فائدة
[في حذف الجار ثم إيصال الفعل إلى المجرور].
كثر في القرآن حذف الجار ثم إيصال الفعل إلى المجرور به كقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} أي من قومه.
{وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} أي على عقدة.
{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} ، أي يخوفكم بأوليائه، ولذلك قال: {فَلا تَخَافُوهُمْ}.
{وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} أي يبغون لها.
{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاه} أي قدرنا له.
{سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا} أي على سيرتها.
فصل.
[فيما حذف في آية وأثبت في أخرى].
من الأنواع ما حذف في آية وأثبت في أخرى وهو قسمان:.
أحدهما: أن يكون ما حذف منه محمولا على المذكور كالمطلق في الرقبة في كفارة لظهار مقيدا بالمؤمنة في كفارة القتل.
وكقوله: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ}، قيدت بالتشبيه في موضع آخر ومنه قوله تعالى في سورة البقرة: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} وقوله في سورة النحل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} فإن هذه تقتضي أن الأولى على حذف مضاف.
والقسم الثاني : لا يكون مرادا. فمنه قوله تعالى في سورة المؤمنين: {لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} وفي الزخرف: {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ}.
وقوله في البقرة: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وفي سورة الأعراف: {أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.
وحكمته: أنه قد اختلف الخبران في سورة البقرة فلذلك دخل العاطف بخلاف الخبرين في الأعراف فإنهما متفقان لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم واحد فكانت الجملة الثالثة مقررة ما في الأولى فهي من العطف بمعزل.
ومنه قوله تعالى في البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} وقال في يس: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} مع العاطف وحكمته أن ما في يس وما بعده جملة معطوفة على جملة أخرى فاحتاجت إلى العاطف والجملة هنا ليست معطوفة فهي من العطف بمعزل.
ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ} فأثبت الواو في الأعراف وحذفها في الكهف فقال: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى} والفرق بينهما أن الذي في الأعراف خطاب لجمع وأصله تدعونهم حذفت للجزم والتي في الكهف خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو واحد وعلامة الجزم فيه سقوط الواو.
ومنه في آل عمران: {جاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} وفي فاطر: {جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} والفرق أن الأولى حذفت الباء ففيها للاختصار استغناء بالتي قبلها وخرجت عن الأصل للتوكيد وتقدير المعنى كما تقول مررت بك وبأخيك وبأبيك إذا اختصرت.
ومنه قوله في قصة ثمود: {مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} وفي قصة شعيب: {وَمَا أَنْتَ} بالواو، والفرق أن الأولى جرى على انقطاع الكلام عند النحويين واستئناف {وَمَا أَنْتَ} فاستغنى عن الواو لما تقرر من الابتداء وفي الثانية جرى في العطف وأن يكون قوله: {وَمَا أَنْتَ} معطوفا على {إِنَّمَا أَنْتَ}.
ومنه قوله تعالى في سورة النحل: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} وفي سورة النمل: {وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ} بإثبات النون وحكمته أن القصة لما طالت في سورة النحل ناسب التخفيف بحذف النون بخلافه في سورة النمل فإن الواو استئنافية ولا تعلق لها بما قبلها.
وقوله في البقرة: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} وفي آل عمران: {فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} وحكمته أن الخطاب في البقرة لليهود وهم أشد جدالا.
ومنه قوله في الأعراف: {لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} وفي الأنعام: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا}.
ومنه قوله تعالى: في سورة البقرة { ويقتلون النبيين بغير الحق } 1 وفي سورة آل عمران { بغير حق } والحكمة فيه أن الجملة في آل عمران خرجت مخرج الشرط وهو عام فناسب أن يكون النفي بصيغة التنكير حتى يكون عاما وفي سورة البقرة جاء عن أناس معهودين وهو قوله تعالى { ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق } فناسب أن يؤتى بالتعريف لأن الحق الذي كان يستباح به قتل الأنفس عندهم كان معروفا كقوله تعالى { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } فالحق هنا الذي تقتل به الأنفس معهود معروف بخلاف ما في سورة آل عمران
ومنه قوله تعالى في هود حاكيا عن شعيب { ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون } وأمر نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول لقريش { ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون }
ويمكن أن يقال لما كررت مراجعته لقوم ناسب اختصاص قصته بالاستئناف الذي هو أبلغ في الإنذار والوعيد وأما نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكانت مدة إنذاره لقومه قصيرة فعقب عملهم على مكافأتهم بوعيدهم بالفاء إشارة إلى قرب نزول الوعيد لهم بخلاف شعيب فإنه طالت مدته في قومه فاستأنف لهم ذكر الوعيد
ولعل قوم شعيب سألوه السؤال المتقدم فأجابهم بهذا الجواب والفاء لا تحسن فيه والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل ذلك جوابا للسؤال ولا يحسن معه الحذف
ومنه أنه تعالى قال في خطاب المؤمنين { هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } ، إلى أن قال: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، وقال في خطاب الكافرين: {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}، {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}.
قال الزمخشري في تفسير سورة إبراهيم: ما علمته جاء الخطاب هكذا في القرآن إلا في خطاب الكافرين وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين ولئلا يسوي بين الفريقين في الميعاد.
واعترض الإمام فخر الدين بأن هذا التبعيض إن حصل فلا حاجة إلى ذكر هذا الجواب وإن لم يحصل كان هذاالكلام فاسدا.
وقال الشيخ أثير الدين أبو حيان في تفسيره: ويقال: ما فائدة الفرق في الخطاب والمعنى مشترك؟ إذ الكافر إذا آمن والمؤمن إذا تاب مشتركان في الغفران وما تخيلت فيه مغفرة بعض الذنوب منالكافر إذا هو آمن موجود في المؤمن إذا تاب.
وسيأتي بسط الكلام على ذلك في آخر الكتاب.
الإيجاز.
وهو قسم من الحذف ويسمى إيجاز القصر فإن الإيجاز عندهم قسمان وجيز بلفظ ووجيز بحذف.
فالوجيز باللفظ أن يكون اللفظ بالنسبة إلى المعنى أقل من القدرالمعهود عادة وسبب حسنه أنه يدل على التمكن في الفصاحة ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أوتيت جوامع الكلم ".و.
اللفظ لا يخلو إما أن يكون مساويا لمعناه وهو المقدر أو أقل منه وهو المقصور.
أما المقدر فكقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} الاية.
وقوله: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} وهو كثير.
وأما المقصور فإما أن يكون نقصان لفظه عن معناه لاحتمال لفظه لمعان كثيرة أولا.
الأول: كاللفظ المشترك الذي له مجازان، أو حقيقة ومجاز إذا أريد معانيه كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} فإن الصلاة من الله مغايرة للصلاة من الملائكة والحق أنه من القدر المشترك وهو الاعتناء والتعظيم وكذلك قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} الآية. فإن السجود في الكل يجمعه معنى واحد وهو الانقياد.
والثاني: كقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}.
وقوله: {أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}.
وكذلك قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} إذ معناه كبير ولفظه يسير.
وقد نظر لقول العرب:" القتل أنفى للقتل "وهو بنون ثم فاء ويروي بتاء ثم قاف ويروي " أوقى " والمعنى أنه إذا أقيم وتحقق حكمة خاف من يريد قتل أحد أن يقتص منه وقد حكاه الحوفي في تفسيره عن علي بن أبي طالب وقال: قول علي في غاية البلاغة وقد أجمع الناس على بلاغته وفصاحته وأبلغ منه قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وقد تكلموا في وجه الأبلغية. انتهى.
وقد أشار صاحب "المثل السائر" إلى إنكار ذلك وقال: لا نسبة بين كلام الخالق عز وجل وكلام المخلوق وإنما العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك.
وهو كما قال وكيف يقابل المعجز بغيره مفاضلة وهو منه في مرتبة العجز عن إدراكه:
وماذا يقول القائلون إذا بدا جمال خطاب فات فهم الخلائق
وجملة ما ذكروا في ذلك وجوه:.
أحدها: أن قوله: {الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أوجز فإن حروفه عشرة وحروف "القتل أنفى للقتل" أربعة عشر حرفا والتاء وألف الوصل ساقطان لفظا وكذا التنوين لتمام الكلام المقتضى للوقف.
الثاني: أن قولهم فيه كلفة بتكرير القتل ولا تكرير في الآية.
الثالث : أن لفظ القصاص فيه حروف متلائمة لما فيه من الخروج من القاف إلى الصاد إذ القاف من حروف الاستعلاء والصاد من حروف الاستعلاء والإطباق، بخلاف الخروج من القاف إلى التاء التي هي حرف منخفض فهو غير ملائم وكذا الخروج من الصاد إلى الحاء أحسن من الخروج من اللام إلى الهمزة لبعد مادون طرف اللسان وأقصى الحلق.
الرابع: في النطق بالصاد والحاء والتاء حسن الصوت ولا كذلك تكرير القاف والفاء.
الخامس: تكرير ذلك في كلمتين متماثلتين بعد فصل طويل وهو ثقل في الحروف أو الكلمات.
السادس: الإثبات أول والنفي ثان عنه والإثبات أشرف.
السابع: أن القصاص المبني على المساواة أوزن في المعادلة من مطلق القتل ولذلك يلزم التخصيص بخلاف الآية.
الثامن: الطباع أقبل للفظ الحياة من كلمة القتل لما فيه من الاختصار وعدم تكرار الكلمة وعدم تنافر الحروف وعدم تكرار الحرفين وقبول الطبع للفظ "الحياة" وصحة الإطلاق.
التاسع : أن نفي القتل لا يستلزم الحياة والآية ناصة على ثبوتها التي هي الغرض المطلوب منه.
العاشر: أن قولهم لا يكاد يفهم إلا بعد فهم أن القصاص هو الحياة وقوله في القصاص حياة مفهوم لأول وهلة.
الحادي عشر: أن قولهم خطأ فإن القتل كله ليس نافيا للقتل فإن القتل العدواني لا ينفى القتل وكذا القتل في الردة والزنا لا ينفيه وإنما ينفيه قتل خاص.
وهو قتل القصاص الذي في الآية تنصيص على المقصود والذي في المثل لا يمكن حمله على ظاهره.
الثاني عشر: فيه دلالة على ربط المقادير بالأسباب وإن كانت الأسباب أيضا بالمقادير وكلام العرب يتضمنه إلا أن فيه زيادة وهي الدلالة على ربط الأجل في الحياة بالسبب لا من مجرد نفي القتل.
الثالث عشر: في تنكير "حياة" نوع تعظيم يدل على أن في القصاص حياة متطاولة كقوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} ولا كذلك المثل فإن اللام فيه للجنس ولهذا فسروا الحياة فيها بالبقاء.
الرابع عشر: فيه بناء أفعل التفضيل من متعد والآية سالمة منه الخامس عشر: أن أفعل في الغالب تقتضي الاشتراك فيكون ترك القصاص نافيا القتل ولكن القصاص أكثر نفيا وليس الأمر كذلك والآية سالمة من هذا.
السادس عشر: أن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكن اللسان من النطق وظهرت فصاحته بخلافه إذا تعقب كل حركة سكون والحركات تنقطع بالسكنات نظيره إذا تحركت الدابة أدنى حركة فخنست ثم تحركت فخنست لا يتبين انطلاقها ولا تتمكن من حركتها على ما تختاره وهي كالمقيدة وقولهم: "القتل أنفي للقتل" حركاته متعاقبة بالسكون بخلاف الآية.
السابع عشر: الآية اشتملت على فن بديع وهو جعل أحد الضدين الذي هو الفناء والموت محلا ومكانا لضده الذي هو الحياة واستقرار الحياة في الموت مبالغة عظيمة ذكره في الكشاف.
الثامن عشر: أن في الآية طباقا لأن القصاص مشعر بضد الحياة بخلاف المثل.
التاسع عشر: القصاص في الأعضاء والنفوس وقد جعل في الكل حياة فيكون جمعا بين حياةالنفس والأطراف وإن فرض قصاص بما لا حياة فيه كالسن فإن مصلحة الحياة تنقص بذهابه ويصير كنوع آخر وهذه اللطيفة لا يتضمنها المثل.
العشرون: أنها أكثر فائدة لتضمنه القصاص في الأعضاء وأنه نبه على حياة النفس من وجهين من وجه به القصاص صريحا ومن وجه القصاص في الطرف لأن أحد أحوالها أن يسري إلى النفس فيزيلها ولا كذلك المثل.
وقد قيل غير ذلك.
وأما زيادة {لكم} ففيها لطيفة وهي بيان العناية بالمؤمنين على الخصوص وأنهم المراد حياتهم لا غيرهم لتخصيصهم بالمعنى مع وجوده فيمن سواهم.
والحاصل أن هذا من البيان الموجز الذي لا يقترن به شيء.
ومن بديع الإيجاز قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ}. الآية، فإنها نهاية التنزيه.
وقوله: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}، وهذا بينا عجيب يوجب التحذير من الاغترار بالإمهال.
وقوله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} ، وهذا من أحسن الوعد والوعيد.
وقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} فهذه ثلاث كلمات اشتملت على جميع ما في الرسالة.
وقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، فهذه جمعت مكارم الأخلاق كلها لأن في {خُذِ الْعَفْوَ} صلة القاطعين والصفح عن الظالمين وفي الأمر بالمعروف تقوى الله وصلة الأرحام وصرف اللسان عن الكذب وفي الإعراض عن الجاهلين الصبر والحلم وتنزيه النفس عن مماراة السفيه.
قوله: {مُدْهَامَّتَانِ} معناه مسودتاه من شدة الخضرة.
وقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}.
وقوله: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} فدل بأمرين على ججميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للأنام من العشب والشجر والحب والتمر والعصف والحطب واللباس والنار والملح لأن النار من العيدان والملح من الماء.
وقوله: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ}، فدل على نفسه ولطفه ووحدانيته وقدرته وهدى للحجة عل من ضل عنه لأنه لو كان ظهور الثمرة بالماء والتربة لوجب في القياس ألا تختلف الطعوم والروائح ولا يقع التفاضل في الجنس الواحد إذا نبت في مغرس واحد ولكنه صنع اللطيف الخبير.
وقوله: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ}، كيف نفى بهذين جميع عيوب الخمر وجمع بقوله: {وَلا يُنْزِفُونَ} عدم العقل وذهاب المال ونفاد الشراب.
وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} فدل على فضل السمع والبصر حيث جعل مع الصم فقدان العقل ولم يجعل مع العمي إلا فقدان البصر وحده.
وقوله: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} كيف أمر ونهى وأخبر ونادى ونعت وسمى وأهلك وأبقى وأسعد وأشقى قص من الأنباء مالو شرح ما اندرج في هذه الجملة من بديع اللفظ والبلاغة والإيجاز والبيان لجفت الأقلام وانحسرت الأيدي.
وقوله تعالى عن النملة: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} فجمع في هذه اللفظة أحد عشر جنسا من الكلام نادت وكنت ونبهت وسمعت وأمرت وقضت وحذرت وخصت وعمت وأشارت وغدرت فالنداء "يا" والكناية " أيّ " والتنبيه "ها" والتسمية النمل والأمر "ادخلوا" والقصص "مساكنكم" والتحذير "لا يحطمنكم" والتخصيص سليمان والتعميم جنوده والإشارة "وهم" والغدر لا يشعرون. فأدت خمس حقوق حق الله وحق رسوله وحقها وحق رعيتها وحق جنود سليمان فحق الله أنها استرعيت على النمل فقامت بحقهم وحق سليمان أنها نبهته على النمل وحقها إسقاطها حق الله عن الجنود في نصحهم4 وحق الجنود بنصحها لهم ليدخلوا مساكنهم وحق الجنود إعلامها إياهم وجميع الخلق أن من.
استرعاه رعية فوجب عليه حفظها والذب عنها وهو داخل في الخبر المشهور: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ".
ويقال إن سليمان عليه السلام لم يضحك في عمره إلا مرة واحدة وأخرى حين أشرف على وادي النمل فرآها على كبر الثعالب لها خراطيم وأنياب فقال رئيسهم: ادخلوا مساكنكم فخرج كبير النمل في عظم الجواميس فلما نظر إليه سليمان هاله فأراه الخاتم فخضع له ثم قال: أهذه كلها نمل ؟ فقال: إن النمل لكبيرة إنها ثلاثة اصناف: صنف في الجبال وصنف في القرى وصنف في المدن. فقال سلميان عليه السلام: اعرضها علي فقال له: قف. فبقى سليمان عليه السلام تسعين يوما واقفا يمر عليه النمل، فقال: هل انقطعت عساكركم، فقال ملك النمل: لو وقفت إلى يوم القيامة ما انقطعت. فذكر الجنيد أن سليمان عليه السلام قال لعظيم النمل: لم قلت للنمل: ادخلوا مساكنكم ؟ أخفت عليهم من ظلمنا ؟ قال: لا، ولكن خفت أن يفتتنوا بما رأوا من ملكك فيشغلهم ذلك عن طاعة الله.
وقوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وهذا أشد ما يكون من الحجاج.
وقوله: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} وهذا أعظم ما يكون من التحسير.
وقوله: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} وهذا أشد ما يكون من التنفير عن الخلة إلا على التقوى.
وقوله: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}، وهذا أشد ما يكون من التحذير من التفريط.
وقوله: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، وهذا أشد ما يكون من التبعيد.
وقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}، فهذا أعظم ما يكون من التخيير.
وقوله: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} ، وهذا أبلغ ما يكون من التذكير.
وقوله: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}، وهذا أشد ما يكون في التقريع على التمادى في الباطل.
وقوله: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}، وهذا أشد ما يكون من التقريع.
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} وهذا غاية الترهيب.
وقوله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}، وهذه غاية الترغيب.
وقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}.
وقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وهذا أبلغ ما يكون من الحجاج وهو الأصل الذي عليه أثبتت دلالة التمانع في علم الكلام.
وقوله: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وهذا أبلغ ما يكون من الوصف بكل ما تميل إليه النفس من الشهوات وتلذ الأعين من المرئيات ليعلم أن هذا اللفظ القليل جدا حوى معاني كثيرة لا تنحصر عددا.
وقوله: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ} وهذا أشد ما يكون من الخوف.
وقوله: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ}.
وقوله: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ}.
وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ}.
وقوله: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}.
وقوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ}.
وقوله: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} معناه قابلهم بما يفعلونه معك وعاملهم مثل معاملتهم لك سواء مع ما يدل عليه سواء من الأمر بالعدل.
وقوله: {وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} فإنه أشار به إلى انقطاع مدة الماء النازل.
من السماء والنابع من الأرض وقوله: {وَقُضِيَ الأَمْرُ} أي هلك من قضى هلاكه ونجا من قدرت نجاته وإنما عدل عن لفظه إلى لفظ التمثيل لأمرين اختصار اللفظ وكون الهلاك والنجاة كانا بأمر مطاع إذ الأمر يستدعى آمرا ومطاعا وقضاؤه يدل على قدرته.
ومن أقسام الأيجاز الاقتصار على السبب الظاهر للشيء اكتفاء بذلك عن جميع الأسباب كما يقال فلان لا يخاف الشجعان والمراد لا يخاف أحدا.
ومنه قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} ولا شك أن من فسخت النكاح ايضا تتربص لأن السبب الغالب للفراق الطلاق.
وقوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} ولم يذكر النوم وغيره لأن السبب الضروري النقاض خروج الخارج فإن النوم الناقض ليس بضروري فذكر السبب الظاهر وعلم منه الحكم في الباقي.
ومنه قوله: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} أي وهو مالم يقع في وهم الضمير من الهواجس ولم يخطر على القلوب من مخيلات الوساوس.
ومنه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} ونظائره.
وكذلك زيد وعمرو قائم على القول بأن قائم خبر عن أحدهما واستغنى به عن خبر الآخر.
ومنها الاقتصار على المبتدأ وإقامة الشيء مقام الخبر نحو أقائم الزيدان فإن قائم مبتدأ لا خبر له.
ومنها باب "علمت أنك قائم" إذا جعلنا الجملة سادة مسد المفعولين فإن الجملة محلة لاسم واحد سد مسد اسمين مفعولين من غير حذف.
ومنه باب النائب عن الفاعل في ضرب زيد ف زيد دل على الفاعل بإعطائه حكمه وعلى المفعول بوضعه.
ومنها جميع أدوات الاستفهام والشرط فإن " كم مالك "؟ يغنى عن عشرين أو ثلاثين ومن يقم أكرمه يغنى عن زيد وعمرو قال ابن الأثير في "الجامع".
ومنه الألفاظ اللازمة للعموم مثل أحد وديار قاله ابن الأثير أيضا.
ومنه لفظ الجمع فإن الزيدين يغنى عن زيد وزيد وزيد وكذا التثنية أصلها رجل ورجل فحذفوا العطف والمعطوف وأقاموا حرف الجمع والتثنية مقامهما اختصارا وصح ذلك لاتفاق الذاتين في التسمية بلفظ واحد فإن اختلف لفظ الاسمين رجعوا إلى التكرار بالعطف نحو مررت بزيد وبكر.
منه باب الضمائر على ما سيأتي بيانه في قاعدة الضمير.
ومنه لفظ "فعل" فإنه يجيء كثيرا كناية عن أفعال متعددة قال تعالى: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ}.
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} أي فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة من مثله.
القول في التقديم والتأخير.
هو أحد أساليب البلاغة فإنهم أتوا به دلالة على تمكنهم في الفصاحة وملكتهم في الكلام وانقياده لهم وله في القلوب أحسن موقع وأعذب مذاق.
وقد اختلف في عدة من المجاز فمنهم من عده منه لأنه تقديم ما رتبته التأخير كالمفعول وتأخير ما رتبته التقديم كالفاعل نقل كل واحد منهما عن رتبته وحقه.
والصحيح أنه ليس منه فإن المجاز نقل ما وضع له إلى ما لم يوضع.
ويقع الكلام فيه في فصول.
الفصل الأول: في أسباب التقديم والتأخير.
الأول: في أسبابه، وهي كثيرة:.
أحدها: أن يكون أصله التقديم ولا مقتضى للعدول عنه كتقديم الفاعل على المفعول والمبتدأ على الخبر وصاحب الحال عليها نحو جاء زيد راكبا.
والثاني: أن يكون في التأخير إخلال ببيان المعنى كقوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} ، فإنه لو أخر قوله: {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} فلا يفهم أنه منهم.
وجعل السكاكي من الأسباب كون التأخير مانعا مثل الإخلال بالمقصود،.
كقوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بتقديم الحال أعنى {مِنْ قَوْمِهِ} على الوصف أعنى {الَّذِينَ كَفَرُوا} ولو تأخر لتوهم أنه من صفة الدنيا لأنها هاهنا اسم تفضيل من الدنو وليست أسما والدنو يتعدى بـ"من" وحينئذ يشتبه الأمر في القائلين أنهم أهم من قومه أم لا فقدم لاشتمال التأخير على الإخلال ببيان المعنى المقصود وهو كون القائلين من قومه وحين أمن هذا الإخلال بالتأخير قال تعالى في موضع آخر من هذه السورة: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} بتأخير المجرور عن صفة المرفوع.
الثالث: أن يكون في التأخير إخلال بالتناسب فيقدم لمشاكلة الكلام ولرعاية الفاصلة كقوله: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ، بتقديم "إياه" على "تعبدون" لمشاكلة رءوس الآي وكقوله: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} فإنه لو أخر {فِي نَفْسِهِ} عن {مُوسَى} فات تناسب الفواصل لأن قبله: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} وبعده،: {إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى}.
وكقوله: {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} فإن تأخير الفاعل عن المفعول لمناسبته لما بعده.
وكقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}، وهو أشكل بما قبله لأن قبله: {مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ}.
وجعل منه السكاكي: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} بتقديم "هارون" مع أن "موسى" أحق بالتقديم.
الرابع: لعظمة والاهتمام به، وذلك أن من عادة العرب الفصحاء إذا أخبرت عن مخبر ما - وأناطت به حكما - وقد يشركه غيره في ذلك الحكم أو فيما أخبر به عنه وقد عطفت أحدهما على الآخر بالواو المقتضية عدم الترتيب - فإنهم مع ذلك إنما يبدءون بالأهم والأولى. قال سيبويه: كأنهم يقدمون الذي شأنه أهم لهم وهم ببيانه أعنى وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم. انتهى.
قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، فبدأ بالصلاة لأنها أهم.
وقال سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}.
وقال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، فقدم العبادة للاهتمام بها.
ومنه تقدير المحذوف في بسم الله مؤخرا.
وأوردوا: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ، وأجيب بوجهين:.
أحدهما: أن تقديم الفعل هناك أهم لأنها أول سورة نزلت.
والثاني : أن بأسم ربك متعلق ب أقرأ الثاني ومعنى الأول أوجد القراءة والقصد التعميم.
الخامس : أن يكون الخاطر ملتفتا إليه والهمة معقودة به، وذلك كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} ، بتقديم المجرور على المفعول الأول لأن الإنكار متوجه إلى الجعل لله لا إلى مطلق الجعل.
السادس: أن يكون التقديم لإرادة التبكيت والتعجيب من حال المذكور كتقديم المفعول الثاني على الأول في قوله تعالى: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ}، والأصل" الجن شركاء "، وقدم لأن المقصود التوبيخ وتقديم الشركاء أبلغ في حصوله.
ومنه قوله تعالى في سورة يس: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} وسنذكره.
السابع: الاختصاص، وذلك بتقديم المفعول والخبر والظرف والجار والمجرور ونحوها على الفعل كقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، أي نخصك بالعبادة فلا نعبد غيرك.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي إن كنتم تخصونه بالعبادة.
والخبر كقوله: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي}، وقوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ}.
وأما تقديم الظرف، ففيه تفصيل فإن كان في الإثبات دل على الاختصاص كقوله تعالى :{إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}، وكذلك: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} ، فإن ذلك يفيد اختصاص ذلك بالله تعالى: وقوله: {لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ}.
أي لا إلى غيره وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} أخرت صلة الشهادة في الأول وقدمت في الثاني لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم وفي اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم.
وقوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} أي لجميع الناس من العجم والعرب على أن التعريف للاستغراق.
وإن كان في النفي فإن تقديمه يفيد تفضيل المنفى عنه كما في قوله تعالى: {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ}، أي ليس في خمر الجنة ما في خمرة غيرها من الغول وأما تأخيره فإنها تفيد النفي فقط كما في قوله: {لا رَيْبَ فِيهِ} فكذلك إذا قلنا لاعيب في الدار كان معناه نفي العيب في الدار وإذا قلنا لا في الدار عيب كان معناه أنها تفضل على غيرها بعدم العيب.
تنبيه:.
ما ذكرناه من أن تقديم المعمول يفيد الاختصاص فهمه الشيخ أبو حيان في كلام الزمخشري وغيره، والذي عليه محققو البيانيين أن ذلك غالب لا لازم، بدليل قوله تعالى: {كلاًًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} وقوله: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} إن جعلنا ما بعد الظرف مبتدأ.
وقد رد صاحب "الفلك الدائر" القاعدة بالآية الأولى وكذلك ابن الحاجب والشيخ أبو حيان وخالفوا البيانيين في ذلك وأنت إذا علمت أنهم.
ذكروا في ذلك قيد الغلبة سهل الأمر. نعم له شرطان:.
أحدهما: ألا يكون المعمول مقدما بالوضع فإن ذلك لا يسمى تقديما حقيقة كأسم الاستفهام وكالمبتدأ عند من يجعله معمولا لخبره.
والثاني: ألا يكون التقديم لمصلحة التركيب مثل: {وَأَمَّا ثَمُودَ فَهَدَيْنَاهُمْ} على قراءة النصب.
وقد اجتمع الاختصاص وعدمه في آية واحدة وهي قوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ} ، التقديم في الأول قطعا ليس للاختصاص بخلاف الثاني.
الفصل الثاني: في أنواعه.
وهي إما أن يقدم والمعنى عليه أو يقدم وهو في المعنى مؤخر أو بالعكس.
النوع الأول: ما قدم والمعنى عليه.
ومقتضياته كثيرة قد يسر الله منها خمسا وعشرين ولله در ابن عبدون في قوله:
سقاك الحيا من معان سفاح فكم لي بها من معان فصاح
أحدها: السبق.
وهو أقسام: منها السبق بالزمان والإيجاد، كقوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} قال ابن عطية: المراد بالذين اتبعوه في زمن الفترة.
وقوله: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} فإن مذهب أهل السنة تفضيل البشر وإنما قدم الملك لسبقه في الوجود.
وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ} فإن الأزواج أسبق بالزمان لأن البنات أفضل منهن لكونهن بضعة منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}.
واعلم أنه ينضم إليه مع ذلك التشريف كقوله :{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ}.
وقوله: {وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى}.
{صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}.
وأما قوله: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} فإنما قدم ذكر موسى لوجهين: أحدهما : أنه في سياق الاحتجاج عليهم بالترك وكانت صحف موسى منتشرة أكثر انتشارا من صحف إبراهيم. وثانيهما: مراعاة رءوس الآى.
وقد ينضم إليه التحقير، كما في قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}، تقدم اليهود لأنهم كانوا أسبق من النصارى ولأنهم كانوا أقرب إلى المؤمنين بالمجاورة.
وقد لا يلحظ هذا كقوله تعالى: {وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} وقوله: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى}.
ومن التقديم بالإيجاد تقديم السنة على النوم في قوله: {تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} لأن العادة في البشر أن تأخذ العبد السنة قبل النوم فجاءت العبارة على حسب هذه العادة.
ذكره السهيلي وذكر معه وجها آخر، وهو أنها وردت في معرض التمدح والثناء وافتقاد السنة أبلغ في التنزيه فبدىء بالأفضل لأنه إذا استحالت عليه السنة فأحرى أن يستحيل عليه النوم.
ومنه تقديم الظلمة على النور في قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} فإن الظلمات سابقة على النور في الإحساس وكذلك الظلمة المعنوية سابقة على النور المعنوي قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} فانتفاء العلم ظلمة وهو متقدم بالزمان على نور الإدراكات.
ومنه تقديم الليل على النهار: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} ولذلك اختارت العرب التاريخ بالليالي دون الأيام وإن كانت الليالي مؤنثة والأيام مذكرة وقاعدتهم تغليب المذكر إلا في التاريخ.
فإن قلت: فما تصنع بقوله تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ}.
قلت: استشكل الشيخ أبو محمد بن عبد السلام في قواعده بالإجماع على سبق الليلة على اليوم وأجاب بأن المعنى: تدرك القمر في سلطانه وهو الليل أي لا تجيء الشمس في أثناء الليل فقوله بعده: {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي لا يأتي في بعض سلطان الشمس وهو النهار وبين الجملتين مقابلة.
فإن قيل: قوله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} مشكل على هذا لأن الإيلاج إدخال الشيء في وهذا البحث ينافيه.
قلت: المشهور في معنى الآية أن الله يزيد في زمن الشتاء مقدارا من النهار ومن النهار في الصيف مقدارا من الليل وتقدير الكلام: يولج بعض مقدار الليل في النهار وبعض مقدار النهار في الليل وعلى غير المشهور يجعل الليل في المكان الذي كان فيه النهار ويجعل النهار في المكان الذي كان فيه الليل والتقدير: يولج الليل في مكان النهار ويولج النهار في مكان الليل.
ومنه تقديم المكان على الزمان في قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} أي الليل والنهار، وقوله: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ وََهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}.
وهذه مسألة مهمة قل من تعرض لها أعنى سبق المكان على الزمان وقد صرح بها الإمام أبو جعفر الطبري في أول تاريخه واحتج على ذلك بحديث ابن عباس: إن الله خلق التربة يوم السبت وخلق الشمس والقمر وكان ذلك كله ولا ليل ولا نهار إذ كانا إنما هما أسماء لساعات معلومة من قطع الشمس والقمر "درج الفلك" وإذا كان ذلك صحيحا وأنه لا شمس ولا قمر كان معلوما أنه لا ليل ولا نهار قال: وحديث أبي هريرة - يعني في صحيح مسلم - صريح فيه فإن فيه: " وخلق [الله] النور يوم الأربعاء " قال: ويعني به الشمس إن شاء الله.
والحاصل أن تأخر خلق الأيام عن بعض الأشياء المذكورة في الخبر لازم.
فإن قلت: الحديث كالمصرح بخلافه فإنه قال خلق الله التربة يوم السبت حين خلق البرية وهي أول المخلوقات المذكورة فلا يمكن أن يكون خلق الأيام كلها متأخرا عن ذلك.
قلت: قد نبه الطبري على جواب ذلك بما حاصله أن الله تعالى سمى أسماء الأيام قبل خلق التربة وخلق الأيام كلها ثم قدر كل يوم مقدارا فخلق التربة في مقدار يوم السبت قبل خلقه يوم السبت وكذا الباقي.
وهذا وإن كان خلاف الظاهر لكن أوجبه ما قاله الطبري من أنه يتعين تأخير الأيام لما ذكرناه من الدليل المستفاد من الخبرين.
والحاصل أن الزمان قسمان تحقيقي وتقديري والمذكور في الحديث التقديري.
ومنه قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ}، {مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا}، ولذلك لما استغنى عن أحدهما ذكر المشرق فقد فقال: {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا}.
ومنه قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} وقوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ}.
ويمكن فيه وجوه آخر:.
منها: أن فيه قهرا للخلق والمقام يقتضيه.
ومنها: أن حياة الإنسان كلاحياة ومآله إلى الموت ولا حياة إلا بعد الموت.
ومنها: أن الموت تقدم في الوجود إذ الإنسان قبل نفخ الروح فيه كان ميتا لعدم الروح.
وهذا إن أريد بالموت عدم الوجود بدليل {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} وإن أريد به بعد الوجود فالناس منتازعون في الموت هل هو أمر وجودي كالحياة أولا ؟.
وقيل بالوقف، فقالت الفلاسفة: الموت عدم الحياة عما من شأنه أن يكون حيا.
والجمهور على أنه أمر وجودي يضاد الحياة محتجين بقوله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} والحديث في الإتيان بالموت في صورة كبش وذبحه.
وأجيب عن الآية بأن الخلق بمعنى التقدير، ولا يجب في المقدر أن يكون وجوديا وعن الثاني بأن ذلك على طريق التمثيل لبيان انقطاع الموت وثبوت الخلود.
فإن قلنا: عدمي، فالتقابل بينه وبين الحياة تقابل العدم والملكة وعلى الصحيح تقابل التضاد وعلى القول بأنه وجودي يجب أن يقال تقديم الموت الذي هو عدم الوجود، لكونه سابقا أو معدوم الحياة الذي هو مفارقة الروح البدني يجوز أن يكون لكونه الغاية التي يساق إليها في دار الدنيا فهي العلة الغائبة بعدم تحقيقها لتحقق فخص العلة العامة كما وقع تأكيده في قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} أو تزهيدا في الدار الفانية وترغيبا فيما بعد الموت.
فإن قيل: فما وجه تقدم "الحياة" في قوله: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ} وقوله: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ؟.
قلنا: إن كان الخطاب لآدم وحواء فلأن حياتهما في الدنيا سبقت الموت وإن كان للخلق بالخطاب لمن هو حي يعقبه الموت فما التقديم بالترتيب وكذا الآية بعده.
فإن قيل: فما وجه تقديم الموت على الحياة في الحكاية عن منكر البعث: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} ؟.
قلت: لأجل مناسبة رءوس الآي.
فإن قلت: فما وجه تقدم التوفي على الرفع في قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} مع أن الرفع سابق ؟.
قيل: فيه جوابان:.
أحدهما: المراد بالتوفي النوم، كقوله تعالى: { يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ}.
وثانيهما: أن التاء في "متوفيك" زائدة أي موفيك عملك.
ومنها سبق إنزال، كقوله: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} . وقوله: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ}.
وأما قوله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} فإنما قدم القرآن منبها له على فضيلة المنزل إليهم.
ومنها سبق وجوب كقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} وقوله: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً}.
فإن قيل فقد قال: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}.
قيل: يحتمل أنه كان في شريعتهم السجود قبل الركوع ويحتمل أن يراد بالركوع ركوع الركعة الثانية.
وقيل: المراد بـ"اركعي" اشكري.
وقيل: أراد بـ"اسجدي" صلي وحدك. وبـ"اركعي" صلي في جماعة، ولذلك قال: {مَعَ الرَّاكِعِينَ}.
ومنها سبق تنزيه، كقوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ} فبدأ بالرسول قبل المؤمنين، ثم قال: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ} فبدأ بالإيمان بالله لأنه قد يحصل بدليل العقل والعقل سابق في الوجود على الشرع ثم قال:" وملائكته " مراعاة لإيمان الرسول فإنه يتعلق بالملك الذي هو جبريل أولا ثم بالكتاب الذي نزل به جبريل ثم بمعرفة نفسه أنه رسول. وإنما عرف نبوة نفسه بعد معرفته بجبريل عليه السلام وإيمانه فترتب الذكر المنزل عليه بحسب ذلك فظهرت الحكمة والإعجاز فقال: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} لأن الملك هو النازل بالكتاب وإن كان الكتاب أقدم من الملك ولكن رؤية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للملك كانت قبل سماعه الكتاب وأما إيماننا نحن بالعقل آمنا بالله أي.
بوجوده ولكن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم عرفنا اسمه وجوب النظر المؤدي إلى معرفته فآمنا بالرسول ثم بالكتاب المنزل عليه وبالملك النازل به فلو ترتب اللفظ على حسب إيماننا لبدأ بالرسول قبل الكتاب ولكن إنما ترتب على حسب إيمان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم الذي هو إمام المؤمنين. ذكره السهيلي في آماليه.
وقال غيره: في هذا الترتيب سر لطيف وذلك لأن النور والكمال والرحمة والخير كله مضاف إلى الله تعالى والوسائط في ذلك الملائكة والمقابل لتلك الرحمة هم الأنبياء والرسل فلا بد أولا من أصل وثانيا من وسائط وثالثا من حصول تلك الرحمة ورابعا من وصولها إلى المقابل لها والأصل المقتضى للخيرات والرحمة هو الله ومن أعظم رحمة رحم بها عباده إنزال كتبه إليهم والموصل لها هم الملائكة والمقابل لها المنزلة عليهم هم الأنبياء فجاء الترتيب على ذلك بحسب الوقائع.
الثاني: بالذات.
كقوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ}. ونحوه {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} وقوله: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} وكذلك جميع الأعداد كل مرتبة هي متقدمة على ما فوقها بالذات.
وأما قوله تعالى: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ} فوجه تقديم المثنى أن المعنى حثهم على القيام بالنصيحة لله وترك الهوى مجتمعين متساويين أو منفردين متفكرين ولا شك أن الأهم حالة الاجتماع فبدأ بها.
الثالث: بالعلة والسببية.
كتقديم "العزيز" على "الحكيم" لأنه عز فحكم وتقديم "العليم" على "الحكيم" لأن الإتقان ناشىء عن العلم وكذا أكثر ما في القرآن من تقديم وصف العلم على الحكمة: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.
ويجوز أن يكون قدم وصف العلم هنا ليتصل بما يناسبه وهو {لا عِلْمَ لَنَا} وفي غيره من نظائره لأنه صفات ذات فيكون من القسم قبله.
ومنه قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قدمت العبادة لأنها سبب حصول الإعانة.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} فإن التوبة سبب الطهارة.
وكذا: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} لأن الإفك سبب الإثم.
وكذا: {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ}.
وقوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} قدم إحياء الأرض لأنه سبب إحياء الأنعام والأناسي وقدم إحياء الأنعام لأنه مما يحيا به الناس بأكل لحومها وشرب ألبانها.
وكذا كل علة مع معلولها كقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ}، قيل: قدم الأموال من باب تقديم السبب فإنه إنما شرع النكاح عند قدرته على مؤونته فهو سبب والتزويج سبب للتناسل ولأن المال سبب للتنعيم بالولد وفقده سبب لشقائه.
وكذا تقديم البنات على البنين في قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} وأخر ذكر الذهب والفضة عن النساء والبنين لأنهما أقوى في الشهوة الجبلية من المال فإن الطبع يحث على بذل المال فيحصل النكاح والنساء أقعد من الأولاد في الشهوة الجبلية والبنون أقعد من الأموال والذهب أقعد من الفضة والفضة أقعد من الأنعام إذ هي وسيلة إلى تحصيل النعم فلما صدرت الآية بذكر الحب وكان المحبوب مختلف المراتب اقتضت حكمة الترتيب أن يقدم ما هو الأهم فالأهم في رتبة المحبوبات.
وقال الزمخشري في قوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} قدم الشكر على الإيمان لأن العاقل ينظر "إلى" ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه وتعريضة للمنافع فيشكر شكرا مبهما فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به ثم شكر شكرا متصلا فكان الشكر متقدما على الإيمان وكأنه أصل التكليف ومداره. انتهى.
وجعله غيره من عطف الخاص على العام لأن الإيمان من الشكر وخص بالذكر لشرفه.
الرابع: بالرتبة.
كتقديم "سميع" على "عليم" فإنه يقتضى التخويف والتهديد فبدأ بالسميع لتعلقه بالأصوات وإن من سمع حسك فقد يكون أقرب إليك في العادة ممن يعلم وإن كان علم الله تعلق بما ظهر وما بطن.
وكقوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} فإن المغفرة سلامة والرحمة غنيمة والسلامة مطلوبة قبل الغنيمة وإنما تأخرت في آية سبأ في قوله: {الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} لأنها منتظمة في سلك تعداد أصناف الخلق من المكلفين وغيرهم وهو قوله: {مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} فالرحمة شملتهم جميعا والمغفرة تخص بعضا والعموم قبل الخصوص بالرتبة.
وقوله تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} فإن الهماز هو المغتاب وذلك لا يفتقر إلى شيء بخلاف النميمة.
وقوله: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} فإن الغالب أن الذين يأتون رجالا من مكان قريب والذين يأتون على الضامر من البعيد. ويحتمل أن يكون من التقديم بالشرف لأن الأجر في المشي مضاعف.
وأما قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} مع أن الراكب متمكن من الصلاة أكثر من الماشي فجبرا له في باب الرخصة.
ومنه قوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فقدم الطائفين لقربهم من البيت ثم ثنى بالقائمين وهم العاكفون لأنهم يخصون موضعا بالعكوف والطواف بخلافه فكان أعم منه والأعم قبل الأخص ثم ثلث بالركوع لأن الركوع لا يلزم أن يكون في البيت ولا عنده.
ثم في هذه الآية ثلاثة أسئلة:.
الأول: كيف جمع الطائفين والقائمين جمع سلامة والركع جمع تكسير ؟ والجواب: أن جمع السلامة أقرب إلى لفظ الفعل فطائفون بمنزلة يطوفون ففي لفظة إشعار بصلة التطهير وهو حدوث الطواف وتجدده ولو قال: بالطواف لم يفد ذلك لأن لفظ المصدر يخفي ذلك وكذا القول في القائمين وأما الراكعون فلما سبق أنه لا يلزم كونه في البيت ولا عنده فلهذا لم يجمع جمع سلامة إذ لا يحتاج فيه إلى بيان الفعل الباعث على التطهير كما احتيج فيما قبله.
الثاني: كيف وصف الركع بالسجود ولم يعطف بالواو ؟.
والجواب: لأن الركع هم السجود والشيء لا يعطف على نفسه لأن السجود يكون عبارة عن المصدر وهو هنا عبارة عن الجمع فلو عطف بالواو لأوهم إرادة المصدر دون اسم الفاعل لأن الراكع إن لم يسجد فليس براكع شرعا ولو عطف بالواو لأوهم أنه مستقل كالذي قبله.
الثالث: هلا قيل السجد كما قيل الركع وكما جاء في آية أخرى: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} والركوع قبل السجود! والجواب: أن السجود يطلق على وضع الجبهة بالأرض وعلى الخشوع فلو قال: المسجد لم يتناول إلا المعنى الظاهر ومنه: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} وهو من رؤية العين ورؤية العين لا تتعلق إلا بالظاهر فقصد بذلك الرمز إلى السجود المعنوي والصوري بخلاف الركوع فإنه ظاهر في أعمال الظاهر التي يشترط فيها البيت كما في الطواف والقيام المتقدم دون أعمال القلب فجعل السجود وصفا للركوع وتتميما له لأن الخشوع روح الصلاة وسرها الذي شرعت له.
الخامس: بالداعية.
كتقدم الأمر بغض الأبصار على حفظ الفروج في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} لأن البصر داعية إلى الفرج لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " العينان تزنيان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ".
السادس: التعظيم.
كقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ}.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}.
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ}.
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا}.
السابع: الشرف وهو أنواع.
منها: شرف الرسالة، كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} فإن الرسول أفضل من النبي خلافا لابن عبد السلام.
وقوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} {وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً}.
ومنها: شرف الذكورة:.
كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ}.
وقوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى}.
وقوله: {رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً}.
وأما تقديم الإناث في قول تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً} فلجبرهن إذ هن موضع الانكسار ولهذا جبر الذكور بالتعريف للإشارة إلى ما فاتهم من فضيلة التقديم.
ويحتمل أن تقديم الإناث لأن المقصود بيان أن الخلق كله بمشيئة الله تعالى لا على وفق غرض العباد.
ومنها: شرف الحرية، كقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} ومن الغريب حكاية بعضهم قولين في أن الحر أشرف من العبد أم لا حكاه القرطبي في تفسير سورة النساء فلينظر فيه.
ومنها: شرف العقل، كقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ}.
وقوله: {مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}.
وأما تقديم الأنعام عليهم في قوله: {تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ} فمن باب تقديم السبب وقد سبق.
ومنها: شرف الإيمان، كقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا} وكذلك تقديم المسلمين على الكافرين في كل موضع والطائع على العاصي وأصحاب اليمين عن أصحاب الشمال.
ومنها: شرف العلم، كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}.
ومنها: شرف الحياة، كقوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ}.
وقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ}. وأما تقديم الموت في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} فمن تقدم السبق بالوجود وقد سبق.
ومنها: شرف المعلوم، نحو: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} فإن علم الغيبيات أشرف من المشاهدات.
ومنه: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ}.{وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}.
وأما قوله: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} ، أي من السر فعن ابن عباس وغيره: " السر: ما أسررت في نفسك وأخفى منه ما لم تحدث به نفسك مما يكون في عد علم الله فيهما سواء " ولا شك أن الآتي أبلغ وفيه وجهان:.
أحدهما: أنه أفعل تفضيل يستدعي مفضلا عليه علم حتى يتحقق في نفسه فيكون حينئذ تقديم السر من النوع الأول.
وثانيهما: مراعاة رءوس الآي.
ومنها شرف الإدراك، كتقديم السمع على البصر والسميع على البصير لأن السمع أشرف على أرجح القولين عند جماعة وقدم القلب عليهما في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} لأن الحواس خدمة القلب وموصلة إليه وهو المقصود وأما قوله: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} فأخر القلب فيها لأن العناية هناك بذم المتصامين عن السماع ومنهم الذين كانوا يجعلون القطن في آذانهم حتى لا يسمعوا ولهذا صدرت السورة بذكرهم في قوله: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا}.
ومنها: شرف المجازاة، كقوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ}.
ومنها: شرف العموم، فإن العام أشرف من الخاص كتقديم العفو على الغفور أي عفو عما لم يؤاخذنا به مما نستحقه بذنوبنا غفور لما واخذنا به في الدنيا قبلنا ورجعنا إليه فتقدم العفو على الغفور لأنه أعم وأخرت المغفرة لأنها أخص.
ومنها: شرف الإباحة للإذن بها، كقوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ}، وإنما تقديم الحرام في قوله: {فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً} فللزيادة في التشنيع عليهم أو لأجل السياق لأن قبله: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً}. ثم {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ}.
ومنها: الشرف بالفضيلة، كقوله تعالى: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} وقوله: {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} وقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} الآية. وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ}{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ} وقوله: {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} في الأعراف والشعراء فإن موسى استأثر باصطفائه تعالى له بتكليمه وكونه من أولى العزم فإن قلت فقد جاء هارون وموسى في سورة طه بتقديم هارون قلنا لتناسب رءوس الآي ومنه تقديم جبريل على ميكائيل في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} لأن جبريل صاحب الوحي والعلم وميكائيل.
صاحب الأرزاق والخيرات النفسانية أفضل من الخيرات الجسمانية.
ومنه تقديم المهاجرين، في قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَار}.
وقوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} ويدل على فضيلة الهجرة قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لولا الهجرة لكنت أمرأ من الأنصار" وبالآية احتج الصديق على تفضيلهم وتعيين الإمامة فيهم.
ومنه قوله: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فإن الصلاة أفضل من السلام وقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} قدم القريب لأن الصدقة عليه أفضل من الأجنبي.
ومنه تقديم الوجه، في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ}.
وتقديم اليمين على الشمال، في نحو: {جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ}.
ومنه تقديم الأنفس على الأموال، في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}. وأما تقديم الأموال في سورة الأنفال في قوله: {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فوجه التقديم أن الجهاد يستدعي تقديم إنفاق الأمولا فهو من باب السبق بالسببية.
ومنه :{مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} فإن الحلق أفضل من التقصير.
ومنه تقديم السموات على الأرض، كقوله: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} وهو كثير وكذلك كثير ما يقع السموات بلفظ الجمع والأرض لم تقع إلا مفردة.
وأما تأخيرها عنها في قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} فلأنه لما ذكر المخاطبين، وهو قوله: {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} وهو خطاب لأهل الأرض وعملهم يكون في الأرض وهذا بخلاف الآية التي في سبأ فإنها منتظمة في سياق علم الغيب.
وكذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ}.
وأما تأخيرها عنها في قوله: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} فلأن الآية في سياق الوعد والوعيد وإنما هو لأهل الأرض.
وكذا قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ}.
ومنه تقديم الإنس على الجن في قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} الاية.
وقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} وقوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} وقوله: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً}.
وقوله: {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}.
وأما تقديم الجن في مواضع أخر كقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} فلأنهم أقدم في الخلق فيكون من النوع الأول - أعنى التقديم بالزمان - ولهذا لما أخر في آية الحجر صرح بالقبلية بذكر الإنسان ثم قال: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ}.
ويجوز أن يكون في الأمثلة السالفة من باب تقديم الأعجب لأن خلقها أغرب كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ}.
أو لأنهم أقوى أجساما وأعظم أقداما ولهذا قدموا في: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وفي: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ}.
ومنه تقديم السجد على الراكعين في قوله: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} وسبق فيه شيء آخر.
ومنه تقديم الخيل على البغال والبغال على الحمير في قوله تعالى :{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا}.
ومنه تقديم الذهب على الفضة في قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}.
فإن قلت: فهل يجوز أن يكون من تقديم المذكر على المؤنث ؟.
قلت: هيهات الذهب أيضا مؤنت ولهذا يصغر على ذهيبة كـ"قدم".
ومنه تقديم الصوف في قوله: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} ولهذا احتج به بعض الصوفية على اختيار لبس الصوف على غيره من الملابس وأنه شعار الملائكة في قوله: { مُسَوِّمِينَ} قيل: سيماهم يؤمئذ الصوف. وعن علي: الصوف الأبيض رواه أبو نعيم في مدح الصوف وقال: إنه شعار الأنبياء. وقال ابن مسعود: " كانت الأنبياء قبلكم يلبسون الصوف " وفي الصحيح في موسى عليه السلام: " عليه عباءة ".
منه تقديم الشمس على القمر في قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} وقوله: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً} ولهذا قال تعالى: {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً}، والحكماء يقولون: إن نور القمر مستمد من نور الشمس، قال الشاعر:
يا مفردا بالحسن والشكل من دل عينيك على قتلي
البدر من شمس الضحى نوره والشمس من نورك تستملي
وأما قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} فيحتمل وجهين مناسبة رءوس الآي أو أن انتفاع أهل السموات به أكثر قال ابن الأنباري يقال إن القمر وجهه يضيء لأهل الشمس.
وظهره إلى الأرض ولهذا قال تعالى: {فِيهِنَّ} لما كان أكثر نوره يضيء إلى أهل السماء.
الثامن: الغلبة والكثرة.
كقوله تعالى: {مِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} قدم الظالم لكثرته ثم المقتصد ثم السابق.
وقوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ}.
{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ}.
وجعل منه الزمخشري: {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} يعني بدليل قوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} وحديث بعث النار.
وأما قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} قدم ذكر العذاب لكون الكلام مع اليهود الذين كفروا بعيسى وراموا قتله.
وجعل من هذا النوع قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} لأن السرقة في الذكور أكثر.
وقدم في الزنى المرأة في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} لأن الزنى فيهن أكثر وأما قوله:.
{الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ}.
فقال الزمخشري: سيقت الآية التي قبلها لعقوبتهما على ما جنيا والمرأة هي المادة التي نشأت منها الخيانة لأنها لو لم تطمع الرجل [ولم تومض له] وتمكنه لم يطمع ولم يتمكن فلما كانت أصلا وأولا في ذلك بدأ بذكرها وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل [فيه] لأنه هو الراغب والخاطب يبدأ الطلب.
ومنه قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}، قال الزمخشري: قدم غض البصر لأن النظر يريد الزنى ورائد الفجور والبلوى به أشد وأكثر ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه.
ومنه تقديم الرحمة على العذاب، حيث وقع في القرآن ولهذا ورد: " إن رحمتي غلبت غضبي ".
وأما تقديم التعذيب على المغفرة في آية المائدة فللسياق.
ومنه قوله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ} قال ابن الحاجب في أماليه: إنما قدم الأزواج لأن المقصود الإخبار أن فيهم أعداء ووقوع ذلك في الأزواج أقعد منه في الأولاد فكان أقعد في المعنى المراد فقدم ولذلك قدمت الأموال في قوله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} لأن الأموال لا تكاد تفارقها الفتنة: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}{مَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} ، وليست الأولاد في استلزام الفتنة مثلها وكان تقدمها أولى.
التاسع: سبق ما يقتضى تقديمه.
وهو دلالة السياق كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} لما كان إسراحها وهي خماص وإراحتها وهي بطان قدم الإراحة لأن الجمال بها حينئذ أفخر.
وقوله: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} لأن السياق في ذكر مريم في قوله: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} ولذلك قدم الابن في غير هذا المكان قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} وقوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} فإنه قدم الحكم مع أن العلم لا بد من سبقه للحكم ولكن لما كان السياق في الحكم قدمه قال تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} ، ويحتمل أن المراد بالحكم الحكمة وبها فسر الزمخشري قوله تعالى في سورة يوسف: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} وأما تقديم الحكيم على العليم في سورة الانعامفلأنه مقام تشريع الأحكام وأما في أول سورة يوسف فقدم العليم على الحكيم لقوله في آخرها: {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ}.
ومنه تقديم المحو على الإثبات في قوله: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} فإن قبله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} ويمكن أن يقال ما يقع عليه المحو أقل مما يقع عليه غيره ولا سيما على قراءة تشديد يثبت فإنها ناصة على الكثرة والمراد به الاستمرار لا الاستئناف.
وقوله: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ}.
ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً}، قدم "رسلا" هنا على "من قبلك" وفي غير هذه بالعكس لأن السياق هنا في الرسل.
ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} قدم القبض لأن قبله من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له اضعافا كثيرة وكان هذا بسطا فلا يناسب تلاوة البسط فقدم القبض لهذا وللترغيب في الإنفاق لأن الممتنع منه سببه خوف القلة فبين أن هذا لا ينجيه فإن القبض مقدر ولا بد.
العاشر: مراعاة اشتقاق اللفظ.
كقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}.
{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}.
{يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ}.
{قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}.
{ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ}.
{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ}.
وأما قوله: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ } فقدم نفي التأخير لأنه الأصل في الكلام وإنما ذكر التقدم مع عدم إمكان التقدم نفيا لأطراف الكلام كله.
وكقوله: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ}.
وقوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}.
{لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}.
{لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ}.
وقوله: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ}.
{فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}.
فإن قلت قد جاء: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى}.{أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى}.
قلت: لمناسبة رءوس الآى.
ومثله: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ} ولأن الخطاب لهم فقدموا.
الحادي عشر: للحث عليه خيفة من التهاون به.
كتقديم تنفيذ الوصية على وفاء الدين في قوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فإن وفاء الدين سابق على الوصية لكن قدم الوصية لأنهم كانوا يتساهلون بتأخيرها بخلاف الدين.
ونظيره: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً} قدم الإناث حثا على الإحسان إليهم.
وقال السهيلي في [النتائج]: إنما قدمت الوصية لوجهين:.
أحدهما: أنها قربة إلى الله تعالى بخلاف الدين الذي تعوذ الرسل منه فبدىء بها للفضل.
والثاني: أن الوصية للميت والدين لغيره ونفسك قبل نفس غيرك تقول هذا لي وهذا لغيري ولا تقول في فصيح الكلام هذا لغيري وهذا لي.
الثاني عشر: لتحقق ما بعده واستغنائه هو عنه في تصوره .
كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}.
وقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً}.
وقوله: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تَابُوا}.
الثالث عشر: الاهتمام عند المخاطب.
كقوله: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}.
ونظيره قوله عليه السلام: " وأن تقرأ السلام على من عرفته ومن لم تعرفه ".
وقوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} لفضل الصدقة على القريب.
وكقوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}.
وقوله: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} فقدم الكفارة على الدية وعكس في قتل المعاهد حيث قال: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}.
قال الماوردي في [الحاوي]: ووجهه أن المسلم يرى تقديم حق الله على نفسه والكافر يرى تقديم نفسه على حق الله قال: وقال ابن أبي هريرة: " إنما خالف بينهما ولم يجعلهما على نسق واحد لئلا يلحق بهما ما بينهما من قتل المؤمن في دار الحرب في قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فضم إليه الدية إلحاقا بأحد الطرفين "، فأزال هذا الاحتمال باختلاف اللفظين.
وقال الفقيه نجم الدين بن الرفعة: يحتمل أن يقال إنه لما كان الكفر يهدر الدماء وهو موجود كان الغاية ببذل الدم عند العصمة لأجل الميثاق أتم لأنه يغمض حكمته فلذلك قدمت الدية فيه وأخرت الكفارة لأن حكمها قد سبق. ولما كانت عصمة المسلم ثابتة وقياس الأصول أنه لا تجب الكفارة في قتل الخطأ لأنه لا إثم فيه خصوصا على المسلمين لرفع القلم عن الخطأ كانت العناية بذكر الكفارة فيه أتم لأنها التي تغمض فقدمت.
ومن هذا النوع قوله تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} قيل: لماذا بدأ بالمغرب قبل المشرق وكان مسكن ذي القرنين من ناحية المشرق ؟ قيل: لقصد الاهتمام إما لتمرد أهله وكثرة طغيانهم في ذلك الوقت أو غير ذلك مما لم ينته إلينا علمه.
ومن هذا أن تأخر المقصود بالمدح والذم أولىمن تقدمه كقوله نعم الرجل زيد أحسن من قولك زيد نعم الرجل لأنهم يقدمون الأهم وهم في هذا بذكر المدح والذم أهم.
فأما تقديمه في قوله تعالى: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} فإن الممدوح هنا بـ"نعم العبد" هو سليمان عليه السلام وقد تقدم ذكره. وكذلك أيوب في الآية الآخرى والمخصوص بالمدح في الآيتين ضمير سليمان وأيوب وتقديره نعم العبد هو إنه أواب.
الرابع عشر: للتنبيه على أنه مطلق لا مقيد.
كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ}، على القول بأن "الله" في موضع المفعول الثاني لـ"جعل" و"شركاء" مفعول أول ويكون "الجن" في كلام ثان مقدر،كأنه قيل: فمن جعلوا شركاء ؟ قيل: الجن وهذا يقتضى وقوع الإنكار على جعلهم "لله شركاء" على الإطلاق فيدخل مشركة غير الجن ولو أخر فقيل: وجعلوا الجن شركاء لله كان الجن مفعولا أولا وشركاء ثانيا فتكون الشركة مقيدة غير مطلقة لأنه جرى على الجن فيكون الإنكار توجه لجعل المشاركة للجن خاصة وليس كذلك وفيه زيادة سبقت.
الخامس عشر: للتنبيه على أن السبب مرتب.
كقوله تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} قدم الجباه ثم الجنوب لأن مانع الصدقة في الدنيا كان يصرف وجهه أولا عن السائل ثم ينوه بجانبه ثم يتولى بظهره.
السادس عشر: التنقل.
وهو أنواع: إما من الأقرب إلى الأبعد، كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} قدم ذكر المخاطبين على من قبلهم وقدم الأرض على السماء.
وكذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ}، لقصد الترقي.
وقوله: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}.
وإما بالعكس كقوله في اول الجاثية: {إِِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ}.
وإما من الأعلى كقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}.
وقوله: {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ}.
وإما من الأدنى كقوله: {وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً}.
وقوله: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً}.
وقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}.
فإن قلت: لم لا اكتفي بنفي الأدنى ليعلم منه نفى الأعلى بطريق الأولى ؟ قلت: جوابه مما سبق من التقديم بالزمان.
وكقوله: {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} الآية، وبهذا يتبين فساد استدلال المعتزلة على تفضيل الملك على البشر بقوله: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ} فإنهم زعموا أن سياقها يقتضي الترقي من الأدنى إلى الأعلى إذ لا يحسن أن يقال لا يستنكف فلان عن خدمتك ولا من دونه بل ولا من فوقه.
وجوابه أن هؤلاء لما عبدوا المسيح واعتقدوا فيه الولدية لما فيه من القدرة على الخوارق.
والمعجزات من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغيره ولكونه خلق من غير تراب والتزهيد في الدنيا وغالب هذه الامور هي للملائكة أتم وهم فيها أقوى فإن كانت هذه الصفات أوجبت عبادته فهو مع هذه الصفات لا يستنكف عن عبادة الله بل ولا من هو أكبر منه في هذه الصفات للترقي من الأدنى إلى الأعلى في المقصود ولم يلزم منه الشرف المطلق والفضيلة على المسيح.
السابع عشر: الترقي.
كقوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} الآية، فإنه سبحانه بدأ منها بالأدنى لغرض الترقي لأن منفعة الرابع أهم من منفعة الثالث فهو أشرف منه ومنفعة الثالث أعم من منفعة الثاني ومنفعة الثاني أعم من منفعة الأول فهو أشرف منه.
وقد قرن السمع بالعقل ولم يقرن به البصر في قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} وما قرن بالأشرف كان أشرف وحكى ذلك عن علي بن عيسى الربعي.
قال الشيخ أبو الفتح القشيري:.
فإن قيل: قد كان الأولى أن يقدم الوصف الأعلى ثم ما دونه حتى ينتهي إلى أضعفها لأنه إذا بدا بسلب الوصف الأعلى ثم بسلب مادونه كان ذلك أبلغ في الذم.
لأنه لا يلزم من سلب الأعلى سلب ما دونه كما تقول ليس زيد بسلطان ولا وزير ولا أمير ولا وال والغرض من الآية المبالغة في الذم.
قلت: ما ذكرته طريق حسنة في علم المعاني والمقصود من الآية طريقة أخرى وهي أنه تعالى أثبت أن الأصنام التي تعبدها الكفار أمثال الكفار في أنها مقهورة مربوبة ثم حطها عن درجة المثلية بنفي هذه الصفات الثابتة للكفار عنها. وقد علمت أن المماثلة بين الذوات المتنائية إنما تكون باعتبار الصفات الجامعة بينها إذ هي أسباب في ثبوت المماثلة بينها وتقوى المماثلة بقوة أسبابها وتضعف بضعفها فإذا سلب وصف ثابت لإحدى الذاتين عن الأخرى انتفى وجه من المماثلة بينهما ثم إذا سلب وصف من الأول انتفى وجه من المماثلة أقوى من الأول ثم لا يزال يسلب أسباب المماثلة أقواها فأقواها حتى تنتفي المماثلة كلها بهذا التدريج وهذه الطريقة ألطف من سلب أسباب المماثلة أقواها ثم أضعفها فأضعفها.
الثامن عشر: مراعاة الإفراد.
فإن المفرد سابق على الجمع كقوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ}، وقوله: {مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} ولهذا لما عبر عن المال بالجمع أخر عن البنين في قوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ}.
ومنه تقديم الوصف بالمفرد على الوصف بالجملة، في قوله: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} وقوله: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ}.
التاسع عشر: التحذير منه والتنفير عنه.
كقوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} ، قرن الزنى بالشرك وقدمه.
وقوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ} قدمهن في الذكر لأن المحنة بهن أعظم من المحنة بالأولاد وفي صحيح مسلم: "ما تركت بعدي [في الناس] فتنة أضر على الرجال من النساء". ومن الحكمة العظيمة أنه بدأ بذكر النساء في الدنيا وختم [الحرث] وهما طرفان متشابهان وفيهما الشهوة والمعاش الدنيوي ولما ذكر بعد ذلك ما أعده للمتقين أخر ذكر الأزواج كما يجب في الترتيب الأخروي وختم بالرضوان. وكم في القرآن من مثل هذا العجب إذا حضر له الذهن وفرغ له الفهم !.
ومنه تقديم نفي الولد على نفي الوالد في قوله: { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} فإنه لما وقع في الأول منازعة الكفرة وتقولهم اقتضت الرتبة بالطبع تقديمه في الذكر اعتناء به قبل التنزيه عن الوالد الذي لم ينازع فيه أحد من الأمم.
العشرون: التخويف منه.
كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} ونظائره السابقة في الثامن.
الحادي والعشرون: التعجيب من شأنه.
كقوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ}.
قال الزمخشري: قدم الجبال على الطير لأن تسخيرها له وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز لأنها جماد والطير حيوان ناطق.
قال ابن النحاس: وليس مراد الزمخشري بناطق ما يراد به في حد الإنسان.
الثاني والعشرون: كونه أدل على القدرة.
كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ}.
والثالث والعشرون: قصد الترتيب.
كما في آية الوضوء فإن ادخال المسح بين الغسلين وقطع النظر عن النظير مع مراعاة ذلك في لسانهم دليل على قصد الترتيب.
وكذلك البداءة في الصفا بالسعي ومثله الكفارة المرتبة في الظهار والقتل.
وهنا قاعدة ذكرها أصحابنا وهي أن الكفارة المرتبة بدأ الله فيها بالأغلظ والمخيرة بدأ فيها بالأخف كما في كفارة اليمين ولهذا حملوا آية المحاربة في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا}، الآية على الترتيب لا التخيير لأنه بدأ فيها بالأغلظ طردا للقاعدة خلافا لمالك حيث جعلها على التخيير.
الرابع والعشرون: خفة اللفظ.
كما في قولهم: ربيعة ومضر مع أن مضر أشرف لكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم لأنهم لو قدموا مضر لتوالي حركات كثيرة وذلك يثقل فإذا قدموا ربيعة ووقفوا على مضر بسكون الراء نقص الثقل لقلة الحركات المتوالية.
وقد يكون تقديم الإنس على الجن من ذلك فالإنس أخف لمكان النون والسين المهموسة.
الخامس والعشرون: رعاية الفواصل.
كتأخير الغفور في قوله: {عَفُوٌّ غَفُورٌ} وقوله: {وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً}.
وإن كانت القاعدة في علم البيان تأخير ما هو الأبلغ فإنه يقال عالم نحرير وشجاع باسل وسبق له نظائر.
وكقوله: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ}، ولو قال: صلوه الجحيم لأفاد المعنى ولكن يفوت الجمع.
وقيل: فائدته الاختصاص.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} فقدم [إياه] على [تعبدون] لمشاكلة رءوس الآى.
تنبيه:.
قد يكون في كل واحد مما ذكرنا من الأمثلة سببان فأكثر للتقديم فإما أن يعتقد إعادة الكل أو يرجح بعضها لكونه أهم في ذلك المحل. وإن كانت الأخرى أهم في محل آخر وإذا تعارضت الأسباب روعى أقواها فإن تساوت كان المتكلم بالخيار في تقديم أي الأمرين شاء.
النوع الثاني: مما قدم النية به التأخير.
فمنه ما يدل على ذلك الإعراب كتقديم المفعول على الفاعل في نحو قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}،{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا}، {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ}.
ونحوه مما يجب في الصناعة النحوية كذلك ولكن ذلك لقصد الحصر.
كتقديم المفعول. كقوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي}{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ}.
وكتقديم الخبر على المبتدأ في قوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} ولو قال:" وظنوا أن حصونهم مانعتهم " لما أشعر بزيادة وثوقهم بمنعها إياهم.
وكذا: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي} ولو قال:" أأنت راغب عنها " ؟ ما أفادت زيادة الإنكار على إبراهيم.
وكذلك: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ولم يقل: فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة وكان يستغنى عن الضمير لأن هذا لا يفيد اختصاص الذين كفروا بالشخوص.
ومنه ما يدل على المعنى، كقوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا}، قال البغوي: هذا أول القصة وإن كانت مؤخرة في التلاوة.
وقال الواحدي: كان الاختلاف في القاتل قبل ذبح البقرة وإنما أخر في الكلام لأنه سبحانه لما قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} الآية علم المخاطبون أن البقرة لا تذبح إلا للدلالة على قاتل خفيت عينه عليهم فلما استقر علم هذا في نفوسهم أتبع بقوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} على جهة التوكيد لا أنه عرفهم الاختلاف في القاتل بعد أن دلهم على ذبح البقرة وقيل إنه من المؤخر الذي يراد به التقدم،.
وتأويله: وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها فسألتم موسى فقال لكم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}.
وأما الزمخشري ففي كلامه ما يدل على أن إيرادها إنما كان يتأتى على الوجه الواقع في القرآن لمعنى حسن لطيف استخرجه وأبداه.
ومنه قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} وأصل الكلام هواه إلهه كما تقول اتخذ الصنم معبودا لكن قدم المفعول الثاني على الأول للعناية كما تقول علمت منطلقا زيدا لفضل عنايتك بانطلاقه.
ومنه قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} الآية، أي أنزله قيما ولم يجعل له عوجا قاله جماعة، منهم الواحدي.
ورده فخر الدين في تفسيره بأن قوله: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً} معناه أنه كامل في ذاته وأن " قيما " معناه أنه مكمل لغيره وكونه كاملا في ذاته سابق على كونه مكملا لغيره لأن معنى كونه " قيما " أنه قائم بمصالح الغير. قال: فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح ما ذكر في الآية وما ذكر من التقديم والتأخير فاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه. انتهى.
وهذا فهم عجيب من الإمام لأن القائل بالتقديم والتأخير لا يقول بأن كونه غير ذي عوج متأخر عن كونه قيما في المعنى وإنما الكلام في ترتيب اللفظ لأجل الإعراب وقد يكون أحد المعنيين ثابتا قبل الآخر ويذكر بعده.
وأيضا فإن هذا البحث إنما هو على تفسير القيم بالمستقيم فأما إذا فسر بالقيام على غيره فلا نسلم أن القائل يقول بالتقديم والتأخير.
وهاهنا أمران:.
أحدهما: أن الأظهر جعل هذه الجملة أعنى قوله: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً} من جملة صلة "الذي" وتمامها وعلى هذا لا موضع لها من الإعراب لوجهين: أحدهما: أنها في حيز الصلة لأنها معطوفة عليها. والثاني : أنها اعتراض بين الحال وعاملها ويجوز في الجملة المذكورة أن يكون موضعها النصب على أنها حال من الكتاب والعامل فيها " أنزل ".
قاله جماعة، وفيه نظر.
وأما قوله:[ قيما ] فيجوز في نصبه وجوه:.
أحدها:- وهو قول الأكثر - أنه منصوب على الحال من [الكتاب] والعامل فيه [ أنزل ] وفي الكلام تقديم وتأخير وتقديره:[ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا ] فتكون الجملة على هذا اعتراضا.
والثاني: أن يكون منصوبا بفعل مقدر وتقديره: ولكن جعله قيما فيكون مفعولا للفعل المقدر.
والثالث : أن يكون حالا من الضمير في قوله: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} وتكون حالا مؤكدة.
واختار صاحب الكشاف أن يكون [قيما] مفعولا لفعل مقدر كما ذكرناه لأن الجملة التي قبلها عنده معطوفة على الصلة و[قيما] من تمام الصلة وإذا كان حالا يكون فيه فصل بين بعض الصلة وتمامها فكان الأحسن جعله معمولا لمقدر.
وقال جماعة منهم ابن المنير في تفسير البحر بعد نقله كلام الزمخشري: وعجيب من كونه لم يجعل الفاصل المذكور حالا أيضا ولا فصل بل هما حالان متواليان من شيء واحد والتقدير أنزل الكتاب غير معوج.
وهذا القول - وهو جعل الجملة حالا - قد ذكره جماعة قبل ابن المنير والظاهر أن الزمخشري لم يرتض هذا القول لأن جعل الجملة حالا يفيده لا ما يفيد العطف من نفي العوج عن الكتاب مطلقا غير مقيد بالإنزال وهو المقصود فالفائدة التي هي أتم إنما تكون على تقدير استقلال الجملة كيف والقول بالتقديم والتأخير منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما نقله الطبري وغيره.
وقال الواحدي: هو قول جميع أهل اللغة والتفسير والزمخشري ربما لاحظ هذا المعنى ولم يمنع جواز غير ما قال لكن ما قال هو الأحسن.
وقال غير ابن المنير في الاعتراض على الزمخشري: إن الجملة وإن كانت مستقلة فهي في حيز الصلة للعطف فلم يقع فصل ويؤيد ما ذكره صاحب الكشاف أن بعض القراء يسكت عند قوله:[ عوجا ]ويفصل بينه وبين " قيما " بسكتة لطيفة وهي رواية حفص عن عاصم وذلك يحتمل أن يكون لما ذكرنا من تقدير الفصل وانقطاع الكلام عما قبله قال ابن المنير وتحتمل السكتة وجها آخر وهو أن يكون ذلك لرفع توهم أن يكون قيما نعتا للعوج لأن النكرة تستدعي النعت غالبا وقد كثر في كلامهم إيلاء النكرة الجامدة نعتها كقوله: {صِرَاطاً مُسْتَقِيماً}، و{قُرْآناً عَرَبِيّاً} فإذا ولي النكرة الجامدة اسم مشتق نكرة ظهر فيه معنى الوصف فربما خيف اللبس في جعل [قيما] نعتا لـ[عوج] فوقع اللبس بهذه السكتة وهذا أيضا فيه نظر لأن ذلك إنما يتوهم فيما يصلح أن يكون وصفا ولا يصلح قيما أن يكون وصفا ل عوج فإن الشيء لا يوصف بضده لأن العوج لا يكون قيما والأولى ما ذكرناه أولا
الثاني: نقل الإمام عن بعضهم أن قيما بدل من قوله عوجا وهو مشكل لأنه لا يظهر له وجه.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} قيل: التقدير: لقد همت به لولا أن رأى برهان ربه وهم بها وهذا أحسن لكن في تأويله قلق ولا يحتاج إلى هذا التأويل إلا على قول من قال: إن الصغائر يجوز وقوعها منهم.
وقوله: {فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} قيل: أصله: فبشرناها بإسحاق فضحكت. وقيل: ضحكت أي حاضت بعد الكبر عند البشرى فعادت إلى عادات النساء من الحيض والحمل والولادة.
وقوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا}، قدم علىما بعده وهو مؤخر عنه في المعنى لأن ذلك يحصل للتوافق.
وقوله: {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} أي أحوى غثاء أي أخضر يميل إلى السواد والموجب لتأخير أحوى رعاية الفواصل.
وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً} قال ابن برهان النحوي: أصله: ومن يبتغ دينا غير الإسلام.
وقوله: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} قال أبو عبيد: الغربيب: الشديد السواد ففي الكلام تقديم وتأخير وقال صاحب [العجائب والغرائب]: قال ابن عيسى:.
الغربيب: الذي لونه لون الغراب فصار كأنه غراب. قال: والغراب يكون أسود وغير أسود وعلى هذا فلا تقديم ولا تأخير فيه.
وقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} على قول من يقول إن الذكر هنا القرآن.
وقوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا}.
وقوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}.
وقوله: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} أي فعقروها ثم كذبوه في عقرها وفي إجابتهم.
وقوله: {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ} تقديره: ثم قضى أجلا وعنده أجل مسمى أي وقت مؤقت.
وقوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} أ ي الأوثان من الرجس.
{هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} أي يرهبون ربهم.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} أي الذين هم حافظون لفروجهم.
{فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} أي مخلف رسله وعده.
{بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} أي بل الإنسان بصير على نفسه في شهود جوارحه عليه.
{خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} خلق العجل من الإنسان.
{وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً} أي ولولا.
كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان العذاب لازما لهم.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} أي كيف مده ربك.
{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} أي لشديد لحب الخير.
{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ}.أي زين للمشركين شركاؤهم قتل أولادهم لأن الشياطين كانوا يحسنون لهم قتل بناتهم خشية العار.
وقوله: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ}.
وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.
وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} تقديره: مثل الذين كفروا بربهم كرماد اشتدت به الريح.
وقوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} أي فأنا عدو آلهتهم وأصنامهم وكل معبود يعبدونه من دون الله.
وقوله: { وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا} أي فزعوا وأخذوا فلا فوت لأن الفوت يكون بعد الأخذ.
وقوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ، يعني القيامة. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ}.
وذلك يوم القيامة. ثم قال: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} والنصب والعمل يكونان في الدنيا فكأنه على التقديم والتأخير معناه وجوه عاملة ناصبة ويوم القيامة خاشعة والدليل عليه قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ}.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ}، تقديره: لمقت الله إياكم في الدنيا حين دعيتم إلا الإيمان فكفرتم ومقته إياكم اليوم أكبر من مقتكم أنفسكم إذ دعيتم إلى النار.
وقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ، لأن الفجر ليس له سواد والتقدير حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر من الخيط الأسود من الليل أي حتى يتبين لكم بياض الصبح من بقية سواد الليل.
وقوله: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ}.
وقوله: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ} منظوم بقوله: {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ} لأنه موضع الشماتة.
وقوله: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ}، أي اثنين إلهين لأن اتخاذاثنين يقع على ما يجوز وما لايجوز و"إلهين" لا يقع إلا على ما لا يجوز ف إلهين أخص فكان جعله صفة أولى.
النوع الثالث: ما قدم في آية وأخر في أخرى.
فمن ذلك قوله في فاتحة الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وفي خاتمة الجاثية: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ} فتقديم "الحمد" في الأول جاء على الأصل والثاني على تقدير الجواب فكأنه قيل عند وقوع الأمر لمن الحمد ومن أهله فجاء الجواب على ذلك نظيره: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ثم قال: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}.
وقوله في سورة يس: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} قدم المجرور على المرفوع لاشتمال ما قبله من سوء معاملة أصحاب القرية الرسل وإصرارهم على تكذيبهم فكان مظنة التتابع على مجرى العبارة تلك القرية ويبقى مخيلا في فكره أكانت كلها كذلك أم كان فيها.. على خلاف ذلك، بخلاف ما في سورة القصص.
ومنها قوله في سورة النمل: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} ، وفي سورة المؤمنين: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ} ، فإن ما قبل الأولى {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا} وما قبل الثانية {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً}، فالجهة المنظور فيها هناك كون أنفسهم وأبائهم ترابا والجهة المنظور فيها هنا كونهم ترابا وعظاما ولا شبهة أن الأولى أدخل عندهم في تبعيد البعث.
ومنها قوله في سورة المؤمنين: {وَقَالَ الْمَلأُُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا}، فقدم المجرور على الوصف لأنه لو أخبر عنه - وأنت تعلم أن تمام الوصف بتمام ما يدخل عليه الموصوف وتمامه {وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} - لاحتمل أن يكون من نعيم الدنيا واشتبه الأمر في القائلين أهم من قومه أم لا ؟ بخلاف قوله في موضع آخر منها: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} فإنه جاء على الأصل.
ومنها قوله في سورة طه: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى}.
بخلاف قوله في سورة الشعراء: {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}.
ومنها قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}، وقال في سورة الإسراء: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} قدم المخاطبين في الأولى دون الثانية لأن الخطاب في الأولى في الفقراء بدليل قوله :{مِنْ إِمْلاقٍ} فكان رزقهم عندهم أهم من رزق أولادهم فقدم الوعد برزقهم على الوعد برزق أولادهم والخطاب في الثانية للأغيناء بدليل: {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} فإن الخشية إنما تكون مما لم يقع فكان رزق أولادهم هو المطلوب دون رزقهم لأنه حاصل فكان أهم فقدم الوعد برزق أولادهم على الوعد برزقهم.
ومنها ذكر الله في أواخر سورة الملائكة: {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فقدم ذكر السموات لأن معلوماتها أكثر فكان تقديمها أدل على صفة العالمية ثم قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} فبدأ بذكر الأرض لأنه في سياق تعجيز الشركاء عن الخلق والمشاركة وأمر الأرض في ذلك أيسر من السماء بكثير فبدأ بالأرض مبالغة في بيان عجزهم لأن من عجز عن أيسر الأمرين كان عن أعظمهما أعجز ثم قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا}، فقدم السموات تنبيها على عظم قدرته سبحانه لأنه خلقها أكبر من خلق الأرض كما صرح به في سور المؤمن ومن قدر على إمساك الأعظم كان على إمساك الأصغر أقدر.
فإن قلت: فهلا اكتفى من ذكر الأرض بهذا التنبيه البين الذي لا يشك فيه أحد !.
قلت: أراد ذكرها مطابقة لأنه على كل حال أظهر وأبين فانظر أيها العاقل حكمة القرآن وما أودعه من البيان والتبيان تحمد عاقبة النظر وتنتظر خير منتظر!.
ومن أنواعه أن يقدم اللفظ في الآية ويتأخر فيها لقصد أن يقع البداءة والختم به للاعتناء بشأنه وذلك كقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ}.
وقوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} إلى قوله: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ}.
وكذلك قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} فإنه لولا ما أسلفناه لقيل ما تكتمون وتبدون لأن الوصف بعلمه.
أمدح كما قيل: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} و{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}.
فإن قلت: فقد قال تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}.
قلت لأجل تناسب رءوس الآى.
ومنها أن يقع التقديم في موضع والتأخير في آخر، واللفظ واحد، والقصة واحدة، للتفنن في الفصاحة وإخراج الكلام على عدة أساليب كما في قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ} وقوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً}.
وقوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} وقوله: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} قال الزمخشري في كشافه القديم علم بذلك أن كلا الطريقين داخل تحت الحسن وذلك لأن العطف في المختلفين كالتثنية في المتفقين فلا عليك أن تقدم أيهما شئت فإنه حسن مؤد إلى الغرض. وقد قال سيبويه: ولم يجعل للرجل منزلة بتقديمك إياه بكونه أولى بها من الجائي كأنك قلت: مررت بهما يعني في قولك مررت برجل وجاءني إلا أن الأحسن تقديم الأفضل فالقلب رئيس الأعضاء والمضغة لها الشأن ثم السمع طريق إدرك وحي الله وكلامه الذي قامت به السماوات والأرض وسائر العلوم التي هي الحياة كلها.
قلت: وقد سبق توجيه كل موضع بما ورد فيه من الحكمة.
القلب:.
وفي كونه من أساليب البلاغة خلاف فأنكره جماعة منهم حازم في كتاب: "منهاج البلغاء" وقال: إنه مما يجب أن ينزه كتاب الله عنه لأن العرب إن صدر ذلك منهم فبقصد العبث أو التهكم أو المحاكاة أو حال اضطرار والله منزه عن ذلك.
وقبله جماعة مطلقة بشرط عدم اللبس كما قاله المبرد في كتاب: "ما اتفق لفظه واختلف معناه".
وفصل آخرون بين أن يتضمن اعتبارا لطيفا فبليغ وإلا فلا ولهذا قال ابن الضائع: يجوز القلب على التأويل ثم قد يقرب التأويل فيصح في فصيح الكلام وقد يبعد فيختص بالشعر.
وهو أنواع:.
أحدها: قلب الإسناد.
وهو أن يشمل الإسناد إلى شيء والمراد غيره كقوله تعالى: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} إن لم تجعل الباء للتعدية لأن ظاهره أن المفاتح تنوء بالعصبة ومعناه أن العصبة تنوء بالمفاتح لثقلها فأسند " لتنوء " إلى "المفاتح" والمراد إسناده إلى العصبة.
لأن الباء للحال والعصبة مستصحبة المفاتح لا تستصحبها المفاتيح وفائدته المبالغة يجعل المفاتح كأنها مستتبعة للعصبة القوية بثقلها.
وقيل: لا قلب فيه والمراد والله أعلم أن المفاتح تنوء بالعصبة أي تميلها من نقلها وقد ذكر هذا الفراء وغيره.
وقال ابن عصفور: والصحيح ما ذهب إليه الفارسي أنها بالنقل ولا قلب والفعل غير متعد فصار متعديا بالباء لأن [ناء] غير متعد يقال: ناء النجم أي نهض ويقال: ناء أي مال للسقوط فإذا نقلت الفعل بالباء قلت: نؤت به أي أنهضته وأملته للسقوط فقوله: {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} أي تميلها المفاتح للسقوط لثقلها.
قال: وإنما كان مذهب الفارسي أصح لأن نقل الفعل غير المتعدي بالباء مقيس والقلب غير مقيس فحمل الآية على ما هو مقيس أولى.
ومنه قوله تعالى: {خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} أي خلق العجل من الإنسان قاله ثعلب وابن السكيت.
قال الزجاج: ويدل على ذلك: {وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً}.
قال ابن جنى: والأحسن أن يكون تقديره: خلق الإنسان من العجلة لكثرة فعله إياه واعتماده له وهو أقوى في المعنى من القلب لأنه أمر قد اطرد واتسع فحمله على القلب يبعد في الصنعة ويضعف المعنى.
ولما خفي هذا على بعضهم قال إن العجل هاهنا الطين قال: ولعمري إنه في اللغة كما ذكر غير أنه ليس هنا إلا نفس العجل ألا ترى إلى قوله عقبه: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ}، ونظيره قوله: { وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً}{وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً} لأن العجلة ضرب من الضعف لما تؤذن به الضرورة والحاجة.
وقيل في قوله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} أي إنه من المقلوب، وأنه {وجاءت سكرة الحق بالموت} وهكذا في قراءة أبي بكر.
مثله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}، قال الفراء: أي لكل أمر كتبه الله أجل مؤجل. وقيل في قوله: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} : هو من المقلوب أي يريد بك الخير ويقال: أراده بالخير وأراد به الخير.
وجعل ابن الضائع منه: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} ، قال: فآدم صلوات الله على نبينا وعليه هو المتلقي للكلمات حقيقة ويقرب أن ينسب التلقي للكلمات لأن من تلقى شيئا أو طلب أن يتلقاه فلقيه كان الآخر أيضا قد طلب ذلك لأنه قد لقيه قال: ولقرب هذا المعنى قرىء بالقلب.
وجعل الفارسي منه قوله تعالى: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} أي فعميتم عليها.
وقوله: {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ}.
وقوله: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً}، {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} أي بلغت الكبر.
وقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} وقوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} ، فإن الأصنام لا تعادي وإنما المعنى فإني عدو لهم مشتق من عدوت الشيء إذا جاوزته وخلفته وهذا لا يكون إلا فيمن له إرادة وأما عاديته فمفاعة لا يكون إلا من اثنين.
وجعل منه بعضهم: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} أي إن حبه للخير لشديد.
وقيل ليس منه لأن المقصود منه أنه لحب المال لبخيل والشدة البخل أي من أجل حبه للمال يبخل.
وجعل الزمخشري منه قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} كقوله: عرضت الناقة على الحوض لأن المعروض ليس له اختيار وإنما الاختيار للمعروض عليه فإنه قد يفعل ويريد وعلى هذا فلا قلب في الآية لأن الكفار مقهورون فكأنهم لا اختيار لهم والنار متصرفة فيهم وهو كالمتاع الذي يقرب منه من يعرض عليه كما قالوا: عرضت الجارية على البيع.
وقوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} ومعلوم أن التحريم لا يقع إلا على الملكف فالمعنى وحرمنا على المراضع أن ترضعه ووجه تحريم إرضاعه عليهن إلا يقبل إرضاعهن حتى يرد إلى أمه.
وقوله تعالى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ}، وقيل: الأصل وما تخدعهم إلا أنفسهم لأن الأنفس هي المخادعة والمسولة، قال تعالى: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ}.
ورد بأن الفاعل في مثل هذا هوالمفعول في المعنى وأن التغاير في اللفظ فعلى هذا يصح إسناد الفعل إلى كل منهما ولا حاجة إلى القلب.
الثاني: قلب المعطوف.
إما بأن تجعل المعطوف عليه معطوفا والمعطوف معطوفا عليه كقوله تعالى: {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ}، حقيقته فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم لأنه نظره ما يرجعون من القول غير متأت مع توليه عنهم. وما يفسر به التولي من أنه يتوارى في الكوة التي ألقى منها الكتاب مجاز والحقيقة راجحة عليه.
وقوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} أي تدلى فدنا لأنه بالتدلي نال الدنو والقرب إلى المنزلة الرفيعة وإلى المكانة لا إلى المكان.
وقيل: لا قلب، والمعنى: ثم أراد الدنو وفي صحيح البخاري: "{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} المعنى فإذا استعذت فأقرأ ".
وقوله: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا}، وقال صاحب الإيضاح: لا قلب فيه لعدم تضمنه اعتبارا لطيفا.
ورد بتضمنه المبالغة في شدة سورة البأس يعنى هلكت بمجرد توجه الناس إليها ثم جاءها.
الثالث: العكس.
العكس، وهو أمر لفظي كقوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ}.
وقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}.
{لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}.
{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}.
الرابع: المستوى.
وهو أن الكلمة او الكلمات تقرأ من أولها إلى آخرها ومن آخرها إلى أولها لا يختلف لفظها ولا معناها كقوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}.
{كُلٌّ فِي فَلَكٍ}.
الخامس: مقلوب البعض.
وهو أن تكون الكلمة الثانية مركبة من حروف الكلمة الأولى مع بقاء بعض حروف الكلمة الأولى كقوله تعالى: {فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ} فـ"بني" مركب من حروف "بين" وهو مفرق إلا أن الباقي بعضها في الكلمتين وهو أولها.
المدرج.
هذا النوع سميته بهذه التسمية بنظير المدرج من الحديث وحقيقته في أسلوب القرآن أن تجيء الكلمة إلى جنب أخرى كأنها في الظاهر معها وهي في الحقيقة غير متعلقة بها كقوله تعالى ذاكرا عن بلقيس: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} هو من قول الله لا من قول المرأة.
ومنه قوله تعالى: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}.
انتهى قول المرأة ثم قال يوسف عليه السلام: { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} معناه ليعلم الملك أني لم أخنه.
ومنه: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} تم الكلام فقالت الملائكة: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} فهذه صفة لأتقياء المؤمنين ثم قال: {يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ} فهذا يرجع إلى كفار مكة تمدهم إخوانهم من الشياطين في الغي.
وقوله: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} ثم أخبر عن فرعون متصلا: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}.
وقوله: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ} فالظاهر أن الكلام كله من كلام الزبانيةوالأمر ليس كذلك.
وقوله: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} من كلامه تعالى وقال: {إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
الترقي.
كقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}،{لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً}.
فإن قيل فقد ورد: {فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} والغالب أن يقدم في القليل على الكثير مع أن الظلم منع للحق من أصله والهضم منع له من وجه كالتطفيف فكان يناسبه تقديم الهضم.
قلت: لأجل فواصل الاى فإنه تقدم قبله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} فعدل عنه في الثاني كيلا يكون أبطأ وقد سيقت أمثلة الترقي في أسباب التقديم.
الاقتصاص.
ذكره أبو الحسين بن فارس وهو أن يكون كلام في سورة مقتصا من كلام في سورة آخرى أو في السورة نفسها ومثله بقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}، والآخرة دار ثواب لا عمل فيها فهذا مقتص من قوله: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى}.
ومنه قوله تعالى: {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} مأخوذ من قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ}.
وقوله: {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً}.
فأما قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} فيقال: إنها مقتصة من أربع آيات لأن الإشهاد أربعة:.
الملائكة عليهم السلام في قوله: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ}.
والأنبياء عليهم السلام لقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً}.
وأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}.
والأعضاء لقوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
ومنه قوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} وقرئت مخففة ومثقلة فمن شدد فهو من [ نَدَّ ] إذا نفر وهو مقتص من قوله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} الآية. ومن خفف فهو تفاعل من النداء مقتص من قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ}.
الألغاز.
واللغز الطريق المنحرف سمى به لانحرافه عن نمط ظاهر الكلام ويسمى ايضا أحجية لأن الحجى هو العقل وهذا النوع يقوي العقل عند التمرن والارتماض بحله والفكر فيه.
وذكر بعضهم أنه وقع في القرآن العظيم وجعل منه ما جاء في أوائل السور من الحروف المفردة والمركبةالتي جهل معناها وحارت العقول في منتهاها.
ومنه قوله تعالى في قصة إبراهيم لما سئل عن كسر الأصنام وقيل له: أنت فعلته فقال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} قابلهم بهذه المعارضة ليقيم عليهم الحجة ويوضح لهم المحجة.
وكذلك قول نمروذ: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} أتى باثنين فقتل أحدهما وأرسل الآخرة فإن هذه مغالطة.
الاستطراد.
وهو التعريض بعيب إنسان بذكر عيب غيره كقوله تعالى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ}.
وكقوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} وقوله: {أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ}.
الترويد.
وهو أن يعلق المتكلم لفظة من الكلام ثم يردها بعينها ويعلقها بمعنى آخر كقوله: {حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ} الآية فإن الأول مضاف إليه والثاني مبتدأ.
وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
وقوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ}.
وقد يحذف أحدها ويضمر أولا يلاحظ على الخلاف في قوله تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}.
التغليب.
وحقيقته إعطاء الشيء حكم غيره. وقيل ترجيح أحد المغلوبين على الآخر أو إطلاق لفظة عليهما إجراء للمختلفين مجرى المتفقين.
وهو أنواع:.
الأول : تغليب المذكر.
كقوله تعالى: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} غلب المذكر لأن الواو جامعة لأن لفظ الفعل مقتص ولو أردت العطف امتنع.
وقوله: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}.
وقوله: {إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} والأصل:" من القانتات والغابرات " فعدت الأنثى من المذكر بحكم التغليب.
هكذا قالوا، وهو عجيب فإن العرب تقول نحن من بني فلان لا تريد إلا موالاتهم والتصويب لطريقتهم وفي الحديث الصحيح في الأشعريين: " هم مني وأنا منهم " فقوله سبحانه: {مِنَ الْقَانِتِينَ} ولم يقل: من "القانتات" إيذانا بان وضعها في العباد جدا واجتهادا وعلما وتبصرا ورفعة من الله لدرجاتها في أوصاف الرجال القانتين وطريقهم.
ونظيره ولكن بالعكس قول عقبة بن أبي معيط لأمية بن خلف لما أجمع القعود.
عن وقعة بدر لأنه كان شيخا فجاء بمجمرة فقال: يا أبا علي استجمر فإنما أنت من النساء فقال: قبحك الله وقبح ما جئت به ثم تجهز.
ونازعهم بعضهم في ذلك من وجه آخر فقال: يحتمل ألا يكون [من] للتبعيض بل لابتداء الغاية أي كانت ناشئة من القوم القانتين لأنها من أعقاب هارون أخي موسى عليه السلام.
الثاني: تغليب المتكلم على المخاطب والمخاطب على الغائب.
فيقال: أنا وزيد فعلنا وأنت وزيد تفعلان ومنه قوله تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} بتاء الخطاب غلب جانب [ أنتم ] على جانب [ قوم ] والقياس أن يجيء بالياء لأنه وصف القوم وقوم اسم غيبة ولكن حسن آخر الخطاب وصفا ل قوم لوقوعه خبرا عن ضمير المخاطبين. قال ابن الشجري.
ولو قيل: إنه حالل لـ {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} لن في الضمير الخطاب معنى الإشارة لملازمته لها أو لمعناها لكان متجها وإن لم تساعده الصناعة لكن يبعده أن المراد وصفهم بجهل مستمر لا مخصوص بحال الخطاب ولم يقل:[ جاهلون ] إيذانا بأنهم يتجددون عند كل مصيبة لطلب آيات جهلهم.
وقال أبو البركات بن الأنباري: ولو قيل: إنما قال:[ تجهلون] بالتاء – لأن [ قوم ] هو [ أنتم ] في المعنى فلذلك، قال:[ تجهلون ] حملا على المعنى - لكان حسنا ونظيره قوله:
*أنا الذي سمتني أمي حيدره*
بالياء حملا على [ أنا ] لأن الذي هو[ أنا ] في المعنى.
ومنه قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} غلب فيه جانب [ أنت ]على جانب [مَن] فاسند إليه الفعل وكان تقديره: فاستقيموا فغلب الخطاب على الغيبة لأن حرف العطف فصل بين المسند إليهم الفعل فصار كما ترى. قال صاحب الكشاف تقديره:فاستقم كما أمرت وليستقم كذلك من تاب معك.
وما قلنا أقل تقديرا من هذا فاختر أيهما شئت.
وقوله تعالى: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ} فأعاد الضمير بلفظ الخطاب وإن كان [من تبعك] يقتضى الغيبة تغليبا للمخاطب وجعل الغائب تبعا له كما كان تبعا له في المعصية والعقوبة فحسن أن يجعل تبعا له في اللفظ وهو من محاسن ارتباط اللفظ بالمعنى.
وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فإن الخطاب في [ لعلكم ] متعلق بقوله [خلقكم] لا بقوله [اعبدوا] حتى يختص بالناس المخاطبين إذ لا معنى لقوله [اعبدوا لعلكم تتقون].
ومنه قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فيمن قرأ بالتاء.
ويجوز أن يكون المراد بـ[ما تعملون] الخلق كلهم والمخاطب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكل سامع أبدا فيكون تغليبا ولا يجوز أن يعتبر خطاب من سواه بدونه من غير اعتبار التغليب لامتنان أن يخاطب في كلام واحد اثنان أو أكثر من غير عطف او تثنية أو جمع.
ومنه قوله تعالى:.......
الثالث: تغليب العاقل على غيره.
بأن يتقدم لفظ يعم من يعقل ومن لا يعقل فيطلق اللفظ المختص بالعاقل على الجميع كما تقول: "خلق الله الناس والأنعام ورزقهم"، فإن لفظ [هم] مختص بالعقلاء.
ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} لما تقدم لفظ الدابة والمراد بها عموم من يعقل ومن لا يعقل غلب من يعقل فقال: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي}.
فإن قيل: هذا صحيح في {فمنهم} لأنه لمن يعقل وهو راجع إلى الجميع فلم قال: [من] وهو لا يقع على العام بل خاص بالعاقل ؟.
قلت:[ مَن ] هنا بعض [ هم ]وهو ضمير من يعقل.
فإن قلت: فكيف يقع على بعضه لفظ ما لا يعقل ؟.
قلت: من هنا قال أبو عثمان: إنه تغليب من غير عموم لفظ متقدم فهو بمنزله من يقول رأيت ثلاثة زيدا وعمرا وحمارا.
وقال ابن الصائغ:[ هم ] لا تقع إلا على من يعقل فلما أعاد الضمير على كل دابة غلب من يعقل فقال:[ هم ] ومن بعض هذا الضمير وهو للعاقل فلزم أن يقول [من] فلما قال: بوقوع التغليب في الضمير صار ما يقع عليه حكمه حكم العاقلين فتمم ذلك بأن أوقع [من].
وقوله تعالى حاكيا عن السماء والأرض: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} ، إنما جمعهما جمع السلامة، ولم يقل [طائعين] ولا [طائعات] لأنه أراد: ائنيا بمن فيكم من الخلائق طائعين فخرجت الحال على لفظ الجمع وغلب من يعقل من الذكور.
وقال بعض النحويين: لما أخبر عنهما أنهما يقولان كما يقول الآدميون أشبهتا الذكور من بني آدم. وإنما قال: [طائعين] ولم يقل: [مطيعين] لنه من طعنا أي أنقدنا وليس من أطعنا يقال طاعت الناقة تطوع طوعا إذا انقادت.
وقوله تعالى: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} ، قيل: أوقع [ما] لأنها تقع على أنواع من يعقل لأنه إذا اجتمع من يعقل ومالا يعقل فغلب مالا يعقل كان الأمر بالعكس ويناقضه {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}.
وقال الزمخشري جاء بـ[ما] تحقيرا لشأنهم وتصغيرا قال:[ له قانتون] تعظيم.
ورد عليه ابن الضائع بصحة وقوعها على الله عز وجل قال: وهذا غاية الخطأ، وقوله في دعاء الأصنام: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ}.
وقوله: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} وأما قوله: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} وقوله: {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ}.
{إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}.
{لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا}.{يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ}.
لما أخبر عنها باخبار الآدميين جرى ضميرها على حد من يعقل وكذا البواقي.
فإن قيل: فقد غلب غير العاقل على العاقل في قوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ} فإنه لو غلب العاقل على غير العاقل لآتى بـ[مَن].
فالجواب أن هذا الموضع غلب فيه من يعقل وعبر عن ذلك ب ما لأنها واقعة على أجناس من يعقل خاصة كهذه الآية.
قوله: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ} ولم يقل [ومن فيهن] قيل: لأن كلمة [ما] تتناول الأجناس كلها تناولا عاما باصل الوضع و[من] لا تتناول غير العقلاء بأصل الوضع فكان استعمال [ما] هنا أولى.
وقد يجتمع في لفظ واحد تغليب المخاطب على الغائب والعقلاء على غيرهم، كقوله: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ} ، أي خلق لكم أيها الناس من جنسكم ذكورا وإناثا وخلق الأنعام أيضا من أنفسها ذكورا وإناثا يذرؤكم أي ينبتكم ويكثركم أيها الناس والأنعام في هذا التدبير والجعل فهو خطاب للجميع للناس المخاطبين وللأنعام المذكور بلفظ الغيبة ففيه تغليب المخاطب على الغائب وإلا لما صح ذكر الجميع - أعنى الناس والأنعام - بطريق الخطاب لأن الأنعام غيب [وفيه] تغليب العقلاء على غيرهم وإلا لما صح خطاب الجمع بلفظ [كم] المختص بالعقلاء ففي لفظ [كم] تغليبان ولولا التغليب لكان القياس أن يقال: يذرؤكم وإياها هكذا قرره السكاكي والزمخشري.
ونوزعا فيه بأن جعل الخطاب شاملا للأنعام تكلف لا حاجة إليه لأن الغرض إظهار القدرة وبيان الألطاف في حق الناس فالخطاب مختص بهم والمعنى: يكثركم.
أيها الناس في التدبير حيث مكنكم من التوالد والتناسل وهيأ لكم من مصالحكم ما تحتاجون إليه في ترتيب المعاش وتدبير التوالد وجعلها أزواجا تبقى ببقائكم وعلى هذا يكون التقدير: وجعل لكم من الآنعام أزواجا وهذا أنسب بنظم الكلام مما قرروه وهو جعل الأنعام أنفسها أزواجا.
وقوله: {يَذْرَأُكُمْ فِيهِ} أي في هذا التدبير، كأنه محل لذلك ولم يقل [به] كما قال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} لأنه مسوق لإظهار الاقتدار مع الوحدانية فأسقط السببية وأثبت [في] الظرفية وهذا وجه من إعجاز قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} لأن الحياة من شأنها الاستناد إليه سبحانه لا إلى غيره فاختيرت [في] على الباء لأنه مسوق لبيان الترغيب والمعنى مفهوم والقصاص مسوق للتجويز وحسن المشروعية، {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.
الرابع: تغليب المتصف بالشيء على ما لم يتصف به.
كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} قيل: غلب غير المرتابين علىالمرتابين واعترض بقوله تعالى: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وهذا خطاب للكفار فقط قطعا فهم المخاطبون أولا بذلك ثم إن كنتم صادقين لا يتميز فيها التغليب ثم هي شاهدة بأن المتكلم معهم يخص.
الجاحدين بقوله :{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وإذا لم يكن الخطاب إلا فيهم فتغليب حال من لم يدخل في الخطاب لا عهد به في مخاطبات العرب.
الخامس: تغليب الأكثر على الأقل.
بأن ينسب إلى الجميع وصف يختص بالأكثر كقوله تعالى: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} أدخل شعيب عليه السلام في قوله :{لَتَعُودُنَّ} بحكم التغليب، إذ لم يكن في ملتهم أصلا حتى يعود إليها ومثله قوله :{إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} ، واعترض بأن عاد بمعنى صار لغة معروفة، وأنشدوا:
فإن تكن الأيام أحسن مرة ... إلى فقد عادت لهن ذنوب
ولا حجة فيه لجواز أن يكون ضمير الأيام فاعل عادت وإنما الشاهد في قول أمية:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
ويحتمل جوابا ثالثا وهو أن يكون قولهم لشعيب ذلك من تعنتهم وبهتانهم وادعائهم أن شعيبا كان على ملتهم لا كما قال فرعون لموسى. وقوله: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا} كناية عن أتباعه لمجرد فائدتهم وأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن قال ذلك عن نفسه وأتباعه فقد استثنى والمعلق بالمشيئة لايلزم إمكانه شرعا تقديرا والاعتراف بالقدرة والرجوع لعلمه سبحانه وأن علم العبد عصمة نفسه أدبا مع ربه لاشكا.
ويجوز أن يراد بالعود في ملتهم مجرد المساكنة والاختلاط بدليل قوله: {إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا}. ونظيره: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ويكون ذلك إشارة إلى الهجرة عنهم وترك الإجابة لهم لا جوابا لهم. وفيه بعد.
السادس: تغليب الجنس الكثير الأفراد على فرد من غير هذا الجنس مغموز فيما بينهم بأن يطلق اسم الجنس على الجميع.
كقوله: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ} وأنه عد منهم مع أنه كان من الجن تغليبا لكونه جنيا واحدا فيما بينهم ولأن حمل الاستثناء على الاتصال هو الأصل. ويدل على كونه من غير الملائكة ما رواه مسلم في صحيحه: " خلقت الملائكة من نور والجن من النار ".
وقيل: إنه كان ملكا فسلب الملكية وأجيب عن كونه من الجن بأنه اسم لنوع من الملائكة.
قال الزمخشري: كان مختلطا بهم فحينئذ عمته الدعوة بالخلطة لا بالجنس فيكون من تغليب الأكثر.
هذا إن جعلنا الاستثناء متصلا ولم يجعل [إلا] بمعنى [لكن].
وقال ابن جنى في [ القد ]: قال أبو الحسن في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وإنما المتخذ عيسى دون أمه فهو من باب:
*لنا قمراها والنجوم الطوالع*
السابع: تغليب الموجود على ما لم يوجد.
كقوله: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} قال الزمخشري: فإن المراد: المنزل كله وإنما عبر عنه بلفظ المضى وإن كان بعضه مترقبا تغليبا للموجود على ما لم يوجد.
الثامن: تغليب الإسلام.
كقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ} قاله الزمخشري: لأن الدرجات للعلو والدركات للسفل فاستعمل الدرجات في القسمين تغليبا.
التاسع: تغليب ما وقع بوجه مخصوص على ما وقع بغير هذا الوجه.
كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} ذكر الأيدي لأن أكثر الأعمال.
نزاول بها فحصل الجمع بالواقع بالأيدي تغليبا أشار إليه الزمخشري في آخر آل عمران.
ويشاكله ما أنشده الغزنوي في "العامريات" لصفية بنت عبد المطلب:
فلا والعاديات غداة جمع
بأيديها إذا سطع الغبار
العاشر: تغليب الأشهر.
كقوله تعالى: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} أراد المشرق والمغرب فغلب المشرق لأنه أشهر الجهتين قاله ابن الشجري وسيأتي فيه وجه آخر.
[ البرهان في علوم القرآن ( 3 / 215 ـ 311 )]