وإذا امتنع إرادة غير الحقيقي، فالحقيقي أولى.
قالوا: ولا يستقيم إرادة أن ما احتمل التذكير والتأنيث غلب فيه التذكير لقوله تعالى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ}. {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}، فأنث مع جواز التذكير قال تعالى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ}، {مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ} قال: فليس المراد ما فهم بل المراد الموعظة والدعاء كما قال تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ} إلا أنه حذف الجار والمقصود ذكروا الناس بالقرآن أي ابعثوهم على حفظه كيلا ينسوه.
وقال الواحدي: إن قول ابن مسعود على ما ذهب إليه ثعلب والمراد أنه إذا احتمل اللفظ التذكير والتأنيث ولم يحتج في التذكير إلى مخالفة المصحف ذكر نحو: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ}.
قال: ويدل على إرادته هذا إن أصحاب عبد الله من قراء الكوفة كحمزة والكسائي ذهبوا إلى هذا فقرءوا ما كان من هذا القبيل بالتذكير، نحو: {يَوْمَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} وهذا في غير الحقيقي.

ضابط الثأنيث.
ضابط التأنيث ضربان:.
حقيقي وغيره، فالحقيقي: لا يحذف التأنيث من فعله غالبا إلا أن يقع فصل نحو:.
قام اليوم هند، وكلما كثر الفصل حسن الحذف والإثبات مع الحقيقي أولى ما لم يكن جمعا.
وأما غير الحقيقي فالحذف فيه مع الفصل حسن، قال تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ} ، فإن كثر الفصل ازداد حسنا، ومنه: { وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} ويحسن الإثبات ايضا نحو: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} فجمع بينهما في سورة هود.
وأشار بعضهم إلى ترجيح الحذف، واستدل عليه بأن الله تعالى قدمه عليه حيث جمع بينهما في سورة واحدة. وفيما قاله نظر.
التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي وعكسه.
قد سبق منه كثير في نوع الالتفات ويغلب ذلك فيما إذا كان مدلول الفعل من الأمور الهائلة المهددة المتوعد بها فيعدل فيه إلى لفظ الماضي تقريرا وتحقيقا لوقوعه كقوله تعالى: {وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ}.
وقوله في الزمر: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ}.
وقوله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً}.
وقوله: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ} أي نحشرهم.
وقوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً}. ثم تارة يجعل المتوقع فيه كالواقع فيؤتى بصيغة الماضي مرادا به المضي تنزيلا للمتوقع منزلة ما وقع فلا يكون تعبيرا عن المستقبل بلفظ الماضي بل جعل المستقبل ماضيا مبالغة.
ومنه: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ}. {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} ونحوه.
وقد يعبر عن المستقبل بالماضي مرادا به المستقبل فهو مجاز لفظي كقوله تعالى:.
{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ} ، فإنه لا يمكن أن يراد به المضي لمنافاة {يُنْفَخُ} الذي هو مستقبل في الواقع. وفائدة التعبير عنه بالماضي الإشارة إلى استحضار التحقق وإنه من شأنه لتحققه أن يعبر عن بالماضي وإن لم يرد معناه والفرق بينهما أن الأول مجاز والثاني لا مجاز فيه إلا من جهة اللفظ فقط.
وقوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى}، أي يقول، عكسه لأن المضارع يراد به الديمومة والاستمرار كقوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ}.
وقوله: {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، أي فكان استحضارا لصورة تكونه.
وقوله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}، أي ما تلت.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ}، أي علمنا.
فإن قيل: كيف يتصور التقليل في علم الله ؟.
قيل: المراد أنهم أقل معلوماته ولأن المضارع هنا بمعنى الماضي ف قد فيه للتحقيق لا التقليل.
وقوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} أي فلم قتلتم !.
وقوله: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} أي لم يتعارفوا حتى تأتيهم.
وقوله: {مُنْفَكِّينَ} قال مجاهد: منتهين وقيل: زائلين من الدنيا.
وقال الأزهري: ليس هو من باب [ما انفك] و[مازال] إنما هو من انفكاك الشيء إذا انفصل عنه.
وقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ}، المعنى: فلم عذب آباءكم بالمسخ والقتل؟ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يؤمر بأن يحتج عليهم بشىء لم يكن بعد لأن الجاحد يقول: إني لا أعذب لكن احتج عليهم بما قد كان.
وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً}.
فعدل عن لفظ [أصبحت] إلى [تصبح] قصد للمبالغة في تحقيق اخضرار الأرض لأهميته إذ هو المقصود بالإنزال.
فإن قلت: كيف قال النحاة: إنه يجب نصب الفعل المقرون بالفاء إذا وقع في جواب الاستفهام، كقوله: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} و[فتصبح] هنا مرفوع ؟.
قلت: لوجوه:.
أحدها: أن شرط الفاء المقتضية للنصب أن تكون سببية وهنا ليست كذلك بل هي لإستئناف لأن الرؤية ليست سببا للإصباح.
الثاني: أن شرط النصب أن ينسبك من الفاء وما قبلها شرط وجزاء وهنا ليس كذلك لأنه لو قيل: إن تر أن الله أنزل ماء تصبح لم يصح لأن إصباح الأرض حاصل سواء رئي أم لا.
فإن قيل: شاع في كلامهم إلغاء فعل الرؤية كما في قوله:[ ولا تزال- تراها- ظالمة ].
أي ولا تزال ظالمة وحينئذ فالمعنى منصب إلى الإنزال لا إلى الرؤية ولا شك أنه يصح أن يقال إن أنزل تصبح فقد انعقد الشرط والجزاء.
قلت: إلغاء فعل الرؤية في كلامهم جائز لا واجب فمن أين لنا ما يقتضي تعيين حمل الآية عليه ؟.
الثالث: إن همزة الاستفهام إذا دخلت على موجب تقلبه إلى النفي، كقوله تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ}، وإذا دخلت على نفي تقلبه إلى الإيجاب فالهمزة في الآية للتقرير فلما انتقل الكلام من النفي إلى الإيجاب لم ينتصب الفعل لأن شرط النفي كون السابق منفيا محضا: ذكره العزيزي في "البرهان".
ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة السجدة: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً}.
الرابع : أنه لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض لأن معناه إثبات الاخضرار فكان ينقلب النصب إلى نفي الاخضرار مثاله أن تقول لصاحبك ألم تر أني أنعمت فتشكر إن نصبت فأنت ناف لشكره شاك تفريطه وإن رفعت فأنت مثبت لشكره. ذكر هذا الزمخشري في الكشاف قال وهذا ومثاله مما يجب أن يرغب له من أتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله.
وقال ابن الخباز: النصب يفسد المعنى لأن رؤية المخاطب الماء الذي أنزله الله ليس سببا للاخضرار وإنما الماء نفسه هو سبب الاخضرار.
ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ}،.
فقال: [تثير] مضارعا وما قبله وما بعده ماضيا مبالغة في تحقيق إثارة الرياح الساحب للسامعين وتقدير تصوره في أذهانهم.
فإن قيل: أهم الأفعال المذكورة في الآية إحياء الموتى وقد ذكر بلفظ الماضي وما ذكرته يقتضي أولوية ذكره بلفظ المضارع إذ هو أهم وإثارة السحاب سبب أعيد على قريب.
قيل: لا نسلم بأهمية إحياء الأرض بعد موتها فالمقدمات المذكورة أهمها وأدلها على القدرة أعجبها وأبعدها عن قدرة البشر وإثارة السحاب أعجبها فكان أولى بالتخصيص بالمضارع وإنما قال: إن إثارة السحاب أعجب لأن سببها أخفى من حيث إنا نعلم بالفعل أن نزول الماء سبب في اخضرار الأرض وإثارة السحاب وسوقه سبب نزول الماء.
فلو خلينا وظاهر العقل لم نقل إن الرياح سببها لعدم إحساسنا بمادة السحاب وجهته.
ومن لواحق ذلك العدول عن المستقبل إلى اسم المفعول لتضمنه معنى الماضي، كقوله: {يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ}، تقريرا للجمع فيه وأنه لا بد أن يكون معادا للناس مضروبا لجميعهم وإن شئت فوازن بينه وبين قوله : {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ}، لتعرف صحة هذا المعنى.
فإن قلت: الماضي أدل على المقصود من أسم المفعول فلم عدل عنه إلى ما دلالته أضعف ؟ قلت: لتحصل المناسبة بين [مجموع] و[مشهور] في استواء شأنهما طلبا للتعديل في العبارة.
ومنه العدول عن المستقبل إلى اسم الفاعل، كقوله تعالى: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} فإن اسم الفاعل ليس حقيقة في الاستقبال بل في الحال.

مشاكلة اللفظ للفظ.
هي قسمان: أحدهما - وهو الأكثر - المشاكلة بالثاني للأول، نحو [ أخذه ما قدم وما حدث ]. وقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} على مذهب الجمهور وأن الجر للجوار: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا}.
وقد تقع المشاكلة بالأول للثاني كما في قراءة إبراهيم بن أبي عبيلة: {الْحَمْدِ لِلَّهِ} بكسر الدال، وهي أفصح من ضم اللام للدال.

مشاكلة اللفظ للمعنى.
ومتى كان اللفظ جزلا كان المعنى كذلك ومنه قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ}، ولم يقل من [طين] كما أخبر به سبحانه في غير موضع: {نِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} إنما عدل عن الطين الذي هو مجموع الماء والتراب إلى ذكر مجرد التراب لمعنى لطيف وذلك أنه أدنى العنصرين وأكثفهما لما كان المقصود مقابلة من ادعى في المسيح الإلهية أتى بما يصغر أمر خلقه عند من ادعى ذلك فلهذا كان الإتيان بلفظ التراب أمس في المعنى من غيره من العناصر ولما اراد سبحانه الامتنان على بني إسرائيل أخبرهم أن يخلق لهم من الطين كهيئة الطير تعظيما لأمر ما يخلقه بإذنه إذ كان المطلوب الاعتداد عليهم بخلقه ليعظموا قدر النعمة به.
ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} فإنه سبحانه إنما اقتصر على ذكر الماء دون بقي العناصر لأنه أتى بصيغة الاستغراق وليس في العناصر الأربع ما يعم جميع المخلوقات إلا الماء ليدخل الحيوان البحري فيها.
ومنه قوله تعالى: {تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} فإنه سبحانه أتى بأغرب الفاظ القسم بالنسبة إلى أخواتها فإن [ والله [و[ بالله ]أكثر استعمالا وأعرف من [ تالله ] لما كان الفعل الذي جاور القسم أعزب الصيغ التي في بابه فإن [كان] وأخواتها أكثر استعمالا من [تفتأ] وأعرف عند العامة ولذلك أتى بعدها بأغرب ألفاظ الهلاك بالنسبة وهي لفظة [حرض]:.
ولما أراد غير ذلك قال: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} لما كانت جميع الألفاظ مستعملة.
ومنه قوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} فإنه سبحانه لما نهى عن الركون إلى الظالمين وهو الميل إليهم والاعتماد عليهم وكان دون ذلك مشاركتهم في الظلم أخبر أن العقاب على ذلك دون العقاب على الظلم وهو مس النار الذي هو دون الإحراق والاضطرام وإن كان المس قد يطلق ويراد به الإشعار بالعذاب.
ومنه قوله تعالى: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ}، فإنه نشأ في الآية سؤال وهو أن الترتيب في الجمل الفعلية تقديم الفعل وتعقيبة بالفاعل ثم بالمفعول فإن كان في الكلام مفعولان: أحدهما يعدى وصول الفعل إليه بالحرف، والآخر بنفسه قدم ما تعدى إليه الفعل بنفسه، وعلى ذلك جاء قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ}.
إذا ثبت هذا فقد يقال كيف توخى حسن الترتيب في عجز الاية دون صدرها ؟ والجواب أن حسن الترتيب منع منه في صدر الآية مانع أقوى وهو مخافة أن يتوالى ثلاثة أحرف متقاربات المخرج فيثقل الكلام بسبب ذلك فإنه لو قيل لئن بسطت يدك إلى والطاء والتاء متقاربة المخرج فلذلك حسن تقديم المفعول الذي تعدى الفعل إليه بالحرف على الفعل الذي تعدى إليه بنفسه ولما أمن هذا المحذور في عجز الآية لما اقتضته البلاغة من الإتيان باسم الفاعل موضع الجملة الفعلية لتضمنه معنى الفعل الذي تصح به المقابلة جاء الكلام على ترتيبه: من تقديم المفعول الذي تعدى الفعل إليه بنفسه على.
المفعول الذي يعدى إليه بحرف الجر. وهذا أمر يرجع إلى تحسين اللفظ وأما المعنى فعلى نظم الآية لأنه لما كان الأول حريصا على التعدي على الغير قدم المتعدى على الآلة فقال: إليَّ يدك ولما كان الثاني غير حريص على ذلك لأنه نفاه عنه قدم الآلة فقال: [يدي إليك] ويدل لهذا أنه عبر عن الأول بالفعل وفي الثاني بالاسم.
ويؤيد ذلك أيضا قوله في سورة الممتحنة : {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} ، لأنه لما نسبهم للتعدي الزائد قدم ذكر المبسوط إليهم على الآلة وذلك الجواب السابق لا يمكن في هذه الآية.
ومثله قوله: { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}، مقتضى الصناعة أن يؤتى بالتجنيس للازدواج في صدر الآية كما أتى به في عجزها لكن منعه توخى الأدب والتهذيب في نظم الكلام وذلك أنه لما كان الضمير الذي في [يجزي] عائدا على الله سبحانه وجب أن يعدل عن لفظ المعنى الخاص إلى رديفة حتى لا تنسب السيئة إليه سبحانه فقال في موضع السيئة: بما [عملوا] فعوض عن تجنيس المزاوجة بالإرداف لما فيه من الأدب مع الله بخلاف قوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} فإن هذا المحذور منه مفقود فجرى الكلام على مقتضى الصناعة.
ومنه قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى}، فإن سبحانه خص الشعري بالذكر دون غيرها من النجوم وهو رب كل شيء لأن العرب ظهر فيهم رجل يعرف بابن أبي كبشة عبد الشعري ودعا خلقا إلى عبادتها.
وقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} ولم يقل:[ لا تعلمون] لما في الفقه من الزيادة على العلم.
وقوله حكاية عن إبراهيم: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} فإنه لم يخل هذا الكلام من حسن الادب مع أبيه حيث لم يصرح فيه بأن العذاب لاحق له ولكنه قال: {إِنِّي أَخَافُ} فذكر الخوف والمس وذكر العذاب ونكره ولم يصفه بأنه يقصد التهويل بل قصد استعطافه ولهذا ذكر [الرحمن] ولم يذكر [المنتقم] ولا [الجبار] على حد قوله:
فما يوجع الحرمان من كف حازم ... كما يوجع الحرمان من كف رازق
ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} فإنه قد يقال: ما الحكمة في التعمير بالسخرية دون الاستهزاء ؟ وهلا قيل:[ فحاق بالذين استهزءوا بهم ]ليطابق ما قبله ؟.
والجواب أن الاستهزاء هو إسماع الإساءة والسخرية قد تكون في النفس ولهذا يقولون: سخرت منه كما يقولون: عجبت منه ولا يقال: تجنب ذلك لما في ذلك من تكرار الاستهزاء ثلاث مرات لأنه قد كرر السخرية ثلاثا في قوله تعالى: {إِِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}، وإنما لم يقل: [نستهزىء بكم] لأن الاستهزاء ليس من فعل الأنبياء.
وأما قوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} فالعرب تسمى الجزاء على الفعل باسم الفعل كقوله: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} وهو مجاز حسن وأما الاستهزاء الذين نحن بصدده فهو استهزاء حقيقة لا يرضى به إلا جاهل.
ثم قال سبحانه: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ}، أي حاق بهم من الله الوعيد.
لبالغ لهم على ألسنة الرسل ما كانوا به يستهزئون بألسنتهم فنزلت كل كلمة منزلتها.
وقوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ولم يذكر الكعبة لأن البعيد يكفيه مراعاة الجهة فإن استقبال عينها حرج عليه بخلاف القريب ولما خص الرسول بالخطاب تعظيما وأيجابا لشرعته عمم تصريحا بعموم الحكم وتأكيدا لأمر القبلة.


قاعدة:.
إذا اجتمع الحمل على اللفظ والمعنى، بدئ باللفظ ثم بالمعنى، هذا هو الجادة في القرآن، كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا} أفرد أولا باعبتار اللفظ ثم جمع ثانيا باعتبار المعنى فقال: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} فعاد الضمير مجموعا كقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} فعاد الضمير من [يدخله] مفردا على لفظ [من] ثم قال [خالدين] وهو حال من الضمير.
وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ}.
وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا}.
وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} إلى قوله: {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ}.
وقد يجرى الكلام على أوله في الإفراد كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ}.

[ البرهان في علوم القرآن ( 3 / 331 ـ 382 )]


رد مع اقتباس
  #13  
قديم 12 ذو القعدة 1430هـ/30-10-2009م, 06:36 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي


قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} الآيتين فكرر فيها ثمانية ضمائر كلها عائد على لفظ [من] ولم يرجع منها شيء على معناها مع أن المعنى على الكثرة.
وقد يقتصر على معناها في الجميع كقوله تعالى في سورة يونس: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ}. وما ذكرنا من البداءة باللفظ عند الاجتماع هو الكثير قال الشيخ علم الدين العراقي: ولم يجيء في القرآن البداءة بالحمل على المعنى إلا في موضع واحد، وهو قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} فأنث [خالصة] حملا على معنى [ما] ثم راعى اللفظ فذكر وقال: {وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا}.
واعترض بعض الفضلاء وقال: إنما يتم ما قاله من البداءة بالحمل على المعنى في ذلك إذا كان ان الضمير الذي في الصلة التي في بطون هذه الانعام يقدر مؤنثا أما إذا قدر مذكرا فالبداءة إنما هو بالحمل على اللفظ.
وأجيب بأن اعتبار اللفظ والمعنى أمر يرجع إلى الأمور التقديرية لأن اعتبار الأمرين أو أحدهما أنما يظهر في اللفظ وإذا كان كذلك صدق أنه إنما بدىء في الآية بالحمل على المعنى فيتم كلام العراقي.
ونقل الشيخ أبو حيان في تفسيره عن ابن عصفور: أن الكوفيين لا يجيزون الجمع بين الجملتين إلا بفاصل بينهما ولم يعتبر البصريون الفاصل، قال: ولم يرد السماع إلا بالفاصل كما ذهب إليه الكوفيون. ونازعه الشيخ أثير الدين بقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} ، وقال: ألا تراه كيف جمع بين الجمليتن دون فصل ! انتهى.
والذي ذكره ابن عصفور في شرح "المقرب": شرط الكوفيون في جواز اعتبار اللفظ بعد اعتبار المعنى الفصل فيجوزون: مَن يقومون اليوم وينظر في أمرنا إخوتنا ولا يجوزون: مَن يقومون وينظر في أمرنا إخوتنا لعدم الفصل وإنما ورد السماع بالفصل. انتهى.
وهذا يقتضى أن الكوفيين لا يشترطون الفصل عند اجتماع الجملتين إلا أن يقدم اعتبار المعنى ويؤخر اعتبار اللفظ كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} إنما بدئ فيه بالحمل على اللفظ.
وقال ابن الحاجب: إذا حمل على اللفظ جاز الحمل بعده على المعنى وإذا حمل على المعنى ضعف الحمل بعده على اللفظ لأن المعنى أقوى فلا يبعد الرجوع إليه بعد اعتبار اللفظ ويضعف بعد اعتبار المعنى القوي الرجوع إلى الأضعف.
وهذا معترض بأن الاستقراء دل على أن اعتبار اللفظ أكثر من اعتبار المعنى وكثرة موارده تدل على قوله وأما العود إلى اللفظ بعد اعتبار المعنى فقد ورد به التنزيل كما ورد باعتبار المعنى بعد اعتبار اللفظ فثبت أنه يجوز الحمل على كل واحد منهما بعد الاخر من غير ضعف.
وأما قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً } فقرأه الجماعة بتذكير [يقنت] حملا على لفظ [من] في التذكير [وتعمل] بالتأنيث حملا على معناها لأنها للمؤنث. وقرأ حمزة والكسائي [يعمل] بالتذكير فيهما حملا على لفظها.
رعاية للمناسبة في المتعاطفين. وتوجيه الجماعة أنه لما تقدم على الثاني صريح التأنيث في [منكن] حسن الحمل على المعنى.
وقال أبو الفتح في "المحتسب": لا يجوز مراجعة اللفظ بعد انصرافه عنه إلى المعنى.
وقد يورد عليه قوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} ثم قال: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} فقد راجع اللفظ بعد الانصراف عنه إلى المعنى إلا أن يقال: إن الضمير في جاء يرجع إلى الكافر لدلالة السياق عليه لا إلى [من].
ومنه الفرق بين [أسقى] و[سقى] بغير همز لما لا كلفة معه في السقيا ومنه قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } فأخبر أن السقيا في الآخرة لا يقع فيها كلفة بل جميع ما يقع فيها من الملاذ يقع فرصة وعفوا بخلاف [أسقى] بالهمزة فإنه لا بد فيه من الكلفة بالنسبة للمخاطبين كقوله تعالى: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً} {لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} لأن الإسقاء في الدنيا لا يخلو من الكلفة أبدا.
ومنه قوله تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} ، قال أبو سلمة محمد بن بحر الأصبهاني في تفسيره: إنما خص الموزون بالذكر دون المكيل لأمرين:.
أحدهما: أن غاية المكيل ينتهى إلى الموزون لأن سائر المكيلات إذا صارت قطعا دخلت في باب الموزون وخرجت عن المكيل فكان الوزن أعم من المكيل.
والثاني: أن في الموزون معنى المكيل لأن الوزن هو طلب مساواة الشيء بالشيء.
ومقايسته وتعديله به وهذا المعنى ثابت في المكيل فخص الوزن بالذكر لاشتماله على معنى المكيل.
وقال الشريف المرتضى في "الغرر": هذا خلاف المقصود بل المراد بالموزون القدر الواقع بحسب الحاجة فلا يكون ناقصا عنها ولا زائدا عليها زيادة مضرة.
ومنه قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً}، فذكر في مدة اللبث السنة وفي الانفصال العام للإشارة إلى أنه كان في شدائد في مدته كلها إلا خمسين عاما قد جاءه الفرج والغوث فإن السنة تستعمل غالبا في موضع الجدب ولهذا سموا شدة القحط سنة.
قال السهيلي: ويجوز أن يكون الله سبحانه قد علم أن عمره كان ألفا إلا أن الخمسين منها كانت أعواما فيكون عمره ألف سنة ينقص منها ما بين السنين الشمسية والقمرية في الخمسين خاصة لأن الخمسين عاما بحسب الأهلة أقل من خمسين سنة شمسية بنحو عام ونصف.
وابن على هذا المعنى قوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} وقوله : {أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} فأنه كلام ورد في موضع التكثير والتتميم بمدة ذلك اليوم والسنة أطول من العام.
النحت.
نحو الحوقلة والبسملة، جعله ابن الزملكاني من1 نظوم القرآن ومثله بقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} ، قال: وكفى من كفتيه الشيء ولم يجيء للعرب كفتيه بالشيء فجعل بين الفعلين الفعل المذكور وهو متعد وخص من الفعل اللازم وهو اكتفيت به بالباء وكذلك انتصب [شهيدا] على التمييز أو الحال كأنه قيل: كفى بالله فاكتف به فاجتمع فيه الخبر والأمر.
الإبدال.
من كلامهم إبدال الحروف وإقامة بعضها مقام بعض يقولون: مدحه ومدهه وهو كثير ألف فيه المصنفون وجعل منه ابن فارس قوله تعالى: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} ، فقال: فالراء واللام متعاقبان، كما تقول العرب: فلق الصبح وفرقه. قال: وذكر عن الخليل- ولم أسمعه سماعا - أنه قال في قوله تعالى: {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} إنما أراد فحاسوا فقامت الجيم مقام الحاء.
قال ابن فارس: وما أحسب الخليل قال هذا ولا أحقه عنه.
قلت: ذكر ابن جنى في "المحتسب": أنها قراءة أبو السمال، وقال: قال أبو زيد - أو غيره: قلت له: إنما هو [فجاسوا] فقال: حاسوا وجاسوا واحد. وهذا يدل على أن بعض القراء يتخير بلا رواية ولذلك نظائر. انتهى.
وهذا الذي قاله ابن جنى غير مستقيم ولا يحل لأحد أن يقرأ إلا بالرواية. وقوله:" إنهما بمعنى واحد " لا يوجب القراءة بغير الرواية كما ظنه ابو الفتح وقائل ذلك والقارىء به هو أبو السوار الغنوى لا أبو السمال فاعلم ذلك. كذلك أسنده الحافظ أبو عمرو الداني، فقال: حدثنا المازني قال: سألت أبا السوار الغنوى، فقرأ: [فحاسوا] بالحاء غير الجيم فقلت: إنما هو [فجاسوا] قال: حاسوا وجاسوا واحد، ويعنى أن اللفظين بمعنى واحد وإن كان أراد أن القراءة بذلك تجوز في الصلاة والغرض كما جازت بالأولى فقد غلط في ذلك وأساء.
وزعم الفارسي في تذكرته في قوله: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ}، أنه بمعنى حب الخيل وسميت الخيل خيرا لما يتصل بها من العز والمنعة كما روى:" الخيل معقود بنواصيها الخير " وحينئذ فالمصدر مضاف إلى المفعول به.
وقيل في قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} إن أصله ملاقح لأنه يقال: ألقحت الريح السحاب أي جمعته وكل هذا تفسير معنى وإلا فالواجب صون القرآن أن يقال فيه مثل ذلك.
وذكر أبو عبيدة في قوله: {إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} ، معناه [تصدده] فأخرج الدال الثانية ياء لكسر الدال الأولى كما حكاه صاحب "الترقيص".
وحكى عن أبي رياش في قول امرىء القيس:

فسلى ثيابي من ثيابك تنسلى ...

معناه:[ تنسلل ] فاخرج اللام الثانية [ياء] لكسرة اللام الأولى ومثله قول الآخر:

وإني لأستنعى وما بي نعسة ... لعل خيالا منك يلقى خياليا

أراد استنعس، فاخرج السين ياء.
وقال الفارسي في "التذكرة" قرأ أبو الحسن - أو من قرأ له - قوله تعالى فيما حكى عن يعقوب في القلب والإبدال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} ، [غير عائد]، واستحسنه الفارسي ألا يعود إليه كما يعود في حال السعة من العشاء إلى الغذاء.
وقيل في قوله تعالى: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ} إن خرقه واخترقه وخلقه واختلقه بمعنى هو قول أهل الكتابين في المسيح وعزير وقول قريش في الملائكة.
وجوز الزمخشري كونه من خرق الثوب إذا شقه أي أنهم اشتقوا له بنين وبنات.
المحاذاة.
ذكره ابن فارس، وحقيقته أن يؤتى باللفظ على وزن الاخر لأجل انضمامه إليه وإن كان لا يجوز فيه ذلك لو استعمل منفردا كقولهم: أتيته الغدايا والعشايا فقالوا: الغدايا لانضمامها إلى العشايا.
قيل: ومن هذا كتابه المصحف، كتبوا: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} بالياء، وهو من ذوات الواو لما قرن بغيره مما يكتب بالياء.
ومنه قوله تعالى: {لَسَلَّطَهُمْ} فاللام التي في [لسلطهم] جواب [لو].
ثم قال: {فَلَقَاتَلُوكُمْ} فهذه حوذيت بتلك اللام وإلا فالمعنى: لسلطهم عليكم فقاتلوكم.
ومثله :{لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} فهما لاما قسم - ثم قال: أو {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي} فليس ذا موضع قسم لأنه عذر5 للهدهد فلم يكن ليقسم على الهدهد أن يأتي بعذر لكنه لما جاء به على أثر ما يجوز فيه القسم أجراه مجراه.
ومنه الجزاء عن الفعل بمثل لفظه نحو: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أي يجازيهم جزاء الاستهزاء.
وقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ}{فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ}.
{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}.

[ البرهان في علوم القرآن ( 3 / 383 ـ 392 )]


رد مع اقتباس
  #14  
قديم 12 ذو القعدة 1430هـ/30-10-2009م, 06:40 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي


قواعد في النفي:
قد تقدم في شرح معاني الكلام جمل من قواعده ونذكر هاهنا زيادات.
اعلم أن نفي الذات الموصوفة قد يكون نفيا للصفة دون الذات، وقد يكون نفيا للذات. وانتفاء النهي عن الذات الموصوفة قد يكون نهيا عن الذات وقد يكون نهيا عن الصفة دون الذوات قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} فإنه نهى عن القتل بغير الحق. وقال: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ}.
ومن الثاني قوله: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}،{وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، أي فلا يكون موتكم إلا على حال كونكم ميتين على الإسلام، فالنهي في الحقيقة على خلاف حال الإسلام كقول القائل: لا تصل إلا وأنت خاشع فإنه ليس نهيا عن الصلاة بل عن ترك الخشوع.
وقوله: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الآية.
وقد ذكروا أن النفي بحسب ما يتسلط عليه يكون أربعة أقسام:.
الأول: بنفي المسند نحو، ما قام زيد بل قعد ومنه قوله تعالى: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} فالمراد نفي السؤال من أصله لأنهم متعففون ويلزم من نفيه نفى الإلحاف.
الثاني: أن ينفى المسند إليه، فينتفي المسند، نحو ما قام زيد إذا كان زيد غير موجود لأنه يلزم من عدم زيد نفي القيام ومنه قوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}، أي لا شافعين لهم فتنفعهم شفاعتهم.
ومنه قول الشاعر:
*على لاحب لا يهتدي لمناره*
أي: على طريق لا منار له فيهتدي به ولم يكن مراده أن يثبت المنار فينتفى الاهتداء به.
الثالث: أن ينفى المتعلق دون المسند والمسند إليه نحو ما ضربت زيدا بل عمرا.
الرابع: أن ينفى قيد المسند إليه أو المتعلق نحو ما جاءني رجل كاتب بل شاعر، وما رأيت رجلا كاتبا بل شاعرا، فلما كان النفي قد ينصب على المسند وقد ينصب على المسند إليه أو المعلق وقد ينصب على القيد احتمل في قولنا: ما رأيت رجلا كاتبا أن يكون المنفى هو القيد فيفيد الكلام رؤية غير الكاتب وهو احتمال مرجوح ولا يكون المنفى المسند أي الفعل بمعنى أنه لم يقع منه رؤية عليه لا على رجل ولا على غيره وهو في المرجوحية كالذي قبله.
نفى الشيء رأسا.
لأنه عدم كمال وصفه أو لانتفاء ثمرته، كقوله تعالى في صفة أهل النار: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} فنفى عنه الموت لأنه ليس بموت صريح ونفى عنه الحياة لأنها ليست بحياة طيبة ولا نافعة كقوله تعالى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} أي ما هم بسكارى مشروب ولكن سكارى فزع.
وقوله: {لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} وهم قد نطقوا بقولهم :{يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} ولكنهم لما نطقوا بما لم ينفع فكأنهم لم ينطقوا.
وقوله: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا}.
وقوله: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}.
ومنه قوله: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}، فإن المعتزلة احتجوا به على نفى الرؤية لأن النظر لا يستلزم الإبصار، ولا يلزم من قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} إبصار.
وهذا وهم لأن الرؤية تقال على أمرين: أحدهما الحسبان والثاني العلم، والآية من المعنى الأول أي تحسبهم ينظرون إليك لأن لهم أعينا مصنوعة بأجفانها وسوادها يحسب الإنسان أنها تنظر إليه بإقبالها عليه وليست تبصر شيئا.
ومنه: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ}.
ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ، فإنه وصفهم أولا بالعلم على سبيل التوكيد القسمى ثم نفاه أخبر عنهم لعدم جريهم على موجب العلم كذا قاله السكاكي وغيره.
وقد يقال: لم يتوارد النفي والإثبات على محل واحد لأن المثبت أولا نفس العلم والمنفي إجراء العمل بمقتضاه. ويحتمل حذف المفعولين أو اختلاف أصحاب الضميرين.
قال: ونظيره في النفي والإثبات قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}.
قلت: المنفي أولا التأثير والمثبت ثانيا نفس الفعل.
ومن هذه القاعدة يزول الإشكال في قوله: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} والمعنى: إن لم تفعل بمقتضى ما بلغت فأنت في حكم غير المبلغ كقولك لطالب العلم: إن لم تعمل بما علمت فأنت لم تعلم شيئا أي في حكم من لم يعلم.
ومنه نفي الشيء مقيدا والمراد نفيه مطلقا، وهذا من أساليب العرب يقصدون به المبالغة في النفي وتأكيده كقولهم فلان لا يرجى خيره ليس المراد أن فيه خيرا لا يرجى غرضهم أنه لا خير فيه على وجه من الوجوه.
ومنه: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} فإنه يدل على أن قتلهم لا يكون إلا بغير حق ثم وصف القتل بما لا بد أن يكون من الصفة وهي وقوعه على خلاف الحق.
وكذلك قوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} إنها وصف لهذا الدعاء وأنه لا يكون إلا عن غير برهان.
وقوله: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ}، تغليظ وتأكيد في تحذيرهم الكفر.
وقوله: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً}، لأن كل ثمن لها لا يكون إلا قليلا فصار نفى الثمن القليل نفيا لكل ثمن.
وقوله تعالى: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} فإن ظاهره نفي الإلحاف في المسألة والحقيقة نفي المسألة البتة وعليه أكثر المفسرين بدليل قوله: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ}، ومن لا يسأل لا يلحف قطعا ضرورة أن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص.
ومثله قوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} ، ليس المراد نفي الشفيع بقيد الطاعة بل نفيه مطلقا وإنما قيده بذلك لوجوه:.
أحدها: أنه تنكيل بالكفار لأن أحدا لا يشفع إلا بإذنه وإذا شفع يشفع لكن الشفاعة مختصة بالمؤمنين فكان نفى الشفيع المطاع تنبيها على حصوله لإضدادهم كقولك لمن يناظر شخصا ذا صديق نافع لقد حدثت صديقا نافعا وإنما تريد التنويه بما حصل لغيره لأن له صديقا ولم ينفع.
الثاني: أن الوصف اللازم للموصوف ليس بلازم أن يكون للتقييد بل يدل لأغراض من تحسينه أو تقبيحه نحو له مال يتمتع به وقوله تعالى: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا}{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

الثالث: قد يكون الشفيع غير مطاع في بعض الشفاعات وقد ورد في بعض الحديث ما يوهم صورة الشفاعة من غير إجابة كحديث الخليل مع والده يوم القيامة وإنما دل على التلازم دليل الشرع.
وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} أي من خوف الذل فنفي الولي لانتفاء خوف الذل فإن اتخاذ الولي فرع عن خوف الذل وسبب عنه.
وقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ، نفى الغلبة والمراد نفي اصل النوم والسنة عن ذاته ففي الآية التصريح بنفي النوم وقوعا وجوازا أما وقوعا فبقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} وأما جوازا فبقوله: {الْقَيُّومُ} وقد جمعهما قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام "
وقوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ} أي بما لا وجود له لأنه لو وجد لعلمه بوجود الوجوب تعلق علم الله بكل معلوم.
وقوله تعالى: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} ، على قول من نفى القبول لانتفاء سببه وهو التوبة لا يوجد توبة فيوجد قبول.
وعكسه: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ}، فإنه نفى لوجدان العهد لانتفاء سببه وهو الوفاء بالعهد.
وقوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}، أي من حجة أي لا حجة عليها فيستحيل إذن أن ينزل بها حجة.
ونظيره من السنة قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الدجال أعور والله ليس بأعور "، أي بذي جوارح كوامل بتخيل جوارح له نواقص.
ونظيره قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} ليس المراد أن كلمات الله تنفذ بعد نفاذ البحر بل لا تنفذ أبدا لا قبل نفاذ البحر، ولا بعده وحاصل الكلام لنفذ البحر ولا تنفذ كلمات ربي.
ووقع في شعر جرير قوله:

فيالك يوما خيره قبل شره ... تغيب واشيه وأقصر عاذله

قال الأصمعي: أنشدته كذلك لخلف الأحمر فقال: أصلحه:

فيالك يوما خيره دون شره ...

فإنه لا خير لخير بعده شر وما زال العلماء يصلحون أشعار العرب، قال الأصمعي: فقلت: والله لا ارويه أبدا إلا كما أوصيتني.
نقل ابن رشيق هذه الحكاية في العمدة وصوبها.
قال ابن المنير: ووقع لي أن الأصمعي وخلف الأحمر وابن رشيق أخطئوا جميعا وأصاب جرير وحده لأنه لم يرد إلا [فيالك يوم خير لا شر فيه] وأطلق[ قبل ]للنفي كما قلناها، في قوله تعالى: {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} وقوله: {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا}، فإن ظاهره نفي هذه الجوارح والحقيقة توجب نفي الآية عمن يكون له فضلا عمن لا يكون له.
وقوله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، فالمراد لا ذاك ولا علمك به أي كلاهما غير ثابت.
وقوله: {بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً}، أي شركاء لا ثبوت لها أصلا ولا أنزل الله بإشراكها حجة وإنزال الحجة كلاهما منتف.
وقوله: {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ}، أي ما لاثبوت له ولا علم الله متعلقا به نفيا للملزوم وهو النيابة بنفي لازمه وهو وجوب كونه معلوما للعالم بالذات لو كان له ثبوت بأي اعتبار كان.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}.
أصله لن يتوبوا فلن يكون لهم قبول توبة فأوثر الإلحاق ذهابا إلى انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم وهو قبول التوبة الواجب في حكمه تعالى وتقدس.
وقوله: {ولا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً}، معلوم أنه لا إكراه على الفاحشة لمن لا يريد تحصنا لأنها نزلت فيمن يفعل ذلك.
ونظيره: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً}، وأكل الربا منهى عنه قليلا وكثيرا لكنها نزلت على سبب وهو فعلهم ذلك ولأنه مقام تشنيع عليهم وهو بالكثير أليق.
وقوله: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} الآية، المعنى آمنا بالله دون الأصنام وسائر ما يدعى إليه دونها إلا أنهم نفوا الإيمان بالملائكة والرسل والكتب المنزلة والدار الآخرة والأحكام الشرعية ولهذا أنه لما رد بقوله: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} بعد إثباته إيمانهم لأنه ضروري لا اختياري أوجب ألا يكون الكلام مسوقا لنفي أمور يراعي فيها الحصر والتقييد كقوله: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} فإنه لم يقدم المفعول في [ آمنا ] حيث لم يرد ذلك المعنى فركب تركيبا يوهم إفراد الإيمان بالرحمن عن سائر ما يلزم من الإيمان.
وقوله: {يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ، فقيل من هذا الباب، فهي صفة لازمة وقيل التكبر قد يكون بحق وهو التنزه عن الفواحش والدنايا والتباعد من فعلها.
وأما قوله: {وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} فإن أريد بالبغي الظلم كان قوله {بِغَيْرِ الْحَقِّ} تأكيدا وإن أريد به الطلب كان قيدا.

قاعدة:
اعلم أن نفي العام يدل على نفي الخاص وثبوته لا يدل على ثبوته وثبوت الخاص يدل على ثبوت العام ولا يدل نفيه على نفيه ولا شك أن زيادة المفهوم من اللفظ توجب الالتذاذ به فلذلك كان نفي العام أحسن من نفي الخاص وإثبات الخاص أحسن من إثبات العام.
فالأول: كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل: [بضوئهم] بعد قوله: [ أضاءت ] لأن النور أعم من الضوء إذ يقال على القليل والكثير، وإنما يقال الضوء على النور الكثير ولذلك قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً} ففي الضوء دلالة على الزيادة فهو أخص من النور وعدمه لا يوجب عدم الضوء لاستلزام عدم العام عدم الخاص فهو أبلغ من الأول والغرض إزالة النور عنهم أصلا ألا ترى ذكره بعده .{وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ}.
وهاهنا دقيقة وهي أنه قال: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل:[ أذهب نورهم ] لأن الإذهاب بالشيء إشعار له بمنع عودته بخلاف الذهاب إذ يفهم من الكثير استصحابه في الذهاب ومقتضى منعه من الرجوع.
ومنه قوله تعالى: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالةٌ} ولم يقل:[ ضلال ] كما قالوا:{إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ} لأن نفي الواحد يلزم منه نفي الجنس البتة.
وقال الزمخشري: لأن الضلالة أخص من الضلال فكان أبلغ في نفي الضلال عنه، فكأنه قال: ليس به شيء من الضلال كما لو قيل: [لك] لك تمرة فقلت: ما لي تمرة.
ونازعه ابن المنير وقال: تعليله نفيها أبلغ [من نفي الضلال] لأنها أخص [منه] وهذا غير مستقيم فإن نفي الأعم أخص من نفي الأخص ونفي الأخص أعم من نفي الأعم فلا يستلزمه لأن الأعم لا يستلزم الأخص فإذا قلت هذا ليس بإنسان لم يلزم سلب الحيوانية عنه وإذا قلت هذا ليس بحيوان لم يكن إنسانا والحق أن يقال الضلالة أدنى من الضلال وأقل لأنها لا تطلق إلا على الفعلة الواحدة8 منه والضلال يصلح للقليل والكثير ونفي الأدنى أبلغ من نفي الأعلى لا من جهة كونه أخص بل من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.
والثاني: كقوله تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ}، ولم يقل [طولها] لأن العرض أخص إذ كل ما له عرض فله طول ولا ينعكس. وأيضا إذا كان للشيء صفة يغني ذكرها عن ذكر صفة أخرى تدل عليها كان الاقتصار عليها أولى من ذكرها لأن ذكرها كالتكرار وهو ممل وإذا ذكرت فالأولى تأخير الدلالة على الأخرى حتى لا تكون المؤخرة قد تقدمت الدلالة عليها.
وقد يخل بذلك مقصود آخر كما في قوله: {وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} لأجل السجع وإذا كان ثبوت شيء أو نفيه يدل على ثبوت آخر أو نفيه كان الأولى الاقتصار على الدال على الآخر فإن ذكرت فالأولى تأخير الدال.
وقد يخل بذلك لمقصود آخر، كما في قوله تعالى: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} وعلى قياس ما قلنا ينبغي الاقتصار على صغيرة وإن ذكرت الكبيرة منها فلتذكر أولا.
وكذلك قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} وعلى ذلك القياس يكفي [لهما أف] أو يقول [ولا تنهرهما] [فلا تقل لهما أف] وإنما عدل عن ذلك للإهتمام بالنهي عن التأفيف والعناية بالنهي حتى كأنه قال: نهى عنه مرتين: مرة بالمفهوم وأخرى بالمنطوق.
وكذلك قوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} فإن النوم غشية ثقيلة تقع علىالقلب تمنعه معرفة الأشياء والسنة مما يتقدمه من النعاس فلم يكتف بقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} دون ذكر النوم لئلا يتوهم أن السنة إنما لم تأخذه لضعفها ويتوهم أن النوم قد يأخذه لقوته فجمع بينهما لنفي التوهمين أو السنة في الرأس والنعاس في العين والنوم في القلب تلخيصه وهو منزه عن جميع المفترات ثم أكد نفي السنة والنوم بقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} لأنه خلقهما بما فيهما والمشاركة إنما تقع فيما فيهما ومن يكن له ما فيهما فمحال نومه ومشاركته إذ لو وجد شيء من ذلك لفسدتا بما فيهما وأيضا فإنه يلزم من نفي النسة نفي النوم أنه لم يقل لا ينام وإنما قال: {لا تَأْخُذُهُ}.
يعنى لا تغلبه فكأنه يقول لا يغلبه القليل ولا الكثير من النوم والأخذ في اللغة بمعنى القهر والغلبة ومنه سمى الأسير مأخوذا وأخيذا وزيدت [لا] في قوله: {وَلا نَوْمٌ} لنفيهما عنه بكل حال ولولاها لاحتمل أن يقال: لا تأخذه سنة ولا نوم في حال واحدة وإذا ذكرت صفات فإن كانت للمدح فالأولى الانتقال فيها من الأدنى إلى الأعلى ليكون المدح متزايدا بتزايد الكلام فيقولون: فقيه عالم وشجاع باسل وجواد فياض ولا يعكسون هذا لفساد المعنى لأنه لو تقدم الأبلغ لكان الثاني داخلا تحته فلم يكن لذكره معنى ولا يوصف بالعالم بعد الوصف بالعلام.
وقد اختلف الأدباء في الوصف بالفاضل والكامل أيهما أبلغ على ثلاثة أقوال:.
ثالثهما: أنهما سواء قال الأقليشي: والحق أنك مهما نظرت إلى شخص فوجدته مع شرف العقل والنفس كريم الأخلاق والسجايا معتدل الأفعال وصفته بالكمال وإن وجدته وصل إلى هذه الرتب بالكسب والمجاهدة وإماطة الرذائل وصفته بالفضل وهذا يقتضي أنهما متضادان فلا يوصف الشخص الواحد بهما ألا بتجوز.
وقال ابن عبد السلام في قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} إنما قدم الغيب مع أن علم المغيبات أشرف من المشاهدات والتمدح به أعظم وعلم البيان يقتضي تأخير الأمدح وأجاب بأن المشاهدات له أكثر من الغائب عنا والعلم يشرف بكثرة متعلقاته فكان تأخير الشهادة أولى.
وقول الشيخ: إن المشاهدات له أكثر فيه نظر بل في غيبه ما لايحصى: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} ، وإنما الجواب أن الانتقال للأمدح ترق فالمقصود هنا بيان أن الغيب والشهادة في علمه سواء فنزل الترقي في اللفظ منزلة ترق في المعنى لإفادة استوائهما في علمه تعالى. ويوضحه قوله تعالى: { سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} فصرح بالاستواء.
هذا كله في الصفات وأما الموصوفات فعلى العكس من ذلك فإنك تبدأ بالأفضل فتقول: قام الأمير ونائبه وكاتبه قال تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} الآية. فقدم الخيل لأنها أحمد وأفضل من البغال وقدم البغال على الحمير لذلك أيضا.
فإن قلت: قاعدة الصفات منقوضة بالقاعدة الأخرى وهي أنهم يقدمون الأهم فالأهم في كلامهم كما نص عليه سيبويه وغيره.
وقال الشاعر:
أبي دهرنا إسعافنا في نفوسنا ... وأسعفنا فيمن نحب ونكرم
فقلت له نعماك فيهم أتمها ... ودع أمرنا إن المهم المقدم

قلت: المراد بقوله:" فقدم الأهم فالأهم "فيما إذا كانا شيئين متغايرين مقصودين وأحدهما أهم من الاخر فإنه يقدم وأما تأخر الأمدح في الصفات فذلك فيما إذا كانتا صفتين لشيء واحد فلو أخرنا الأمدح لكان تقديم الأول نوعا من العبث.
هذا كله في صفات المدح فإن كانت للذم فقد قالوا ينبغي الابتداء بالأشد ذما كقوله تعالى: {مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} قال ابن النفيس: في كتاب.
"طريق الفصاحة": وهو عندي مشكل ولم يذكر توجيهه.
وقال حازم في "منهاجه": يبدأ في الحسن بما ظهور الحسن فيه أوضح وما النفس بتقديمه أعنى ويبدأ في الذم بما ظهور القبح فيه أوضح والنفس بالالتفات إليه أعنى ويتنقل في الشيء إلى ما يليه من المزية في ذلك ويكون بمنزلة المصور الذين يصور أولا ما حل من رسوم تخطيط الشيء ثم ينتقل إلى الأدق فالأدق.

فائدة:.
نفي الاستطاعة قد يراد به نفي الامتناع أو عدم إمكان وقوع الفعل مع إمكانه نحو هل تستطيع أن تكلمني ؟ بمعنى هل تفعل ذلك وأنت تعلم أنه قادر على الفعل ؟ وقد حمل قوله تعالى حكاية عن الحواريين: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} على المعنى الأول أي هل يجيبنا إليه ؟ أو هل يفعل ربك ؟ وقد علموا أن الله قادر على الإنزال وأن عيسى قادر على السؤال وإنما استفهموا هل هنا صارف أو مانع ؟.
وقوله: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} {فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً} وقد يراد به الوقوع بمشقة وكلفة كقوله تعالى: {لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً}.


[ البرهان في علوم القرآن ( 3 / 393 ـ 407 )]


رد مع اقتباس
  #15  
قديم 12 ذو القعدة 1430هـ/30-10-2009م, 06:43 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي


فائدة:.
قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} قالوا: المجاز يصح نفيه بخلاف الحقيقة لا يقال للأسد: ليس بشجاع.
وأجيب بأن المراد بالرمي هنا المرتب عليه وهو وصوله إلى الكفار قالوا رد عليه السلب هنا مجاز لا حقيقة والتقدير: وما رميت خلقا إذ رميت كسبا أو ما رميت أنتهاء إذ رميت ابتداء وما رميت مجازا إذ رميت حقيقة.
إخراج الكلام مخرج الشك في اللفظ دون الحقيقة لضرب من المسامحة وحسم العناد.
كقوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وهو يعلم أنه على لهدى وأنهم على الضلال لكنه أخرج الكلام مخرج الشك تقاضيا ومسامحة ولا شك عنده ولا ارتياب.
وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}.
ونحوه: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}. أورده على طريق الاستفهام والمعنى هل يتوقع منكم إن توليتم أمور الناس وتأمرتم عليهم لما تبين لكم من المشاهد ولاح منكم في المخايل: {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} تهالكا على الدنيا ؟.
وإنما أورد الكلام في الآية على طريق سوق غير المعلوم سياق غيره ليؤديهم التأمل في التوقع عمن يتصف بذلك إلى ما يجب أن يكون مسببا عنه من أولئك الذين أصمهم الله وأعمى أبصارهم فيلزمهم به على ألطف وجه إبقاء عليهم من أن يفاجئهم به وتأليفا لقلوبهم ولذلك التفت عن الخطاب إلى الغيبة تفاديا عن مواجهتهم بذلك.
وقد يخرج الواجب في صورة الممكن كقوله تعالى :{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً}.
{فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ}.
و{عسى ربكم أن يرحمكم}.
{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ }.
وقد يخرج الإطلاق في صورة التقييد كقوله: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ}.
ومنه قوله تعالى حاكيا عن شعيب: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} فالمعنى لا يكون أبدا من حيث علقه بمشيئة الله لما كان معلوما أنه يشاؤه إذ يستحيل ذلك على الأنبياء وكل أمر قد علق بما لايكون فقد نفى كونه على أبعد الوجوه.
وقال قطرب: في الكلام تقديم وتأخير والاستثناء من الكفار لا من شعيب والمعنى: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا إلا أن يشاء الله أن تعودوا في ملتهم. ثم قال تعالى حاكيا عن شعيب: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا} على كل حال.
وقيل: الهاء عائدة إلى القرية لا إلى الله.
الإعراض عن صريح الحكم.
كقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، أعرض عن ذكر مقدار الجزاء والثواب وذكر ما هو معلوم مشترك بين جميع أعمال البشر تفخيما لمقدار الجزاء لما فيه من إبهام المقدار وتنزيلا له منزلة ما هو غير محتاج إلى بيانه على حد [فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله] أعرض عن ذكر الجزاء إلى إعادة الشرط تنبيها على عظم ما ينال وتفخيما لبيان ما أتى به من العمل فصار السكوت عن مرتبة الثواب أبلغ من ذكرها.
وكقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} وهذه الآية تتضمن الرجوع والبقاء والجمع ألا تراه كيف رجع بعد ذكره المبتدأ الذي هو الذين عن ذكر خبره إلى الشروع في كلام آخر فبنى مبتدأ على مبتدأ وجمع والمعنى قوله: {إِنَّا لا نُضِيعُ} من خبر المبتدأ الأول وتقديره: إنا لانضيع أجرهم لأنا لا نضيع أجر من أحسن عملا.

الهدم.
وهو أن يأتي الغير بكلام يتضمن معنى فتأتي بضده فإنك قد هدمت ما بناه المتكلم الأول، كقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} هدمه بقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} وبقوله: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} وبقوله: {فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ}، تقديره إن كنتم صادقين في دعواكم.
ومنه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} هدمه بقوله: {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ } وقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ}.
منه: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ } هدمه بقوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} أي في دعواهم الشهادة.
التوسع.
منه الاستدلال بالنظر في الملكوت، كقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
ويكثر ذلك في تقديرات العقائد الإلهية: لتتمكن في النفوس، كقوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} وذلك بعد ذكر النطفة وتقلبها في مراتب الوجود وتطورات الخلقة.
وكقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
ومنه التوسع في ترادف الصفات، كقوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}، فإنه لو أريد اختصاره لكان :{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} مظلم.
ومنه التوسع في الذم،كقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} إلى قوله: {عَلَى الْخُرْطُومِ}.
التشبيه.
اتفق الأدباء على شرفه في أنواع البلاغة وأنه إذا جاء في أعقاب المعاني أفادها كمالا وكساها حلة وجمالا قال المبرد في "الكامل": هو جار في كلام العرب حتى لو قال قائل: هو أكثر كلامهم لم يبعد. وقد صنف فيه أبو القاسم ابن البنداري البغدادي كتاب "الجمان في تشبهيات القرآن".

مباحث التشبيه.
وفيه مباحث:.
الأول: في تعريفه.
وهو إلحاق شيء بذي وصف في وصفه.
وقيل: أن تثبت للمشبه حكما من أحكام المشبه به.
وقيل: الدلالة على اشتراك شيئين في وصف هو من أوصاف الشيء الواحد كالطيب في المسك والضياء في الشمس والنور في القمر. وهو حكم إضافي لا يرد إلا بين الشيئين بخلاف الاستعارة.
الثاني: في الغرض منه.
وهو تأنيس النفس بإخراجها من خفي إلى جلي وإدنائه البعيد من القريب ليفيد بيانا.
وقيل: الكشف عن المعنى المقصود مع الاختصار فإنك إذا قلت: زيد أسد كان الغرض بيان حال زيد وأنه متصف بقوة البطش والشجاعة وغير ذلك إلا أنا لم نجد شيئا يدل عليه سوى جعلنا إياه شبيها بالأسد حيث كانت هذه الصفات مختصة به فصار هذا أبين وأبلغ من قولنا زيد شهم شجاع قوى البطش ونحوه.
الثالث: في أنه حقيقة أو مجاز.
والمحققون على أنه حقيقة قال الزنجاني في "المعيار": التشبيه ليس بمجاز لأنه معنى من المعاني وله ألفاظ تدل عليه وضعا فليس فيه نقل اللفظ عن موضوعه وإنما هو توطئة لمن سلك سبيل الاستعارة والتمثيل لأنه كالأصل لهما وهما كالفرع له.
والذي يقع منه في حيز المجاز عند البيانيين هو الذي يجيء على حد الاستعارة.
وتوسط الشيخ عز الدين فقال: إن كان بحرف فهو حقيقة أو بحذفه فمجاز بناء على أن الحذف من باب المجاز.
الرابع: في أدواته.
وهي أسماء وأفعال وحروف.
فالأسماء: مثل وشبه ونحوهما قال تعالى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى} {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً}{إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا}.
والأفعال: كقوله: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}.
والحروف إما بسيطة كالكاف، نحو: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ}{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} وإما مركبة، كقوله تعالى: {كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ}.
الخامس: في أقسامه.
وهو ينقسم باعتبارات:.
الأول: أنه إما أن يشبه بحرف أولا.
وتشبيه الحرف ضربان:.
أحدهما: يدخل عليه حرف التشبيه فقط، كقوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} وقوله: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ}.
{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}.
{خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}.
{وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ}.
{وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}.
وثانيها: أن يضاف إلى حرف التشبيه حرف مؤكد ليكون ذلك علما على قوة التشبيه وتأكيده وكقوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ}.
{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ}.
{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ}.
{تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ}.
{كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}.
فإن قيل كيف استرسل أهل الجنة وقوله: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} ولا شك أنه ليس به واحترزت بلقيس فقالت: {كَأَنَّهُ هُوَ} ولم تقل: هو هو ؟.
قيل: أهل الجنة وثقوا بأن الغرض مفهوم وأن أحدا لا يعتقد في الحاضر أنه عين المستهلك الماضي وأما بلقيس فالتبس عليها الأمر وظنت أنه يشبهه، لأنها بَنَتْ على العادة وهو أن السرير لا ينتقل من إقليم إلى آخر في طرفة عين.
وأما التشبيه بغير حرف، فيقصد به المبالغة تنزيلا للثاني منزلة الأول تجوزا، كقوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}.
وقوله: {وَسِرَاجاً مُنِيراً}.
وقوله: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ}.
وكذلك: {تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ}.
وجعل الفارسي منه قوله تعالى: {قَوَارِيرَا. قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} أي كأنها في بياضها من فضة فهو على التشبيه لا على أن القوارير من فضة بدليل قوله: {بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ}، فقوله:[ بيضاء ] مثل قوله:[ من فضة ].

تنبيهان:.
الأول: هذا القسم يشبه الاستعارة في بعض المواضع والفرق بينهما -كما قاله حازم وغيره - أن الاستعارة وإن كان فيها معنى التشبيه فتقدير حرف التشبيه لا يجوز فيها والتشبيه بغير حرف على خلاف ذلك لأن تقدير حرف التشبيه واجب فيه.
وقال الرماني في قوله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} أي تبصره لأنه لا يجوز تقدير حرف التشبيه فيها.
وقد اختلف البيانيون في نحو قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} إنه تشبيه بليغ أو استعارة ؟ والمحققون -كما قاله الزمخشري - على الأول قال: لأن المستعار له مذكور - وهم المنافقون - أي مذكور في تقدير الآية والاستعارة لا يذكر فيها المستعار له ويجعل الكلام خلوا عنه بحيث يصلح لأن يراد به المنقول عنه و[ المنقول] إليه لولا لا قرينة ومن ثم ترى المفلقين السحرة منهم كأنهم يتناسون التشبيه ويضربون عنه صفحا.
وقال السكاكي: لأن من شرط الاستعارة إمكان حمل الكلام على الحقيقة في الظاهر وتناسى التشبيه وزيد أسد لا يمكن كونه حقيقة فلا يجوز أن يكون استعارة.
الثاني: قد يترك التشبيه لفظا ويراد معنى إذ لم يرد معنى ولم يكن منويا كان استعارة.
مثاله قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}، فهذا تشبيه لا استعارة لذكر الطرفين الخيط الأسود وهو ما يمتد معه من غسق الليل شبيها بخيط أسود وابيض وبينا بقوله: {مِنَ الْفَجْرِ} والفجر - وإن كان بيانا للخيط الأبيض - لكن لما كان أحدهما بيانا للآخر لدلالته عليه اكتفى به عنه ولولا البيان كان من باب الاستعارة كما أن قولك رايت أسدا استعارة فإذا زدت من فلان، صار تشبيها وأما أنه لم زيد [من الفجر] حتى صار تشبيها ؟ وهلا اقتصر به.
على الاستعارة التي هي أبلغ فلأن شرط الاستعارة أن يدل عليه الحال ولو لم يذكر [من الفجر] لم يعلم أن الخيطين مستعاران من [بدا الفجر] فصار تشبيها.

التقسيم الثاني.
ينقسم باعتبار طرفيه إلى أربعة أقسام، لأنهما:.
إما حسيان، كقوله تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} وقوله: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ}.
أو عقليان، كقوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}.
وإما تشبيه المعقول بالمحسوس، كقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ} وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ}، وقوله: { كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} لأن حملهم التوراة ليس كالحمل على العاتق إنما هو القيام بما فيها.
أما عكسه فمنعه الإمام، لأن العقل مستفاد من الحس ولذلك قيل: من فقد حسا فقد فقد علما وإذا كان ان المحسوس أصلا للمعقول فتشبيهه به يستلزم جعل الأصل فرعا والفرع أصلا وهو غير جائز.
وأجازة غيره كقوله:
وكأن النجوم بين دجاه ... سنن لاح بينهن ابتداع
وينقسم باعتبار آخر إلى خمسة أقسام:.
الأول: قد يشبه ما تقع عليه الحاسة بما لا تقع اعتمادا على معرفة النقيض والضد فإن إدراكهما ابلغ من إدراك الحاسة كقوله تعالى: {كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ}، فشبه بما لا نشك أنه منكر قبيح لما حصل في نفوس الناس من بشاعة صور الشياطين وإن لم ترها عيانا.
الثاني: عكسه كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} أخرج ما لا يحس - وهو الإيمان - إلى ما يحس - وهو السراب - والمعنى الجامع بطلان التوهم بين شدة الحاجة وعظم الفاقة.
الثالث: إخرج ما لم تجر العادة به إلى ما جرت به، نحو: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ}، والجامع بينهما الانتفاع بالصورة. وكذا قوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} والجامع البهجة والزينة ثم الهلاك وفيه العبرة.
الرابع: إخراج ما لا يعرف بالبديهة إلى ما يعرف بها كقوله: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} الجامع العظم وفائدته التشويق إلى الجنة بحسن الصفة.
الخامس: إخراج ما لا قوة له في الصفة إلى ما له قوة فيها كقوله: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} والجامع فيهما العظم والفائدة البيان عن القدرة على تسخير الأجسام العظام في أعظم ما يكون من الماء.
وعلى هذه الأوجه تجري تشبيهات القرآن.

التقسيم الثالث.
ينقسم إلى مفرد ومركب:.
والمركب: أن ينزع من أمور مجموع بعضها إلى بعض، كقوله تعالى :{كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} فالتشبيه مركب من أحوال الحمار وذلك هو حمل الأسفار التي هي أوعية العلم وخزائن ثمرة العقول ثم لا يحسن ما فيها ولا يفرق بينها وبين سائر الأحمال التي ليست من العلم في شيء فليس له مما يحمل حظ سوى أنه يثقل عليه ويتعبه.
وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً}.
وقوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} قال بعضهم: شبه الدنيا بالماء ووجه الشبه أمران: أحدهما: أن الماء إذا أخذت منه فوق حاجتك تضررت وإن أخذت قدر الحاجة انتفعت به فكذلك الدنيا. وثانيهما: أن الماء إذا أطبقت كفك عليه لتحفظه لم يحصل فيه شيء فكذلك الدنيا وليس المراد تشبيهها بالماء وحده بل المراد تشبيهه بهجةالدنيا في قلة البقاء والدوام بأنيق النبات الذي يصير بعد تلك البهجة والغضاضة والطراوة إلى ما ذكر.
ومن تشبيه المفرد بالمركب قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} فإنه سبحانه أراد تشبيه نوره الذي يلقيه في قلب المؤمن ثم مثله بمصباح ثم لم يقنع بكل مصباح بل بمصباح اجتمعت فيه أسباب الإضاءة بوضعه في مشكاة وهي الطاقة غير النافذة وكونها لا تنفذ لتكون أجمع للتبصر وقد جعل فيها مصباح في داخل زجاجة فيه الكوكب الدري في صفاتها وذهن المصباح من أصفى الأدهان وأقواها وقودا لأنه من زيت شجر في أوسط الزجاج لا شرقية ولا غربية فلا تصيبها الشمس في أحد طرفي النهار بل تصيبها أعدل إصابة.
وهذا مثل ضربه الله للمؤمن ثم ضرب للكافر مثلين: أحدهما: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ}، والثاني: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} شبه في الأول ما يعلمه من لا يقدر الإيمان المعتبر بالأعمال التي يحسبها بقيعة ثم يخيب أمله بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش يوم القيامة فيجيئه فلا يجده ماء ويجد زبانية الله عنده فيأخذونه فيلقونه إلى جهنم.
البحث السادس.
ينتظم قواعد تتعلق بالتشبيه.
الأولى: قد تشبه أشياء باشياء ثم تارة يصرح بذكر المشبهات كقوله تعالى:{وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيء} وتارة لا يصرح به بل يجيء مطويا على سنن الاستعارة كقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ}،{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} الآية.
قال الزمخشري: والذي عليه علماء البيان أن التمثيلين جميعا من جملة التمثيلات المركبة لا المفردة بيانه أن العرب تأخذ أشياء فرادى [معزولا بعضها من بعض لم يأخذ هذا بحجزه ذاك] فتشبهها بنظائرها كما ذكرنا، وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء تضامت حتى صارت شيئا واحدا بأخرى كقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} الآية.
ونظائره من حيث اجتمعت تشبيهات كما في تمثيل الله حال المنافقين أول سورة البقرة، قال الزمخشري: وأبلغه الثاني لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته ولذلك أخر قال وهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ.
الثانية: أعلى مراتب التشبيه في الأبلغية ترك وجه الشبه وأداتة نحو زيد أسد أما ترك وجهه وحده فكقوله زيد كالأسد وأما ترك أداته وحدها فكقوله: زيد الأسد شدة.
وفي كلام صاحب "المفتاح" إشارة إلى أن ترك وجه الشبه أبلغ من ترك أداتة قال: لعموم وجه الشبه.
وخالفه صاحب "ضوء المصباح" لأنه إذا عم واحتمل التعدد ولم تبق دلالته على ما به الاشتراك دلالة منطوق بل دلالة مفهوم فيحتمل أن يكون ما به الاشتراك صفة ذم لا مدح وهو غير لازم في ترك الأداة إلا أن يقال يلزم مثله من تركها لأن قرينة ترك الأداة تصرف إرادة المدح دون الذم.
وذكرهما كقولك: زيد كالأسد شدة.
الثالثة: قد تدخل الاداة على شيء وليس هو عين المشبه ولكنه ملتبس به واعتمد على فهم المخاطب كما قال تعالى: {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } الآية. المراد: كونوا أنصار الله خالصين في الانقياد كشأن مخاطبي عيسى إذ قالوا.
ومما دل على السياق قوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} وفيه زيادة وهو تشبيه الخارق بالمعتاد.
الرابعة: إذا كانت فائدته إنما هي تقريب الشبه في فهم السامع وإيضاحه له فحقه أن يكون وجه الشبه في المشبه به أتم والقصد التنبيه بالأدنى على الأعلى مثل قياس النحوي ولا سيما إذا كان الدنو جدا أو العلو جدا وعليه بنى المعري قوله:
ظلمناك في تشبيه صدغيك بالمسك ... وقاعدة التشبيه نقصان ما يحكى
وقول آخر:
كالبحر والكاف أني ضفت زائدة ... فيه فلا تظنها كاف تشبيه
وأما قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} فيمكن أن يكون المشبه به أقوى لكونه في الذهن أوضح إذ الإحاطة به أتم.
وأما قوله تعالى :{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} فهو من تشبيه الغريب بالأغرب لأن خلق آدم من خلق عيسى ليكون أقطع للخصم وأوقع في النفس وفيه دليل على جواز القياس وهو رد فرع إلى أصل لشبه ما لأن عيسى رد إلى آدم لشبه بينهما والمعنى أن آدم خلق من تراب ولم يكن له أب ولا أم فكذلك خلق عيسى من غير أب.
وقوله: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} شبههم بالخشب لأنه لا روح فيها وبالمسندة لأنه لا انتفاع بالخشب في حال تسنيده.
الخامسة: الأصل دخول أداة التشبيه على المشبه به وهو الكامل كقولك: ليس الفضة كالذهب وليس العبد كالحر وقد تدخل على المشبه لأسباب:.
منها وضوح الحال، كقوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} فإن الأصل وليس الأنثى كالذكر وإنما عدل عن الأصل لأن معنى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ} الذي طلبت {كَالأُنْثَى} التي وهبت لها لأن الأنثى أفضل منه وقيل: لمراعاة الفواصل لأن قبله: {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى}.
ووهم ابن الزملكاني في "البرهان" حيث زعم أن هذا من التشبيه المقلوب وليس كذلك لما ذكرنا من المعنى.

وقيل: لما كان جعل الفرع أصلا والأصل فرعا في التشبيه في حالة الإثبات يقتضى المبالغة في التشبيه كقولهم: القمر كوجه زيد والبحر ككفيه كان جعل الأصل فرعا والفرح أصلا في كماله الذي يقتضى نفي المبالغة في المشابهة لا نفي المشابهة وذلك هو المقصود هنا لأن المشابهة واقعة بين الذكر والآنثى في أعم الأوصاف وأغلبها ولهذا يقاد أحدهما بالآخر.
ومنها قصد المبالغة، فيقلب التشبيه ويجعل المشبه هو الأصل ويسمى تشبيه العكس لاشتماله على جعل المشبه مشبها به والمشبه به مشبها، كقوله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} كان الأصل أن يقولوا: إنما الربا مثل البيع لأن الكلام في الربا لا في البيع لكن عدلوا عن ذلك وتجرءوا إذ جعلوا الربا أصلا ملحقا به البيع في الجواز وأنه الخليق بالحل.
ويحتمل أن يكون المراد إلزام الإسلام فيحرم البيع قياسا على الربا لاشتماله على الفضل طردا لأصلهم وهو في المعنى نقض على علة التحريم ويؤيده قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} وفيه إشارة إلى أن الواجب اتباع أحكام الله واقتفاؤها من غير تعرض لإجرائها على قانون واحد وأن الأسرار الإلهية كثيرا ما تخفى وهو اعلم بمصالح عباده فيسلم له عنان الانقياد وأنهم جعلوا ذلك من باب إلزام الجدلي وجاء الجواب بفك الملازمة وأن الحكمة فرقت بينهما وفيه إبطال القياس في مقابلة النص.
ومنه قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} فإن الظاهر العكس لأن الخطاب لعبدة الأوثان وسموها آلهة تشبهيا بالله سبحانه وقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق فخولف في خطابهم لأنهم بالغوا في عبادتهم وغلوا حتى صارت عندهم أصلا في العبادة والخالق سبحانه فرعا فجاء الإشكال على وفق ذلك.
والظاهر أنهم لما قاسوا غير الخالق خوطبوا بأشد الإلزامين وهو تنقيص المقدس لا تقديس الناقص.
قال السكاكي: وعندي أن المراد بـ[من لا يخلق] الحي القادر من الخلق تعريضا بإنكار تشبيه الأصنام بالله تعالى من طريق الأولى. وجعل منه قوله تعالى :{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} بدل [هواه إلهه] فإنه جعل المفعول الأول ثانيا والثاني أولا للتنبيه على أن الهوى أقوى وأوثق عنده من إلاهه.
ومنه قوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}.
وقوله: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}، فإن بعضهم أورد أن أصل التشبيه يشبه الأدنى بالأعلى فيقال: [ أفتجعل المجرمين كالمسلمين والفجار كالمتقين ] فلم خولفت القاعدة !.
ويقال: فيه وجهان:.
أحدهما: أن الكفار كانوا يقولون: نحن نسود في الآخرة كما نسود في الدنيا ويكونون أتباعا لنا فكما أعزنا الله في هذه الدار يعزنا في الآخرة فجاء الجواب على معتقدهم أنهم أعلى وغيرهم أدنى.
الثاني: لما قيل قبل الآية: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي يظنون أن الأمر يهمل وأن لا حشر ولا نشر أم لم يظنوا ذلك ولكن يظنون أنا نجعل المؤمنين كالمجرمين والمتقين كالفجار.
السادسة: أن التشبيه في الذم يشبه الأعلى بالأدنى، لأن الذم مقام الأدنى والأعلى ظاهر عليه فيشبه به في السلب ومنه قوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ}، أي في النزول لا في العلو.
ومنه: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} أي في سوء الحال وإذا كان في المدح يشبه الأدنى بالأعلى فيقال: تراب كالمسك وحصى كالياقوت وفي الذم مسك كالتراب وياقوت كالزجاج.
السابعة: قد يدخل التشبيه على لفظ وهو محذوف لامتناع ذلك، لأنه بسبب المحذوف كقوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ}.
فإن التقدير: ومثل واعظ الذين كفروا فالمشبه الواعظ والمقصود تشبيه حال الواعظ منهم بالناعق للأغنام وهي لا تعقل معنى دعائه وإنما تسمع صوته ولا تفهم غرضه وإنما وقع التشبيه على الغنم التي ينعق بها الراعي ويمد صوته إليها وفيه وجوه:.
أحدها: أن المعنى مثل الذين كفروا كمثل الغنم لا تفهم نداء الناعق فأضاف المثل إلى الناعق وهو في المعنى للمنعوق به على القلب.
ثانيها: ومثل الذين كفروا ومثلنا ومثل مثلك الذي ينعق أي مثلهم في الإعراض.
ومثلنا في الدعاء والإرشاد كمثل الناعق بالغنم فحذف المثل الثاني اكتفاء بالأول كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}.
وثالثها: أن المعنى: ومثل الذين كفروا في دعائهم الاصنام وهي لا تعقل ولا تسمع كمثل الذي ينعق بما لا يسمع وعلى هذا فالنداء والدعاء منتصبان بـ[ينعق] و[لا] توكيد للكلام ومعناها الإلغاء.
رابعها: أن المعنى ومثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام وعبادتهم لها واسترزاقهم إياها كمثال الراعي الذي ينعق بغنمه ويناديها فهي تسمع نداء ولا تفهم معنى كلامه فيشبه من يدعوه الكفار من المعبودات من دون الله بالغنم من حيث لا تعقل الخطاب.
وهذا قريب من الذي قبله ويفترقان في أن الأول يقتضي ضرب المثل بما لا يسمع الدعاء والنداء جملة ويجب صرفه إلى غير الغنم وهذا يقتضي ضرب المثل بما لا يسمع الدعاء والنداء جملة وإن لم يفهمهما والأصنام - من حيث كانت لا تسمع الدعاء جملة - يجب أن يكون داعيها وناديها أسوأ حالا من منادى الغنم ذكر ذلك الشريف المرتضى في كتاب "غرر الفوائد".
ومنه قوله تعالى: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ..} الآية، وإنما وقع التشبيه على الحرث الذي أهلكته الريح قيل فيه إضمار أي مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح.
قال ثعلب: فيه تقديم وتأخير، أي كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم أصابته ريح فيها صر فأهلكته.
وأما قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، فإن التقدير: كما يحب المؤمنون الله قال: وحذف الفاعل لأنه غير ملتبس.
واعترض عليه بأنه لا حاجة لذلك فإن المعنى حاصل بتقديره مبنيا للفاعل.
وأجيب بأنه تقدير معنى لكن محافظة على اللفظ فلا يقدر الفاعل إذ الفاعل في باب المصدر فضلة فلذلك جعله كذلك في التقدير.
الاستعارة.
هي من أنواع البلاغة وهي كثيرة في القرآن ومنهم من أنكره بناء على إنكار المجاز في القرآن والاستعارة مجاز وقد سبق تقديره. ومنع القاضي عبد الوهاب المالكي إطلاق لفظ الاستعارة فيه لأن فيها إيهاما للحاجة وهكذا كما منع بعضهم لفظ القرآن مخلوق وهو لا ينكر وقوع المجاز والاستعارة فيه إنما توقف على إذن الشرع.
ولا شك أن المجوزين للإطلاق شرطوا عدم الإبهام وقد يمنعون الإبهام المذكور لأنه في الاصطلاح اسم لأعلى مراتب الفصاحة.
وقال الطرطوسي: إن أطلق المسلمون الاستعارة فيه أطلقناها وإن امتنعوا امتنعنا ويكون هذا من قبيل أن الله تعالى عالم والعلم هو العقل ثم لا نصفه به لعدم التوقيف. انتهى.
والمشهور تجويز الإطلاق.

مباحث الاستعارة.
ثم فيها مباحث:.
الأول: وهي "استفعال"، من العارية، ثم نقلت إلى نوع من التخييل لقصد المبالغة.
في التخييل والتشبيه مع الإيجاز نحو لقيت أسدا وتعنى به الشجاع.
وحقيقتها أن تستعار الكلمة من شيء معروف بها إل شيء لم يعرف بها وحكمه ذلك إظهار الخفي وإيضاح الظاهر الذي ليس بجلي أو بحصول المبالغة أو للمجموع.
فمثال إظهار الخفي، قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ}، فإن حقيقته أنه في أصل الكتاب فاستعير لفظ [الأم] للأصل لأن الأولاد تنشأ من الأم كما تنشأ الفروع من الأصول. وحكمة ذلك تمثيل ما ليس بمرئي حتى يصير مرئيا فينتقل السامع من حد السماع إلى حد العيان وذلك أبلغ في البيان.
ومثال إيضاح ما ليس بجلي ليصير جليا، قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} لأن المراد أمر الولد بالذل لوالديه رحمة فاستعير للولد أولا جانب ثم للجانب جناح وتقدير الاستعارة القريبة:[ واخفض لهما جانب الذل ] أي اخفض جانبك ذلا.
وحكمة الاستعارة في هذاجعل ما ليس بمرئي مرئيا لأجل حسن البيان ولما كان المراد خفض جانب الولد للوالدين بحيث لا يبقى الولد من الذل لهما والاستكانة مركبا احتيج من الاستعارة إلى ما هو أبلغ من الأولى فاستعير الجناح لما فيه من المعاني التي لا تحصل من خفض الجناح لأن من ميل جانبه إلى جهة السفل أدنى ميل صدق عليه أنه خفض جانبه المراد خفض يلصق الجنب بالإبط ولا يحصل ذلك إلا بخفض الجناح كالطائر وأما قول أبي تمام:
لا تسقني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ماء بكائي
فيقال: إنه أرسل إليه قارورة وقال: ابعث إلى فيها شيئا من ماء الملام فأرسل.
أبو تمام: أن ابعث لي ريشة من جناح الذل أبعث إليك من ماء الملام.
وهذا لا يصح له تعلق به والفرق بين التشبيهين ظاهر لأنه ليس جعل الجناح للذل كجعل الماء للملام فإن الجناح للذل مناسب فإن الطائر إذا وهى وتعب بسط جناحه وألقى نفسه إلى الأرض. وللإنسان أيضا جناح فإن يديه جناحاه وإذا خضع واستكان يطأطىء من رأسه وخفض من بين يديه فحسن عند ذلك جعل الجناح للذل وصار شبها مناسبا وأما ماء الملام فليس كذلك في مناسبة التشبيه فلذلك استهجن منه على أنه قد يقال إن الاستعارة التخييلية فيه تابعة للاستعارة بالكناية فإن تشبيه الملام بظرف الشراب لاشتماله على ما يكرهه الشارب لمرارته ثم استعار الملام له كمائه ثم يخرج منه شيء يشبه بالماء فالاستعارة في اسم الماء.
الثاني: في أنها قسم من أقسام المجاز لاستعمال اللفظ في غير ما وضع له.
وقال الإمام فخر الدين: ليس بمجاز لعدم النقل. وفي الحقيقة هي تشبيه محذوف الأداة لفظا وتقديرا ولهذا حدها بعضهم بادعاء معنى الحقيقة في الشيء مبالغة في التشبيه. كقولهم: انشقت عصاهم إذا تفرقوا وذلك للعصا لا للقوم ويقولون: كشفت الحرب عن ساق.
ويفترقان في أن التشبيه إذا ذكرت معه الأداة فلا خفاء أنه تشبيه وإن حذفت فهذا يلتبس بالاستعارة فإذا ذكرت المشبه كقولك: زيد الأسد فهذا تشبيه بليغ كقوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}، إن لم يذكر المشبه به فهو استعارة كقوله:
لدى أسد شاكي السلاح مقذف
له لبد أظفاره لم تقلم
فهذه استعارة نقلت لها وصف الشجاع إلى عبارة صالحة للأسد لولا قرينة السلاح لشككت هل أراد الرجل الشجاع أو الأسد الضاري ؟.
الثالث: لا بد فيها من ثلاثة أشياء أصول: مستعار، ومستعار منه، وهو اللفظ، ومستعار له وهو المعنى، ففي قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} المستعار الاشتعال، المستعار منه النار، والمستعار له الشيب، والجامع بين المستعار منه والمستعار له مشابهة ضوء النهار لبياض الشيب.
وفائدة ذلك وحكمته وصف ما هو أخفى بالنسبة إلى ما هو أظهر. وأصل الكلام أن يقال: واشتعل شيب الرأس وأنما قلب للمبالغة لأنه يستفاد منه عموم الشيب لجميع الرأس ولو جاء الكلام على وجهه لم يفد ذلك العموم. ولا يخفى أنه أبلغ من قولك كثر الشيب في الرأس وإن كان ذلك حقيقة المعنى والحق أن المعنى يعار أولا ثم بواسطته يعار اللفظ ولا تحسن الاستعارة إلا حيث كان الشبه مقررا بينهما ظاهرا وإلا فلا بد من التصريح بالشبه فلو قلت: رأيت نخلة أو خامة وأنت تريد مؤمنا إشارة إلى قوله: " مثل المؤمن كمثل النخلة " أو " الخامة " لكنت كالملغز.
ومن أحسن الاستعارة قوله تعالى :{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} وحقيقته [بدأ انتشاره] و[تنفس] أبلغ فإن ظهور الأنوار في المشرق من أشعة الشمس قليلا قليلا بينه وبين إخراج النفس مشاركة شديدة.
وقوله: {الليل نسلخ منه النهار} ، لأن انسلاخ الشيء عن الشيء أن يبرأ منه ويزول عنه حالا فحالا كذلك انفصال الليل عن النهار والانسلاخ أبلغ من الانفصال لما فيه من زيادة البيان.
وقوله: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}.
{سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ}.
وقوله: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} ، ويقولون للرجل المذموم: إنما هو حمار.
وقوله: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ}.
{أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ}، أي في الخلق الجديد.
{بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ}.
{خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ}.
{لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ}.
{وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}.
{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ}.
{وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ}.
{أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ}، والمراد حفظهم وما يحصل لهم.
وقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ}، أي أتمها كما أمرت.
{إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ}، أي عصمك منهم، رواه شعبة عن أبي وجاء عن الحسن.
{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ}.
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ}.
{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ}.
{فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً}.
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}، فالدمغ والقذف مستعار.
{فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ}، يريد لا إحساس بها من غير صمم.
وقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} ، فإنه أبلغ من بلغ وإن كان بمعناه لأن تأثير الصدع ابلغ من تأثير التبليغ فقد لا يؤثر التبليغ والصدع يؤثر جزما.
الرابع: تنقسم إلى مرشحة.
وهي أحسنها - وهي أن تنظر إلى جانب المستعار وتراعيه، كقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} ، فإن المستعار منه الذي هو الشراء هو المراعي هنا وهو الذي رشح لفظتي الربح والتجارة للاستعارة لما بينهما من الملاءمة.
وإلى تجريدية، وهي أن تنظر إلى جانب المستعار له، ثم تأتي بما يناسبه ويلائمه، كقوله تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ}، فالمستعار اللباس، والمستعار له الجوع فمجرد الاستعارة بذكر لفظ الأداة المناسبة للمستعار له وهو الجوع لا المستعار وهو اللباس ولو أراد ترشيحها لقال: وكساها لباس الجوع وفي هذه الآية مراعاة المستعار له الذي هو المعنى وهو الجوع والخوف لأن ألمهما يذاق ولا يلبس.
وقد تجيء ملاحظة المستعار الذي هو اللفظ، كقوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} إذا حملنا الحطب على النميمة فاعتبر اللفظ فقال: [حمالة] ولم يقل [راوية] فيلاحظ المعنى.
وأما الاستعارة بالكناية فهي ألا يصرح بذكر المستعار، بل تذكر بعض لوازمه تنبيها به عليه، كقوله: شجاع يفترس أقرانه وعالم يغترف منه الناس تنبيها على أن الشجاع أسد والعالم بحر.
ومنه المجاز العقلي كله عند السكاكي.
ومن أقسامها - وهو دقيق - أن يسكت عن ذكر المستعار ثم يومي إليه بذكر شيء من توابعه وروادفه تنبيها عليه فيقول شجاع يفترس أقرانه فنبهت بالافتراس على أنك قد استعرت له الأسد.
ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ}، فنبه بالنقض الذي هو من توابع الحبل وروادفه على أنه قد استعار للعهد الحبل لما فيه من باب الوصلة بين المتعاهدين.
ومنها قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}، لأن حقيقته [عملنا] لكن [قدمنا] أبلغ لأنه يدل على أنه عاملهم معاملة القادم من سفره لأنه من أجل إمهالهم السابق عاملهم كما يفعل الغائب عنهم إذا قدم فرآهم على خلاف ما أمر به وفي هذا تحذير من الاغترار بالإمهال.
وقوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} ، لأن حقيقة [طغى] علا والاستعارة أبلغ لأن [طغى] علا قاهرا.
وكذلك: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}، لأن حقيقة [عاتية] شديدة والعتو أبلغ لأنه شدة فيها تمرد.
وقوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} ، الآية وحقيقته: لا تمنع ما تملك كل المنع والاستعارة أبلغ لأنه جعل منع النائل بمنزلة غل اليدين إلى العنق وحال الغلول أظهر.
وقوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} ، قيل: أخرجت ما فيها من الكنوز.
وقيل: يحيى به الموتى وأنها أخرجت موتاها فسمى الموتى ثقلا تشبيها بالحمل الذين يكون في البطن لأن الحمل يسمى ثقلا قال تعالى: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ}.
ومنها جعل الشيء للشيء وليس له من طريق الأدعاء والاحاطة به نافعة في آيات الصفات كقوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}.
وقوله: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}.
ويسمى التخييل: قال الزمخشري: ولا تجد بابا في علم البيان أدق ولا أعون في تعاطي المشبهات منه وأما قوله تعالى: {كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} قال الفراء: فيه ثلاثة أوجه:.
أحدها: أنه جعل طلعها رءوس الشياطين في القبح.
والثاني: أن العرب تسمى بعض الحيات شيطانا وهو ذو القرن.
الثالث: أنه شوك قبيح المنظر يسمى رؤس الشياطين.
فعلى الأول يكون تخييلا وعلى الثاني يكون تشبيها مختصا.

تقسيم آخر.
الاستعارة فرع التشبيه فأنواعها كأنواعه خمسة:.
الأول: استعارة حسي لحسى بوجه لحسي كقوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} فإن المستعار منه هو النار والمستعار له هو الشيب والوجه هو الانبساط فالطرفان حسيان والوجه ايضا حسي وهو استعارة بالكناية لأنه ذكر التشبيه وذكر المشبه وذكر المشبه به مع لازم من لوازم المشبه به وهو الاشتعال.
وقوله: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ}، أصل الموج حركة المياه فاستعمل في حركتهم على سبيل الاستعارة.
الثاني: حسي لحسي بوجه عقلي كقوله تعالى :{أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} فالمستعار له الريح والمستعار منه المرأة وهما حسيان والوجه المنع من ظهور النتيجة والأثر وهو عقلي وهو ايضا استعارة بالكناية.
قال في الإيضاح: وفيه نظر لأن العقيم صفة للمرأة لا اسم لها ولهذا جعل صفة للريح لا اسما والحق أن المستعار منه ما في المرأة من الصفة التي تمنع من الحبل والمستعار له ما في الريح من الصفة التي تمنع من إنشاء مطر وإلقاح شجر [والجامع لهما ما ذكر].
وهو مندفع بالعناية لأن المراد من قوله المستعار منه المرأة التي عبر عنها بالعقيم ذكرها السكاكي بلفظ ما صدق عليه.
ومنه قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} ، المستعار له ظلمة النهار من ظلمة الليل والمستعار منه ظهور المسلوخ عند جلدته والجامع عقلي وهو ترتب أحدهما على الآخر.
وقوله: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ}، أصل الحصيد النبات والجامع الهلاك وهو أمر عقلي.
الثالث: معقول لمعقول، كقوله تعالى: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا}، فالرقاد مستعار للموت وهما أمران معقولان والوجه عدم ظهور الأفعال وهو عقلي والاستعارة تصريحية لكون المشبه به مذكورا.
وقوله: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} المستعار السكوت، والمستعار له الغضب، والمستعار منه الساكت، وهذه ألطف الاستعارات لأنها استعارة معقول لمعقول لمشاركته في أمر معقول.
الرابع: محسوس لمعقول، كقوله تعالى: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} أصل التماس في الأجسام فاستعير لمقاساة الشدة وكون المستعار منه حسيا والمستعار له عقليا وكونها تصريحية ظاهر والوجه اللحوق وهو عقلي.
وقوله: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} قالقذف والدمغ مستعاران.
وقوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} وقوله: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}.
وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} وكل خوض ذكره الله في القرآن فلفظه مستعار من الخوض في الماء.
وقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} استعارة لبيانه عما أوحى إليه كظهور ماء في الزجاجة عند انصداعها.
وقوله: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} ، البنيان مستعار وأصله للحيطان.
وقوله: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} العوج مستعار.
وقوله: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} وكل ما في القرآن من الظلمات والنور مستعار.
وقوله: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} الوادي مستعار وكذلك الهيمان وهو على غاية الإيضاح.
{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ}.
الخامس: استعارة معقول لمحسوس: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ} المستعار منه التكبر والمستعار له الماء والجامع الاستعلاء المفرط.
وقوله: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} العتو هاهنا مستعار.
وقوله: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} فلفظ الغيظ مستعار.
وقوله: { وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} فهو أفصح من مضيئة.
{حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}.
ومنها الاستعارة بلفظين، كقوله تعالى: {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} يعني تلك الأواني ليس من الزجاج ولا من الفضة بل في صفاء القارورة وبياض الفضة وقد سبق عن الفارسي جعله من التشبيه.
ومثله: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} ، ينبى عن الدوام والسوط ينبي عن الإيلام فيكون المراد والله أعلم تعذيبهم عذابا دائما مؤلما.
التورية.
وتسمى الإيهام والتخييل والمغالطة والتوجيه، وهي أن يتكلم المتكلم بلفظ مشترك بين معنيين: قريب وبعيد ويريد المعنى البعيد يوهم السامع أنه أراد القريب مثاله قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}، أراد بالنجم النبات الذي لا ساق له والسامع يتوهم أنه أراد الكوكب لا سيما مع تأكيد الإيهام بذكر الشمس والقمر.
وقوله: {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} والمراد المعرفة.
وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} أراد بها في نعمة وكرامة والسامع يتوهم أنه أراد من النعومة.
وقوله: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} أراد بالأيد القوة الخارجة.
وقوله: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} ، أي مقرطون تجعل في آذانهم القرطة والحلق الذي في الأذن يسمى قرطا وخلدة والسامع يتوهم أنه من الخلود.
وقوله: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} أي علمهم منازلهم فيها أو يوهم إرادة العرف الذي هو الطيب.
وقوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}.
وقوله: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ} فذكر [رضوان] مع [الجنات] مما يوهم إرادة خازن الجنات.
وكان الأنصار يقولون: {رَاعِنَا} أي أرعنا سمعنا وأنظر إلينا والكفار يقولونها [فاعل] من الرعونة. وقال أبو جعفر: هي بالعبرانية فلما عوتبوا قالوا: إنما نقول مثل ما يقول المسلمون فنهي المسلمون عنها.
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} فقوله: [الولي] هو من أسماء الله ومعناه الولي لعباده بالرحمة والمغفرة وقوله: [الحميد] يحتمل أن يكون من [حامد] لعباده المطيعين أو [محمود] في السراء والضراء وعلى هذا فالضمير راجع إلى الله سبحانه. ويحتمل أن يكون الولي من أسماء المطر وهو مطر الربيع والحميد بمعنى المحمود وعلى هذا فالضمير عائد على الغيث.
وقوله: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} ، فإن لفظة [ربك] رشحت لفظة [ربه] لأن يكون تورية إذ يحتمل أنه أراد بها الإله سبحانه والملك فلو اقتصر على قوله: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} ولم تدل لفظة ربه إلا على الإله فلما تقدمت لفظة [ربك] احتمل المعنيين.

[ البرهان في علوم القرآن ( 3 / 408 ـ 445 ) ]


رد مع اقتباس
  #16  
قديم 12 ذو القعدة 1430هـ/30-10-2009م, 06:45 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي


تنبيه:.
[في الفرق بين التورية والاستخدام ].
كثيرا ما تلتبس التورية بالاستخدام والفراق بينهما أن التورية استعمال المعنيين في اللفظ وإهمال الآخر وفي الاستخدام استعمالهما معا بقرينتين.
وحاصله أن المشترك إن استعمل في مفهومين معا فهو والاستخدام وإن أريد أحدهما مع لمح الآخر باطنا فهو التورية.
ومثال الاستخدام قوله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} فإن لفظة [كتاب] يراد بها الأمد المحتوم والمكتوب وقد توسطت بين لفظتين فاستخدمت أحد مفهوميها وهو الأمد واستخدمت [يمحو] المفهوم الآخر وهو المكتوب.
وقوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} فإن الصلاة تحتمل إرادة نفس الصلاة، وتحتمل إرادة موضعها فقوله {حَتَّى تَعْلَمُوا} استخدمت إرادة نفس الصلاة، وقوله: {إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ}، استخدمت إرادة موضعها.
التجريد.
وهو أن تعتقد أن في الشيء من نفسه معنى آخر كأنه مباين له فتخرج ذلك إلى ألفاظه بما اعتقدت ذلك كقولهم لئن لقيت زيدا لتلقين معه الأسد ولئن سألته لتسألن منه البحر فظاهر هذا أن فيه من نفسه أسدا وبحرا وهو عينه هو الأسد والبحر لا أن هناك شيئا منفصلا عنه كقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ}، فظاهر هذا أن في العالم من نفسه آيات وهو عينه ونفسه تلك الآيات.
وكقوله تعالى: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، وإنما هذا ناب عن قوله: وَاعْلَم أَنِّي عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
ومنه قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ}.
وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
وقوله: {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} ، ليس المعنى أن الجنة فيها دار خلد وغير دار خلد بل كلها دار خلد فكأنك لما قلت: في الجنة دار الخلد اعتقدت أن الجنة منطوية على دار نعيم ودار أكل وشرب وخلد فجردت منها هذا الواحد كقوله:
وفي الله إن لم تنصفوا حكم عدل
وقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ}، على أحد.
التأويلات في الآية عن ابن مسعود: " هي النطفة تخرج من الرجل ميتة وهو حي ويخرج الرجل منها حيا وهي ميتة " قال ابن عطية في تفسيره هذه الآية: إن لفظة الإخراج في تنقل النطفة حتى تكون رجلا إنما هو عبارة عن تغيير الحال كما تقول في صبي جيد البنية يخرج من هذا رجل قوي.
وقد يحتمل قوله: {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} أي الحيوان كله ميتة ثم يحييه قال وهو معنى التجريد.
وذكر الزمخشري أن عمرو بن عبيد قرأ في قوله تعالى: {فكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} بالرفع بمعنى حصلت منها [سماء] وردة قال وهو من التجريد.و.
قرأ على وابن عباس في سورة مريم: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} ، قال ابن جنى: هذا هو التجريد وذلك أنه يريد وهب لي من لدنك وليا يرثني منه وارث من آل يعقوب وهو الوارث نفسه فكأنه جرد منه وارثا.

التجنيس.
وهو إما بأن تتساوى حروف الكلمتين، كقوله تعالى :{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَة} {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} وفي ذلك رد على من قال: ليس منه في القرآن غير الآية الأولى.
وأما بزيادة في إحدى الكلمتين، كقوله تعالى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ. إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ}.
وإما لاحق بأن يختلف أحد الحرفين كقوله: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ. وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}.
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}.
{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ}.
{بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ}.
وقوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ}.
وإما في الخط وهو أن تشتبها في الخط لا اللفظ كقوله تعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}.
وقوله: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}.
وأما في السمع لقرب أحد المخرجين من الآخر، كقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}.

تنبيهات:.
الأول: نازع ابن أبي الحديد في الآية الأولى وقال: عندي أنه ليس بتجنيس أصلا وأن الساعة في الموضعين بمعنى واحد والتجنيس أن يتفق اللفظ ويختلف المعنى وألا تكون إحداهما حقيقة والأخرى مجازا بل تكونا حقيقتين وإن زمان القيامة - وإن طال - لكنه عند الله تعالى في حكم الساعة الواحدة لأن قدرته لا يعجزها أمر ولا يطول عندها زمان فيكون إطلاق لفظة [الساعة] على أحد الموضعين حقيقة وعلى الآخر مجازا وذلك يخرج الكلام من التجنيس كما لو قلت: ركبت حمارا ولقيت حمارا وأردت بالثاني البليد. وأيضا لا يجوز أن يكون المراد بالساعة الساعة الأولى خاصة وزمان البعث فيكون لفظ الساعة مستعملا في الموضعين حقيقة بمعنى واحد فيخرج عن التجنيس.
الثاني: يقرب منه الاقتضاب وهو أن تكون الكلمات يجمعها أصل واحد في اللغة كقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ}.
وقوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} وقوله: {وْحٌ وَرَيْحَانٌ}.
وقوله: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ}.
{قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ}.
{وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ}.
{ا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}.
{تَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ}.
{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ}.
{اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ}.
الثالث: اعلم أن الجناس من المحاسن اللفظية لا المعنوية ولهذا تركوه عند قوة المعنى بتركه ولذلك مثالان:.
أحدهما: قوله: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} فذكر الرازي في تفسيره أن الكاتب الملقب بالرشيدي قال: لو قيل: [ أتدعون بعلا وتدعون أحسن الخالقين ] [أوهم أنه أحسن لأنه كان] تحصل به رعاية معنى التجنيس أيضا مع كونه موازنا لـ[تذرون].
وأجاب الرازي: بأن فصاحة القرآن ليس لأجل رعاية هذه التكلفات بل لأجل قوة المعاني وجزالة الألفاظ.
وقال بعضهم: مراعاة المعاني أولى من مراعاة الألفاظ فلو كان [أتدعون].
[وتدعون] كما قال هذا القائل لوقع الإلباس على القارىء فيجعلهما بمعنى واحد تصحيفا منه وحينئذ فينخرم اللفظ إذا قرأ وتدعون الثانية بسكون الدال لا سيما وخط المصحف الإمام لا ضبط [فيه] ولا نقط.
قال: ومما صحف من القرآن بسبب ذلك وليس بقراءة قوله تعالى: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} بالسين المهملة.
وقوله: {عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} بالباء الموحدة.
وقوله: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} بالعين المهملة.
وقرأ ابن عباس" مَنْ فرعون " على الاستفهام.
قلت: وأجاب الجويني عن هذا بما يمكن أن يتخلص منه: أن [يذر] أخص من [يدع] وذلك لأن الأول بمعنى ترك الشيء اعتناء بشهادة الاشتقاق نحو الإيداع فإنه عبارة عن ترك الوديعة مع الاعتناء بحالها ولهذا يختار لها من هو مؤتمن عليها ومن ذلك الدعة بمعنى الراحة وأما تذر فمعناها الترك مطلقا والترك مع الإعراض والرفض الكلي ولا شك أن السياق إنما يناسب هذا دون الأول فأريد هنا تبشيع حالهم في الأعراض عن ربهم وأنهم بلغوا الغاية في الإعراض.
قلت: ويؤيده قول الراغب: يقال فلا يذر الشيء أي يقذفه لقلة الاعتداد به.
والوزرة قطعة من اللحم [وتسميتها بذلك] لقلة الاعتداد به نحو قولهم [فيم لا يعتد به] هو: لحم على وضم قال تعالى: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} وقال تعالى: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} {ذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا}.
وإنما قال: {يَذَرُونَ} ولم يقل: يتركون، ويخلفون لذلك. انتهى.
وعن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني أنه أجاب عن هذا السؤال بأن التجنيس تحسين وإنما يستعمل في مقام الوعد والإحسان وهذا مقام تهويل والقصد فيه المعنى فلم يكن لمراعاة اللفظة
فائدة.
وفيه نظر، فإنه ورد في قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ}.
المثال الثاني: قوله تعالى :{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} قال : معناه: وما أنت مصدق لنا فيقال: ما الحكمة في العدول عن الجناس وهلا قيل:[ وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين ] فإنه يؤدي معنى الأول مع زيادة رعاية التجنيس اللفظي ؟.
والجواب أن في [مؤمن لنا] من المعنى ما ليس في [مصدق] وذلك أنك إذا قلت: مصدق لي، فمعناه: قال لي: صدقت وأما [مؤمن] فمعناه مع التصديق إعطاء الأمن ومقصودهم التصديق وزيادة وهو طلب الأمن فلهذا عدل إليه.
فتأمل هذا اللطائف الغريبة والأسرار العجيبة فإنه نوع من الإعجاز !.

فائدة.
قال الخفاجي: إذا دخل التجنيس نفي عد طباقا كقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}، لأن [الذين لايعلمون] هم الجاهلون قال: وفي هذا يختلط التجينس بالطباق.
الطباق.
هو أن يجمع بين متضادين مع مراعاة التقابل كالبياض والسواد والليل والنهار وهو قسمان: لفظي ومعنوي، كقوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً} طابق بين الضحك والبكاء والقليل والكثير.
ومثله: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}.
{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا}
{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ}.
{سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}.
وقوله تعالى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ..} الآية.
{وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وما يستوي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ}.
ثم إذا شرط فيهما شرط وجب أن يشترط في ضديهما ضد ذلك الشرط كقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى..} الآية، لما جعل التيسير.
مشتركا بين الآعطاء والتقى والتصديق وجعل ضده وهو التعسير مشتركا بين أضداد تلك الأمور وهي المنع والاستغناء والتكذيب.
ومنه: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} قابل بين العلو والدنو.
وقوله: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ}.
وقوله: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}، فذكر الليل والنهار وهما ضدان ثم قابلهما بضدين وهما الحركة والسكون على الترتيب ثم عبر عن الحركة بلفظ [الإرداف] فاستلزم الكلام ضربا من المحاسن زائدة على المبالغة وعدل عن لفظ الحركة إلى لفظ [ابتغاء الفضل] لكون الحركة تكون للمصلحة دون المفسدة وهي تسير إلى الإعانة بالقوة لكون الحركة وحسن الاختيار الدال على رجاحة العقل وسلامة الحس وإضافة الظرف إلى تلك الحركة المخصوصة واقعة فيه ليهتدي المتحرك إلى بلوغ المأرب.
ومن الطباق المعنوي قوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} معناه ربنا يعلم إنا لصادقون.
وقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً}، قال أبو علي في [الحجة]: لما كان البناء رفعا للمبنى قوبل بالفراش الذي هو على خلاف البناء ومن ثم وقع البناء على ما فيه ارتفاع في نصيبه إن لم يكن مدرا.
ومنه نوع يسمى الطباق الخفي كقوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً} لأن الغرق من صفات الماء فكأنه جمع بين الماء في النار والنار قال ابن منقذ: وهي أخفى مطابقة في القرآن.
قلت: ومنه قوله تعالى: {مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً} فكأنه جمع بين الأخضر والأحمر وهذا أيضا فيه تدبيج بديعي.
ومنه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} لأن معنى القصاص القتل فصار القتل سبب الحياة.
قال ابن المعتز: وهذا من أملح الطباق وأخفاه.
وقوله تعالى في الزخرف: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً} لأن ظل لا تستعمل إلا نهارا فإذا لمح مع ذكر السواد كأنه طباق يذكر البياض مع السواد.
وقوله: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ}.

المقابلة.
[مباحث المقابلة].
وفيها مباحث:.
الأول: في حقيقتها.
وهي ذكر الشيء مع ما يوازيه في بعض صفاته ويخالفه في بعضها وهي من باب [المفاعلة] كالمقابلة والمضاربة وهي قريبة من الطباق والفرق بينهما من وجهين:.
الأول: أن الطباق لايكون إلا بين الضدين غالبا والمقابلة تكون لأكثر من ذلك غالبا.
والثاني: لا يكون الطباق إلا بالأضداد والمقابلة بالأضداد وغيرها ولهذا جعل ابن الآثير الطباق أحد أنواع المقابلة.
الثاني: في أنواعها.
وهي ثلاثة: نظيري، ونقيضي، وخلافي. والخلافي أتمها في التشكيك وألزمها بالتأويل والنقيضي ثانيها والنظيري ثالثها.
وذكر الشيخ أبو الفضل يوسف بن محمد النحوي القلعي: أن القرآن كله وارد عليها بظهور نكته الحكمية العلمية من الكائنات والزمانيات والوسائط الروحانيات والأوائل الإلهيات حيث اتحدت من حيث تعددت واتصلت من حيث انفصلت وأنها قد ترد على شكل المربع تارة وشكل المسدس أخرى، وعلى شكل المثلث، إلى غير ذلك من التشكيلات العجيبة والترتيبات البديعة ثم أورد أمثل من ذلك.
مثال مقابلة النظيرين مقابلة السنة والنوم في قوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} لأنهما جميعا من باب الرقاد المقابل باليقظة.
وقوله: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ}، وهذه هي مقابلة النقيضين أيضا ثم السنة والنوم بانفرادهما متقابلان في باب النظيرين ومجموعهما يقابلان النقيض الذي هو اليقظة.
ومثال مقابلة الخلافين مقابلة الشر بالرشد في قوله تعالى: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} ، فقابل الشر بالرشد وهما خلافيان وضد الرشد الغي وضد الشر الخير والخير الذي يخرجه لفظ الشر ضمنا نظير الرشد قطعا وألغى الذي يخرجه لفظ الرشد ضمنا نظير الشر قطعا حصل من هذا الشكل أربعة الفاظ نطقان وضمنان فكان بهما رباعيان.
وهذا الشكل الرباعي يقع في تفسيره علىوجوه فقد يرد وبعضه مفسر مثل ما ذكرناه وقد يرد وكله مفسر، كقوله تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} فقابل {صَدَّقَ} بـ [كَذَّبَ] و{صَلَّى} الذي هو أقبل بـ {َتَوَلَّى}.
قوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً}، اللغو في الحثيثة المنكرة والتأثيم في الحيثية الناكرة واللغو منشأ المنكر ومبدأ درجاته والتأثيم منشأ التكبر ومبدأ درجاته فلا نكير إلا بعد منكر ولا اعتقاد إنكار إلا بعد اعتقاد تأثيم ومنشأ اللغو في أول طرف المكروهات وآخره في طرف المحظورات ومبدأ التأثيم.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} فقابل الإفساد بالتسبيح والحمد وسفك الدماء بالتقديس.
فالتسبيح بالحمد إذن ينفي الفساد والتقديس ينفي سفك الدماء والتسبيح شريعة للإصلاح والتقديس شريعة حقن الدماء وشريعة التقديس أشرف من شريعة التسبيح فإن التسبيح بالحمد للإصلاح لا للفساد وسفك الدماء للتسبيح لا للتقديس وهذا شكل مربع من أرضى وهو الإفساد وسفك الدماء وسمائي وهو التسبيح والتقديس والأرضي ذو فصلين والسمائي ذو فصلين ووقع النفس من الطرفين المتوسطين فالطرفان الإفساد في الطرف الأول والتقديس في الطرف الآخر والوسطان آخر الأرض وأول السماء فالأول متشرف على الآتي والاخر ملفت إلى الماضي.


وكم في كتاب الله من كل موجز= يدور على المعنى وعنه يماصع
لقد جمع الإسم المحامد كلها= مقاسيمها مجموعة والمشايع

وهذا القدر الذي ذكره هذا الحبر مرمى عظيم يوصل إلى أمور غير متجاسر عليها كما في آية الكرسي وغيرها.
وقسم بعضهم المقابلة إلى أربع:.
أحدها : أن يأتي بكل واحد من المقدمات مع قرينة من الثواني، كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً}.
والثانية: أن يأتي بجميع الثواني مرتبة من أولها، كما قال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}.
وكذلك: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
الثالث: أن يأتي بجميع المقدمات ثم بجميع الثواني مرتبة من آخرها، ويسمى رد العجز على الصدر، كقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
الرابع: أن يأتي بجميع المقدمات ثم بجميع الثواني مختلطة غير مرتبة، ويسمى اللف، كقوله تعالى: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} فنسبة قوله: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} كنسبة قوله: {يَقُولَ الرَّسُولُ} إلى {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} لأن القولين المتباينين يصدران عن متباينين.
وكما قال تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} فنسبة قوله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} إلى قوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} كنسبة قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ} إلى قوله: {فَتَطْرُدَهُمْ} فجمع المقدمين التاليين بالالتفات.
وجعل بعضهم من أقسام التقابل مقابلة الشيء بمثله وهو ضربان:.
مقابل في اللفظ دون المعنى، كقوله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً}.
ومقابل في المعنى دون اللفظ، كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} فإنه لو كان التقابل هنا من جهة اللفظ لكان التقدير: وإن اهتديت فإنما اهتديت لها.
وبيان تقابل هذا الكلام من جهة المعنى أن النفس كل ما هو عليها لها، فهو أعنى أن كل ما هو وبال عليها وصار لها فهو بسببها ومنها لأنها أمارة بالسوء وكل ما هو مما ينفعها فبهداية ربهاوتوفيقه إياها وهذا حكم لكل مكلف وإنا أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يسند إلى نفسه لأنه إذا دخل تحته مع علو محله كان غيره أولى به.
ومن هذا الضرب قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فإنه لم يدع التقابل في قوله: {لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً} لأن القياس يقتضى أن يكون [والنهار لتبصروا فيه]، وإنما هو مراعي من جهة المعنى لا من جهة اللفظ لأن معنى [مبصرا] تبصرون فيه طرق التقلب في الحاجات.
واعلم أن في تقابل المعاني بابا عظيما يحتاج إلى فضل تأمل وهو يتصل غالبا بالفواصل، كقوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} إلى قوله: {لا يَشْعُرُونَ}.
وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} إلى قوله: {لا يَعْلَمُونَ}.
فانظر فاصلة الثانية {يَعْلَمُونَ} والتي قبلها {يَشْعُرُونَ} لأن أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين: يجتمعون ومطيعون يحتاج إلى نظر واستدلال حتى يكسب الناظر.
المعرفة والعلم وإنما النفاق وما فيه من الفتنة والفساد أمر دنيوي مبني على العادات معلوم عند الناس فلذلك قال فيه [يعلمون].
وأيضا فإنه لما ذكر السفهفي الآية الآخرى - وهو جهل - كان ذكر العلم طباقا وعلى هذا تجيء فواصل القرآن وقد سبق في بابه.
ومن المقابلة قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً} ، فتقدم اقتران الوعد بالفقر والأمر بالفحشاء ثم قوبل بشيء واحد وهو الوعد فأوهم الإخلال بالثاني وليس كذلك وإنما لما كان الفضل مقابلا للفقر والمغفرة مقابلة للأمر بالفحشاء لأن الفحشاء توجب العقوبة والمغفرة تقابل العقوبة استغنى بذكر المقابل عن ذكر مقابله لأن ذكر أحدهما ملزوم ذكر الآخر.
تقسيم.
من مقابلة اثنين باثنين: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً}.
ومن مقابلة أربعة بأربعة: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الآية.
ومن مقابلة خمس بخمس قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}، للدلالة على الحقير والكبير، وهو من الطباق الخفي الثاني :{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا}{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} الثالث [يضل] و[يهدي] به، والرابع {يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} الخامس [يقطعون] و[أن يوصل].
ومن مقابلة ست بست: قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ثم قال تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ}، قابل الجنات والأنهار والخلد والأزواج والتطهير والرضوان بإزاء النساء في الدنيا وختم بالحرث وهما طرفان متشابهان وفيهما الشهوة والمعاش الدنياوي وأخر ذكر الأزواج كما يجب في الترتيب الأخروي وختم بالرضوان.

فائدة.
قد يجيء نظم الكلام على غير صورة المقابلة في الظاهر وإذا تؤمل كان من أكمل المقابلات ولذلك أمثلة:.
منها قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} فقابل الجوع بالعري والظمأ بالضحى والواقف مع الظاهر ربما يحيل أن الجوع يقابل بالظمأ والعري بالضحى.
والمدقق يرى هذا الكلام في أعلى مراتب الفصاحة لأن الجوع ألم الباطن والضحى موجب لحرارة الظاهر فاقتضت الآية جميع نفى الآفات ظاهرا وباطنا وقابل الخلو بالخلو والاحتراق بالاحتراق.
وهاهنا موضع الحكاية المشهورة بين المتنبي وسيف الدولة لما أنشده:

وقفت وما في الموت شك لواقف =كأنك في جفن الردى وهو نائم

ومنها قوله تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ}، فإنه يتبادر فيه سؤال وهو أنه لم لا قيل مثل الفريقين كالأعمى والبصير والأصم والسميع لتكون المقابلة في لفظ الأعمى وضده بالبصير وفي لفظ الأصم وضده السميع.
والجواب أنه يقال: لما ذكر انسداد العين أتبعه بانسداد السمع وبضد ذلك لما ذكر انفتاح البصر أعقبه بانفتاح السمع فما تضمنته الآية الكريمة هو الأنسب في المقابلة والأتم في الإعجاز.
رد العجز على الصدر وعكسه.
{خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ}.
{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً}.
العكس.
وهو أن يقدم في الكلام جزء ثم يؤخر، كقوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} وقدره الزمخشري أي لا حل بين المؤمن والمشرك والآية صرحت بنفي الحل من الجهتين فقد يستدل بها من قال إن الكفار مخاطبون بالفروع.
ومثله قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} أي ذبائحكم وهذه رخصة للمسلمين.
الجام الخصم بالحجة.
وهو الاحتجاج على المعنى المقصود بحجة عقلية تقطع المعاند له فيه. والعجب من ابن المعتز في بديعه حيث أنكر وجود هذا النوع في القرآن وهو من أساليبه.
ومنه قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} ثم قال النحاة: إن الثاني امتنع لأجل امتناع الأول وخالفهم ابن الحاجب وقال: الممتنع الأول لأجل الثاني فالتعدد منتف لأجل امتناع الفساد.
وقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ}.
وقوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} وقوله حكاية عن الخليل: {وحاجه قومه} إلى قوله: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه}.
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}، المعنى أن الأهون أدخل في الإمكان من غيره وقد أمكن هو فالإعادة أدخل في الإمكان من بدء الخلق.
وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} الآية، وهذه حجة عقلية تقديرها أنه لو كان خالقان لاستبد كل منهما بخلقه فكان الذي يقدر عليه أحدهما لا يقدر عليه الآخر ويؤدي إلى تناهى.
مقدوراتهما وذلك يبطل الإلهية فوجب أن يكون الإله واحدا ثم زاد في الحجاج فقال: {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}، أي ولغلب بعضهم بعضا في المراد ولو أراد أحدهما إحياء جسم والآخر إماتته لم يصح ارتفاع مرادهما لأن رفع النقيضين محال ولا وقوعهما للتضاد فنفى وقوع أحدها دون الآخر وهو المغلوب وهذه تسمى دلالة التمانع وهي كثيرة في القرآن كقوله تعالى: {إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً}.
وقوله: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم}.
وقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} فبين أنا لم نخلق المنى لتعذره علينا فوجب أن يكون الخالق غيرنا.
ومنه نوع منطقي وهو استنتاج النتيجة من مقدمتين وذلك من أول سورة الحج إلى قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ}، فنطق على خمس نتائج من عشر مقدمات فالمقدمات من أول السورة: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} والنتائج من قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} إلى قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ}.
وتفصيل ترتيب المقدمات والنتائج أن يقول أخبر الله أن زلزلة الساعة شيء عظيم وخبره هو الحق ومن أخبر عن الغيب بالحق فهو حق بأنه هو الحق وأنه يأتي بالساعة.
على تلك الصفات ولا يعلم صدق الخبر إلا بإحياء الموتى ليدركوا ذلك ومن يأتي بالساعة يحيى الموتى فهو يحيي الموتى وأخبر أنه يجعل الناس من هول الساعة سكارى لشدة العذاب ولا يقدر على عموم الناس لشدة العذاب إلا من هو على كل شيء قدير فإنه علىكل شيء قدير وأخبر أن الساعة يجازي فيها من يجادل في الله بغير علم ولا بد من مجازاته ولا يجازي حتى تكون الساعة آتية ولا تأتي الساعة حتى يبعث من في القبور فهو يبعث من في القبور والله ينزل الماء على الأرض الهامدة فتنبت من كل زوج بهيج والقادر على إحياء الأرض بعد موتها يبعث من القبور.
ومنه قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} مقدمتان ونتيجة لأن اتباع الهوى يوجب الضلال والضلال يوجب سوء العذاب، فأنتج أن اتباع الهوى يوجب سوء العذاب.
وقوله: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} أي القمر أفل وربي فليس بآفل فالقمر ليس بربي أثبته بقياس اقتراني جلى من الشكل الثاني واحتج بالتعبير على الحدوث والحدوث على المحدث.
التقسيم.
وليس المراد به القسمة العقلية التي يتكلم عليها المتكلم لأنها قد تقتضي أشياء مستحيلة كقولهم الجواهر لا تخلو إما أن تكون مجتمعة أو متفرق أو لا مفترقة ولا مجتمعة أو مجتمعة ومفترقة معا أو بعضها مجتمع وبعضها مفترق فإن هذه القسمة صحيحة عقلا لكن بعضها يستحيل وجوده وهو استيفاء المتكلم أقسام الشيء بحيث لا يغادر شيئا وهو آلة الحصر ومظنة الإحاطة بالشيء، كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} فإنه لا يخلو العالم جميعا من هذه الآقسام الثلاثة إما ظالم نفسه وإما سابق مبادر إلى الخيرات وإما مقتصد فيها وهذا من أوضح التقسيمات وأكملها.
ومثله قوله: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}، وهذه الآية مماثلة في المعنى للتي قبلها وأصحاب المشأمة هم الظالمون لأنفسهم وأصحاب الميمنة هم المقتصدون والسابقون هم السابقون بالخيرات.
كذلك قوله تعالى: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} الآية فاستوفى أقسام الزمان ولا رابع لها.
وقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} إلى قوله: { مَا يَشَاءُ}، وهو في القرآن كثير وخصوصا في سورة براءة.
ومنه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً}، وليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق والطمع في الأمطار ولا ثالث لهما وقوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} ، فاستوفت أقسام الأوقات من طرفي كل يوم ووسطه مع المطابقة والمقابلة.
وقوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} فلم يترك سبحانه قسما من أقسام الهيئات.
ومثله آية يونس: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً}.
لكن وقع بين ترتيب الآيتين مغايرة أوجبتها المبالغة وذلك أن المراد بالذكر في الأولى الصلاة فيجب فيها تقديم الاضطجاع وإذا زال بعض الضر قعد المضجع وإذا زال كل الضر قام القاعد فدعا لتتم الصحة وتكمل القوة.
فإن قلت: هذا التأويل لا يتم إلا إذا كانت الواو عاطفة فإنها تحصل في الكلام حسن اتساق وائتلاف الألفاظ مع المعاني وقد عدل عنها إلى [أو] التي سقط معها ذلك.
قلت: يأتي التضرع على أقسام فإن منه ما يتضرع المضرور عند وروده ومنه ما يقعده ومنه ما يأتي صاحبه قائم لا يبلغ به شيئا والدعاء عنده أولى من التضرع فإن الصبر والجزع عند الصدمة الأولى فوجب العدول عن الواو لتوخي الصدق في الخبر والكلام بالائتلاف ويحصل النسق والخبر بذلك التأويل الأول عن شخص واحد وبالثاني عن أشخاص فغلب الكثرة فوجب الإتيان بـ[أو] وابتدى بالشخص الذي تضرع لأن خبره أشد فهو أشد تضرعا فوجب تقديم ذكره ثم القاعد ثم القائم فحصل حسن الترتيب وائتلاف الألفاظ ومعانيها.
وقوله: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً}، قسم سبحانه حال الزوجين إلى أربعة أقسام اشتمل عليها الوجود لأنه سبحانه إما أن يفرد العبد بهبة الإناث أو بهبة الذكور أو يجمعهما له أو لا يهب شيئا. وقد جاءت الأقسام في هذه الاية لينتقل منها إلى أعلى منها وهي هبة الذكور فيه ثم انتقل إلى أعلى منها وهي وهبتهما جميعا وجاءت كل أقسام العطية بلفظ الهبة وأفرد معنى الحرمان بالتأخير، وقال فيه [يجعل] فعدل عن لفظ الهبة للتغاير بين المعاني كقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أأنتم أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً}، فذكر امتداد وإنمائه بلفظ الزرع ومعنى الحرمان بلفظ الجعل.
وقيل: إنما بدأ سبحانه بالأناث لوجوه غير ما سبق.
أحدها: جبرا لهن لأجل استثقال الأبوين لمكانهن.
الثاني: أن سياق الكلام أنه فاعل لما يشاء لا ما يشاء الأبوان فإن الأبوين لا يريدان إلا الذكور غالبا وهو سبحانه قد أخبر أنه يخلق ما يشاء فبدأ بذكر الصنف الذي يشاؤه ولا يريده الأبوان غالبا.
الثالث: أنه قدم ذكر ما كانت تؤخره الجاهلية من أمر البنات حتى كانوا يئدوهن أي هذا النوع الحقير عندكم مقدم عندي في الذكر.
الرابع: قدمهن لضعفهن وعند العجز والضعف تكون العناية أتم.
وقيل: لينقل من الغم إلى الفرج.
وتأمل كيف عرف سبحانه الذكور بعد تنكير فجبر نقص الأنوثة بالتقديم، وجبر نقص المتأخر بالتعريف، فإن التعريف تنويه.
وهذا أحسن مما ذكره الواحدي أنه عرف الذكور لأجله الفاصلة.
ولما ذكر الصنفين معا قدم الذكور فأعطى لكل من الجنسين حقه من التقديم والتأخير. والله أعلم بما أراد.
بقى سؤال آخر، وهو أنه عطف الثاني والرابع بالواو والثالث بـ[ أو ]، ولعله لأن هبة كل من الإناث والذكور قد لا يقترن بها فكأنه وهب لهذا الصنف وحده أو مع غيره فلذلك تعينت [ أو ]. فتأمل لطائف القرآن وبدائعه!.
ومن هذا التقسيم أخذ بعض العلماء أن الخنثى لا وجود له، لأنه ليس واحدا من المذكورين، ولا حجة فيه، لأنه مقام امتنان، والمنة بغير الخنثى أحسن وأعظم. أو لأنه باعتبار ما في نفس الأمر، والخنثى لا يخرج عن أحدهما.
التعديد.
هي إيقاع الألفاظ المبددة على سياق واحد، وأكثر ما يؤخذ في الصفات ومقتضاها ألا يعطف بعضها على بعض لاتحاد محلها، ويجريها مجرى الوصف في الصدق على ما صدق، ولذلك يقل عطف بعض صفات الله على بعض في التنزيل وذلك كقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}.
وقوله: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ}.
وقوله :{الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ}.
وإنما عطف قوله :{هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} ، لأنها أسماء متضادة المعاني في موضوعها، فوقع الوهم بالعطف عمن يستبعد ذلك في ذات واحدة، لأن الشيء الواحد لا يكون ظاهرا باطنا من وجه، وكان العطف فيه أحسن. ولذلك عطف [الناهون] على [الآمرون]، [وأبكارا] على [ثيبات] من قوله: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ}.
وقوله: {أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} ، فجاء العطف لأنه لا يمكن اجتماعهما في محل واحد بخلاف ما قبله.
وقوله: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْل}، إنما عطف فيه بعضا ولم يعطف بعضا، لأن [غافرا] و[قابلا] يشعران بحدوث المغفرة والقبول، وهما من صفات الأفعال وفعله في غيره لا في نفسه، فدخل العطف للمغايرة لتنزلهما منزلة الجملتين، تنبيها على أنه سبحانه يفعل هذا ويفعل هذا. واما شديد العقاب فصفة مشبهة، وهي تشعر بالدوام والاستمرار، فتدل على القوة، ويشبه ذلك صفات الذات. وقوله: {ذِي الطَّوْلِ}، المراد به ذاته، فترك العطف لاتحاد المعنى.
وقد جاء قليلا في غير الصفات، كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ...} الآية، قال الزمخشري: العطف الأول كقوله: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً}، في أنهما جنسان مختلفان، إذا اشتركا في حكم لم يكن بد من توسيط العاطف بينهما، وأما العطف الثاني فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع، فكان معناه: أن الجامعين والجامعات لهذه الصفات أعد لهم مغفرة. انتهى.
وقال بعضهم: الصفات المتعاطفة إن علم أن موصوفها واحد من كل وجه، كقوله: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ}، فإن الموصوف [ الله ] وإما في النوع كقوله: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً}، فإن الموصوف الأزواج، وقوله: {الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، فإن الموصوف النوع الجامع للصفات المتقدمة. وإن لم يعلم أن موصوفها واحد من جهة وضع اللفظ. فإن دل دليل على أنه من عطف الصفات اتبع كهذه الآية، فإن هذه الاعداد لمن جمع الطاعات العشر، لا لمن انفرد بواحدة منها، إذ الإسلام والإيمان كل منهما شرطه في الآخر، وكلاهما شرط في حصول الأجر على البواقي، ومن كان مسلما مؤمنا فله أجره، ولكن ليس هذا الأجر العظيم الذي أعده الله في هذه الآية الكريمة، وقرن به إعداد المغفرة زائدا على المغفرة، فلخصوص هذه الآية جعل الزمخشري ذلك من عطف الصفات، والموصوف واحد، فلو لم يكن كذلك واحتمل تقدير موصوف مع كل صفة وعدمه حمل على التقدير، فإن ظاهر العطف التغاير. ولا يقال: الأصل عدم التقدير، لأن الظاهر يقدم على رعاية ذلك الأصل.
ومثاله قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ...} الآية، ولو كان من عطف الصفات لم يستحق الصدقة إلا من جميع الصفات الثمان، ولذلك إذا وقف على الفقهاء والنحاة والفقراء استحق من فيه إحدى الصفات.
تم بعون الله وجميل توفيقه الجزء الثالث من كتاب البرهان في علوم القرآن للإمام بدر الدين الزركشي ويليه الجزء الرابع وأوله: مقابلة الجمع بالجمع، وهو أحد أساليب القرآن المندرجة تحت النوع السادس والأربعين.

[ البرهان في علوم القرآن ( 3 / 446 ـ 477 )]


رد مع اقتباس
  #17  
قديم 12 ذو القعدة 1430هـ/30-10-2009م, 06:46 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي

المجلد الرابع
تابع النوع السادس والأربعون
...
بسم الله الرحمن الرحيم
مقابلة الجمع بالجمع
تارة يقتضي مقابلة كل فرد من هذا بكل فرد من هذا كقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} فإن الصلاة والزكاة في معنى الجمع فيقتضي اللفظ ضرورة أن كل واحد مأمور بجميع الصلوات وبالاستباق إلى كل خير كما يقال لبس القوم ثيابهم وركبوا دوابهم
وقوله تعالى: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} أي لكل واحدة منهن.
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} لأنه لا يجوز أن يتذكر جميع المخاطبين بهذا القول في مدة وعمر واحد
وقوله: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} أي كل واحدة من هذا الشرر كالقصر والقصر البيت من أدم كان يضرب على الماء إذا نزلوا به ولا يجوز أن يكون الشرر كله كقصر واحد لأنه مناف للوعيد فإن المعنى تعظيم الشرر أي كل واحد من هذا الشرر كالقصر ويؤكده قوله بعده {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} فشبه بالجماعة أي فكل واحدة من هذا الشرر كالجمل فجماعته إذ الجمالات الصفر كذلك الأول كل شررة منه كالقصر قاله ابن جني وقوله: {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ}.
وقوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} فإن كل واحد من المؤمنين آمن بكل واحد من الملائكة والكتب والرسل
وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الآية فإنه لم يحرم على كل واحد من المخاطبين جميع أمهات المخاطبين وإنما حرم على كل واحد أمه وبنته.
وكذلك قوله: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} فإنه ليس لجميع الأزواج نصف ما ترك جميع النساء وإنما لكل واحد نصف ما تركت زوجه فقط.
وكذا قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ } وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} إنما معناه اتبع كل واحد ذريته وليس معناه أن كل واحد من الذرية اتبع كل واحد من الآباء وقوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} أي كل واحدة ترضع ولدها وكقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} فإن مقابلة الجمع أفادت المكنة لكل واحد من المسلمين قتل من وجد من المشركين.
وقوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} وأما قوله تعالى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} فذكر المرافق بلفظ الجمع والكعبين بلفظ التثنية
لأن مقابلة الجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد ولكل يد مرفق فصحت المقابلة ولو قيل إلى الكعاب فهم منه أن الواجب فإن لكل رجل كعبا واحدا فذكر الكعبين بلفظ التثنية ليتناول الكعبين من كل رجل
فإن قيل: فعلى هذا يلزم ألا يجب إلا غسل يد واحدة ورجل واحدة؟
قلنا: صدنا عنه فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والإجماع وتارة يقتضي مقابلة ثبوت الجمع لكل واحد من آحاد المحكوم عليه كقوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}.
وجعل منه الشيخ عز الدين {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}.
وتارة يحتمل الأمرين فيفتقر ذلك إلى دليل يعين أحدهما.
أما مقابلة الجمع بالمفرد فالغالب أنه لا يقتضي تعميم المفرد وقد يقتضيه بحسب عموم الجمع المقابل له كما في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}.
المعنى كل واحد لكل يوم طعام مسكين وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} إنما هو على كل واحد منهم ذلك.

قاعدة فيما ورد في القرآن مجموعا ومفردا والحكم في ذلك:
فمنه أنه حيث ورد ذكر الأرض في القرآن فإنها مفردة كقوله تعالى: {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} وحكمته أنها بمنزلة السفل والتحت ولكن وصف بها هذا المكان المحسوس فجرت مجرى امرأة زور وضيف فلا معنى لجمعهما كما لا يجمع الفوق والتحت والعلو والسفل فإن قصد المخبر إلى جزء من هذه الأرض الموطوءة وعين قطعة محدودة منها خرجت عن معنى السفل الذي هو في مقابلة العلو فجاز أن تثنى إذا ضممت إليها جزءا آخر ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(( طوقه من سبع أرضين)) فجمعها لما اعتمد الكلام على ذات الأرض وأثبتها على التفصيل والتعيين لآحادها دون الوصف بكونها تحت أو سفل في مقابلة علو وأما جمع السموات فإن المقصود بها ذاتها دون معنى الوصف فلهذا جمعت جمع سلامة لأن العدد قليل وجمع القليل أولى به بخلاف الأرض فإن المقصود بها معنى التحت والسفل دون الذات والعدد
وحيث أريد بها الذات والعدد أتى بلفظ يدل على التعدد كقوله تعالى: {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}.
وأيضا فإن الأرض لا نسبة إليها إلى السموات وسعتها بل هي بالنسبة إليها كحصاة في صحراء فهي وإن تعددت كالواحد القليل فاختير لها اسم الجنس.
وأيضا فالأرض هي دار الدنيا التي بالنسبة إلى الآخرة كما يدخل الإنسان إصبعه في اليم فما يعلق بها هو مثال الدنيا والله تعالى لم يذكر الدنيا إلا مقللا لها.
وأما السموات فليست من الدنيا على أحد القولين فإذا أريد الوصف الشامل للسموات وهو معنى العلو والفوق أفردته كالأرض بدليل قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} فأفرد هنا لما كان المراد الوصف الشامل وليس المراد سماء معينة.
وكذا قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} بخلاف قوله في سبأ {عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} فإن قبلها ذكر الله سبحانه سعة علمه وأن له ما في السموات وما في الأرض فاقتضى السياق أن يذكر سعة علمه وتعلقه بمعلومات ملكه وهو السموات كلها والأرض.
ولما لم يكن في سورة يونس ما يقتضي ذلك أفردها إرادة للجنس.
وقال: السهيلي لأن المخاطبين بالإفراد مقرون بأن الرزق ينزل من السحاب وهو سماء ولهذا قال في آخر الآية {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} وهم لا يقرون بما نزل من فوق ذلك من الرحمة والرحمن وغيرها ولهذا قال في آية سبأ {قُلِ اللَّهُ} أمر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا القول ليعلم بحقيقته وكذا قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ}.
فإنها جاءت مجموعة لتعلق الظرف بما في اسم الله تبارك وتعالى من معنى الإلهية فالمعنى هو الإله المعبود في كل واحدة من السموات فذكر الجمع هنا أحسن ولما خفي هذا المعنى على بعض المجسمة قال بالوقف على قوله: {فِي السَّمَاوَاتِ} ثم يبتدئ بقوله: {وَفِي الأَرْضِ}
وتأمل كيف جاءت مفردة في قوله: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} أراد لهذين الجنسين أي رب كل ما علا وسفل وجاءت مجموعة في قوله:{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} في جميع السور لما كان المراد الإخبار عن تسبيح سكانها على كثرتهم وتباين مراتبهم لم يكن بد من جمع محلهم.
ونظير هذا جمعها في قوله: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ}.
وقوله: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ} أي تسبح بذواتها وأنفسها على اختلاف عددها ولهذا صرح بالعدد بقوله: {السَّبْعُ}.
وتأمل كيف جاءت مفردة في قوله: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} فـ "الرزق" المطر وما توعدون الجنة وكلاهما في هذه الجهة لأنها في كل واحدة واحدة من السموات فكان لفظ الإفراد أليق.
وجاءت مجموعة في قوله: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} لما كان المراد نفي علم الغيب عن كل من هو في واحدة واحدة من السموات أتى بها مجموعة
ولم يجئ في سياق الإخبار بنزول الماء منها إلا مفردة حيث وقعت لما لم يكن المراد نزوله من ذاتها بل المراد الوصف.
فإن قيل: فهل يظهر فرق بين قوله تعالى: في سورة يونس {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} وبين قوله: في سورة سبأ {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ}؟
قيل: السياق في كل منهما مرشد إلى الفرق فإن الآيات التي في يونس سيقت للاحتجاج عليهم بما أقروا به من كونه تعالى هو رازقهم ومالك أسماعهم وأبصارهم ومدبر أمورهم بأن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي فلما كانوا مقرين بهذا كله حسن الاحتجاج به عليهم إذ فاعل هذا هو الله الذي لا إله غيره فكيف تعبدون معه غيره ولهذا قال بعده {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} أي هم يقرون به ولا يجحدونه والمخاطبون المحتج عليهم بهذه الآية إنما كانوا مقرين بنزول الرزق من قبل هذه السماء التي يشاهدونها ولم يكونوا مقرين ولا عالمين بنزول الرزق من سماء إلى سماء حتى ينتهي إليهم فأفردت لفظة السماء هنا لذلك
وأما الآية التي في سبأ فإنه لم ينتظم لها ذكر إقرارهم بما ينزل من السماء ولهذا أمر رسوله بأن يجيب وأن يذكر عنهم أنهم هم المجيبون فقال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} ولم يقل {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} أي الله وحده الذي ينزل رزقه على اختلاف أنواعه ومنافعه من السموات ومنها ذكر الرياح في القرآن جمعا ومفردة فحيث ذكرت في سياق الرحمة جاءت مجموعة كقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً}.
{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}.
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ}.
وحيث ذكرت في سياق العذاب أتت مفردة كقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ}.
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا}.
{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}.
{مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح}.
{وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ}.
ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا" والمعنى فيه أن رياح الرحمة مختلفة الصفات والماهيات والمنافع وإذا هاجت منها ريح أثير لها من مقابلها ما يكسر سورتها فينشأ من بينهما ريح لطيفة تنفع الحيوان والنبات وكانت في الرحمة رياحا وأما في العذاب فإنها تأتي من وجه واحد ولا معارض ولا دافع ولهذا وصفها الله بالعقيم فقال {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} أي تعقم ما مرت به وقد اطردت هذه القاعدة إلا في مواضع يسيرة لحكمة فمنها قوله سبحانه: في سورة يونس {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَاكُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} فذكر ريح الرحمة بلفظ الإفراد لوجهين:
أحدهما: لفظي وهو المقابلة فإنه ذكر ما يقابلها ريح العذاب وهي لا تكون إلا مفردة ورب شيء يجوز في المقابلة ولا يجوز استقلالا نحو {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ}.
الثاني: معنوي وهو أن تمام الرحمة هناك إنما تحصل بوحدة الريح لا باختلافها فإن السفينة لا تسير إلا بريح واحدة من وجه واحد فإن اختلفت عليها الرياح وتصادمت كان سبب الهلاك والغرق فالمطلوب هناك ريح واحدة ولهذا أكد هذا المعنى فوصفها بالطيب دفعا لتوهم أن تكون عاصفة بل هي ريح يفرح بطيبها
ومنها قوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} وهذا أورده ابن المنير في كتابه على الزمخشري قال الريح رحمة ونعمة وسكونها شدة على أصحاب السفن.
قال: الشيخ علم الدين العراقي وكذا جاء في القراءات السبع {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الريح} {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الريح} والمراد به الذي ينشر السحاب.
ومن ذلك جمع الظلمات والنور {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}.
ولذلك جمع سبيل الباطل وأفرد سبيل الحق كقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}.
والجواب في ذلك كله أن طريق الحق واحد وأما الباطل فطرقه متشعبة متعددة ولما كانت الظلم بمنزلة طريق الباطل والنور بمنزلة طريق الجنة بل هما هما أفرد النور وجمع الظلمات ولهذا وحد الولي فقال{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} لأنه الواحد الأحد وجمع أولياء الكفار لتعددهم وجمع الظلمات وهي طرق الضلال والغي لكثرتها واختلافها ووحد النور وهو دين الحق
ومن ذلك أفرد اليمين والشمال في قوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} وجمعها في قوله {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} ولا سؤال فيه إنما السؤال في جمع أحدهما وإفراد الآخر كقوله تعالى: {يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ} قال الفراء: كأنه إذا وحد ذهب إلى واحد من ذوات الظلمة وإذا جمع ذهب إلى كلها والحكمة في تخصيص اليمين بالإفراد ما سبق فإنه لما كانت اليمين جهة الخير والصلاح وأهلها هم الناجون أفردت ولما كانت الشمال جهة أهل الباطل وهم أصحاب الشمال جمعت في قوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ}.
وفيه وجوه أخر:
أحدهما: أن اليمين مقصود به الجمع أيضا فإن الألف واللام فيه للجنس فقام العموم مقام الجمع قاله ابن عطية.
الثاني: أن اليمين فعيل، وهو مخصوص بالمبالغة فسدت مبالغته جمعه كما سد مسد الشبه قوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} قاله ابن بابشاذ.
الثالث: أن الظل حين ينشأ أول النهار يكون في غاية الطول ثم يبدو كذلك ظلا واحدا من جهة اليمين ثم يأخذ في النقصان وإذا أخذ في جهة الشمال فإنه يتزايد شيئا فشيئا والثاني فيه غير الأول فكلما زاد فيه شيئا فهو غير ما كان قبله فصار كل جزء منه ظلا فحسن جمع الشمائل في مقابلة تعدد الظلال قاله الرماني وغيره.
قال: ابن بابشاذ: وإنما يصح هذا إذا كانا متوجهين نحو القبلة.
الرابع: إن اليمين يجمع على أيمن وأيمان فهو من أبنية جمع القلة غالبا والشمال يجمع على شمائل وهو جمع كثرة والموطن موطن تكثير ومبالغة فعدل عن جمع اليمين إلى الألف واللام الدالة على قصد التكثير قاله السهيلي.
وأما إفرادها في قوله: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} فلأن المراد أهل هذه الجهة ومصيرهم إلى جهة واحدة هي جهة أهل الشمال مستقر أهل النار فإنها من جهة أهل الشمال فلا يحسن مجيئها مجموعة وإما إفرادهما في قوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} فإن لكل عبد قعيدا واحدا عن يمينه وآخر شماله يحصيان عليه الخير والشر فلا معنى للجمع بينهما وهذا بخلاف قوله تعالى ذاكرا عن إبليس: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ
وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} فإن الجمع هناك يقابله كثير مما يريد إغوائهم فجمع لمقابلة الجملة بالجملة المقتضي لتوزيع الأفراد على الأفراد.
ومنها: حيث وقع في القرآن ذكر الجنة فإنها تجيء تارة مجموعة وتارة غير مجموعة والنار لم تقع إلا مفردة وفي ذلك وجهان:
أحدهما: لما كانت الجنات مختلفة الأنواع حسن جمعها وإفرادها ولما كانت النار واحدة أفردت باعتبار الجنس ونظيره قوله تعالى: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} ولم يقل وكؤوس لما سنذكره.
الثاني: أنه لما كانت النار تعذيبا والجنة رحمة ناسب جمع الرحمة وإفراد العذاب نظير جمع الريح في الرحمة وإفرادها في العذاب.
وأيضا فالنار دار حبس والغاضب يجمع جماعة من المحبوسين في موضع واحد أنكد لعيشهم والكريم لا يترك ضيفه ولاسيما إذا كان للدوام إلا في دار مفردة مهيأة له وحده فالنار لكل مذنب ولكل مطيع الجنة فجمع الجنان ولم يجمع النار.
ومنها: جمع الآيات في موضع وإفرادها في آخر فحيث جمعت فلجمع الدلائل وحيث وحدت فلوحدانية المدلول عليه لما يخرج عن ذلك ولهذا قال: في الحجر {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} ثم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} فلما ذكر صفة المؤمنين بالوحدانية وحد الآية وليس لها نظير إلا في العنكبوت وهو قوله: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً}.
ومنها مجيء المشرق والمغرب في القرآن تارة بالجمع وأخرى بالتثنية وأخرى بالإفراد لاختصاص كل مقام بما يقتضيه.
فالأول: كقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ}.
والثاني: كقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ}.
والثالث: قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } فحيث جمع كان المراد نفي المشرق والمغرب وحيث ثنيا كان المراد مشرقي صعودها وارتفاعها فإنها تبتدئ صاعدة حتى تنتهي إلى غاية أوجها وارتفاعها فهذا مشرق صعودها وارتفاعها وينشأ منه فصلا الخريف والشتاء فجعل مشرق صعودها بجملته مشرقا واحدا ومشرق هبوطها بجملته مشرقا واحدا ومقابلهما مغربا.
وقيل: هو إخبار عن الحركات الفلكية متحركة بحركات متداركة لا تنضبط لخطة ولا تدخل تحت قياس لأن معنى الحركة انتقال الشيء من مكان إلى آخر وهذه صفة الأفلاك قال تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} الآية فهذا وجه اختلاف هذه الألفاظ بالإفراد والتثنية والجمع وقد أجرى الله العادة إن القمر يطلع في كل ليلة من مطلع غير الذي طلع فيه بالأمس وكذلك الغروب فهي من أول فصل الصيف في تلك المطالع والمغارب إلى أن تنتهي إلى مطلع الاعتدال ومغربه عند أول فصل الخريف ثم تأخذ جنوبا في كل يوم في مطلع ومغرب إلى إن تنتهي إلى آخر مثلها الذي يقدر الله لها عند أول فصل الشتاء ثم ترجع كذلك إلى إن تنتهي إلى مطلع الاعتدال الربيعي ومغربه وهكذا أبدا فحيث أفرد الله له لفظ المشرق والمغرب أراد به الجهة نفسها التي تشتمل الواحدة على تلك المطالع جميعها والأخرى على تلك المغارب من غير نظر إلى تعددها وحيث جيء بلفظ الجمع المراد به.
كل فرد منها بالنسبة إلى تعدد تلك المطالع والمغارب وهي في كل جهة مائة وثمانون يوما وحيث كان بلفظ التثنية فالمراد بأحدهما الجهة التي تأخذ منها الشمس من مطلع الاعتدال إلى آخر المطالع والمغارب الجنوبية وبهذا الاعتبار مشرقان ومغربان.
وأما وجه اختصاص كل موضع بما وقع منه فأبدى فيه بعض المتأخرين معاني لطيفة فقال:
أما ما ورد مثنى في سورة الرحمن فلأن سياق السورة سياق المزدوجين:
الثاني: فإنه سبحانه أولا ذكر نوعي الإيجاد وهما الخلق والتعليم ثم ذكر سراجي العالم ومظهر نوره وهما الشمس والقمر ثم ذكر نوعي النبات فإن منه ما هو على ساق ومنه ما انبسط على وجه الأرض وهما النجم والشجر ثم ذكر نوعي السماء المرفوعة والأرض ثم أخبر أنه رفع هذه ووضع هذه ووسط بينهما ذكر الميزان ثم ذكر العدل والظلم في الميزان فأمر بالعدل ونهى عن الظلم ثم ذكر نوعي الخارج من الأرض وهما الجنوب ثم ذكر نوعي المكلفين وهما نوع إلا لإنسان والجان ثم ذكر نوعي المشرق والمغرب ثم ذكر بعد ذلك البحر من الملح والعذب فلهذا حسن تثنية المشرق والمغرب في هذه السورة.
وإنما افردا في سورة المزمل لما تقدم من ذكر الليل والنهار فإنه سبحانه أمر نبيه بقيام الليل ثم أخبر أنه له في النهار سبحا طويلا فلما تقدم ذكر الليل والنهار تممه بذكر المشرق والمغرب اللذين هما مظهر الليل والنهار فكان ورودهما منفردين في هذا السياق أحسن من التثنية والجمع لأن ظهور الليل والنهار فيهما واحد وإنما جمعا في سورة المعارج في قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} لأنه لما كان هذا القسم سعة مشارق ربوبيته وإحاطة قدرته والمقسم عليه إذهاب هؤلاء والإتيان بخير منهم ذكر المشارق والمغارب لتضمنها انتقال الشمس التي في أحد آياته العظيمة ونقله سبحانه لها وتصريفها كل يوم في مشرق ومغرب فمن فعل هذا كيف يعجزه إن يبدل هؤلاء وينقل إلى أمكنتهم خيرا منهم.
وأيضا فإن تأثير مشارق الشمس ومغاربها في اختلاف أحوال النبات والحيوان أمر مشهود وقد جعله الله بحكمته سببا لتبدل أجسام النبات وأحوال الحيوانات وانتقالها من حال إلى حال ومن برد إلى حر وصيف وشتاء وغير ذلك بسبب اختلاف مشارق الأرض ومغاربها فكيف لا يقدر مع ما يشهدونه من ذلك على تبديل من هو خير وأكد هذا المعنى بقوله: { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} فلا يليق بهذا الموضع سوى لفظ الجمع
وأما جمعهما في سورة الصافات في قوله: {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} لما جاءت مع جملة المربوبات المتعددة وهي السموات والأرض وما بينهما وكان الأحسن مجيئها مجموعة لتنتظم مع ما تقدم من الجمع والتعدد.
ثم تأمل كيف اقتصر على المشارق دون المغارب لاقتضاء الحال ذلك فإن المشارق مظهر الأنوار وأسباب لانتشار الحيوان وحياته وتصرفه في معاشه وانبساطه فهو إنشاء شهود فقدمه بين يدي..... على مبدأ البعث فكان الاقتصار على ذكر المشارق
ها هنا في غاية المناسبة للغرض المطلوب فتأمل هذه المعاني الكاملة والآيات الفاضلة التي ترقص القلوب لها طربا وتسيل الأفهام منها رهبا !
وحيث ورد البار مجموعا في صفة الآدميين قيل أبرار كقوله: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} وقال: في صفة الملائكة {بَرَرَةٍ} قال الراغب فخص الملائكة بها من حيث أنه أبلغ من أبرار جمع بر وأبرار جمع بار وبر أبلغ من بار كما إن عدلا أبلغ من عادل.
وهذا بناء على رواية في تفضيل الملائكة على البشر.
ومنها إن الأخ يطلق على أخي النسب وأخي الصداقة والدين ويفترقان في الجمع فيقال في النسب إخوة وفي الصداقة إخوان كما قيل {إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} وقال: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} قال جماعة من أهل اللغة منهم ابن فارس وحكاه أبو حاتم عن أهل البصرة ثم رده بأنه يقال للأصدقاء والنسب إخوة وإخوان قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} لم يعن النسب وقال: {أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ} وهذا في النسب ونظيره قوله:{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} إلى قوله: {أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} وهذا هو الصواب واشتقاق اللفظين من تآخيت
الشيء فسمى الأخوان أخوين لأن كل واحد منهما يتأخى ما تأخاه الآخر أي يقصده
قال ابن السكيت: ويقال أخوة بضم الهمزة.
ومنها إفراد العم والخال
ومنها إفراد السمع وجمع البصر كقوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ} لأن السمع غلب عليه المصدرية فأفرد بخلاف البصر فإنه اشتهر في الجارحة وإذا أردت المصدر قلت أبصر إبصارا ولهذا لما استعمل الحاسة جمعه بقوله: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} وقال: {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ}.
وقيل: في الكلام حذف مضاف أي على حواس سمعهم.
وقيل: لأن متعلق السمع الأصوات وهي حقيقة واحدة ومتعلق البصر الألوان والأكوان وهي حقائق مختلفة فأشار في كل منهما إلى متعلقه.
ويحتمل أن يكون البصر الذي هو نور العين معنى يتعدد بتعدد المقلتين ولا كذلك السمع فإنه معنى واحد ولهذا إذا غطيت إحدى العينين ينتقل نورها إلى الأخرى بخلاف السمع فإنه ينقص بنقصان أحدهما.
وقال الزمخشري في قوله تعالى: {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} أجرى الرعد والبرق على أصلهما مصدرين فافردهما دون الظلمات يقال: رعدت السماء رعدا وبرقت برقا والحق إن الرعد والبرق مصدران فأفردهما أو هما مسببان عن سبب لا يختلف بخلاف الظلمة فإن أسبابها متعددة.
ومنها حيث ذكر الكأس في القرآن كان مفردا ولم يجمع في قوله تعالى: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ} ولم يقل وكؤوس لأن الكأس إناء فيه شراب فإن لم يكن فيه شراب فليس بكأس بل قدح والقدح إذا جعل فيه الشراب فالاعتبار للشراب لا لإنائه لأن المقصود هو المشروب والظرف اتخذ للآلة ولولا الشراب والحاجة إلى شربه لما اتخذا والقدح مصنوع والشراب جنس فلو قال كؤوس لكان اعتبر حال القدح والقدح تبع ولما لم يجمع اعتبر حال الشراب وهو أصل واعتبار الأصل أولى فانظر كيف اختار الأحسن من الألفاظ.
وكثير من الفصحاء قالوا: دارت الكؤوس ومال الرؤوس فدعاهم السجع إلى اختيار غير الأحسن فلم يدخل كلامهم في حد الفصاحة والذي يدل على ما ذكرنا إن الله تعالى لما ذكر الكأس واعتبر الأصل قال: {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} فذكر الشراب.
وحيث ذكر المصنوع ولم يكن في اللفظ دلالة على الشراب جمع فقال: {وِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ } ثم ذكر ما يتخذ منه فقال: {مِنْ فِضَّةٍ}.
ومنها إفراد الصديق وجمع الشافعين في قوله تعالى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} وحكمته كثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق قال الزمخشري:
ألا ترى إن الرجل إذا امتحن بإرهاق ظالم نهضت جماعة وافرة من أهل بلده بشفاعته رحمة له وإن لم يسبق له بأكثرهم معرفة وأما الصديق فأعز من بيض الأنوق وعن بعض الحكماء أنه سئل عن الصديق فقال اسم لا معنى له.
ويجوز أن يريد بالصديق الجمع.
وقال السهيلي: في الروض الأنف إذا قلت عبيد ونخيل فهو اسم يتناول الصغير والكبير من ذلك الجنس قال الله تعالى :{وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} وقال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} وحين ذكر المخاطبين منهم قال العباد ولذلك قال حين ذكر التمر من النخيل {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} و{أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} فتأمل الفرق بين الجمعين في حكم البلاغة واختيار الكلام !
وأما في مذهب اللغة فلم يفرقوا هذا التفريق ولا نبهوا على هذا المعنى الدقيق.
ومنها اختلاف الجمعين في قوله تعالى: { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} إلى قوله: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ} وقال: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً} فأما وجه التفرقة بين الجمع في الموضعين وكذلك قوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} إلى قوله: {أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ}.
فخالف بين الجمعين في الأبناء وفي سورة الأحزاب {وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ}.
ومنه قوله تعالى: {أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} وفي موضع آخر {وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ} فالمعدود واحد
وقد اختلف تفسيره فالأول جاء بصيغة جمع الكثرة والثاني بجمع القلة.
وقد قيلفي توجيهه: إن آية البقرة سيقت في بيان المضاعفة والزيادة فناسب صيغة جمع الكثرة وآية يوسف لحظ فيها وهو قليل فأتى بجمع القلة ليصدق اللفظ المعنى.

تنبيه:
جمع التكسير يشمل أولى العلم وغيرهم وجمع السلامة يختص في أصل الوضع بأولى العلم وإن وجد في غيرهم فبحكم الإلحاق والتشبيه كقوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} ، وعلى هذا فأشرف الجمعين جمع السلامة وما يجمع جمع التكسير من مذكر غير العاقل قد يتبع بالصفة المفردة مؤنثه بالتاء كما يفعل بالخبر تقول: حقوق معقودة وأعمال محسوبة قال تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ}.
وقال: {أَيَّاماً مَعْدُودَةً}.
وقد يجمع بالألف والتاء في غير المفرد وإن لم يكثر إلا أنه فصيح ومنه {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}.

[ البرهان في علوم القرآن ( 4 / 3 ـ 22 ) ]


رد مع اقتباس
  #18  
قديم 12 ذو القعدة 1430هـ/30-10-2009م, 06:49 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي

قاعدة نحوية:
نون ضمير الجمع في جمع العلاقات سواء القلة كالهندات أو الكثرة كالهنود فتقول الهندات يقمن والهنود يقمن قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ } {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} هذا هو الأكثر.
وقد جاء في القران بالإفراد قال تعالى: {وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} ولم يقل مطهرات
وأما جمع غير العاقل ففيه تفصيل.
إن كان للكثرة أتيت بضميره مفردا فقلت الجذوع انكسرت وان كان القلة أتيت جمعا وقد اجتمعا في قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ} إلى أن قال: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} فالضمير في منها يعود إلى الاثني عشر وهو جمع كثرة ولم يقل منهن ثم قال سبحانه: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} فهذا عائد إلى الأربعة وهو جمع قله
فإن قيل: فما السر في هذا حيث كان يؤتى مع الكثرة بضمير المفرد ومع القلة بضمير الجمع وهلا عكس قلنا ذكر الفراء له سرا لطيفا فقال لما كان المميز مع جمع الكثرة واحدا وحد الضمير لأنه من أحد عشر يصير مميزه واحدا وهو أندرهم وأما جمع القلة فمميزه جمع لأنك تقول ثلاثة دراهم أربعة دراهم وهكذا إلى العشر تمييزه جمع فلهذا أعاد الضمير باعتبار المميز جمعا وإفرادا ومن هذا قوله سبحانه: {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} فأتى بجمع القلة ولم يقل بحور لتناسب نظم الكلام وهذا هو الاختيار في إضافة العدد إلى جمع القلة.
وأما قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} فأضاف الثلاثة إلى القروء وهو جمع كثرة ولم يضفها إلى الأقراء التي هي جمع قلة قال الحريري المعنى لتتربص كل واحده منهن ثلاثة أقراء فلما أسند إلى جماعتهن والواجب على كل فرد منهن ثلاثة أتى بلفظ قروء لتدل على الكثرة المرادة والمعنى الملموح.


قاعدة في الضمائر:
وقد صنف ابن الأنباري في بيان الضمائر الواقعة في القران مجلدين وفيه مباحث:
الأول: للعدول إلى الضمائر أسباب:
منها: وهو أصل وصفها للاختصار ولهذا قام قوله تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} مقام خمسة وعشرين لو أتى بها مظهرة.
وكذا قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} نقل ابن عطية عن مكي أنه ليس في كتاب آية اشتملت على ضمائر أكثر منها وهي مشتملة على خمسة وعشرين ضميرا وقد قيل في آية الكرسي أحد وعشرون اسما ما بين ضمير وظاهر ومنها الفخامة بشأن صاحبه حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته كقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} يعني القرآن وقوله: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} ومنه ضمير الشأن.
ومنها: التحقير كقوله تعالى: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} يعني الشيطان وقوله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ}.
{إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ}.
الثاني: الأصل أن يقدم ما يدل عليه الضمير،بدليل الأكثرية وعدم التكليف ومن ثم ورد قوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} وتقدم المفعول الثاني في قوله:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ} فأخر المفعول الأول ليعود الضمير الأول عليه لقربهز
وقد قسم النحويون ضمير الغيبة إلى أقسام:
أحدها: وهو الأصل أن يعود إلى شيء سبق ذكره في اللفظ بالمطابقة نحو {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}.
{وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ}.
{إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}.
وقوله: {يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ}.
الثاني: أن يعود على مذكور في سياق الكلام مؤخر في اللفظ مقدم في النية كقوله تعالى {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً}.
وقوله: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}.
وقوله :{فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ }.
الثالث: أن يدل اللفظ على صاحب الضمير بالتضمن كقوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} فإنه عائد على العدل المفهوم من اعدلوا.
وقوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فالضمير يرجع للأكل لدلالة تأكلوا.
وقوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} إلى قوله: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} أي المقسوم لدلالة القسمة عليه ويحتمل أن يعود على ما تركه الوالدان والأقربون لأنه مذكور وإن كان بعيدا.
الرابع: أن يدل عليه بالالتزام كإضمار النفس في قوله تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} أضمر النفس لدلالة ذكر الحلقوم والتراقي عليها.
وقوله: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} يعني الشمس.
وقيل: بل سبق ما يدل عليها وهو العشي لأن العشي ما بين زوال الشمس وغروبها والمعنى إذ عرض عليه بعد زوال الشمس حتى توارت الشمس بالحجاب.
وقيل: فاعل توارت ضمير الصافنات ذكره ابن مالك وابن العربي في الفتوحات ويرجحه أن اتفاق الضمائر أولى من تخالفها وسنذكره في الثامن.
وكذا قوله: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} قيل الضمير لمكان الإغارة بدلالة والعاديات عليه فهذه الأفعال إنما تكون لمكان.
وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أضمر القرآن لأن الإنزال يدل عليه وقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} فـ" عفي" يستلزم عافيا إذ أغنى ذلك عن ذكره وأعيد الهاء من {إِلَيْهِ} عليه.
الخامس: إن يدل عليه السياق فيضمر ثقة بفهم السامع كإضمار الأرض في قوله: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} وقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} وجعل ابن مالك الضمير للدنيا وقال وإن لم يقدم لها ذكر لكن تقدم ذكر بعضها والبعض يدل على الكل وقوله تعالى: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ} يعني القرآن أو المسجد الحرام وقوله: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي}{يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} الضمير يعود على الميت وإن لم يتقدم له ذكر إلا أنه لما قال يوصيكم الله في أولادكم علم إن ثم ميتا يعود الضمير عليه وقوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} ثم قال: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} أي من الموروث وهذا وجه آخر غير ما سبق.
وقوله: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا} ولم يقل اتخذه ردا للضمير إلى شيئا لأنه لم يقتصر على الاستهزاء بما يسمع من آيات الله بل كان إذا سمع بعض آيات الله استهزأ بجميعها وقيل شيئا بمعنى الآية لأن بعض الآيات آية وقد يعود الضمير على الصاحب المسكوت عنه لاستحضاره بالمذكور وعدم صلاحيته له كقوله:{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ} فأعاد الضمير للأيدي لأنها تصاحب الأعناق في الأغلال وأغنى ذكر الأغلال عن ذكرها.
ومثله قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} أي من عمر غير المعمر فأعيد الضمير على غير المعمر لأن ذكر المعمر يدل عليه لتقابلهما فكان يصاحبه الاستحضار الذهني
وقد يعود الضمير على بعض ما تقدم له كقوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً} بعد قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ}.
وقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} فإنه عائد على المطلقات مع أن هذا خاص بالرجعى وهل يقتضي ذلك تخصيص الأول فيه خلاف أصولي وقوله: {وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فإن الفضة بعض المذكور فأغنى ذكرها عن ذكر الجميع حتى كأنه قال: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} أصناف ما يكنز.
وقد يعود على اللفظ الأول دون معناه كقوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} وقد سبق فيه وجه آخر.
وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} على أحد الأقوال.
ومما يتخرج عليه {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} ويستراح من إلزام تخصيص الأول
وقد يعود على المعنى كقوله: في آية الكلالة {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} ولم يتقدم لفظ مثنى يعود عليه الضمير من كانتا قال الأخفش إنما يثنى لأن الكلام لم يقع على الواحد والاثنين والجمع فثنى الضمير الراجع إليها حملا على المعنى كما يعود الضمير جمعا في من حملا على معناها
وقال الفارسي: إنما جازت من حيث كان يفيد العدد مجردا من الصغير والكبير السادس ألا يعود على مذكور ولا معلوم بالسياق أو غيره وهو الضمير المجهول الذي يلزمه بالتفسير بجملة أو مفرد فالمفرد في نعم وبئس والجملة ضمير الشأن والقصة نحو هو زيد منطلق وكقوله تعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أي الشأن الله أحد وقوله:{لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي}.
وقوله: {أَنَا اللَّهُ}.
وقوله: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ} وقد يكون مؤنثا إذا كان عائده مؤنثا كقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} وأما قوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ} فذكر الضمير مع اشتمال الجملة على جهنم وهي مؤنثة لأنها في حكم الفضلة إذا المعنى من يأت ربه مجرما يجز جهنم.
تنبيه: والفرق بينه وبين ضمير الفصل أن الفصل يكون على لفظ الغائب والمتكلم والمخاطب قال تعالى: {هَذَا هُوَ الْحَقَّ} {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ} {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً} ويكون له محل من الإعراب وضمير الشأن يكون إلا غائبا ويكون مرفوع المحل ومنصوبه قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ}.
البحث الثالث: قد يعود على لفظ شيء والمراد به الجنس من ذلك الشيء كقوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} فإن الضمير في به يرجع إلى المرزوق في الدارين جميعا لأن قوله هذا الذي رزقنا من قبل مشتمل على ذكر ما رزقوه في الدارين قال الزمخشري: ونظيره {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} أي بجنس الفقير والغني لدلالة قوله: {غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً} على الجنسين ولو رجع إلى المتكلم به لوحده.
البحث الرابع: قد يذكر شيئان ويعاد الضمير على أحدهما ثم الغالب كونه للثاني كقوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} فأعاد الضمير للصلاة لأنها أقرب.
وقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} والأصل: قدرهما لكن اكتفى برجوع الضمير للقمر لوجهين قربه من الضمير وكونه هو الذي يعلم به الشهور ويكون به حسابها.
وقوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أعاد الضمير على الفضة لقربها.
ويجوز أن يكون إلى المكنوز وهو يشملها.
وقوله: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} أراد يرضوهما فخص الرسول بالعائد لأنه هو داعي العباد إلى الله وحجته عليهم والمخاطب لهم شفاها بأمره ونهيه وذكر الله تعالى في الآية تعظيما والمعنى تام بذكر الرسول وحده كما قال تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} فذكر الله تعظيما والمعنى تام بذكر رسوله.
ومثله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ}.
وجعل منه ابن الأنباري: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} أعاد الضمير للإثم لقربه ويجوز رجوعه إلى الخطيئة والإثم على لفظها بتأويل ومن يكسب إثما ثم يرم به.
وقال الأنباري: ولم يؤثر الأول بالعائد في القرآن كله إلا في موضع واحد وهو قوله تعالى {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} معناه إليهما فخص التجارة بالعائد لأنها كانت سبب الانفضاض عنه وهو يخطب قال فأما كلام العرب فإنها تارة تؤثر الثاني بالعائد وتارة الأول فتقول إن عبدك وجاريتك عاقلة وإن عبدك وجاريتك عاقل.
قلت: ليس من هذا قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} وقوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} لأن الإخبار عن أحدهما لوجود لفظه أو هي لإثبات أحد المذكورين فمن جعله نظير هذا فلم يصب إلا إن يدعى أن أو بمعنى الواو.
وفي هاتين الآيتين لطيفة وهي أن الكلام لما اقتضى إعادة الضمير على أحدهما أعاده في الآية الأولى على التجارة وإن كانت أبعد ومؤنثة لأنها أجذب لقلوب العباد عن طاعة الله من اللهو بدليل أن المشتغلين بها أكثر من اللهو ولأنها أكثر نفعا من اللهو أو لأنها كانت أصلا واللهو تبعا لأنه ضرب بالطبل لقدومها على ما عرف من تفسير الآية وأعاده في الآية الثانية على الإثم رعاية لمرتبة القرب والتذكر.
الخامس: قد يذكر شيئان ويعود الضمير جمعا لأن الاثنين جمع في المعنى كقوله تعالى: { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} يعني حكم سليمان وداود وقوله: {أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} فأوقع أولئك وهو جمع على عائشة وصفوان بن المعطل.
البحث السادس: قد يثنى الضمير ويعود على أحد المذكورين كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} قالوا: وإنما يخرج من أحدهما وقوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} وإنما نسيه الفتى
السابع: قد يجيء الضمير متصلا بشيء وهو لغيره كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} يعنى آدم ثم قال: {ثم جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} فهذا لولده لأن آدم لم يخلق من نطفة
ومنه قوله تعالى: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} قيل نزلت في ابن حذافة حين قال: للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أبي؟: قال: حذافة " فكان نسبه فساءه ذلك فنزلت {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} وقيل نزلت في الحج حين قالوا أفي كل مرة ثم قال وإن تسألوا عنها يريد إن تسألوا عن أشياء أخر من دينكم بكم إلى علمها حاجة تبد لكم ثم قال {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي طلبها والسؤال عنها طلب فليست الهاء راجعة لأشياء متقدمة بل لأشياء أخر مفهومة من قوله: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} ويدل على ما ذكرنا أنه لو كان الضمير عائدا على أشياء مذكورة لتعدى إليها بـ "عن" لا بنفسه ولكنه مفعول مطلق لا مفعول به وقوله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} يتبادر إلى الذهن أن الضمير في قوله هو عائد لإبراهيم لأنه أقرب المذكورين وهو مشكل لا يستقيم لأن الضمير في قوله: {وَفِي هَذَا} راجع للقرآن وهو لم يكن في زمن إبراهيم ولا هو قاله والصواب أن الضمير راجع إلى الله سبحانه يعني {سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} يعني في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلكم وفي هذا الكتاب الذي أنزل عليكم وهو القرآن والمعنى جاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وهو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا الكتاب لتكونوا أي سماكم وجعلكم مسلمين لتشهدوا على الناس يوم القيامة وقوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} منصوب بتقدير اتبعوا لأن هذا لناصب نصبه قوله: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} لأن الجهاد من ملة إبراهيم وفي سورة يس موضعان توهم فيهما كثير من الناس:
أحدهما: قوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} فقد يتوهم أن الضمير في هم راجع إلى الليل والنهار بناء على أن أقل الجمع اثنان وهو فاسد لوجهين أحدهما أن النهار ليس مظلما والثاني أن كون أقل الجمع اثنان مذهب مرجوح إنما الضمير راجع إلى الكفار الذين يحتج عليهم بالآيات و{مُظْلِمُونَ} داخلو الظلام كقولك مصبحون وممسون إذا دخلوا في هذه الأشياء والثاني: قوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ} يظن بعضهم أن معناه مثل السموات والأرض وهو فاسد لوجهين أحدهما أنهم ما أنكروا إعادة السموات والأرض حتى يدل على إنكارهم إعادتهما بابتدائهما وإنما أنكروا إعادة أنفسهم فكان الضمير راجعا إليهم ليتحقق حصول الجواب لهم والرد عليهم الثاني لتبين المراد في قوله: {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} فإن قيل إنما أثبت قدرته على إعادة مثلهم لا على إعادتهم أنفسهم فلا دلالة فيه عليهم قلنا المراد بمثلهم هم كما في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقولهم مثلى لا يفعل كذا أي أنا وبدليل الآية الأخرى وقوله: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} قد يتوهم عوده على الله وليس كذلك.
وإلا لنصب العمل كما تقول قام زيد وعمرا يضربه وإنما الفاعل في يرفعه عائد إلى العمل والهاء للكلم قال الفارسي في التذكرة المنصوب في يرفعه عائد للكلم لأن الكلم جمع كلمة قال كلم كالشجر في أنه قد وصف بالمفرد في قوله: {مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ} وكذلك وصف الكلم بالطيب ولو كان الضمير المنصوب في {يَرْفَعُهُ} عائدا إلى العمل لكان منصوبا في هذا الوجه وما جاء التنزيل عليه من نحو {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} والضمير المرفوع في {يَرْفَعُهُ} عائد إلى العمل فلذلك ارتفع العمل ولم يحمل على قوله {يصعد} ويضمر له فعل ناصب كما أضمرت لقوله: {وَالظَّالِمِينَ} والمعنى يرفع العمل الصالح الكلم الطيب ومعنى يرفع العمل أنه لا يحبط ثوابه فيرفع لصاحبه ويثاب عليه وليس كالعمل السيء الذي يقع معه الإحباط فلا يرفع إلى الله سبحانه.
الثامن: إذا اجتمع ضمائر فحيث أمكن عودها لواحد فهو أولى من عودها لمختلف ولهذا لما جوز بعضهم في قوله تعالى:{أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ} الخ أن الضمير في {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} ل لتابوت وما بعده وما قبله لموسى عابه الزمخشري وجعله تنافرا ومخرجا للقرآن عن إعجازه فقال والضمائر كلها راجعة إلى موسى ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لما يؤدي إليه من تنافر النظر.
فإن قلت: المقذوف في البحر هو التابوت وكذلك الملقى إلى الساحل.
قلت: ما ضرك لو جعلت المقذوف والملقى إلى الساحل هو موسى في جوف التابوت حتى لا تفرق الضمائر فيتنافر عليك النظم الذي هو قوام إعجاز القرآن والقانون الذي وقع عليه التحدي ومراعاته أهم ما يجب على المفسر انتهى ولا مزيد على حسنه.
وقال في قوله: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} الضمائر لله عز وجل والمراد بتعزيز الله تعزيز دينه ورسوله ومن فرق الضمائر فقد أبعد أي فقد قيل إنها للرسول إلا الأخير لكن قد يقتضي المعنى التخالف كما في قوله تعالى: {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} الهاء والميم في فيهم لأصحاب الكهف والهاء والميم في منهم لليهود قاله ثعلب والمبرد
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} بعد قوله: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ}.
وقوله: {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ}.
وقوله: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} أي عمروا الأرض الذين كانوا قبل قريش أكثر مما عمرتها قريش وقوله: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} الآية فيها اثنا عشر ضميرا،خمسة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وله والثالث ضمير في {الْغَارِ} لأنه يتعلق باستقرار محذوف
فيحتمل ضميرا والرابع: {صَاحِبُهُ} والخامس: {لا تَحْزَنْ} والسادس: {مَعَنَا} والسابع في {عَلَيْهِ} على قول الأكثر فيما نقله السهيلي لأن السكينة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دائما لأنه كان قد علم أنه لا يضره شيء إذا كان خروجه بأمر الله.
وأما قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ} فالسكينة نزلت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين لأنه خاف على المسلمين ولم يخف على نفسه فنزلت عليه السكينة من أجلهم لا من أجله.
وأما قوله تعالى: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} قيل الضميران عائدان على يوسف قال للناجي ذكر الملك بأمري.
ورجح ابن السيد هذا لقوله تعالى: {وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة} أي بعد حين
وفي قراءة ابن عامر بعد "أمَة" بالتخفيف أي نسيان وإلا لم يكن ليذكر تذكر الفتى بعد النسيان والذكر على هذا يحتمل وجهين أن يكون بمعنى التذكير ويكون مصدر ذكرته ذكرا فالتقدير فأنساه الشيطان ذكره عند ربه فأضاف الذكر إلى الرب وهو في الحقيقة مضاف إلى ضمير يوسف وجاز ذلك لملاءمته بينهما وقد يخالف بين الضمائر حذرا من التنافر كقوله تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} كما عاد الضمير على الاثني عشر ثم قال: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} لما أعاد على أربعة وهو جمع قلة.
وجوز بعضهم عوده على الاثني عشر أيضا بل هو الصواب لأنه لا يجوز أن ينهى عن الظلم في الأربعة ويبيح الظلم في الثمانية بل ترك الظلم في الكل واجب.
قلت: لكن يجوز التنصيص على أفضلية الحرم فإن الظلم قبيح مطلقا وفيهن أقبح فالظاهر الأول.
التاسع: قد يسد مسد الضمير أمور:
منها: الإشارة كما في قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}.
ومنها: الألف واللام كقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}.
وقوله: {نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} أي رسلك.
وقوله: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} أصل الكلام أجره وصبره ولما كان المحسنون جنسا ومن يتق ويصبر واحد تحته أغنى عمومه من عود الضمير إليه
وقول الكوفيين: الألف واللام عوض من الضمير.
قال ابن مالك: وعليه يحمل قوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ} وزعم الزمخشري أن الأبواب بدل من المستكن في مفتحة.
وهذا تكلف فوجب أن تكون الأبواب مرتفعة بمفتحة المذكور أو بمثله مقدرا وقد صح أن مفتحة صالح للعمل في الأبواب فلا حاجة إلى إبدال أيضا ومنها الاسم الظاهر بأن يكون المقام يقتضي الإضمار فيعدل عنه إلى الظاهر وقد سبق الكلام عليه في أبواب التأكيد
العاشر: الأصل في الضمير عوده إلى أقرب مذكور ولنا أصل آخر وهو أنه إذا جاء مضاف ومضاف إليه وذكر بعدهما ضمير عاد إلى المضاف لأنه المحدث عنه دون المضاف إليه نحو لقيت غلام زيد فأكرمته فالضمير للغلام ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}
وعند التعارض راعى ابن حزم والماوردي الأصل الأول فقالا إن الضمير في قوله: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} يعود على الخنزير دون لحمه لقربه وقواه بعض المتأخرين لأن الضمير للمضاف دون المضاف إليه ليس بأصل مطرد فقد يعود إلى المضاف إليه كقوله تعالى: {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}.
وكذا الصفة فإنها كما في قوله تعالى: {إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ}.
وللجمهور أن يقولوا: وكذا عوده للأقرب ليس بمطرد فقد يخرج عن الأصل لدليل وإذا تعارض الأصلان تساقطا ونظر في الترجيح من خارج بل قد يقال عوده إلى ما فيه العمل بهما أولى كما يقوله الماوردي أن الضمير يعود إلى الخنزير لأن اللحم موجود فيه.
وأما قوله تعالى: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}فأخبر خاضعين عن المضاف إليه ولو أخبر عن المضاف لقال خاضعةز
وأما قوله تعالى: {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} فقد عاد الضمير في قول المحققين للمضاف إليه وهو موسى والظن بفرعون وكأنه لما رأى نفسه قد غلط في الإقرار بالإلهية من قوله: {إِلَهِ مُوسَى} استدرك ذلك بقوله هذا.
الحادي عشر: إذا عطف بـ "أو" وجب إفراد الضمير نحو إن جاء زيد أو عمرو فأكرمه لأن "أو" لأحد الشيئين فأما قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} فقيل إن "أو" بمعنى الواو وقيل بل المعنى إن يكن الخصمان فعاد الضمير على المعنى.
وقيل: للتنويع لا للعطف وعكس هذا إذا عطف بالواو وجب تثنية الضمير فأما قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} فقد سبق الكلام عليه.

فائدة:
قوله: {إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} أي ضحى يومها فدل بالجزء على الكل.
قال الشيخ عز الدين: وإنما أضاف الضحى إلى نهار العشية لأنه لو أطلقها من غير إضافة لم يحسن الترديد بـ "أو" لأن عشية كل نهار من الظهر إلى الغروب وهو نصف النهار وضحاها مقدار ربعه مثلا وهو مقدار نصف العشية فلما أضافه إلى نهارها علم تقاربهما فحسن الترديد لإفادته الترديد بين اللبث الطويل والقصير ولو أطلقه لجاز أن يتوهم عشية نهار قصير وضحى يوم طويل فتساوى ذلك الضحى بالعشية فلا يحسن الترديد بينهما.
فإن قيل"كيف يجمع بين قوله: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} وهو الجزء اليسير من الزمان وبين الضحى والعشية؟وكيف حسن الترديد؟
فالجواب: أن هذا الحساب يختلف باختلاف الناس فمنهم من يعتقده طويلا ومنهم من يحسبه قصيرا قال تعالى: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً} ثم قال: {إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما}.
وقد يكون بحسب شدة الأمر وخفته ولبثتم يحتمل أن يكون في الدنيا ويحتمل أن يكون في البرزخ والأول أظهر.

فائدة:
وقد يتجوز بحذف الضمير للعلم به كقوله: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} أي بعثه وهو كثير
ومنه قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} إلى قوله: {يَتَرَبَّصْنَ} إذا جعلناه الخبر فالأصل يتربصن أزواجهن فوضع الضمير موضع الأزواج لتقدم ذكرهن فأغنى عن الضمير.

فائدة:
المضمر لا يكون إلا بعد الظاهر لفظا أو مرتبة أو لفظا ومرتبة ولا يكون قبل الظاهر لفظا ومرتبة إلا في أبواب ضمير الشأن والقصة كما سبق وباب نعم وبئس كقوله تعالى: {فَنِعِمَّا هِيَ} و{سَاءَ مَثَلاً} والضمير في ربه رجلا وباب الإعمال إذا أعملت الثاني والأول يطلب عمدة فمذهب سيبويه أنك تضمر في الأول فتقول ضربوني وضربت الزيدين.

فائدة:
الضمير لا يعود إلا على مشاهد محسوس فأما قوله تعالى: {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فضمير له عائد على الأمر وهو إذ ذاك غير موجود فتأويله أنه لما كان سابقا في علم الله كونه كان بمنزلة المشاهد الموجود فصح عود الضمير إليه.
وقيل: بل يرجع للقضاء لدلالة قضى عليه واللام للتعليل بمعنى من أجل كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} أي من أجل حبه.

قاعدة: فيما يتعلق بالسؤال والجواب.
الأصل في الجواب إن يكون مطابقا للسؤال إذا كان السؤال متوجها وقد يعدل في الجواب عما يقتضيه السؤال تنبيها على أنه كان من حق السؤال أن يكون كذلك ويسميه السكاكي الأسلوب الحكيم.
وقد يجيء الجواب أعم من السؤال للحاجة إليه في السؤال وأغفله المتكلم.
وقد يجيء أنقص لضرورة الحال.
مثال: ما عدل عنه قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} فعدل عن الجواب لما قالوا ما بال الهلال يبدو رقيقا مثل الخيط ثم يتزايد قليلا قليلا حتى يمتلئ ويستوي ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ فأجيبوا بما أجيبوا به لينتهوا على أن الأهم ما تركوا السؤال عنه.
وكقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} سألوا عما ينفقون فأجيبوا ببيان المصرف تنزيلا لسؤالهم منزلة سؤال غيره لينبه على ما ذكرنا ولأنه قد تضمن قوله: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ} بيان ما ينفقونه وهو خير ثم زيدوا على الجواب بيان المصرف.
ونظيره {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} فيكون طابق وزاد نعم روي عن ابن عباس أنه قال جاء عمرو بن الجموح وهو شيخ كبير له مال عظيم فقال ماذا أنفق من أموالنا؟وأين نضعها؟ فنزلت فعلى هذا ليست الآية مما نحن فيه لأن السائل لم يتعلق بغير ما يطلب بل أجيب ببعض ما سأل عنه.
وقال ابن القشيري: السؤال الأول كان سؤالا عن النفقة إلى من تصرف ودل عليه الجواب والجواب يخرج على وفق السؤال وأما هذا السؤال الثاني فعن قدر الإنفاق ودل عليه الجواب أيضا.
ومن ذلك أجوبة موسى عليه السلام لفرعون حيث قال فرعون {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} لأن "ما" سؤال عن الماهية أو عن الجنس ولما كان هذا السؤال خطأ لأن المسئول عنه ليس ترى ماهيته فتبين ولا جنس له.
فيذكر عدل الكليم عن مقصود السائل إلى الجواب بما يعرف الصواب عند كيفية الخطاب ولا يستحق الجريان معه فأجابه بالوصف المنبه عن الظن المؤدي لمعرفته لكنه لما لم يطابق السؤال عنه فرعون لجهله واعتقد الجواب خطأ {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ} فأجابه الكليم بجواب يعم الجميع ويتضمن الإبطال لعين ما يعتقدونه من ربوبية فرعون لهم بقوله: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} فأجاب بالأغلظ وهو ذكر الربوبية لكل ما هو من عالمهم نصا ولما لم يرهم موسى عليه السلام تفطنوا غلظ عليهم في الثالثة، بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} فكأنه شك في حصول عقلهم.
فإن قيل قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} ولم يقل عن قتال في الشهر الحرام لأنهم لم يسألوا إلا من أجل القتال فيه فكان ذكره أولى!
وقيل: لم يقع السؤال إلا بعد القتال فكان الاهتمام بالسؤال عن هذا الشهر هل أبيح فيه القتال وأعاده بلفظ الظاهر ولم يقل هو كبير ليعلم حكم قتال وقع في الشهر الحرام
وقد يعدل عن الجواب إذا كان السائل قصده التعنت كقوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} فذكر صاحب الإيضاح في خلق الإنسان إن اليهود إنما سألوا تعجيزا وتغليظا إذا كان الروح يقال بالاشتراك على روح الإنسان وجبريل وملك آخر يقال له الروح وصنف من الملائكة والقرآن وعيسى فقصد اليهود إن يسألوه فبأي يسمى أجابهم قالوا ليس هو فجاءهم الجواب مجملا فكان هذا الإجمال كيدا يرسل به كيدهم.
وقيل: إنما سألوا عن الروح: هل هي محدثة مخلوقة أم ليست كذلك؟ فأجابهم بأنها من أمر الله وهو جواب صحيح لأنه لا فرق بين أن يقول في الجواب ذلك أو يقول من أمر ربي لأنه أنما أراد أنها من فعله وخلقه.
وقيل: أنهم سألوه عن الروح الذي هو في القرآن فقد سمى الله القرآن روحا في مواضع من الكتاب وحينئذ فوقع الجواب موقعه لأنه قال لهم الروح الذي هو القرآن من أمر ربي ومما أنزله الله على نبيه يجعله دلالة وعلما على صدقه وليس من فعل المخلوقين ولا مما يدخل في إمكانهم.
وحكاه الشريف المرتضى في الغرر عن الحسن البصري قال ويقويه قوله بعد هذه الآية {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً} فكأنه قال تعالى إن القرآن من أمر ربي ولو شاء لرفعه.
ومثال الزيادة في الجواب قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} فإنه عليه السلام فهم إن السؤال يعقبه أمر عظيم يحدثه الله في العصا فينبغي أن ينبه لصفاتها حتى يظهر له التفاوت بين الحالين وكذا قوله {وَمَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} وحسنه إظهار الابتهاج بعبادتها والاستمرار على مواظبتها ليزداد غيظ السائل.
وقوله تعالى: {اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} بعد قوله: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً} الآية ولولا قصد بسط الكلام ليشاكل ما تقدم لقال: "ينجيكم الله".
ومثال النقصان منه قوله تعالى: ذاكرا عن مشركي مكة {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} أي ائت بقرآن ليس فيه سب آلهتنا أو بدله بأن تجعل مكان آية العذاب آية الرحمة وليس فيه ذكر آلهتنا فأمره الله أن يجيبهم على التبديل وطوى الجواب عن الاختراع قال الزمخشري لأن التبديل في إمكان البشر بخلاف الاختراع فإنه ليس في المقدور فطوى ذكره للتنبيه على أنه سؤال محال وذكر غيره إن التبديل قريب من الاختراع فلهذا اقتصر على جواب واحد لهما وخطر لي أنه لما كان التبديل أسهل من الاختراع وقد نفى إمكان التبديل كان الاختراع غير مقدور عليه من طريق أولى.

فائدة:
قيل أصل الجواب أن يعاد في نفس سؤال السائل ليكون وفق السائل قال الله تعالى: {أَإِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ} وأنا في جوابه عليه السلام هو أنت في سؤالهم.
قال: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} فهذا أصله ثم إنهم أتوا عوض ذلك محذوف الجواب اختصارا وتركا للتكرار.
وقد يحذف السؤال ثقة بفهم السامع بتقديره كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} فإنه لا يستقيم أن يكون السؤال والجواب من واحد فتعين أن يكون {قُلِ اللَّهُ} جواب سؤال كأنهم سألوا لما سمعوا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو {مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} فأجابهم الله عز وجل {قُلِ اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} فترك ذكر السؤال.
ونظيره قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ}.

قاعدة:
الأصل: في الجواب أن يكون مشاكلا للسؤال فإن كان جملة اسمية فينبغي أن يكون الجواب كذلك ويجيء ذلك في الجواب المقدر أيضا إلا أن ابن مالك قال في قولك من قرأ فتقول زيد فإنه من باب حذف الفعل على جعل الجواب جملة فعلية قال وإنما قدرته كذلك لا مبتدأ مع احتماله جريا على عادتهم في الأجوبة إذا قصدوا تمامها قال تعالى: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا}.
ومثله {خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}{قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} فلما أتى بالجملة الفعلية مع فوات مشاكلة السؤال علم أن تقدير الفعل أولا أولى انتهى.
ومما رجح به أيضا تقدير الفعل أنه حيث صرح بالجزء الأخير صرح بالفعل والتشاكل ليس واجبا بل اللائق كون زيد فاعلا أي قرأ زيد أو خبرا أي القارئ زيد لا مبتدأ لأنه مجهول
بقي أن يقال في الأولى: التصريح بالفعل أو حذفه؟وهل يختلف المعنى في ذلك؟
والجواب: قال ابن يعيش التصريح بالفعل أجود وليس كما زعم بل الأكثر الحذف وأما قوله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا} فكان الشيخ شهاب الدين بن المرحل رحمه الله يجعله من باب {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} من أنهم أجيبوا بغير ما سألوا لنكتة.
وفيه نظر وأما المعنى فلا شك أنه يختلف فإنه إذا قيل من جاء فقلت جاء زيد احتمل إن يكون جوابا وأن يكون كلاما مبتدأ ولو قلت زيد كان نصا في أنه جواب وفي العموم الذي دلت عليه من وكأنك قلت الذي جاء زيد فيفيد الحصر وهاتان الفائدتان إنما حصلتا من الحذف
ومنه قوله تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} إذ التقدير الملك لله الواحد فحذف المبتدأ من الجواب إذ المعنى لا ملك إلا لله.
ومن الحذف قوله تعالى: {لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا}{لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}.
ومن الإثبات قوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ}.
ولعله للتنصيص على الإحياء الذي أنكروه { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ} وقوله: {خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} لأن ظاهر أمرهم أنهم كانوا معطلة ودهرية فأريد التنصيص على اعترافهم بأنها مخلوقة.
وقوله: {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} لأنها استغربت حصول النبأ الذي أسرته.
وقال ابن الزملكاني في البرهان أطلق النحويون القول بأن زيدا فاعل إذا قلت: زيد في جواب من قام على تقدير قام زيد والذي يوجبه جماعة علم البيان أنه مبتدأ لوجهين:
أولهما: أنه مطابق للجملة التي هي جواب الجملة المسئول بها في الاسمية كما وقع التطابق في قوله تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً} في الجملة الفعلية وإنما لم يقطع التطابق في قوله تعالى:{ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} لأنهم لو طبقوا لكانوا مقرين بالإنزال وهم من الإذعان به على تفاوت الثاني: أن اللبس لم يقع عند السائل إلا فيمن فعل الفعل فوجب أن يقدم الفاعل في المعنى لأنه متعلق بغرض السائل وأما الفعل فمعلوم عنده ولا حاجة إلى السؤال عنه فحرى أن يقع في الأخرى التي هي محل التكملات والفضلات
وكذلك: أزيد قام أم عمرو؟ فالوجه في جوابه أن تقول: زيد قام أو عمرو قام وقد أشكل على هذه القاعدة قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام في جواب:
{أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} فإن السؤال وقع عن الفاعل لا عن الفعل ومع ذلك صدر الجواب بالفعل مع أنهم لم يستفهموا عن كسر الأصنام بل كان عن الشخص الكاسر لها.
والجواب أن ما بعد بل ليس بجواب للهمزة فإن بل لا يصلح أن يصدر بها الكلام ولأن جواب الهمزة بنعم أو بلى فالوجه أن يجعل إخبارا مستأنفا والجواب المحقق مقدر دل عليه سياق الكلام ولو صرح به لقال ما فعلته بل فعله كبيرهم وإنما اخترنا تقدير الجملة الفعلية على الجملة المعطوفة عليها في ذلك.
فإن قلت: يلزم على ما ذكرت أن يكون الخلف واقعا في الجملتين المعطوف عليها المقدرة والمعطوفة الملفوظ بها بعد بل.
قلت: وإنه لازم على أن يكون التقدير ما أنا فعلته بل فعله كبيرهم هذا مع زيادته بالخلف عما أفادته الجملة الأولى من التعريض إذا منطوقها نفي الفعل عن إبراهيم عليه السلام ومفهومها إثبات حصول التكسير من غيره.
فإن قلت: ولابد من ذكر ما يكون مخلصا عن الخلف على كل حال.
فالجواب من وجوه:
أحدها: أن في التعريض مخلصا عن الكذب ولم يكن قصده عليه السلام أن ينسب الفعل الصادر منه إلى الصنم حقيقة بل قصده إثبات الفعل لنفسه على طريق التعريض ليحصل غرضه من التبكيت وهو في ذلك مثبت معترف لنفسه بالفعل وليس هذا من الكذب في شيء
والثاني: إنه غضب من تلك الأصنام غيرة لله تعالى ولما كانوا لأكبرها أشد تعظيما كان منه أشد غضبا فحمله ذلك على تكسيرها وذلك كله حامل للقوم على الأنفة أن يعبدوه فضلا عن أن يخصوه بزيادة التعظيم ومنبه لهم على أن المتكسرة متمكن فيها الضعف والعجز منادى عليها بالفناء منسلخة عن ربقة الدفع فضلا عن إيصال الضرر والنفع وما هذا سبيله حقيق أن ينظر إليه بعين التحقير لا التوقير والفعل ينسب إلى الحامل عليه كما ينسب إلى الفاعل والمفعول والمصدر والزمان والمكان والسبب إذ للفعل بهذه الأمور تعلقات وملابسات يصح الإسناد إليها على وجه الاستعارة.
الثالث: أنه لما رأى عليه السلام منهم بادرة تعظيم الأكبر لكونه أكمل من باقي الأصنام وعلم أن ما هذا شأنه يصان أن يشترك معه من دونه في التبجيل والتكبير حمله ذلك على تكسيرها منبها لهم على أن الله أغير وعلى تمحيق الأكبر اقدر وحري أن يخص بالعبادة فلما كان الكبير هو الحامل على تكسير الصغير صحت النسبة إليه على ما سلف ولما تبين لهم الحق رجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم انتم الظالمون إذ وضعتم العبادة بغير موضعها.
وذكر الشيخ عبد القاهر أن السؤال إذا كان ملفوظا به فالأكثر ترك الفعل في الجواب والاقتصار على الاسم وحده وإن كان مضمرا فوجب التصريح بالفعل لضعف الدلالة عليه فتعين أن يلفظ به.
وهو مشكل بقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ} فيمن قرأها بفتح الباء كأنه قيل من يسبحه فقيل يسبحه رجال ونظيره ضرب زيد وعمرو على بناء ضرب للمفعول نعم الأولى ذكر الفعل لما ذكر وعليه يخرج كل ما ورد في القران من لفظ قال مفصولا غير منطوق به نحو {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ
سَلامٌ} كأنه قيل: فما قال لهم؟ {قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} ولذلك قالوا لا تخف.
وعلى هذه السياقة تخرج قصة موسى عليه السلام في قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} إلى قوله: {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.
وعلى هذا كل كلام جاء فيه لفظة قال هذا المجيء غير أنه يكون في بعض المواضع أوضح كقوله تعالى: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ} فإنه لا يخفى أنه جواب لقوله: {فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ}.
ومثله {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} إلى قوله: {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً}.

[ البرهان في علوم القرآن ( 4 / 23 ـ 51 )]


رد مع اقتباس
  #19  
قديم 12 ذو القعدة 1430هـ/30-10-2009م, 06:51 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي

فائدة:في أن أقل الأمم سؤالا أمة محمد عليه السلام.
نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ما كان قوم أقل سؤالا من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سألوه عن أربعة عشر حرفا فأجيبوا.
قال الإمام: ثمانية منها في البقرة {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} والباقي ستة فيها والتاسعة {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} في المائدة.
والعاشرة: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ}.
الحادي عشر في بني إسرائيل: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ}.
الثاني عشر في الكهف: {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ}.
الثالث عشر في طه: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ}.
الرابع عشر في النازعات: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ}.
ولهذه المسألة ترتيب: اثنان منها في شرح المبدأ كقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} فإنه سؤال عن الذات وقوله {عَنِ الأَهِلَّةِ} سؤال عن الصفة.
واثنان في الآخر في شرح المعاد وقوله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} وقوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا}
ونظير هذا أنه ورد في القران سورتان أولهما {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} في النصف الأول وهو السورة الرابعة وهي سورة النساء والثانية في النصف الثاني وهي سورة الحج ثم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} الذي في الأول يشتمل على شرح المبدأ والذي في الثاني يشتمل على شرح حال>
فإن قيل: كيف جاء {يَسْأَلونَكَ} ثلاث مرات بغير واو {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ}{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} ثم جاء ثلاث مرات بالواو { وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ}؟
قلنا: لأن سؤالهم عن الحوادث الأول وقع متفرقا عن الحوادث والآخر وقع في وقت واحد فجيء بحرف الجمع دلالة على ذلك.
فإن قيل: كيف جاء {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} وعادة السؤال يجيء جوابه في القران بـ "قل" نحو {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ونظائره؟
قيل: حذفت للإشارة إلى أن العبد في حالة الدعاء مستغن عن الواسطة وهو دليل على أنه أشرف المقامات فإن الله سبحانه لم يجعل بينه وبين الداعي واسطة وفي غير حالة الدعاء تجيء الواسطة الخطاب بالشيء عن اعتقاد المخاطب دون ما في نفس الأمر.
كقوله سبحانه وتعالى: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} وقعت إضافة الشريك إلى الله سبحانه على ما كانوا يقولون لأن القديم سبحانه أثبته.
وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً}.
وقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}.
وقوله: {لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} أي بزعمك واعتقادك.
وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}.
وقوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}.
وقوله: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}.
وقوله: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} أي أنكم لو علمتم قساوة قلوبكم لقلتم إنها كالحجارة أو أنها فوقها في القسوة ولو علمتم سرعة الساعة لعلمتم أنه في سرعة الوقوع كلمح البصر أو هو أقرب عندكم.
وأرسلناه إلى قوم هم من الكثرة بحيث لو رأيتموهم لشككتم وقلتم مائة ألف أو يزيدون عليها
وجعل منه بعضهم قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} ونحوه مما كان عند المتكلم لأنه لا يكون خلافة فإنه كان على طمع ألا يكون منهم تكذيب.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أي بالنسبة إلى ما يعتاده المخلوقون في إن الإعادة عندهم أهون من البداءة لأنه أهون بالنسبة إليه سبحانه فيكون البعث أهون عليه عندكم من الإنشاء.
وحكى الإمام الرازي في مناقب الشافعي قال معنى الآية في العبرة عندكم لأنه لما قال للعدم" كن" فخرج تاما كاملا بعينيه وأذنيه وسمعه وبصره ومفاصله فهذا في العبرة أشد من إن يقول لشيء قد كان عد إلى ما كنت عليه فالمراد من الآية وهو أهون عليه بحسب عبرتكم لا أن شيئا يكون على الله أهون من شيء آخر.
وقيل: الضمير في {عَلَيْهِ} يعود للخلق لأنه يصاح بهم صيحة فيقومون وهو أهون من أن يكونوا نطفا ثم علقا ثم مضغا إلى أن يصيروا رجالا ونساء.
وقوله: {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ} أي يأيها العالم الكامل وإنما قالوا هذه تعظيما وتوقيرا منهم له لأن السحر عندهم كان عظيما وصنعة ممدوحة.
وقيل: معناه يأيها الذي غلبنا بسحره كقول العرب خاصمته فخصمته أي غلبته بالخصومة ويحتمل أنهم أرادوا تعييب موسى عليه السلام بالسحر ولم ينافسهم في مخاطبتهم به رجاء أن يؤمنوا.
وقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} جيء بـ" إن" التي للشك وهو واجب دون إذ التي للوجوب سوقا للكلام على حسب حسبانهم أن معارضته فيها للتهكم كما يقوله الواثق بغلبته على من يعاديه إن غلبتك وهو يعلم أنه غالبه تهكما به.
وقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} والمراد بـ" من لا يخلق" الأصنام وكان أصله كما لا يخلق لأن" ما" لمن لا يعقل بخلاف "من" لكن خاطبهم على معتقدهم لأنهم سموها آلهة وعبدوها فأجروها مجرى أولى العلم كقوله للأصنام {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ} الآية أجرى عليهم ضمير أولى العقل كذا قيل.
ويرد عليه أنه إذا كان معتقدهم خطأ وضلالة فالحكم يقتضي ألا ينزعوا عنه ويقلعوا لا أن يبقوا عليه إلا إن يقال الغرض من الخطاب الإيهام ولو خاطبهم على خلاف معتقدهم فقال: كما لا يخلق لاعتقدوا أن المراد به غير الأصنام من الجماد.
وكذا ما ورد من الخطاب بعسى ولعل فإنها على بابها في الترجي والتوقع ولكنه راجع إلى المخاطبين قال الخليل وسيبويه في قوله تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} اذهبا إلى رجائكما وطمعكما لعله يتذكر عندكما فأما الله تعالى فهو عالم بعاقبة أمره وما يؤول إليه لأنه يعلم الشيء قبل أن يكون وهذا أحسن من قول الفراء إنها تعليلة أي يتذكر لما فيه من إخراج اللفظ عن موضوعه.
ومنه التعجب الواقع في كلام الله نحو فما أصبرهم على النار أي هم أهل أن يتعجب منهم ومن طول تمكنهم في النار ونحوه {قُتِلَ الأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} و {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} ومنه قوله تعالى في نعيم أهل الجنة وشقاء أهل النار {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} مع أنهما لا يزولان لكن التقييد بالسماء والأرض جرت عادة العرب إذا قصدوا الدوام أن يعلقوا بهما فجاء الخطاب على ذلك.

تنبيه:
في التهكم يقرب من هذا التهكم وهو إخراج الكلام على ضد مقتضى الحال كقوله تعالى {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}.
وجعل بعضهم منه قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}. مع العلم بأنه لا يحفظ من أمره الله شيء التأدب في الخطاب بإضافة الخير إلى الله
وأن الكل بيده كقوله تعالى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ثم قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ولم يقل غير الذين غضبت عليهم.
وقوله: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} ولم يقل والشر وإن كانا جميعا بيده لكن الخير يضاف إلى الله تعالى إرادة محبة ورضا والشر لا يضاف إليه إلا إلى مفعولاته لأنه لا يضاف إلى صفاته ولا أفعاله بل كلها كمال لا نقص فيه وهذا معنى قوله والشر ليس إليك وهو أولى من تفسير من فسره لا يتقرب به إليك.
وتأمل قوله: {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} فأضافه إلى نفسه حيث صرفه ولما ذكر السجن أضافه إليهم فقال: {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} وإن كان سبحانه هو الذي سبب السجن له وأضاف ما منه الرحمة إليه وما منه الشدة إليهم.
ومنه قوله تعالى: حكاية عن إبراهيم عليه السلام {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} ولم يقل أمرضني.
وتأمل جواب الخضر عليه السلام عما فعله حيث قال في إعابة السفينة {فَأَرَدْتُ} وقال في الغلام {فَأَرَدْنَا} وفي إقامة الجدار { فَأَرَادَ رَبُّكَ}.
قال الشيخ صفي الدين بن أبي المنصور في كتاب فك الأزرار عن عنق الأسرار لما أراد ذكر العيب للسفينة نسبه لنفسه أدبا مع الربوبية فقال فأردت ولما كان قتل الغلام مشترك الحكم بين المحمود والمذموم استتبع نفسه مع الحق فقال في الإخبار بنون الاستتباع ليكون المحمود من الفعل وهو راحة أبويه المؤمنين من كفره عائدا على الحق سبحانه والمذموم ظاهرا وهو قتل الغلام بغير حق عائدا عليه وفي إقامة الجدار كان خيرا محضا فنسبه للحق فقال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ} ثم بين إن الجميع من حيث العلم التوحيدي من الحق بقوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}
وقال ابن عطية: إنما أفرد أولا في الإرادة لأنها لفظ غيب وتأدب بأن لم يسند الإرادة فيها إلا إلى نفسه كما تأدب إبراهيم عليه السلام في قوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} فأسند الفعل قبل وبعد إلى الله وأسند المرض إلى نفسه إذ هو معنى نقص ومعابة وليس من جنس النعم المتقدمة.
وهذا النوع مطرد في فصاحة القرآن كثيرا ألا ترى إلى تقديم فعل البشر في قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} ! وتقديم فعل الله في قوله تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} وإنما قال: الخضر في الثانية {فَأَرَدْنَا} لأنه قد أراده الله وأصحابه الصالحون وتكلم فيه في معنى الخشية على الوالدين وتمنى التبديل لهما وإنما أسند الإرادة في الثالثة إلى الله تعالى لأنها أمر مستأنف في الزمن الطويل غيب من الغيوب فحسن إفراد هذا الموضع بذكر الله تعالى.
ومثله قول مؤمني الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} فحذف الفاعل في إرادة الشر تأدبا مع الله وأضافوا إرادة الرشد إليه.
وقريب من هذا قوله تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام في خطابه لما اجتمع أبوه وإخوته {إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ } ولم يقل من الجب مع أن الخروج منه أعظم من الخروج من السجن.
وإنما آثر ذكر السجن لوجهين ذكرهما ابن عطية.
أحدهما: إن في ذكر الجب تجديد فعل إخوته وتقريعهم بذلك وتجديد تلك الغوائل.
والثاني: أنه خرج من الجب إلى الرق ومن السجن إلى الملك والنعمة هنا أوضح انتهى.
وأيضا ولأن بين الحالين بونا من ثلاثة أوجه قصر المدة في الجب وطولها في السجن وأن الجب كان في حال صغره ولا يعقل فيها المصيبة ولا تؤثر في النفس كتأثيرها في حال الكبر والثالث إن أمر الجب كان بغيا وظلما لأجل الحسد وأمر السجن كان لعقوبة أمر ديني هو منزه عنه وكان أمكن في نفسه والله أعلم بمراده.
ومثله قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} وقال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} فحذف الفاعل عند ذكر الرفث وهو الجماع وصرح به عند إحلال العقد.
وقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} فحذف الفاعل عند ذكر هذه الأمور.
وقال: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}.
وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} ونظائر ذلك كثيرة في القرآن.
وقال السهيلي في كتاب الإعلام في قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ} وقال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ} ، والمكان المشار إليه واحد قال ووجه الفرق بين الخطابين أن الأيمن إما مشتق من اليمن وهو البركة أو مشارك له في المادة فلما حكاه عن موسى في سياق الإثبات أتى بلفظه ولما خاطب محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سياق النفي عدل إلى لفظ الغربي لئلا يخاطبه فيسلب عنه فيه لفظا مشتقا من اليمن أو مشاركا في المادة رفقا بهم في الخطاب وإكراما لهما هذا حاصل ما ذكره بمعناه موضح.
وهو أصل عظيم في الأدب في الخطاب.
وقال: أيضا في الكتاب المذكور في قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً.......} الآية أضافه هنا إلى النون وهو الحوت،وقال: في سورة القلم {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} وسماه هنا ذا النون والمعنى واحد ولكن بين اللفظين تفاوت كبير في حسن الإشارة إلى الحالين وتنزيل الكلام في الموضوعين فإنه حين ذكره في موضع الثناء عليه قال ذا النون ولم يقل صاحب الحوت ولفظ النون أشرف لوجود هذا الاسم في حروف الهجاء في أوائل السور نحو {نْ وَالْقَلَمِ} وقد قيل إن هذا قسم بالنون والقلم وإن لم يكن قسما فقد عظمه بعطف المقسم به عليه وهو القلم وهذا الاشتراك يشرف هذا الاسم وليس في الاسم وليس في اللفظ الآخر وهو الحوت ما يشرفه.
فالتفت إلى تنزيل الكلام في الآيتين يلح لك ما أشرت إليه في هذا فإن التدبر لإعجاز القرآن واجب مفترض.
وقال الشيخ أبو محمد المرجاني في قوله تعالى: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}. خاطبه بمقدمة الصدق مواجهة ولم يقدم الكذب لأنه متى أمكن حمل الخبر على الصدق لا يعدل عنه ومتى كان يحتمل ويحتمل قدم الصدق ثم لم يواجهه بالكذب بل أدمجه في جملة الكذابين أدبا في الخطاب.
ومثله: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.
وكذا قوله تعالى عن مؤمن آل فرعون: {وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ}.
وهذان المثالان من باب إرخاء العنان للخصم ليدخل في المقصود بألطف موعود.

قاعدة:
في ذكر الرحمة والعذاب في القرآن من أساليب القرآن حيث ذكر الرحمة والعذاب أن يبدأ بذكر الرحمة كقوله تعالى: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} وعلى هذا جاء قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكاية عن الله تعالى: "إن رحمتي سبقت غضبي".
وقد خرج عن هذه القاعدة مواضع اقتضت الحكمة فيها تقديم ذكر العذاب ترهيبا وزجرا
منها: قوله في سورة المائدة: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } لأنها وردت في ذكر قطاع الطريق والمحاربين والسراق فكان المناسب تقديم ذكر العذاب لهذا ختم آية السرقة بـ "عزيز حكيم" وفيه الحكاية المشهورة وختمها بالقدرة مبالغة في الترهيب لأن من توعده قادر على إنفاذ الوعيد كما قاله الفقهاء في الإكراه على الكلام ونحوه ومنها قوله في سورة العنكبوت {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} لأنها في سياق حكاية إنذار إبراهيم لقومه.
ومثلها {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قُلْ سِيرُوا} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وبعدها {بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}.
ومنها في آخر الأنعام قوله: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} لأن سورة الأنعام كلها مناظرة للكفار ووعيد لهم خصوصا وفي آخرها قبل هذه الآيات بيسير: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} الآية وهو تهديد ووعيد إلى قوله {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً} الآية وهو تقريع للكفار وإفساد لدينهم إلى قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} ، فكان المناسب تقديم ذكر العقاب ترهيبا للكفار وزجرا لهم عن الكفر والتفرق وزجرا للخلائق عن الجور في الأحكام.
ونحو ذلك في أواخر الأعراف {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} لأنها في سياق ذكر معصية أصحاب السبت وتعذيبه إياهم فتقديم العذاب مناسب.
والفرق بين هذه الآية وآية الأنعام حيث أتى هنا باللام فقال: {لَسَرِيعُ الْعِقَابِ} دون هناك أن اللام تفيد التوكيد فأفادت هنا تأكيد سرعة العقاب لأن العقاب المذكور هنا عقاب عاجل وهو عقاب بني إسرائيل بالذل والنقمة وأداء الجزية بعد المسخ لأنه في سياق قوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} ، فتأكيد السرعة أفاد بيان التعجيل وهو مناسب بخلاف العقاب المذكور في سورة الأنعام فإنه أجل بدليل قوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} فاكتفى فيه بتأكيد إن ولما اختصت آية الأعراف بزيادة العذاب عاجلا اختصت بزيادة التأكيد لفظا بـ "إن" وجميع ما في القرآن على هذا اللفظ يناسبه التقديم والتأخير وعليه دليلان أحدهما تفصيلي وهو الاستقراء فانظر أي آية شئت تجد فيها مناسبا لذلك والثاني إجمالي وهو أن القران كلام أحكم الحكماء فيجب أن يكون على مقتضى الحكمة فوجب اعتباره كذلك وهذان دليلان عامان في مضمون هذه الفائدة وغيرها.
وأما قوله تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} ولم يقل: ذو عقوبة شديدة لأنه إنما قال ذلك نفيا للاغترار بسعة رحمة الله في الاجتراء على معصيته وذلك أبلغ في التهديد معناه لا تغتروا بسعة رحمة الله فإنه مع ذلك لا يرد عذابه.
ومثله قوله تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} وقد سبقت
فائدة في الفرق بين الخطاب بالاسم والفعل.
وأن الفعل يدل على التجدد والحدوث والاسم على الاستقرار والثبوت ولا يحسن وضع أحدهما موضع الآخر.
فمنه قوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} لو قيل يبسط لم يؤد الغرض لأنه لم يؤذن بمزاولة الكلب البسط وأنه يتجدد له شيء بعد شيء فـ "باسط" أشعر بثبوت الصفة
وقوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ} لو قيل رازقكم لفات ما أفاده الفعل من تجدد الرزق شيئا بعد شيء ولهذا جاءت الحال في صورة المضارع مع أن العامل الذي يفيده ماض كقولك جاء زيد يضرب وفي التنزيل {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} إذ المراد أن يريد صورة ما هم عليه وقت المجيء وأنهم آخذون في البكاء يجددونه شيئا بعد شيء وهذا هو سر الإعراض عن اسم الفاعل والمفعول إلى صريح الفعل والمصدر.
ومن هذا يعرف لم قيل {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ} ولم يقل المنفقين في غير موضع وقيل كثيرا المؤمنون والمتقون لأن حقيقة النفقة أمر فعلي شأنه الانقطاع والتجدد بخلاف الإيمان فإن له حقيقة تقوم بالقلب يدوم مقتضاها وإن غفل عنها كذلك التقوى والإسلام والصبر والشكر والهدى والضلال والعمى والبصر فمعناها أو معنى وصف الجارحة كل هذه لها مسميات حقيقية أو مجازية تستمر وآثار تتجدد وتنقطع فجاءت بالاستعمالين إلا أن لكل محل ما يليق به فحيث يراد تجدد حقائقها أو آثارها فالأفعال وحيث يراد ثبوت الاتصاف بها فالأسماء وربما بولغ في الفعل فجاء تارة بالصيغة الاسمية كالمجاهدين والمهاجرين والمؤمنين لأنه للشأن والصفة هذا مع أن لها في القلوب أصولا وله ببعض معانيها التصاق قوي هذا التركيب إذ القلب فيه جهاد الخواطر الرديئة والأخلاق الدنيئة وعقد على فعل المهاجرة كما فيه عقد على الوفاء بالعهد وحيث يستمر المعاهد عليه إلى غير ذلك.
وانظر هنا إلى لطيفة وهو أن ما كان من شأنه إلا يفعل إلا مجازاة وليس من شأنه أن يذكر الاتصاف به لم يأت إلا في تراكيب الأفعال كقوله تعالى: { وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} وقال: {وأن الله لهاد الذين آمنوا ولكل قوم هاد}.
وأما قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} فإن الإهلاك نوع اقتدار بين مع أن جنسه مقتضي به على الكل عالين وسافلين لا كالضلال الذي جرى مجرى العصيان
ومنه قوله تعالى: {تذكروا فإذا هم مبصرون}لأن البصر صفة لازمة للمتقي وعين الشيطان ربما حجبت فإذا تذكر رأى المذكور ولو قيل يبصرون لأنبا عن تجدد واكتساب فعل لا عود صفة.
وقوله: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} أتى بالماضي في خلق لأن خلقه مفروغ منه وأتى بالفاء دون الواو لأنه كالجواب إذ من صور المني قادر على أن يصيره ذا هدى وهو للحصر لأنهم كانوا يزعمون أن آلهتهم تهديهم ثم قال: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} فأتى بالمضارع لبيان تجدد الإطعام والسقيا وجاءت الواو دون الفاء لأنهم كانوا لا يفرقون بين المطعم والساقي ويعلمون أنهما من مكان واحد وإن كانوا يعلمون أنه من إله وأتى به هو لرفع ذلك ودخلت الفاء في {فَهُوَ يَشْفِينِ} لأنه جواب ولم يقل إذا مرضت فهو يشفين إذ يفوت ما هو موضوع لإفادة التعقيب، ويذهب الضمير المعطى معنى الحصر ولم يكونوا منكرين الموت من الله وإنما أنكروا البعث فدخلت ثم لتراخي ما بين الإماتة والإحياء.
وقوله تعالى: {أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} لأن الفعل الماضي يحتمل هذا الحكم دائما ووقتا دون وقت فلما قال: {أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} أي سكوتكم عنهم أبدا ودعاؤكم إياهم واحد لأن {صَامِتُونَ} فيه مراعاة للفواصل فهو أفصح وللتمكين من تطريفه بحرف المد واللين وهو للطبع أنسب من صمتهم وصلا ووقفا.
وفيه وجه آخر، وهو أن أحد القسمين موازن للآخر فيدل على أن المعنى أنتم داعون لهم دائما أم أنتم صامتون.
فإن قيل: لم لا يعكس؟
قلنا: لأن الموصوف الحاضر والمستقبل لا الماضي لأن قبله {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ} والكلام بآخره فالحكم به قد يرجح.
وقوله تعالى: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ} ، ولم يقل: أم لعبت لأن العاقل لا يمكن أن يلعب بمثل ما جاء به ظاهرا وإنما يكون ذلك أحد رجلين إما محق وإما مستمر على لهو الصبا وغي الشباب فيكون اللعب من شأنه حتى يصدر عنه مثل ذلك ولو قال أم لعبت لم يعط هذا.
وقوله تعالى: حاكيا عن المنافقين {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} يريدون أحدثنا الإيمان وأعرضنا عن الكفر ليروح ذلك خلافا منهم كما أخبر تعالى عنهم في قوله:{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا}.
وجاءت الاسمية في الرد عليهم بقوله: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} لأنه أبلغ من نفي الفعل إذ يقتضي إخراج أنفسهم وذواتهم عن أن يكونوا طائفة من طوائف المؤمنين وينطوي تحته على سبيل القطع نفي بما أثبتوا لأنفسهم من الدعوى الكاذبة على طريقة {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} مبالغة في تكذيبهم ولذلك أجيبوا بالباء وكلامهم في هذا كما قيل خلي من المعنى ولكن مفرقع.
وإذا قيل: أنا مؤمن أبلغ من آمن ونفي الأبلغ لا يستلزم نفي ما دونه وما حقيقة إخراج ذواتهم من جنس المؤمنين لم يرجع في البيان إلا على عي أو ترويج ولكن ذم الله تعالى طائفة تقول آمنا وهي حالة القول ليست بمؤمنة بيانا لأن هذا القول إنما صدر عنها ادعاء بحضور الإيمان حالة القول والانتظام بذلك في سلك المتصفين بهذه الصفة وهم ليسوا كذلك فإذا ذمهم الله شمل الذم أن يكونوا آمنوا يوما ثم تخلوا وأن يكونوا ما آمنوا قط من طريق الأولى والتعميم فقط وأعلم به أن ذلك حكم من ادعى هذا الدعوى على هذه الحال وبين أن هذا القول إنما قصدوا به التمويه بقوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} ولو قال وما آمنوا لم يفد إلا نفيه عنهم في الماضي ولم يفد ذمهم إن كانوا آمنوا ثم ارتدوا وهذا أفاد نفيه في الحال وذمهم بكل حال ولأن ما فيه مؤمنين أحسن من آمنوا لوجود التمكين بالمد والوقف عقبه على حرف له موقف وأما قوله تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} دون يخرجون فقيل ما سبق وقيل استوى هنا يخرجون وخارجين في إفادة المعنى واختير الاسم لخفته وأصالته.
وكذلك قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} يخبرون عن أنفسهم بالثبات على الإيمان بهم.
ومنه قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} قال الإمام فخر الدين الرازي لأن الاعتناء بشأن إخراج الحي من الميت لما كان أشد أتى بالمضارع ليدل على التجدد كما في قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}.

تنبيه:
مضمر الفعل كمظهره في إفادة الحدوث ومن هذه القاعدة قالوا إن سلام الخليل عليه السلام أبلغ من سلام الملائكة حيث قال: {قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ} فإن نصب سلاما إنما يكون على إرادة الفعل أي سلمنا سلاما وهذه العبارة مؤذنة بحدوث التسليم منهم إذ الفعل تأخر عن وجود الفاعل بخلاف سلام إبراهيم فإنه مرتفع بالابتداء فاقتضى الثبوت على الإطلاق وهو أولى بما يعرض له الثبوت فكأنه قصد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به اقتداء بقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}.
وذكروا فيه أوجها أخرى تليق بقاعدة الفلاسفة في تفضيل الملائكة على البشر وهو أن السلام دعاء بالسلامة من كل نقص وكمال البشر تدريجي فناسب الفعل وكمال الملائكة مقارن لوجودها على الدوام فكان أحق بالاسم الدال على الثبوت.
قيل: وهو غلط لأن الفعل المنشأ هو تسليمهم أما السلام المدعو به فليس في موضوعه تعرض لتدرج وسلامة أيضا منشأ فعل ولا يتعرض للتدريج غير أن سلامه لم يدل بوضعه اللغوي وقوع إنشائه ثم لو كان هذا المعنى معتبرا لشرع السلام بيننا بالنصب دون الرفع.

تنبيه:
هذا الذي ذكرناه من دلالة الاسم على الثبوت والفعل على التجدد والحدوث هو المشهور عند البيانيين وأنكر أبو المطرف بن عميرة في كتاب التمويهات على كتاب التبيان لابن الزملكاني قال هذا الرأي غريب ولا مستند له نعلمه إلا أن يكون قد سمع أن في مقوله أن يفعل وأن ينفعل هذا المعنى من التجدد فظن أنه الفعل القسيم للأسماء فغلط ثم قوله الاسم يثبت المعنى للشيء عجيب وأكثر الأسماء دلالتها على معانيها فقط وإنما ذاك في الأسماء المشتقة ثم كيف يفعل بقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} وقوله في هذه السورة بعينها {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} وقال ابن المنير طريقة العرب تدبيج الكلام وتلوينه ومجيء الفعلية تارة والاسمية أخرى من غير تكلف لما ذكروه وقد رأينا الجملة الفعلية تصدر من الأقوياء الخلص اعتمادا على أن المقصود الحاصل بدون التأكيد كقوله تعالى: {رَبَّنَا آمَنَّا} ولا شيء بعد {آمَنَ الرَّسُولُ} وقد جاء التأكيد في كلام المنافقين فقال: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}.

قاعدة في قوله تعالى: {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ونحوها.
جاء في التنزيل في موضع {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وفي موضع {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ}.
والأول: جاء في تسعة مواضع أحدها في الرحمن {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}.
والثاني : في أربع مواضع أولها في يونس {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ}.
وجاء قوله تعالى: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} في أحد عشر موضعا أولها في البقرة {سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}.
وجاء قوله: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} في ثمانية وعشرين موضعا أولها في آية الكرسي.
قال بعضهم وتأملت هذه المواضع فوجدت أنه حيث قصد التنصيص على الإفراد ذكر الموصول والظرف ألا ترى إلى المقصود في سورة يونس من نفي الشركاء الذين اتخذوهم في الأرض وإلى المقصود في آية الكرسي في إحاطة الملك.
وحيث قصد أمر آخر لم يذكر الموصول إلا مرة واحدة إشارة إلى قصد الجنس وللاهتمام بما هو المقصود في تلك الآية ألا ترى إلى سورة الرحمن المقصود منها علو قدرة الله وعلمه وشأنه وكونه سئولا ولم يقصد إفراد السائلين.
فتأمل هذا الموضع.
قاعدة في قوله تعالى :{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} ونحوها.
قد يكون نحو هذا اللفظ في القرآن كقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} إلى غير ذلك.
والمفسرون على أن هذا الاستفهام معناه النفي فحينئذ فهو خبر وإذا كان خبر أفتوهم بعض الناس أنه إذا أخذت هذه الآيات على ظواهرها أدى إلى التناقض لأنه يقال لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله ولا أحد أظلم ممن افترى عل الله كذبا ولا أحد أظلم ممن ذكر بآيات الله فأعرض عنها.
واختلف المفسرون في الجواب عن هذا السؤال على طرق:
أحدها: تخصيص كل واحد في هذه المواضع بمعنى صلته فكأنه قال: لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبا وكذلك باقيها وإذا تخصص بالصلات زال عنه التناقض.
الثاني: إن التخصيص بالنسبة إلى السبق لما لم يسبق أحد إلى مثله حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم سالكا طريقتهم وهذا يئول معناه إلى السبق في المانعية والافترائية.
الثالث: وادعى الشيخ أبو حيان الصواب ونفى الأظلمية لا يستدعي نفي الظالمية لأن نفي المقيد لا يدل على نفي المطلق فلو قلت ما في الدار رجل ظريف لم يدل ذلك على نفي مطلق رجل وإذا لم يدل على نفي الظالمية لم يلزم التناقض لأن فيها إثبات التسوية في الأظلمية وإذا ثبتت التسوية في الأظلمية لم يكن أحد ممن وصف بذلك يزيد على الآخر لأنهم يتساوون في الأظلمية وصار المعنى لا أحد أظلم ممن افترى وممن كذب ونحوها ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية ولا يدل على أن أحد هؤلاء أظلم من الآخر كما أنك إذا قلت: لا أحد أفقه من زيد وعمر وخالد لا يدل على أن أحدهم أفقه من الآخر بل نفي أن يكون أحدهم أفقه منهم.
لا يقال: إن من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ولم يفتر على الله كذبا أقل ظلما ممن جمع بينهما فلا يكون مساويا في الأظلمية لأنا نقول هذه الآيات كلها إنما هي في الكفار فهم متساوون في الأظلمية وإن اختلفت طرق الأظلمية فهي كلها صائرة إلى الكفر وهو شيء واحد لا يمكن فيه الزيادة بالنسبة لإفراد من اتصف به وإنما تمكن الزيادة في الظلم بالنسبة لهم وللعصاة المؤمنين بجامع ما اشتركوا فيه من المخالفة فتقول الكافر أظلم من المؤمن ونقول لا أحد أظلم من الكافر ومعناه أن ظلم الكافر يزيد على ظلم غيره انتهى.
وقال بعض مشايخنا: لم يدع القائل نفي الظالمية فيقيم الشيخ الدليل على ثبوتها وإنما دعواه أن ومن أظلم ممن منع مثلا والغرض أن الأظلمية ثابتة لغير ما اتصف بهذا الوصف وإذا كان كذلك حصل التعارض ولابد من الجمع بينهما وطريقه التخصيص فيتعين القول به.
وقول الشيخ: إن المعنى لا أحد أظلم ممن منع وممن ذكر صحيح ولكن لم يستفد ذلك إلا من جهة التخصيص لأن الأفراد المنفي عنها الأظلمية في آية وأثبتت لبعضها الأظلمية أيضا في آية أخرى وهكذا بالنسبة إلى بقية الآيات الوارد فيها ذلك وكلام الشيخ يقتضي أن ذلك استفيد لا بطريق التخصيص بل بطريق أن الآيات المتضمنة لهذا الحكم في آية واحدة وإذا تقرر ذلك علمت أن كل آية خصت بأخرى ولا حاجة إلى القول بالتخصيص بالصلات ولا بالسبق
الرابع: طريقة بعض المتأخرين فقال متى قدرنا لا أحد أظلم لزم أحد الأمرين إما استواء الكل في الظلم وأن المقصود نفي الأظلمية من غير المذكور لا إثبات الأظلمية له وهو خلاف المتبادر إلى الذهن وإما أن كل واحد أظلم في ذلك النوع وكلا الأمرين إنما لزم من جعل مدلولها إثبات الأظلمية للمذكور حقيقة أو نفيها من غيره.
وهنا معنى ثالث وهو أمكن في المعنى وسالم عن الاعتراض وهو الوقوف مع مدلول
اللفظ من الاستفهام والمقصود به أن هذا الأمر عظيم فظيع قصدنا بالاستفهام عنه تخييل أنه لا شيء فوقه لامتلاء قلب المستفهم عنه بعظمته امتلاء يمنعه من ترجيح غيره فكأنه مضطر إلى أن يقول لا أحد أظلم وتكون دلالته على ذلك استعارة لا حقيقة فلا يرد كون غيره أظلم منه إن فرض وكثيرا ما يستعمل هذا في الكلام إذا قصد به التهويل فيقال أي شيء أعظم من هذا إذا قصد إفراط عظمته ولو قيل للمتكلم بذلك أنت قلت إنه أعظم الأشياء لأبى ذلك فليفهم هذا المعنى فإن الكلام ينتظم معه والمعنى عليه.

قاعدة: في الجحد بين الكلامين.
قوله تعالى :{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} قال صاحب الياقوتة قال ثعلب والمبرد جميعا العرب إذا جاءت بين الكلامين بجحدين كان الكلام إخبارا فمعناه إنما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام ومثله ما سمعت منك ولا أقبل منك مالا وإذا كان في أول الكلام جحد كان الكلام مجحودا جحدا حقيقيا نحو ما زيد بخارج فإذا جمعت بين جحدين في أول الكلام كان أحدهما زائدا كقوله ما ما قمت يريد ما قمت ومثله ما إن قمت وعليه قوله تعالى: {فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} في أحد الأقوال.

قاعدة: في ألفاظ يظن بها الترادف وليست منه.
ولهذا وزعت بحسب المقامات فلا يقوم مرادفها فيما استعمل فيه مقام الآخر فعلى المفسر مراعاة الاستعمالات والقطع بعدم الترادف ما أمكن فإن للتركيب معنى غير معنى الإفراد ولهذا منع كثير من الأصوليين وقوع أحد المترادفين موقع الآخر في التركيب وإن اتفقوا على جوازه في الإفراد.
فمن ذلك الخوف والخشية لا يكاد اللغوي يفرق بينهما ولا شك أن الخشية أعلى من الخوف وهي أشد الخوف فإنها مأخوذة من قولهم شجرة خشية إذا كانت يابسة وذلك فوات بالكلية والخوف من قولهم ناقة خوفاء إذا كان بها داء وذلك نقص وليس بفوات ومن ثمة خصت الخشية بالله تعالى في قوله سبحانه: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}.
وفرق بينهما أيضا بأن الخشية تكون من عظم المخشي وإن كان الخاشي قويا والخوف يكون من ضعف الخائف وإن كان المخوف أمرا يسيرا ويدل على ذلك أن الخاء والشين والياء في تقاليبها تدل على العظمة قالوا شيخ للسيد الكبير والخيش لما عظم من الكتان والخاء والواو والفاء في تقاليبها تدل على الضعف وانظر إلى الخوف لما فيه من ضعف القوة وقال تعالى: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} فإن الخوف من الله لعظمته يخشاه كل أحد كيف كانت حالة وسوء الحساب ربما لا يخافه من كان عالما بالحساب وحاسب نفسه قبل أن يحاسب.
وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وقال لموسى {لا تَخَفْ} أي لا يكون عندك من ضعف نفسك ما تخاف منه من فرعون.
فإن قيل: ورد: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ} ؟
قيل: الخاشي من الله بالنسبة إلى عظمة الله ضعيف فيصح أن يقول يخشى ربه لعظمته ويخاف ربه أي لضعفه بالنسبة إلى الله تعالى.
وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى لما ذكر الملائكة وهم أقوياء ذكر صفتهم بين يديه فقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} فبين أنهم عند الله ضعفاء ولما ذكر المؤمنين من الناس وهم ضعفاء لا حاجة إلى بيان ضعفهم ذكر ما يدل على عظمة الله تعالى فقال: {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} ولما ذكر ضعف الملائكة بالنسبة إلى قوة الله تعالى قال: {رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} والمراد فوقية بالعظمة.
ومن ذلك الشح والبخل والشح هو البخل الشديد وفرق العسكري بين البخل والضن بأن الضن أصله إن يكون بالعواري والبخل بالهيئات ولهذا يقال هو ضنين بعلمه ولا يقال: هو بخيل لأن العلم أشبه بالعارية منه بالهيئة لأن الواهب إذا وهب شيئا خرج عن ملكه بخلاف العارية ولهذا قال تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} ولم يقل بـ "بخيل".
ومن ذلك الغبطة والمنافسة كلاهما محمود قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( لا حسد إلا في اثنتين)) وأراد الغبطة وهي تمني مثل ماله من غير أن يغتم لنيل غيره فإن انضم إلى ذلك الجد والتشمير إلى مثله أو خير منه فهو منافسة
وقريب منها الحسد والحقد فالحسد تمني زوال النعمة من مستحقها وربما كان مع سعي في إزالتها كذا ذكر الغزالي هذا القيد أعنى الاستحقاق وهو يقتضي أن تمنى زوالها عمن لا يستحقها لا يكون حسدا.
ومن ذلك السبيل والطريق وقد كثر استعمال السبيل في القرآن حتى إنه وقع في الربع الأول منه في بضع وخمسين موضعا أولها قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ولم يقع ذكر الطريق مرادا به الخير إلا مقترنا بوصف أو بإضافة مما يخلصه لذلك كقوله تعالى {إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ}.
ومن ذلك جاء وأتى يستويان في الماضي ويأتي أخف من يجيء وكذا في الأمر جيئوا بمثله أثقل من فأتوا بمثله ولم يذكر الله إلا يأتي ويأتون وفي الأمر فأت فأتنا فأتوا لأن إسكان الهمزة ثقيل لتحريك حروف المد واللين تقول جيء أثقل من ائت.
وأما في الماضي ففيه لطيفة وهي أن جاء يقال في الجواهر والأعيان وأتى في المعاني والأزمان وفي مقابلتها ذهب ومضى يقال ذهب في الأعيان ومضى في الأزمان ولهذا يقال حكم فلان ماض ولا يقال ذاهب لأن الحكم ليس من الأعيان.
وقال: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل مضى لأنه يضرب له المثل بالمعاني المفتقرة إلى الحال ويضرب له المثل بالأعيان القائمة بأنفسها فذكر الله جاء في موضع الأعيان في الماضي وأتى في موضع المعاني والأزمان.
وانظر قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} لأن الصواع عين {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ} لأنه عين وقال {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} لأنها عين.
وأما قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} فلان الأجل كالمشاهد ولهذا يقال حضرته الوفاة وحضره الموت وقال تعالى: {بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} أي العذاب لأنه مرئي يشاهدونه وقال {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} حيث لم يكن الحق مرئيا.
فإن قيل: فقد قال تعالى: {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً} وقال: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} فجعل الأمر آتيا وجائيا.
قلنا: هذا يؤيد ما ذكرناه فإنه لما قال {جَاءَ} وهم ممن يرى الأشياء قال {جَاءَ} أي عيانا ولما كان الزرع لا يبصر ولا يرى قال {جَاءَ} ويؤيد هذا أن جاء يعدى بالهمزة ويقال أجاءه قال تعالى: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} ولم يرد أتاه بمعنى ائت من الإتيان لأن المعنى لا استقلال له حتى يأتي بنفسه ومن ذلك الخطف والتخطف لا يفرق الأديب بينهما والله تعالى فرق.
بينهما فتقول: {خَطِفَ} بالكسر لما تكرر ويكون من شأن الخاطف الخطف وخطف بالفتح حيث يقع الخطف من غير من يكون من شأنه الخطف بكلفة وهو أبعد من خطف بالفتح فإنه يكون لمن اتفق له على تكلف ولم يكن متوقعا منه ويدل عليه أن فعل بالكسر لا يتكرر كعلم وسمع وفعل لا يشترط فيه ذلك كقتل وضرب قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} فإن شغل الشيطان ذلك وقال: {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} لأن من شانه ذلك.
وقال: {تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} فإن الناس لا تخطف الناس إلا على تكلف.
وقال: {وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}.
وقال: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} لأن البرق يخاف منه خطف البصر إذا قوي
ومن ذلك مد وأمد قال الراغب أكثر ما جاء الإمداد في المحبوب {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ}{وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} والمد في المكروه {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً}.
ومن ذلك سقى وأسقى وقد سبق ومن ذلك عمل وفعل والفرق بينهما.
إن العمل اخص من الفعل كل عمل فعل ولا ينعكس،ولهذا جعل النجاة الفعل في مقابلة الاسم لأنه أعم والعمل من الفعل ما كان مع امتداد لأنه فعل وباب فعل لما تكرر.
وقد اعتبره الله تعالى فقال: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ} حيث كان فعلهم بزمان.
وقال: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} حيث يأتون بما يؤمرون في طرفة عين فينقلون المدن بأسرع من أن يقوم القائم من مكانه.
وقال تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}،{وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} فإن خلق الأنعام والثمار والزروع بامتداد،وقال: {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} وتبين لكم كيف فعلنا بهم فإنها إهلاكات وقعت من غير بطء.
وقال: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} حيث كان المقصود المثابرة عليها لا الإتيان بها مرة.
وقال: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} بمعنى سارعوا كما قال: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} أي يأتون بها على سرعة من غير توان في دفع حاجة الفقير فهذا هو الفصاحة في اختيار الأحسن في كل موضع.
ومن ذلك القعود والجلوس إن القعود لا يكون معه لبثة والجلوس.
لا يعتبر فيه ذلك ولهذا تقول قواعد البيت ولا تقول جوالسه لأن مقصودك ما فيه ثبات والقاف والعين والدال كيف تقلبت دلت على اللبث والقعدة بقاء على حاله والدقعاء للتراب الكثير الذي يبقى في مسيل الماء وله لبث طويل وأما الجيم واللام والسين فهي للحركة منه السجل للكتاب يطوى له ولا يثبت عنده ولهذا قالوا في قعد يقعد بضم الوسط وقالوا جلس يجلس بكسره فاختاروا الثقيل لما هو أثبت.
إذا ثبت هذا فنقول قال الله تعالى: {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} فان الثبات هو المقصود وقال: {اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} أي لا زوال لكم ولا حركة عليكم بعد هذا وقال: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} ولم يقل مجلس إذ لا زوال عنه.
وقال: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ} إشارة إلى أنه يجلس فيه زمانا يسيرا ليس بمقعد فإذا طلب منكم التفسح فافسحوا لأنه لا كلفة فيه لقصره ولهذا لا يقال قعيد الملوك وإنما يقال جليسهم لأن مجالسه الملوك يستحب فيها التخفيف والقعيدة للمرأة لأنها تلبث في مكانها
ومن ذلك التمام والكمال وقد اجتمعا في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} والعطف يقتضي المغايرة فقيل الإتمام لإزالة نقصان الأصل والإكمال لإزالة نقصان العوارض بعد تمام الأصل ولهذا كان قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} أحسن من تامة فإن التمام من العدد قد علم وإنما بقي احتمال نقص في صفاتها.
وقيل تم يشعر بحصول نقص قبله وكمل لا يشعر بذلك ومن هذا قولهم رجل كامل إذا جمع خصال الخير ورجل تام إذا كان غير ناقص الطول وقال العسكري الكمال اسم لاجتماع أبعاض الموصوف به والتمام اسم للجزء الذي يتم به الموصوف ولهذا يقولون القافية تمام البيت ولا يقولون كماله ويقولون البيت بكماله.
ومن ذلك الضياء والنور.

فائدة: عن الجويني في الفرق بين الإتيان والإعطاء.
قال: الجويني لا يكاد اللغويون يفرقون بين الإعطاء والإتيان وظهر لي بينهما فرق انبنى عليه بلاغة في كتاب الله وهو أن الإتيان أقوى من الإعطاء في إثبات مفعوله لأن الإعطاء له مطاوع يقال: أعطاني فعطوت ولا يقال في الإتيان أتاني فأتيت وإنما يقال: أتاني فأخذت والفعل الذي له مطاوع أضعف في إثبات مفعوله من الذي لا مطاوع له لأنك تقول قطعته فانقطع فيدل على أن فعل الفاعل كان موقوفا على قبول المحل لولاه لما ثبت المفعول ولهذا يصح قطعته فما انقطع ولا يصح فيما لا مطاوع له ذلك فلا يجوز أن يقال: ضربته فانضرب أو ما انضرب ولا قتلته فانقتل أو ما انقتل لأن هذه الأفعال إذا صدرت من الفاعل ثبت لها المفعول في المحل والفاعل مستقل بالأفعال التي لا مطاوع لها فالإيتاء إذن أقوى من الإعطاء
قال: وقد تفكرت في مواضع من القرآن فوجدت ذلك مراعى قال الله تعالى: في الملك {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} لأن الملك شيء عظيم لا يعطيه إلا من له قوة ولأن الملك في الملك أثبت من الملك في المالك فإن الملك لا يخرج الملك من يده وأما المالك فيخرجه بالبيع والهبة
وقال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ} لأن الحكمة إذا ثبتت في المحل دامت.
وقال: {آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} لعظم القرآن وشأنه.
وقال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته يردون على الحوض ورود النازل على الماء ويرتحلون إلى منازل العز والأنهار الجارية في الجنان والحوض للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته عند عطش الأكباد قبل الوصول إلى المقام الكريم فقال فيه {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} لأنه يترك ذلك عن قرب وينتقل إلى ما هو أعظم منه.
وقال: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} لأن من الأشياء ماله وجود في زمان واحد بلفظ الإعطاء وقال: {لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} لأنه تعالى بعد ما يرضى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يزيده وينتقل به من كل الرضا إلى أعظم ما كان يرجو منه لا بل حال أمته كذلك فقوله: {يُعْطِيكَ رَبُّكَ} فيه بشارة.
وقال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} لأنها موقوفة على قبول منا وهم لا يؤتون إيتاء عن طيب قلب وإنما هو عن كره إشارة إلى أن المؤمن ينبغي أن يكون إعطاؤه للزكاة بقوة لا يكون كإعطاء الجزية.
فانظر إلى هذه اللطيفة الموقفة على سر من أسرار الكتاب.

قاعدة في التعريف والتنكير:
اعلم أن لكل واحد منهما مقاما لا يليق بالآخر.
فأما التعريف فله أسباب:
الأول: الإشارة إلى معهود خارجي كقوله تعالى: {بكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ} ،على قراءة الأعمش فإنه أشير بالسحرة إلى ساحر مذكور وقوله: {كمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} وأغرب ابن الخشاب فجعلها للجنس فقال: لأن من عصى رسولا فقد عصى سائر الرسل.
ومنهم من لا يشترط تقدم ذكره وجعل منه قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} لأنهم كانوا يعتقدون أن الناس الذين آمنوا سفهاء.
وقوله: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} أي الذكر الذي طلبته كالأنثى التي وهبت لها،وإنما جعل هذا للخارجي لمعنى الذكر في قولها: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} ومعنى الأنثى في قولها {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى}.
الثاني: لمعهود ذهني أي في ذهن مخاطبك كقوله تعالى: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} وإما حضوري نحو {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فإنها نزلت يوم عرفة
الثالث: الجنس وهي فيه على أقسام أحدها: أن يقصد المبالغة في الخبر فيقصر جنس المعني على المخبر عنه نحو زيد الرجل أي الكامل في الرجولية وجعل سيبويه صفات الله تعالى كلها من ذلك.
وثانيها: أن يقصره على وجه الحقيقة لا المبالغة ويسمى تعريف الماهية نحو {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} وقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} أي جعلنا مبتدأ كل حي هذا الجنس الذي هو الماء.
وقال بعضهم: المراد بالحقيقة ثبوت الحقيقة الكلية الموجودة في الخارج لا الشاملة لأفراد الجنس نحو الرجل خير من المرأة لا يريدون امرأة بعينها وإنما المراد هذا الجنس خير من ذلك الجنس من حيث هو وإن كان يتفق في بعض أفراد النساء من هو خير من بعض أفراد الرجال بسبب عوارض.
وهذا معنى قول ابن بابشاذ: إن تعريف العهد لما ثبت في الأعيان وتعريف الجنس لما ثبت في الأذهان لأن التفضيل في الجنس راجع إلى الصورتين الكليتين في الذهن.
إذ لا معنى للتفضيل في الصورة الذهنية وإنما أضاف إلى الذهن لأن تلك الحقيقة التي ذكرناها وإن كانت موجودة في الخارج لاشتمال الأفراد الخارجية عليها ولكنها كلها مطابقة للصورة الذهنية التي لتلك الحقيقة ولهذا تسمى الكلية الطبيعية.
الرابع: أن يقصد بها الحقيقة باعتبار كلية ذلك المعنى وتعرف بأنها التي إذا نزعت حسن أن يخلفها كل وتفيد معناها الذي وضعت له حقيقة ويلزم من ذلك الدلالة على شمول الأفراد وهي الاستغراقية ويظهر أثره في صحة الاستثناء منه مع كونه بلفظ الفرد نحو {إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} وفي صحة وصفه بالجمع نحو {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا}
قال صاحب ضوء المصباح: سواء أكان الشمول باعتبار الجنس كالرجل والمرأة أو باعتبار النوع كالسارق والسارقة ويفرق بينهما بأن ما دخلت عليه من أجل فعله فيزول عنه الاسم بزوال الفعل فهي للنوع وما دخلت عليه من وصفه فلا يزول عنه الاسم أبدا هذا كله إذا دخلت على مفرد نحو {إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} {وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً} {إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} خلافا للإمام فخر الدين ومن تبعه في قولهم إن المفرد المحلي بالألف واللام لا يعم ولنا الاستثناء في قوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} وليس في قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} دلالة على العموم كما زعم صاحب الكشاف.
فإن قلت: فإذا لم يكن السارق عاما فبماذا تقطع يد كل سارق من لدن سرق رداء صفوان إلى انقضاء العالم.
قيل: لأن المراد منه الجنس أي نفس الحقيقة والمعنى أن المتصف بصفة السرقة تقطع يده وهو صادق على كل سارق لأن الحقيقة كما توجد مع الواحد توجد مع المتعدد أيضا فإن دخلت على جمع فاختلف العلماء هل سلبته معنى الجمع ويصير للجنس ويحمل على أقله وهو الواحد لئلا يجتمع على الكلمة عمومان أو معنى الجمع باق معها؟
مذهب الحنفية الأول وقضية مذهبنا الثاني ولهذا اشترطوا ثلاثة من كل صنف في الزكاة إلا العاملين ويلزم الحنفية ألا يصح منه الاستثناء ولا يخصصه وقد قال تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ} وقال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} وقد حققته في باب العموم من بحر الأصول.
ثم الأكثر في نعتها وغيرها موافقة اللفظ كقوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} وقوله: {لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى}.
وتجيء موافقة معنى لا لفظا على قلة كقوله: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}.
وأما التنكير فله أسباب:
الأول: إرادة الوحدة نحو {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى}.
الثاني: إرادة النوع كقوله: {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} أي نوع من الذكر.
{وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} ، وهي التعامي عن آيات الله الظاهرة لكل مبصر ويجوز أن يكون للتعظيم وجريا في قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} لأنهم لم يحرصوا على أصل الحياة حتى تعرف بل على الازدياد من نوع وإن كان الزائد أقل شيء ينطلق عليه اسم الحياة.
الثالث: التعظيم كقوله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي بحرب وأي حرب
وكقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} أي لا يوقف على حقيقته.
وجعل منه السكاكي قوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} والظاهر من قول الزمخشري خلافه وهذا لم يصرح بأن العذاب لا حق به بل قال: {يَمَسَّكَ} وذكر الخوف وذكر اسم الرحمن ولم يقل المنتقم وذلك يدل على أنه لم يرد التعظيم.
وقوله: { أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ}.
فإن قلت: لِم لَم ينكر الأنهار في قوله {مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} ؟
قلت: لا غرض في عظم الأنهار وسعتها بخلاف الجنات.
ومنه {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ}.
وإنما لم ينكر سلام عيسى في قوله: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ} فإنه في قصة دعائه الرمز إلى ما اشتق منه اسم الله تعالى والسلام: اسم من أسمائه مشتق من السلامة وكل اسم ناديته به متعرض لما يشتق منه ذلك الاسم نحو يا غفور يا رحيم.
الرابع: التكثير نحو إن له لإبلاً وجعل منه الزمخشري قوله تعالى: {إِنَّ لَنَا لأَجْراً} أي أجرا وافرا جزيلا ليقابل المأجور عنه من الغلبة على مثل موسى عليه السلام فإنه لا يقابل الغلبة عليه بأجر إلا وهو عديم النظير في الكثرة.
وقد أفاد التكثير والتعظيم معا قوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} أي رسل عظام ذوو عدد كثير وذلك لأنه وقع عوضا عن قوله فلا تحزن وتصبر وهو يدل على عظم الأمر وتكاثر العدد.
الخامس: التحقير كقوله تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} قالالزمخشري: أي من شيء حقير مهين ثم بينه بقوله {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ}.
وكقوله تعالى: {إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنَّاً} أي لا يعبأ به وإلا لاتبعوه لأن ذلك دينهم {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ}.
السادس: التقليل كقوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي رضوان.
قليل من بحار رضوان الله الذي لا يتناهى أكبر من الجنات لأن رضا المولى رأس كل سعادة
وقوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} إذ المعنى أنه يحصل فيه أصل الشفاء في جملة صور ويجوز أن يكون للتعظيم.
وعد صاحب الكشاف منه {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} أي بعض الليل.
وفيه نظر لأن التقليل عبارة عن تقليل الجنس إلى فرد من أفراده لا ببعض فرد إلى جزء من أجزائه.

تنبيه:
هذه الأمور إنما تعلم من القرائن والسياق كما فهم التعظيم في قوله تعالى: {لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} من قوله: بعده {لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} وكما فهم التحقير من قوله: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} من قوله بعده {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ}.

قاعدة: فيما إذا ذكر الاسم مرتين.
إذا ذكر الاسم مرتين فله أربعة أحوال لأنه إما أن يكونا معرفتين أو نكرتين أو الثاني معرفة والأول نكره أو عكسه.
فالأول: أن يكونا معرفتين والثاني فيه هو الأول غالبا حملا له على المعهود الذي هو الأصل في اللام أو الإضافة كـ "العسر" في قوله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} ولذلك ورد لن يغلب عسر يسرين قال التنوخي إنما كان مع العسر واحدا لأن اللام طبيعة لا ثاني لها بمعنى أن الجنس هي والكلي لا يوصف بوحدة ولا تعدد.
وقوله: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}.
وقوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}.
وقوله: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ}.
وقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ}.
وقوله: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ}.
وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ}.
وهذه القاعدة ليست مطردة وهي منقوضة بآيات كثيرة كقوله تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} فإنهما معرفتان وهما غيران فإن الأول هو العمل والثاني الثواب.
وقوله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} أي القاتلة والمقتولة.
وقوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ}.
وقوله: {هَلْ أَتَى عَلَى الأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ}.
وقوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الأِنْسَانَ}.
وقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}.
وقوله: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}.
وقوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ}.
فالملك الذي يؤتيه الله للعبد لا يمكن أن يكون نفس ملكه فقد اختلفا وهما معرفتان لكن يصدق أنه إياه باعتبار الاشتراك في الاسم كما صرح بنحوه في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} فقد أعاد الضمير في المنفصل المستغرق باعتبار أصل الفضل
ونظيرها قوله تعالى: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً}.
وقوله: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ}.
فالأول عام والثاني خاص.
وقوله: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}
{إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}.
وقوله: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ}.
فالأول نصب على القسم والثاني نصب بـ "أقول"
وهذا بخلاف قوله: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}.
وأما قوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} فالأولى معرفة بالضمير والثانية عامة والأولى خاصة فالأول داخل في الثاني.
وكذا قوله: {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
وقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}.
وقوله: {أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ}.
وقوله: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}.
وقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} ، ثم قال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. ،فهما وإن اختلفا يكون الأول خاصا والثاني عاما متفقان بالجنس.
وكذلك: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}.
ولذلك استبدل بها على أن الأصل إلغاء الظن مطلقا.
وأما قوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} بعد قوله: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا} فيحتمل أن تكون الأولى هي الثانية وألا تكون.
ونظيرها قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}.
فإن كانت إحداهما الثانية مفعولا فالاسم الأول هو الثاني على قاعدة المعرفتين وإن كانت فاعلا فهما واحد باعتبار الجنس وأكثر النحاة على أن الإعراب إذا لم يظهر في واحد من الاسمين تعين كون الأول فاعلا خلافا لما قاله الزجاج في قوله تعالى: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ}.
وقوله: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} ،فالكتاب الأول ما كتبوه بأيديهم ثم كرره بقوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} والكتاب الثاني التوراة والثالث جنس كتب الله تعالى أي ما هو من شيء في كتب الله تعالى وكلامه قاله الراغب.
الثاني: أن يكونا نكرتين فالثاني غير الأول وإلا لكان المناسب هو التعريف بناء على كونه معهودا سابقا قالوا والمعنى في هذا والذي قبله أن النكرة تستغرق الجنس والمعرفة تتناول البعض فيكون داخلا في الكل سواء قدم أو أخر والمشهور في تمثيل هذا القسم اليسر في قوله تعالى: { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}.
وقد قيل: إن تنكير يسرا للتعميم وتعريف اليسر للعهد الذي كان عليه يؤكده سبب النزول أو الجنس الذي يعرفه كل أحد ليكون اليسر الثاني مغايرا للأول بخلاف العسر والتحقيق أن الجملة الثانية هنا تأكيد للأولى لتقديرها في النفس وتمكينها من القلب ولأنها تكرير صريح لها ولا تدل على تعدد اليسر كما لا يدل قولنا وإن مع زيد كتابا إن مع زيد كتابا على أن معه كتابين فالأفصح أن هذا تأكيد وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} الآية فإن كلا من المذكور غير الآخر فالضعف الأول النطفة أو التراب والثاني الضعف الموجود في الطفل والجنين والثالث في الشيخوخة والقوة الأولى التي تجعل للطفل حركة وهداية لاستدعاء اللبن والدفع عن نفسه بالبكاء والثانية بعد البلوغ.
قال ابن الحاجب: في قوله تعالى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}.

الفائدة: في إعادة لفظ شهر الإعلام بمقدار زمن الغدو وزمن الرواح والألفاظ التي تأتي مبينة للمقادير لا يحسن فيها الإضمار.
واعلم أنه ينبغي أن يأتي في هذا القسم الخلاف الأصولي في نحو صل ركعتين صل ركعتين هل يكون أمرين بمأمورين والثاني تأسيس أولا وفيه قولان وقد نقضوا هذا القسم بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} فإن فيه نكرتين والثاني هو الأول وأجاب الطيبي بأنه من باب التكرير وإناطة أمر زائد.
وهذه القاعدة فيما إذا لم يقصد التكرير وهذه الآية من قصد التكرير ويدل عليه تكرير ذكر الرب فيما قبله من قوله: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ}.
وأجاب غيره بأن إله بمعنى معبود والاسم المشتق إنما يقصد به ما تضمنه من الصفة فأنت إذا قلت زيد ضارب عمرو ضارب بكر لا يتخيل أن الثاني هو الأول وإن أخبر بهما عن ذات واحدة فإن المذكور حقيقة إنما هو المضروبان لا الضاربان ولا شك أن الضميرين مختلفان
ومنها قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} الثاني هو الأول
وأجيب بأن أحدهما محكي من كلام السائل والثاني من كلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنما الكلام في وقوعهما من متكلم واحد.
ومنها: قوله تعالى: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ}.
ومنها: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ}.
ومنها: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً}.
الثالث: أن يكون الأول نكرة والثاني معرفة فهو كالقسم الأول يكون الثاني فيه هو الأول كقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ}.
وقوله: {فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ}.
وقوله: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ}.
وقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} وهذا منتقض.
بقوله: {لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ}.
وقوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} فإنهم استدلوا بها على استحباب كل صلح فالأول داخل في الثاني وليس بجنسه.
وكذلك {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}.
وقوله: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} الفضل الأول العمل والثاني الثواب.
وكذلك {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} وكذلك {يَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ}.
وكذلك {زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ} تعريفه إن المزيد غير المزيد عليه.
وكذلك {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ}.
وقوله: {وْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ}.
الرابع: عكسه فلا يطلق القول به بل يتوقف على القرائن فتارة تقوم قرينة على التغاير
كقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}.
وكذلك قوله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً}.
وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ هُدىً}.
قال الزمخشري: المراد بالهدى جميع ما آتاه من الدين والمعجزات والشرائع والهدى والإرشاد
وتارة تقوم قرينة على الاتحاد كقوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآناً عَرَبِيّاً}.
وقوله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} إلى قوله: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً}
وأما قوله تعالى في سورة البقرة: {بِالْمَعْرُوفِ}.
وقوله أيضا: {مِنْ مَعْرُوفٍ} فهو من إعادة النكرة معرفة لأن {مِنْ مَعْرُوفٍ} وإن كان في التلاوة متأخرا عن {بِالْمَعْرُوفِ} فهو في الإنزال متقدم عليه.

[ البرهان في علوم القرآن ( 4 / 52 ـ 100 ) ]


رد مع اقتباس
  #20  
قديم 12 ذو القعدة 1430هـ/30-10-2009م, 06:52 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي


قواعد تتعلق بالعطف:
القاعدة الأولى:
ينقسم باعتبار إلى عطف المفرد على مثله وعطف الجمل.
فأما عطف المفرد ففائدته تحصيل مشاركة الثاني للأول في الإعراب ليعلم أنه مثل الأول في فاعليته أو مفعوليته ليتصل الكلام بعضه ببعض أو حكم خاص دون غيره كما في قوله تعالى: {فامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} فمن قرأ بالنصب عطفا على الوجوه كانت الأرجل مغسولة ومن قرأ بالجر عطفا على الرءوس كانت ممسوحة لكن خولف ذلك لعارض يرجح ولا بد في هذا من ملاحظة المشاكلة بين المتعاطفين فتقول جاءني زيد وعمرو لأنهما معرفتان ولو قلت جاء زيد ورجل لم يستقم لكون المعطوف نكرة نعم إن تخصص فقلت ورجل آخر جاز.
ولذا قال صاحب المستوفي من النحويين: وأما عطف الجملة فإن كانت الأولى لا محل لها من الإعراب فكما سبق لأنها تحل محل المفرد نحو مررت برجل خلقه حسن وخلقه قبيح وإن كان لا محل لها نحو زيد أخوك وعمرو صاحبك ففائدة العطف الاشتراك في مقتضى الحرف العاطف فإن كان العطف بغير الواو ظهر له فائدة من التعقيب كالفاء أو الترتيب كـ "ثم" أو نفي الحكم عن الباقي كـ "لا".
وأما الواو فلا تفيد شيئا هنا غير المشاركة في الإعراب.
وقيل: بل تفيد أنهما كالنظيرين والشريكين بحيث إذا علم السامع حال الأول عساه أن يعرف حال الثاني ومن ثمة صار بعض الأصوليين إلى أن القران في اللفظ يوجب القران في الحكم ومن ها هنا شرط البيانيون التناسب بين الجمل لتظهر الفائدة حتى إنهم منعوا عطف الإنشاء على الخبر وعكسه.
ونقله الصفار في شرح سيبويه عن سيبويه ألا ترى إلى قوله يقبح عندهم أن يدخلوا الكلام الواجب في موضع المنفي فيصيروا قد ضموا إلى الأول ما ليس بمعناه انتهى ولهذا منع الناس من الواو في بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد لأن الأولى خبرية والثانية طلبية وجوزه ابن الطراوة لأنهما يجتمعان في التبرك.
وخالفهم كثير من النحويين كابن خروف والصفار وابن عمرو وقالوا يعطف الأمر على الخبر والنهي على الأمر والخبر قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ، فعطف خبرا على جملة شرط وجملة الشرط على الأمر.
وقال تعالى: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فعطف نهيا على خبر.
ومثله {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ}.
قالوا: وتعطف الجملة على الجملة ولا اشتراك بينهما كما قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} على قولنا بالوقف على الله وأنه سبحانه اختص به.
وقال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فإنه علة تامة بخبرها فلا يوجب العطف المشاركة فيما تتم به الجملتان الأوليان وهو الشرط الذي تضمنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا} كقولك: إن دخلت الدار فأنت طالق وفلانة طالق لا يتعلق طلاق الثانية بالشرط وعلى هذا يختص الاستثناء به ولا يرجع لما تقدمه ويبقى المحدود في القذف غير مقبول الشهادة بعد التوبة كما كان قبلها.
ومنه قوله تعالى: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} فإنه علة تامة معطوفة على ما قبلها غير داخل تحت الشرط ولو دخلت كان ختم القلب ومحو الباطل متعلقين بالشرط والمتعلق بالشرط معدوم قبل وجوده وقد عدم ختم القلب ووجد محو الباطل فعلمنا أنه خارج عن الشرط وإنما سقطت الواو في الخط واللفظ ليس للجزم بل سقوطه من اللفظ لالتقاء الساكنين وفي الخط اتباعا للفظ كسقوطه في قوله تعالى: {وَيَدْعُ الأِنْسَانُ} وقوله {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} ولهذا وقف عليه يعقوب بالواو نظرا للأصل وإن وقف عليه غيره بغير واو اتباعا للخط.
والدليل على أنها ابتداء إعادة الاسم في قوله: {وَيَمْحُ اللَّهُ} ولو كانت معطوفة على ما قبلها لقيل ويمح الباطل ومثله {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ}.
وقوله: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ}.
وقوله: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى} وغير ذلك
قلت: وكثير من هذا لا يرد عليهم فإن كلامهم في الواو العاطفة وأما {وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ} وما بعده فهي للاستئناف إذ لو كانت للعطف لانتصب "نقر" وجزم"ويتوب" وكذلك في {وَالرَّاسِخُونَ} للاستئناف {وَيَمْحُ اللَّهُ}.
وقال: البيانيون للجملة ثلاثة أحوال:
فالأول: أن يكون ما قبلها بمنزلة الصفة من الموصوف والتأكيد من المؤكد فلا يدخلها عطف لشدة الامتزاج كقوله تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ}.
وقوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} مع قوله: {لا يُؤْمِنُونَ}.
وكذلك: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} مع قوله: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} فإن المخادعة ليست شيئا غير قولهم {آمَنَّا} من غير اتصافهم.
وقوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} وذلك لأن معنى قولهم {إِنَّا مَعَكُمْ} أنا لم نؤمن وقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} خبر لهذا المعنى بعينه.
وقوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً}.
وقوله: {مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} فإن كونه ملكا ينفي كونه بشرا فهي مؤكدة للأولى.
وقوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ}.
وقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}.
وقوله: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} فإنها مؤكدة لقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ}.
وقوله: {إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} فإنها بيان للأمر بالصلاة.
وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} بعد قوله: {إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ}.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} إذا جعلت {إِنَّا لا نُضِيعُ} خبرا إذ الخبر لا يعطف على المبتدأ.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} بعد قوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ}.
والثانية: أن يغاير ما قبلها وليس بينهما نوع من الارتباط بوجه فلا عطف أيضا إذ شرط العطف المشاكلة وهو مفقود وذلك قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} بعد قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
فإن قيل: إذا كان حكم هذه الحالة والتي قبلها واحدا أدى إلى الإلباس فإنه إذا لم يعطف التبس حالة المطابقة بحالة المغايرة وهلا عطفت الحالة الأولى بالحالة الثانية فإن ترك العطف يوهم المطابقة والعطف يوهم عدمها فلما اختير الأول دون الثاني مع أنه لم يخل عن إلباس؟
قيل: العاطف يوهم الملابسة بوجه قريب أو بعيد بخلاف سقوط العاطف فإنه وإن أوهم المطابقة إلا أن أمره واضح فبأدنى نظر يعلم فزال الإلباس.
الحال الثالثة: أن يغاير ما قبلها لكن بينهما نوع ارتباط وهذه هي التي يتوسطها العاطف كقوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
فإن قلت: لم سقط العطف من {أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} ولم يسقط من {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}؟
قلت: لأن الغفلة شأن الأنعام فالجملة الثانية كأنها هي الجملة الأولى فإن قلت لم سقط في قوله: {الله يستهزئ بهم}؟
قلت: لأن الثانية كالمسئول عنها فنزل تقدير السؤال منزلة صريحه.
الحال الرابعة: أن يكون بتقدير الاستئناف كأن قائلا قال لم كان كذا فقيل كذا فهاهنا لا عطف أيضا كقوله تعالى: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ قَالُوا يَا أَبَانَا} وقوله: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً} التقدير فما قالوا أو فعلوا فأجيب هذا التقدير بقوله قَالُوا.
القاعدة الثانية.
ينقسم باعتبار عطف الاسم على مثله والفعل على الفعل إلى أقسام:
الأول: عطف الاسم على الاسم وشرط ابن عمرون وصاحبه ابن مالك فيه أن يصح أن يسند أحدهما إلى ما أسند إلى الآخر ولهذا منع أن يكون {وَزَوْجُكَ} في {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ}معطوفا على المستكن في أنت وجعله من عطف الجمل بمعنى أنه مرفوع بفعل محذوف أي ولتسكن زوجك.
ونظيره قوله تعالى: {لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوَىً} لأن من حق المعطوف حلوله محل المعطوف عليه ولا يصح حلول زوجك محل الضمير لأن فاعل فعل الأمر الواحد المذكر نحو قم لا يكون إلا ضميرا مستترا فكيف يصح وقوع الظاهر موقع المضمر الذي قبله!
ورد عليه الشيخ أثير الدين أبو حيان بأنه لا خلاف في صحة تقوم هند وزيد ولا يصح مباشرة زيد لـ "تقوم" لتأنيثه.
الثاني: عطف الفعل على الفعل قال ابن عمرون وغيره يشترط فيه اتفاق زمانهما فإن خالف رد إلى الاتفاق بالتأويل لاسيما إذا كان لا يلبس وكانت مغايرة الصيغ اتساعا قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} عطف الماضي على المضارع لأنها من صلة الذين وهو يضارع الشرط لإيهامه والماضي في الشرط في حكم المستقبل فقد تغايرت الصيغ في هذا كما ترى واللبس مأمون ولا نظر في الجمل إلى اتفاق المعاني لأن كل جملة مستقلة بنفسها انتهى.
ومثله قوله تعالى: {إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ} ثم قال: {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً}.
وقوله: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} ثم قال: {وَحَشَرْنَاهُمْ}.
وقال صاحب المستوفى: لا يتمشى عطف الفعل على الفعل إلا في المضارع منصوبا كان كقوله تعالى: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} أو مجزوما كقوله {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً}.
فإن قيل: كيف حكمتم بأن العاطف مختص بالمضارع وهم يقولون قام زيد وقعد بكر وعلى هذا قوله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} فيه عطف الماضي على الماضي وعطف الدعاء على الدعاء !
فالجواب أن المراد بالعطف هنا أن تكون لفظتان تتبع الثانية منهما الأولى في إعرابها وإذا كانت اللفظة غير معربة فكيف يصح فيها التبعية فصح أن هذه الألفاظ لا يصح أن يقال إنها معطوفة على ما قبلها العطف الذي نقصده الآن وإن صح أن يقال معطوفة العطف الذي ليس للإتباع بل يكون عطف الجملة على الجملة من حيث هما جملتان والجملة من حيث هي لا مدخل لها في الإعراب إلا أن تحل محل الفرد وظهر أنه يصح وقوع العطف عليه وعدمه باعتبارين.
الثالث: عطف الفعل على الاسم والاسم على الفعل وقد اختلف فيه فمنهم من منعه والصحيح الجواز إذا كان مقدرا بالفعل كقوله تعالى: {صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} وقوله: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ}.
واحتج الزمخشري بهذا على أن اسم الفاعل حمله على معنى المصدقين الذين تصدقوا
قال ابن عمرون: ويدل لعطف الاسمية على الفعلية قوله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} فعطف {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} وهي جملة اسمية على {فَاخْتَلَفَ} وهي فعلية بالفاء.
وقال تعالى: {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ}.
قال وأذن جاز عطف الاسمية على الفعلية بـ" أم" في قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} إذاً لوضع للمعادلة.
وقيل: إنه أوقع الاسمية موقع الفعلية نظرا إلى المعنى "أصمتم" فما المانع هنا وجعل ابن مالك قوله تعالى: {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} عطفا على {يُخْرِجْ} لأن الاسم في تأويل الفعل
والتحقق ما قاله الزمخشري أنه عطف على: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}.
ولا يصح أن يكون عطفا على{يُخْرِجْ}لأنه ليس تفسيرا لقوله{فَالِقُ الْحَبِّ} فيعطف على تفسيره بل هو قسيم له.

القاعدة الثالثة:
ينقسم باعتبار المعطوف إلى أقسام عطف على اللفظ وعطف على الموضع وعطف على التوهم.
فالأول: أن يكون باعتبار عمل موجود في المعطوف عليه فهو العطف على اللفظ نحو ليس زيد بقائم ولا ذاهب وهو الأصل.
والثاني: أن يكون باعتبار عمل لم يوجد في المعطوف إلا أنه مقدر الوجود لوجود طالبه فهو العطف على الموضع نحو ليس زيد بقائم ولا ذاهبا بنصب ذاهبا عطفا على موضع قائم لأنه خبر ليس.
ومن أمثلته قوله تعالى: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} بأن يكون يوم القيامة معطوفا على محل هذه ذكره الفارسي.
وقوله: {ومَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} في قراءة الجزم أنه بالعطف على محل {فَلا هَادِيَ لَهُ}.
وجعل الزمخشري وأبو البقاء منه قوله تعالى: {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى} إن بشرى في محل نصب بالعطف على محل لينذر لأنه مفعول له.
وغلطا في ذلك لأن شرطه في ذلك أن يكون الموضع بحق الأصالة والمحل ليس هنا كذلك لأن الأصل هو الجر في المفعول له وإنما النصب ناشئ عن إسقاط الخافض وجوز الزمخشري أيضا في قوله تعالى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ} كون الشمس معطوفا على محل الليل.
والثالث: أن يكون باعتبار عمل لم يوجد هو ولا طالبه هو العطف على التوهم نحو ليس زيد قائما ولا ذاهب بجر ذاهب وهو معطوف على خبر ليس المنصوب باعتبار جره بالباء ولو دخلت عليه فالجر على مفقود وعامله وهو الباء مفقود أيضا إلا أنه متوهم الوجود لكثرة دخوله في خبر ليس فلما توهم وجوده صح اعتبار مثله وهذا قليل من كلامهم.
وقيل: إنه لم يجئ إلا في الشعر ولكن جوزه الخليل وسيبويه في القرآن وعليه خرجا قوله تعالى: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} كأنه قيل أصدق وأكن.
وقيل: هو من العطف على الموضع أي محل "أصدق"
والتحقيق قول سيبويه: هو على توهم أن الفاء لم ينطق بها.
واعلم أن بعضهم قد شنع القول بهذا في القرآن على النحويين وقال كيف يجوز التوهم في القرآن.
وهذا جهل منه بمرادهم فإنه ليس المراد بالتوهم الغلط بل تنزيل الموجود منه منزلة المعدوم كالفاء في قوله تعالى: {فَأَصَّدَّقَ} ليبنى على ذلك ما يقصد من الإعراب وجعل منه الزمخشري قوله تعالى: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} فيمن فتح الباء كأنه قيل ووهبنا له إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب على طريقة:

مشأيم ليسوا مصلحين عشيرة
ولا ناعب إلا ببين غرابها

وقد يجيء اسم آخر وهو العطف على المعنى كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} ثم قال: {أَوْ كَالَّذِي} عطف المجرور بالكاف على المجرور ب" إلى" حملا على المعنى لأن قوله إلى الذي في معنى أرأيت كالذي.
وقال بعضهم في قوله تعالى: {وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ} إنه عطف على معنى.
{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} وهو أنا خلقنا الكواكب في السماء الدنيا زينة للسماء الدنيا
وفي قوله تعالى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ} على قراءة النصب: إنه عطف معنى {لَعَلِّي أَبْلُغُ} وهو لعلي أن أبلغ فإن خبر لعل يقترن بـ" أن" كثيرا.
القاعدة الرابعة: الأصل في العطف التغاير وقد يعطف الشيء على نفسه في مقام التأكيد وقد سبق إفراده بنوع في فصول التأكيد.
القاعدة الخامسة: يجوز في الحكاية عن المخاطبين إذا طالت قال زيد قال عمرو من غير أن تأتي بالواو وبالفاء وعلى هذا قوله تعالى: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} الآية
وقوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ونظائرها
وإنما حسن ذلك للاستغناء عن حرف العطف من حيث إن المتقدم من القولين يستدعي التأخر منهما فلهذا كان الكلام مبنيا على الانفصال وكان كل واحد من هذه الأقوال مستأنفا ظاهرا وإن كان الذهن يلائم بينهما.
القاعدة السادسة: العطف على المضمر إن كان منفصلا مرفوعا فلا يجوز من غير فاصل تأكيد أو غيره كقوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ}.
{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا}.
{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} عند الجمهور خلافا لابن مالك في جعله من عطف الجمل بتقدير ولتسكن زوجك.
وقوله: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ}.
{يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ}.
{فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ}.
وجعل الزمخشري منه {إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أو آباؤنا} فيمن قرأ بفتح الواو وجعل الفصل بالهمزة
ورد بأن الاستفهام لا يدخل على المفردات.
وجعل الفارسي منه {مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} وأعرب ابن الدهان { وَلا آبَاؤُنَا} مبتدأ خبره {أَشْرَكُوا} مقدرا وأجاز الكوفيون العطف من غير فاصل كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ}.
فأما قوله تعالى: {فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى} فقال الفارسي {وَهُوَ} مبتدأ وليس معطوفا على ضمير {فَاسْتَوَى} وإن كان مجرورا فلا يجوز من غير تكرار الجار فيه نحو مررت به وبزيد كقوله تعالى: { وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ}{فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ}{جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}.
وأما قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} فإن جعلنا {وَمِنْ نُوحٍ} معطوفا على {مِنْكَ} فالإعادة لازمة وإن جعل معطوفا على {النَّبِيِّينَ} فجائزة.
وقال الكوفيون: لا تلزم الإعادة محتجين بآيات:
الأولى: قراءة حمزة {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} بالجر عطفا على الضمير في{بِهِ}.
فإن قيل: ليس الخفض على العطف وإنما هو على القسم وجوابه {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}
قلنا: رده الزجاج بالنهي عن الحلف بغير الله وهو عجيب فإن ذلك على المخلوقين
الثانية: قوله تعالى: {فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} {وَمَنْ لَسْتُمْ} أو لها المانعون كابن الدهان بتقدير ويرزق من لستم والزجاج بتقدير اعني من لستم قال أبو البقاء لأن المعنى أغناكم وأغنى من لستم وقدم أنها نصب بـ {جَعَلْنَا} قال والمراد بـ "من" العبيد والإماء والبهائم فإنها مخلوقة لمنافعها.
الثالثة: قوله تعالى: {وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وليس من هذا الباب لأن {الْمَسْجِدِ} معطوف على {سَبِيلِ اللَّهِ} في قوله: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ويدل لذلك أنه صرح بنسبة الصد إلى المسجد في قوله: {أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.
وهذا الوجه حسن لولا ما يلزم منه الفصل بين {صد} و{الْمَسْجِدِ} بقوله: {وَكُفْرٌ} وهو أجنبي.
ولا يحسن أن يقال: إنه معطوف على {الشَّهْرَ} لأنهم لم يسألوا عنه ولا على {سَبِيلِ} لأنه إذ ذاك من تتمة المصدر ولا يعطف على المصدر قبل تمامه.
الرابعة: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ} قالوا الواو عاطفة لـ "من" على الكاف المجرورة والتقدير حسبك من اتبعك.
ورد بأن الواو للمصاحبة ومن في محل نصب عطف على الموضع كقوله
*فحسبك والضحاك سيف مهند*

الخامسة: قوله تعالى: {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} كما تقول كذكر قريش آباءهم أو قوم أشد منهم ذكرا.
لكن هذا عطف على الضمير المخفوض وذلك لا يجوز على قراءة حمزة.
وقد خالفه الجمهور وجعلوه مجرورا عطفا على { ذكركم } المجرور بكاف التشبيه تقديره أو كذكركم اشد فجعل للذكر ذكرا مجازا وهو قول الزجاج وتابعة ابن عطية وابو البقاء وغيرهما.
ومما اختلف فيه العطف على عاملين نحو ليس زيد بقائم ولا قاعد عمرو على إن يكون ولا قاعد معطوفا على قائم وعمرو على زيد منعه الجمهور واجازه الاخفش محتجا بقوله تعالى: { واختلاف الليل والنهار } 2 ثم قال: { آيات } بالنصب عطفا على قوله: { لآيات } المنصوب ب إن في اول الكلام و{ اختلاف الليل والنهار } مجرور بالعطف على { السماوات } 4 المجرور بحرف الجر الذي هو في فقد وجد العطف على عاملين واجيب بجعل { آيات } تأكيد ل آيات الاولى.

[ البرهان في علوم القرآن ( 4 / 101 ـ 116 )]


رد مع اقتباس
  #21  
قديم 12 ذو القعدة 1430هـ/30-10-2009م, 06:56 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي

قواعد في العدد
القاعدة الاولى
في اسم الفاعل المشتق من العدد له استعمالان أحدهما إن يراد به واحد من ذلك العدد فهذا يضاف للعدد الموافق له نحو رابع اربعة وخامس خمسة وليس فيه إلا الإضافة خلافا لثعلب فانه اجاز ثالث ثلاثة بالتنوين قال تعالى { ثاني اثنين } وهذا لايجوز اطلاقه في حق الله تعالى
ولهذا قال تعالى {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ}
الثاني: أن يكون بمعنى التصيير وهذا يضاف إلى العدد المخالف له في اللفظ بشرط أن يكون أنقص منه بواحد كقولك ثالث اثنين ورابع ثلاثة وخامس أربعة كقوله تعالى {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} أي يصيرهم بعلمه وإحاطته أربعة وخمسة
فإن قيل: كيف بدا بالثلاث وهلا جاء ما يكون من نجوى واحد إلا هو ثانيه ولا اثنين إلا هو ثالثهم قيل لأنه سبحانه لما علم إن بعض عباده كفر بهذا اللفظ وأدعى أنه ثالث ثلاثة فلو قال ما يكون من نجوى واحد إلا هو ثانيه لثارت ضلالة من كفر بالله وجعله ثانيا وقال وهذا قول الله هكذا ولو قال ولا اثنين إلا هو ثالثهم لتمسك به الكفار فعدل سبحانه عن هذا لأجل ذلك ثم قال {وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ} فذكر هذين المعنيين بالتلويح لا بالتصريح فدخل تحته مالا يتناهى وهذا من بعض إعجاز القرآن
القاعدة الثانية
حق ما يضاف إليه العدد من الثلاثة إلى العشرة أن يكون اسم جنس أو اسم جمع وحينئذ فيجر بـ "من" نحو {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ}
ويجوز إضافته نحو {تِسْعَةُ رَهْطٍ}
وإن كان غيرهما من الجموع أضيف إليه الجمع على مثال جمع القلة من التكسير وعلته أن المضاف موضوع للقلة فتلزم إضافته إلى جمع قلة طلبا لمناسبة المضاف إليه المضاف في القلة لأن المفسر على حسب المفسر فتقول ثلاثة أفلس وأربعة أعبد قال تعالى {مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ}
وقد استشكل على هذه القاعدة قوله تعالى: { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} فإن قروء جمع كثرة وقد أضيف إلى الثلاثة ولو جاء على القاعدة لقال أقراء
والجواب: من أوجه:
أحدها: أنه أوثر جمع الكثرة هنا لأن بناء القلة شاذ فإنه جمع قرء بفتح القاف وجمع فعل على أفعال شاذ فجمعوه على فعول إيثارا للفصيح فأشبه ما ليس له إلا جمع كثرة فإنه يضاف إليه كثلاثة دراهم ذكره ابن مالك
والثاني: أن القلة بالنسبة إلى كل واحد من المطلقات وإنما أضاف جمع الكثرة نظرا إلى كثرة المتربصات لأن كل واحدة تتربص ثلاثة حكاه في البسيط عن أهل المعاني
الثالث: أنه على حذف مضاف أي ثلاثة أقراء قروء
الرابع: أن الإضافة نعت في تقدير الانفصال لأنه بمعنى من التي للتبعيض أي ثلاثة أقراء من قروء
كما أجاز المبرد ثلاثة حمير وثلاثة كلاب على إرادة "من" أي من حمير ومن كلاب

القاعدة الثالثة
ألفاظ العدد نصوص ولهذا لا يدخلها تأكيد لأنه لدفع المجاز في إطلاق الكل وإرادة البعض وهو منتف في العدد وقد أورد على ذلك آيات شريفة
الأولى: قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} والجواب أن التأكيد هنا ليس لدفع نقصان أصل العدد بل لدفع نقصان الصفة لأن الغالب في البدل أن يكون دون المبدل منه معناه أن الفاقد للهدى لا ينقص من أجره شيء
الثانية: قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} ولو كانت ألفاظ العدد نصوصا لما دخلها الاستثناء إنما يكون عاما والجواب أن التجوز قد يدخل في الألف فإنها تذكرة في سياق المبالغة للتكثير والاستثناء رفع ذلك
الثالثة : قوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} وقد سبق في باب التأكيد الجواب عنه
الرابعة: قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} وقوله {سَبْعُونَ ذِرَاعاً} قالوا المراد بها الكثرة وخصوص السبعين ليس مرادا وهذا مجاز وكذا قوله تعالى {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} قيل المراد المراجعة من غير حصر وجيء بلفظ التثنية تنبيها على أصل الكثرة وهو مجاز
أحكام الألفاظ يكثر دورانها في القرآن

لفظ "فعل"
من ذلك لفظ "فعل" كثيرا ما يجيء كناية عن أفعال متعددة وفائدته الاختصار كقوله تعالى {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}
{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ}
وقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} أي فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة من مثله
وحيث أطلقت في كلام الله فهي محمولة على الوعيد الشديد كقوله تعالى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}
{وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ}

لفظ كان
ومن ذلك الإخبار عن ذات الله أو صفاته بـ" كان"
وقد اختلف النحاة وغيرهم في أنها تدل على الانقطاع على مذاهب:
أحدها: أنها تفيد الانقطاع لأنها فعل يشعر بالتجدد
والثاني: لا تفيده بل تقتضي الدوام والاستمرار وبه جزم ابن معط في ألفيته حيث قال
*وكان للماضي الذي ما انقطعا*
وقال الراغب في قوله تعالى: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} نبه بقوله كان على أنه لم يزل منذ أوجد منطويا على الكفر
والثالث: أنه عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام وليس فيه دليل على عدم سابق ولا على انقطاع طارئ ومنه قوله تعالى {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} قاله الزمخشري في قوله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}
وذكر ابن عطية في سورة الفتح أنها حيث وقعت في صفات الله فهي مسلوبة الدلالة على الزمان
والصواب من هذه المقالات مقالة الزمخشري وأنها تفيد اقتران معنى الجملة التي تليها بالزمن الماضي لا غير ولا دلالة لها نفسها على انقطاع ذلك المعنى ولا بقائه بل إن أفاد الكلام شيئا من ذلك كان لدليل آخر
إذا علمت هذا فقد وقع في القرآن إخبار الله تعالى عن صفاته الذاتية وغيرها بلفظ كان كثيرا نحو {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} {وَاسِعاً حَكِيماً} {غَفُوراً رَحِيماً} {تَوَّاباً رَحِيماً} {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ}{وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ}
فحيث وقع الإخبار بـ "كان" عن صفة ذاتية فالمراد الإخبار عن وجودها وأنها لم تفارق ذاته ولهذا يقررها بعضهم بما زال فرارا مما يسبق إلى الوهم إن كان يفيد انقطاع المخبر به عن الوجود لقولهم دخل في خبر كان قالوا فكان وما زال مجازان يستعمل أحدهما في معنى الآخر مجازا بالقرينة وهو تكلف لا حاجة إليه وإنما معناها ما ذكرناه من أزلية الصفة ثم تستفيد بقاءها في الحال وفيما لا يزال بالأدلة العقلية وباستصحاب الحال
وعلى هذا التقدير سؤالان:
أحدهما: إن البارئ سبحانه وصفاته موجودة قبل الزمان والمكان فكيف تدل كان الزمانية على أزلية صفاته وهي موجودة قبل الزمان؟
وثانيهما: مدلول كان اقتران مضمون الجملة بالزمان اقترانا مطلقا فما الدليل على استغراقه الزمان؟
والجواب عن الأول أن الزمان نوعان:
حقيقي وهو مرور الليل والنهار أو مقدار حركة الفلك على ما قيل فيه
وتقديري وهو ما قبل ذلك وما بعده كما في قوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} ولا بكرة هنا ولا عشيا وإنما هو زمان تقديري فرضي
وكذلك قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}
مع أن الأيام الحقيقية لا توجد إلا بوجود السموات والأرض والشمس والقمر وإنما الإشارة إلى أيام تقديرية
وعن الثاني أن كان لما دلت على اقتران مضمون الجملة بالزمان لم يكن بعض أفراد الأزمنة أولى بذلك من بعض فإما ألا يتعلق مضمونها بزمان فيعطل أو يعلق بعضها دون بعض وهو ترجيح بلا مرجح أو يتعلق بكل زمان وهو المطلوب
وحيث وقع الإخبار بها عن صفة فعلية فالمراد تارة الإخبار عن قدرته عليها في الأزل نحو كان الله خالقا ورازقا ومحييا ومميتا وتارة تحقيق نسبتها إليه نحو: {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} وتارة ابتداء الفعل وإنشاؤه نحو {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} فان الإرث إنما يكون بعد موت المورث والله سبحانه مالك كل شيء على الحقيقة من قبل ومن بعد
وحيث أخبر بها عن صفات الآدميين فالمراد التنبيه على أنها فيهم غريزة وطبيعة مركوزة في نفسه نحو {وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً}{إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}
ويدل عليه قوله {إِنَّ الأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} أي خلق على هذه الصفة وهي مقدرة أو بالقوة ثم تخرج إلى الفعل
وحيث أخبر بها عن أفعالهم دلت على اقتران مضمون الجملة بالزمان نحو {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ}
ومن هذا الباب الحكاية عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلفظ كان يصوم وكنا نفعل وهو عند أكثر الفقهاء والأصوليين يفيد الدوام فإن عارضه ما يقتضي عدم الدوام مثل أن يروى كان يمسح مرة ثم نقل أنه يمسح ثلاثا فهذا من باب تخصيص العموم وإن روي النفي والإثبات تعارضا
وقال الصفار في شرح سيبويه: إذا استعملت للدلالة على الماضي فهل تقتضي الدوام والاتصال أو لا مسالة خلاف وذلك أنك إذا قلت كان زيد قائما فهل هو الآن قائم الصحيح أنه ليس كذلك هذا هو المفهوم ضرورة وإنما حملهم على جعلها للدوام ما ورد من مثل قوله تعالى {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} وقوله {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} وهذا عندنا يتخرج على أنه جواب لمن سأل هل كان الله غفورا رحيما وأما الآية الثانية فالمعنى أي قد كان عندكم فاحشة وكنتم تعتقدون فيه ذلك فتركه يسهل عليكم
قال ابن الشجري: في أمالية اختلف في كان في نحو قوله {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} على قولين:
أحدهما: أنها بمعنى لم يزل كان القوم شاهدوا عزا وحكمة ومغفرة ورحمة فقيل لهم لم يزل الله كذلك قال وهذا قول سيبويه
والثاني: أنها تدل على وقوع الفعل فيما مضى من الزمان فإذا كان فعلا متطاولا لم يدل دلالة قاطعة على أنه زال وانقطع كقولك كان فلان صديقي لا يدل هذا على أن صداقته قد زالت بل يجوز بقاؤها ويجوز زوالها
فمن الأول: قوله تعالى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً} لأن عداوتهم باقية
ومن الثاني قوله تعالى: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ}
وقال بعضهم: يدل على أن خبرها كان موجودا في الزمن الماضي وأما في الزمن الحاضر فقد يكون باقيا مستمرا وقد يكون منقطعا فالأول كقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} وكذا سائر صفاته لأنها باقية مستمرة
قال السيرافي: قد يرجع الانقطاع بالنسبة للمغفور لهم والمرحومين بمعنى أنهم انقرضوا فلم يبق من يغفر له ولا من يرحم فتنقطع المغفرة والرحمة
وكذا: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} ومعناه الانقطاع فيما وقع عليه العلم والحكمة لا نفس العلم والحكمة

وفيه نظر
وقال ابن بري ما معناه إن" كان" تدل على تقديم الوصف وقدمه وما ثبت قدمه استحال عدمه وهو كلام حسن
وقال منصور بن فلاح اليمني في كتاب الكافي: قد تدل على الدوام بحسب القرائن كقوله{ وكان الله غفورا رحيما} {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} دلت على الدوام المتصف بتلك الصفات ودوام التعبد بالصفات وقد تدل على الانقطاع نحو كان هذا الفقير غنيا وكان لي مال
وقال أبو بكر الرازي كان في القرآن على خمسة أوجه:
بمعنى الأزل والأبد كقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً}
وبمعنى المضي المنقطع كقوله: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} وهو الأصل في معاني كان كما تقول كان زيد صالحا أو فقيرا أو مريضا أو نحوه
وبمعنى الحال كقوله تعالى : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} وقوله {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً}
وبمعنى الاستقبال كقوله تعالى: {ويخافون يوما كان شره مستطيرا}
وبمعنى صار كقوله: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}

مسألة
في حكم "كان" إذا وقعت بعد "إن"
كان فعل ماض وإذا وقعت بعد إن كانت في المعنى للاستقبال
وقال المبرد تبقى على المضي لتجردها للدلالة على الزمان فلا يغيرها أداة الشرط قال تعالى: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ} {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ}
وهذا ضعيف لبنائه على أنها للزمان وحده والحق خلافه بل تدل على الحدث والزمان كغيرها من الأفعال وقد استعملت مع إن للاستقبال قال تعالى {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وأما {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ} فتأوله ابن السراج على تقدير إن أكن قلته وكذا {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ} إن يكن قميصه
مسألة في نفي كان وأخواتها
إذا نفيت كان وأخواتها فهي كغيرها من الأفعال وزعم ابن الطراوة أنها إذا نفيت كان اسمها مثبتا والخبر منفيا قال لأن النفي إنما يتسلط على الخبر كقوله تعالى {مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا} فالقول مثبت والحجة هي المنفية وما ذهب إليه غير لازم إذ قد قرئ ما كان حجتهم بالرفع على أنه اسم كان ولكن تأوله على أن كان ملغاة أي زائدة تقديره ما حجتهم إلا
وهذا إن ساغ له هاهنا فلا يسوغ له تأويل قوله تعالى: { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا} فإنه قرئ بالرفع ولا يمكن أن تكون هنا ملغاة

لفظ جعل
ومن ذلك جعل وهي أحد الأفعال المشتركة التي هي أمهات أحداث وهي فعل وعمل وجعل وطفق وأنشأ وأقبل وأعمها فعل يقع على القول والهم وغيرهما {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}
ودونه عمل لأنه يعم النية والهم والعزم والقول {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} أي من صلاة وصدقة وجهاد

ولجعل أحوال:
أحدها: بمعنى سمى كقوله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} أي سموه كذبا وقوله: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} على قول ويشهد له قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى}
الثاني: بمعنى المقاربة مثل كاد وطفق لكنها تفيد ملابسة الفعل والشروع فيه تقول جعل يقول وجعل يفعل كذا إذا شرع فيه
الثالث: بمعنى الخلق والاختراع فتعدى لواحد كقوله تعالى {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} أي خلقهما
فإن قيل: ما الفرق بين الجعل والخلق؟
قيل: إن الخلق فيه معنى التقدير وفي الجعل معنى التصيير كإنشاء شيء من شيء أو تصيير شيء شيئا أو نقله من مكان ويتعدى لمفعول واحد لأنه لا يتعلق إلا بواحد وهو المخلوق
وأيضا،فالخلق يكون عن عدم سابق حيث لا يتقدم مادة لا سبب محسوس والجعل يتوقف على موجود مغاير للمجعول يكون منه المجعول أو عنه كالمادة والسبب ولا يرد في القرآن العظيم لفظ جعل في الأكثر مرادا به الخلق إلا حيث يكون قبله ما يكون عنه أو منه أو شيئا فيه محسوسا عنه يكون ذلك المخلوق الثاني بخلاف خلق فإن العبارة تقع كثيرا به عما لم يتقدم وجوده وجود مغاير يكون عنه هذا الثاني قال الله تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} وإنما الظلمات والنور عن أجرام توجد بوجودها وتعدم بعدمها وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ}
وقال {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ}
وقال سبحانه في سورة الأعراف {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}
وفي سورة النساء: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} فهو يدل على أنهما قد يستعملان استعمال المترادفين
الرابع: بمعنى النقل من حال إلى حال والتصيير فيتعدى إلى مفعولين إما حسا كقوله تعالى {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً} {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطاً} {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} وإما عقلا مثل {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً} ونحو قوله {اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} وقوله {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً} لأنه يتعلق بشيئين المنقول وهو الليل والمنقول إليه وهو اللباس
وأبين منه قوله تعالى {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً}
والمعاش في قوله: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} اسم زمان لكون الثاني هو الأول ويجوز أن يكون مصدر لمعنى المعيش {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} ومعناه صيرناه لأن مريم إنما صارت مع ولدها عليه السلام لما خلق من جسدها لا من أب فصار عند ذلك آية للعالمين ومحال أنه
يريد خلقناهما لأن مريم لم تخلق في حين خلق ولدها بل كانت موجودة قبله ومحال تعلق القدرة بجعل الموجود موجودا في حال بقائه
فأما قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} ،فهو من هذا الباب على جهة الاتساع أي صيرناه يقرأ بلسان عربي لأن غير القرآن ما هو عبري وسرياني ولأن معاني القرآن في الكتب السالفة بدليل قوله تعالى {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى}
وبهذا احتج من أجاز القراءة بالفارسية،قال: لأنه ليس في زبر الأولين من القرآن إلا المعنى والفارسية تؤدي المعنى وإذا عرف هذا فكأنه نقل المعنى من لفظ القرآن فصيره عربيا
وأخطأ الزمخشري حيث جعله بالخلق وهو مردود صناعة ومعنى أما الصناعة فلأنه يتعدى لمفعولين ولو كان بمعنى الخلق لم يتعد إلا إلى واحد وتعديته لمفعولين وإن احتمل هذا المعنى لكن بجواز إرادة التسمية أو التصيير على ما سبق وأما المعنى فلو كان بمعنى خلقنا التلاوة العربية فباطل لأنه ليس الخلاف في حدوث ما يقوم بألسنتنا وإنما الخلاف في أن كلام الله الذي هو أمره ونهيه وخبره فعندنا أنه صفة من صفات ذاته وهو قديم
وقالت: القدرية إنه صفة فعل أوجده بعد عدمه وأحدثه لنفسه فصار عند حدوثه متكلما بعد أن لم يكن فظهر أن الآية على تأويله ليس فيها تضمن لعقيدته الباطلة
وقال: الآمدي في أبكار الأفكار الجعل فيه بمعنى التسوية كقوله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} أي يسمونه كذبا
قال: ويحتمل أن الجعل على بابه والمراد القرآن بمعنى القراءة دون مدلولها فإن القرآن قد يطلق بمعنى القراءة ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما أذن الله لشيء أذنه لنبي يتغنى في القرآن" أي بالقراءة
وقال بعضهم: قاعدة العرب في الجعل أن يتعدى لواحد وتارة يتعدى لاثنين فإن تعدى لواحد لم يكن إلا بمعنى الخلق وأما إذا تعدى لاثنين فيجيء بمعنى الخلق كقوله تعالى {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} وبمعنى التسمية {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}
ويجيء بمعنى التصيير كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} أي صيرناهما
إذا علمت هذا فإذن ثبت أن الجعل المتعدي لاثنين ليس نصا في الخلق بل يحتمل الخلق وغيره ولم يكن في الآية تعلق للقدرية على خلق القرآن لأن الدليل لابد أن يكون قطعيا لا احتمال فيه ويجوز أن يكون بمعنى الخلق على معنى جعلنا التلاوة عربية
قلت: وهذا يمنع إطلاقه وإن جوزنا حدوث الألفاظ لأنها لم تأت عن السلف بل نقول القرآن غير مخلوق على الإطلاق
الخامس: بمعنى الاعتقاد كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ}
وكذلك قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} أي اعتقدوهم إناثا
ويجوز أن يكون كما قبله ووجه النقل فيه هو أن الملائكة في نفس الأمر ليسوا إناثا فهؤلاء الكفار نقلوهم باعتقادهم فصيروهم في الوجود الذهني إناثا
ومنهم من جعلها بمعنى التسمية كقوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي لا تسموها أندادا وأنتم تعلمون أي لا تسموها أندادا ولا تعتقدوها لأنهم ما سموها حتى اعتقدوها
وكذلك: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} أي سموه وجزؤوه أجزاء فجعلوا بعضه شعرا وبعضه سحرا وبعضه أساطير الأولين
وقال الزجاج في: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ}إنها بمعنى.......
وقوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} أي اعتقدتم هذا مثل هذا
فأما قوله: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض} ،فالنقل والتصيير راجعان إلى الحال أي لا تجعل حال هؤلاء مثل حال هؤلاء ولا تنقلها إليها
وكذلك قوله: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ} أي اعتقدوا له شركاء
السادس: بمعنى الحكم بالشيء على الشيء يكون في الحق والباطل فالحق كقوله {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}
والباطل كقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ} الآية
وبمعنى أوجب كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} أي أوجبنا الاستقبال إليها
وكقوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ}،{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا }ومعنى كنت عليها أي أنت عليها كقوله {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} أي أأنتم
السابع: ذكره الفارسي بمعنى ألقى فيتعدى لمفعولين أحدهما بنفسه والآخر بحرف الجر كما في قولك جعلت متاعك بعضه فوق بعض
ومثله قوله: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ}
ومنه قوله تعالى: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ} وبعضه بدل من الخبيث
وقوله على بعض أي فوق بعض
ومثله قوله: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} أي ألقى بدليل قوله في الآية الأخرى التي علل فيها المراد بخلق الجبال وأبان إنعامه فقال {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}

فائدة
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} قيل كيف يستعمل لفظ الجعل
هنا مع أن المجعول عنه ينبغي أن يتحقق قبل الجعل مع صفة المجعول كقولك جعلت زيدا قائما فهو قبل ذلك كان متصفا بضد القيام وهنا لم يوجد الجعل إلا على هذه الصفة فكيف يصح استعمال الجعل فيه
والجواب أن الليل جوهر قام به السواد والنهار جوهر قام به النور وكذلك الشمس جسم قام به ضوء والأجسام والجواهر متقدمة على الأعراض بالذات والعرب تراعي مثل هذا نقل الفراء أنهم قالوا أحسنت إليك فكسوتك فجعلوا الإحسان متقدما على الكسوة بدليل العطف بالفاء وليس ذلك إلا تقدم ذاتي لأن الإحسان في الخارج هو نفس الكسوة
ولك أن تقول: لا نسلم أن الإحسان نفس الكسوة بل معنى يقوم بالنفس ينشأ عنه الكسوة
حسب
يتعدى لمفعولين،وحيث جاء بعدها أن الفعل كقوله تعالى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا} ونظائره فمذهب سيبويه أنها سادة مسد المفعولين ومذهب المبرد أنها سادة مسد المفعول الواحد والثاني عنده مقدر
ويشهد لسيبويه أن العرب لم يسمع من كلامهم نطق بما ادعاه من التصريح به ولو كان كما ذكره لنطقوا به ولو مرة

كاد
وللنحويين فيها أربعة مذاهب:
أحدها: أن إثباتها إثبات ونفيها نفي كغيرها من الأفعال
والثاني : أنها تفيد الدلالة على وقوع الفعل بعسر وهو مذهب ابن جني
والثالث: أن إثباتها نفي ونفيها إثبات فإذا قيل كاد يفعل فمعناه أنه لم يفعله بدليل قوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} وإذا قيل لم يكد يفعل فمعناه أنه فعله بدليل قوله {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}
والرابع: التفصيل في النفي بين المضارع والماضي فنفي المضارع نفي ونفي الماضي إثبات بدليل {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} وقوله {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} مع أنه لم ير شيئا وهذا حكاه ابن أبي الربيع في شرح الجمل وقال إنه الصحيح
والمختار هو الأول وذلك لأن معناها المقاربة فمعنى كاد يفعل قارب الفعل ومعنى ما كاد يفعل لم يقاربه فخبرها منفي دائما
أما إذا كانت منفية فواضح لأنه إذا انتفت مقاربة الفعل اقتضى عقلا عدم حصوله ويدل له قوله تعالى {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} ولهذا كان أبلغ من قوله لم يرها لأن من لم ير قد يقارب الرؤية
وأما إذا كانت المقاربة منفية فلأن الإخبار بقرب الشيء يقتضي عرفا عدم حصوله وإلا لم يتجه الإخبار بقربه فأما قوله تعالى {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}
فإنها منفية مع إثبات الفعل لهم في قوله {فَذَبَحُوهَا}
ووجهه أيضا إخبار عن حالهم في أول الأمر فإنهم كانوا أولا بعداء من ذبحها بدليل ما ذكر الله عنهم من تعنتهم وحصول الفعل إنما فهمناه من دليل آخر وهو قوله {فَذَبَحُوهَا}
والأقرب أن يقال: إن النفي وارد على الإثبات والمعنى هنا وما كادوا يفعلون الذبح قبل ذلك لأنهم قالوا {أتتخذنا هزوا} وغير ذلك من التشديد وأما قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} فالمعنى على النفي وأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يركن إليهم لا قليلا ولا كثيرا من جهة إن لولا الإمتناعية تقتضي ذلك وأنه امتنع مقاربة الركون القليل لأجل وجود التثبيت لينتفي الكثير من طريق الأولى
وتأمل كيف جاء كاد المقتضية المقاربة للفعل بقدر الظاهرة للتقليل كل ذلك تعظيما لشأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما جبلت عليه نفسه الزكية من كونه لا يكاد يركن إليهم شيئا قليلا للتثبيت مع ما جبلت عليه
وهكذا ينبغي أن يفهم معنى هذه الآية خلافا لما وقع في كتب التفسير من ابن عطية وغيره فهم عن هذا المعنى اللطيف بمعزل
وحكى الشريف الرضي في كتاب الغرر ثلاثة أقوال في قوله تعالى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}
الأول: أنها دالة على الرؤية بعسر أي رآها بعد عسر وبطء لتكاثف الظلم
والثاني: أنها زائدة والكلام على النفي المحض ونقله عن أكثر المفسرين أي لم يرها أصلا لأن الله تعالى قال: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} كان مقتضى هذه الظلمات تحول بين العين وبين النظر إلى البدن وسائر المناظر
والثالث: أنها بمعنى أراد من قوله {كِدْنَا لِيُوسُفَ} أي لم يرد أن يراها
وذكر غيره أن التقدير {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ} ممتحنا لبصره لم يكد يخرجها ويراها صفة للظلمات تقديره ظلمات بعضها فوق بعض يراها
وأما قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى} فيحتمل أن المعنى أريد أخفيها لكي تجزى كل نفس بسعيها
ويجوز أن تكون زائدة أي أخفيها لتجزى
وقيل: تم الكلام عند قوله: {آتِيَةٌ أَكَادُ} والمعنى أكاد آتي بها ثم ابتدأ بقوله {أُخْفِيهَا لِتُجْزَى}
وقرأ سعيد بن جبير: أكاد أخفيها بفتح الألف أي أظهرها يقال أخفيت الشيء إذا سترته وإذا أظهرته
وقراءة الضم تحتمل الأمرين وقراءة الفتح لا تحتمل غير الإظهار ومعنى سترتها لأجل الجزاء لأنه إذا أخفي وقتها قويت الدواعي على التأهب لها خوف المجيء بغتة
وأما قوله تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} فلم يثبت للزيت الضوء وإنما أثبت له المقاربة من الضوء قبل أن تمسه النار ثم أثبت النور بقوله {نُورٌ عَلَى نُورٍ}فيؤخذ منه أن النور دون الضوء لا نفسه
فإن قلت: ظاهرة أن المراد يكاد يضيء مسته النار أو لم تمسه فيعطى ذلك أنه مع أن مساس النار لا يضيء ولكن يقارب الإضاءة لكن الواقع أنه عند المساس يضيء قطعا أجيب بأن الواو ليست عاطفة وإنما هي للحال أي يكاد يضيء والحال أنه لم تمسه نار فيفهم منه أنها لو مسته لأضاء قطعا

قاعدة في مجيء كاد بمعنى أراد
تجيء كاد بمعنى أراد ومنه {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} {أَكَادُ أُخْفِيهَا} وعكسه كقوله تعالى {جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} أي يكاد

قاعدة
فعل المطاوعة
فعل المطاوعة هو الواقع مسببا عن سبب اقتضاه نحو كسرته فانكسر قال ابن مالك في شرح الخلاصة هو الدال على قبول مفعول لأثر الفاعل ومعنى ذلك أن الفعل المطاوع بكسر الواو يدل على أن المفعول لقولك كسرت الشيء يدل على مفعول معالجتك في إيصال الفعل إلى المفعول فإذا قلت فانكسر علم أنه قبل الفعل وإذا قلت لم ينكسر على أنه لم يقبله وأما المطاوع بفتح الواو فيدل على معالجة الفاعل في إيصال فعله إلى المفعول ولا يدل على أن المفعول قبل الفعل أو لم يقبله
وذكر الزمخشري وغيره أن المطاوِع والمطاوَع لابد وأن يشتركا في أصل المعنى والفرق بينهما إنما هو من جهة التأثر والتأثير كالكسر والانكسار إذ لا معنى للمطاوعة إلا حصول فعل عن فعل فالثاني مطاوع لأنه طاوع الأول والأول مطاوع لأنه طاوعه الثاني فيكون المطاوَع لازما للمطاوِع ومرتبا عليه
وقد استشكل هذا بقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}
فأثبت الهدى بدون الاهتداء
وقوله: أمرته فلم يأتمر فأثبت الأمر بدون الائتمار وأيضا فاشتراط الموافقة في أصل المعنى منقوض بقوله أمرته فأتمر أي امتثل فإن الامتثال خلاف الطلب
وأجيب بأنه ليس المراد بـ {فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى} الهدى الحقيقي بل أوصلنا إليهم أسباب الهداية من بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا يلزم وجود الاهتداء وأما الأمر فيقتضيه لغة ألا يثبت إلا بالامتثال والائتمار
وقال المطرزي في المغرب: الائتمار من الأضداد وعليه قول شيخنا في الأساس يقال أمرته فائتمر وأبى أن يأتمر أي أمرته فاستبد برأيه ولم يمتثل والمراد بالمؤتمر الممتثل ويقال علمته فلم يتعلم لأن التعليم فعل صالح لأن يترتب عليه حصول العلم لإيجاده
كذا قاله الإمام فخر الدين ومنعه بعضهم
وقال الشيخ علاء الدين الباجي: لو لم يصح علمته فما تعلم لما صح علمته فعلم لأنه إذا كان التعليم يقتضي إيجاد العلم وهو علة فيه فمعلوله وهو التعلم يوجد معه بناء على أن العلة مع المعلول والفاء في قولنا فتعلم تقتضي تعقب العلم وإن قلنا المعلول يتأخر فلا فائدة في فتعلم لأن التعلم قد فهم من علمته فوضح أنه لو صح علمته فما تعلم لكان إما ألا يصح علمته فتعلم بناء على أن العلة مع المعلول أو لا تكون في قولنا فتعلم فائدة بتأخر المعلول
فإن قيل: قد منعوا كسرته فما انكسر فما وجه صحة قولهم علمته فما تعلم؟
قيل: فرق بعضهم بينهما بأن العلم في القلب من الله يتوقف على أمر من المعلم ومن المتعلم وكان علمه موضوعا للجزاء الذي من المعلم فقط لعدم إمكان فعل من المخلوق يحصل به العلم ولا بد بخلاف الكسر فإن أثره لا واسطة بينه وبين الانكسار
واعلم أن الأصل في الفعل المطاوعة أن يعطف عليه بالفاء تقول دعوته فأجاب وأعطيته فأخذ ولا تقولها بالواو لأن المراد إفادة السببية وهو لا يكون في الغالب إلا بالفاء كقوله {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي}
ويجوز عطفه بالواو كقوله: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}
وكقوله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ}
وفي موضع آخر: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ}
وزعم ابن جني في كتاب الخصائص أنه لا يجوز فعل المطاوعة إلا بالفاء
وأجاب عن قوله تعالى: { وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} ،بأن أغفل في الآية بمعنى وجدناه غافلا لا جعلناه يغفل وإلا لقيل فاتبع هواه بالفاء لأنه يكون مطاوعا
وفي كلامه نظر لأنا نقول: ليس اتباع الهوى مطاوعا لـ "أغفلنا" بل المطاوع لـ "أغفلنا" غفل
فإن قيل: أنه من لازم الغفلة اتباع الهوى والمسبب عن السبب سبب
قيل: لا نسلم أن اتباع الهوى مسبب عن الغفلة بل قد يغفل عن الذكر ولا يتبع الهوى ويكون المانع له منه غفلة أخرى عنه
واعلم أن الحامل لأبي الفتح على هذا الكلام اعتقاده الاعتزالي أن معصية العبد لا تنسب إلى الله تعالى وأنها مسببة له فلهذا جعل أفعل هنا بمعنى وجد لا بمعنى التعدية خاصة وقد بينا ضعف كلامه وأن المطاوع لا يجب عطفه بالفاء
وقال الزمخشري في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ} هذا موضع الفاء كما يقال أعطيته فشكر ومنعته فصبر وإنما عطف بالواو للإشعار بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم فأضمر ذلك ثم عطف عليه بالتحميد كأنه قال فعملا به وعلماه وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة وقالا الحمد لله
وقال السكاكي: يحتمل عندي أنه تعالى أخبر عما صنع بهما وعما قالا كأنه قال نحن فعلنا إيتاء العلم وهما فعلا الحمد من غير بيان ترتبه عليه اعتمادا على فهم السامع كقولك قم يدعوك بدل قم فإنه يدعوك
وأما قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} فظن بعض الناس أن التقوى سبب التعليم والمحققون على منع ذلك لأنه لم يربط الفعل الثاني بالأول ربط الجزاء بالشرط فلم يقل واتقوا الله يعلمكم ولا قال فيعلمكم الله وإنما أتى بواو العطف وليس فيه ما يقتضي أن الأول سبب للثاني وإنما غايته الاقتران والتلازم كما يقال زرني وأزورك وسلم علينا ونسلم عليك ونحوه مما يقتضي اقتران الفعلين والتعارض من الطرفين كما لو قال عبد لسيده اعتقني ولك علي ألف أو قالت المرأة لزوجها طلقني ولك ألف فإن ذلك بمنزلة قولها بألف أو علي ألف وحينئذ فيكون متى علم الله العلم النافع اقترن به التقوى بحسب ذلك
ونظير الآية قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}
وقوله عقيب ذكر الغيبة: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} ووجه هذا الختام التنبيه على التوبة من الاغتياب وهو من الظلم
وهاهنا بحث وهو أن الأئمة اختلفوا في أن العلم هل يستدعي مطاوعة أم لا على قولين
أحدهما: نعم بدليل قوله تعالى {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} فأخبر عن كل من هداه الله بأنه يهتدي وأما قوله {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} فليس منه لأن المراد بالهداية فيه الدعوة بدليل {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}
والثاني: لا يدل على المطاوعة بدليل قوله {وَمَا نُرْسِلُ بِالآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً} وقوله {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً} لأن التخويف حصل ولم يحصل للكفار خوف نافع يصرفهم إلى الإيمان فإنه المطاوع للتخويف المراد بالآية الكريمة وعلى الأول تكون الفاء للتعقيب في الزمان ويكون أخرجته فما خرج حقيقة
فائدة في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا}
قالوا في قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} إن التقدير منذر إنذارا نافعا من يخشاها قال الشيخ عز الدين ولا حاجة إلى هذا لأن فعل وأفعل إذا لم يترتب عليه مطاوعة كخوف وعلم وشبهة لا يكون حقيقة لأن خوف إذا لم يحصل الخوف وعلم إذا لم يحصل العلم كان مجازا ومنذر من يخشاها يترتب عليه أثره وهو الخشية فيكون حقيقة لمن يخشاها فإذا ليس منذرا من لم يخش لأنه لم يترتب عليه أثر فعلى هذا {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ} فيه جمع بين الحقيقة والمجاز لترتب أثره عليه بالنسبة إلى من يخشى دون من لم يخش
احتمال الفعل للجزم والنصب
فمنه قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} يحتمل أن يكون ما بعد الفاء مجزوما ويحتمل أن يكون منصوبا وإذا كان مجزوما كان داخلا في النهي فيكون قد نهى عن الظلم كما نهى عن قربان الشجرة فكأنه قال {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}
ومنه قوله تعالى {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فإنه يحتمل أن يكون تكتموا مجزوما فهو مشترك مع الأول في حرف النهي والتقدير لا تلبسوا ولا تكتموا أي لا تفعلوا هذا كما في قولك لا تأكل السمك وتشرب اللبن بالجزم أي لا تفعل واحدا من هذين ويحتمل أن يكون منصوبا والتقدير لا تجمعوا بين هذين ويكون مثل لا تأكل السمك وتشرب اللبن والمعنى لا تجمعوا بين هذين الفعلين القبيحين كما تقول لمن لقيته أما كفاك أحدهما حتى جمعت بينهما وليس في هذا إباحة أحدهما والأول أظهر
وقوله {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}،أي ما لم يكن أحد الأمرين المس أو الفرض المستلزم لعدم كل منهما أي لا هذا ولا هذا فإن وجد أحدهما فعليكم الجناح وهو المهر أو نصف المفروض وتفرضوا مجزوم عطفا على تمسوهن
وقيل: نصب وأو بمعنى إلا أن
والصحيح الأول،ولا يجوز تقدير لم بعد أو لفساد المعنى إذ يؤول إلى رفع الجناح عند عدم المس مع الفرض وعدمه وعند عدم الفرض مع المس وعدمه وليس كذلك ولا يقدر فيما انتفى أحدهما للزوم نفي الجناح عند نفي أحدهما ووجود الآخر فلا بد من المحافظة على أحدهما على الإبهام وانسحاب حكم لم عليه
ونظيره {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً}
وقوله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ}
وقوله تعالى: {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} والوجه الجزم ويجوز النصب وقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الآية
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ}
وقوله: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}
وقوله: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}
وقوله في آل عمران: {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}
وقوله في الأعراف: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}
وقوله في الأنفال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
وقوله في سورة التوبة: {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا}
وقوله: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ}
وقوله في سورة يونس: {فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} يجوز أن يكون معطوفا على {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} فيكون منصوبا ويجوز أن يكون منصوبا بالفاء
على جواب الدعاء وأن يكون مجزوما لأنه دعاء
وقوله في سورة يوسف: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ}
وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}
وقوله في سورة هود: {ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُوا} أي بأن لا تعبدوا فيكون منصوبا ويجوز جزمه لأنه نهي
وقوله في سورة النحل: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ} يجوز عطف { وَتَذُوقُوا} على {تَّخِذُوا} أو {فَتَزِلَّ} قبل دخول الفاء فيكون مجزوما
وقوله في سورة الإسراء: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} أي بألا تعبدوا أو على نهي
وفيها {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ}
وقوله في سورة الكهف: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ}
وقوله في الحج: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} يجوز أن يكون لام كي أو لام الأمر وفائدة هذا تظهر في جواز الوقف
وقوله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا} فيمن كسر اللامات
وقوله في النمل {أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} أي بإن أو نهي
وقوله في العنكبوت {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا}
وفي فاطر {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا}
وفي يس {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ }هل هي لام كي أو لام الأمر
وفي المؤمن {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا}
وفي فصلت {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا}
وفي الأحقاف {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ}
وفي القتال {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا}
ويدل على جواز النصب ظهوره في مثله {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ}
وقوله {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ }
وقوله {أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} أي لئلا أو مجزوم وقوله {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً}
وقوله {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} فإن {يَعْتَذِرُونَ} داخل مع الأول في النفي عند سيبويه بدليل قوله {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} فإن كان النطق قد نفي عنهم في ذلك اليوم فالاعتذار نطق فينبغي أن يكون منفيا معطوفا على قوله: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ} ولو حمل على إضمار المبتدأ أي فهم يعتذرون لجاز على أن يكون المعنى في لا ينطقون أنهم وإن نطقوا فمنطقهم كلا نطق لأنه لم يقع الموقع الذي أرادوه كقولهم تكلمت ولم تتكلم
وقوله {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} وعلى الأول يكون هذا قولا في أنفسهم من غير نطق
وقوله تعالى {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} يجوز أن يكون لام كي والفعل منصوب أو لام الأمر والفعل مجزوم وقوله {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} فالظاهر أنه منصوب ويجوز أن يكون مجزوما واللام زائدة ومن نصب {وَيَذَرَكَ} عطفه على {لِيُفْسِدُوا}
رأى
إن كانت بصرية تعدت لواحد أو علميه تعدت لاثنين وحيث وقع بعد البصرية منصوبا كان الأول مفعولها والثاني حالا
ومما يحتمل الأمرين قوله تعالى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} ،فإن كانت بصرية كان الناس مفعولا وسكارى حالا وإن كانت علمية فهما مفعولاها
وكذلك قوله تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً}
وقوله {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ}
فهذه الجملة اعني قوله {وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} في موضع نصب إما على الحال إن كانت بصرية أو مفعول ثان إن كانت قلبية
واعلم أنه قد وقع في القرآن: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا} ،في بعض المواضع بغير واو كما في الأنعام وفي بعضها بالواو وفي بعضها بالفاء {أَفَلَمْ يَرَوْا}
وهذه الكلمة تأتي على وجهين:
أحدهما: أن تتصل بما كان الاعتبار فيه بالمشاهدة فيذكر بالألف والواو ولتدل الألف على الاستفهام والواو على عطف جملة على جملة قبلها وكذلك الفاء لكنها أشد اتصالا مما قبلها
والثاني: أن يتصل بما الاعتبار فيه بالاستدلال فاقتصر على الألف دون الواو والفاء ليجري مجرى الاستئناف
ولا ينتقض هذا الأصل بقوله في النحل {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ} لاتصالها بقوله {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} وسبيلها الاعتبار بالاستدلال فبني عليه {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ}
وأما أرأيت فبمعنى أخبرني ولا يذكر بعدها إلا الشرط وبعده الاستفهام على التقديم والتأخير كقوله تعالى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ} الآية {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً}
وقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ}
وأما رأيت الواقعة في كلام الفقهاء فهي كذلك قال ابن خروف إلا أنهم يلجئون فيها وجوابها أرأيت إن كان كذا وكذا كيف يكون كذا بمعنى عدم الشرط ثم الاستفهام بعده على نمط الآيات الشريفة وهي معلقة عن العمل بما بعدها من الآيات الكريمة وكذلك الرؤية كيف تصرفت
وأما قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} ،فدخلها معنى التعجب كأنه قيل ألم تعجب إلى كذا فتعدت بـ "إلى" كأنه ألم تنظر ودخلت"إلى" بمعنى التعجب وعلق الفعل على جملة الاستفهام وليست ببدل من الرب تعالى لأن الحرف لا يعلق
وأما أرأيتك فقد وقعت هذه اللفظة في سورة الأنعام في موضعين وغيرها وليس لها في العربية نظير لأنه جمع فيها بين علامتي خطاب وهما التاء والكاف والتاء اسم بخلاف الكاف فإنها عند البصريين حرف يفيد الخطاب والجمع بينهما يدل على أن ذلك تنبيها على مبناها عليه من مرتبة وهو ذكر الاستبعاد بالهلاك وليس فيما سواها ما يدل على ذلك فاكتفى بخطاب واحد
قال أبو جعفر بن الزبير: الإتيان بأداة الخطاب بعد الضمير المفيد لذلك تأكيد باستحكام غفلته كما تحرك النائم باليد والمفرط الغفلة باليد واللسان ولهذا حذفت الكاف في آية يونس لأنه لم يتقدم قبلها ذكر صمم ولا بكم يوجب تأكيد الخطاب وقد تقدم قبلها قوله {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} إلى ما بعدهن فحصل تحريكهم وتنبيههم بما لم يبق بعده إلا التذكير بعذابهم انتهى
وقال ابن فارس في قوله تعالى {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ }قال البصريون هذه الكاف زائدة زيدت لمعنى المخاطبة قال محمد بن يزيد وكذلك رويدك زيدا قال والدليل على ذلك أنك إذا قلت أرأيتك زيدا فإنما هي أرأيت زيدا لأن الكاف لو كانت اسما استحال أن تعدى أرأيت إلى مفعولين والثاني هو الأول يريد قولهم أرأيت زيدا قائما لا يعدي رأيت إلا إلى مفعول هو زيد ومفعول آخر هو قائم فالأول هو الثاني
وقال غيره: من جعل الأداة المؤكد بها الخطاب في أرأيتكم ضمير لم يلزمه اعتراض بتعدي فعل الضمير المتصل إلى مضمره المتصل لأن ذلك جائز في باب الظن وفي فعلين من غير باب ظننت وهما فقدت وعدمت وكذلك تعدي فعل الظاهر إلى مضمره المتصل جائز في الأفعال المذكورة والآيات المذكورة من باب الظن لأن المراد بـ "رأيت" رؤية القلب فهي من المستثنى وإنما الممتنع مطلقا تعدي فعل المضمر المتصل إلى ظاهره فلا اختلاف في منع هذا من كل الأفعال
وأما من جرد أداة الخطاب المؤكد بها للحرفية وهو قول الجمهور فلا كلام في ذلك وقد اختلف في موضع الكاف من هذا اللفظ على أقوال:
قال سيبويه: لا موضع لها
وقال السكاكي: موضعها نصب
وقال الفراء: رفع
إذا علمت هذا فلها موضعان: أحدهما أن تكون بمعنى أخبرني فلا تقع إلا على اسم مفرد أو جملة شرط كقوله {أَرَأَيْتُ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} الآية ولا يقع الشرط إلا ماضيا لأن ما بعده ليس بجواب له وإنما هو معلق بـ" أرأيتك" وجواب الشرط إما محذوف للعلم به وإما للاستفهام مع عامله وإذا ثني هذا أو جمع لحقت بالتثنية والجمع الكاف وكانت التاء مفردة بكل حال
قال السيرافي: يجوز أن يكون إفرادهم للتاء استغناء بتثنية الكاف وجمعها لأنها للخطاب وإنما فعلوا ذلك للفرق بين أرأيت بمعنى أخبرني وغيرها إذا كانت بمعنى علمت
والثاني: تكون فيه بمعنى انتبه كقولك أرأيت زيدا فإني أحبه أي انتبه له فإني أحبه ولا يلزمه الاستفهام
وقد يحذف الكلام الذي هو جواب للعلم به فلا يذكر كقوله تعالى { قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ} فلم يأت بجواب
وأتى في موضع آخر بالجواب ولم يأت بالشرط قال تعالى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ} فـ" من" الأول بمنزلة "الذي"

تنبيه
قال سيبويه: لا يجوز إلغاء أرأيت كما يلغى: علمت أزيد عندك أم عمرو؟ ولا يجوز هذا في أرأيت ولا بد من النصب إذا قلت أرأيت زيد أبو من هو؟
قال: لأن دخول معنى أخبرني فيها لا يجعلها بمنزلة أخبرني في جميع أحوالها
قال السهيلي: وظاهر القرآن يقتضي خلاف قوله وذلك أنها في القرآن ملغاة لأن الاستفهام مطلوبها وعليه وقع في قوله {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ} فقوله {أَلَمْ يَعْلَمْ} استفهام وعليه وقعت أرأيت وكذلك أرأيتم وأرأيتكم في الأنعام والاستفهام واقع بعدها نحو {هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} و{الْفَاسِقُونَ}
وهذا هو الذي منع سيبويه في أرأيت وأرأيتك ولا يقال أرأيتك أبو من أنت قال لكن الذي قال سيبويه صحيح لكن إذا ولي الاستفهام أرأيت ولم يكن لها مفعول سوى الجملة
وأما في هذه المواضع التي في التنزيل فليست الجملة المستفهم عنها هي مفعول أرأيت ولم يكن لها مفعول محذوف يدل عليه الشرط ولا بد من الشرط بعدها في هذه الصورة لأن المعنى أرأيتم صنيعكم إن كان كذا وكذا كما تقول أرأيت إن لقيت العدو أتقاتل أم لا تقديره أرأيت رأيك وصنعك إن لقيت العدو فحذف الشرط وهو إن دال على ذلك المحذوف ومرتبط به والجملة المستفهم عنها كلام مستأنف منقطع إلا أن فيها زيادة بيان لما يستفهم عنه ولو زال الشرط ووليها الاستفهام لقبح كما قال سيبويه وغيره في علمت وهل علمت وهل رأيت وإنما يتجه مع أرأيت خاصة وهي التي دخلها معنى أخبرني

علم العرفانية
لا تتعلق إلا بالمعاني نحو: {لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً}
فأما نحو قوله تعالى: {لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} وقوله {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} فالتقدير لا تعلم خبرهم نحن نعلم خبرهم فليعلمن الله صدق الذين صدقوا وليعلمن الله نفاق المنافقين فحذف المضاف
وذكر ابن مالك أنها تختص باليقين وذكر غيره أنها تستعمل في الظن أيضا بدليل قوله { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ }
وله أن يقول: العلم على حقيقته. والمراد بالإيمان التصديق اللساني

ظن
أصلها للاعتقاد الراجح كقوله تعالى {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا}
وقد تستعمل بمعنى اليقين لأن الظن فيه طرف من اليقين لولاه كان جهلا كقوله تعالى {يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ} {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ} وللفرق بينهما في القرآن ضابطان:
أحدهما: أنه حيث وجد الظن محمودا مثابا عليه فهو اليقين وحيث وجد مذموما متوعدا بالعقاب عليه فهو الشك
الثاني: أن كل ظن يتصل بعده "إن" الخفيفة فهو شك كقوله {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} وقوله {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ}
وكل ظن يتصل به إنّ المشددة فالمراد به اليقين كقوله {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ}
والمعنى فيه أنّ المشددة للتأكيد فدخلت على اليقين وأن الخفيفة بخلافها فدخلت في الشك
مثال الأول،قوله سبحانه: {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} ذكر بـ" أن" وقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ}
ومثال الثاني: {وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ} والحسبان الشك
فإن قيل: يرد على هذا الضابط قوله تعالى {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ}
قيل: لأنها اتصلت بالفعل
فتمسك بهذا الضابط فإنه من أسرار القرآن
ثم رأيت الراغب قال في تفسير سورة البقرة
الظن أعم ألفاظ الشك واليقين وهو اسم لما حصل عن أمارة فمتى قويت أدت إلى العلم ومتى ضعفت جدا لم تتجاوز حد الوهم وأنه متى قوي استعمل فيه أنّ المشددة وأن المخففة منها ومتى ضعف استعمل معه إن المختصة بالمعدومين من الفعل نحو ظننت أن أخرج وأن يخرج فالظن إذا كان بالمعنى الأول محمود وإذا كان بالمعنى الثاني فمذموم
فمن الأول: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ}
ومن الثاني: {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ}وقوله {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}

فائدة
لا يجوز الاقتصار في باب ظن على أحد المفعولين إلا أن يكون بمنزلة أنهم قالوا قوله تعالى {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} قرأ الحرميان وابن كثير بالظاء وهو فعيل بمعنى مفعول والضمير هو المفعول الذي لم يسم فاعله وقرأه الباقون بالضاد وهو بمعنى فاعل وفيه ضمير هو فاعله والمعنى بخيل على الغيب فلا يمنعه كما تفعله الكهان والمعنى على القراءة الأولى ليس بمتهم على الغيب لأنه الصادق
وأما قوله {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} فإنها بمنزلتها في قولك نزلت بزيد

شعر
ومنه شعر بمعنى علم ومصدره شعرة بكسر الشين كالفطنة وقالوا ليت شعري فحذفوا التاء مع الإضافة للكثرة قال الفارسي وكأنه مأخوذ من الشعار وهو ما يلي الجسد فكأن شعرت به علمته علم حس فهو نوع من العلم ولهذا لم يوصف به الله
وقوله تعالى في صفة الكفار: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أبلغ في الذم للبعد عن الفهم من وصفهم بأنهم لا يعلمون فإن البهيمة قد تشعر بحيث كانت تحس فكأنهم وصفوا بنهاية الذهاب عن الفهم
وعلى هذا قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} إلى قوله {وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} ولم يقل لا تعلمون لأن المؤمنين إذا أخبرهم الله تعالى بأنهم أحياء علموا أنهم أحياء فلا يجوز أن ينفي عنهم العلم ولكن يجوز أن يقال {لا تَشْعُرُونَ} لأنه ليس كل ما علموه يشعرون به كما أنه ليس كل ما علموه يحسونه بحواسهم فلما كانوا لا يعلمون بحواسهم حياتهم وأنهم علموها بإخبار الله وجب أن يقال {لا تَشْعُرُونَ} دون لا تعلمون
عسى ولعل
من الله تعالى واجبتان وإن كانتا رجاء وطمعا في كلام المخلوقين لأن الخلق هم الذين يعرض لهم الشكوك والظنون والبارئ منزه عن ذلك
والوجه في استعمال هذه الألفاظ أن الأمور الممكنة لما كان الخلق يشكون فيها
ولا يقطعون على الكائن منها وكان الله يعلم الكائن منها على الصحة صارت لها نسبتان:
نسبة إلى الله تعالى تسمى نسبة قطع ويقين ونسبة إلى المخلوق وتسمى نسبة شك وظن فصارت هذه الألفاظ لذلك ترد تارة بلفظ القطع بحسب ما هي عليه عند الله كقوله {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}
وتارة بلفظ الشك بحسب ما هي عليه عند المخلوقين كقوله {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً}
وقوله: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} وقد علم الله حين أرسلهما ما يفضى إليه حال فرعون لكن ورد اللفظ بصورة ما يختلج في نفس موسى وهارون من الرجاء والطمع فكأنه قال انهضا إليه وقولا في نفوسكما لعله يتذكر أو يخشى
ولما كان القرآن قد نزل بلغة العرب جاء على مذاهبهم في ذلك والعرب قد تخرج الكلام المتيقن في صورة المشكوك لأغراض فتقول لا تتعرض لما يسخطني فلعلك إن تفعل ذلك ستندم وإنما مراده أنه يندم لا محالة ولكنه أخرجه مخرج الشك تحرير للمعنى ومبالغة فيه أي أن هذا الأمر لو كان مشكوكا فيه لم يجب أن تتعرض له فكيف وهو كائن لا شك فيه
وبنحو من هذا فسر الزجاج قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}
وأما قوله: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ}،فاطلاعه إلى الإله مستحيل فبجهله اعتقد في المستحيل الإمكان لأنه يعتقد في الإله الجسمية والمكان
ونص ابن الدهان في لعل جواز استعماله في المستحيل محتجا بقوله لعل زمانا تولى يعود
وقال أيضا: كل ما وقع في القرآن من عسى فاعلها الله تعالى فهي واجبة وقال قوم إلا في موضعين قال تعالى {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} ولم يطلقهن ولم يبدل بهن
وقوله: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} وهذه في بني النضير وقد سباهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقتلهم وأبادهم
وقال أيضا: وهذا عندي متأول لأن الأول تقديره إن طلقكن يبدله وما فعل فهذا شرط يقع فيه الجزاء ولم يفعله والثاني تقديره إن عدتم رحمكم وهم أصروا وعسى على بابها
قال: وعسى ماضي اللفظ والمعنى لأنه طمع وذلك حصل في شيء مستقبل
وقال: قوم ماضي اللفظ مستقبل في المعنى لأنه أخبر عن طمع يريد أن يقع
واعلم أن عسى تستعمل في القرآن على وجهين:
أحدهما: ترفع اسما صريحا ويؤتى بعده بخبر ويلزم كونه فعلا مضارعا نحو عسى زيد أن يقوم فلا يجوز قائما لأن اسم الفاعل لا يدل على الزمان الماضي قال الله تعالى {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} فيكون أن والفعل في موضع نصب بـ" عسى"
وقال الكوفيون في موضع رفع بدل
ورد بأنه لا يجوز تركه ويجوز تقديمه عليه
الثاني: أن يكون المرفوع بها أن والفعل وهو عسى أن يقوم زيد فلا يفتقر هنا إلى منصوب
ونظيره: {وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ}
ومنه قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} لا يجوز رفع ربك بـ "عسى" لئلا يلزم الفصل بين الصلة والموصول بالأجنبي وهو ربك لأن مقاما محمودا منصوب بـ" يبعثك"
وكذلك كقوله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} لأن الضميرين متصلان بـ" تكرهوا" و"تحبوا" فلا يكون في عسى ضمير

اتخذ
قال تعالى: {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} قال الفارسي: ولا أعلم تخذت يتعدى إلا إلى واحد
وقيل: أصل اتخذت تخذت فأما اتخذت فعلى ثلاثة أضرب:
أحدهما: ما يتعدى به إلى مفعول واحد كقوله تعالى: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً}
{أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ}
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً}
{لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا}
{كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً}
والثاني: ما يتعدى لمفعولين والثاني منهما الأول في المعنى
وهما إما مذكوران كقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً}
وقال: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}
{فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً}
وإما مع حذف الأول،كقوله: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً} ،فمفعول اتخذوا الأول،الضمير المحذوف الراجع إلى الذين الثاني آلهة وقربانا على الحال.
قال الكواشي ولو نصب قربانا مفعولا ثانيا وآلهته بدلا منه فسد المعنى
وإما مع حذف الثاني،كقوله: {اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ}
{اتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ}
{اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ}
{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً}، تقديره في الجميع اتخذوه آلهة لأن نفس اقتناء العجل لا يلحقه الوعيد الشديد فيتعين تقدير آلهة
الثالث: ما يجوز فيه الأمران كقوله تعالى {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}
فإن جوزنا زيادة من في الإيجاب كان من المتعدي لاثنين وإن منعنا كان لواحد
ونظيره جعلت قال {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} ،أي خلقهما
فإذا تعدى لمفعولين كان الثاني الأول في المعنى كقوله: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}

أخذ
تجيء بمعنى غصب ومنه من أخذ قيد شبر من أرض طوق من سبع أرضين
وبمعنى عاقب كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}
{أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}
{وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ}
{وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ}
{فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ}
{لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ}
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا}
و{لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}
{ا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}
وتجيء للمقاربة،قالوا: أخذ يفعل كذا كما قالوا جعل يقول وكرب يقول وتجيء قبل القسم كقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ}
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ}
وبمعنى اعمل كقوله تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} أي اعملوا بما أمرتم به وانتهوا عما نهيتهم عنه بجد واجتهاد

سأل
تتعدى لمفعوليين كأعطى ويجوز الاقتصار على أحدهما
ثم قد تتعدى بغير حرف كقوله تعالى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ}
وقد تتعدى بالحرف إما بالباء كقوله: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}
وإما بـ "عن" كقولك: سل عن زيد وكذا {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ} والمتعدية لمفعولين ثلاثة أضرب:
أحدها: أن تكون بمنزلة أعطيت كقولك سألت زيدا بعد عمرو حقا أي استعطيته أو سألته أن يفعل ذلك
والثاني: بمنزلة: اخترت الرجال زيدا كقوله تعالى: {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} ،أي عن حميم لذهوله عنه
والثاني: أن يقع موقع الثاني منهما استفهام كقوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ}
{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}
وأما قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} ، فالمعنىسأل: سائل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو المسلمين بعذاب واقع فذكر المفعول الأول وسؤالهم عن العذاب إنما هو استعجالهم له كاستبعادهم لوقوعه ولردهم ما يوعدون به منه
وعلى هذا: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ}
وأما قوله تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} فيجوز أن تكون" من" فيه موضع المفعول الثاني وإن يكون المفعول الثاني محذوفا والصفة قائمة مقامه
وأما قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} فيحتمل أن عنها متعلقة بالسؤال كأنه يسألونك عنها كأنك حفي عنها فحذف الجار والمجرور فحسن ذلك لطول الكلام ويجوز أن يكون: {عَنْهَا} بمنزلة بها وتتصل بالحفاوة

وعد
فعل يتعدى لمفعوليين يجوز الاقتصار على أحدهما كأعطيته وليس كظننت، قال تعالى: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ} فـ "جانب" مفعول ثان ولا يكون ظرفا لاختصاصه أي وعدناكم إتيانه أو مكثا فيه
وقوله تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} فالغنيمة تكون الغنم
فإن قلت: الغنم حدث لا يؤخذ إنما يقع الأخذ على الأعيان دون المعاني
قلت: يجوز أن يكون سمى باسم المصدر كالخلق والمخلوق أو يقدر محذوف أي تمليك مغانم
فأما قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ}
فإن الفعل لم يتعد فيه إلى مفعول ثان ولكن قوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} ولهم: {مَغْفِرَةً} تفسير للوعد كما أن قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} تبيين للوصية في قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ}
وأما قوله تعالى: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً}{إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} ،فيحتمل انتصاب الواحد بالمصدر أو بأنه المفعول الثاني وسمى الموعود به الوعد كالمخلوق الخلق
وأما قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} و{إِحْدَى} في موضع نصب مفعول ثان و{أَنَّهَا لَكُمْ} بدل منه أي إتيان إحدى الطائفتين أو تمليكه والطائفتان العير والنصر
وأما قوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ} فمن قدر في أن الثانية البدل
فينبغي أن يقدر محذوفا ليتم الكلام فيصح البدل والتقدير أيعدكم إرادة أنكم إذا متم ليكون اسم الزمان خبرا عن الحدث ومن قدر في الثانية البدل لم يحتج إلى ذلك
وأما قوله: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ}
فالجملة في موضع جر صفة للنكرة وقد عاد الضمير فيها إلى الموصوف والفعل متعد إلى واحد
وأما قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً} فلا يجوز أن يكون ثلاثين ظرفا لأن الوعد ليس في كلها بل في بعضها فيكون مفعولا ثانيا

ود
قال أبو مسلم الأصبهاني بمعنى تمنى يستعمل معها لو وإن وربما جمع بينهما نحو ودوا لو أن فعل ومصدره الودادة والاسم منه وُدّ وقد يتداخلان في الاسم والمصدر
وقال الراغب إذا كان ود بمعنى أحب لا يجوز إدخال لو فيه أبدا
وقال علي بن عيسى، إذا كان بمعنى تمنى صلح للمضي والحال والاستقبال وإذا كان بمعنى المحبة لم يصلح للماضي لأن الإرادة هي استدعاء الفعل وإذا كان للماضي لم يجز "أن" وإذا كان للحال أو للاستقبال جاز "أن" و"لو" وفيما قاله نظرا لأن "أن" توصل بالماضي نحو سرني أن قمت
قلت فكان الأحسن الرد عليه بكلامه وهو انه جوز إذا كان بمعنى الحال دخول أن وهي للمستقبل فقد خرجت عن موضعها.

[ البرهان في علوم القرآن ( 4 / 117 ـ 167 ) ]


رد مع اقتباس
  #22  
قديم 12 ذو القعدة 1430هـ/30-10-2009م, 06:57 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي


أفعل التفضيل
فيه قواعد
الأولى إذا أضيف إلى جنسه لم يكن بعضه كقولك زيد أشجع الأسود وأجود السحب فيصير المعنى زيد أشجع من الأسود وأجود من السحب وعليه قوله تعالى { خير الرازقين } و{ أحكم الحاكمين } و{ أحسن الخالقين }
أي خير من كل من تسمى برازق واحكم من كل من تسمى بحاكم كذا قاله ابو القاسم السعدي
قال الشيخ أثير الدين الذي تقرر عن الشيوخ أن أفعل هذه لا تضاف إلا ويكون المضاف بعض المضاف إليه فلا يقال هذا الفرس اسبق الحمير لأنه ليس بعض الحمير وعلى هذا بنى البصريون منع زيد افضل إخوته واجازوا أفضل الإخوة إلا إذا أخرجت عن معناها فإنه قد يجوز ذلك عن بعضهم
الثانية إذا ذكر بعد أفعل جنسه وواحد من آحاد جنسه وجب إضافته إليه كقولك زيد أحسن الرجال واحسن رجل
وإذا ذكر بعد ما هو من متعلقاته وجب نصبه على التمييز نحو زيد احسن وجها واغزر علما
وقد أشكل على هذه القاعدة قوله تعالى: {أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} وقوله: {أَزْكَى طَعَاماً} فقد أضيف إلى غير جنسه وانتصب
وقد تأول العلماء هذا حتى رجعوا به إلى جعل أشد لغير الخشية فقال الزمخشري معنى: {يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ} أي مثل أهل خشية الله أو مثل قوم أشد خشية من أهل خشية الله
قال ابن الحاجب وعلى مثل هذا يحمل ما خالف هذه القاعدة
الثالثة: الأصل فيه الأفضلية على ما أضيف إليه وأشكل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} لأن معناه ما من آية من التسع إلا وهي أكبر من كل واحدة منها فاضلة ومفضولة في حالة واحدة
وأجاب الزمخشري بأن الغرض وصفهن بالكبر من غير تفاوت فيه وكذلك العادة في الأشياء التي تتفاوت في الفضل التفاوت اليسير أن تختلف آراء الناس في تفضيلها وربما اختلف آراء الواحد فيها كقول الحماسي:
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم
مثل النجوم التي يهدي بها الساري
وأجاب ابن الحاجب بأن المراد الأعلى أكبر من أختها عندهم وقت حصولها لأن لمشاهدة الآية في النفس أثر عظيما ليس للغائب عنها
الرابعة: قالوا: لا ينبني من العاهات: فلا يقال: ما أعور هذه الفرس وأما قوله تعالى:
{وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى} ففيه وجهان:
أحدهما: أنه من عمى القلب الذي يتولد من الضلالة وهو ما يقبل الزيادة والنقص لا من عمى البصر الذي يحجب المرئيات عنه
وقد صرح ببيان هذا المعنى قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}
وعلى هذا فالأول اسم فاعل والثاني أفعل تفضيل من فقد البصيرة
والثاني: أنه من عمى العين والمعنى من كان في هذه أعمى من الكفار فإنه يحشر أعمى فلا يكون أفعل تفضيل
ومنهم من حمل الأول، على عمى القلب والثاني على فقد البصيرة وإليه ذهب أبو عمرو فأمال الأول وترك الإمالة في الثاني لما كان اسما والاسم أبعد من الإمالة
الخامسة: يكثر حذف المفضول إذا دل عليه دليل وكان أفعل خبرا كقوله تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}
{ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا}
{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}
{وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}
{إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}
{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً}
{أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً}
{فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً}
وقد يحذف المفضول وأفعل ليس بخبر كقوله تعالى: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}
السادسة: قد يجيء مجردا عن معنى التفضيل فيكون للتفضيل لا للأفضلية
ثم هو تارة يجيء مؤولا باسم الفاعل كقوله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ}
ومؤولا بصفة مشبهة كقوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}
فـ "أعلم" هاهنا بمعنى عالم بكم إذ لا مشارك لله تعالى في علمه بذلك وأهون عليه بمعنى هين إذ لا تفاوت في نسبة المقدورات إلى قدرته تعالى
وقوله تعالى: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ}
وقوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}
أو لفظا لا معنى،كقوله تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ}
و{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ}
وأما قوله تعالى: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} فمعناه الضرر بعبادته أقرب من النفع بها
فإن قيل كيف قال: {أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} ولا نفع من قبله البتة؟
قيل لما كان في قوله: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} تبعيد لنفعه والعرب تقول لما لم يصح في اعتقادهم هذا بعيد جاز الإخبار بـ" بعد" نفع الوثن والشاهد له قوله تعالى حكاية عنهم
{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}
السابعة: أفعل في الكلام على ثلاثة أضرب:
مضاف كقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}
ومعرف باللام،نحو: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} و{لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ}
وخال منهما ويلزم اتصاله بـ" من" التي لابتداء الغاية جارة للمفضل عليه كقوله تعالى: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً}
وقد يستغنى بتقديرها عن ذكرها كقوله تعالى: {وَأَعَزُّ نَفَراً}
ويكثر ذلك إذا كان أفعل التفضيل خبرا كقوله: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}
وحيث أضيف إنما يضاف إلى جمع معرف نحو أحكم الحاكمين ولا يجوز زيد أفضل رجل ولا أفضل رجال لأنه لا فائدة فيه لأن كل شخص لا بد أن يكوّن جماعة يفضلها وإنما الفائدة في أن تقول أفضل الرجال
فأما قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} فجوابه أنه غير مضاف إليه تقديرا بل المضاف إليه محذوف وقامت صفته مقامه وكأنه قال أسفل قوم سافلين ولا خلاف أنه يضاف إلى اسم الجمع معرفا ومنكرا نحو أفضل الناس والقوم وأفضل ناس أفضل قوم
فإن قيل لم أجازوا تنكير هذا ولم يجيزوا ذلك في الجمع؟
قلت: لأن أفضل القوم ليس من ألفاظ الجموع بل من الألفاظ المفردة فخففوه بترك الألف واللام الثانية إذا كان أفعل بالألف واللام أو مضافا جاز تثنيته وجمعه قال تعالى: {وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} و{بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً}
وقال في المفرد {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا}
وقال في الجمع: {أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} و{إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا}
وتقول في المؤنث هذه الفضلى قال تعالى: {إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ} {فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} وحكم فعلى حكم أفعل لا يستعمل بغير "من" إلا مضافا أو معرفا بأل وأما قوله: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فقالوا إنه على تقدير من أي وأخر منها متشابهات

تنبيه
لفظ سواء
سواء: أصله بمعنى الاستواء وليس له اسم يجرى عليه يقال استوى استواء وساواه مساواة لا غير فإذا وقع صفة كان بمعنى مستو ولهذا تقول هما سواء هم سواء كما تقول هما عدل وهم عدل والسواء التام ومنه درهم سواء أي تام
ومنه قوله تعالى: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً} أي مستويات ومن نصب فعلى المصدر أي استوت استواء كذا قال سيبويه،وجوز غيره أن يكون حالا من النكرة
ويجيء السواء بمعنى الوسط كقوله تعالى: {إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أي عدل وهو الحق
قال ابن أبي الربيع: وسواء لا يرفع الظاهر إلا إذا كان معطوفا على المضمر في سواء وهو مرفوع بسواء وهو مما جاز في المعطوف ما لا يجوز في المعطوف عليه.


[ البرهان في علوم القرآن ( 4 / 167 ـ 174 )]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
السادس, النوع

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:01 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir