(1)
لَمَّا كانَ المُشْركونَ في قَدِيمِ الزَّمانِ وحديثِهِ
إنَّما وَقَعُوا في الشِّرْكِ لِتعلُّقِهِم بأذيالِ الشَّفاعةِ، كمَا قالَ تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ}[يونس:18].
- وقالَ تعالى: {وَالَّذينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}[الزُّمَر:3] وكذلِكَ قَطَعَ اللهُ أَطْماعَ المُشرِكينَ منها، وأَخْبَرَ أنَّهُ شِرْكٌ، ونَزَّهَ نَفْسَهُ عنه، ونَفَى أَنْ يَكُونَ للخَلْقِ مِن دونِهِ وَلِيٌّ أو شَفِيعٌ.
-
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ}[السجدة:4].
أَرَادَ المُصَنِّفُ في هذا البابِ إِقَامَةَ الحُجَجِ عَلَى أنَّ ذلك هو عينُ الشِّرْكِ وأنَّ الشَّفاعةَ التي يَظُنُّهَا مَنْ دَعَا غيرَ اللهِ ليَشْفَعَ له كمَا يَشْفَعُ الوزيرُ عندَ المَلِكِ مُنْتَفِيةٌ دُنيا وأُخْرَى، وإنَّما اللهُ هو الَّذي يَأْذَنُ للشَّافعِ ابتداءً، لا يَشْفَعُ ابتداءً كمَا يَظُنُّهُ أَعْدَاءُ اللهِ.
فإنْ قلْتَ:
إِذَا كَانَ مَن اتَّخَذَ شَفِيعًا عندَ اللهِ،
إنَّما قَصْدُهُ تَعْظِيمُ الرَّبِّ تعالى وتَقَدَّسَ أَنْ يُتَوصَّلَ إليه إِلاَّ بالشُّفَعَاءِ، فَلِمَ كَانَ هَذَا القدْرُ شِرْكًا؟!.
قيلَ:
قَصْدُهُ للتَّعْظيمِ لا يَدُلُّ عَلَى أنَّ ذَلِكَ تَعْظِيمٌ للهِ تَعَالى،
فكم مَن يَقْصِدُ التَّعظيمَ لشَخْصٍ يَنْقُصُهُ بتَعْظِيمِهِ، ولهذا قيلَ في المَثَلِ المَشْهُورِ: (يَضُرُّ الصَّدِيقُ الجَاهِلُ ما لا يَضُرُّ العَدُوُّ العَاقِلُ).
فإنَّ اتِّخاذَ الشُّفَعَاءِ والأنْدَادِ مِن دونِ اللهِ هَضْمٌ لِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ، وتَنَقُّصٌ للعَظَمَةِ الإِلَهِيَّةِ، وسوءُ ظَنٍّ بِرَبِّ العَالَمِينَ، كمَا قالَ تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لهمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[الفتح:6].
فإنَّهُم ظَنُّوا بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ حتَّى أَشْرَكُوا بهِ،
ولو أَحْسَنُوا بهِ الظَّنَّ لوحَّدُوهُ حَقَّ تَوْحيدِهِ، ولهذا أَخْبرَ سُبْحانَهُ وتعالى عن المُشرِكِينَ أنَّهُم ما قَدَرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ وكيف يَقْدِرُهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَن اتَّخَذَ مِن دونِهِ نِدًّا، أو شَفِيعًا يُحِبُّهُ ويَخَافُهُ ويَرْجُوهُ، ويَذِلُّ لَهُ، ويَخْضَعُ له ويَهْرُبُ مِن سَخَطِهِ ويُؤْثِرُ مَرْضَاتَهُ ويَدْعُوه ويَذْبَحُ له ويَنْذِرُ، وهذه هي التَّسْويَةُ التي أَثْبَتَهَا المُشْرِكونَ بينَ اللهِ وبينَ آلهتِهِم وعَرَفُوا وهم في النَّارِ أنَّها كانَتْ باطلاً وضَلاَلاً، فيَقُولُونَ وهم في النَّارِ: {تَاللهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العَالَمِينَ}[الشعراء:97،98].
ومَعْلومٌ أنَّهُم ما سَاوَوْهُم بهِ في الذَّاتِ والصِّفاتِ والأَفْعَالِ،
وَلاَ قَالُوا: إنَّ آلِهَتَكُم خَلَقَتِ السَّمَاواتِ والأَرْضَ، وإنَّهَا تُحْيي وتُمِيتُ، وإنَّما سَاوَوْهُم به في المَحَبَّةِ والتَّعْظِيمِ والعِبَادَةِ، كَمَا تَرَى عَلَيْهِ أَهْلَ الإِشْرَاكِ ممَّنْ يَنْتَسِبُ إلى الإسلامِ، وإنَّما كانَ ذلك هَضْمًا لحَقِّ الرُّبُوبيَّةِ، وتَنَقُّصًا لعظمةِ الإلهيَّةِ، وسُوءَ ظَنٍّ برَبِّ العَالَمِينَ؛ لأنَّ المُتَّخِذَ للشُّفعاءِ والأَنْدَادِ؛
إمَّا أَنْ يَظُنَّ أنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَحْتَاجُ إلى مَن يُدَبِّرُ أَمْرَ العَالَمِ مَعَهُ مِن وَزيرٍ أو ظَهِيرٍ أو مُعِينٍ، وَهَذَا أَعْظَمُ التَّنَقُّصِ لمَنْ هو غَنِيٌّ عن كلِّ ما سِوَاهُ بذاتِهِ، وكلُّ ما سواه فَقِيرٌ إليه بذاتِهِ.
-
وإمَّا أَنْ يَظُنَّ أنَّ اللهَ سبحانَهُ إنَّما تَتِمُّ قُدْرتُهُ بقُدْرةِ الشَّفيعِ.
- وإمَّا أنْ يَظُنَّ أنَّهُ لا يَعْلَمُ حتى يُعَلِّمَهُ الشَّفِيعُ،
أو لاَ يَرْحَمُ حتى يَجْعَلَهُ الشَّفيعُ يَرْحَمُ، أو لا يَكْفِي وحدَهُ، أو لا يَفْعَلُ ما يُرِيدُ العَبْدُ حتى يَشْفَعَ عندَهُ كمَا يَشْفَعُ عندَ المخلوقِ، أو لا يُجِيبُ دُعاءَ عِبادِهِ حَتَّى يَسْأَلُوا الشَّفِيعَ أن يَرْفَعَ حاجَتَهُم إليهِ، كمَا هو حالُ مُلُوكِ الدُّنيا، وهذا أَصْلُ شِرْكِ الخَلْقِ، أو يَظُنُّ أنَّهُ لا يَسْمَعُ حتى يَرْفَعَ الشَّفِيعُ إِلَيْهِ ذَلِكَ، أو يَظُنُّ أنَّ للشَّفيعِ عليه حقًّا، فهو يُقْسِمُ عليه بحَقِّهِ، ويَتَوَسَّلُ إليهِ بذلكَ الشَّفيعِ، كمَا يَتَوَسَّلُ النَّاسُ إلى الأكابرِ والمُلُوكِ بمَنْ يَعِزُّ عليهِم، ولا تُمْكِنُهُم مُخَالَفتُهُ، وكلُّ هذا تَنَقُّصٌ للرُّبُوبيَّةِ، وهَضْمٌ لحَقِّها، ذَكَرَ مَعْنَاه ابنُ القَيِّمِ.
فلهذه الأُمُورِ وغيرِها أَخْبَرَ سبحانَهُ وتعالى أنَّ ذلك شِرْكٌ،
ونَزَّهَ نَفْسَهُ عنه فقالَ: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سبحانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[يُونُس:18].
فإنْ قلْتَ:
إنَّما حَكَمَ سبحانَهُ وتعالى بالشِّرْكِ عَلَى مَن عَبَدَ الشُّفَعَاءَ،
أَمَّا مَنْ دَعَاهُم للشَّفَاعَةِ فَقَطْ، فهو لَمْ يَعْبُدْهُم، فلا يَكُونُ ذلك شِرْكًا.
قيلَ:
مُجَرَّدُ اتِّخَاذِ الشُّفعاءِ مَلْزُومٌ للشِّرْكِ،
والشِّرْكُ لاَزِمٌ لَهُ، كَمَا أَنَّ الشِّرْكَ مَلْزُومٌ لتَنَقُّصِ الرَّبِّ سبحانَهُ وتعالى، والتَّنَقُّصُ لاَزِمٌ لَهُ ضَرُورَةً، شَاءَ المُشْرِكُ أَم أَبَى، وعَلَى هذا فالسُّؤَالُ باطِلٌ مِن أَصْلِهِ لا وجُودَ له في الخَارِجِ، وإنَّما هو شَيْءٌ قَدَّرَهُ المُشْرِكُونَ في أَذْهَانِهِم، فإنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ، بل هو مُخُّ العِبَادَةِ، فَإِذَا دَعَاهُم للشفاعةِ، فَقَدْ عَبَدَهُم وأَشْرَكَ في عِبَادَةِ اللهِ شَاءَ أم أَبَى.
(2)
الإِنْذَارُ: هو الإِعْلامُ بمَوْضِعِ المَخَافَةِ.
وقولُهُ:
{بهِ} قالَ ابنُ عبَّاسٍ: (بالقُرْآنِ).
وقولُهُ: {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى ربِّهِمْ}[الأنعام:50] أي: أَنْذِرْ يا مُحَمَّدُ بالقُرْآنِ الَّذينَ هم مِن خَشْيَةِ ربِّهِم مُشْفِقونَ، الَّذينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهم، ويَخَافُونَ سُوءَ الحِسابِ، وهم المُؤْمِنُونَ، كمَا رُوِيَ ذلك عن ابنِ عبَّاسٍ، والسُّدِّيِّ.
وعن الفُضَيْلِ بنِ عِيَاضٍ: (ليسَ كلُّ خَلْقِهِ عَاتَبَ، إنَّما عَاتَبَ الَّذينَ يَعْقِلُونَ فقالَ: {وَأَنذِرْ بهِ الَّذينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى ربِّهِمْ}أي: وهم المُؤمِنونَ أَصْحابُ القُلُوبِ الوَاعِيةِ، فإنَّهُم المَقْصُودونَ، والمَنْظُورُ إليهِم لا أَصْحابُ التَّجَمُّلِ والسِّيادَةِ، فإنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُم وأَمْوَالِكُم، ولكنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُم وأَعْمَالِكُمْ).
وقولُهُ: {لَيْسَ لَهُم مِن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ}[الأنعام:51] قَالَ الزَّجَّاجُ: (مَوضِعُ {ليسَ}نَصْبٌ عَلَى الحالِ، كأنَّهُ قالَ: مُتَخَلِّينَ مِن وَلِيٍّ وشَفِيعٍ، والعَامِلُ فيه{يَخَافُونَ}).
وقالَ ابنُ كثيرٍ: (ليسَ لهم مِن دونِهِ يَوْمَئذٍ وَلِيٌّ ولا شَفِيعٌ مِن عَذَابهِ إنْ أَرَادَهُم بهِ {لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ}فيَعْمَلُونَ في هذه الدَّارِ عَمَلاً يُنَجِّيهِم اللهُ بِهِ مِن عَذَابِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ).
قلْتُ:
فنَفَى سبحانَهُ وتعالى عن المؤمنينَ أن يكونَ لهم وَلِيٌّ
أو شَفِيعٌ مِن دونِ اللهِ كمَا هو دينُ المُشْرِكِينَ، فمَن اتَّخذَ مِن دونِ اللهِ شَفِيعًا، فليسَ مِن المؤمنينَ، ولا تَحْصُلُ له الشَّفاعَةُ.
وليسَ في الآيةِ دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ الشَّفَاعَةِ لأهْلِ الكَبَائرِ -بإذنِ اللهِ- كمَا ادَّعتْهُ المُعْتَزِلَةُ، بل فيها دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ اتِّخاذِ الشُّفعاءِ مِن المؤمنينَ، وعلى نَفْيِهَا بغيرِ إذنِ اللهِ، ولهذا أَثْبَتَ الشَّفَاعَةَ بإذنهِ في مَوَاضِعَ كمَا قالَ: {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}.
(3)
هَكَذَا أَوْرَدَها
المُصَنِّفُ، ونَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا وعَلَى الآيةِ التي قَبْلَهَا ليَتَّضِحَ المَعْنَى.
قالَ اللهُ -تعالى-: {أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ (43) قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا له مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[الزُّمَر:43،44] فقولُهُ: أَمِ اتَّخَذُوا، أي: بلِ اتَّخَذُوا، أي: المُشْرِكُونَ والهَمْزَةُ للإنْكَارِ مِن دونِ اللهِ شُفَعَاءَ، أي: أَتَشْفَعُ لَهُم عندَ اللهِ بزَعْمِهِم كمَا قالَ: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ}[يونس:18].
- وقالَ: {وَالَّذينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَـفَّارٌ}[الزمر: 3] فكذَّبَهُم وكفَّرَهُم بذلك.
-
وقالَ تعالى: {فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الَّذينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}[الأحقاف:28] فهذا هو مَقْصودُ المشركينَ ممَّن عَبَدُوهُم وهو الشَّفَاعَةُ لَهُم عندَ اللهِ.
- قولُهُ: {مِن دُونِ اللهِ} أي: مِن دونِ إذْنِهِ وأمْرِهِ، والحالُ أنَّهُ لا يَشْفَعُ عندَهُ أَحَدٌ إلاَّ بإذْنِهِ، وأن يكونَ المَشْفُوعُ له مُرْتَضًى، وهاهنا الشَّرْطانِ مَفْقُودَانِ، فإنَّ اللهَ سبحانَهُ لم يَجْعَلِ اتِّخاذَ الشُّفعاءِ ودُعَاءهُم مِن دونِهِ سَبَبًا لإذْنِهِ ورِضَاهُ، بل ذلك سَبَبٌ لمَنْعِهِ وغَضَبِهِ.
-
قولُهُ: {قُلْ أَوَلَوْ كانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ}[الزمر:43] أي: أَيَشْفَعُونَ ولو كَانُوا عَلَى هذه الصِّفَةِ كمَا تُشَاهِدُونَهُم جَمَادَاتٍ لا تَقْدِرُ ولا تَعْلَمُ، أو أمواتًا كذلِكَ، حتى ولا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ كمَا قالَ: {قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}[الزُّمَر:44] أي: هو مَالِكُهَا كُلِّها فليسَ لمَنْ تَدْعُونَهُم منها شَيْءٌ.
-
قَالَ البَيْضَاوِيُّ: (لَعَلَّهُ رَدٌّ لِمَا عَسَى يُجِيبُونَ بهِ وهو أنَّ الشُّفعاءَ أَشْخَاصٌ مُقَرَّبُونَ، هي تَمَاثيلُهُم، والمعْنَى: أنَّهُ مَالِكُ الشَّفَاعَةِ كُلِّها لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ شَفَاعَةً إِلاَّ بإذْنِهِ، وَلاَ يَسْتَقِلُّ بها).
-
وقولُهُ: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[الحديد:2] تَقْرِيرٌ لبُطْلاَنِ اتِّخَاذِ الشُّفعاءِ مِن دونِهِ بأنَّهُ مالِكُ المُلْكِ كُلِّهِ، لا يَمْلِكُ أَحَدٌ أَنْ يَتَكلَّمَ في أمرِهِ دونَ إذنِهِ ورضاهُ، فانْدَرَجَ في ذلك مِلْكُ الشَّفاعةِ، فإِذَا كانَ هو مَالِكَهَا بَطَلَ اتِّخاذُ الشُّفعاءِ مِن دونِهِ كَائِنًا مَنْ كانَ.
وقولُهُ: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: فتَعْلَمُونَ أنَّهُم لا يَشْفَعُونَ، ويَخِيبُ سَعْيُكُم في عِبَادَتِهِم، بل يَكُونُونَ عليكُمْ ضِدًّا ويَتَبَرَّؤونَ مِن عِبَادتِكُم كمَا قالَ تعالى: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا}[مريم:82].
-
وقالَ تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ}[يونس:28،29].
قالَ: (وقولُهُ: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}[البقرة:255]) في هذه الآيةِ رَدٌّ عَلَى المشركينَ الَّذينَ اتَّخذُوا الشُّفعاءَ مِن دونِ اللهِ مِن المَلاَئِكَةِ والأنبياءِ والأصْنَامِ المُصَوَّرةِ عَلَى صُوَرِ الصَّالِحِينَ وغيرِهِم، وظَنُّوا أنَّهُم يَشْفَعُونَ عندَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَأَنْكَرَ ذلك عليهِمْ، وبَيَّنَ عَظِيمَ مَلَكُوتِهِ وكِبْرِيائِهِ وأنَّ أَحَدًا لا يَتَمالَكُ أَنْ يَتَكلَّمَ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلاَّ إذا أُذِنَ له في الكَلاَمِ كَقَوْلِهِ: {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ له الرَّحْمَـنُ}[النبأ:38].
-
وقولِهِ: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}[هود:105].
قالَ ابنُ جَرِيرٍ في هذه الآيةِ: (نَزَلَتْ لَمَّا قالَ الكُفَّارُ: ما نَعْبُدُ أَوْثانَنَا هذه إِلاَّ ليُقَرِّبونَا إلى اللهِ زُلْفَى.
-
فقالَ اللهُ تعالى:{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}[النساء:17] وتَقَرَّرَ في هذه الآيةِ أنَّ اللهَ يَأْذَنُ لمَنْ يَشَاءُ بالشَّفاعةِ، وهم الأَنْبِياءُ والعُلَمَاءُ وغَيْرُهُم، والإِذْنُ راجِعٌ إلى الأمرِ فيما نَصَّ عليه كمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قِيلَ له: اشْفَعْ تُشَفَّعْ، وكذلِكَ قالَه غيرُ واحدٍ مِن المُفَسِّرِينَ).
(4)
قالَ
أَبُو حيَّانَ: ((كم) خَبَرِيَّةٌ ومعناها: التَّكْثِيرُ وهي في مَوْضِعِ رفْعٍ بالابْتِدَاءِ والخَبَرُ {لاَ تُغْنِي} والغَنَاءُ جَلْبُ النَّفْعِ، ودَفْعُ الضَّرَرِ بحَسَبِ الأمرِ الَّذي يكونُ فيه الغَنَاءُ.
و(كم) لَفْظُهَا مُفْردٌ، ومعناها جَمْعٌ.
وإذا كانَتِ المَلاَئِكَةُ المُقَرَّبونَ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُم إِلاَّ بعدَ إذنِ اللهِ ورِضَاهُ أن يَرْضَاه أَهْلاً للشَّفاعةِ، فكيفَ تَشْفَعُ الأَصْنَامُ لمَنْ عَبَدَهَا؟)
قلْتُ: في هذه الآياتِ مِن الرَّدِّ عَلَى مَنْ عَبَدَ المَلاَئِكَةَ والصَّالِحِينَ لشَفَاعَةٍ أو غيرِهَا ما لا يَخْفَى، لأنَّهُم إذا كانُوا لا يَشْفَعُونَ إِلاَّ بإذنٍ مِن اللهِ ابْتِدَاءً، فَلأَِيِّ معنًى يُدعَونَ ويُعْبَدُونَ؟
وأيضًا فإنَّ اللهَ لا يَأْذَنُ إلا لمَن ارْتَضَى قولَهُ وعَمَلَهُ، وهو المُوحِّدُ لا المُشْرِكُ كمَا قالَ: {يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ له الرَّحْمَـنُ وَرَضِيَ له قَوْلاً}[طه:109].
واللهُ لا يَرْتَضِي إِلاَّ التَّوحيدَ
كمَا قالَ: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[آل عِمْرَانَ:84] وقالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبهِ)) فَلَمْ يَقُلْ: أَسْعَدُ النَّاسِ بشَفَاعَتِي مَن دَعَانِي.
فَإِنْ قالَ المُشْرِكُ: أَنَا أَعْلَمُ أنَّهُم لا يَشْفَعُونَ إلا بإذنِهِ لكن أَدْعُوهم ليَأْذَنَ اللهُ لهم في الشَّفاعةِ لي.
قيلَ:
فإنَّ اللهَ لم يَجْعَلِ الشِّرْكَ بهِ ودُعَاءَ غيرِهِ سببًا لإذنِهِ
ورِضَاهُ، بل ذلك سَبَبٌ لغَضَبِه، ولهذا نَهَى عن دُعَاءِ غَيْرِهِ في غيرِ آيةٍ كَقَوْلِهِ: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ}[يونس:106].
فَتَبَيَّنَ أنَّ دُعاءَ الصَّالِحِينَ مِن المَلاَئِكَةِ والأَنْبِياءِ وغَيْرِهِم شِرْكٌ كمَا كانَ المُشْرِكُونَ الأَوَّلُونَ يَدْعُونَهُم ليَشْفَعُوا لهم عندَ اللهِ، فَأَنْكَرَ اللهُ عليهِم ذلِكَ، وأَخْبَرَ أنَّهُ لا يَرْضَاهُ، ولا يَأْمُرُ بهِ كمَا قالَ تعالى: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}[آل عِمْرَانَ:80].
-
وقالَ تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بهِمُ الأَسْبَابُ}[البقرة:166].
قالَ ابنُ كثيرٍ: (تَبَرَّأَتْ منهم المَلاَئِكَةُ الَّذينَ كانُوا يَزْعُمُونَ أنَّهُم يَعْبُدُونَهُم في الدُّنيا: فتَقُولُ المَلاَئِكَةُ: {تَبَرَّأْنَا إليكَ ما كَانُوا إيَّانَا يَعْبُدُونَ}).
-
وقالَ تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلهيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}[المائدة:116].
-
وقالَ تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً}[الإسراء:56].
رَوَى سعيدُ بنُ مَنْصورٍ، والبُخَارِيُّ، والنَّسَائِيُّ، وابنُ جَرِيرٍ، عن ابنِ مسعودٍ، في الآيةِ: كانَ نَفَرٌ مِن الإنسِ يَعْبُدُونَ نَفَرًا مِن الجِنِّ فَأَسْلَمَ نَفَرٌ مِن الجِنِّ وتَمَسَّكَ الإنْسِيُّونَ بِعِبَادَتِهِم فَأَنْزَلَ اللهُ: {أُولَئِكَ الَّذينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ}[الإسراء:57]، كِلاَهُمَا بالياءِ.
ورَوَى ابنُ جَرِيرٍ وابنُ أَبِي حَاتِمٍ عن ابنِ عَبَّاسٍ في الآيةِ: (قَدْ رَجَعَ إلى دِينِه الأَوَّلِ ودِينِ قَوْمِهِ.
فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ آخِرَ النَّجْمِ سَجَدَ، وسَجَدَ كُلُّ مَن حَضَرَ مِن مُسْلِمٍ ومُشْرِكٍ، ففَشَتْ تلك الكَلِمَةُ في النَّاسِ، وأَظْهَرَها الشَّيْطَانُ حتَّى بَلَغَتْ أَرْضَ الحَبَشَةِ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}[الحجّ:52] فلَمَّا بيَّنَ اللهُ قَضَاءهُ وبَرَّأَهُ مِن سَجْعِ الشَّيطانِ انْقَلَبَ المشركونَ بعَدَاوتِهِم وضَلاَلتِهِم للمُسْلِمِينَ، واشْتَدُّوا عليهِ).
وهي قِصَّةٌ مَشْهُورَةٌ صَحِيحَةٌ: رُوِيت عنِ ابنِ عبَّاسٍ مِن طُرُقٍ بَعْضُهَا صَحِيحٌ.
ورُوِيَت عن جَمَاعَةٍ مِن التَّابِعِينَ بأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ؛ منهم عُرْوَةُ، وسَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وأبو العَالِيَةِ، وأبو بَكْرِ بنُ عبدِ الرَّحمنِ، وعِكْرِمَةُ، والضَّحَّاكُ، وقَتَادَةُ، ومُحَمَّدُ بنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ، ومُحَمَّدُ بنُ قَيْسٍ، والسُّدِّيُّ وغيرُهُم.
وذكرَهَا أيضًا أهلُ السِّيَرِ وغيرُهُم وأصْلُهَا في (الصَّحيحينِ) والمَقْصُودُ منْها قولُهُ: (تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى وإِنَّ شَفَاعتَهُنَّ لتُرْتَجَى).
فإِنَّ الغَرَانِيقَ هي:
المَلاَئِكَةُ عَلَى قَوْلٍ.
-
وعَلَى آخَرَ هي الأَصْنَامُ ولاَ تَنافِيَ بينَهُمَا، فإنَّ المَقْصُودَ بعِبَادَتِهم الأصنامَ والمَلائِكَةَ والصَّالِحِينَ كمَا تَقَدَّمَ عن البَيْضَاوِيِّ.
فلَمَّا سَمِعَ المُشْرِكُونَ هَذَا الكَلاَمَ المُقْتَضِيَ لجَوَازِ عِبَادَةِ المَلاَئِكَةِ رَجَاءَ شَفَاعَتِهِم عندَ اللهِ ظنُّوا أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَهُ، فَرَضُوا عنه وسَجَدُوا مَعَهُ، وحَكَمُوا بأنَّهُ قد وافَقَهُم عَلَى دِينِهِم من دُعَاءِ المَلاَئِكَةِ والأصْنَامِ للشَّفاعةِ حتى طارتِ الكَلِمَةُ كلَّ مطارٍ، وبَلَغَ المُهَاجِرينَ إلى الحَبَشَةِ أنَّهُم صالَحُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَرَفْتَ أَنَّ الفَارِقَ بينَهُم وبينَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي مَسْأَلَةُ الشَّفَاعَةِ؛ لأنَّهُم يَقُولُونَ: نُرِيدُ مِن المَلاَئِكَةِ والأَصْنَامِ المُصَوَّرةِ عَلَى صُورِهِم بزعمِهِم أن يَشْفَعُوا لنا عندَ اللهِ، والرَّسولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد كَانَ أَهْلُ الشِّرْكِ يَعْبُدُونَ المَلاَئِكَةَ والمَسِيحَ وعُزَيْرًا.
-
وفي رِوَايَةٍ عنه عندَهما في قَوْلِهِ: {فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ}[الإسراء:56] قَالَ: عيسَى وأُمُّهُ وعُزَيْرٌ.
-
وقَالَ تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}[الأنبياء:98] إلى قولِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لهُم مِّنَّا الحُسْنَى}[الأنبياء:101].
قال ابنُ إسْحَاقَ: (لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ ابنِ الزِّبَعْرَى ومُخَاصَمتَهُ لرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عندَ نُزُولِ هذه الآيةِ قَالَ: وَأَنْزَلَ اللهُ:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لهُم مِّنَّا الحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ}[الأنبياء:101] أي: عِيسَى وعُزَيْرٌ ومَن عُبِدَ مِن الأَحْبارِ والرُّهْبانِ الذين مَضَوْا على أَمْرِ اللهِ، فاتَّخَذَهُم مَن يَعْبُدُهم مِن أَهْلِ الضَّلاَلَةِ أَرْبابًا مِن دونِ اللهِ، وَقَالَ تَعَالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحجّ:52] الآياتِ).
ورَوَى ابنُ أَبِي حَاتِمٍ عن الزُّهْرِيِّ قَالَ: (نَزَلَتْ سُورَةُ النَّجْمِ وكَانَ المشركون يَقُولُونَ: لو كَانَ هَذَا الرَّجُلُ يَذْكُرُ آلِهَتَنَا بخَيْرٍ أَقْرَرْنَاهُ وأَصْحَابَهُ، ولكنَّه لا يَذْكُرُ مَن خَالَفَ دِينَهُ مِن اليَهُودِ والنَّصارَى بمثلِ الذي يَذْكُرُ آلهِتَنَا مِن السَّبِّ والشَّتْمِ والشَّرِّ، وكانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قد اشْتَدَّ عَلَيْهِ مَا نَالَ أَصْحَابَهُ مِن أَذَاهُم وتَكْذِيبِهِم، وأَحْزَنَهُ ضَلاَلَتُهم فَكَانَ يَتَمَنَّى هُدَاهُم، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللهُ سُورَةَ النَّجْمِ قَالَ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ والعُزَّى ومَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى}[النجم:19،20] أَلْقَى الشَّيْطَانُ عندَها كَلِمَاتٍ حينَ ذَكَرَ الطَّوَاغِيتَ فَقَالَ: تلك الغَرَانِيقُ العُلَى، وإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لتُرْتَجَى، وَكَانَ ذَلِكَ مِن سَجْعِ الشَّيْطَانِ وفِتْنَتِه، فَوَقَعَتْ هَاتانِ الكَلِمَتانِ في قَلْبِ كُلِّ مُشْرِكٍ في مَكَّةَ، وذَلَّتْ بها أَلْسِنَتُهم، وتَبَاشَرُوا بها وقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ رَجَعَ إلى دِينِه الأَوَّلِ ودِينِ قَوْمِهِ.
فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ آخِرَ النَّجْمِ سَجَدَ، وسَجَدَ كُلُّ مَن حَضَرَ مِن مُسْلِمٍ ومُشْرِكٍ، ففَشَتْ تلك الكَلِمَةُ في النَّاسِ وأَظْهَرَها الشَّيْطَانُ حتَّى بَلَغَتْ أَرْضَ الحَبَشَةِ فَأَنْزَلَ اللهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}[الحجّ: 52]الآياتِ، فلَمَّا بيَّنَ اللهُ قَضَاءهُ وبَرَّأَهُ مِن سَجْعِ الشَّيطانِ انْقَلَبَ المشركونَ بعَدَاوتِهِم وضَلاَلتِهِم للمُسْلِمِينَ، واشْتَدُّوا عليهِ).
وهي قِصَّةٌ مَشْهُورَةٌ صَحِيحَةٌ: رُوِيت عنِ ابنِ عبَّاسٍ مِن طُرِقٍ بَعْضُهَا صَحِيحٌ.
ورُوِيَت عن جَمَاعَةٍ مِن التَّابِعِينَ بأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ منهم عُرْوَةُ، وسَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وأبو العَالِيَةِ، وأبو بَكْرِ بنُ عبدِ الرَّحمنِ، وعِكْرِمَةُ، والضَّحَّاكُ، وقَتَادَةُ، ومُحَمَّدُ بنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ، ومُحَمَّدُ بنُ قَيْسٍ، والسُّدِّيُّ وغيرُهُم.
وذكرَهَا أيضًا أهلُ السِّيَرِ وغيْرَها وأصْلُهَا في (الصَّحيحينِ) والمَقْصُودُ منْهُ قولُهُ: (تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى وإِنَّ شَفَاعتَهُنَّ لتُرْتَجَى).
- فإِنَّ الغَرَانِيقَ هي المَلاَئِكَةُ عَلَى قَوْلٍ.
-
وعَلَى آخَرَ هي الأَصْنَامُ ولاَ تَنافِيَ بينَهُمَا،
فإنَّ المَقْصُودَ بعِبَادَتِهم الأصنامَ والمَلائِكَةَ والصَّالِحِينَ كمَا تَقَدَّمَ عن البَيْضَاوِيِّ.
فلَمَّا سَمِعَ المُشْرِكُونَ هَذَا الكَلاَمَ المُقْتَضِيَ لجَوَازِ عِبَادَةِ المَلاَئِكَةِ رَجَاءَ شَفَاعَتِهِم عندَ اللهِ ظنُّوا أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَهُ، فَرَضُوا عنه وسَجَدُوا مَعَهُ، وحَكَمُوا بأنَّهُ قد وافَقَهُم عَلَى دِينِهِم من دُعَاءِ المَلاَئِكَةِ والأصْنَامِ للشَّفاعةِ حتى طارتِ الكَلِمَةُ كلَّ مطارٍ، وبَلَغَ المُهَاجِرينَ إلى الحَبَشَةِ أنَّهُم صالَحُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَرَفَتْ أنَّ الفَارِقَ بينَهُم وبينَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي مَسْأَلَةُ الشَّفَاعَةِ، لأنَّهُم يَقُولُونَ: نُرِيدُ مِن المَلاَئِكَةِ والأَصْنَامِ المُصَوَّرةِ عَلَى صُورِهِم بزعمِهِم أن يَشْفَعُوا لنا عندَ اللهِ، والرَّسولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أَتَاهُم بإِبْطَالِ ذلك، والنَّهيِ عنه، وتَكْفِيرِ مَن دانَ بهِ وتَضْليلِهِم وتَسْفِيهِ عُقُولِهِم ولم يُرَخِّصْ لهم في سُؤالِ الشَّفاعةِ مِن المَلاَئِكَةِ، ولاَ مِن الأَنْبياءِ وَلاَ الأَصْنَامِ، بل أَتَاهُمْ بقولِهِ تعالى: {قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}[الزُّمَر:44] وقولِهِ: {أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَـنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونَ (23) إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}[يس:23،24] وهذا كَثِيرٌ جدًّا لمَنْ تَتَبَّعَهُ.
والمقصودُ أنَّ المشركينَ الأوَّلينَ يَدْعُونَ الملائكةَ والصَّالحينَ ليَشْفَعُوا لهم عندَ اللهِ،
كمَا تَشْهَدُ بهِ نُصُوصُ القرآنِ، وكُتُبُ التَّفْسيرِ والسِّيَرِ، والآثارُ طافحَةٌ بذلك، ويَكْفِي العَاقِلَ المُنْصِفَ قولُهُ تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كانُواْ يَعْبُدُونَ (.4) قالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْـثَرُهُم بهِم مُّؤْمِنُونَ}[سبأ:40،41].