دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > الرسالة التدمرية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 2 ذو الحجة 1429هـ/30-11-2008م, 08:52 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي بعث الله رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل

وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعَثَ رُسُلَهُ بِإِثْبَاتٍ مُفَصَّلٍ، وَنَفْيٍ مُجْمَلٍ فَأَثْبَتُوا لَهُ الصِّفَاتِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ، وَنَفَوْا عَنْهُ مَا لاَ يَصْلُحُ لَهُ مِنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ( فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) أَيْ: نَظِيرًا يَسْتَحِقُّ مِثله.


  #2  
قديم 6 ذو الحجة 1429هـ/4-12-2008م, 09:07 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي تقريب التدمرية للشيخ: محمد بن صالح العثيمين

فَصْلٌ


والجمْعُ بينَ النَّفيِ والإثباتِ في بابِ الصِّفاتِ هوَ حقيقةُ التَّوحيدِ فيهِ وذلكَ لأنَّ التَّوحيدَ مصدرُ وَحَّدَ يُوَحِّدُ. وَلاَ يُمْكِنُ صدْقُ حقيقتِهِ إلاّ بنفيٍ وإثباتٍ، لأنَّ الاقتصارَ على النَّفيِ المحْضِ تعطيلٌ محْضٌ. والاقتصارَ على الإثباتِ المحْضِ لا يَمنعُ المشاركةَ.
مثالُ ذلكَ: لوْ قلتَ: ما زيدٌ بشجاعٍ فقدْ نَفيتَ عنهُ صفةَ الشَّجاعةِ وعطَّلْتَهُ منْهَا.
ولوْ قلتَ: زيدٌ شجاعٌ فقدْ أَثبتَّ لهُ صِفةَ الشَّجاعةِ لكنَّ ذلكَ لاَ يَمنعُ أنْ يكونَ غيرُهُ شجاعاً أيضاً.
ولوْ قلتَ: لا شُجاعَ إلا زيدٌ فقدْ أثْبَتَّ لهُ صفةَ الشجاعةِ، ونَفيْتَ أنْ يُشاركَهُ غيرُهُ فيهَا فكنتَ موحِّداً لهُ في صفةِ الشَّجاعةِ.
إذنْ لاَ يُمكِنُ توحيدُ أحدٍ بشيءٍ إلا بالجمْعِ بينَ النَّفيِ والإثباتِ.
واعلمْ أنَّ الصِّفاتِ الثُّبوتيَّةَ الّتي وَصفَ اللهُ بها نفسَهُ كلَّها صفاتُ كمالٍ، والغالِبُ فيها التفصيلُ، لأنّهُ كلَّما كثُرَ الإِخبارُ عنْهَا وتَنوَّعتْ دلالتُها ظهَرَ منْ كمالِ الموصوفِ بهَا ما لمْ يكنْ معلوماً منْ قَبْلُ، ولهذَا كانت الصِّفاتُ الثُّبوتيَّةُ الّتي أَخبرَ اللهُ بهَا عنْ نفسِهِ أكثرُ منَ الصِّفاتِ المنفيَّةِ الّتي نفاها اللهُ عنْ نفسِهِ.
وأما الصِّفاتُ المنفيَّةُ الّتي نَفاها اللهُ عنْ نفسِهِ فكلُّها صفاتُ نقصٍ ولاَ تليقُ بِهِ كالعجْزِ، والتَّعَبِ، والظُّلْمِ، ومماثلةِ المخلوقينَ، والغالبُ فيهَا الإِجمالُ لأنَّ ذلكَ أبلغُ في تعظيمِ الموصوفِ وأكملُ في التَّنزيهِ فإنَّ تفصيلَها لغيرِ سببٍ يَقتضيهِ فيهِ سُخريةٌ وتَنقُّصٌ للموصوفِ، ألا ترى أنكَ لوْ مدَحْتَ ملِكاً فقلتَ لهُ: أنتَ كريمٌ، شجاعٌ محنَّكٌ، قويُّ الحكْمِ، قاهرٌ لأعدائِكَ إلى غيرِ ذلكَ منْ صفاتِ المدْحِ لكانَ هذَا منْ أعظمِ الثَّناءِ عليْهِ، وكانَ منْ زيادةِ مدحِهِ وإظهارِ محاسنِهِ ما يَجعلُهُ محبوباً محتَرَماً لأنَّكَ فصَّلْتَ في الإِثباتِ.
ولوْ قلتَ: أنتَ ملِكٌ لا يُسامِيكَ أحدٌ من ملوكِ الدُّنيَا في عصْرِكَ لكانَ ذلكَ مدْحاً بالغاً لأنّكَ أجْمَلتَ في النَّفْيِ.
ولوْ قلتَ: أنتَ ملِكٌ غيرُ بخيلٍ، ولا جبانٍ، ولا فقيرٍ، ولا بقَّالٍ، ولا كنَّاسٍ ولا بَيْطارٍ، ولا حجَّامٍ، وما أشبَهَ ذلكَ منَ التَّفصيلِ في نفيِ العيوبِ التي لا تَليقُ بِهِ لعُدَّ ذلكَ استهزاءً بهِ وتَنَقُّصاً لحقِّهِ.
وقدْ يأتي الإِجمالُ في أسماءِ اللهِ تعالى وصفاتِهِ الثُّبوتيِّةِ كقولِهِ تعالى في الأسماءِ: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)([1]). وقولِهِ في الصِّفاتِ: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى)([2]). أي الوصفُ الأعلى.

وقدْ يأتي التفصيلُ في الصِّفاتِ المنفيَّةِ لأسْبابٍ منْهَا:
1- نفيُ ما ادَّعاهُ في حقِّهِ الكاذبونَ المفْتَرونَ كقولِهِ تعالى: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ)([3])
2- دفْعُ توهُّمِ نقْصٍ في كمالِهِ كقولِهِ تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ)([4]).

الأمثلةُ على التفصيلِ في الإِثباتِ كثيرةٌ جدًّا فمنْهَا:
قولُهُ تعالى في سورةِ الحشْرِ الآية: 22: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ). إلى آخِرِ السُّورةِ فقدْ تَضمَّنَتْ هذهِ الآياتُ أكثرَ منْ خمسةَ عشرَ اسماً، وكلُّ اسمٍ منْها قدْ تَضمَّنَ صفةً، أو صفتينِ، أو أكثَرَ.
ومنها قوْلُه تعالى في سورةِ الحجِّ: (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ). إلى قولِهِ: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ). فهذِهِ سبعُ آياتٍ متواليةٌ خُتِمَتْ كلُّ آيةٍ منْهَا باسميْنِ منْ أسماءِ اللهِ – عزَّ وجلَّ – وكلُّ اسمْ منْهَا متضَمِّنٌ لصفةٍ، أو صفتينِ، أو أكثَرَ.
وأمَّا أمثلةُ الإِجمالِ في النفيِ فمنْها قولُهُ تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)([5]). وقولُهُ تعالى: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)([6]). وقولُهُ: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)([7]).

([1]) سورة الأعراف، الآية: 180.

([2]) سورة النحل، الآية: 60.

([3]) سورة المؤمنون، الآية: 91.

([4]) سورة ق، الآية: 38.

([5]) سورة الشورى، الآية: 11.

([6]) سورة مريم، الآية: 65.

([7]) سورة الإخلاص: الآية: 4.


  #3  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 09:00 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التحفة المهدية للشيخ: فالح بن مهدي الدوسري

قولُهُ:
واللهُ سُبْحَانَهُ بَعَثَ رُسُلَهُ (بإثباتٍ مُفَصَّلٍ، وَنَفْيٍ مُجْمَلٍ) فَأَثْبَتُوا للهِ الصفاتِ على وجهِ التفصيلِ، وَنَفَوْا عنهُ ما لا يَصْلُحُ لهُ مِن التشبيهِ والتمثيلِ، كما قالَ تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}.
قالَ أهلُ اللُّغَةِ: هلْ تَعْلَمُ لهُ سَمِيًّا؟ أي: نظيراً يَسْتَحِقُّ مِثْلَ اسْمِهِ، ويقالُ: مُسَامِياً يُسَامِيهِ، وهذا معنى ما يُرْوَى عن ابنِ عبَّاسٍ: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} مَثِيلًا أو شَبِيهاً. وقالَ تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}، وقالَ تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقالَ تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَآمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}، وقالَ تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، وقالَ تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىَ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} وقالَ تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلاَئِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلاَ إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَىَ الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبَاً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} إلى قولِهِ: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فَسَبَّحَ نفسَهُ عَمَّا يَصِفُهُ المُفْتَرُونَ المُشْرِكُونَ، وَسَلَّمَ على المُرْسَلينَ لسلامةِ ما قَالُوهُ مِن الإفكِ والشركِ، وحَمِدَ نفسَهُ؛ إذْ هوَ سبحانَهُ المُسْتَحِقُّ للحمدِ, بما لهُ من الأسماءِ والصفاتِ،وبديعِ المخلوقاتِ.

الشرحُ:
المعنى أنَّ ما جاءَ في الكتابِ والسنَّةِ من إثباتِ الصفاتِ جاءَ على طريقةِ التفصيلِ: مِثْلَ وَصْفِهِ بالاستواءِ، والعلمِ، والقُدْرَةِ، والمَحَبَّةِ والرضا، وما جاءَ في الكتابِ والسُّنَّةِ مِن نَفْيِ مُمَاثَلَةِ أَحَدٍ من الخلقِ للباري سبحانَهُ جاءَ على طريقِ النَّفْيِ الإجماليِّ، كقولِهِ تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} وقولِهِ سبحانَهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ونحوِ ذلكَ، فَنَفَى المُمَاثَلَةَ مُطْلَقاً، والمُشَابَهَةَ والمُسَامَاةَ مُطْلَقاً، ولم يَنْفِ المُمَاثَلَةَ في شيءٍ مُعَيَّنٍ, كَأَنْ يَقُولَ:لاَ سَمِيَّ لَهُ فِي عِلْمِهِ، أو في اسْتِوَائِهِ، أو لا مِثْلَ لَهُ فِي مَحَبَّتِهِ، أو كَلاَمِهِ, ونحوَ ذلكَ.

والواوُ في قولِهِ:" فَأَثْبَتُوا وَنَفَوْا " مَرْجِعُهُ الرُّسُلُ، ثم أَتْبَاعُهُمْ مِن أَئِمَّةِ الدِّينِ وأهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، وقد سَبَقَ معنى هذا.
ومقصودُ المُؤَلِّفِ أنَّ السلفَ يُثْبِتُونَ إثباتاً مفصَّلاً، ويَنْفُونَ نَفْياً مُجْمَلًا، على طريقةِ الكتابِ والسُّنَّةِ، ثم شَرَعَ رَحِمَهُ اللهُ يُمَثِّلُ للنفيِ الإجماليِّ في القرآنِ الكريمِ، فَذَكَرَ آيةَ (مَرْيَمَ) وكلامُ اللُّغَوِيِّينَ في معنى السَّمِيِّ، والمعنى أنَّهُ ليسَ لَهُ مِثْلٌ, ولا نَظِيرٌ حتى يُشَارِكَهُ فِي العبادةِ، فَلَمَّا انْتَفَى المُشَارِكُ اسْتَحَقَّ اللهُ سبحانَهُ أنْ يَنْفَرِدَ بالعبادةِ وتَخْلُصَ لَهُ. هذا مَبْنِيٌّ على أنَّ المرادَ بالسَّمِيِّ هو الشَرِيكُ في المُسَمَّى، وقيلَ: المرادُ بهِ الشريكُ في الاسمِ, كما هو الظاهرُ مِن لُغَةِ العربِ، وقولُهُ:" وهذا ما يُرْوَى عن ابنِ عَبَّاسٍ " يَعْنِي: أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ فَسَّرَ السَّمِيَّ بالشبيهِ والنظيرِ؛ وإذا قيلَ في الآيةِ: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} يَسْتَحِقُّ مِثْلَ اسْمِهِ أَوْ مُسَامِياً يُضَارِعُهُ؟ فالمعنى: لا شبيهَ لهُ ولا نظيرَ، والاستفهامُ في الآيةِ مُرَادٌ بهِ النَّفْيُ، فالمعنى لا سَمِيَّ لهُ في الاسمِ, ولا المُسَمَّى.

قالَ أهلُ اللُّغَةِ: (المعنى أنَّهُ لمْ يُسَمَّ شَيْءٌ من الأصنامِ ولا غيرِهَا باللهِ قَطُّيَعْنِي: بدخولِ الألفِ واللامِ التي عَوَّضَتْ عن الهمزةِ وَلَزِمَتْ، قالَ الزَّجَّاجُ: (تَأْوِيلُهُ واللهُ أعلمُ: هلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقَالَ لَهُ خَالِقٌ وَقَادِرٌ وَعَالِمٌ بِمَا كَانَ وَبِمَا يَكُونُ) وعلى هذا لا سَمِيَّ للهِ في جميعِ أسمائِهِ؛ لأنَّ غيرَهُ وإنْ سُمِّيَ بِشَيْءٍ من أسمائِهِ فللهِ سبحانَهُ حقيقةُ ذلكَ الوصفِ، والمرادُ بِنَفْيِ العلمِ المُسْتَفَادِ مِن الإنكارِ هنا نَفْيُ المَعْلُومِ على أَبْلَغِ وَجْهٍ وَأَكْمَلِهِ.

وَوَجْهُ الدلالةِ من الآيةِ الثانيةِ أنَّ اللهَ نَفَى أنْ يَكُونَ لهُ كُفْؤٌ، أيْ: شَبِيهٌ ونظيرٌ مُكَافِئٌ لهُ، فَنَفَى المُكَافَأَةَ وَالمُشَابَهَةَ عُمُوماً، وهذا نَفْيٌ مُجْمَلٌ، والشاهدُ قولُهُ: {وَلَمْ يَكُنْ لهُ كُفُواً أَحَدٌ}، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} فهي من بابِ النَّفْيِ المُفَصَّلِ لأنَّهُ نَفْيُ صِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وقدْ خَرَجَتْ هذهِ الآيةُ عن القاعدةِ والأَغْلَبِيَّةِ، وهي أنَّ طريقةَ القرآنِ في النَّفْيِ (الإجمالُ), وذلكَ لِسَبَبَيْنِ:

الأوَّلُ: أنَّ اليهودَ والمشركِينَ نَسَبُوا الولدَ إلى اللهِ فَرَدَّ اللهُ عليهم, وَنَفَى هذهِ الصفةَ بِعَيْنِهَا.
والثاني: أنَّ الولدَ والوِلاَدَةَ صِفَةُ كمالٍ في المخلوقِ، فَنُفِيَتْ؛ لِئَلاَّ يُتَوَهَّمَ أنَّ اللهَ مُتَّصِفٌ بها، فَهِيَ وإنْ كانتْ وَصْفَ كمالٍ في المخلوقِ إلاَّ أنَّهُ كمالٌ مُقْتَرِنٌ بالنَّقْصِ، هذا هو السببُ في خروجِ هذهِ الآيةِ عن القاعدةِ، ولها نظائرُ قليلةٌ.
الآيةُ الثالثةُ والرابعةُ: (الأَنْدَادُ) جَمْعُ نِدٍّ وهو الشَّبِيهُ والنَّظِيرُ، فلا شَبِيهَ للهِ، ولا نظيرَ لهُ في ذاتِهِ، ولا في صفاتِهِ، ولا في أفعالِهِ، والشاهدُ من الآيتَيْنِ الدلالةُ على النَّفْيِ المُجْمَلِ، فإنَّهُ لم يَقُلْ: لاَ نِدَّ لهُ في عِلْمِهِ أو اسْتِوَائِهِ أو قُدْرَتِهِ ونحوَ ذلك.
الآيةُ الخامسةُ: (الجِنُّ ) الشياطينُ.

المعنى: جَعَلُوا الشياطينَ شركاءَ للهِ حيثُ أَطَاعُوهُمْ، (خَرَقُوا) اخْتَلَقُوا وَافْتَرَوْا،(بَدِيع) مُبْدِعُ وَمُخْتَرِعُ الأشياءِ على غيرِ مثالٍ سابقٍ، (أَنَّى يَكُونُ) كيفَ أو مِن أَيْنَ يكونُ، والشاهدُ من الآيةِ الدَّلالةُ على النَّفْيِ المُجْمَلِ، حيثُ نَزَّهَ نَفْسَهُ عمَّا يَصِفُهُ بهِ المُفْتَرُونَ المُشْرِكُونَ على وجهِ العمومِ.
الآيةُ السادسةُ: (تَبَارَكَ ) تَعَاظَمَ وَتَقَدَّسَ، (الفُرْقَانُ) القرآنُ، والشاهدُ مِن الآيةِ الدلالةُ على النَّفْيِ المُجْمَلِ حيثُ إنَّهُ لاَ مِثْلَ لَهُ لِاتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الكمالِ وانْفِرَادِهِ بالوحدانيَّةِ, فَنَفْيُ العيوبِ والنقائصِ يَسْتَلْزِمُ ثبوتَ الكمالِ، ونَفْيُ الشركاءِ يَقْتَضِي الوحدانيَّةَ، وهو تمامُ الكمالِ.
الآيةُ السابعةُ: (إِفْكِهِمْ) كَذِبِهِمْ، (اصْطَفَى ) اخْتَارَ، (سُلْطَانٌ) حُجَّةٌ وَبُرْهَانٌ، (الجِنَّةُ) الملائكةُ، والشاهدُ من الآيةِ الدلالةُ على النَّفْيِ المُجْمَلِ، حيثُ نَزَّهَ نفسَهُ عَمَّا يَصِفُهُ بهِ المُفْتَرُونَ تَنْزِيهًا عامًّا عن كلِّ ما يُنْسَبُ إليهِ مِمَّا لا يَلِيقُ بهِ سبحانَهُ وتعالى.

(وابنُ عَبَّاسٍ) هو عبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا – الإمامُ البَحْرُ عَالِمُ الأُمَّةِ، ابنُ عَمِّ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ماتَ رسولُ اللهِ, ولعبدِ اللهِ ثلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وقد دَعَا لهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يُفَقِّهَهُ اللهُ في الدينِ، ويُعَلِّمَهُ التأويلَ، رَوَى عِكْرِمَةُ عن ابنِ عَبَّاسٍ قالَ: دَخَلَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَخْرَجَ, ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا تَوْرٌ مُغَطًّى فقالَ: مَن صَنَعَ هذا؟ قالَ عبدُ اللهِ: فقلتُ: أَنَا. فقالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ تأويلَ القرآنِ!. وقالَ ابنُ مسعودٍ: (نِعْمَ تُرْجُمَانُ القرآنِ ابنُ عَبَّاسٍ, لوْ أَدْرَكَأَسْنَانَنَا مَا عَاشَرَهُ مِنَّا أَحَدٌ).

وَرَوَى مُطَرِّفٌ قالَ: سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاسٍ يقولُ: (مُذَاكَرَةُ العِلْمِ ساعةً خيرٌ مِن إحياءِ ليلةٍ) تُوُفِّيَ ابنُ عَبَّاسٍ بالطائفِ في سنةِ ثمانٍ وسِتِّينَ، فَصَلَّى عليهِ محمدُ ابنُ الحَنَفِيَّةِ وقالَ: اليومَ مَاتَ رَبَّانِيُّ هذهِ الأُمَّةِ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

قولُهُ:
(وأمَّا الإثباتُ المُفَصَّلُ) فَإِنَّهُ ذَكَر مِن أسمائِهِ وصفاتِهِ، مَا أَنْزَلَهُ في مُحْكَمِ آياتِهِ، كقولِهِ: {اللهُ لاَ إِلَهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ } الآيةَ بِكَمَالِهَا.
وقولِهِ:{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ} السورةَ.
وقولِهِ: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الحَكِيمُ}، {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ }، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، {وَهُوَ العَزِيزُ الْحَكِيمُ}،{وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ المَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}، {هُوَ الأوَّلُ والآخِرُ والظَّاهِرُ والْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى على الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الأرضِ وما يَخْرُجُ مِنْهَا وما يَنْزِلُ مِن السماءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
وقولِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}.
وقولِهِ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} الآيةَ.
وقولِهِ: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}.
وقولِهِ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ}.
وقولِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ}.
وقولِهِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ والْمَلاَئِكَةُ}.
وقولِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}.
وَقَوْلِهِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً}.
وَقَوْلِهِ: { وَنَادَيْنَاهُ مِنْجَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا }.
وقولِهِ: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}.
وقولِهِ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وقولِهِ: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ، هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

الشرحُ:
سَبَقَ الكلامُ على النَّفْيِ المُجْمَلِ، وهذا بيانُ الإثباتِ المُفَصَّلِ، وقد ذَكَر المُؤَلِّفُ أنَّ اللهَ قد ذَكَرَ مِن أسمائِهِ وصفاتِهِ ما هو واضِحٌ بَيِّنٌ مُفَصَّلٌ في القرآنِ تَفْصِيلًا، لا غُمُوضَ معهُ.

و(الصَّمَدُ): هو الذي يُقْصَدُ في الحوائِجِ دُونَ مَن سِوَاهُ، والصَّمَدُ الذي لا جَوْفَ لهُ، (الوَدُودُ): كثيرُ المَوَدَّةِ، وهيَ أَعْلَى درجاتِ المَحَبَّةِ، (المَجِيدُ): العَظِيمُ الجليلُ المُتَعَالِي، (سَبَّحَ): نَزَّهَ اللهَ ومَجَّدَهُ، (العزيزُ): القَوِيُّ العظيمُ الغالبُ، (الأوَّلُ): السابِقُ على جميعِ الموجوداتِ، الذي لَمْ يَسْبِقْهُ عَدَمٌ، (الآخِرُ): الباقِي بعدَ فنائِهَا، (الظاهِرُ): الذي ليسَ فوقَهُ شيْءٌ، (الباطِنُ): الذي ليس دونَهُ شيءٌ، (ما يَلِجُ): ما يَدْخُلُ، (تَعْرُجُ): تَصْعَدُ، (أَذِلَّةٍ): خَاضِعِينَ مُتَذَلِّلِينَ، (أَعِزَّةٍ): أشداءَ غَلِيظِينَ، (أَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ): أَبْطَلَهَا، (مَا أَسْخَطَ اللهَ): أَغْضَبَهُ غَضَباً شديداً (ظُلَلٍ): مَا يُسْتَظَلُّ بِهِ، جَمْعُ ظُلَّةٍ، (والغَمَامُ): السحابُ الأَبْيَضُ الرَّقِيقُ، (لَمَقْتُ اللهِ): غَضَبُهُ الشديدُ، (لَعَنَهُ): طَرَدَهُ وَأَبْعَدَهُ عَن رحمتِهِ، (اسْتَوَى): عَمَدَ وَقَصَدَ غَيْرَ اسْتَوَى التي بِمَعْنَى عَلاَ وارْتَفَعَ، فَتِلْكَ تَتَعَدَّى بِعَلَى، وهذه تَتَعَدَّى بإلى، (والدُّخَانُ) هو في اللُّغَةِ الكُدْرَةُ في سوادٍ، (المَلِكُ): المالِكُ لِكُلِّ شيْءٍ، (القُدُّوسُ): البليغُ في النَّزَاهَةِ عن النقائصِ، (السلامُ): ذو السلامَةِ مِن كُلِّ عَيْبٍ وتمثيلٍ، (المُؤْمِنُ): المُصَدِّقُ لِرُسُلِهِ بالمعجزاتِ، (المُهَيْمِنُ): الرَّقِيبُ على كُلِّ شيءٍ، (الْجَبَّارُ): القاهِرُ العظيمُ، وجَابِرُ الْكَسْرِ، (المُتَكَبِّرُ): البليغُ الكبرياءَ والعظمةَ، (البَارِئُ): المُبْدِعُ المُخْتَرِعُ، (الْمُصَوِّرُ): خالقُ الصُّوَرِ على ما يُرِيدُ، (وَنَادَيْنَاهُ) أي: نَادَيْنَا مُوسَى وَكَلَّمْنَاهُ بِقَوْلِنَا: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ}، والطُّورُ: هو اسمُ جَبَلٍ بينَ مِصْرَ وَمَدْيَنَ، وَ (الأَيْمَنِ) الذي يَلِي يَمِينَ مُوسَى حينَ أَقْبَلَ مِن مَدْيَنَ و (نَجِيًّا) مَعْنَاهُ مُنَاجِياً، والنداءُ: هو الصوتُ الرفيعُ، وَضِدُّهُ النَّجَاءُ، قال ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى:

إنَّ النِّدَا الصوتُ الرفيعُ وَضِدُّهُ فَهُوَ النَّجَاءُ كِلاَهُمَا صَوْتَانِ

قولُهُ:
إلى أمثالِ هذه الآياتِ والأحاديثِ الثابتةِ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أسماءِ الربِّ تعالى وصفاتِهِ؛ فإنَّ في ذلكَ مِن إثباتِ ذاتِهِ وصفاتِهِ على وجْهِ التفصيلِ، وإثباتِ وحدانِيَّتِهِ بِنَفْيِ التمثيلِ؛ ما هَدَى اللهُ بهِ عبادَهُ إلى سواءِ السبيلِ، فهذهِ طريقةُ الرُّسُلِ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم أَجْمَعِينَ.

الشرحُ:
يعني أنَّهُ لمْ يَحْصُرْ هنا كلَّ ما وَرَدَ في ذلكَ من الآياتِ, بلْ مَثَّلَ لذلكَ:
(وفي البعضِ تنبيهٌ لطيفٌ على الكُلِّ).
فقدْ تَطَابَقَتْ نصوصُ الكتابِ والسُّنَّةِ على إثباتِ الصفاتِ للهِ، وتَنَوَّعَتْ دَلاَلَتُهَا أنواعاً تُوجِبُ العِلْمَ الضروريَّ بِثُبُوتِهَا، وإرادةَ المُتَكَلِّمِ اعتقادَ ما دَلَّتْ عليهِ، فتارةً يَذْكُرُ الاسمَ الدَّالَّ على الصفةِ، كالسميعِ، البصيرِ، العليمِ، القديرِ، العزيزِ، الحكيمِ، وتارةً يَذْكُرُ المصدرَ وهو الأصلُ الذي اشْتُقَّتْ منهُ تلكَ الصفةُ، كقولِهِ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ}.
وقولِهِ: {إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}.
وقولِهِ: {إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وبِكَلاَمِي}.
وقولِهِ: {فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}.
وقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديثِ الصحيحِ: (حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لاَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ).
وقولِهِ في دعاءِ الاسْتِخَارَةِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ).
وقولِهِ: (أَسْأَلُكَ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وقدرتِكَ على الخَلْقِ).
وقولِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: (سُبْحَانَ الذيِ وَسِعَ سَمْعُهُ الأصواتَ) ونحوَهُ.
وَتَارَةً يَذْكُرُ حُكْمَ تِلْكَ الصفةِ، كقولِهِ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}.
وقولِهِ: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ}.
وقولِهِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً}.
وقولِهِ: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ}، ونظائرُ ذلكَ كثيرةٌ.

ويُصَرِّحُ في الفَوْقِيَّةِ بلفظِهَا الخاصِّ, وبلفظِ العُلُوِّ والاستواءِ، وأنَّهُ في السماءِ، وأنَّهُ ذو المَعَارِجِ، وأنَّهُ رفيعُ الدرجاتِ، وأنَّهُ تَعْرُجُ إليهِ الملائكةُ، وتُنَزَّلُ مِن عندِهِ، وأنَّهُ يُنَزِّلُ من عندِهِ، وأنَّهُ يَنْزِلُ إلى السماءِ الدنيا، وأنَّ المؤمنينَ يَرَوْنَهُ بِأَبْصَارِهِمْ عِيَاناً من فوقِهِم، إلى أضعافِ ذلكَ مِمَّا لو جُمِعَتِ النصوصُ والآثارُ فيهِ لم تَنْقُصْ عن نصوصِ الأحكامِ.

ومِن أبينِ المُحَالِ وأوضحِ الضلالِ حَمْلُ ذلكَ كُلِّهِ على خلافِ حقيقتِهِ وظاهرِهِ، وَدَعْوَى المجازِ فيهِ والاستعارةِ، وأنَّ الحقَّ في أقوالِ النُّفَاةِ المُعَطِّلِينَ، وأنَّ تَأْوِيلاَتِهِمْ هِيَ المُرَادَةُ من هذه النصوصِ؛ إذْ يَلْزَمُ مِن ذلكَ مَحَاذِيرُ ثلاثةٌ لاَ بُدَّ منها، وهي القَدْحُ في عِلْمِ المُتَكَلِّمِ بها, أو في بيانِهِ, أو في نُصْحِهِ، وكأَنَّ وَرَثَةَ الصابِئَةِ، وَأَفْرَاخَ الفلاسفةِ، وَأَوْقَاحَ المُعْتَزِلَةِ والْجَهْمِيَّةِ، وَتَلاَمِذَةَ المَلاَحِدَةِ أَفْصَحُ منهُ وَأَحْسَنُ بياناً وتعبيراً عن الحَقِّ، وهذا مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلاَنُهُ بالضرورةِ.
وَلَمْ يَذْكُرِ المُؤَلِّفُ هنا بعضَ الأحاديثِ المُثْبِتَةِ لشيءٍ من الصفاتِ, وإنْ كانَ قد ذَكَرَهُ في غيرِ هذا الموضعِ من هذهِ الرسالةِ.

والإشارةُ في قولِهِ: (فَإِنَّ في ذلكَ) رَاجِعَةٌ إلى النصوصِ الواردةِ في الكتابِ، والسُّنَّةِ، مِن إثباتِ صفاتِ الرَّبِّ، ونَفْيِ المُمَاثَلَةِ عنهُ، يَعْنِي: فيما ذَكَرَ من إثباتِ الصفاتِ، تَفْصِيلِيًّا لا إِجْمَالِيًّا ما هَدَى اللهُ بهِ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ، وهم الفِرْقَةُ الناجِيةُ الذين تَلَقَّوْا ما وَرَدَ في الكتابِ، والسُّنَّةِ، بالقبولِ وَرَضَوْا للهِ ما رَضِيَهُ لنفسِهِ. (فهذه) – يعني: الإثباتُ المُفَصَّلُ والنَّفْيُ المُجْمَلُ وإثباتُ ذلكَ للربِّ سبحانَهُ - هي طريقةُ الرُّسُلِ – عليهم الصلاةُ والسلامُ – إثباتاً بلا تَمْثِيلٍ، وَتَنْزِيهًا بلا تَعْطِيلٍ، وقولُهُ: (مِن إِثْبَاتِ الوحْدَانِيَّةِ) يُشِيرُ إلى أنَّ اللهَ سبحانَهُ كما أنَّهُ لا مِثْلَ لهُ, ولا شَبَهَ لهُ, فهو كذلكَ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لهُ في أُلُوهِيَّتِهِ.


  #4  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 09:37 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التوضيحات الأثرية للشيخ: فخر الدين بن الزبير المحسِّي

أصولُ النفيِ والإثباتِ عندَ السلَفِ
قولُه:
( واللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعَثَ رُسُلَه بإثباتٍ مُفَصَّلٍ، ونَفْيٍ مُجْمَلٍ، فأَثْبَتُوا لهُ الصفاتِ على وَجْهِ التفصيلِ، ونَفَوْا عنهُ ما لا يَصْلُحُ لهُ من التشبيهِ والتمثيلِ، كما قالَ تعالى: { فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا }، قالَ أهلُ اللغةِ: ( هَلْ تَعْلَمُ لهُ سَمِيًّا )، أيْ: نَظِيرًا يَسْتَحِقُّ مِثْلَ اسْمِه، ويُقالُ: مُسَامِيًا يُسَامِيهِ.وهذا معنى ما يُرْوَى عن ابنِ عبَّاسٍ: هلْ تَعْلَمُ لهُ مِثالاً أوْ شَبِيها. وقالَ تعالى: { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ }، وقالَ تعالى: { فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }، وقالَ تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ }، وقالَ تعالى: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }، وقالَ تعالى: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ}، وقالَ تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلاَئِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ }، إلى قولِه: { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }، فَسَبَّحَ نفسَهُ عَمَّا يَصِفُهُ بهِ الْمُفْتَرُونَ الْمُشْرِكُونَ، وَسَلَّمَ على الْمُرْسَلِينَ لسَلامَةِ ما قالُوهُ من الإفْكِ والشرْكِ، وحَمَدَ نفسَهُ إذْ هوَ سبحانَه الْمُسْتَحِقُّ للْحَمْدِ بما لَهُ من الأسماءِ والصِّفاتِ وبديعِ المخلوقاتِ .

وأمَّا الإثباتُ الْمُفَصَّلُ، فإنَّهُ ذَكَرَ منْ أسمائِه وصفاتِه ما أَنْزَلَهُ في مُحْكَمِ آياتِه، كقولِه تعالى: { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }، الآيةَ بكمالِها، وقولِه: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ }، وقولِه: { وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }، { وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ }، { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }، { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }، { وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }، { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}، { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }، وقولِه: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }، وقولِه: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }، وقولِه: { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}، وقولِه: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}، وقولِه: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ}، وقولِه: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلاَئِكَةِ}، وقولِه:{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}، وقولِه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}، وقولِه: { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}، وقولِه: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}، وقولِه: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وقولِه تعالى: { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }، إلى أَمثالِ هذهِ الآياتِ والأحاديثِ الثابتةِ عنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أسماءِ الربِّ تعالى وصفاتِه.فإنَّ في ذلكَ منْ إثباتِ ذاتِه وصِفاتِه على وجهِ التفصيلِ، وإثباتِ وَحْدَانِيَّتِه بنفيِ التمثيلِ، ما هَدَى اللَّهُ بهِ عِبادَهُ إلى سواءِ السبيلِ. فهذه طريقةُ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عليهم أَجْمَعِينَ ) .

التوضيحُ

إنَّ طريقةَ القرآنِ التي جاءتْ بها الرُّسُلُ واتَّبَعَها السلَفُ هيَ الإثباتُ الْمُفَصَّلُ، أي: الْمُعَيَّنُ والْمُخَصَّصُ في كلِّ صفةٍ، كقولِه تعالى: { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }، { وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }، والنفيُ الْمُجْمَلُ، وهوَ العامُّ الْمُطْلَقُ، كقولِه تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }، { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سِمِيًّا } .

وقدْ يأتي العكسُ قليلاً؛ فيأتي الإثباتُ مُجْمَلاً كقولِه تعالى: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى }، وقولِه: { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى}، والنَّفْيُ مُفَصَّلاً كقولِه تعالى: { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ }، { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } .
ولكنَّ الإجمالَ في النَّفْيِ أبلَغُ في التعظيمِ؛ لذلكَ فهوَ الأكثَرُ، وإنَّما يُفَصَّلُ النفيُ لأسبابٍ منها:
1- نَفْيُ ما ادَّعَاهُ الكاذبونَ في حَقِّه تعالى، كقولِه: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ}، وأمثالِها .
2- دفْعُ تَوَهُّمِ نَقْصٍ في كمالِه، كقولِه: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ }، أيْ: إعياءٍ وتَعَبٍ؛ لأنَّهُ بعدَ خَلْقِهَا قدْ يُتَوَهَّمُ التعَبُ، فدَفَعَ ذلكَ .
3- كونُ الصفةِ كَمَالاً عندَ المخلوقِ، فيُتَوَهَّمُ كمالُها في حقِّه تعالى، فيَنْفِيهَا، كقولِه: { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} .
- ذَكَرَ الشيخُ الآياتِ الدالَّةَ على النَّفْيِ الْمُجْمَلِ والإثباتِ الْمُفَصَّلِ، فنَذْكُرُهُمَا معَ الشاهِدِ:

أوَّلاً: ( الآياتُ الدالَّةُ على النَّفْيِ الْمُجْمَلِ ) ( الشاهِدُ وَوَجْهُهُ )

فيها استفهامٌ إنكارِيٌّ، وهوَ نَفْيٌ مُجْمَلٌ .
1) { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا }، أيْ: نَظِيرًا يَسْتَحِقُّ مِثْلَ اسْمِه، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ( مَثَلاً أوْ شَبِيهًا ).
النفيُ الْمُجْمَلُ في قولِه: { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ }، وما قَبْلَها، مُفَصَّلٌ كما سَبَقَ.
2) {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } مُكَافِئًا ومَثِيلاً .
النهيُ عن الأندادِ مُتَضَمِّنٌ لنَفْيِها، وهوَ مُجْمَلٌ .
3) { فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } والنِّدُّ هوَ الشبيهُ والنظيرُ .
الدَّلالةُ على نَفْي الأندادِ منْ دَلالةِ العِبارةِ، ولم يُصَرِّحْ بها لكنَّها مَفهومةٌ .
4) { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا }.
فيها شواهدُ:
نَفْيُ الشرَكاءِ بِدَلالةِ العِبارةِ.
سبحانَه: تنزيهٌ عن النقائصِ، ففيهِ معنى النفيِ الْمُجْمَلِ.
تعالى: تَقَدَّسَ وتعاظَمَ عن النقائصِ، فهوَ مُتَضَمِّنٌ للنفْيِ الْمُجْمَلِ بمفهومِه .
5) { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }.
فيها شاهدانِ:
تَبَارَكَ: تَعَاظَمَ،فهوَ مُتَضَمِّنٌ لنَفْيِ النقائصِ بمفهومِه .
ولم يكنْ لهُ شريكٌ: نَفْيٌ مُجْمَلٌ .
6) { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ }.
سبحانَ اللَّهِ: تنزيهٌ عنْ جميعِ النقائصِ.
7) { فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ .... }، إلى قولِه: { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ }.
{ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ }، كما سَبَقَ فيهِ نَفْيٌ مُجْمَلٌ .
8) { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. قالَ شيخُ الإسلامِ: فسَبَّحَ نفْسَه عَمَّا يَصِفُه الْمُفْتَرُونَ، وَسَلَّمَ على الْمُرْسَلِينَ؛ لسلامةِ ما قالُوه، وحَمِدَ نفسَه، فهوَ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ لصفاتِه وبديعِ مخلوقاتِه .


ثانيًا: ( الآياتُ الدالَّةُ على الإثباتِ الْمُفَصَّلِ ) ( الشاهِدُ )

الحيُّ، القيُّومُ .
1) { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }.
الأحَدُ، الصمَدُ .
2) { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ }.
العليمُ، الحكيمُ، القديرُ .
3) { وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }. 4) { وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ }.
السميعُ، البصيرُ، العزيزُ .
5) { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
6) { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .
الغفورُ، الرحيمُ، الوَدودُ .
7) { وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}. 8) { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ}.
الْمَجِيدُ، الفعَّالُ لِمَا يُريدُ .
9) { ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ، فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ }.
الأوَّلُ، الآخِرُ، الظاهِرُ، الباطِنُ، العليمُ.
10) { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }.
الخالِقُ، اسْتَوَى على العرْشِ، العليمُ، وهوَ معكمْ أَيْنَمَا كُنْتُم واللَّهُ بما تَعْمَلُونَ بصيرٌ .
11) { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }.
إثباتُ السُّخْطِ، الكُرْهِ .
12) { اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }.
إثباتُ صِفَةِ الْمَحَبَّةِ .
13) { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }.
إثباتُ صِفَةِ الرِّضَى .
14) { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } .
إثباتُ صفةِ الغَضَبِ .
15) { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا }، إلى قولِه: { وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ }.
إثباتُ صِفَةِ الْمَقْتِ .
16) { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ } .
إثباتُ إتيانِ اللَّهِ تعالى .
17) { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ...}.
إثباتُ القولِ والكلامِ للَّهِ.
18) { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ..}.
ملاحظةٌ: الاستواءُ هنا بمعنى الْقَصْدِ؛ لأنَّهُ لم يَتَعَدَّ بعلى، وإنَّما بإلى على الراجِحِ .
إثباتُ صفةِ الكلامِ للَّهِ تعالى .
19) { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا }.
إثباتُ المناداةِ والمناجاةِ .
20) { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا }.
إثباتُ المناداةِ والقولِ .
21) { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ }.
إثباتُ الإرادةِ والكلامِ .
22) { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } .
عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادةِ، الرحمنُ، الرحيمُ، الملِكُ، القدُّوسُ، السلامُ، المؤمِنُ، المهيْمِنُ، العزيزُ، الجبَّارُ، المتكبِّرُ، الخالِقُ، البارئُ، الْمُصَوِّرُ، العزيزُ، الحكيمُ.
22) { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم}.

(هنا جداول تحتاج أن تؤخذ كصورة)


- وأمثالُهَا كثيرٌ في القرآنِ. وبِناءً عليهِ كانَ للسلَفِ أصولٌ في النفْيِ والإثباتِ .

فأوَّلاً: أصولُ السلَفِ في الإثباتِ:

1- أنَّهُ مُتَلَقًّى من الوَحْيِ .
2- أنَّهُ إثباتٌ بلا تَمثيلٍ .
3- أنَّ الكيْفَ مجهولٌ عندَهمْ، وإنْ كانَ للصفاتِ كيفيَّةٌ؛ ولكنَّها مجهولةٌ، فإنَّهُم قالوا: الكيفُ مَجهولٌ، ولم يَقولوا: إنَّهُ غيرُ موجودٍ .
4- أنَّ المعانيَ الْمُثْبَتَةَ كلَّها معلومةٌ .
5- أنَّ الأصْلَ في إثباتِهم التفصيلُ كما في الْقُرْآنِ .
6- إثباتُ الكمالِ الْمُطْلَقِ .
7- استخدامُ الْمَثَلِ الأعلى في حَقِّ اللَّهِ، كما سيأتي مُفَصَّلاً بإذنِ اللَّهِ.
8- إثباتُها على وجهِ الْحُسْنِ والْجَمَالِ، { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } .

ثانيًا: أصولُهم في النفيِ:

1- أنَّ النفيَ مُتَلَقًّى من الوحيِ ضِمْنًا أوْ تصريحًا، كما سيأتي في القاعدةِ السادسةِ.
2- أنَّ غالبَهُ الإجمالُ على وَفْقِ النصوصِ.
3- أنَّ النفيَ مُتَضَمِّنٌ لإثباتِ كَمالِ الضِّدِّ، ففي قولِه تعالى: { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}، إثباتٌ لكمالِ عَدْلِه، وقولِه: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ }، إثباتٌ لكمالِ قُدْرَتِه، وهكذا.
4- أنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَنْزِيهًا بلا تَعطيلٍ.
5- أنَّ النفيَ منهُ مُتَّصِلٌ، كنفيِ الْجَهْلِ والعَجْزِ والنوْمِ. ومنهُ مُنْفَصِلٌ، كنفيِ الوَلَدِ والصاحبةِ والشريكِ. والْمُتَّصِلُ نفيُ النقائضِ عنْ ذاتِ اللَّهِ، والْمُنْفَصِلُ نفيُ ما يُضَادُّ كمالَهُ من الخارجِ.


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الله, بعث

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:44 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir