قال أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي (ت: 387هـ): (باب بيان كفر الجهميّة الّذين أزاغ اللّه قلوبهم بما تأوّلوه من متشابه القرآن[الإبانة الكبرى: 6/141]
416 - حدّثنا أبو بكرٍ أحمد بن سلمان النّجّاد، قال: نا أحمد بن ملاعبٍ، قال: نا محمّد بن مصعبٍ، قال: نا التّستريّ، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم " تلا هذه الآية {فأمّا الّذين في قلوبهم زيغٌ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} [آل عمران: 7]، فإذا رأيتموهم، فاحذروهم، أولئك الّذين سمّاهم اللّه ثلاث مرّاتٍ "
[الإبانة الكبرى: 6/141]
417 - حدّثنا أبو بكرٍ أحمد بن سلمان، قال: نا الحسن بن سلّامٍ، قال: نا أبو عبد الرّحمن المقريّ، قال: نا ابن لهيعة، عن أبي قبيلٍ، قال: سمعت عقبة بن عامرٍ الجهنيّ، يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «هلاك أمّتي في الكتاب» . قيل: يا رسول اللّه ما للكتاب؟ قال: «يتعلّمون القرآن ويتأوّلونه على غير ما أنزل اللّه» قال أبو قبيلٍ: ولم أسمع من عقبة بن عامرٍ إلّا هذا الحديث
[الإبانة الكبرى: 6/142]
418 - قال أبو عبد الرّحمن: وحدّثناه ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامرٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم
[الإبانة الكبرى: 6/143]
419 - حدّثنا أبو هاشمٍ عبد الغافر بن سلامة الحمصيّ، قال: نا محمّد بن عوفٍ الطّائيّ، قال: نا الرّبيع بن روحٍ، قال: نا محمّد بن خالدٍ، قال: نا عبيد اللّه بن أبي حميدٍ الهذليّ، عن أبي مليحٍ، عن معقل
[الإبانة الكبرى: 6/143]
بن يسارٍ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «اعملوا بالقرآن، أحلّو حلاله، وحرّموا حرامه، واقتدوا به ولا تكفروا بشيءٍ منه، وما تشابه عليكم فردّوه إلى اللّه وإلى أولي العلم من بعدي كيما يخبروكم، وآمنوا بالتّوراة والإنجيل والزّبور، وما أوتي النّبيّون من ربّهم، ويسعكم القرآن بما فيه من البيان، فإنّه شافعٌ مشفّعٌ، ما حلّ مصدّقٌ، ألا إنّي أعطيت بكلّ آيةٍ منه نورًا يوم القيامة»
[الإبانة الكبرى: 6/144]
420 - حدّثنا أبو القاسم عبد اللّه بن محمّدٍ الورّاق، قال: نا أبو
[الإبانة الكبرى: 6/144]
الرّبيع الزّهرانيّ، قال: نا الحارث بن عبيدٍ، عن أبي عمران الجونيّ، عن جندب بن عبد اللّه البجليّ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «اقرأوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم، فقوموا عنه»
[الإبانة الكبرى: 6/145]
421 - حدّثنا أبو القاسم، قال: بشر بن الوليد الكنديّ، قال: نا سهيلٌ، أخو حزمٍ، عن أبي عمران الجونيّ، عن جندبٍ، قال: قال رسول اللّه
[الإبانة الكبرى: 6/145]
صلّى اللّه عليه وسلّم: «من قال في القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ»
[الإبانة الكبرى: 6/146]
422 - حدّثنا أبو بكرٍ محمّد بن الحسن بن الفرج الأنباريّ، قال: نا الحارث بن محمّدٍ، قال: نا يونس بن محمّدٍ، قال: نا أبو عوانة، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: " من قال في القرآن
[الإبانة الكبرى: 6/146]
بغير علمٍ ألجم يوم القيامة بلجامٍ من نارٍ
[الإبانة الكبرى: 6/147]
423 - حدّثنا أبو عبيدٍ القاسم بن إسماعيل المحامليّ، قال: نا أبو عتبة أحمد بن الفرج، قال: نا بقيّة بن الوليد، قال: نا الصّبّاح بن مجالدٍ، عن
[الإبانة الكبرى: 6/147]
عطيّة العوفيّ، عن أبي سعيدٍ الخدريّ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إذا كان سنة خمسٍ وثلاثين ومئةٍ خرجت مردة الشّياطين، كان حبسهم سليمان بن داود عليه السّلام في جزائر البحور، فيذهب تسعة أعشارهم إلى العراق يجادلونهم بمشتبه القرآن، وعشرٌ بالشّام»
[الإبانة الكبرى: 6/148]
424 - حدّثنا أبو جعفرٍ محمّد بن عبيد اللّه الدّيناريّ، ومحمّد بن مجالدٍ، قالا: نا عليّ بن حربٍ، قال: نا محمّد بن فضيلٍ، عن أشعث، عن
[الإبانة الكبرى: 6/148]
أبي صفوان، عن ابن مسعودٍ، قال: " إنّ اللّه عزّ وجلّ أنزل هذا القرآن تبيانًا لكلّ شيءٍ، ولكن علمنا يقصر عمّا بيّن لنا في القرآن، ثمّ قرأ {ونزّلنا عليك الكتاب تبيانًا لكلّ شيءٍ} [النحل: 89] "
[الإبانة الكبرى: 6/150]
425 - وحدّث أحمد بن يحيى الصّوفيّ، قال: نا إبراهيم بن منصورٍ التّوزيّ، وكان من عقلاء الرّجال قال: دخلت دار الحسن بن حمّادٍ الصّيرفيّ، وفيها محمّد بن داود الجعفريّ وحوله قومٌ وهو يتكلّم في
[الإبانة الكبرى: 6/150]
القرآن، فخفت أن يعلق بقلوبهم شيءٌ من كلامه قال: فقلت له: «يكون مخلوقٌ بلا قولٍ؟» قال: لا قال: قلت له: فأخبرني عن القول الّذي خلق به الخلق مخلوقٌ؟ قال: فقال: «ما أرى الّذي تكلّم في هذا إلّا شيطانًا» قال الشّيخ: فاعلموا رحمكم اللّه أنّ رؤساء الكفر والضّلال من الجهميّة الملحدة ألقت إليهم الشّياطين من إخوانهم الخصومة بالمتشابه من القرآن، فزاغت به قلوبهم، فضلّوا وأضلّوا، فقل للجهميّ الضّالّ: هذا كتاب اللّه عزّ وجلّ، سمّاه اللّه في كتابه قرآنًا وفرقانًا ونورًا وهدًى ووحيًا وتبيانًا وذكرًا وكتابًا وكلامًا وأمرًا وتنزيلًا، وفي كلّ ذلك يعلّمنا أنّه كلامه منه ومتّصلٌ به قال اللّه تعالى: {حم تنزيل الكتاب من اللّه العزيز العليم} [غافر: 2] . وقال: {حم تنزيل الكتاب من اللّه العزيز الحكيم} [الجاثية: 1] فلك في أسمائه الّتي سمّاه اللّه بها كفايةٌ، فقد جهلت وغلوت في دين اللّه غير الحقّ، وافتريت على اللّه الكذب والبهتان حين زعمت أنّ القرآن مخلوقٌ، وزعمت أنّ ذلك هو التّوحيد، وأنّه دين اللّه الّذي لا يقبل من العباد غيره، وأنّ من لم يقل بمقالتك ويتّبعك على إلحادك وضلالتك فليس بموحّدٍ،
[الإبانة الكبرى: 6/150]
تكفّره وتستحلّ دمه، فكلّ ما قلته وابتدعته أيّها الجهميّ، فقد أكذبك اللّه عزّ وجلّ فيه، وردّه عليك هو ورسوله والمسلمون جميعًا من عباد غيرةٍ، وإنّما التمسنا دعواك هذه في كتاب اللّه، وفي سنّة نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وفي إجماع المسلمين وصالحي المؤمنين، فلم نجد في ذلك شيئًا ممّا ادّعيته قال اللّه عزّ وجلّ: {وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلّا يوحى إليه أنّه لا إله إلّا أنا فاعبدون}، ولم يقل: وأن تقولوا: القرآن مخلوقٌ. وقال اللّه تعالى: {ولقد وصّينا الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإيّاكم أن اتّقوا اللّه} [النساء: 131]، ولم يقل: وأن تقولوا: القرآن مخلوقٌ. وقال تعالى {يا أيّها الّذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربّكم. . .} [الحج: 77] إلى قوله {وما جعل عليكم في الدّين من حرجٍ ملّة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل} [الحج: 78]، ولم يقل: وأن تقولوا: القرآن مخلوقٌ. وقال {شرع لكم من الدّين ما وصّى به نوحًا والّذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدّين ولا تتفرّقوا فيه} [الشورى: 13]
[الإبانة الكبرى: 6/151]
وقال {فأقم وجهك للدّين حنيفًا فطرة اللّه الّتي فطر النّاس عليها لا تبديل لخلق اللّه} [الروم: 30] وقال تعالى: {الر كتابٌ أحكمت آياته ثمّ فصّلت من لدن حكيمٍ خبيرٍ ألّا تعبدوا إلّا اللّه} [هود: 1] وقال عزّ وجلّ {وما أمروا إلّا ليعبدوا اللّه مخلصين له الدّين حنفاء ويقيموا الصّلاة ويؤتوا الزّكاة وذلك دين القيمة} [البينة: 5] وقال: {ونزّلنا عليك الكتاب تبيانًا لكلّ شيءٍ} [النحل: 89] وقال: {ما فرّطنا في الكتاب من شيءٍ} [الأنعام: 38] وقال {وكلّ شيءٍ أحصيناه في إمامٍ مبينٍ} [يس: 12] وقال {وما كان اللّه ليضلّ قومًا بعد إذ هداهم حتّى يبيّن لهم ما يتّقون} [التوبة: 115] فمثل هذا وشبهه في القرآن كثيرٌ، قد قرأناه وفهمناه، فلم نجد لبدعتك هذه فيه ذكرًا ولا أثرًا، ولا دعا اللّه عباده ولا أمرهم بشيءٍ ممّا زعمت أنّه توحيده ودينه
[الإبانة الكبرى: 6/152]
أفتزعم أنّ اللّه عزّ وجلّ أغفل هذا أم نسيه حتّى ذكرته أنت وأنبهته عليه؟ فقد أكذبك اللّه عزّ وجلّ فقال {وما كان ربّك نسيًّا} [مريم: 64]، وقال {ما فرّطنا في الكتاب من شيءٍ} [الأنعام: 38] أم عساك تزعم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خان في دينه، وكتم ما أمره بتبليغه؟ فإنّ في جرأتك على اللّه وعلى رسوله ما قد قلت ما هو أعظم من هذا وكلّ ذلك فقد أكذبك اللّه فيه. فقال تعالى: {الّذين يتّبعون الرّسول النّبيّ الأمّيّ الّذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التّوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر. . .} [الأعراف: 157] إلى قوله: {النّبيّ الأمّيّ الّذي يؤمن باللّه وكلماته واتّبعوه لعلّكم تهتدون} [الأعراف: 158] . وقال {وما أرسلناك إلّا رحمةً للعالمين} [الأنبياء: 107] . وقال: {وأنزلنا إليك الذّكر لتبيّن للنّاس ما نزّل إليهم ولعلّهم يتفكّرون} [النحل: 44] . وقال: {يا أيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت
[الإبانة الكبرى: 6/153]
رسالته} [المائدة: 67] . وقال: {وما على الرّسول إلّا البلاغ المبين} [النور: 54] . وقال: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنّا كفيناك المستهزئين} [الحجر: 94] وقالت عائشة: " من زعم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كتم شيئًا ممّا أنزله اللّه عليه، فقد أعظم الفرية على اللّه، يقول اللّه: {يا أيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك} [المائدة: 67] " الآية ثمّ التمسنا هذه الضّلالة الّتي اخترعتها وزعمت أنّها الشّريعة الواجبة والدّين القيّم والتّوحيد اللّازم الّذي لا يقبل اللّه من العباد غيره بأن يقولوا: القرآن مخلوقٌ في سنّة المصطفى، وما دعا إليه أمّته وقاتل من خالفه عليه، فما وجدنا لذلك أثرًا ولا إمارةً ولا دلالةً. قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: " بني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلّا اللّه، وإقام الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، وحجّ البيت، وصوم رمضان " فزعمت أيّها الجهميّ أنّها ستٌّ بضلالتك هذه
[الإبانة الكبرى: 6/154]
وقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: " أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا: لا إله إلّا اللّه، ويقيموا الصّلاة، ويؤتوا الزّكاة، فإذا فعلوا ذلك، حرّمت عليّ دماؤهم وأموالهم إلّا بحقّها وحسابهم على اللّه " وقال صلّى اللّه عليه وسلّم: " لا يحلّ دم امرئٍ مسلمٍ يشهد أن لا إله إلّا اللّه إلّا بإحدى ثلاثٍ: الثّيّب الزّاني، والتّارك لدينه، والنّفس بالنّفس " وقال لوفد عبد القيس حين قدموا عليه، فأمرهم بالإيمان باللّه، وقال: «أتدرون ما الإيمان باللّه؟» قالوا: اللّه ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلّا اللّه وأنّ محمّدًا رسول اللّه، وإقام الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم " وقال اللّه تعالى: {ومن يشاقق الرّسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنّم وساءت مصيرًا} [النساء: 115]
[الإبانة الكبرى: 6/155]
فهذا كتاب اللّه يكذّبك أيّها الجهميّ، وسنّة نبيّه وإجماع المؤمنين وسبيلهم تخالفك، وتدلّ على ضلالتك، وعلى إبطال ما ادّعيته من أنّ قولك: القرآن مخلوقٌ هو التّوحيد والدّين، الذي شرعه اللّه لعباده، وبعث به رسوله، فقد بطل الآن ما ادّعيته من قولك: إنّ التّوحيد هو أن يقال: القرآن مخلوقٌ، وبان كذبك وبهتانك للعقلاء فأخبرنا اللّه عزّ وجلّ عن خلق ما خلق من الأشياء، فإنّا نحن قد أوجدناك في آياتٍ كثيرةٍ من كتابه، وأخبارٍ صحيحةٍ عن رسول اللّه أنّ القرآن كلام اللّه ومنه، وفيه صفاته وأسماءه، وأنّه علمٌ من علمه، وأنّه ليس بجائزٍ أن يكون شيءٌ من اللّه ولا من صفاته، ولا من أسمائه، ولا من علمه، ولا من قدرته، ولا من عظمته، ولا من عزّته مخلوقةً ورأيناك أيّها الجهميّ تزعم أنّك تنفي التّشبيه عن اللّه بقولك: إنّ القرآن مخلوقٌ، ورأيناك شبّهت اللّه عزّ وجلّ بأضعف ضعيفٍ من خلقه فإنّ كلام العباد مخلوقٌ، وأسماءهم مخلوقةٌ، وعلم النّاس مخلوقٌ، وقدرتهم وعزّتهم مخلوقةٌ، فأنت بالتّشبيه أحقّ وأخلق، وأنت فليس تجد ما قلته من أنّ القرآن مخلوقٌ في كتاب اللّه، ولا في سنّة نبيّه، ولا مأثورًا عن صحابته، ولا عن أحد من أئمّة المسلمين، فحينئذٍ لجأ الجهميّ إلى آياتٍ من المتشابه جهل علمها، فقال: قلت:
[الإبانة الكبرى: 6/156]
ذلك من قول اللّه عزّ وجلّ: {إنّا جعلناه قرآنًا عربيًّا} [الزخرف: 3]، وقوله: {ولكن جعلناه نورًا نهدي به من نشاء من عبادنا} [الشورى: 52]، وزعم أنّ كلّ مجعولٍ مخلوقٌ، فنزع بآيةٍ من المتشابه يحتجّ بها من يريد أن يلحد في تنزيلها، ويبتغي الفتنة في تأويلها فقلنا: إنّ اللّه عزّ وجلّ قد منعك أيّها الجهميّ الفهم في القرآن حين جعلت كلّ مجعولٍ مخلوقًا، وأنّ كلّ جعل في كتاب اللّه هو بمعنى خلق، فمن هاهنا بليت بهذه الضّلالة القبيحة، حين تأوّلت كتاب اللّه بجهلك وهوى نفسك وما زيّنه لك شيطانك، وألقاه على لسانك إخوانك، وذلك أنّا نجد الحرف الواحد في كتاب اللّه عزّ وجلّ على لفظٍ واحدٍ ومعانيه مختلفةٌ في آياتٍ كثيرةٍ، تركنا ذكرها لكثرتها وقصدنا لذكر الآية الّتي احتججت بها. ف {جعل} [الأنعام: 1] في كتاب اللّه عزّ وجلّ على غير معنى خلق، فجعل من المخلوقين، على معنى وصف من أوصافهم، وقسم من أقسامهم، و (جعل) أيضًا على معنى فعل من أفعالهم لا يكون خلقًا ولا يقوم مقام الخلق، فتفهّموا الآن ذلك واعقلوه. قال اللّه عزّ وجلّ: {الّذين جعلوا القرآن عضين} [الحجر: 91]، وإنّما جعل هاهنا بمعنى: وصفوه بغير وصفه، ونسبوه إلى غير معناه حين عضوه وميّزوه فقالوا:
[الإبانة الكبرى: 6/157]
إنّه شعرٌ، وإنّه سحرٌ، وإنّه قول البشر، وإنّه أساطير الأوّلين وقال في مثل ذلك {وجعلوا للّه شركاء الجنّ وخلقهم} [الأنعام: 100]، وقال: {وجعلوا الملائكة الّذين هم عباد الرّحمن إناثًا} [الزخرف: 19]، وقال: {ويجعلون للّه ما يكرهون} [النحل: 62]، وقال: {ويجعلون للّه البنات سبحانه} [النحل: 57]، وقال: {ولا تجعلوا اللّه عرضةً لأيمانكم} [البقرة: 224] لا يعني ذلك ولا تخلقوا، وقال: {وتجعلون له أندادًا} [فصلت: 9]، وقال: {ويجعلون لما لا يعلمون نصيبًا} [النحل: 56]، وقال: {وجعلوا للّه شركاء قل سمّوهم} [الرعد: 33]
[الإبانة الكبرى: 6/158]
فهذا كلّه (جعل) لا يجوز أن يكون على معنى: (خلق)، و (جعل) من بني آدم على فعل قال اللّه تعالى: {يجعلون أصابعهم في آذانهم} [البقرة: 19] لا يجوز أن يكون: يخلقون أصابعهم في آذانهم، وقال: {حتّى إذا جعله نارًا} [الكهف: 96]، لا يجوز أن يكون: خلقه نارًا، وقال: {فجعلهم جذاذًا إلّا كبيرًا لهم} [الأنبياء: 58]، أفيجوز أن يكون خلقهم جذاذًا؟ و (جعل) في معنى (خلق) في معنى ما كان من الخلق موجودًا محسوسًا، فقال: {الحمد للّه الّذي خلق السّماوات والأرض وجعل الظّلمات والنّور ثمّ الّذين كفروا بربّهم يعدلون} [الأنعام: 1] . فجعل هاهنا في معنى خلق لا ينصرف إلى غيره، وذلك أنّ الظّلمات والنّور يراهما النّاس، وكذلك قوله: {وجعل لكم السّمع والأبصار} [النحل: 78] وهما موجودان في بني آدم وقال: {وجعلنا اللّيل والنّهار آيتين} [الإسراء: 12]، يعني: خلقتا، وهما موجودان
[الإبانة الكبرى: 6/159]
معروفان بإقبالهما وإدبارهما، فهل يعرف القرآن بإقبالٍ وإدبارٍ؟ وقال: {وجعل الشّمس سراجًا} [نوح: 16] معناه خلق، والشّمس نورٌ وحرٌ وهي ترى، فهل يمكن ذلك في القرآن؟، وقال {وجعلت له مالًا ممدودًا} [المدثر: 12]، يعني: خلقت، والمال موجودٌ يوزن ويعدّ ويحصى ويعرف، فهل يوزن القرآن؟، وقال: {واللّه جعل لكم الأرض بساطًا} [نوح: 19] وهي موجودةٌ، يمشى عليها وتحرث، فهل يمكن مثل ذلك في القرآن؟ فهذا كلّه على لفظ (جعل) ومعناه معنى الخلق، وقد ذكر معنى الجعل منه في مواضع كثيرةٍ على غير معنى الخلق، من ذلك قوله: {ما جعل اللّه من بحيرةٍ ولا سائبةٍ ولا وصيلةٍ ولا حامٍ} [المائدة: 103] لا يعني: ما خلق
[الإبانة الكبرى: 6/160]
اللّه من بحيرةٍ، لأنّه هو خلق البحيرة والسّائبة والوصيلة، ولكنّه أراد أنّه لم يأمر النّاس باتّخاذ البحيرة والسّائبة والوصيلة والحام، فهذا لفظ (جعل) على غير معنى (خلق)، وقال تعالى لإبراهيم خليله عليه السّلام {إنّي جاعلك للنّاس إمامًا} [البقرة: 124] لا يعني: خالقك، لأنّ خلقه قد سبق إمامته، وقال لأمّ موسى: {إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين} [القصص: 7] لا يعني وخالقوه، لأنّه قد كان مخلوقًا، وإنّما جعله مرسلًا بعد خلقه، وقال إبراهيم {ربّ اجعل هذا البلد آمنّا} [إبراهيم: 35] لا يعني: ربّ اخلق هذا البلد، لأنّ البلد قد كان مخلوقًا، ألا تراه يقول {هذا البلد} [إبراهيم: 35] ؟ وقال: {فما زالت تلك دعواهم حتّى جعلناهم حصيدًا خامدين} [الأنبياء: 15]، لا يريد: حتّى خلقناهم حصيدًا. وقال إبراهيم {ربّ اجعلني مقيم الصّلاة ومن ذرّيّتي} [إبراهيم: 40] لا يعني: ربّ اخلقني، وقال إبراهيم وإسماعيل {ربّنا واجعلنا مسلمين لك} [البقرة: 128]، ولم يريدا: واخلقنا مسلمين لك لأنّ خلقهما قد تقدّم قبل قولهما، فهذا ونحوه في القرآن
[الإبانة الكبرى: 6/161]
كثيرٌ، ممّا لفظه (جعل) على غير معنى (خلق)، وكذلك قوله: {إنّا جعلناه قرآنًا عربيًّا} [الزخرف: 3] إنّما جعله عربيًّا ليفهم ويبيّن للّذين نزل عليهم من العرب، ألم تسمع إلى قوله: {فإنّما يسّرناه بلسانك} [مريم: 97] ؟ وقال في موضعٍ آخر {ولو جعلناه قرآنًا أعجميًّا لقالوا لولا فصّلت آياته أأعجميٌّ وعربيٌّ} [فصلت: 44]، يقول: أعربيٌّ محمّدٌ وعجميٌّ كلامه بالقرآن؟ فجعل اللّه القرآن بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ. كذلك ألم تسمع قوله {وهذا لسانٌ عربيٌّ مبينٌ} [النحل: 103] ؟ وقال: {قرآنًا عربيًّا لقومٍ يعلمون} [فصلت: 3]، وقال: {إنّا أنزلناه قرآنًا عربيًّا لعلّكم تعقلون} [يوسف: 2]، وأمّا قوله: {ولكن جعلناه} [الشورى: 52]، فإنّما يعني: أنزلناه نورًا، تصديق ذلك في الآية الأخرى قوله: {فآمنوا باللّه ورسوله والنّور الّذي أنزلنا} [التغابن: 8] . وقال: {يا أيّها النّاس قد جاءكم برهانٌ من ربّكم وأنزلنا إليكم نورًا
[الإبانة الكبرى: 6/162]
مبينًا} [النساء: 174]، وقال: {واتّبعوا النّور الّذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} [الأعراف: 157]، وقال تعالى: {قل من أنزل الكتاب الّذي جاء به موسى نورًا وهدًى للنّاس} [الأنعام: 91]، فقد بيّن لمن عقل وشرح اللّه صدره للإيمان أنّ (جعل) في كتاب اللّه على غير معنى (خلق)، و (جعل) أيضًا بمعنى (خلق)، وأنّ قوله {إنّا جعلناه قرآنًا عربيًّا} [الزخرف: 3] هو على غير معنى (خلق) . فبأيّ حجّةٍ وفي أيّ لغةٍ زعم الجهميّ أنّ كلّ (جعل) على معنى (خلق) ؟ ألم يسمع إلى قوله: {ونريد أن نمنّ على الّذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّةً ونجعلهم الوارثين} [القصص: 5] ؟ أفترى الجهميّ يظنّ أنّ قوله {ونجعلهم أئمّةً} [القصص: 5] إنّما يريد: أن نخلقهم أئمّةً؟ أفتراه يخلقهم خلقًا آخر بعد خلقهم الأوّل؟ فهل يكون معنى (الجعل) هاهنا معنى (الخلق) ؟ قال عزّ وجلّ: {ثمّ جعلنا له جهنّم يصلاها مذمومًا مدحورًا} [الإسراء: 18] لا يعني:
[الإبانة الكبرى: 6/163]
ثمّ خلقنا له جهنّم، لأنّ جهنّم قد تقدّم خلقها، ولم يرد أنّها تخلق حين يفعل العبد ذلك، ولكنّه إذا فعل العبد ذلك جعلت داره ومسكنه بعد ما تقدّم خلقها. وقال تعالى: {ليميز اللّه الخبيث من الطّيّب ويجعل الخبيث بعضه على بعضٍ فيركمه جميعًا فيجعله في جهنّم} [الأنفال: 37]، وقال: {أم حسب الّذين اجترحوا السّيّئات أن نجعلهم كالّذين آمنوا وعملوا الصّالحات} [الجاثية: 21]، وقال: {أم نجعل الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتّقين كالفجّار} [ص: 28] وقال: {إنّما جعل السّبت على الّذين اختلفوا فيه} [النحل: 124]، يعني: بني إسرائيل، أفيظنّ الجهميّ الملحد أنّما أراد: إنّما خلق السّبت على بني إسرائيل؟ فقد علم العقلاء أنّ السّبت مخلوقٌ في مبتدأ الخلق قبل كون بني إسرائيل، وقبل نوحٍ، وقبل إبراهيم، ولكن معناه: إنّما جعل على هؤلاء أن يسبتوا السّبت خاصّةً، فهذا على غير معنى (خلق)، وهذا كثيرٌ في القرآن، ولكنّ الجهميّ من الصّمّ البكم الّذين لا يعقلون من الّذين {يسمعون كلام اللّه ثمّ يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون} [البقرة: 75]، ألم تسمع إلى قوله {ولو نزّلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به
[الإبانة الكبرى: 6/164]
مؤمنين} [الشعراء: 198]، فإنّما جعل اللّه القرآن بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ، وأنزله عربيًّا لتفقه العرب، ولتتّخذ بذلك عليهم الحجّة، فذلك معنى قوله {إنّا جعلناه قرآنًا عربيًّا} [الزخرف: 3] ولم يرد عربيًّا في أصله ولا نسبه، وإنّما أراد عربيًّا في قراءته. ومن أوضح البيان من تفريق اللّه بين الخلق وبين القرآن أنّ قوله تعالى {الرّحمن علّم القرآن خلق الإنسان} [الرحمن: 1]، ألا تراه يفصل بين القرآن وبين الإنسان، فقال: {علّم القرآن خلق الإنسان} [الرحمن: 2]، ولو شاء تعالى: لقال: «خلق الإنسان والقرآن»، ولكنّه تكلّم بالصّدق ليفهم وليفصّل كما فصلّه. فخالف ذلك الجهميّ وكفر به، وقال على اللّه تعالى ما لم يجده في كتابٍ أنزل من السّماء، ولا قاله أحدٌ من الأنبياء، ولا روي عن أحدٍ من العلماء، بل وجد وروي خلاف قول الجهميّ، حيث عاب اللّه أقوامًا بمثل فعل الجهميّ في هذا، فقال لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {قل أرأيتم ما تدعون من دون اللّه أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شركٌ في السّموات}، فلمّا علم أنّهم لا يقدرون على أن يروه لمن عبدوا خلقًا في الأرض ولا شرك لهم في السّموات قال: {ائتوني بكتابٍ من قبل هذا} [الأحقاف: 4] يعني: من قبل القرآن، أي: ائتوني
[الإبانة الكبرى: 6/165]
بكتابٍ من قبل هذا تجدون فيه ما أنتم عليه من عبادة الأوثان {أو أثارةٍ من علمٍ} [الأحقاف: 4]، أي: روايةٍ عن بعض الأنبياء {إن كنتم صادقين} [البقرة: 23] فسلك الجهميّ في مذهبه طريق أولئك، وقال في اللّه وتقوّل عليه البهتان بغير برهانٍ، وافترى على اللّه الكذب، وتعدّى ما أخذه اللّه من الميثاق على خلقه حين قال: {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألّا يقولوا على اللّه إلّا الحقّ}، وقال: {اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على اللّه غير الحقّ} [الأنعام: 93] ومن أبين البيان وأوضح البرهان من تفريق اللّه بين الخلق والقرآن قوله: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54]، فتفهّموا هذا المعنى، هل تشكّون أنّه قد دخل في ذلك الخلق كلّه؟ وهل يجوز لأحدٍ أن يظنّ أنّ قوله: {ألا له الخلق} [الأعراف: 54] أراد أنّ له بعض الخلق؟ بل قد دخل الخلق كلّه في الخلق ثمّ أخبر أنّ له أيضًا غير الخلق ليس هو خلقًا، لم يدخل في الخلق وهو (الأمر)، فبيّن أنّ الأمر خارجٌ من الخلق، فالأمر أمره وكلامه، وممّا يوضّح ذلك عند من فهم عن اللّه وعقل أمر اللّه أنّك تجد في كتاب اللّه ذكر الشّيئين المختلفين إذا كانا في موضعٍ فصل بينهما بالواو، وإذا كانا شيئين غير مختلفين لم يفصل بينهما بالواو، فمن ذلك ما هو شيءٌ واحدٌ
[الإبانة الكبرى: 6/166]
وأسماؤه مختلفةٌ ومعناه متّفقٌ، فلم يفصل بينهما بالواو، وقوله عزّ وجلّ: {قالوا يا أيّها العزيز إنّ له أبًا شيخًا كبيرًا} [يوسف: 78]، فلم يفصل بالواو حين كان ذلك كلّه شيئًا واحدًا، ألا ترى أنّ الأب هو الشّيخ الكبير؟ وقال: {عسى ربّه إن طلّقكنّ أن يبدله أزواجًا خيرًا منكنّ مسلماتٍ مؤمناتٍ قانتاتٍ تائباتٍ عابداتٍ سائحاتٍ ثيّباتٍ وأبكارًا} [التحريم: 5]، فلمّا كان هذا كلّه نعت شيءٍ واحدٍ لم يفصل بعضه عن بعضٍ بالواو، ثمّ قال: {وأبكارًا} [التحريم: 5]، فلمّا كان الأبكار غير الثّيّبات فصل بالواو، لأنّ الأبكار والثّيّبات شيئان مختلفان وقال أيضًا فيما هو شيءٌ واحدٌ بأسماء مختلفةٍ ولم يفصله بالواو، وقال: {هو اللّه الّذي لا إله إلّا هو الملك القدّوس السّلام المؤمن المهيمن العزيز الجبّار المتكبّر} [الحشر: 23]، {هو اللّه الخالق البارئ المصوّر} [الحشر: 24]، فلمّا كان هذا كلّه شيئًا واحدًا لم يفصل بالواو، وكان غير جائزٍ أن يكون هاهنا واوٌ، فيكون الأوّل غير الثّاني، والثّاني غير الثّالث، وقال فيما هو شيئان مختلفان {إنّ المسلمين والمسلمات. . .} [الأحزاب: 35] إلى
[الإبانة الكبرى: 6/167]
آخر الآية، فلمّا كان المسلمون غير المسلمات، فصل بالواو، ولا يجوز أن يكون المسلمون المسلمات، لأنّهما شيئان مختلفان وقال: {إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي} [الأنعام: 162]، فلمّا كانت الصّلاة غير النّسك، والمحيا غير الممات، فصل بالواو. وقال: {وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظّلمات ولا النّور، ولا الظّلّ ولا الحرور} [فاطر: 19]، ففصل هذا كلّه بالواو لاختلاف أجناسه ومعانيه. وقال في هذا المعنى أيضًا: {فأنبتنا فيها حبًّا وعنبًا وقضبًا وزيتونًا ونخلًا وحدائق غلبًا} [عبس: 27]، فلمّا كان كلّ واحدٍ من هذه غير صاحبه، فصل بالواو، ولمّا كانت الحدائق غلبًا شيئًا واحدًا، أسقط بينهما الواو، وقال أيضًا: {وهو الّذي جعل اللّيل والنّهار خلفةً} [الفرقان: 62]، فلمّا كان اللّيل غير النّهار، فصل بالواو، كما قال {وسخّر لكم الشّمس والقمر} [إبراهيم: 33]، فلمّا كان الشّمس غير القمر، فصل بالواو، وهذا في القرآن كثيرٌ، وفي بعض ما ذكرناه كفايةٌ لمن تدبّره وعقله وأراد اللّه توفيقه وهدايته،
[الإبانة الكبرى: 6/168]
فكذلك لمّا كان الأمر غير الخلق، فصل بالواو، فقال {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54]، فالأمر أمره وكلامه، والخلق خلقٌ، وبالأمر خلق الخلق، لأنّ اللّه عزّ وجلّ أمر بما شاء وخلق بما شاء، فزعم الجهميّ أنّ الأمر خلقٌ، والخلق خلقٌ، فكأنّ معنى قول اللّه عزّ وجلّ {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54] إنّما هو الإله الخلق والخلق، فجمع الجهميّ بين ما فصله اللّه. ولو كان الأمر كما يقول الجهميّ، لكان قول جبريل للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: وما نتنزّل إلّا بخلق ربّك، واللّه يقول: {وما نتنزّل إلّا بأمر ربّك} [مريم: 64] وممّا يدلّ على أنّ أمر اللّه هو كلامه قوله: {ذلك أمر اللّه أنزله إليكم} [الطلاق: 5]، فيسمّي اللّه القرآن أمره، وفصل بين أمره وخلقه، فتفهّموا رحمكم اللّه، وقال عزّ وجلّ: {ومن يزغ منهم عن أمرنا} [سبأ: 12]، ولم يقل: عن خلقنا. وقال: {ومن آياته أن تقوم السّماء والأرض بأمره} [الروم: 25]، ولم يقل بخلقه، لأنّها لو قامت بخلقه لما كان ذلك من آيات اللّه، ولا من معجزات قدرته، ولكن من آيات اللّه أن يقوم المخلوق بالخالق، وبأمر الخالق قام المخلوق، وقال: {ثمّ إذا دعاكم دعوةً من الأرض إذا أنتم تخرجون} [الروم: 25] فبدعوة
[الإبانة الكبرى: 6/169]
اللّه يخرجون. واحتجّ الجهميّ بآيةٍ انتزعها من المتشابه، فقال: أليس قد قال اللّه تعالى {يدبّر الأمر} [يونس: 3]، فهل يدبّر إلّا مخلوقٌ؟ فهذا أيضًا ممّا يكون لفظه واحدًا بمعانٍ مختلفةٍ، وجاء مثله في القرآن كثيرٌ، فإنّما يعني: يدبّر أمر الخلق، ولا يجوز أن يدبّر كلامه، لأنّ اللّه تعالى حكيمٌ عليمٌ، وكلامه حكمٌ، وإنّما تدبير الكلام من صفات المخلوقين الّذين في كلامهم الخطأ والزّلل، فهم يدبّرون كلامهم مخافة ذلك ويتكلّمون بالخطأ ثمّ يرجعون إلى الصّواب، واللّه عزّ وجلّ لا يخطئ ولا يضلّ ولا ينسى ولا يدبّر كلامه، وقال تعالى {للّه الأمر من قبل ومن بعد} [الروم: 4]، يقول: للّه الأمر من قبل الخلق ومن بعد الخلق، وقوله: {ذلك أمر اللّه أنزله إليكم} [الطلاق: 5]، يعني: هدايةٌ هداكم اللّه بها، والهداية علمه، والعلم منه ومتّصلٌ به، كما أنّ شعاع الشّمس متّصلٌ بعين الشّمس، فإذا غابت عين الشّمس ذهب الشّعاع وللّه المثل الأعلى، واللّه عزّ وجلّ هو الدّائم الأبديّ الأزليّ، وعلمه أزليٌّ، وكلامه دائمٌ لا يغيب عن شيءٍ ولا يزول، ثمّ إنّ الجهميّ ادّعى أمرًا آخر ليضلّ به الضّعفاء ومن لا علم عنده، فقال: أخبرونا عن القرآن، هل هو شيءٌ أو لا شيء؟
[الإبانة الكبرى: 6/170]
فلا يجوز أن يكون جوابه: لا شيء، فيقال له: هو شيءٌ، فيظنّ حينئذٍ أنّه قد ظفر بحجّته ووصل إلى بغيته، فيقول: فإنّ اللّه يقول {خالق كلّ شيءٍ} [الأنعام: 102]، والقرآن شيءٌ يقع عليه اسم شيءٍ، وهو مخلوقٌ، لأنّ الكلّ يجمع كلّ شيءٍ، فيقال له: أمّا قولك: إنّ الكلّ يجمع كلّ شيءٍ، فقد ردّ اللّه عليك ذلك وأكذبك القرآن، قال اللّه تعالى {كلّ نفسٍ ذائقة الموت} [آل عمران: 185]، وللّه عزّ وجلّ نفسٌ لا تدخل في هذا الكلّ، وكذلك كلامه شيءٌ لا يدخل في الأشياء المخلوقة، كما قال {كلّ شيءٍ هالكٌ إلّا وجهه} [القصص: 88]، وقال {وتوكّل على الحيّ الّذي لا يموت} [الفرقان: 58] . فإن زعمت أنّ اللّه لا نفس له، فقد أكذبك القرآن وردّ عليك قولك، قال اللّه تعالى {كتب ربّكم على نفسه الرّحمة} [الأنعام: 54]، وقال {ويحذّركم اللّه نفسه} [آل عمران: 28]، وقال {واصطنعتك لنفسي} [طه: 41]، وقال فيما حكاه عن عيسى
[الإبانة الكبرى: 6/171]
{تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} [المائدة: 116] . فقد علم من آمن باللّه واليوم الأخر أنّ كتاب اللّه حقٌّ، وما قاله فيه حقٌّ، وأنّ للّه نفسًا، وأنّ نفسه لا تموت، وأنّ قوله {كلّ نفسٍ ذائقة الموت} [آل عمران: 185] لا تدخل في هذا نفس اللّه. وكذلك يخرج كلامه من الكلام المخلوق، كما تخرج نفسه من الأنفس الّتي تموت، وقد فهم من آمن باللّه وعقل عن اللّه أنّ كلام اللّه، ونفس اللّه، وعمل اللّه، وقدرة اللّه، وعزّة اللّه، وسلطان اللّه، وعظمة اللّه، وحلم اللّه، وعفو اللّه، ورفق اللّه، وكلّ شيءٍ من صفات اللّه أعظم الأشياء، وأنّها كلّها غير مخلوقةٍ لأنّها صفات الخالق ومن الخالق، فليس يدخل في قوله {خالق كلّ شيءٍ} [الأنعام: 102]، لا كلامه، ولا عزّته، ولا قدرته، ولا سلطانه، ولا عظمته، ولا جوده، ولا كرمه، لأنّ اللّه تعالى لم يزل بقوله وعلمه وقدرته وسلطانه وجميع صفاته إلهًا واحدًا، وهذه صفاته قديمةٌ بقدمه، أزليّةٌ بأزليّته، دائمةٌ بدوامه، باقيةٌ ببقائه، لم يخل ربّنا من هذه الصّفات طرفة عينٍ، وإنّما أبطل الجهميّ صفاته يريد بذلك إبطاله. وذلك أنّ أصل الإيمان باللّه الّذي يجب على الخلق اعتقاده في إثبات الإيمان به ثلاثة أشياء:
[الإبانة الكبرى: 6/172]
أحدها: أن يعتقد العبد آنيّته ليكون بذلك مباينًا لمذهب أهل التّعطيل الّذين لا يثبتون صانعًا. الثّاني: أن يعتقد وحدانيّته، ليكون مباينًا بذلك مذاهب أهل الشّرك الّذين أقرّوا بالصّانع وأشركوا معه في العبادة غيره. والثّالث: أن يعتقده موصوفًا بالصّفات الّتي لا يجوز إلّا أن يكون موصوفًا بها من العلم والقدرة والحكمة وسائر ما وصف به نفسه في كتابه، إذ قد علمنا أنّ كثيرًا ممّن يقرّبه ويوحّده بالقول المطلق قد يلحد في صفاته، فيكون إلحاده في صفاته قادحًا في توحيده، ولأنّا نجد اللّه تعالى قد خاطب عباده بدعائهم إلى اعتقاد كلّ واحدةٍ في هذه الثّلاث والإيمان بها، فأمّا دعاؤه إيّاهم إلى الإقرار بآنيّته ووحدانيّته، فلسنا نذكر هذا هاهنا لطوله وسعة الكلام فيه، ولأنّ الجهميّ يدّعي لنفسه الإقرار بهما وإن كان جحده للصّفات قد أبطل دعواه لهما. وأمّا محاجّة اللّه لخلقه في معنى صفاته الّتي أمرهم أن يعرفوه بها،
[الإبانة الكبرى: 6/173]
فبالآيات الّتي اقتصّ فيها أمور بريّته في سماواته وأرضيه وما بينهما، وما أخرجها عليهم من حسن القوام وتمام النّظام، وختم كلّ آيةٍ منها بذكر علمه وحكمته وعزّته وقدرته، مثل قوله عزّ وجلّ {وآيةٌ لهم اللّيل نسلخ منه النّهار فإذا هم مظلمون والشّمس تجري لمستقرٍّ لها} [يس: 37] فإنّه لمّا ذكر التّدبير العجيب الّذي دبّر به أمرها أتبع ذلك بأن قال {ذلك تقدير العزيز العليم} [الأنعام: 96] . فإنّ هذا خرج في ظاهره مخرج الخبر، وهو في باطنه محاجّةٌ بليغةٌ لأنّ الّذي يعقل من تأويله أنّه لو لم تكن قدرته نافذةً لما جرت هذه الأشياء على ما وجدت عليه، ولو لم يكن علمه سابقًا لما خلقه قبل أن يخلقه، فلمّا خرج على هذا النّظام العجيب، إذ كان ممّا تدركه العقول أنّ المتعسّف في أفعاله لا يوجد لها قوامٌ ولا انتظامٌ، فهو عزّ وجلّ يستشهد لخلقه بآثار صنعته العجيبة، وإتقانه لما خلق، وإحكامه على سابق علمه ونافذ قدرته وبليغ حكمته وكذلك قال عزّ وجلّ {ما ترى في خلق الرّحمن من تفاوتٍ فارجع البصر هل ترى من فطورٍ} [الملك: 3] . لأنّه كما أنّ عين المصنوع أوجب صانعًا، كذلك ما ظهر في آثار الحكمة والقدرة في الصّنعة أوجب حكيمًا قادرًا، وفي دفع آلات الصّنعة من العلم والقدرة عليها حتّى لا يكون الصّانع
[الإبانة الكبرى: 6/174]
موصوفًا بها، جحدٌ للصّانع وإبطالٌ له، وإنّما أنكر الجهميّ صفات الباري تعالى أراد بذلك إبطاله، ألا ترى أنّ أصغر خلقه إن أبطلت صنعته بطل؟ فكيف العظيم الّذي ليس كمثله شيءٌ؟ ألا ترى أنّ النّخلة لها جذعٌ وكربٌ، وليفٌ، وجمّارٌ، ولبٌّ، وخوصٌ وهي تسمّى نخلةً، فإذا قال القائل: نخلةٌ علم السّامع أنّ النّخلة لا تكون إلّا بهذا الاسم نخلةٌ، فلو قال: نخلةٌ وجذعها وكربها وليفها وجمّارها ولبّها وخوصها وتمرها كان محالًا، لأنّه يقال: فالنّخلة ما هي إذا جعلت هذه الصّفات غيرها؟ أرأيت لو قال قائلٌ: إنّ لي نخلةً كريمةً آكل من تمرها غير أنّه ليس لها جذعٌ ولا كربٌ ولا ليفٌ ولا خوصٌ ولا لبٌّ وليس هي خفيفةً، وليس هي ثقيلةً، أيكون هذا صحيحًا في الكلام؟ أوليس إنّما جوابه أن يقال: إنّك لمّا قلت: نخلةٌ عرفناها بصفاتها، ثمّ نعت نعتًا نفيت به النّخلة. فأنت ممّن لا يثبت ما سمّى إن كان صادقًا، فلا نخلة لك. فإذا كانت النّخلة في بعد قدرها من العظيم الجليل تبطل إذا نفيت
[الإبانة الكبرى: 6/175]
صفاتها، فليس إنّما أراد الجهميّ إبطال الرّبوبيّة وجحودها فقد تبيّن في المخلوق أنّ اسمه جامعٌ لصفاته، وأنّ صفاته لا تباينه، وإنّما أراد الجهميّ يقول إنّ صفات اللّه مخلوقةٌ أن يقول: إنّ اللّه كان ولا قدرة، ولا علم، ولا عزّة، ولا كلام، ولا اسم حتّى خلق ذلك كلّه، فكان بعد ما خلقه. فإذا أبطل صفاته فقد أبطله، وإذا أبطله في حالٍ من الأحوال فقد أبطله في الأحوال كلّها، حتّى يقول: إنّ اللّه عزّ وجلّ لم يزل ولا يزال بصفاته كلّها إلهًا واحدًا قديمًا قبل كلّ شيءٍ، ويبقى بصفاته كلّها بعد فناء كلّ شيءٍ، ويقال للجهميّ فيما احتجّ به من قوله: {اللّه خالق كلّ شيءٍ} [الرعد: 16] أنّ قوله {كلّ شيءٍ} [الزمر: 62] يجمع كلّ شيءٍ، لأنّ الكلّ يجمع كلّ شيءٍ، أليس قد قال اللّه عزّ وجلّ {كلّ شيءٍ هالكٌ إلّا وجهه} [القصص: 88]، فهل يهلك ما كان من صفات اللّه؟ هل يهلك علم اللّه فيبقى بلا علمٍ؟ هل تهلك عزّته؟ تعالى ربّنا عن ذلك، أليس هذه من الأشياء الّتي لا تهلك وقد قال اللّه عزّ وجلّ {فلمّا نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كلّ شيءٍ حتّى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتةً فإذا هم مبلسون} [الأنعام: 44] فقد قال: {فتحنا عليهم أبواب كلّ شيءٍ} [الأنعام: 44]، فهل فتح عليهم أبواب التّوبة، وأبواب الرّحمة، وأبواب الطّاعة، وأبواب العافية، وأبواب السّعادة، وأبواب النّجاة ممّا نزل بهم؟ وهذه كلّها ممّا أغلق أبوابها عنهم، وهي شيءٌ، وقد قال {فتحنا عليهم أبواب كلّ شيءٍ} [الأنعام: 44]،
[الإبانة الكبرى: 6/176]
وقد قال أيضًا: في بلقيس {وأوتيت من كلّ شيءٍ} [النمل: 23]، ولم تؤت ملك سليمان ولم تسخّر لها الرّيح ولا الشّياطين، ولم يكن لها شيءٌ ممّا في ملك سليمان، فقد قال: {وأوتيت من كلّ شيءٍ} [النمل: 23]، وقال في قصص يوسف، {ما كان حديثًا يفترى ولكن تصديق الّذي بين يديه وتفصيل كلّ شيءٍ} [يوسف: 111]، وإنّما كان ذلك تفصيلًا لكلّ شيءٍ من قصّة يوسف، وقال: {وجعلنا من الماء كلّ شيءٍ حيٍّ} [الأنبياء: 30] ولم يخلق آدم من الماء وإنّما خلقه من ترابٍ، ولم يخلق إبليس من الماء قال {والجانّ خلقناه من قبل من نار السّموم} [الحجر: 27]، والملائكة خلقت من نورٍ. وقال في الرّيح الّتي أرسلت على قوم عادٍ {تدمّر كلّ شيءٍ بأمر ربّها} [الأحقاف: 25]، وقد أتت على أشياء لم تدمّرها، ألم تسمع إلى قوله {فأصبحوا لا ترى إلّا مساكنهم}، فلم تدمّر مساكنهم،
[الإبانة الكبرى: 6/177]
ولو أنصف الجهميّ الخبيث من نفسه واستمع كلام ربّه وسلّم لمولاه وأطاعه، لتبيّن له، ولكنّه من الّذين قال اللّه عزّ وجلّ {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًّا} [النمل: 14]، فالجهميّ الضّالّ وكلّ مبتدعٍ غالٍّ أعمى أصمّ قد حرّمت عليه البصيرة، فهو لا يسمع إلّا ما يهوى، ولا يبصر إلّا ما اشتهى. ألم يسمع قول اللّه عزّ وجلّ {إنّما قولنا لشيءٍ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل: 40] . فأخبر أنّ القول قبل الشّيء، لأنّ إرادته الشّيء يكون قبل أن يكون الشّيء، فأخبر أنّ إرادة الشّيء يكون قبل قوله، وقوله قبل الشّيء، إذا أراد شيئًا كان بقوله: وقال {إنّما أمره إذا أراد شيئًا} [يس: 82] . فالشّيء ليس هو أمره، ولكنّ الشّيء كان بأمره سبحانه {إذا قضى أمرًا فإنّما يقول له كن فيكون} [آل عمران: 47]، وقال تعالى: {قل أيّ شيءٍ أكبر شهادةً قل اللّه شهيدٌ بيني وبينكم} [الأنعام: 19] فأخبرنا أنّه شيءٌ، وهو تبارك اسمه وتعالى جدّه أكبر الأشياء ولا يدخل في
[الإبانة الكبرى: 6/178]
الأشياء المخلوقة، فإذا وضح للعقلاء كفر الجهميّ وإلحاده، ادّعى أمرًا ليفتن به عباد اللّه الضّعفاء من خلقه، فقال: أخبرونا عن القرآن، هل هو اللّه أو غير اللّه؟ فإن زعمتم أنّه اللّه، فأنتم تعبدون القرآن، وإن زعمتم أنّه غير اللّه، فما كان غير اللّه فهو مخلوقٌ، فيظنّ الجهميّ الخبيث أن قد فلجت حجّته وعلت بدعته، فإن لم يجبه العالم ظنّ أنّه قد نال بعض فتنته. فالجواب للجهميّ في ذلك أن يقال له: القرآن ليس هو اللّه، لأنّ القرآن كلام اللّه، وبذلك سمّاه اللّه قال {فأجره حتّى يسمع كلام اللّه} [التوبة: 6]، وبحسب العاقل العالم من العلم أن يسمّي الأشياء بأسمائها الّتي سمّاها اللّه بها، فمن سمّى القرآن بالاسم الّذي سمّاه اللّه به كان من المهتدين، ومن لم يرض باللّه ولا بما سمّاه به، كان من الضّالّين وعلى اللّه من الكاذبين.
[الإبانة الكبرى: 6/179]
قال اللّه عزّ وجلّ: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على اللّه إلّا الحقّ} [النساء: 171]، فهذا من الغلوّ ومن مسائل الزّنادقة، لأنّ القرآن كلام اللّه، فمن قال: إنّ القرآن هو اللّه، فقد جعل اللّه كلامًا وأبطل من تكلّم به، ولا يقال إنّ القرآن غير اللّه، كما لا يقال إنّ علم اللّه غير اللّه، ولا قدرة اللّه غير اللّه، ولا صفات اللّه غير اللّه، ولا عزّة اللّه غير اللّه، ولا سلطان اللّه غير اللّه، ولا وجود اللّه غير اللّه، ولكن يقال: كلام اللّه، وعزّة اللّه، وصفات اللّه، وأسماء اللّه وبحسب من زعم أنّه من المسلمين ولله من المطيعين وبكتاب اللّه من المصدّقين ولأمر اللّه من المتّبعين أن يسمّي القرآن بما سمّاه اللّه به، فيقول:
[الإبانة الكبرى: 6/180]
القرآن كلام اللّه كما قال تعالى: {يريدون أن يبدّلوا كلام اللّه} [الفتح: 15]، ولم يقل: يريدون أن يبدّلوا اللّه، ولم يقل: يريدون أن يبدّلوا غير اللّه، وقال {برسالاتي وبكلامي} [الأعراف: 144]، ولم يقل إنّ القرآن أنا هو ولا هو غيري، فالقرآن كلام اللّه فيه أسماؤه وصفاته، فمن قال هو اللّه، فقد قال إنّ ملك اللّه، وسلطان اللّه، وعزّة اللّه غير اللّه، ومن قال: إنّ سلطان اللّه وعزّة اللّه مخلوقٌ، فقد كفر لأنّ ملك اللّه لم يزل ولا يزول، ولا يقال: إنّ ملك اللّه هو اللّه، فلا يجوز أن يقول: يا ملك اللّه اغفر لنا، يا ملك اللّه ارحمنا، ولا يقال: إنّ ملك اللّه غير اللّه، فيقع عليه اسم المخلوق، فيبطل دوامه، ومن أبطل دوامه أبطل مالكه، ولكن يقال: ملك اللّه من صفات اللّه، قال اللّه تعالى {تبارك الّذي بيده الملك وهو على كلّ شيءٍ قديرٌ} [الملك: 1]، وكذلك عزّة اللّه تعالى، قال اللّه تعالى: {من كان يريد العزّة فللّه العزّة جميعًا} [فاطر: 10] يقول: من كان يريد أن يعلم لمن العزّة، فإنّ العزّة للّه جميعًا، فلا يجوز أن يقال: إنّ عزّة اللّه مخلوقةٌ، من قال ذلك، فقد كفر لأنّ اللّه لم تزل له العزّة، ولو كانت العزّة مخلوقةً لكان بلا عزّةٍ قبل أن يخلقها حتّى خلقها فعزّ بها، تعالى ربّنا وجلّ ثناؤه عمّا يصفه به الملحدون علوًّا كبيرًا. ولا يقال: إنّ عزّة اللّه هي اللّه، ولو جاز ذلك، لكانت رغبة الرّاغبين
[الإبانة الكبرى: 6/181]
ومسألة السّائلين أن يقولوا: يا عزّة اللّه عافينا، ويا عزّة اللّه أغنينا، ولا يقال: عزّة اللّه غير اللّه، ولكن يقال: عزّة اللّه صفة اللّه، لم يزل ولا يزال اللّه بصفاته واحدًا، وكذلك علم اللّه، وحكمة اللّه، وقدرة اللّه وجميع صفات اللّه تعالى، وكذلك كلام اللّه عزّ وجلّ، فتفهّموا حكم اللّه، فإنّ اللّه لم يزل بصفاته العليا وأسمائه الحسنى عزيزًا، قديرًا، عليمًا، حكيمًا، ملكًا، متكلّمًا، قويًّا، جبّارًا، لم يخلق علمه ولا عزّه، ولا جبروته، ولا ملكه، ولا قوّته، ولا قدرته، وإنّما هذه صفات المخلوقين. والجهميّ الخبيث ينفي الصّفات عن اللّه، ويزعم أنّه يريد بذلك أن ينفي عن اللّه التّشبيه بخلقه، والجهميّ الّذي يشبّه اللّه بخلقه لأنّه يزعم أنّ اللّه عزّ وجلّ كان ولا علم، وكان ولا قدرة، وكان ولا عزّة، وكان ولا سلطان، وكان ولا اسم حتّى خلق لنفسه اسمًا، وهذه كلها صفات المخلوقين، تعالى اللّه عن ذلك علوًّا كبيرًا، لأنّ المخلوقين من بني آدم، كان ولا علم، خلقه اللّه جاهلًا ثمّ علّمه، قال اللّه عزّ وجلّ: {واللّه أخرجكم من بطون أمّهاتكم لا تعلمون شيئًا} [النحل: 78]، وكان ولا كلام حتّى يطلق اللّه لسانه، وكان ولا قوّة ولا عزّة، ولا سلطان حتّى يقوّيه اللّه ويعزّه ويسلّطه، وهذه كلّها صفات المخلوقين
[الإبانة الكبرى: 6/182]
وكلّ من حدثت صفاته، فمحدثٌ ذاته، ومن حدث ذاته وصفته، فإلى فناءٍ حياته، وتعالى اللّه عن ذلك علوًّا كبيرًا، ثمّ إنّ الجهميّ إذا بطلت حجّته فيما ادّعاه، ادّعى أمرًا آخر فقال: أنا أجد في الكتاب آيةً تدلّ على أنّ القرآن مخلوقٌ، فقيل له: أيّة آيةٍ هي؟ قال: قول اللّه عزّ وجلّ {ما يأتيهم من ذكرٍ من ربّهم محدثٍ} [الأنبياء: 2] أفلا ترون أنّ كلّ محدثٍ مخلوقٌ؟ فوهم على الضّعفاء والأحداث وأهل الغباوة وموّه عليهم، فيقال له: إنّ الّذي لم يزل به عالمًا لا يكون محدثًا، فعلمه أزليٌّ كما أنّه هو أزليٌّ، وفعله مضمرٌ في علمه، وإنّما يكون محدثًا ما لم يكن به عالمًا حتّى علمه، فيقول: إنّ اللّه عزّ وجلّ لم يزل عالمًا بجميع ما في القرآن قبل أن ينزل القرآن وقبل أن يأتي به جبريل وينزل به على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، وقد قال: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} [البقرة: 30] قبل أن يخلق آدم
[الإبانة الكبرى: 6/183]
وقال {إلّا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} [البقرة: 34] . يقول: كان إبليس في علم اللّه كافرًا قبل أن يخلقه، ثمّ أوحى بما قد كان علّمه من جميع الأشياء، وقد أخبرنا عزّ وجلّ عن القرآن، فقال {إن هو إلّا وحيٌ يوحى} [النجم: 4] فنفى عنه أن يكون غير الوحي، وإنّما معنى قوله {ما يأتيهم من ذكرٍ من ربّهم محدثٍ} [الأنبياء: 2]، أراد: محدثًا علمه، وخبره، وزجره، وموعظته عند محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، وإنّما أراد: أنّ علمك يا محمّد ومعرفتك محدثٌ بما أوحي إليك من القرآن، وإنّما أراد: أنّ نزول القرآن عليك يحدث لك ولمن سمعه علمًا وذكرًا لم تكونوا تعلمونه، ألم تسمع إلى قوله {وعلّمك ما لم تكن تعلم} [النساء: 113] . وقال تعالى {وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} [الشورى: 52] . وقال: {وكذلك أنزلناه قرآنًا عربيًّا وصرّفنا فيه من الوعيد لعلّهم يتّقون أو يحدث لهم ذكرًا} [طه: 113]، فأخبر أنّ الذّكر المحدث هو ما يحدث من سامعيه وممّن علمه وأنزل عليه، لا أنّ القرآن محدثٌ عند اللّه، ولا أنّ اللّه كان ولا قرآن، لأنّ القرآن
[الإبانة الكبرى: 6/184]
إنّما هو من علم اللّه، فمن زعم أنّ القرآن هو بعد، فقد زعم أنّ اللّه كان ولا علم ولا معرفة عنده بشيءٍ ممّا في القرآن، ولا اسم له، ولا عزّة له، ولا صفة له حتّى أحدث القرآن. ولا نقول: إنّه فعل اللّه، ولا يقال: كان اللّه قبله، ولكن نقول: إنّ اللّه لم يزل عالمًا لا متى علم ولا كيف علم، وإنّما وهّمت الجهميّة النّاس ولبّست عليهم بأن يقول: أليس اللّه الأوّل قبل كلّ شيءٍ، وكان ولا شيء، وإنّما المعنى في: كان اللّه قبل كلّ شيءٍ قبل السّماوات وقبل الأرضين وقبل كلّ شيءٍ مخلوقٍ، فأمّا أن نقول: قبل علمه، وقبل قدرته، وقبل حكمته، وقبل عظمته، وقبل كبريائه، وقبل جلاله، وقبل نوره، فهذا كلام الزّنادقة وقوله {ما يأتيهم من ذكرٍ من ربّهم محدثٍ} [الأنبياء: 2]، فإنّما هو ما يحدثه اللّه عند نبيّه، وعند أصحابه، والمؤمنين من عباده، وما يحدثه عندهم من العلم، وما لم يسمعوه، ولم يأتهم به كتابٌ قبله، ولا جاءهم به رسولٌ. ألم تسمع إلى قوله عزّ وجلّ {ووجدك ضالًّا فهدى} [الضحى: 7]، وإلى قوله فيما يحدث القرآن في قلوب المؤمنين إذا سمعوه {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع ممّا عرفوا من الحقّ} [المائدة: 83] فأعلمنا أنّ القرآن يحدث نزوله لنا علمًا وذكرا وخوفًا، فعلم نزوله محدثٌ عندنا وغير محدثٍ عند ربّنا عزّ وجلّ. ثمّ إنّ الجهميّ حين بطلت دعواه وظهرت زندقته فيما احتجّ به، ادّعى أمرًا آخر ووهم ولبّس على أهل دعوته، فقال: أتزعمون أنّ اللّه لم يزل والقرآن؟ فإن
[الإبانة الكبرى: 6/185]
زعمتم أنّ اللّه لم يزل والقرآن، فقد زعمتم أنّ اللّه لم يزل ومعه شيءٌ، فيقال له: إنّا لا نقول كما تقول ولا نقول: إنّ اللّه لم يزل، والقرآن لم يزل، والكلام لم يزل والعلم، ولم يزل والقوّة، ولم يزل والقدرة، ولكنّا نقول كما قال {وكان اللّه قويًّا عزيزًا} [الأحزاب: 25]، وكما قال {ذلك تقدير العزيز العليم} [الأنعام: 96]، فنقول: إنّ اللّه لم يزل بقوّته، وعظمته، وعزّته، وعلمه، وجوده، وكرمه، وكبريائه، وعظمته، وسلطانه، متكلّمًا عالمًا، قويًّا، عزيزًا، قديرًا، ملكًا، ليست هذه الصّفات ولا شيء منها ببائنةٍ منه، ولا منفصلةٍ عنه، ولا تجزّأ ولا تتبعّض منه، ولكنّها منه وهي صفاته، فكذلك القرآن كلام اللّه، وكلام اللّه منه، وبيان ذلك في كتابه: قال اللّه عزّ وجلّ {سلّامٌ قولًا من ربٍّ رحيمٍ} [يس: 58] . وقال: {ولكن حقّ القول منّي} [السجدة: 13]، وقال: {فحقّ علينا قول ربّنا} [الصافات: 31]، وقد أخبرنا اللّه أنّ الأشياء إنّما تكون بكلامه، فقال {فلمّا عتوا عمّا نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردةً خاسئين} .
[الإبانة الكبرى: 6/186]
وقال {قلنا لا تخف} [طه: 68]، وقال: {قلنا يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم} [الأنبياء: 69]، فبقول اللّه عزّ وجلّ صار أولئك قردةً، وبقوله أمن موسى، وبقوله صارت النّار بردًا وسلامًا، ثمّ إنّ الجهميّ الملعون غالط من لا يعلم بشيءٍ آخر، فقال: قوله عزّ وجلّ {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ منها أو مثلها} [البقرة: 106]، فقال: كلّ ما أتى اللّه عزّ وجلّ بخيرٍ منه أو مثله، فهو مخلوقٌ، فكان هذا إنّما غالط به الجهميّ من لا يعلم، وإنّما أراد اللّه عزّ وجلّ بقوله {نأت بخيرٍ منها} [البقرة: 106] يريد بخيرٍ لكم، وأسهل عليكم في العمل وأنفع لكم في الفعل، ألا ترى أنّه كان ينزّل على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم الأمر الّذي فيه الشّدّة ثمّ ينسخه بالسّهولة والتّخفيف؟ من ذلك أنّ قيام اللّيل والصّلاة كانت مفروضةً فيه على أجزاء معلومةٍ وأوقاتٍ من اللّيل في أجزائه مقسومةٍ، فعلم اللّه عزّ وجلّ ما على العباد في ذلك من الشّدّة والمشقّة وقصور عملهم عن إحصاء ساعات اللّيل وأجزائه، فنسخها بصلاة النّهار وأوقاته. فقال عزّ وجلّ {إنّ ربّك يعلم أنّك تقوم أدنى من ثلثي اللّيل ونصفه وثلثه وطائفةٌ من الّذين معك واللّه يقدّر اللّيل والنّهار علم أن لن تحصوه فتاب
[الإبانة الكبرى: 6/187]
عليكم} [المزمل: 20] يقول: علم أن لن تطيقوه، فنسخ ذلك، فقال {وأقم الصّلاة طرفي النّهار وزلفًا من اللّيل} [هود: 114]، و {أقم الصّلاة لدلوك الشّمس} [الإسراء: 78] ومن ذلك أنّ الصّيام كان مفروضًا باللّيل والنّهار، وأنّ الرّجل كان إذا أفطر ونام ثمّ انتبه لم يحلّ له أن يطعم إلى العشاء من القابلة فنسخ ذلك بقوله {أحلّ لكم ليلة الصّيام الرّفث إلى نسائكم. . .} [البقرة: 187] إلى قوله {فتاب عليكم وعفا عنكم. . .} [البقرة: 187] إلى قوله {وكلوا واشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} [البقرة: 187] . ومثل قوله {يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه حقّ تقاته} [آل عمران: 102]، وكان هذا أمرًا لا يبلغه وسع العباد، فنسخ ذلك بقوله {فاتّقوا اللّه ما استطعتم} [التغابن: 16]، فهذا ونحوه كثيرٌ، تركنا ذكره لئلّا يطول الكتاب به، أراد اللّه عزّ وجلّ بنزول النّاسخ رفع المنسوخ، وليكون في ذلك خيرةٌ للمؤمنين وتخفيفًا عنهم، لا أنّه يأتي بقرآنٍ خيرٍ من القرآن الأوّل، وإنّما أراد خيرًا لنا وأسهل علينا. ألم تسمع إلى قوله {علم اللّه أنّكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم
[الإبانة الكبرى: 6/188]
وعفا عنكم} [البقرة: 187]، {علم أن لن تحصوه فتاب عليكم} [المزمل: 20]، {يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185] . فهذا وشبهه في القرآن كثيرٌ، لا أنّ في القرآن شيئًا خيرًا من شيءٍ، ولو جاز ذلك، لجاز أن يقال: سورة كذا خيرٌ من سورة كذا، وسورة كذا شرٌّ من سورة كذا، وممّا يغالط به الجهميّ من لا يعلم قول اللّه تعالى {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} [فصلت: 42] فقالوا: كلّ شيءٍ له بين يدين وخلفٌ، فهو مخلوقٌ، فيقال له: إنّ القرآن ليس شخصًا فيكون له خلفٌ وقدّام، وإنّما أراد تعالى لا يأتيه التّكذيب من بين يديه فيما نزل قبله من التّوراة والإنجيل والكتب الّتي تقدّمت قبله. {ولا من خلفه} [فصلت: 42]، يقول: ولا يأتي بعده بكتابٍ يبطله ولا يكذّبه، كما أخبرنا أنّه أيضًا مصدّقٌ لما كان قبله من الكتب، فقال {وهذا كتابٌ أنزلناه مباركٌ مصدّق الّذي بين يديه ولتنذر أمّ القرى ومن حولها} [الأنعام: 92] . يقال لما كان قبل الشّيء وأمامه بين يديه، وما كان بعده خلفه، وبيان ذلك في كتاب اللّه: قال اللّه تعالى {يا أيّها الّذين آمنوا إذا ناجيتم الرّسول فقدّموا بين يدي نجواكم صدقةً} [المجادلة: 12]،
[الإبانة الكبرى: 6/189]
لا يريد أنّ للصّدقة بين يدينٍ وخلفًا، وإنّما أراد قبل نجواكم صدقةً، وقال: {وهو الّذي يرسل الرّياح بشرًا بين يدي رحمته} [الأعراف: 57] يريد أن يرسل الرّياح قبل المطر. وقال {إن هو إلّا نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديدٍ} [سبأ: 46]، يقول: نذيرٌ قبل العذاب. وكذلك معناه في {لا يأتيه الباطل من بين يديه} [فصلت: 42]، أراد قبله ولا من بعده، ولو كان معنى: من بين يديه ومن خلفه معنى المخلوق، لكان شخصًا له قدّام وخلفٌ وظهرٌ وبطنٌ ويدان ورجلان ورأسٌ ولا يمكن ذلك في القرآن، ثمّ إنّ الجهميّ ادّعى أمرًا آخر فقال: إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول {وما خلقنا السّموات والأرض وما بينهما لاعبين}، فزعم أنّ القرآن لا يخلو أن يكون في السّموات أو في الأرض أو فيما بينهما، فيقال له: إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول {وما خلقنا السّموات والأرض وما بينهما إلّا بالحقّ}، فالحقّ الّذي خلق به السّموات والأرض وما بينهما هو قوله وكلامه، لأنّه هو الحقّ وقوله الحقّ، {قال فالحقّ والحقّ أقول} [ص: 84]
[الإبانة الكبرى: 6/190]
وقال: {ويوم يقول كن فيكون قوله الحقّ وله الملك} [الأنعام: 73]، فأخبر بأنّ الخلق كلّه كان بالحقّ، والحقّ قوله وكلامه، وقال: {خلق السّماوات والأرض بالحقّ} [المائدة: 73]، وقال: {ما خلق اللّه ذلك إلّا بالحقّ} [يونس: 5]، يعني قوله وكلامه، فقوله وكلامه قبل السّماوات والأرض وما بينهما، فتفهّموا رحمكم اللّه، ولا يستفزّنّكم الجهميّ الخبيث بتغاليطه وتمويهه وتشكيكه ليزيلكم عن دينكم، فإنّ الجهميّ لا يألوا جهدًا في تكفير النّاس وتضليلهم عصمنا اللّه وإيّاكم من فتنته برحمته ويقال للجهميّ: أخبرنا: من أخبرنا أنّه خلق السّماوات والأرض وما بينهما؟ فإذا قال: اللّه، فيقال له: فجعلت خبر اللّه عن الخلق خلقًا؟ فيقول: نعم، ويقول: إنّ الخبر عين المخبر، فيقال له: فالخبر مخلوقٌ؟ فيقول: نعم ويقول: الخبر غير اللّه، فيقال له: أليس قد تفرّد اللّه بعلم الغيب دون خلقه؟ فيقول: نعم، فيقال له: فالخبر الّذي زعمت أنّه مخلوقٌ وأنّه غير اللّه من قال له: أخبر الخلق أنّ اللّه خلق السّماوات، أليس اللّه قال له ذلك؟ فإن قال: نعم، فقد أقرّ أنّ اللّه أخبر خلقًا دون خلقٍ، فما يمنعك أن نكون نحن ذلك الخلق الّذين أخبرهم أنّه هو خلق الخلق؟ وإن قال: إنّ اللّه لم يخبر ذلك الخلق ولم يأمره أن يعلم الخلق بذلك، قيل له: فقد أقررت أنّه ليس أحدٌ يعلم الغيب إلّا اللّه، وزعمت أنّ هذا الخبر هو غير اللّه، فمن أين علم هذا الخبر وهو مخلوقٌ أنّ اللّه خلق السّماوات
[الإبانة الكبرى: 6/191]
والأرض؟ وكيف جاز أن يقول على اللّه ما لم يعلم ولم يأمره به؟ فعند ذلك يوضح كفر الجهميّ وكذبه على اللّه وقبيح ضلاله، ثمّ إنّ الجهميّة كذّبت الآثار وجحدت الأخبار، وطعنت على الرّواة، واتّهموا أهل
[الإبانة الكبرى: 6/192]
العدالة والأمانة، وانتصحوا أهواءهم وآراءهم، واتّخذوا أهواءهم آلهةً معبودةً وأربابًا مطاعةً. فإذا وجدوا حديثًا قد وهم المحدّث في روايته وكان في ألفاظ متنه بعض التّلبيس والتّوهّم، انتحلوه دينًا، وجعلوه أصلًا، ووثّقوا روايته وإن لم يعرفوه، وصحّحوه وإن كانوا لا يثبتونه، فمن ذلك أنّهم احتجّوا بحديثٍ
[الإبانة الكبرى: 6/193]
425 - رواه محمّد بن عبيدٍ، عن الأعمش، عن جامع بن شدّادٍ، عن صفوان بن محرزٍ، عن عمران بن الحصين قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «كان اللّه قبل أن يخلق الذّكر، ثمّ خلق الذّكر، فكتب فيه كلّ شيءٍ» فقالت الجهميّة: إنّ القرآن هو الذّكر، واللّه خلق الذّكر، فأمّا ما احتجّوا به من هذا الحديث فإنّ أهل العلم وحفّاظ الحديث ذكروا أنّ هذا الحديث وهم فيه محمّد بن عبيدٍ وخالف فيه أصحاب الأعمش وكلّ من رواه عنه، وبذلك احتجّ أحمد بن حنبلٍ رحمه اللّه، فقال: رواه بعده جملةٌ من
[الإبانة الكبرى: 6/193]
الثّقات، فلم يقولوا: خلق الذّكر، ولكن قالوا: كتب في الذّكر، والذّكر هاهنا غير القرآن، ولكنّ قلوب الجهميّة في أكنّةٍ، وعلى أبصارهم غشاوةٌ، فلا يعرفون من الكتاب إلّا ما تشابه، ولا يقبلون من الحديث إلّا ما ضعف وأشكل، والذّكر هاهنا هو اللّوح المحفوظ، الّذي فيه ذكر كلّ شيءٍ، ألا ترى أنّ في لفظ الحديث الّذي احتجّوا به قال: فكتب فيه كلّ شيءٍ أفتراه كتب في كلامه كلّ شيءٍ وقد بيّن اللّه ذلك من كتابه، وذلك أنّ الذّكر في كتاب اللّه على لفظٍ واحدٍ بمعانٍ مختلفةٍ، فقال {ص والقرآن ذي الذّكر} [ص: 1]، يعني: ذا الشّرف، وقال {لقد أنزلنا إليكم كتابًا فيه ذكركم} [الأنبياء: 10]، يعني: شرفكم. وقال: {بل أتيناهم بذكرهم} [المؤمنون: 71]، يعني: بخبرهم. {وإنّه لذكرٌ لك ولقومك} [الزخرف: 44]، يقول: وإنّه لشرفٌ لك ولقومك. وقال {إذا نودي للصّلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اللّه} [الجمعة: 9] يعني: الصّلاة. وقال: {ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذّكر} [الأنبياء: 105] يعني: في اللّوح
[الإبانة الكبرى: 6/194]
المحفوظ، لا يجوز أن يكون الذّكر هاهنا القرآن، لأنّه قال {في الزّبور من بعد الذّكر} [الأنبياء: 105]، والزّبور قبل القرآن، والذّكر أيضًا هو القرآن في غير هذه الآيات كما أعلمتك، إلّا أنّ الحرف يأتي بلفظٍ واحدٍ، ومعناه شتّى والجهميّ يقصد لمّا كانت هذه سبيله، فيتأوّله على المعنى الّذي يوافق هواه، ولا يجعل له وجهًا غيره، واللّه يكذّبه ويردّ عليه هواه. وممّا وضح به كفر الجهميّ ما ردّه على اللّه وجحده من كتابه، فزعم أنّ اللّه لم يقل شيئًا قطّ ولا يقول شيئًا أبدًا، فيقال له: فأخبرنا عن كلّ شيءٍ في القرآن: قال اللّه وقلنا، ويوم نقول، فقال: إنّما هذا كلّه كما يقول النّاس: قال الحائط فسقط، وقالت النّخلة فمالت، وقالت النّعل فانقطعت، وقالت القدم فزلّت، وقالت السّماء فهطلت، والنّخلة والحائط والسّماء لم يقولوا من ذلك شيئًا قطّ، فردّ الجهميّ كتاب اللّه الّذي أخبر أنّه عربيٌّ مبينٌ، وقال: {وما أرسلنا من رسولٍ إلّا بلسان قومه} [إبراهيم: 4]، ولسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لسانٌ قرشيٌّ، وهم أوضح
[الإبانة الكبرى: 6/195]
العرب بيانًا وأفصحها لسانًا، وهذا لم ينزل به القرآن ولم يتكلّم به فصحاء العرب، فحكموا على اللّه بما جرى على ألسنة عوامّ النّاس، وشبّهوا اللّه تعالى بالحائط والنّخلة والنّعل والقدم. ويقال له: أرأيت من قال: سقط الحائط، وهطلت السّماء، وزلّت القدم، ونبتت الأرض، ولم يقل: قال الحائط، ولا قالت السّماء وأسقط قال وقالت في هذه الأشياء، أيكون كاذبًا في قوله؟ أم يكون تاركًا للحقّ في خطابه؟ فإذا قال: ليس بتاركٍ للحقّ، قيل له: فما تقول في رجلٍ عمد إلى كلّ قال في القرآن ممّا حكاه اللّه عن نفسه أنّه قال فمحاه، هل يكون تاركًا للحقّ أم لا؟ فعندها يبين كفر الجهميّ وكذبه. وممّا يغالط به الجهميّ جهّال النّاس والّذين لا يعلمون، أن يقول: خبّرونا عن قول اللّه عزّ وجلّ {إنّما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون} [يس: 82] فيقول: خبّرونا عن هذا الشّيء، أموجودٌ هو أم غير موجودٍ؟ فيقال له: إنّ معنى قوله {إذا أراد شيئًا} [يس: 82] هو في علمه كائنٌ بتكوينه إيّاه، قال لذلك الّذي قد علم أنّه كائنٌ مخلوقٌ: كن كما أنت في علمي، فيكون كما علم وشاء، لأنّه كان معلومًا غير مخلوقٍ، فصار معلومًا مخلوقًا كما قال وشاء وعلم. ويقال للجهميّ: ألست مقرًّا بأنّ اللّه تعالى إذا أراد شيئًا قال له: كن فكان. فيقول: لا أقول، إنّه يقول فيردّ كتاب اللّه، ويكفر به ويقول: لا، ولكنّه
[الإبانة الكبرى: 6/196]
إذا أراد شيئًا كان، فيقال له: يريد أن تقوم القيامة، أن يموت النّاس كلّهم، وأن يبعثوا كلّهم، فيكون ذلك بإرادته قبل أن يقال فيكون. وقال الجهميّ: إنّ اللّه لم يتكلّم قطّ، ولا يتكلّم أبدًا. وقيل له: من يحاسب الخلق يوم القيامة؟ ومن القائل {فلنقصّنّ عليهم بعلمٍ وما كنّا غائبين} [الأعراف: 7] ومن القائل {فلنسألنّ الّذين أرسل إليهم ولنسألنّ المرسلين} [الأعراف: 6]، ومن القائل {فوربّك لنسألنّهم أجمعين عمّا كانوا يعملون} [الحجر: 93]، ومن القائل {يا موسى إنّي اصطفيتك على النّاس برسالاتي وبكلامي} [الأعراف: 144] ؟ . ومن القائل {إنّني أنا اللّه لا إله إلّا أنا فاعبدني} [طه: 14] ؟ ومن القائل {إنّي أنا اللّه العزيز الحكيم}، ومن القائل {أأنت قلت للنّاس اتّخذوني وأمّي إلهين من دون اللّه} [المائدة: 116] ؟
[الإبانة الكبرى: 6/197]
في أشباهٍ لهذا تكثر على الإحصاء من مخاطبة اللّه عزّ وجلّ، فيقول الجهميّ: إنّ اللّه عزّ وجلّ يخلق يوم القيامة لكلّ إنسانٍ حسابًا، فقيل للجهميّ. هذا الخلق هو غير اللّه؟ فقال: نعم. قيل له: فيقول اللّه لهذا الخلق: أخبر النّاس بأعمالهم؟ فقال: لا يقول له، إن قلت إنّه يقول، فقد تكلّم، فقلنا: من أين يعلم هذا الخلق ما قد أحصاه اللّه من أعمال بني آدم والغيب لا يعلمه إلّا اللّه؟ فعند ذلك يتبيّن كفر الجهميّ. ثمّ إنّ الجهميّ ادّعى أمرًا آخر ابتغاء الفتنة، فقال: إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول {إنّما المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم} [النساء: 171] فعيسى كلمة اللّه وعيسى مخلوقٌ. فقيل للجهميّ: جهلك بكتاب اللّه وقبيح تأويلك قد صار بك إلى صنوف الكفر، وجعلك تتقلّب في فنون الإلحاد، فكيف ساغ لك أن تقيس عيسى بالقرآن؟ وعيسى قد جرت عليه ألفاظٌ وتقلّبت به أحوالٌ لا يشبه شيءٌ منها أحوال القرآن. منها: أنّ عيسى حملته أمّه ووضعته وأرضعته، فكان وليدًا، ورضيعًا، وفطيمًا، وصبيًّا، وناشئًا وكهلًا وحيًّا ناطقًا، وماشيًا وذاهبًا، وجائيًا وقائمًا، وقاعدًا، ويصوم ويصلّي، وينام ويستيقظ، ويأكل الطّعام ويشرب، ويكون منه ما يكون من الحيوان إذا أكل وشرب.
[الإبانة الكبرى: 6/198]
وبذلك أخبرنا اللّه تعالى عنه تكذيبًا للنّصارى حين قالوا فيه القول الّذي يضاهي قولك أيّها الجهميّ، فقال {ما المسيح ابن مريم إلّا رسولٌ قد خلت من قبله الرّسل وأمّه صدّيقةٌ كانا يأكلان الطّعام} [المائدة: 75]، فكنّى بالطّعام عن خروج الحدث، وهو مع هذا مخاطبٌ بالتّعبّد وبالسّؤال والوعد والوعيد، ومحاسبٌ يوم القيامة، وأخبرنا أنّه حيٌّ وميّتٌ ومبعوثٌ، فهل سمعت اللّه عزّ وجلّ وصف القرآن بشيءٍ ممّا وصف عيسى؟ فأمّا قوله عزّ وجلّ {إنّما المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم} [النساء: 171]، فالكلمة الّتي ألقاها إلى مريم قوله {كن} [البقرة: 117]، فكان عيسى بقوله {كن} [البقرة: 117]، وكذا قال عزّ وجلّ {إنّ مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من ترابٍ ثمّ قال له كن فيكون} [آل عمران: 59]، ثمّ أتبع ذلك بما يزيل عنه وهم المتوهّم، فقال: {الحقّ من ربّك فلا تكوننّ من الممترين} [البقرة: 147]، فكلمة اللّه قوله: {كن} [البقرة: 117] والمكوّن عيسى عليه السّلام، والجهميّ حريصٌ على إبطال صفات ربّه لإبطال آنيّته وممّا يدّعيه الجهميّ أنّه حجّةٌ له في خلق القرآن قوله {ولئن شئنا لنذهبنّ بالّذي أوحينا إليك} [الإسراء: 86] .
[الإبانة الكبرى: 6/199]
فقال الجهميّ: فهل يذهب إلّا مخلوقٌ؟ وكما قال {فإمّا نذهبنّ بك} [الزخرف: 41]، فالقرآن يذهب كما ذهب صلّى اللّه عليه وسلّم، فأفحش الجهميّ في التّأويل وأتى بأنجس الأقاويل، لأنّ قول اللّه {ولئن شئنا لنذهبنّ بالّذي أوحينا إليك} [الإسراء: 86] لم يرد أنّ القرآن يموت كما تموت، إنّما يريد: ولئن شئنا لنذهبنّ بحفظه عن قلبك وتلاوته عن لسانك أما سمعت ما وعد به من حفظه للقرآن حين يقول {سنقرئك فلا تنسى إلّا ما شاء اللّه}، فلو أذهب اللّه القرآن من القلوب، لكان موجودًا محفوظًا عند من استحفظه إيّاه، ولئن ذهب القرآن في جميع الخلق وأمات اللّه كلّ قارئٍ له، فإنّ القرآن موجودٌ محفوظٌ عند اللّه وفي علمه، وفي اللّوح المحفوظ، أما سمعت قول اللّه عزّ وجلّ {إنّا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون} [الحجر: 9]، وقوله عزّ وجلّ {بل هو قرآنٌ مجيدٌ في لوحٍ محفوظٍ} [البروج: 21] . وممّا احتجّ به الجهميّ في خلق القرآن أن قال: أليس القرآن خيرًا؟ فإذا قيل له بلى قال: أفتقولون أنّ من الخير ما لم يخلقه اللّه؟ فيتوهّم بجهله أنّ له في هذه حجّةً ولا حجّة فيه لأجل أنّ كلام اللّه خيرٌ، وعلم اللّه خيرٌ، وقدرة اللّه خيرٌ، وليس كلام اللّه ولا قدرته مخلوقين لأنّ اللّه لم يزل متكلّمًا، فكيف يخلق كلامه؟ ولو كان
[الإبانة الكبرى: 6/200]
اللّه خلق كلامه لخلق علمه وقدرته، فمن زعم ذلك، فقد زعم أنّ اللّه كان ولا يتكلّم، وكان ولا يعلم، فقالت الجهميّة على اللّه ما لم يعلمه اللّه ولا ملائكته ولا أنبياؤه، ولا أولياؤه، فخالفهم كلّهم. قال اللّه عزّ وجلّ {وإذ قال ربّك للملائكة} [البقرة: 30]، {وإذ قلنا للملائكة} [البقرة: 34]، {وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} [البقرة: 30] ومثل هذا في القرآن كثيرٌ. وقول الملائكة {حتّى إذا فزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربّكم قالوا الحقّ} [سبأ: 23]، ولم يقولوا: ماذا خلق ربّك قالوا الحقّ. وقال جبريل {قال كذلك قال ربّك هو عليّ هيّنٌ} [مريم: 9] وقول اللّه تعالى حين سألت بنو إسرائيل موسى عن أمر البقرة حين {قالوا ادع لنا ربّك} [البقرة: 68]، فقال موسى عليه السّلام: إنّه يقول في غير موضعٍ. وقال أولياء اللّه {سلامٌ قولًا من ربٍّ رحيمٍ} [يس: 58] .
[الإبانة الكبرى: 6/201]
وقال أعداء اللّه في النّار {فحقّ علينا قول ربّنا} [الصافات: 31]، فسمّى اللّه قوله قولًا ولم يسمّه خلقًا، وسمّت الملائكة قول اللّه قولًا ولم تسمّه خلقًا، وسمّت الأنبياء قول اللّه قولًا ولم تسمّه خلقًا، وسمّى أهل الجنّة قول اللّه قولًا ولم يسمّوه خلقًا، وسمّى أهل النّار قول اللّه قولًا ولم يسمّوه خلقًا، وسمّت الجهميّة قول اللّه خلقًا ولم تسمّه قولًا خلافًا على اللّه وعلى ملائكته وعلى أنبيائه وعلى أوليائه. ثمّ إنّ الجهميّة لجأت إلى المغالطة في أحاديث تأوّلوها موّهوا بها على من لا يعرف الحديث، مثل الحديث الّذي روي: " يجيء القرآن يوم القيامة في صورة الرّجل الشّاحب فيقول له القرآن: أنا الّذي أظمأت نهارك وأسهرت ليلك فيأتي اللّه فيقول: أي ربّ تلاني ووعاني وعمل بي "
[الإبانة الكبرى: 6/202]
والحديث الآخر: «تجيء البقرة وآل عمران كأنّهما غمامتان»، فأخطأ في تأويله، وإنّما عنى في هذه الأحاديث في قوله: يجيء القرآن وتجيء البقرة وتجيء الصّلاة ويجيء الصّيام، يجيء ثواب ذلك كلّه، وكلّ هذا مبيّنٌ في الكتاب والسّنّة. قال اللّه عزّ وجلّ {فمن يعمل مثقال ذرّةٍ خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرّةٍ شرًّا يره} [الزلزلة: 7]، فظاهر اللّفظ من هذا أنّه يرى الخير والشّرّ، ليس يرى الخير
[الإبانة الكبرى: 6/203]
والشّرّ وإنّما ثوابهما والجزاء عليهما من الثّواب والعقاب. كما قال عزّ وجلّ {يوم تجد كلّ نفسٍ ما عملت من خيرٍ محضرًا وما عملت من سوءٍ تودّ لو أنّ بينها وبينه أمدًا بعيدًا} [آل عمران: 30]، وليس يعني أنّها تلك الأعمال الّتي عملتها بهيئتها وكما عملتها من الشّرّ، وإنّما تجد الجزاء على ذلك من الثّواب والعقاب. كما قال تعالى: {من يعمل سوءًا يجز به} [النساء: 123]، فيجوز في الكلام أن يقال: يجيء القرآن، تجيء الصّلاة، وتجيء الزّكاة، يجيء الصّبر، يجيء الشّكر، وإنّما يجيء ثواب ذلك كلّه يجزى من عمل السّيّء بالسّوء، ألا ترى إلى قوله تعالى {ومن يعمل مثقال ذرّةٍ شرًّا يره} [الزلزلة: 8]، أفترى يرى السّرقة والزّنا وشرب الخمر وسائر أعمال المعاصي إنّما يرى العقاب والعذاب عليهما، وبيان هذا وأمثاله في القرآن كثيرٌ وأمّا ما جاءت به السّنّة فقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «ظلّ المؤمن صدقته»، فلا شيء أبين من هذا، وقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «كلّ معروفٍ صدقةٌ»، فإرشادك الضّالّة صدقةٌ، وتحيّتك لأخيك بالسّلام صدقةٌ، وأن تلقى أخاك بوجهٍ منبسطٍ صدقةٌ،
[الإبانة الكبرى: 6/204]
وأمرك بالمعروف صدقةٌ، ونهيك عن المنكر صدقةٌ، ومباضعتك لأهلك صدقةٌ، فكيف يكون الإنسان يوم القيامة في ظلّ مباضعته لأهله؟ إنّما عنى بذلك كلّه ثواب صدقته، أليس قد قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «من أحبّ أن يظلّه اللّه تعالى في ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه، فلينظر معسرًا أو ليدع له»، فأعلمك أنّ الظّلّ من ثواب الأعمال وممّا غالط به الجهميّ من لا يعلم أن قال: كلّ شيءٍ دون اللّه مخلوقٌ، والقرآن من دون اللّه، فيقال له في جواب كلامه هذا: إنّا لسنا نشكّ أنّ كلّ ما دون اللّه مخلوقٌ ولكنّا لا نقول إنّ القرآن من دون اللّه، ولكنّا نقول من كلام اللّه، ومن علم اللّه، ومن أسماء اللّه، ومن صفات اللّه، ألم تسمع إلى قوله {وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون اللّه} [يونس: 37] وقال: {سلّامٌ قولًا من ربٍّ رحيمٍ} [يس: 58]، ولم يقل: من دون ربٍّ. وقال {فيها يفرق كلّ أمرٍ حكيمٍ أمرًا من عندنا} [الدخان: 4]، ولا يكون الأمر إلّا من آمرٍ، كما لا يكون القول إلّا من قائلٍ، ولا يكون الكلام إلّا من المتكلّم، ولو كان القرآن من دون اللّه، لما جاز لأحدٍ أن يقول: قال اللّه، كيف يقوله وهو من دون اللّه، بل كيف يكون من دونه وهو قاله؟ . وممّا غالط به الجهميّ من لا يعلم، أن قال: إنّ اللّه ربّ القرآن وكلّ
[الإبانة الكبرى: 6/205]
مربوبٍ فهو مخلوقٌ. فاحتجّ الجهميّ بكلمةٍ لم ينزل بها القرآن، ولا جاء بها أثرٌ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ولا عن أحدٍ من الصّحابة، ولا من بعدهم من التّابعين، ولا من فقهاء المسلمين، فيتّخذ ذلك حجّةً، وإنّما هي كلمةٌ خفّت على ألسن بعض العوامّ، وجازت بعض اللّغات، فتجافى لهم عنها العلماء، وإنّما المعنى في جواز ذلك كما استجازوا أن يقولوا: من ربّ هذه الدّار، وهذا ربّ هذه الدّابّة وليس هو خلقها، وكما يقولون: من ربّ هذا الكلام، ومن ربّ هذه الرّسالة، ومن ربّ هذا الكتاب، أي: من تكلّم بهذا الكلام؟ ومن ألّف هذا الكتاب؟ ومن أرسل هذه الرّسالة؟ لا أنّه خالق الكلام، ولا خالق الكتاب والرّسالة. فلذلك استجاز بعض العوامّ هذه الكلمة وخفّت على ألسنتهم، وإن كان لا أصل لها عمّن قوله حجّةٌ، وإنّما قالوا: يا ربّ القرآن كقولهم: يا منزل القرآن ويا من تكلّم بالقرآن ويا قائل القرآن. فلمّا كان القرآن من اللّه منسوبًا إليه، جاز أن يقولوا هذه الكلمة، وممّا يبيّن لك كفر الجهميّة وكذبها في دعواها أنّ كلّ مربوبٍ
[الإبانة الكبرى: 6/206]
مخلوقٌ، قال اللّه عزّ وجلّ {اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون اللّه} [التوبة: 31]، أفترى ظنّ الجهميّ أنّ أحبارهم ورهبانهم خلقوهم من دون اللّه؟ وقال يوسف الصّدّيق {اذكرني عند ربّك} [يوسف: 42]، يعني: عند سيّدك. قال اللّه عزّ وجلّ {فأنساه الشّيطان ذكر ربّه} [يوسف: 42] وممّا غالط به الجهميّ من لا علم عنده أن قال: القرآن في اللّوح المحفوظ، واللّوح محدودٌ، وكلّ محدودٍ مخلوقٌ على أنّ الجهميّ يجحد اللّوح المحفوظ وينكره ويردّ كتاب اللّه ووحيه فيه، ولكنّه يقرّ به في موضعٍ يرجو به الحجّة لكفره، فقال الجهميّ إنّ اللّوح بما فيه مخلوقٌ، ولا جائز أن يكون مخلوقٌ فيه غير مخلوقٍ، فقبّحوا في التّأويل وكفروا بالتّنزيل من وجوهٍ كثيرةٍ، وذلك أنّ القرآن من علم اللّه، وعلم اللّه وكلامه وجميع صفاته كلّ ذلك سابق اللّوح المحفوظ قبله وقبل القلم وهكذا قال ابن عبّاسٍ رحمه اللّه: " إنّ أوّل ما خلق اللّه القلم، فقال له: اكتب فكتب في اللّوح المحفوظ، فكان خلق القلم واللّوح بقول اللّه عزّ
[الإبانة الكبرى: 6/207]
وجلّ لهما كونا، فقوله: قبل خلقه، وما في اللّوح كلامه، وإنّما ما في اللّوح من القرآن الخطّ والكتاب، فأمّا كلام اللّه عزّ وجلّ، فليس بمخلوقٍ، وكذلك قوله عزّ وجلّ {في صحفٍ مكرّمةٍ مرفوعةٍ مطهّرةٍ} [عبس: 13]، وإنّما كرّمت ورفعت وطهّرت لأنّها لكلام اللّه استودعت " وأمّا قولهم: إنّه لا يكون مخلوقٌ فيه غير مخلوقٍ، فذلك أيضًا يهتّ من كلامهم ويتناقض في حججهم، أما سمعت قول اللّه عزّ وجلّ {وهو اللّه في السّماوات} [الأنعام: 3]، والسّماوات مخلوقةٌ، واللّه عزّ وجلّ غير مخلوقٍ، واللّه تعالى فيها، فقد بيّن أنّ مخلوقًا فيه غير مخلوقٍ، ومن أصل الجهميّة ومذاهبها أنّ اللّه تعالى يحلّ في الأشياء كلّها وفي الأمكنة، والأمكنة مخلوقةٌ، فلمّا علم أنّ اللّه تعالى هو الخالق لا مخلوق، وكذلك كلّ ما كان منه لا يكون مخلوقًا قال {وسع كرسيّه السّماوات والأرض} [البقرة: 255] فسّرها ابن عبّاسٍ:
[الإبانة الكبرى: 6/208]
علمه، فأخبر أنّ علمه وسع السّماوات والأرض، وهل يكون العلم مخلوقًا؟ وإنّما يكون مخلوقًا ما لم يكن ثمّ كان، وربّنا لم يزل عالمًا متكلّمًا وممّا غالط به الجهميّ من لا يعلم: الحديث الّذي روي عن ابن مسعودٍ: «ما خلق اللّه من سماءٍ ولا أرضٍ ولا شيءٍ أعظم من آية الكرسيّ»، فتأوّلوا هذا الحديث على من لا يعلم، وأخطئوا وغالطوا بالمتشابه من ألفاظ الحديث كما غالطوا بالمتشابه من القرآن، فإذا تفهّمه العاقل وجده واضحًا بيّنًا، فلو كانت آية الكرسيّ مخلوقةً كخلق السّماء والأرض والجنّة والنّار وسائر الأشياء إذًا لكانت السّماء أعظم منها، ولكانت الجنّة أعظم منها، ولكانت النّار أعظم منها لقلّة حروفها وخفّتها على اللّسان، وإنّ السّماء والأرض والجنّة والنّار أطول وأعرض وأوسع وأثقل وأعظم في المنظر، ولا بلغ ذلك كلّه مبلغ حرفٍ واحدٍ من
[الإبانة الكبرى: 6/209]
كلام اللّه، وإنّما أراد عبد اللّه بن مسعودٍ رحمه اللّه أنّه ليس في خلق اللّه كلّه ما يبلغ عظم كلام اللّه وإن خفّ، ولا يكون شيءٌ أعظم من كلام اللّه، ولن يعظم ذلك الشّيء في أعين العباد، ألا ترى أنّك تقول: ما خلق اللّه بالبصرة رجلًا أفضل من سفيان الثّوريّ؟ وسفيان ليس من أهل البصرة، وإنّما أردت: ليس بالبصرة مع عظمها وكثرة أهلها مثله ولا من يدانيه في فضله وكقولك: «ما أظلّت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجةٍ أصدق من أبي ذرٍّ»، فلم ترد أنّه أصدق من النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، ولا أصدق من أبي بكرٍ وعمر ومن أفضل منه، ولكنّه لم يتقدّمه أحدٌ في الصّدق، وإن فضلوه في غيره. ألم تسمع إلى قول اللّه عزّ وجلّ {قل أيّ شيءٍ أكبر شهادةً قل اللّه شهيدٌ بيني وبينكم} [الأنعام: 19]، فسمّى اللّه نفسه في الأنبياء، وليس هو من الأشياء المخلوقة، تعالى اللّه علوًّا كبيرًا.
[الإبانة الكبرى: 6/210]
فكذلك قول عبد اللّه: «ما خلق اللّه من سماءٍ ولا أرضٍ ولا شيءٍ أعظم من آية الكرسيّ»، لأنّ آية الكرسيّ من كلام اللّه، وهي آيةٌ من كتابه، فليس شيءٌ من عظيم ما خلق يعدل بآيةٍ ولا بحرفٍ من كلامه " ألا ترى أنّ اللّه قد عظّم خلق السّماوات والأرض، وجعل ذلك أكبر من غيره من المخلوقات، فقال: {لخلق السّماوات والأرض أكبر من خلق النّاس} [غافر: 57] ؟ ثمّ آية الكرسيّ مع خفّتها وقلّة حروفها أعظم من ذلك كلّه، لأنّها من كلام اللّه، وبكلام اللّه وأمره قامت السّماوات والأرض، وخلقت المخلوقات كلّها واعلم أنّ الجهميّ الخبيث يقول في الظّاهر: أنا أقول إنّ القرآن كلام اللّه، فإذا نصصته قال: إنّما أعني كلام اللّه مثل ما أقول: بيت اللّه وأرض اللّه وعبد اللّه ومسجد اللّه، فمثّل شيئًا لا يشبه ما مثّله به، والتّمثيل لا يكون إلّا مثلًا بمثلٍ، حذو النّعل بالنّعل، فإن زاد التّمثيل عمّا مثّل به أو نقص بطل، ألا ترى أنّ البيت بني من الأرض، وفي الأرض، وبناه مخلوقٌ، وهدم مرّةً بعد أخرى، وهو ممّا يدخل فيه ويخرج عنه، والمسجد ممّا يخرّب ويبيد ويعفو أثره ويزول اسمه، وكذلك الأرض يمشى عليها وتحفر ويدفن فيها، وكذلك عبد اللّه نطفةٌ، وجنينٌ، ومولودٌ، ورضيعٌ، وفطيمٌ، وصبيّ، وناشئٌ، وشابٌّ، وكهلٌ، وشيخٌ، وآكلٌ، وشاربٌ، وماشٍ، ومتكلّمٌ، وحيّ، وميّتٌ، فهل في ذلك شيءٌ يشبه
[الإبانة الكبرى: 6/211]
القرآن وممّا يحتجّ به على الجهميّة أن يقال لهم: ألستم تقولون إنّ اللّه خلق القرآن؟ قالوا: نعم. قيل لهم، فأنتم تقولون: إنّ كلّ شيءٍ في القرآن من أسماء اللّه وصفاته، فهو مخلوقٌ؟ فإنّهم يقولون: نعم. فيقال لهم: وتزعمون أنّ {بسم اللّه الرّحمن الرّحيم} [الفاتحة: 1] مخلوقٌ، وقوله {السّلام المؤمن المهيمن العزيز الجبّار المتكبّر} [الحشر: 23]، وأنّ {قل هو اللّه أحدٌ اللّه الصّمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحدٌ} [الإخلاص: 1]، فيقال له: فما تقول فيمن دعا فقال في دعائه: يا خالق اللّه الرّحمن الرّحيم اغفر لنا، كما يقول: يا خالق السّماوات والأرض يا خالق العزيز الجبّار المتكبّر يا خالق اللّه الصّمد يا خالق من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحدٌ كما يقال: يا خالق الجنّة والنّار ويا خالق العرش العظيم ولو كان القرآن مخلوقًا وأسماء اللّه مخلوقةً وصفاته كما زعم الجهميّ الملعون وتعالى اللّه عن ذلك علوًّا كبيرًا، لكان من تعظيم اللّه أن يدعى فيقال: يا خالق القرآن ويا خالق أسمائه وصفاته ويا خالق اللّه الرّحمن الرّحيم ويا خالق العزيز الحكيم فهل بلغكم أنّ مسلمًا أو معاهدًا حلف بهذه اليمين؟ أوليس إنّما جعل اللّه عزّ وجلّ القسم بأسمائه يمينًا يبرأ بها المطلوب من الطّالب، وجعل الحلف بين الخلق في حقوقهم والأيمان المؤكّدة الّتي يتحوّب المؤمن من الحنث بها هي الحلف بأسماء اللّه وصفاته، وبذلك حكم حكّام المسلمين فيمن ادّعى عليه حقٌّ أو ادّعى لنفيه حقًّا؟ أو ليس ذلك هو قسامة من ادّعى عليه قتل النّفس أن
[الإبانة الكبرى: 6/212]
يحلف في ذلك أن يقول: واللّه الّذي لا إله إلّا هو الطّالب الغالب إلى آخر اليمين؟ أفرأيت لو حلف، فقال: وحقّ السّماوات والأرض والبحار والأشجار والجنّة والنّار، هل كانت هذه اليمين تغني عنه شيئًا أو تبرئه من دعوى حقيرةٍ صغيرةٍ ادّعيت عليه، وليس من ادّعيت عليه الأموال الخطيرة والحقوق العظيمة ولا بيّنة عليه فحلف باسمٍ من أسماء اللّه وبصفةٍ من صفاته الّتي هي في القرآن تردّد وترجع وتكثر لبرئ من كلّ دعوى عليه وطلبةٍ، وكلّ ذلك لأنّ أسماء اللّه وصفاته وكلامه منه وليس شيءٌ من اللّه مخلوقٌ، تعالى اللّه علوًّا كبيرًا. أوليس من قال: يا خالق الرّحمن يا خالق الجبّار المتكبّر فقد أبان زندقته وأراد إبطال الرّبوبيّة، وأنّه لم يكن من هذا كلّه شيءٌ، حتّى خلق، تعالى اللّه علوًّا كبيرًا ويلزم الجهميّ في قوله: إنّ اللّه لم يتكلّم ولا يتكلّم أن يكون قد شبّه ربّه بالأصنام المتّخذة من النّحّاس والرّصاص والحجارة، فتدبّروا رحمكم اللّه نفي الجهميّ للكلام عن اللّه، إنّما أراد أن يجعل ربّه كهذه، فإنّ اللّه عزّ وجلّ عيّر قومًا عبدوا من دونه آلهةً لا تتكلّم، فقال {إنّ الّذين تدعون من دون اللّه عبادٌ أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين} [الأعراف: 194] فزعم الجهميّ أنّ ربّه كذا إذا دعي لا يجيب
[الإبانة الكبرى: 6/213]
وقال إبراهيم الخليل عليه السّلام حين عيّر قومه بعبادة ما لا ينطق حين قال {بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون} [الأنبياء: 63]، أي كيف يكون من لا ينطق إلهًا؟ فلمّا أسكتهم بذلك وبّخهم فقال {أفتعبدون من دون اللّه ما لا ينفعكم شيئًا ولا يضرّكم أفٍّ لكم ولما تعبدون من دون اللّه أفلا تعقلون} [الأنبياء: 66]، فأيّ خيرٍ عند من لا ينطق ولا ينفع ولا يضرّ، فإنّما يدور الجهميّ في كلامه واحتجاجه على إبطال صفات اللّه ليبطل موضع الضّرّ والنّفع والمنع والعطاء، ويأبى اللّه إلّا أن يكذّبه ويدحض حجّته، فتفكّروا رحمكم اللّه فيما اعتقدته الجهميّة وقالته وجادلت فيه ودعت النّاس إليه، فإنّ من رزقه اللّه فهما وعقلًا ووهب له بصرًا نافذًا وذهنًا ثاقبًا، علم بحسن قريحته ودقّة فطنته أنّ الجهميّة تريد إبطال الرّبوبيّة ودفع الإلهيّة، واستغنى بما يدلّه عليه عقله وتنبّهه عليه فطنته عن تقليد الأئمّة القدماء والعلماء والعقلاء الّذين قالوا: إنّ الجهميّة زنادقةٌ، وأنّهم يدورون على أن ليس في السّماء شيءٌ، فإنّ القائلين لذلك بحمد اللّه أهل صدقٍ وأمانةٍ وورعٍ وديانةٍ، فإنّ من أمعن النّظر وجد الأمر كما قالوا، فإنّ الجهميّة قالوا: إنّ اللّه ما تكلّم قطّ ولا يتكلّم أبدًا، فجحدوا بهذا القول علمه وأسماءه وقدرته وجميع صفاته، لأنّ من أبطل صفةً واحدةً، فقد أبطل الصّفات كلّها، كما أنّه من كفر بحرفٍ من القرآن، فقد كفر به كلّه. وقالوا: إنّه لا يرى في القيامة، فما بالهم لا يألون أن يأتون بما فيه
[الإبانة الكبرى: 6/214]
إبطاله وإبطال البعث والنّشور والجنّة والنّار؟ وقالوا: إنّ اللّه ما كلّم موسى تكليمًا، ولا اتّخذ إبراهيم خليلًا، ولا هو على عرشه. وقالوا: إنّ الجنّة والنّار لم تخلقا بعد، ثمّ قالوا: إنّهما إذا خلقتا فإنّهما تبيدان وتفنيان. وقالوا إنّ أهل القبور لا يعذّبون إبطالًا للرّجوع بعد الموت.
[الإبانة الكبرى: 6/215]
وقالوا: إنّه لا ميزان، ولا صراط، ولا حوض، ولا شفاعة ولا كتب، وجحدوا باللّوح المحفوظ، وبالرّقّ المنشور، وبالبيت المعمور، فليس حرفٌ واحدٌ من كلامهم يسمعه من يفهمه إلّا وقد علم أنّه يرجع إلى الإبطال والجحود بجميع ما نزلت به الكتب وجاءت به الرّسل، حتّى إنّهم ليقولون: إنّ اللّه عزّ وجلّ لا يسمع، ولا يبصر، ولا يغضب، ولا يرضى ولا يحبّ، ولا يكره، ولا يعلم ما يكون إلّا بعد أن يكون، وكلّ ما ادّعوه من ذلك وانتحلوه فقد أكذبهم اللّه فيه ونطق القرآن بكفر من جحده. وقد كان إبراهيم عليه السّلام عتّب على أبيه فيما احتجّ به عليه، فقال {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئًا} [مريم: 42] فيقول: إنّ إبراهيم عاتب أباه، ونقم عليه عبادة من لا يسمع ولا يبصر، ثمّ عاد أباه إلى عبادة من لا يسمع ولا يبصر، سبحان اللّه ما أبين كفر قائل هذه المقالة عند من عقل وسيأتي تبيان كفرهم وإيضاح الحجّة بالحقّ عليهم من كتاب ربّنا وسنّة
[الإبانة الكبرى: 6/216]
نبيّنًا صلّى اللّه عليه وسلّم في كلّ شيءٍ قالوه في مواضعه وأبوابه، وباللّه التّوفيق فممّا يحتجّ به على الجهميّة أن يقال لهم: أرأيتم إذا مات الخلق كلّهم فلم يبق أحدٌ غير اللّه من القائل {لمن الملك اليوم} [غافر: 16] وقد مات كلّ مخلوقٍ، ومات ملك الموت، ثمّ يردّ ربّنا تعالى على نفسه فيقول {للّه الواحد القهّار} [إبراهيم: 48]، فإن قالوا: إنّ هذا القول مخلوقٌ، فقد زعموا أنّه يبقى مخلوقٌ مع اللّه، وإن قالوا: إنّ اللّه لا يقول، ولكنّه أخبر بما يدلّ على عظمته، فقد كذّبوا كتاب اللّه وجحدوا به وردّوه، أرأيت إن قائلًا قال: إنّ اللّه عزّ وجلّ لا يقول يوم القيامة {لمن الملك اليوم} [غافر: 16]، أليس يكون كاذبًا ولكتاب اللّه رادًّا، فأيّ كفرٍ أبين من هذا؟ وممّا يحتجّ به على الجهميّة أن يقال لهم: أخبرونا كيف حال من لا يكلّمه اللّه يوم القيامة ولا ينظر إليه؟ فإذا قال: هذه أحوال الكفّار، وبذلك وصفهم اللّه، فيقال لهم: فأنتم تزعمون أنّ هذه أيضًا أحوال الأنبياء والصّدّيقين والشّهداء والمؤمنين من الأولياء والصّالحين والبدلاء، فما فضل هؤلاء على الكافرين ولو كان الأنبياء والرّسل مع أهل الكفر في هذه المنزلة من احتجاب اللّه دونهم وترك كلامهم والنّظر إليهم لما كان ذلك داخلًا في وعيد الكفّار والتّهديد لهم به، ولا كان ذلك بضائرٍ لهم، إذ هم فيه والرّسل والأنبياء سواءٌ وممّا يحتجّ به على الجهميّ أن يقال له: من القائل {يا موسى إنّي أنا ربّك} [طه: 11] فإن قالوا: خلق اللّه خلقًا قال ذلك لموسى، قيل لهم: وقبل ذلك
[الإبانة الكبرى: 6/217]
موسى واستجاب لمخلوقٍ من دون اللّه يقول أنا ربّك؟ ويقال له: من القائل {يا موسى إنّه أنا اللّه العزيز الحكيم} [النمل: 9]، {يا موسى إنّي أنا اللّه ربّ العالمين} [القصص: 30] ؟ ومن القائل: {يا موسى إنّني أنا اللّه لا إله إلّا أنا فاعبدني وأقم الصّلاة لذكري} ؟ فإن قال الجهميّ: إنّ هذا ليس من قول اللّه عزّ وجلّ، فأتني بكفرٍ أبين من هذا أن يكون مخلوقٌ يقول {إنّني أنا اللّه لا إله إلّا أنا فاعبدني وأقم الصّلاة لذكري} [طه: 14]، فإن زعموا أنّ موسى أجاب ذلك المخلوق وأطاعه، فقد زعموا أنّ موسى كان يعبد مخلوقًا من دون اللّه، ولو كان كما يقول الجهميّ، فكان ذلك المخلوق خلق عندهم ليفهم موسى أنّ خالقي هو اللّه الّذي لا إله إلّا هو، فاعبده وأقم الصّلاة لذكره ولو قال الجهميّ ذلك أيضًا لتبيّن كفره، لأنّ ذلك المخلوق لم يكن ليقول ذلك حتّى يؤمر به، فإن قال الجهميّ إنّ ذلك المخلوق قاله من غير أمرٍ يؤمر به، فقد زعم الجهميّ أنّ جميع هذه القصص كذبٌ وافتراءٌ على اللّه، وإن قال: قد قال ذلك المخلوق بإراده اللّه من غير قولٍ، فقد زعم أنّ ذلك المخلوق يعلم الغيب من دون اللّه، وإنّ المخلوق يعلم مراد اللّه وإن لم يقل هو، وهم يزعمون أنّ اللّه لا يعلم ما يكون إلّا بعد أن يكون، وأنّ الخلق يسعون ويتقلّبون في أمورٍ مستأنفةٍ لم يشأها اللّه ولم يعلمها إلّا من بعد أن عملوها، ويزعمون هاهنا أنّ المخلوق يعلم ما يريد اللّه من غير أن يقوله، واللّه
[الإبانة الكبرى: 6/218]
يقول فيما أخبر عن عيسى {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} [المائدة: 116]، والجهميّ يزعم أنّ الخلق يعلمون ما في نفس اللّه من غير أن يقوله، وهو لا يعلم ما في نفوسهم حتّى يقولوه أو يعلموه، تعالى اللّه عمّا يقوله الجهميّ علوًّا كبيرًا، فالجهميّ يزعم أنّ المخلوق يعلم الغيب واللّه لا يعلم، واللّه عزّ وجلّ يقول {قل لا يعلم من في السّماوات والأرض الغيب إلّا اللّه} [النمل: 65] وممّا يحتجّ به على الجهميّ قول اللّه عزّ وجلّ {نبّئ عبادي أنّي أنا الغفور الرّحيم وأنّ عذابي هو العذاب الأليم}، وقوله {ذرني ومن خلقت وحيدًا وجعلت له مالًا ممدودًا وبنين شهودًا ومهّدت له تمهيدًا ثمّ يطمع أن أزيد كلّا إنّه كان لآياتنا عنيدًا سأرهقه صعودًا} [المدثر: 11]، هل يجوز أن يكون هذا مخلوقًا؟ وهل يجوز لمخلوقٍ من دون اللّه أن يقول {ذرني ومن خلقت وحيدًا} [المدثر: 11]، فالجهميّ يزعم أنّ مع اللّه مخلوقًا خلق الخلق دونه وممّا يحتجّ به عليه قول اللّه عزّ وجلّ {للّه الأمر من قبل ومن بعد} [الروم: 4] فأخبره أنّ أمره قبل الخلق وبعد فناء الخلق، فالأمر هو كلامه الّذي يأمر به ويفعل به ما يريد به ويخلق وقال اللّه عزّ وجلّ {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54]، فدخل في قوله: الخلق
[الإبانة الكبرى: 6/219]
كلّ مخلوقٍ، ثمّ قال: والأمر، ففصل بينهما. وقال: {فيها يفرق كلّ أمرٍ حكيمٍ أمرًا من عندنا} [الدخان: 4]، وقال: {ومن يزغ منهم عن أمرنا} [سبأ: 12] . وقال: {قل أمر ربّي بالقسط} [الأعراف: 29]، وقال: {وما نتنزّل إلّا بأمر ربّك} [مريم: 64]، فهذه كلّها لو سمّي الأمر فيها باسم الخلق لم يجز ألا ترى أنّه لا يمكن أن يقول: ألا له الخلق والخلق، لأنّ قوله: الخلق يدخل فيه الخلق كلّه بقوله الخلق، والخلق باطلٌ لا يجوز أن يقال: فيها يفرق كلّ أمرٍ حكيمٍ خلقًا من عندنا، ولا يقال: ومن يزغ منهم عن خلقنا، ولا يجوز أن يقال: قل خلق ربّي بالقسط، ولا يجوز أن يقال: إن الحكم إلّا للّه خلق أن لا تعبدوا إلّا إيّاه، ولا يجوز أن يقال: حتّى إذا جاء خلقنا ولو كان معنى الأمر معنى الخلق، جاز في الكلام أن يتكلّم بالمعنى، ففي هذا بيان كفر الجهميّة فيما ادّعوه أنّ القرآن مخلوقٌ، وسنوضّح ما قالوه بابًا بابًا، حتّى لا يخفى على مسترشدٍ أراد طريق الحقّ وأحبّ أن يسلكها، ويزيد العالم بذلك بصيرةً، واللّه الموفّق وهو حسبنا ونعم الوكيل
[الإبانة الكبرى: 6/220]