الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ عَنْ رَبِّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، سَوَاءً عَرَفْنَا مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ نَعْرِفْ؛ لِأَنَّهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ، فَمَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ الْإِيمَانُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ.
وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، مَعَ أَنَّ هَذَا الْبَابَ يُوجَدُ عَامَّتُه مَنْصُوصًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ سَلَفِ الْأُمَّةِ.
وَمَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ، نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، فَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَلْ وَلاَ لَهُ أَنْ يُوَافِقَ أَحَدًا عَلَى إِثْبَاتِ لَفْظٍ أَوْ نَفْيِهِ، حَتَّى يَعْرِفَ مُرَادَه، فَإِنْ أَرَادَ حَقًّا قُبِلَ، وَإِنْ أَرَادَ بَاطِلًا رُدَّ، وَإِنِ اشْتَمَلَ كَلاَمُه عَلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ لَمْ يُقْبَلْ مُطْلَقًا وَلَمْ يُرَدَّ جَمِيعُ مَعْنَاهُ، بَلْ يُوقَفُ اللَّفْظُ وَيُفَسَّرُ الْمَعْنَى، كَمَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَلَفْظُ " الْجِهَةِ " قَدْ يُرَادُ بِهِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ غَيْرُ اللَّهِ فَيَكُونُ مَخْلُوقًا، كَمَا إِذَا أُرِيدَ بِالْجِهَةِ نَفْسُ الْعَرْشِ أَوْ نَفْسُ السَّمَاوَاتِ. وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا إِذَا أُرِيدَ بِالْجِهَةِ مَا فَوْقَ الْعَالَمِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي النَّصِّ إِثْبَاتُ لَفْظِ " الْجِهَةِ " وَلاَ نَفْيُهُ، كَمَا فِيهِ إِثْبَاتُ " الْعُلُوِّ " وَ " الِاسْتِوَاءِ " وَ "الْفَوْقِيَّةِ" وَ" الْعُرُوجِ إِلَيْهِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ مَا ثَمَّ مَوْجُودٌ إِلاَّ الْخَالِقَ وَالْمَخْلُوقَ، وَالْخَالِقُ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ، وَلاَ فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ.
فَيُقَالُ لِمَنْ نَفَى الْجِهَةَ: أَتُرِيدُ بِالْجِهَةِ أَنَّهَا شَيْءٌ مَوْجُودٌ مَخْلُوقٌ، فَاللَّهُ لَيْسَ دَاخِلًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ، أَمْ تُرِيدُ بِالْجِهَةِ مَا وَرَاءَ الْعَالَمِ، فَلاَ رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَالَمِ، بَائِنٌ مِنَ المَخْلُوقَاتِ.
وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ فِي جِهَةٍ: أَتُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَالَمِ، أَوْ تُرِيدُ بِهِ أَنَّ اللَّهَ دَاخِلٌ فِي شَيْءٍ مِنَ المَخْلُوقَاتِ. فَإِنْ أَرَدْتَ الْأَوَّلَ فَهُوَ حَقٌّ، وَإِنْ أَرَدْتَ الثَّانِيَ فَهُوَ بَاطِلٌ.
وَكَذَلِكَ لَفْظُ "الْمُتَحَيِّزِ"، إِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ تَحُوزُهُ الْمَخْلُوقَاتُ فَاللَّهُ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ، بَلْ قَدْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاوَاتِ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ).
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: (وَإِنَّهُ لَيَدْحُوَهَا كَمَا يَدْحُو الصِّبْيَانُ بِالْكُرَةِ ) وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ إِلاَّ كَخَرْدَلَةٍ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ.
وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ مُنْحَازٌ عَنِ المَخْلُوقَاتِ، أَيْ: مُبَايِنٌ لَهَا، مُنْفَصِلٌ عَنْهَا، لَيْسَ حَالاّ فِيهَا. فَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ: فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ.