دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > الفقه > متون الفقه > زاد المستقنع > كتاب الحدود

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 12 جمادى الآخرة 1431هـ/25-05-2010م, 03:24 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي باب حكم المرتد

بابُ حُكْمِ الْمُرْتَدِّ
وهو الذي يَكْفُرُ بعدَ إسلامِه، فمَن أَشْرَكَ باللهِ، أو جَحَدَ رُبوبيَّتَه، أو وحدانيَّتَه أو سبَّ اللهَ أو رسولَه فقد كَفَرَ، ومَن جَحَدَ تحريمَ الزِّنَا أو شيئًا من الْمُحرَّماتِ الظاهرةِ الْمُجْمَعِ عليها بجَهْلٍ عُرِّفَ ذلك، وإن كان مِثلُه لا يَجهلُه كَفَرَ.

  #2  
قديم 16 جمادى الآخرة 1431هـ/29-05-2010م, 02:39 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي المقنع لموفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي

..........................

  #3  
قديم 16 جمادى الآخرة 1431هـ/29-05-2010م, 02:39 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي الروض المربع للشيخ: منصور بن يونس البهوتي


بابُ حُكْمُ المُرْتَدِّ
(وهو) لغةً: الراجِعُ، قالَ تعالى: {وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ}. واصطلاحاً: (الذي يَكْفُرُ بعدَ إسلامِهِ) طَوْعاً، ولو مُمَيِّزاً أو هَازِلاً بِنُطْقٍ أو اعتقادٍ أو شَكٍّ أو فِعْلٍ. (فمَن أَشْرَكَ باللَّهِ) تَعَالَى، كَفَرَ؛ لقولِهِ تعالَى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}. (أو جَحَدَ رُبُوبِيَّتَه) سُبْحَانَهُ، (أو) جَحَدَ (وَحْدَانِيَّتَه، أو) جَحَدَ (صِفَةً من صفاتِه)؛ كالحياةِ والعلمِ، كَفَرَ. (أو اتَّخَذَ للَّهِ) تَعَالَى (صَاحِبَةً أو ولداً، أو جَحَدَ بعضَ كُتُبِهِ، أو) جَحَدَ بعضَ (رُسُلِهِ، أو سَبَّ اللَّهَ) سُبْحَانَهُ، (أو) سَبَّ (رسولَه)؛ أي: رسولاً مِن رُسُلِهِ، أو ادَّعَى النُّبُوَّةَ، (فقد كَفَرَ)؛ لأنَّ جَحْدَ شيءٍ مِن ذلكَ كجَحْدِهِ كُلِّه، وسَبَّ أحدٍ مِنهم لا يكونُ إلاَّ مِن جاحِدِهِ. (ومَن جَحَدَ تحريمَ الزِّنَا، أو) جَحَدَ (شيئاً مِن المُحَرَّمَاتِ الظاهرةِ المُجْمَعِ عليها)؛ أي: على تَحْرِيمِها، أو جَحَدَ حِلَّ خُبْزٍ ونَحْوِهِ مِمَّا لا خِلافَ فيه، أو جَحَدَ وُجُوبَ عبادةٍ مِن الخَمْسِ، أو حُكْماً ظاهراً مُجْمَعاً عليه إجماعاً قطعيًّا (بِجَهْلٍ)؛ أي: بِسَبَبِ جَهْلِهِ، وكانَ مِمَّن يَجْهَلُ مِثْلُه ذلكَ، (عُرِّفَ) حُكْمَ (ذلك)؛ لِيَرْجِعَ عنه، (وإنْ) أَصَرَّ، و (كانَ مِثْلُه لا يَجْهَلُهُ، كَفَرَ)؛ لِمُعَانَدَتِهِ للإسلامِ، وامتناعِهِ من الالتزامِ لأحكامِهِ، وعدمِ قَبُولِهِ لكتابِ اللَّهِ وسُنَّةِ رسولِهِ وإجماعِ الأُمَّةِ، وكذا لو سَجَدَ لكَوْكَبٍ ونحوِهِ، أو أَتَى بقولٍ أو فِعْلٍ صريحٍ في الاستهزاءِ في الدينِ، أو امْتَهَنَ القُرْآنَ، أو أَسْقَطَ حُرْمَتَهُ، لا مَن حَكَى كُفْراً سَمِعَه، وهو لا يَعْتَقِدُهُ.

  #4  
قديم 16 جمادى الآخرة 1431هـ/29-05-2010م, 02:40 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي حاشية الروض المربع للشيخ: عبد الرحمن بن محمد ابن قاسم


باب حكم المرتد([1])

وهو لغة: الراجع([2]) قال تعالى: {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ}([3]) واصطلاحا (الذي يكفر بعد إسلامه)([4]) طوعا ولا مميزا([5]) أو هازلا([6]) بنطق أو اعتقاد، أو شك أو فعل([7]).
(فمن أشرك بالله) تعالى، كفر([8]) لقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}([9]) (أو جحد ربوبيته) سبحانه([10]) (أو) جحد (وحدانيته([11]) أو) جحد (صفة من صفاته) كالحياة والعلم، كفر([12]) (أو اتخذ لله) تعالى (صاحبة أو ولدا([13]))
أو جحد بعض كتبه([14]) أو جحد بعض (رسله([15]) أو سب الله) سبحانه وتعالى([16]) (أو) سب (رسوله) أي رسولا من رسله([17]) أو ادعى النبوة (فقد كفر)([18]) لأن جحد شيء من ذلك، كجحده كله([19]).

وسب أحد منهم، لا يكون إلا من جاحده([20]) (ومن جحد تحريم الزنا أو) جحد (شيئا من المحرمات الظاهرة المجمع عليها) أي على تحريمها([21]) أو جحد حل خبزه ونحوه، مما لا خلاف فيه([22]) أو جحد وجوب عبادة من الخمس([23]).

أو حكما ظاهرا مجمعا عليه، إجماعا قطعيا([24]) (بجهل) أي بسبب جهله وكان ممن يجعل مثله ذلك([25]) (عرف) حكم (ذلك) ليرجع عنه([26]) (وإن) أصر أو (كان مثله لا يجهله كفر) لمعاندته للإسلام، وامتناعه من الإلتزام لأحكامه وعدم قبوله لكتاب الله وسنة رسوله، وإجماع الأمة([27]) وكذا لو سجد لكوكب ونحوه([28]).

أو أتى بقول أو فعل، صريح في الاستهزاء بالدين([29]) أو امتهن القرآن([30]) أو أسقط حرمته([31]) لا من حكى كفرا سمعه وهو لا يعتقده([32]).


([1]) والأصل في حكمه، وجوب قتله، الكتاب والسنة والإجماع.
([2]) يقال: ارتد فهو مرتد: إذا رجع.
([3]) أي ترجعوا وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} أي يرجعوكم إلى الشرك.
([4]) أي والمرتد اصطلاحا، هو الذي يكفر بعد إسلامه لقوله تعالى:{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وفي الصحيح من بدل دينه فاقتلوه، وأجمع العلماء على وجوب قتل المرتد، إن لم يتب.
([5]) أي سواء كان كفره بعد إسلامه طوعا لا كرها لقوله تعالى: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} ولو كان مميزا فتصح منه الردة، كما يصح إسلامه ويأتي.
([6]) أي أومستهزئا، لعموم الآية والأخبار ولقوله: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} فقال تعالى: {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} وقال الموفق: ينبغي أن لا يكتفى من الهازل بذلك، بمجرد الإسلام، حتى يؤدب أدبا يزجره عن ذلك.
([7]) بعد إسـلامه، ولـو كـان إسلامه كـرها بحق كـمن أكـره على
النطق بالشهادتين فنطق بهما ثم ارتد وسواء كان رجلا أو امرأة لقصة أم رومان.

([8]) إجماعا وقال الشيخ: من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم كفر إجماعا.
([9]) أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به وقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} ولأحمد كل ذنب عسى أن يغفره إلا الرجل يموت كافر، وفي الصحيح، ومن لقيه يشرك به دخل النار، ولا نزاع في كفر من مات على الشرك، وقال الموفق: من أقر بالإسلام، ثم أنكره، أو أنكر الشهادتين أو إحداهما كفر بغير خلاف.
([10]) كفر، وقال الشيخ: القائل: ما ثم إلا الله، إن أراد ما يقوله، أهل الاتحاد، أنه ما ثم موجود إلا الله، أو الذي يقول: إن الله بذاته في كل مكان، يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وإن اعتقد قدم العالم، أو حدوث الصانع جل وعلا، كفر، لتكذيبه الكتاب والسنة، وإجماع الأمة.
([11]) كفر، لأن جاحد ذلك مشرك به سبحانه.
([12]) إجماعا وفي الفصول، شرطه، أن تكون متفقا على إثباتها وقال الشيخ، من شك في صفة من صفات الله تعالى، ومثله لا يجهلها، فمرتد، وإن كان مثله يجهلها فليس بمرتد، واستدل بقصة الشاك في قدرة الله.
([13]) كفر إجماعا قال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} فنزه نفسه سبحانه عن ذلك ونفاه عنه، ومتخذه مخالف له، ومكذب بما أخبر به.
([14]) أو شيئا منها، لأن جحد شيء منها كجحدها كلها، إذ الكل من عند الله جل وعلا.
([15]) لأنه مكذب لله، جاحد لرسول من رسله، أو جحد الملائكة، أو من ثبت أنه ملك، كفر لتكذيبه القرآن، أو جحد البعث، كفر، لتكذيبه الكتاب والسنة والإجماع.
([16]) كفر لأنه لا يسبه إلا وهو جاحد له.
([17]) كفر، أو كان مبغضا لرسوله، أو لما جاء به كفر، أو قذفه أو قذف أمه كفر.
([18]) أو صدق من ادعاها، بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر، لأنه مكذب لقوله تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ولقوله صلى الله عليه وسلم لا نبي بعدي.
([19]) قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} قال الشيخ ومن أطلق لعن التوارة يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإن كان ممن يعرف أنها منزلة من عند الله وأنه يجب
الإيمان بها، فيقتل بشتمه لها وأما إن لعن دين اليهود، الذي هم عليه في هذا الزمان، فلا بأس عليه وكذا إن سب التوراة التي عندهم، مما يبين أن قصده ذكر تحريفها مثل أن يقول: نسخ هذه التوراة مبدلة، لا يجوز العمل بما فيها، ومن عمل بشرائعها المبدلة، أو المنسوخة فهو كافر، فهذا ونحوه، لا شيء على
قائله.

([20]) قال الشيخ: ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين، وباتفاق جميع المسلمين، أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام، أو اتباع غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر،وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب، وكفر ببعض، وقال: ومن سخر بوعد الله أو بوعيده، أو لم يكفر من دان بغير دين الإسلام، كالنصارى، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم كفر إجماعا، وقال: من سب الصحابة أو أحدا منهم، أو اقترن بسبب دعوى، أن عليا إله أو نبي، أو أن جبرئيل غلط، فلا شك في كفره.
([21]) كلحم خنزير وخمر، كفر، وقال الشيخ: من استحل الحشيشة المسكرة كفر بلا نزاع.
([22]) كلحم مذكاة بهيمة الأنعام، والدجاج وغيره، مما أجمع على حله كفر.
([23]) أي من العبادات الخمس، المشار إليها في الحديث الصحيح، بقوله صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإتياء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام، كفر، ومثل ذلك جحد وجوب الطهارة وضوءًا كان، أو غسلاً أو تيممًا.
([24]) أي أو جحد حكما ظاهرا بين المسلمين، مجمعا عليه، إجماعا قطعيا، لا سكوتيا ولا ظنيا، بل قطعيا لا شبهة فيه، نحو استحلال الخوارج دماء المسلمين وأموالهم، فإن أكثر الفقهاء لا يكفرونهم، لادعائهم أنهم يتقربون إلى الله بذلك.
([25]) أي تحريم شيء من المحرمات الظاهرة، كالزنا ولحم الخنزير، أو حل شيء مما لا خلاف في حله.
([26]) لأن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة جزم به الشيخ وغيره وقال: لم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم الشاك في قدرة الله وإعادته، لأنه لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة، وقال نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد، والتكفير والتفسيق، ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام، حتى يقوم فيه المقتضي الذي لا معارض له.
([27]) ولا نزاع في كفره.
([28]) أي ومثل من جحد عبادة.. إلخ، لو سجد لكوكب شمس أو قمر، أو نجم، ونحو ذلك، كصنم، كفر إجماعا.
([29]) كفر إجماعا لقوله تعالى: {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ولا نزاع في ذلك.
([30]) أي احتقره وكذا لو ادعى اختلافه أو اختلاقه أو القدرة على مثله والله منع قدرتهم، كفر , ومن زعم أن القرآن نقص منه شيء وكتم، أو أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة، ونحو ذلك فلا خلاف في كفره.
([31]) أي مهابته وما يجب من القيام به من حقوقه، وما لا يحل انتهاكه كفر، وإن أنكر الإسلام أو الشهادتين أو أحدهما كفر.
([32]) أي لا يكفر من حكى كفرا سمعه وهو لا يعتقده، قال في الفروع: ولعل هذا إجماع، وفي الانتصار، من تزيا بزي كفر، من لبس غيار، وشد زنار، وتعليق صليب بصدره حرم، ولم يكفر اهـ وكذا من نطق بكلمة الكفر، ولم يعلم معناها، ولا من جرى على لسانه سبقا من غير قصد لشدة فرح أو دهش، أو غير ذلك، لحديث «عفي عن أمتي الخطأ والنسيان» وخبر الذي أخطأ من شدة الفرح.

  #5  
قديم 11 ربيع الثاني 1432هـ/16-03-2011م, 04:32 PM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 6,511
افتراضي الشرح الممتع على زاد المستقنع / للشيخ ابن عثيمين رحمه الله

بَابُ حُكْمِ الْمُرْتَدِّ
وَهُوَ الَّذِي يَكْفُرُ بَعْدَ إِسْلاَمِهِ، ........................
قوله: «حكم المرتد» المرتد عن الشيء هو الراجع عنه، هذا في اللغة العربية.
وفي الاصطلاح قال المؤلف:
«وَهُوَ الَّذِي يَكْفُرُ بَعْدَ إِسْلاَمِهِ» فكل من كفر بعد إسلامه فإنه مرتد، لكن اعلم أن الكفر الوارد في الكتاب والسنة، ينقسم إلى قسمين:
الأول: كفر مخرج عن الملة، وهو الكفر الأكبر.
الثاني: كفر لا يخرج عن الملة، وهو الكفر الأصغر الذي سماه ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ كفراً دون كفر[(223)]، يعني ليس هو الكفر الأكبر.
والمراد هنا في هذا الباب الكفر الأكبر، لا الكفر الأصغر، فقول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» [(224)] من القسم الأصغر؛ لقوله تعالى: {{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}} [الحجرات: 10] ، مع أنهما طائفتان مقتتلتان، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» [(225)]، المراد الكفر الأكبر، كما تدل عليه نصوص أخرى، فكل من كفر بعد إسلامه فإنه مرتد، فإذا أسلم من أجل الراتب، ولما نقص الراتب كفر فهو مرتد؛ لأنه يوجد من الوافدين من يسلمون من أجل أن يبقوا في البلاد، فإذا رجعوا إلى أهليهم ارتدوا، نقول: يعتبر ارتدادهم ردة عن الإسلام؛ لأننا نؤاخذهم بظاهر حالهم، والسرائر لا يعلمها إلا الله ـ عزّ وجل ـ، فما دام هذا الرجل أسلم، وشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله فإنه يكون مسلماً، وإذا عاد إلى ملته الأولى اعتبرناه مرتداً.
وليعلم أن الردة تكون بالاعتقاد، وبالقول، وبالفعل، وبالترك، هذه أربعة أنواع للردة، بالاعتقاد كأن يعتقد ما يقتضي الكفر وظاهره الإسلام، مثل حال المنافقين، وتكون بالقول كالاستهزاء بالله ـ عزّ وجل ـ والقدح فيه، أو في دينه، أو ما أشبه ذلك، وتكون بالفعل كالسجود للصنم، وتكون بالترك كترك الصلاة مثلاً، وكترك الحكم بما أنزل الله رغبة عنه، أما كراهة ما أنزل الله فهي بالاعتقاد؛ لأنها داخلة في عمل القلب.
قوله: «فَمَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ» «من» اسم شرط جازم، وفعل الشرط «أشرك» وما عطف عليه، والجواب «كفر» .

فَمَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ، أَوْ جَحَدَ رُبُوبِيَّتَهُ، أَوْ وَحْدَانِيَّتَهُ، ...............
وقوله: «فمن أشرك بالله» ظاهره الإطلاق، وأن كل شرك فهو كفر، ولكنه ليس على إطلاقه؛ لأن من الشرك ما هو أصغر، ومن الشرك ما هو أكبر، وهذا الباب إنما يكون في الشرك الأكبر؛ لأنه في باب الردة، فالشرك الأصغر كالحلف بغير الله معتقداً أن تعظيم هذا المخلوق دون تعظيم الله، لكنه حلف به تعظيماً له، وكيسير الرياء، وما أشبه ذلك مما هو معروف، فهذا لا يدخل في الكفر، إلا أن يقال: إنه كفر دون كفر، لكن على كل حال فإنه لا يدخل في كلام المؤلف هنا؛ لأن كلام المؤلف هنا يراد به الشرك الذي يكون ردة، وهذا لا يكون إلا في الأكبر.
وإذا أشرك بالله فهو كافر كفراً مخرجاً عن الملة، سواء كان باعتقاد، أو بقول، أو بفعل.
فالاعتقاد بأن يعتقد أن لله تعالى شريكاً في الخلق، أو في التدبير، أو في الملك، أو في العبادة، أو ما أشبه ذلك.
وبالفعل مثل أن يسجد للصنم.
وبالقول مثل أن يدعو غير الله، أو يستغيث به، أو يقول: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، وما أشبه ذلك.
فالإشراك سواء كان بالقلب، أو بالقول، أو بالفعل يعتبر ردة عن الإسلام، ومن الإشراك بالله أن يشرك مع الله غيره في الحكم، بأن يعتقد أن لغير الله أن يشرع للناس قوانين، يُحِلِّونها محلٍ شريعة الله، لقوله تعالى: {{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا}} [التوبة: 31] ، وكانوا يحلون ما حرم الله فيحلونه، ويحرمون ما أحل الله فيحرمونه، أما من سنَّ هذه القوانين فقد جعل نفسه في مقام الألوهية، أو في مقام الربوبية، يعني جعل نفسه رباً مشرعاً، ومن أطاعه في ذلك ووافقه عليه فهو مشرك؛ لأنه جعله بمنزلة الرب في التشريع.
قوله: «أَوْ جَحَدَ رُبُوبِيَّتَهُ» الجحد غير الشرك؛ لأن الشرك فيه إثبات لشيئين، لكن هذا جحد، قال: إن الله تعالى ليس برب، وليس للناس رب، كالشيوعيين، والدهريين، وطائفة من العلمانيين، ومن أشبههم، فهؤلاء يجحدون الرب، ويقولون كما قال سلفهم: {{مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ}} [الجاثية: 24] نسأل الله العافية، قد سلخ الله قلوبهم عن اليقين، وعن مشاهدة الآيات {{وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ}} [يونس: 101] ، {{وَكَأَيِّن مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }} [يوسف:105] ، وإلا كيف يمكن لعاقل أن يجحد ربوبية الله ـ عزّ وجل ـ؟! الجاحد لله جاحد لنفسه قبل أن يجحد الله؛ لأننا نقول له: من خلقك؟ هل خلقك أبوك؟! هل أبوك هو الذي خلق هذا الماء الدافق الذي يتكون منه الجنين؟! هل أمك خلقت هذه البويضات التي تحل فيها هذه الحيوانات فتكون بشراً؟! إما أن يقول: لا، وإما أن يقول: نعم، فإن قال: نعم، فنقول: في أي معمل صنعها أبوك أو أمك؟ فسينقطع، وإذا قال: لم يخلقها أبي، ولا أمي، نقول: من خلقها؟ خلقها رئيسك؟ قطعاً سيقول: لا، فمن خلقها؟ النتيجة، سيقول: الله، إلا أن يكابر فلا يجدي الكلام معه، فهذا فرعون يعلم أن الذي أنزل التوراة على موسى ـ عليه السلام ـ هو الله، ويخاطبه موسى بهذا الخطاب: {{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاَءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ}} [الإسراء: 102] ، ولم يقل فرعون: ما علمت، بل سكت، لكن مع ذلك يقول لقومه: {{أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}} [النازعات: 24] ، وقال: {{يَاأَيُّهَا الْمَلأَُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}} [القصص: 38] ، يقول ذلك عن مكابرة، فالمكابر لا فائدة فيه، وإلا فكيف يمكن لأي عاقل، يتدبر أدنى تدبر أن ينكر ربوبية الله عزّ وجل؟!
فهذا الكون العظيم بسمائه وأرضه، ونجومه، وشمسه، وقمره، وبحاره، وأنهاره، وأشجاره، وجباله، ووهاده، أحد لا يخلقه؟! لو اجتمع الخلق كلهم على أن يخلقوا مثل أصغر نجمة وكوكب في السماء ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ولو جاءت جميع معدات الخلق لتبعث هذا الهواء، الذي يعم المنطقة، ويأتي بهذه الريح العاصفة التي تقلع الأشجار، وتهدم الخيام ما يستطيعون، مَنْ الذي جاء بها إلا الله سبحانه وتعالى؟! ولكني أقول: المكابر المعاند لا فائدة من مجادلته؛ لأنه سيقول: لا أُسَلِّم، وينصرف، فالذي يجحد ربوبية الله لا شك أنه كافر، وهو أعظم من الذي يشرك مع الله؛ لأن المشرك أثبت بعض الحق، ولكن هذا أنكر كل الحق، فمن جحد ربوبية الله فلا شك في كفره.
قوله: «أو وحدانيته» كذلك من جحد وحدانيته، ولعل المؤلف يريد بالواحدنية هنا وحدانية الألوهية؛ لأنه لو أراد بجحد الواحدنية الشرك لكان تكراراً مع قوله: «فمن أشرك بالله» ، لكن لما ذكر الربوبية، ثم الوحدانية، ثم الصفات، فالظاهر أنه يريد بالوحدانية هنا وحدانية الألوهية، يعني من أنكر أن الإله هو الله وحده فقد كفر، مثل أن يعتقد، أو يقول، أو يفعل ما يدل على أنه يرى أن هناك معبوداً يستحق أن يعبد سوى الله، مثل الذين يعبدون اللات والعزى ومناة، يعبدونها يتقربون إليها بالذبح والركوع والسجود، أما الدعاء فهو من العبادة، وله تعلق بالربوبية.
وإذا قال: إن هناك شيئاً من المخلوقات يستحق أن يُتأله له ويعبد فهو كافر ومرتد.

أَوْ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ، أَوِ اتَّخَذَ لِلَّهِ صَاحِبَةً أَوْ وَلَداً، أَوْ جَحَدَ بَعْضَ كُتُبِهِ....................
قوله: «أَوْ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ» إذا جحد صفة من صفاته، فظاهر كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ أنه يكفر مطلقاً؛ لأنه أطلق، لكن تمثيله في الشرح[(226)] يدل على أن المراد الصفات الذاتية التي لا ينفك عنها، كالعلم، والقدرة، ومع ذلك ففيه نظر، فالجاحد للصفات معناه المنكر لها، والمنكر للصفات يجب أن نقول: إنه ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يجحدها تكذيباً.
الثاني: أن يجحدها تأويلاً.
فإذا جحدها تكذيباً فهو كافر بكل حال؛ لأنه مكذب لما ثبت لله ـ عزّ وجل ـ، والمكذب لشيء من كتاب الله، أو سنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم الثابتة عنه، فهذا كافر.
مثال ذلك: أن يقول: ليس لله سمع، ليس لله وجه، ليس لله يَدٌ، لم يستوِ الله على العرش، وما أشبه ذلك، نقول: هذا كافر؛ لأنه مكذب، وتكذيب خبر الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم كفر، وسواء كانت الصفة ذاتية، أم فعلية، فلا فرق، حتى لو كذب أن الله ينزل إلى السماء الدنيا قلنا: إنه كافر؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ينزل» [(227)]، وهذا يقول: لا ينزل، فكأنه يقول: يا محمد كذبت!!
أما القسم الثاني: وهو جحد التأويل، بأن يجحد صفة من صفاته على سبيل التأويل، ليس على سبيل التكذيب، يقول: نعم، إن الله استوى على العرش، لكن معنى استوى استولى، ويقول: إن لله يدين، لكن المراد بهما النعمة والقدرة، وما أشبه ذلك، فهذا على قسمين: إن كان هذا التأويل له وجه في اللغة العربية فإنه لا يكفر؛ لأن هذا هو الذي أداه إليه اجتهاده فلا نكفِّره، إلا إذا تضمن هذا التأويل نقصاً لله عزّ وجل، فإن تضمن نقصاً فإنه يكفر؛ لأن إثباته ما يستلزم النقص هو سب لله عزّ وجل، وعيب له، وسب الله تعالى وعيبه كفر.
وإن لم يكن له مساغ في اللغة العربية فهو كافر؛ لأن التأويل على هذا الوجه معناه الإنكار والتكذيب فلا يكون بذلك مقراً.
مثال ذلك: لو قال في قوله تعالى: {{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}} [المائدة: 64] : المراد بيديه السماوات والأرض، فهو كفر؛ لأنه لا مسوغ له في اللغة العربية، لكن إن قال: المراد باليد النعمة أو القوة فلا يكفر؛ لأن اليد في اللغة تطلق بمعنى النعمة.
فصار كلام المؤلف هنا ليس على إطلاقه، نعم؛ لو أنه أصر بعد أن تبين له أن الحق في خلاف تأويله ولو كان له مساغ، فهذا قد يحكم بكفره وردته؛ لأنه أنكر حقيقة الكلام مع العلم بأن تأويله ليس بصواب.
قوله: «أَوِ اتَّخَذَ لله صَاحِبَةً» الصاحبة الزوجة، يعني قال: إن الله تعالى له زوجة ـ والعياذ بالله ـ فهذا يكفر، وسواء قالها بلسانه، أو اعتقدها بقلبه فإنه يكون كافراً؛ لأن الصاحبة ما يتخذها إلا من كان محتاجاً إليها؛ لتكمل حياته، أو تبقي نسله، والله ـ عزّ وجل ـ منزه عن ذلك، فهو غني عن العالمين، وهو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، فليس بحاجة إلى أن يبقى له نسل، قال الله تعالى: {{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *اللَّهُ الصَمَدُ *لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ }} [الإخلاص] ، انظر إلى قوله: {{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ }}، بقي قسم ثالث أن يكون هناك تولد؛ لأن بعض الأشياء تتولد ولا تتوالد، تتولد بالعفونات، ولا تتوالد، فنفى ذلك بما هو أعم منه بقوله: {{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ *}}، وقال الله ـ تبارك وتعالى ـ: {{أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ}} [الأنعام: 101] .
فالحاصل أن الذي يتخذ لله صاحبة يكون كافراً:
أولاً : لتكذيبه القرآن.
ثانياً : لتضمن إثباته الصاحبة لله تنقصاً لله ـ عزّ وجل ـ.
قوله: «أَوْ وَلَداً» كلمة «ولد» في اللغة العربية تشمل الذكر والأنثى، قال الله تعالى: {{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ}} [النساء: 11] ، وقال ـ سبحانه وتعالى ـ: {{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ}} [النساء: 176] ، يعني لا ذكر ولا أنثى، فقوله: «أو ولداً» ، كأن زعم أن لله ابناً، أو أن لله بنتاً، فهو كافر، ونقول في العلة: لأنه مكذب لله ـ عزّ وجل ـ، ولأنه واصف الله بما يقتضي النقص، قال الله تعالى: {{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ}} [المؤمنون: 91] ، وهذا يقول: إن لله ولداً، وهل أحد من الناس قال: إن لله ولداً؟ نعم، قالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، فصار اليهود والنصارى على حدٍّ سواء في اعتقادهم في ربهم، وقال المشركون: الملائكة بنات الله، قال تعالى: {{أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينِ }}، وقال: {{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا}} [الصافات: 158] ، ولهذا يجب علينا أن نبغض النصارى كما نبغض اليهود؛ لأن الكل أعداء الله عزّ وجل، الكل قال الله تعالى فيهم: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }} [المائدة:51] ، ومن قال: إن النصراني، أو اليهودي أخ لي فهو مثلهم، يكون مرتداً عن الإسلام؛ لأن هؤلاء ليسوا إخوة لنا، الأُخوَّة تكون بين المؤمنين بعضهم لبعض {{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}} [الحجرات: 10] ، أما هؤلاء فليسوا إخوة لنا، فإذا قال قائل: إنهم إخوة لنا في الإنسانية، قلنا: لكن هؤلاء كفروا بالإنسانية، ولو كان عندهم إنسانية لكان أول من يعظمون خالقهم ـ عزّ وجل ـ، وربهم الذي بعث إليهم الرسل، وأنزل إليهم الكتب، وحتى رسلهم بشرت بمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ، قال الله تعالى: {{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ}} [الأعراف: 157] ، وقد نقل الشيخ محمد رشيد رضا ـ رحمه الله ـ في سورة الأعراف على هذا الموضع نصوصاً كثيرة، تدل على أن محمداً ـ عليه الصلاة والسلام ـ مكتوب في التوراة والإنجيل، وهي نصوص نافعة ملزمة لهؤلاء النصارى واليهود الذين أنكروا نبوة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى عموم الناس، وقالوا: إن محمداً مرسل إلى العرب فقط، وهم كاذبون فيما قالوا، فهو مرسل إلى جميع الخلق، ونقول لهم: إذا أقررتم أنه رسول فقد قامت عليكم الحجة، وأقررتم بعموم رسالته، فأنتم إذا قلتم: إنه رسول إلى العرب فإنكم قد أقررتم بعموم رسالته إلى الخلق؛ وذلك لأنكم إذا قلتم: إنه رسول لزم من ذلك أن يكون صادقاً، وإلا لم يكن رسولاً، فإذا كان صادقاً فقد قال هو: {{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}} [الأعراف: 158] وقال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «وبعثت إلى الناس كافة» [(228)].
قوله: «أَوْ جَحَدَ بَعْضَ كُتُبِهِ» سواء كان بعضاً من كتاب، أو بعضاً من كتب؛ مثلاً لو أنكر التوراة، وجحد أن الله أنزلها على موسى صلّى الله عليه وسلّم، كان كافراً؛ لأنه مكذب لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وإن أنكر أن الله أنزل الإنجيل على عيسى صلّى الله عليه وسلّم، نقول: هو كافر أيضاً، أو أنكر أن الله أنزل القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلّم نقول: هو كافر، أو أنكر أن شيئاً من القرآن نزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم فهو كافر أيضاً، وإن أنكر شيئاً من الكتب السابقة بناء على أنه محرف، مثل أن يجد في الكتب التي في أيديهم أن محمداً رسول إلى العرب فقط، وقال: هذا ليس في التوراة، ولا في الإنجيل، فهذا لا يكفر؛ لأن هذا كذب قطعاً، فإنه ليس في التوراة، ولا في الإنجيل أن رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم خاصة بالعرب، بل كلها تدل على أنها عامة، فقوله: «بعض كتبه» أي: التي ثبت أنها من كتب الله عزّ وجل، فإذا أنكر بعضها فهو كافر.
فإذا قال قائل: لماذا لا نقول: إن هذا يتبعض، فإذا أنكر بعض الكتاب وآمن بالبعض، قلنا: هو مؤمن بما آمن به، وكافر بما كفر به، كما تقولون فيما إذا عمل معصية لا تصل إلى الكفر: كان مؤمناً بإيمانه، فاسقاً بكبيرته؟
فالجواب: هذا إيمان وليس بعمل، فالعمل يمكن أن يتبعض، لكن الإيمان لا يتبعض، بمعنى أن من أنكر شيئاً من الكتب فهو كإنكار الجميع، قال الله ـ تبارك وتعالى ـ منكراً على بني إسرائيل: {{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}} [البقرة: 85] ، وقال تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً *أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِيناً }} [النساء:151] فهؤلاء كفار حقاً، فـ {{حَقًّا}} مصدر مؤكّد لمضمون الجملة، وعامله محذوف وجوباً؛ لأن هذه الجملة هي معنى «حقاً»، ولا يمكن أن يجمع بين العوض والمعوض عنه، كما قال ابن مالك:
ومنه ما يدعــونه مؤكداً *** لنفـسه أو غيره فالمـبتدا
نحو: له علي ألف عـرفا *** والثانِ كابني أنت حقاً صرفا
وقوله: «أو جحد بعض كتبه» والذي نعرف من الكتب التوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم وموسى، والقرآن، هذه نعرفها بأعيانها، ولكن مع ذلك نؤمن بأن كل رسول معه كتاب، كما قال الله تعالى: {{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}} [البقرة: 213] ، وقال تعالى: {{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}} [الحديد: 25] لكن منها ما لا نعلمه، وإن كنا نعلم الرسل لكن لا نعلم الكتب التي أرسلت معهم، فالمهم أن من أنكر شيئاً من الكتب، أو أنكر بعضها فهو كافر.

أَوْ رُسُلِهِ ............
قوله: «أَوْ رُسُلِهِ» أي: جحد بعض رسله، وكذبهم فإنه يكون كافراً مرتداً عن الإسلام؛ لأن الواجب علينا أن نؤمن بجميع الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ما علمنا منهم وما لم نعلم {{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}} [غافر: 78] ، ومن لم يقصصهم الله علينا فإننا لا نعلمهم، فالواجب علينا أن نؤمن بالجميع {{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}} [البقرة: 285] يعني من حيث الإيمان، فنؤمن بهم جميعاً.
والرسل أولهم نوح وآخرهم محمد صلّى الله عليه وسلّم، أولهم نوح لقوله تعالى: {{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا }} [النساء:163] ، وهؤلاء النبيون رسل لقوله في آخر الآيات: {{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}} [النساء: 165] .
ودليل من السنة أن الناس يأتون نوحاً يوم القيامة لطلب الشفاعة فيقولون له في جملة ما يقولون: «أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض»[(229)].
فالأدلة على أن أول رسول أرسل إلى أهل الأرض هو نوح متعددة في القرآن، وفي السنة.
أما آخرهم فمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو آخر الرسل والأنبياء أيضاً، لقوله تعالى: {{وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}} [الأحزاب: 40] ، وتأمل لِمَ عدل عن أن يقول: وخاتم الرسل، مع أن الحديث في الرسل؛ بل قال: {{وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}} ليتبين أنه لن يأتي بعده لا نبي ولا رسول، فمن ادعى النبوة بعد الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإنه كافر؛ لأنه مكذب للقرآن، ويدل على هذا ـ أيضاً ـ قوله تعالى: {{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }} [الأنبياء:107] ، وقوله: {{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}} [الأعراف: 158] ، وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على أنه رسول إلى يوم القيامة، وهذا يدل على أن الناس لا يحتاجون بعده إلى نبي ولا رسول؛ لأن شريعته ستبقى، ومن ثم قال الله ـ عزّ وجل ـ: {{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }} [الحجر:9] فهؤلاء الرسل يجب علينا أن نؤمن بأعيانهم مَنْ علمنا منهم، ومَنْ لم نعلم، فإننا نؤمن بهم على سبيل الإجمال والعموم، ثم إن الإيمان بالكتب، والرسل ينقسم إلى قسمين:
الأول: الأمور الخبرية، فيجب الإيمان بها وتصديقها بدون تفصيل، كل ما جاء، أو كل ما صح من الكتب السابقة، أو عن الرسل السابقين من خبر فإنه يجب علينا أن نصدق به، جملةً وتفصيلاً؛ لأن الخبر لا يمكن أن ينسخ، فما أخبرت به الرسل من قبل، أو الكتب لا يمكن أن ينسخ؛ لأنه خبر عن الله عزّ وجل، وخبر الله ـ سبحانه وتعالى ـ لا يمكن أن ينسخ؛ لأنه لو جاز نسخ الخبر لكان أحد الخبرين كذباً، والكذب محال، اللهم إلا أن يأتي طلب بلفظ الخبر فقد ينسخ؛ لأنه حينئذٍ يكون طلباً، ومعلوم أنه في بعض الأحيان تأتي الصيغة الخبرية مراداً بها الطلب.
الثاني: الأحكام التي في الكتب السابقة، وعند الرسل السابقين، فإن هذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما جاءت شريعتنا بتقريره، فهذا يجب الإيمان به؛ لأن شريعتنا قررته وحكمت به فنؤمن به؛ لأن توجُّه الطلب به من جهتين: من جهة الشريعة الإسلامية، ومن جهة الشريعة السابقة.
الثاني: ما جاءت شريعتنا بخلافه، ونسخته، فلا يجوز العمل به؛ لأنه منسوخ، وما نسخه الله ـ عزّ وجل ـ فإنه قد انتهى حكمه، حتى المنسوخ في شريعتنا لا يجوز العمل به؛ لأن الله ـ تعالى ـ أنهاه، فلا يجوز أن نتعبد لله ـ تعالى ـ بما لم يرتضِ الله سبحانه وتعالى أن يبقى لنا شرعاً.
الثالث: ما لم يرد شرعنا بخلافه، ولا وفاقه، وهذا محل خلاف بين العلماء، هل هو شرع لنا أم لا؟ فمنهم من قال: إنه ليس بشرع؛ لأن الأصل أن شريعتنا نسخت ما سبقها، فلا يبقى ما سبقها شرعاً، إلا ما أيدته وقررته.
ومنهم من قال: إنه شرع لنا، وهذا القول هو الراجح، بل المتعين؛ لأن الله ـ عزّ وجل ـ يقول لما ذكر الرسل: {{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}} [الأنعام: 90] ، وهذا عام، وقال ـ عزّ وجل ـ: {{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُِوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى}} [يوسف: 111] ، ولكن هل هو شرع بالتشريع السابق، أو بالتشريع اللاحق؟ الجواب: أنه شرع بالتشريع اللاحق؛ لأننا استدللنا على أنه مقرر بأدلة من كتاب الله، وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وحينئذٍ يكون الفرق بينه وبين القسم الأول، أن الأول نصت الشريعة عليه بعينه، وهذا ذكرته على سبيل الإجمال.

  #6  
قديم 11 ربيع الثاني 1432هـ/16-03-2011م, 04:33 PM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 6,511
افتراضي تابع الشرح الممتع على زاد المستقنع / للشيخ ابن عثيمين رحمه الله


أَوْ سَبَّ اللهَ أَوْ رَسُولَهُ فَقَدْ كَفَرَ، ......................
قوله: «أَوْ سَبَّ اللهَ» أي: وصفه بالعيب، وأعظم السب أن يلعن الله ـ والعياذ بالله ـ أو يعترض على أحكامه الكونية، أو الشرعية بالعيب، ولو على سبيل اللمز والتعريض، حتى لو كان تعريضاً فإنه يكفر؛ لأن هذا امتهان لمقام الربوبية، وهو أمر عظيم، فمن سب الله، سواء بالقول أم بالإشارة، وسواء كان جادّاً أم هازلاً، بل سَبُّ الله هازلاً أعظم وأكبر، فإنه يكون كافراً لقول الله تعالى: {{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *}{لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}} [التوبة: 65، 66] ، ولأن سب الله ـ عزّ وجل ـ تنقُّص له فيكون خسراناً، فكل من تنقَّص الله بقوله، أو فعله، أو قلبه فهو كافر؛ لأن الإيمان إيمان بالله عزّ وجل، وبما له من الصفات الكاملة، والربوبية التامة، فإذا سب الله فإنه يكون كافراً، حتى وإن قال: إنما قلت ذلك هازلاً لا جادّاً، نقول: هذا أقبح أن تجعل الله تعالى محل الهزء، والهزل، والسخرية.
قوله: «أَوْ رَسُولَهُ» كذلك إذا سب الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإنه كافر.
وقوله: «رسوله» ينبغي أن نجعلها من باب المفرد المضاف؛ حتى يشمل جميع الرسل، فمن سب أي رسول من الرسل فإنه كافر؛ لأن هذا ليس تنقُّصاً للرسول بشخصه، بل هو تنقُّص لرسالته، وهي الوحي، ويتضمن تنقصاً للذي أرسله؛ فسب الرسول سب لمن أرسله؛ لأنه لا شك أنه من النقص أن يُرسَل بشر إلى الخلق يستبيح دماءهم، وأموالهم، وذراريهم، وهو محل النقص، فهذا يعتبر سفهاً، ولهذا قال الله ـ عزّ وجل ـ: {{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}} [الأنعام: 124] ، فهو سبحانه وتعالى ما جعل الرسالة إلا فيمن هو أهل لها، وجدير بها؛ لما علم ـ سبحانه وتعالى ـ في سابق علمه أنه أهل لتحمل ما كلف به، وليس كل أحد يكون أهلاً للرسالة، ولهذا قال السفّاريني رحمه الله ـ أقوله مستشهداً لا مستدلاً ـ:
ولا تنـال رتـبة النـبوة *** بالكسب والتهذيب والفتوة
لكنها فضل من المولى الأجل *** لمن يشاء من خلقه إلى الأجل

فالحاصل أن سب الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ سب لمن أرسله، ومنافٍ لحقه الذي هو أوجب الحقوق البشرية، وحقه التعظيم، والإجلال، والتوقير، حتى إن الله ـ عزّ وجل ـ جعل من أسباب الرسالة، ومن حكمة الرسالة أن نؤمن بالله ورسوله، ونعزره ونوقره: {{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا *} {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}} [الفتح: 8، 9] ، فهذا ركن وأساس وحكمة من حكم إرسال الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ، ولا شك أن سبَّ النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع كونه تنقصاً له ولمن أرسله، فهو أيضاً تنقص لشريعته؛ ولهذا إذا سب أحد من الناس رجلاً فإن سبه ينعكس على منهاجه الذي انتهجه، ويكون نفس المنهاج الذي انتهجه عند الناس منقوصاً؛ لأنه سب من قام بهذا المنهج، فسب الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذاً تضمن ثلاثة أمور، كل واحد منها كفر: سب الله، وسب الرسول، وسب شريعته.
قوله: «فقد كَفَرَ» هذه الجملة جواب الشرط في قوله: «فمن أشرك بالله» والمراد كفر كفراً مخرجاً عن الملة، ولا نقول: إنه كفر كفراً دون كفر؛ لأن هذا الباب باب حكم المرتد، يعني الكافر كفراً مطلقاً.
ثم انتقل المؤلف لنوع آخر من أسباب الردة، وهو الجحد، ويدخل في الاعتقاد؛ لأن الجحد إن كان بالقلب فهو في الاعتقاد، وإن كان باللسان فهو من القول، فقال المؤلف:

وَمَنْ جَحَدَ تَحْرِيمَ الزِّنَا، أَوْ شَيْئاً مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الظاهِرَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا بِجَهْلٍ عُرِّفَ ذلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ لاَ يَجْهَلُهُ كَفَرَ.
قوله: «وَمَنْ جَحَدَ تَحْرِيمَ الزِّنَا، أَوْ شَيْئاً مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الظاهِرَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا بِجَهْلٍ عُرِّفَ ذلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ لاَ يَجْهَلُهُ كَفَرَ» إن جحد تحريم الزنا، بأن قال: الزنا حلال والعياذ بالله، فينظر إن كان جاهلاً لم يكفر، وإن كان عالماً كفر، لكن أي ميزان ندرك به أنه عالم، أو غير عالم؟ إذا كان ناشئاً بين المسلمين فإن هذا يقتضي أن يكون عالماً فيكفر، وإن كان حديث عهد بإسلام، أو ناشئاً ببادية بعيدة؛ لأن البادية والأعراب بعيدون عن معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم فإن هذا لا يكفر إذا أنكر تحريمه وادعى أنه جاهل، لكن إذا عُلِّم فأصر فهذا يكفر.
وقوله: «أَوْ شَيئاً مِنَ المُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ المُجْمَعِ عَلَيْهَا» مثل تحريم الربا، فقال: الربا حلال، يعني ما جحد تحريم نوع معين مما يجري فيه الخلاف بين العلماء، فمثلاً تفاحة بتفاحتين ربا عند الشافعي، وليست ربا عند الإمام أحمد، فلو قال: أصحاب الإمام أحمد: إن تفاحة بتفاحتين حلال لا يكفرون، لكن مراد المؤلف إذا أنكر تحريم الربا جملة، فهذا كافر بلا شك؛ لأن تحريم الربا نص في القرآن: {{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}} [البقرة: 275] فيكون جحد تحريمه تكذيباً لله ـ عزّ وجل ـ فيكون كافراً.
وتحريم الربا من حيث الجملة مجمع عليه إجماعاً قطعياً، فكل المسلمين يجمعون على أن الربا محرم، وأيضاً الخمر مجمع عليه إجماعاً قطعيّاً بين المسلمين، فإذا قال قائل: إن الخمر ليس بحرام فهو كافر، لكن بشرط أن يكون ناشئاً بين المسلمين، وعارفاً لأحكام الإسلام، أما لو فرض أنه أسلم حديثاً ولا يعلم، وهو في حال كفره يشرب الخمر، فوجدناه يشرب الخمر بعد إسلامه، فسألناه كيف تشرب الخمر؟! قال: الخمر حلال، فإن هذا لا يكفر؛ لأنه جاهل، وجاحد التحريم إذا كان جاهلاً به فإنه لا يكفر، ولهذا قيده المؤلف بقوله: «وإن كان مثله لا يجهله».
وقوله: «المحرمات الظاهرة» احترازاً من المحرمات الخفية التي لا يطلع على تحريمها إلا العلماء، فإن هذه لا يكفر منكر تحريمها؛ لأن الناس عامتهم يجهلونها.
قال العلماء أيضاً: «أو أنكر تحليل المحللات الظاهرة المجمع عليها فإنه يكون كافراً، مثل حل الخبز، أو بيض الدجاج.
قال صاحب الإقناع[(230)]: قال الشيخ ـ أي: شيخ الإسلام ابن تيمية ـ فصاحب الإقناع إذا قال: الشيخ، فهو شيخ الإسلام ابن تيمية، كما ذكر ذلك في أول كتابه، لكن إذا رأيت الشيخ في الإنصاف أو الفروع أو التنقيح فالمراد به الموفق[(231)]، فقال ـ رحمه الله ـ: باب حكم المرتد، وهو الذي يكفر بعد إسلامه، ولو مميزاً طوعاً، ولو هازلاً.
فقوله: «طوعاً» احترازاً مما إذا أكره، فإذا أكره على الكفر فكَفَر، فإن فعله لداعي الإكراه ـ أي: دفعاً للإكراه ـ فلا يكفر لقوله تعالى: {{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }} [النحل:106] ، وأما إذا فعله لا لداعي الإكراه، لكنه لما أكره كفر، وليس في قلبه تلك الساعة أنه يريد بذلك مدافعة الإكراه، فقد اختلف العلماء هل يكفر أو لا؟ والصحيح أنه لا يكفر؛ وذلك لأنه غير مريد لذلك، ولا مختار له، وعموم الآية يشمل هذا.
أما إذا فعله مطمئناً بذلك، وقال في نفسه: لما أكرهت على الكفر كفرت، فلا شك أنه يكفر؛ لأن قلبه حينئذٍ غير مطمئن بالإيمان.
فصار المكره له ثلاث حالات:
إما أن يفعل ذلك لدفع الإكراه، فهذا لا يكفر قولاً واحداً.
أو يفعل ذلك مطمئناً بما أكره عليه، فهذا يكفر قولاً واحداً.
أو يفعله غير مطمئن، لكن لأنه مكره وهو لا يريد ذلك، فهذا فيه خلاف، والصحيح أنه لا يكفر.
وكذلك نقول في مسألة الإكراه على الطلاق وشبهه، وجامع ذلك أنه لا اختيار له، ولا إرادة له، وهو يحب أن تنطبق عليه السماء، ولا يكفر.
وقوله: «ولو هازلاً» يعني ولو مازحاً، بل قد يكون الهازل أعظم من الجاد؛ لأنه جمع بين الكفر والهزء بالله عزّ وجل، فمن سخر بالدين، وقال: أنا ما قصدت إلا المزح والضحك، قلنا: إنك كفرت، وإذا كنت صادقاً فتب إلى الله عزّ وجل، واغتسل وعد إلى الإسلام، والتوبة تَجُبُّ ما قبلها.
قال صاحب الإقناع: «أو جحد الملائكة» لو جحد الملائكة فهو كافر، أو جحد الجن، فهو ـ أيضاً ـ كافر؛ لأنه مكذب للقرآن، فأما من جحد دخول الجني في الإنس فهو ضال، وليس بكافر فهو ضال؛ لأنه قال قولاً ينكره الواقع، وينكره الثابت بالأخبار عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ، وعن غيره، وفي حديث الصبي الذي جاءت به أمه إلى النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهو يُصرَع، فقال الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ للجن الذي فيه: «اخرج عدو الله، فإني رسول الله» ، فخرج الجني من هذا الصبي، فلما رجع ـ عليه الصلاة والسلام ـ من غزوته، وكان قد قال لأمه: أخبريني عن شأنه، وجد أمه قد أعدت للنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ شاة، وسمناً، وأقِطاً، وأخبرته أن ولدها شُفي، ولم يعد إليه ذلك الجني، والحديث صحيح[(232)]، والأخبار كثيرة عن أئمة المسلمين وعلمائهم في ذلك فلا تنكر، وكان شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ يؤتى إليه بالمصروع، فيضربه، ويخاطب الجني، ويعاهده، فيخرج ولا يعود، وحكى عنه تلميذه ابن القيم أنه ـ رحمه الله ـ جيء إليه برجل مصروع، فأُلقي بين يديه، فكلم الجنية التي صرعته، وقال لها: اخرجي، قالت: إني أحبه، قال: هو لا يحبك، قالت: إني أريد أن أحج به، قال: هو لا يحب أن يحج معك، ثم جعل يعظها، وأبت أن تخرج، فجعل يضرب الرجل على رقبته حتى كَلَّت يد شيخ الإسلام فخرجت، لكنها قالت: أخرج كرامة للشيخ، قال: لا، اخرجي طاعة لله ورسوله، فخرجت، فلما أفاق الرجل قال: ما الذي جاء بي إلى حضرة الشيخ، فقيل له: ما أحسست بهذا الضرب؟ قال: لا والله ما أحسست به!!
انظر كيف يقع الضرب من الصارع، ولا يحس المصروع!! وهذه المسألة لا ينكرها أحد أبداً؛ لأن الشيء المعلوم بالحس إنكاره يكون مكابرة، وضلالاً، وقد أنكر بعض الناس هذا الأمر خاصة من المعاصرين.
قال الشيخ: «أو كان مبغضاً لرسوله، أو لما جاء به، اتفاقاً، وقال: أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم، ويدعوهم، ويسألهم إجماعاً.اهـ».
فالذي يجعل وسائط يتوكل عليهم من دون الله، أو مع الله، أو يدعوهم، أو يستغيث بهم، فهذا كافر بإجماع المسلمين، وسبحان الله أن يكون هذا بإجماع المسلمين ويوجد في الأمة الإسلامية الآن عامة كثيرة يدعون القبور، ومن يزعمونهم أولياء، ويستغيثون بهم، ويتوكلون عليهم أيضاً!!
قال صاحب الإقناع: «أو سجد لصنم، أو شمس، أو قمر، أو أتى بقول، أو فعل صريح في الاستهزاء بالدين»، فلو أتى بفعل، أو قول غير صريح فإننا لا نكفره؛ لأن الأصل بقاء الإسلام، ولا نخرجه من الإسلام إلا بدليل بيِّن، فالذي يحتمل التأويل لا يكفر به، لكن إذا كان صريحاً في الاستهزاء، سواء كان بالفعل، بأن كان يحكي الصلاة بركوعها، وسجودها، وقيامها، وقعودها، متهكماً فهذا يكفر.
قال: «أو وُجِدَ منه امتهان القرآن، أو طلب تناقضه، أو ادَّعى أنه مختلف، أو مختلَق، أو مقدور على مثله، أو إسقاط لحرمته» الذي يعلم منه امتهان القرآن، كما لو ألقاه في الزبالة، أو الكنيف، أو وطئ عليه ـ نسأل الله العافية ـ فهذا كفر؛ أو طلب تناقضه، أو ادعى أن فيه تناقضاً، أو اختلافَه، أو اختلاقَه ـ أي: أنه كذب ـ فكل هذا كفر؛ لأن القرآن كلام الله رب العالمين، فأي عيب تسلطه على هذا الكلام العظيم، فإنك مسلطه على من تكلم به، فيكون أيُّ عيب، أو امتهان، أو طلب تناقض، أو فساد، أو ما أشبه ذلك، مما يكون قدحاً في القرآن، فإنه يكون قدحاً في الله تعالى، وبهذا نعلم عظمة هذا القرآن العظيم الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، ووالله لولا كثرة المصاحف عندنا لكان الإنسان يطلبه بآلاف الدنانير، كما يوجد الآن في بعض البلاد الإسلامية، فإن بعض الناس يتقاتلون على نسخة من المصحف مقاتلة، وبعضهم يأخذ المصحف وينسخه بيده، وحُقَّ أن يُفعل به ذلك، فإن هذا القرآن كلام الله رب العالمين، فلا كلام أعظم منه، ولا أشد منه حرمة في وجوب العمل به وتنفيذ أحكامه، والتصديق بأخباره.
قال: «أو إسقاط لحرمته، أو أنكر الإسلام، أو الشهادتين، أو أحدهما كفر، لا من حكى كفراً سمعه، ولا يعتقده» فلو قال: قال فلان: كذا وكذا، فهذا لا يعتقده، فإن كان يعتقده لكن حكاه تستراً، مثل ما قيل: إن عبد الله بن أُبي كان يحكي الإفك لا ينسبه إلى نفسه، لكنه يعتقده، أي يحب أن يصدر منه، ولو أن أحداً جاء بكلمة كفرية، وليكن أمام شباب يشككهم في الدين الإسلامي، وقال: قال فلان ابن فلان ونسبه إلى غيره، لكن هو يعتقده، فهذا كافر بلا شك في الباطن، أما ظاهراً فلا نكفره؛ لأنه نسبه إلى غيره، وهذا يوجد ـ والعياذ بالله ـ من بعض الزنادقة الذين يتسمَّوْن بالإسلام، يأتون بأشياء تشكك، لكن لا يقولون: نقول، بل يقولون: لو قيل، أو قال فلان، أو أشكل عليَّ كذا.
قال: «أو نطق بكلمة الكفر، ولم يعلم معناها، ولا من جرى على لسانه سبقاً من غير قصدٍ، لشدَّة فرح، أو دهش، أو غير ذلك» ودليل ذلك، الرجل الذي ضاعت ناقته، وبحث عنها، ولم يجدها، فنام تحت شجرة، فلما استيقظ إذا بخطام ناقته متعلقاً بالشجرة، ففرح فرحاً شديداً عظيماً، فأمسك بخطام الناقة وقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك[(233)].
فإذاً كما قال شيخ الإسلام: من قال كلمة الكفر لا يعتقد معناها، ولكن قالها لشدة الفرح، أو الذهول، أو ما أشبه ذلك، أو سبق لسان، كما يقع في بعض الأحيان، فإن هذا لا يضر، والحمد لله.
قال: «كقول من أراد أن يقول: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، ومن أطلق الشارع كفره فهو كفر دون كفر، لا يخرج به عن الإسلام، كدعواه لغير أبيه، وكمن أتى عرافاً فصدقه بما يقول، فهو تشديد وكفر، لا يخرج به عن الإسلام» هذا ليس على إطلاقه، بل فيه تفصيل؛ لأن هذا لا شك أنه عمل كفر، لكن ليس بكفر مخرج من الملة، اللهم إلا أن يقترن به ما يقتضي الكفر، كتصديق الكاهن بعلم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وما أشبه ذلك، فهذا يكون كفراً لا من هذه الناحية، لكن من ناحية أخرى.
قال: «وإن أتى بقول يخرجه عن الإسلام، مثل أن يقول: هو يهودي، أو نصراني، أو مجوسي، أو بريءٌ من الإسلام، أو القرآن، أو النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ، أو يعبد الصليب، ونحو ذلك على ما ذكروه في الأيمان» فمن قال شيئاً من ذلك فهو كافر مرتد، نأخذه بقوله هذا، فإن قال: ما أردت، فإن وجدت قرينة تدل على صدقه تركناه، وإن لم يوجد فإننا نقتله، إلا أن يتوب.
قال: «أو قذف النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو أمَّه» وكذلك زوجاته على القول الراجح «أو اعتقد قِدَمَ العالَمِ».
هذه المسألة فيها نزاع طويل، وهل العالَم قديم بالذات، أو قديم بالنوع، أو قديم بالجنس؟ فيه خلاف، وأحسن ما نقول في هذا الخلاف: إنه لغو من القول، وأن الذي أدخله على الأمة الإسلامية هم الفلاسفة، ومن ظاهرهم من المتفلسفة من علماء المسلمين، وإلا فالرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأصحابه ما بحثوا في هذا، ولا تكلموا فيه، ونحن في غنى عن ذلك، فهذا لا يزيد الإنسان إلا خوضاً في الباطل، وربما يصل به إلى الشك والحيرة، كما وجد ذلك في كثير من العلماء الذين دخلوا في الفلسفة، وتورطوا فيها، فصاروا كالواقع في جُبٍّ، إن تحرك نزل وإن سكن نزل.
قال: «أو حدوث الصانع» فإذا قال: إن الله حادث بعد أن لم يكن ـ تعالى الله ـ فإنه يكفر؛ لأن الله يقول: {{هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ}} [الحديد: 3] ويقول: {{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}} [الحديد: 4] فهو خالق، وما سواه مخلوق.
قال: «أو سخر بوعد الله، أو بوعيده، أو لم يكفِّر من دان بغير الإسلام، كالنصارى، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم».
هذه مسألة خطيرة، إذا لم يكفِّر من دان بغير الإسلام فهو كافر، فهناك أناس جهال سفهاء، يقولون: إنه لا يجوز أن نكفر اليهود والنصارى، فكيف لا تكفرهم، وهم الذين يصفون ربك بكل عيب؟!
وكيف لا تكفر من قال: إن ربك ثالث ثلاثة؟!
ولماذا لا تكفر من يقول: إن ربك له أبناء؟!
ولماذا لا تكفر من يقول: إن يدي ربك مغلولة؟!
ولماذا لا تكفر من يقول: إن الله فقير؟!
إذا قالوا هذا، قلنا: أنتم كفار، ولا شك في كفر من شك في كفركم، ولا أحد يشك في أن اليهود والنصارى والمجوس والوثنيين كلهم كفار، ولو قالوا: آمنا بالله، نقول: كذبتم، أنتم كافرون بالله العظيم وبرسله، والواجب علينا أن نصيح بهم صيحة، تملأ آذانهم بأنهم كفار، وأن نتبرأ منهم براءة الذئب من دم يوسف، أما أن نداهنهم، ونصانعهم، ونقول لهم: أنتم إخواننا في الدين، أنتم على دين سماوي، ونحن على دين سماوي، وما الخلاف بيننا وبينكم إلا كالخلاف بين الإمام أحمد والشافعي ـ نسأل الله العافية ـ فهذا عين الكفر، وقد حُدِّثتُ أن بعض القائمين على اتحادات في بلاد الغرب يقولون مثل هذا القول، وأنا أشهدكم أننا منهم بريئون ما داموا يقولون بهذا القول، بل إن دين الإسلام منهم بريء، وأنهم يجب عليهم أن يتوبوا إلى الله ـ عزّ وجل ـ ويرجعوا إلى دينهم، ويقولوا قولاً يفخرون به، وهو: أننا نكفر كل من كفره الله عزّ وجل، والأمر ليس إلينا ولا إليهم، الأمر إلى الله، فمن كفَّره الله فهو كافر، ومن لم يكفره الله فليس بكافر، فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ يقول: إن الذي لا يكفِّر من دان بغير الإسلام فهو كافر، وصدق رحمه الله؛ لأنه إذا لم يكفره فإن قوله يستلزم أن يقبل الله دينه، وهذا يستلزم تكذيب قول الله ـ عزّ وجل ـ: {{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ *}} [آل عمران] ، وقوله تعالى: {{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ}} [آل عمران: 19] فقط، لا غير.
قال: «أو قال قولاً يتوصل به إلى تضليل الأمة، أو تكفير الصحابة فهو كافر»، و«قال الشيخ (شيخ الإسلام): من اعتقد أن الكنائس بيوت الله، وأن الله يُعبد فيها، وأن ما يفعل اليهود والنصارى عبادة لله، وطاعة له، ولرسوله، أو أنه يحب ذلك ويرضاه، أو أعانهم على فتحها، وإقامة دينهم، وأن ذلك قربة، أو طاعة فهو كافر» وكثير من الناس مبتلى بهذا اليوم، يعتقدون أن الكنائس بيوت الله، وأنها محل عبادته وطاعته، وأن هؤلاء الذين يزعمون أنهم يتقربون إلى الله بها هم متقربون إليه، وهذا كفر.
فالمسألة خطيرة؛ لأن دين الإسلام واحد، فالدين الذي ارتضاه الله لعباده هو الدين الذي جاء به محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فما عدا ذلك فليس بدين، وإن اتخذه أصحابه ديناً، لكنه دين يعبد به الشيطان، أما الرحمن فكلا والله.
وقال في موضع آخر: «من اعتقد أن زيارة أهل الذمة كنائسَهم قربة إلى الله فهو مرتد، وإن جهل أن ذلك محرم عُرّف ذلك، فإن أصر صار مرتداً، وقال: قول القائل: «ما ثَمَّ إلا الله» إن أراد ما يقوله أهل الاتحاد، من أن ما ثَمَّ موجود إلا الله، ويقولون: إن وجود الخالق هو وجود المخلوق، والخالق هو المخلوق، والمخلوق هو الخالق، والعبد هو الرب، والرب هو العبد، ونحو ذلك من المعاني، وكذلك الذين يقولون: إن الله تعالى بذاته في كل مكان، ويجعلونه مختلطاً بالمخلوقات، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل».
وقال: «من اعتقد أن لأحد طريقاً إلى الله من غير متابعة محمد صلّى الله عليه وسلّم، أو لا يجب عليه اتباعه، وأن له، أو لغيره خروجاً عن اتباعه، وأَخْذِ ما بُعث به، أو قال: أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر، دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة، أو قال: إن من الأولياء من يسعه الخروج من شريعته، كما وسع الخَضِرَ الخروجُ عن شريعة موسى، أو إن هُدى غير النبي صلّى الله عليه وسلّم أكمل من هديه فهو كافر» كل هذا قد قيل به، وشيخ الإسلام يرى أنه كافر، فمن زعم ذلك كان كافراً مرتداً، بل إن من زعم أن هناك هدياً مساوياً لهدي النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو كافر.
قال: «من ظن أن قوله تعالى: {{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}} بمعنى قَدَّر، فإن الله ما قدَّر شيئاً إلا وقع، وجعل عُبَّادَ الأصنام ما عبدوا إلا الله، فإن هذا من أعظم الناس كفراً بالكتب كلها» أي: قال: قضى ربك قضاء كونياً ألا نعبد إلا الله فلازم ذلك أن كل شيء نعبده فهو الله؛ لأن الله قضاه قضاء كونياً، والقضاء الكوني لا يتخلف، فمعنى ذلك أن كل ما عبدناه فهو مقضيٌّ، ونحن لا نعبد إلا الله، فيقول شيخ الإسلام: هذا أعظم ما يكون من الكفر، وهو صحيح، ونحن نقول: {{وَقَضَى رَبُّكَ}} يعني قضاءً شرعيّاً ألا نعبد إلا الله، والقضاء الشرعي قد يتخلف.
قال: «من استحل الحشيشة كفر بلا نزاع» الحشيشة شيء يؤكل ويسكر، فمن يقول: هو حلال يكفر بلا نزاع، مثل من استحل الخمر.
وقال: «لا يجوز أن يلعن التوراة، ومن أطلق لعنها يستتاب فإن تاب وإلا قتل» لأن التوراة كتاب منزل من عند الله، يجب علينا أن نؤمن به، لكن لا يجب علينا أن نؤمن أن ما في أيدي اليهود الآن هو التوراة التي أنزلت على موسى، لأن الله تعالى قال: {{قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا}} [الأنعام: 91] .
وأخبر الله تعالى عن أهل الكتاب أنهم {{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}} [المائدة: 13] فلا نثق بما في أيديهم من الكتب، ويدل لذلك ـ أيضاً ـ دلالة حسية أن هذه الكتب متناقضة، فالأناجيل والتلاميد التي في أيدي اليهود كلها متناقضة، ولو كانت من عند الله، فهل تتناقض؟! لا تتناقض، فكونها تتناقض تناقضاً جوهرياً يدل على أنها محرفة، مبدلة، لكننا نؤمن بأن الله أنزل على عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ كتاباً هو الإنجيل، وعلى موسى كتاباً هو التوراة، فيجب علينا أن نؤمن بها، ونقول: كل ما كان فيها من أخبار فهو صدق، وكل ما كان فيها من أحكام فهو عدل وحق، لكن طرأ عليها التحريف، والتغيير، فنحن لا نثق بما في أيدي اليهود والنصارى منها اليوم.
قال: «وإن كان ممن يعرف أنها منزَّلة من عند الله، وأنه يجب الإيمان بها، فهذا يقتل بشتمه لها، ولا تقبل توبته في أظهر قولي العلماء، وأما من لعن دين اليهود الذي هم عليه في هذا الزمان، فلا بأس عليه في ذلك، وكذلك إن سب التوراة التي عندهم بما يبيِّن أن قصده ذِكرُ تحريفها، مثل أن يقال: نُسَخُ هذه التوراة مبدلة، لا يجوز العمل بما فيها، ومن عمل اليوم بشرائعها المبدلة والمنسوخة فهو كافر، فهذا الكلام ونحوه حق لا شيء على قائله».

* * *
فصل
قال: و«قال الشيخ: ومن سب الصحابة، أو أحداً منهم، واقترن بسبه دعوى أن علياً إله، أو نبي، وأن جبريل غلط، فلا شك في كفر هذا، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره».
وماذا عن سبّ الصحابة رضي الله عنهم على سبيل العموم؟
الجواب: أن من سبهم على سبيل العموم يكفر أيضاً؛ لأن سب الصحابة رضي الله عنهم قدحٌ في الشريعة الإسلامية، إذ إن الشريعة الإسلامية ما جاءت إلا من طريقهم، وسب الصحابة ـ أيضاً ـ سب للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ؛ لأن رجلاً يكون أصحابه محل التنقص، والعيب، والسب لا خير فيه؛ لأن الإنسان على دين خليله، وكيف يمكن لرجل مؤمن أن يقول: إن محمداً ـ عليه الصلاة والسلام ـ صحابته من أخس عباد الله، وأظلم عباد الله، وأنهم طواغيت، وما أشبه ذلك؟!
وسب الصحابة يتضمن بالإضافة إلى ذلك سب الله ـ عزّ وجل ـ حيث اختار لنبيه ـ عليه الصلاة والسلام وهو أفضل الخلق عنده ـ مثل هؤلاء الرجال، ولأن الله أثنى عليهم فقال: {{لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}} [الحديد: 10] . ولذلك فسب الصحابة يتضمن أربعة محاذير:
سبهم، وسب النبي عليه الصلاة والسلام، وسب الشريعة الإسلامية، وسب الله عزّ وجل.
قال: «وكذلك من زعم أن القرآن نقص منه شيءٌ أو كُتم، أو أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة ونحو ذلك» وهذا قول القرامطة، والباطنية، ومنهم الناسخية، ولا خلاف في كفر هؤلاء كلهم.
قال الشيخ: ومن قذف عائشة ـ رضي الله عنها ـ بما برأها الله منه كفر بلا خلاف، ومن سب غيرها من أزواجه صلّى الله عليه وسلّم ففيه قولان:
أحدهما: أنه كَسَبِّ واحدٍ من الصحابة، والثاني وهو الصحيح: أنه كقذف عائشة رضي الله عنها»، وعلى هذا فإن من سب واحدة من أمهات المؤمنين يكون كافراً؛ لأن سبها قدحٌ في النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا سيما فيما يعود على دنس الفراش، وفساد الأخلاق، فإن هذا من أكبر الجرائم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعلى هذا فنقول: من سب عائشة ـ رضي الله عنها ـ أو غيرها من زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم فإنه يكفر على القول الراجح.
وأما سب الصحابة جميعاً فظاهر كلام الشيخ أنه لا يكفر، إلا إذا اقترن به دعوى أن علياً إله، أو نبي، أو أن جبريل غلط، ولكن هذا فيما يظهر غير مراد؛ لأن دعوى أن علياً إله، أو نبي، أو أن جبريل غلط فأوصل الرسالة إلى محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ بدلاً عن علي، فهذا بمجرده يكون كافراً، سواء سب الصحابة، أو لم يسبهم.
قال: «وأما من سبَّهم سبّاً لا يقدح في عدالتهم، ولا دينهم، مثل مَنْ وصف بعضهم ببخل، أو جبن، أو قلة علم، أو عدم زهد، ونحوه، فهذا يستحق التأديب، والتعزير، ولا يكفرُ، وأما من لعن وقبَّح مطلقاً فهذا محل خلاف، أعني هل يكفر، أو يفسق؟ توقف أحمد في كفره وقتله، وقال: يعاقب، ويجلد ويحبس حتى يموت، أو يرجع عن ذلك، وهذا المشهور من مذهب مالك، وقيل: يكفر إن استحله، والمذهب يعزر كما تقدم أول باب التعزير».
قوله: «إن استحله» المعروف أن الذين يسبون الصحابة يستحلون ذلك، بل يرون أن سبهم دينٌ، وأنه يجب أن يسبهم إلا نفراً قليلاً، وعلى هذا فيكون هؤلاء كفاراً؛ لأنهم يستحلون سب أصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم، بل يرونه ديناً، وعبادة، يتقربون به إلى الله، نسأل الله العافية.
قال: «وفي الفتاوى المصرية يستحق العقوبة البليغة باتفاق المسلمين، وتنازعوا هل يعاقب بالقتل، أو ما دون القتل؟ فقال: أما من جاوز ذلك، كمن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا نفراً قليلاً، لا يبلغون بضعة عشر، وأنهم فسقوا، فلا ريب ـ أيضاً ـ في كفر قائل ذلك، بل من شك في كفره فهو كافر ـ انتهى ملخصاً من الصارم المسلول ـ ومن أنكر أن يكون أبو بكر صَاحِبَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد كفر؛ لقوله تعالى: {{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ}} [التوبة: 40] ، وإن جحد وجوب العبادات الخمس، أو شيئاً منها، ومنها الطهارة، أو حِلَّ الخبز، واللَّحم، والماء، أو أحل الزنا، ونحوه، أو ترك الصلاة، أو شيئاً من المحرمات الظاهرة المجمع على تحريمها، كلحم الخنزير، والخمر، وأشباه ذلك، أو شك فيه، ومثله لا يجهله كَفَر، وإن استحل قتل المعصومين، وأخذ أموالهم بغير شبهة، ولا تأويل كَفَر.
وإن كان بتأويل كالخوارج لم يحكم بكفرهم مع استحلالهم دماء المسلمين، وأموالهم متقربين بذلك إلى الله تعالى، وتقدم في المحاربين،... ومن ترك شيئاً من العبادات الخمس تهاوناً، فإن عزم على ألا يفعله أبداً استتيب عارفٌ وجوباً كالمرتد، وإن كان جاهلاً عُرِّفَ، فإن أصرّ قُتل حدّاً، ولم يَكْفُر إلا بالصلاة إذا دعي إليها وامتنع، أو شرط، أو ركن مجمع عليه فيقتل كفراً وتقدم في كتاب الصلاة».
الأركان الخمسة في الإسلام منها ما تركه كفر بالإجماع، مثل شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإذا لم يشهد فإنه كافر بإجماع المسلمين، وأما بقية الأركان ففيها خلاف، فعن أحمد رواية أنه يكفر بترك ركن منها، سواء كان الصلاة، أو الزكاة، أو الصوم، أو الحج تهاوناً؛ لأنها كلها أركان، والشيء لا يتم بدون أركانه، ولكن الصحيح أنه لا يكفر إلا بترك الصلاة فقط ولو تهاوناً، وكسلاً.
واشتراط المؤلف أن يدعوه الإمام، أو أن يدعى إليها، هذا هو ما جرى عليه الفقهاء المتأخرون رحمهم الله، ولكن ليس في كتاب الله والسنة ما يدل على ذلك، بل هو كغيره يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافراً، ولا يشترط أن يدعوه الإمام، فإن فرض أنه مات قبل الاستتابة، فإنه فيما بينه وبين الله كافر مخلد في النار، أمَّا نحن فلا نحكم بكفره حتى يستتاب، ويصر على تركه للصلاة.
قال: «ومن شُفع عنده في رجل فقال: لو جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم يشفع فيه ما قبلت منه، إن تاب بعد القدرة عليه قتل لا قبلها» لأن قوله: «لو أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم ما قبلت» صريح في أنه سيعصي النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكن إذا علمنا أنه قال ذلك من باب المبالغة، يعني أن أغلى ما عندي، وأوجب من يجب عليَّ قبول شفاعته من الناس هو الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وعلى ذلك لو جاء ما قبلت شفاعته، فإنه إذا قالها من باب المبالغة فإنه لا يحكم بأنه يجب أن يستتاب، فهناك فرق بين من يقصد معناها، ويقول: لو جاء الرسول ما قبلت، وبين من يريد المبالغة؛ ولكن لو جاء الرسول فعلاً لكان يقبل، فهذا لا يظهر أنه يستتاب؛ لأنه لم يُرِدْ رَدَّ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم، بل أراد تعظيم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ.
قال: «ومن ارتد عن الإسلام من الرجال والنساء، وهو بالغ عاقل مختار دعي إليه ثلاثة أيام، وضيق عليه، وحبس، فإن تاب، وإلا قتل بالسيف؛ إلا رسول الكفار، إذا كان مرتداً بدليل رسولي مسيلمة، ولا يقتله إلا الإمام، أو نائبه حراً كان المرتد، أو عبداً، ولا يجوز أخذ فداء عنه، وإن قتله غيره بلا إذنه أساء وعُزِّر، ولم يضمن، سواءٌ قتله قبل الاستتابة أو بعدها، إلا إن يلحق بدار حرب فلكُلٍّ قتلُهُ وأخذُ ما معه من مال».
إذاً المرتد مباح الدم لقول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث؛ الثَّيِّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» [(234)]، ولكن ليس كل أحد يتمكن من قتله، بل قَتْلُهُ إلى الإمام، وبهذا نعرف أن الأمور الموكولة إلى ولاة الأمور لا يجوز التعدي فيها؛ لأنه يحصل بذلك فتنة وشر.
فلو أن أحداً رأى منكراً في السوق، وأراد أن يغيره بيده، فنقول: لا شك أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده» [(235)]، لكن إذا كان هذا مما يغيره ولاة الأمور، فإنه لا يجوز أن نفتات على ولي الأمر، ونعتدي على حقه، فنفعل نحن بأنفسنا؛ لأن هذا يترتب عليه مفاسد كثيرة أكبر من مصلحة تغييره، ويمكن أن يغير من طريق آخر، وهذه المسائل دقيقة ومهمة، فإن بعض الإخوة الغيورين على دين الله ـ عزّ وجل ـ قد يتجرؤون في مثل هذه الأمور، فيحصل من المفاسد أكثر مما يحصل من المصالح، فالأمور المنوطة بالمسؤولين ليس لنا أن نفتات عليهم، أما غير المنوطة بهم فنغير بأيدينا، وألسنتنا، وقلوبنا، فالمرتد كما قال المؤلف مباح الدم، ومع ذلك لو أن أحداً من الناس قتله فإن المؤلف يقول: يعزر القاتل مع أنه قتل شخصاً حلال الدم، لكن يعزر لافتياته على الإمام، إلا إذا لحق المرتد بدار الحرب، وهم الذين بيننا وبينهم حرب، فإنه حينئذٍ يجوز لكل واحد أن يقتله؛ لأنه صار في حكم هؤلاء المحاربين.
قال: «والطفل الذي لا يعقل، والمجنون، ومن زال عقله بنوم، أو إغماء، أو شرب دواء مباح لا تصح ردته، ولا إسلامه؛ لأنه لا حكم لكلامه، فإن ارتد وهو مجنون فقَتَلَهُ قاتل فعليه القود، وإن ارتد في صحته ثم جُنَّ لم يقتل في حال جنونه، فإذا أفاق استتيب ثلاثاً فإن تاب وإلا قتل»؛ لأنه قتل معصوماً عمداً وعدواناً.
وقوله: «أو شرب دواء مباح» أفادنا أنه إذا زال عقله بشيء محرم، كما لو شرب مسكراً متعمداً فإنه يؤاخذ بأقواله، فحكمه حكم الذي معه عقله، فإذا طلق وقع الطلاق، وإذا أقر بمال ثبت عليه ما أقر به، وإذا ارتد ثبت عليه حكم المرتد وقتل، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، والصحيح خلاف ذلك، وهو أن من شرب مسكراً مع التحريم فإنه لا يعزَّر بأكثر مما جاءت به الشريعة، وهو أن يجلد أربعين جلدة، أو ثمانين جلدة، أو أكثر حسب ما يكون به ردع الناس عن هذا الشراب المحرم، وأما أن نؤاخذه بأقواله، وأفعاله، وهو لا يعقل فلا يمكن.
واختلف العلماء في فعله، هل يؤاخذ به؟
والصواب أن فعله كفعل المخطئ، لا كفعل المتعمد، فلو قتل إنساناً لم يقتص منه؛ لأنه لا عقل له، ولكن تؤخذ منه الدية، إلا إذا علمنا أنه تناول المسكر لتنفيذ فعله فإنه يؤاخذ به، يعني لو فرضنا أن هذا الرجل يريد أن يقتل شخصاً، فقال: إن قتلته وأنا عاقل قتلوني به، ولكن أشرب مسكراً وأقتله، وأنا سكران، ففي هذه الحال نقول: إنه يقتل؛ لأنه سَكِرَ من أجل الوصول إلى العمل المحرم، والعبرة في الأمور بمقاصدها، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» [(236)].


[223] أخرجه الترمذي في الإيمان باب ما جاء سباب المسلم فسوق (2635)، والبيهقي في السنن الكبرى (15632).
[224] أخرجه البخاري في الإيمان/ باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر (48)، ومسلم في الإيمان/ باب بيان قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» (64) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[225] أخرجه مسلم في الإيمان باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة (82) عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ.
[226] أي: الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/400).
[227] أخرجه البخاري في الجمعة باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل (1145)، ومسلم في صلاة المسافرين باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه (758) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[228] أخرجه البخاري في الصلاة باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» (438)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (523)، واللفظ للبخاري.
[229] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء باب قوله تعالى: {{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا} ...} (3340)، ومسلم في الإيمان باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها (194) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[230] هو العلاّمة شرف الدين أبو النجا الحجاوي المتوفى عام 960هـ رحمه الله تعالى، وقد قرئ هذا الفصل من كتاب الإقناع، من باب حكم المرتد (4/297 ـ 301) ط. مكتبة الرياض الحديثة.
[231] هو العلاّمة موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المتوفى عام 620هـ رحمه الله تعالى.
[232] أخرجه الإمام أحمد (4/172)، والحاكم في المستدرك (2/617، 618) وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي عن يعلى بن مرة عن أبيه رضي الله عنه.
[233] أخرجه البخاري في الدعوات باب التوبة... (6308)، ومسلم في التوبة باب في الحض على التوبة والفرح بها (2747) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ.
[234] سبق تخريجه ص(41).
[235] أخرجه مسلم في الإيمان باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان... (49) عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ.
[236] رواه البخاري في بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (1)، ومسلم في الإمارة/ باب قوله: «إنما الأعمال بالنيات» (1907) عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
باب, حكم

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:03 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir