كذاكَ سَبْقُ خَبَرٍ مَا النَّافِيَهْ = فَجِئْ بِهَا مَتْلُوَّةً لاَ تَالِيَهْ ([1])
يعني: أنه لا يَجُوزُ أنْ يَتَقَدَّمَ الخبرُ على ما النافيةِ، ويَدْخُلُ تحتَ هذا قِسمانِ:
أحدُهما: ما كانَ النفيُ شرطاً في عملِه، نحوُ: (ما زالَ) وأَخَوَاتِها، فلا تقولُ: (قائماً ما زالَ زيدٌ)، وأجازَ ذلك ابنُ كَيْسَانَ والنَّحَّاسُ.
والثاني: ما لم يَكُنِ النفيُ شرطاً في عَمَلِهِ، نحوُ: (ما كانَ زيدٌ قائماً)، فلا تقولُ: (قائماً ما كانَ زيدٌ)، وأجازَه بَعْضُهم([2]).
ومفهومُ كلامِه أنه إذا كانَ النفيُ بغيرِ (ما) يَجُوزُ التقديمُ، فتقولُ: (قائماً لم يَزَلْ زيدٌ، ومُنْطَلِقاً لم يَكُنْ عمرٌو)، ومَنَعَهُما بعضُهم ([3]).
ومفهومُ كلامِهِ أيضاً جوازُ تقديمِ الخبرِ على الفعلِ وَحْدَهُ إذا كانَ النفيُ بما، نحوُ: (ما قائماً زالَ زيدٌ)، و(ما قائماً كانَ زيدٌ)، ومَنَعَه بعضُهم.
ومَنْعُ سَبْقِ خَبَرِ لَيْسَ اصْطُفِي = وذو تَمَامٍ ما بِرَفْعٍ يَكْتَفِي ([4])
وما سِوَاهُ نَاقِصٌ والنَّقْصُ في = فَتِئَ لَيْسَ زالَ دَائماً قُفِي ([5])
اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ في جوازِ تقديمِ خبرِ (ليسَ) عليها؛ فذَهَبَ الكُوفِيُّونَ والمُبَرِّدُ والزَّجَّاجُ وابنُ السَّرَّاجِ وأكثرُ المتأخِّرِينَ، ومِنهم المصنِّفُ - إلى المَنْعِ، وذَهَبَ أبو عليٍّ الفارسِيُّ وابنُ بَرْهَانَ إلى الجوازِ، فتقولُ: (قائماً ليسَ زيدٌ).
واخْتَلَفَ النقلُ عن سِيبَوَيْهِ؛ فنَسَبَ قومٌ إليه الجوازَ، وقومٌ المنعَ، ولم يَرِدْ مِن لِسانِ العربِ تَقَدُّمُ خبرِها عليها، وإنما وَرَدَ مِن لِسانِهم ما ظاهِرُه تَقَدُّمُ معمولِ خبرِها عليها؛ كقولِهِ تعالى: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ}. وبهذا اسْتَدَلَّ مَن أجازَ تقديمَ خبرِها عليها، وتقريرُه أنَّ (يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) معمولُ الخبرِ الذي هو (مصروفاً)، وقد تَقَدَّمَ على (ليسَ)، قالَ: ولا يَتَقَدَّمُ المعمولُ إلاَّ حيثُ يَتَقَدَّمُ العامِلُ ([6]).
([1])(كذاك) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرٌ مُقَدَّمٌ، (سَبْقُ) مبتدأٌ مُؤَخَّرٌ، وسبْقُ مضافٌ و(خبرٍ) مضافٌ إليه، وهو من جهةٍ أخرَى فاعلٌ لِسَبْقُ، (ما) مفعولٌ به لسَبْقُ، (النافية) صفةٌ لِمَا، (فجِئْ) فعلُ أمرٍ، وفاعلُه ضميرٌ مستَتِرٌ فيه وجوباً تقديرُه أنتَ، (بِهَا) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بجئْ، (مَتْلُوَّةً) حالٌ من الضميرِ المجرورِ مَحَلاًّ بالباءِ، (لا) عاطفةٌ، (تالِيَةْ) معطوفٌ على متلوةً.
([2])أصلُ هذا الخلافِ مبنيٌّ على خلافٍ آخرَ، وهو: هل تَسْتَوْجِبُ (ما) النافيةُ أنْ تكونَ في صدرِ الكلامِ؟ ذَهَبَ جمهورُ البصريينَ إلى أنها لا تَسْتَوْجِبُ التصديرَ؛ وعلى هذا أَجَازُوا أنْ يَتَقَدَّمَ خبرُ الناسخِ المنفيِّ بها عليها مُطْلَقاً، وَوَافَقَهُم ابنُ كَيْسَانَ والنَّحَّاسُ على جوازِ تقديمِ خبرِ الناسخِ عليها إذا كانَ من النواسخِ التي يُشْتَرَطُ فيها النفيُ؛ لأنَّ نَفْيَها حينَئذٍ إيجابٌ، فكأنه لم يَكُنْ، بخلافِ النوعِ الثاني.
([3])ذَكَرَ ابنُ مالِكٍ في (شرحِ التسهيلِ) أن الذي مَنَعَ ذلك هو الفَرَّاءُ، وهذا المَنْعُ مَرْدُودٌ بقولِ الشاعرِ:
مَهْ عَاذِلِي فَهَائِماً لَنْ أَبْرَحَا = بِمِثْلِ أَوْ أَحْسَنَ مِنْ شَمْسِ الضُّحَى
وقالَ ابنُ مالكٍ في (شرحِ الكافيةِ الشافيةِ): إنَّ ذلكَ جائزٌ عندَ الجميعِ.
([4])(ومَنْعُ) مبتدأٌ، ومنعُ مضافٌ و(سَبْقِ) مضافٌ إليه، وسَبْقِ مضافٌ و(خَبَرٍ) مضافٌ إليه من إضافةِ المصدرِ إلى فاعلِه، (ليسَ) قُصِدَ لفظُه: مفعولٌ به لِسَبْقِ، (اصْطُفِي) فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، ونائبُ الفاعلِ ضميرٌ مستَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ إلى مَنْعُ، والجملةُ في محلِّ رفعِ خبرِ المبتدأِ، (وَذُو) الواوُ للاستئنافِ، ذو: مبتدأٌ، وذو مضافٌ و(تمامٍ) مضافٌ إليه، (ما) اسمٌ موصولٌ خبرُ المبتدأِ، (بِرَفْعٍ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بيَكْتَفِي الآتي، (يَكْتَفِي) فعلٌ مضارِعٌ، وفاعلُه ضميرٌ مستترٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ على ما الموصولةِ، وجملةُ يَكْتَفِي وفاعلِه لا مَحَلَّ لها من الإعرابِ؛ صِلَةُ الموصولِ.
([5])(وما) اسمٌ موصولٌ مبتدأٌ، (سِوَاهُ) سِوَى: ظرفٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ صلةُ ما، وسِوَى مضافٌ والهاءُ مضافٌ إليه، (نَاقِصٌ) خبرُ المبتدأِ، (وَالنَّقْصُ) مبتدأٌ، (فِي فَتِئَ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بقولِهِ: (قُفِي) الآتي، (لَيْسَ، زَالَ) معطوفانِ على (فَتِئَ) بإسقاطِ حرفِ العطفِ، (دائماً) حالٌ من الضميرِ المستترِ في قولِهِ: (قُفِي) الآتي، (قُفِي) فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، ونائبُ الفاعلِ ضميرٌ مستترٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ على (النقصُ)، والجملةُ من قُفِي ونائبِ فاعلِه في محَلِّ رفعِ خبرِ المبتدأِ، وهو (النَّقْصُ). وتقديرُ البيتِ: وما سِوَى ذي التمامِ ناقصٌ، والنقصُ قُفِيَ ـ أي: اتُّبِعَ ـ حالَ كونِه مستمِرًّا في فَتِئَ، وليسَ، وزالَ.
([6])هذه القاعدةُ لَيْسَتْ مُطَّرِدَةً تمامَ الاطِّرَادِ، وإنْ كانَ العلماءُ قد اتَّخَذُوها دليلاً في كثيرٍ من المواطِنِ، وجَعَلُوها كالشيءِ المسلَّمِ به الذي لا يَتَطَرَّقُ إليه النقضُ، ونحنُ نَذْكُرُ لكَ عِدَّةَ مواضِعَ أَجَازُوا فيها تقديمَ المعمولِ، ولم يُجِيزُوا فيها تقدُّمَ العامِلِ:
الموضِعُ الأوَّلُ: إذا كانَ خبرُ المبتدأِ فعلاً، لم يُجِزِ البصريونَ تقديمَه على المبتدأِ؛ لئلاَّ يَلْتَبِسَ المبتدأُ بالفاعلِ، فلا يقولونَ: (ضَرَبَ زيدٌ) على أن يكونَ في ضرَبَ ضميرٌ مستترٌ، وجملتُه خبرٌ مُقَدَّمٌ، لكِنْ أجازوا تقديمَ معمولِ هذا الخبرِ على مبتدئِه في نحوِ: (عمرٌو ضَرَبَ زيداً) فيقولون: (زيداً عمرٌو ضَرَبَ).
الموضِعُ الثاني: خبرُ إنَّ ـ إنْ لم يَكُنْ ظرفاً أو جارًّا ومجروراً ـ لم يُجِيزُوا تقديمَه على اسمِها، فلا يقولونَ: (إنَّ جالسٌ زيداً)، وأجازوا تقديمَ معمولِهِ على الاسمِ، فيقولون: (إنَّ عندكَ زيداً جالسٌ).
الموضِعُ الثالثُ: الفعلُ المنفيُّ بلم أو لنْ ـ نحوُ: (لم أَضْرِبْ، ولنْ أَضْرِبَ) ـ لم يُجِيزُوا تقديمَه على النفيِ، وأجازوا تقديمَ معمولِه عليه، نحوُ: (زيداً لنْ أَضْرِبَ، وعَمْراً لم أُصَاحِبْ).
الموضِعُ الرابِعُ: الفعلُ الواقعُ بعدَ إمَّا الشرطيَّةِ لم يُجِيزُوا إيلاءَهُ لإمَّا، وأجازوا إيلاءَ معمولِه لها، نحوُ قولِهِ تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ}.
والغَرَضُ من القاعدةِ التي أَصْلُها هذا المستنَدُ: أنَّ الغالبَ والكثيرَ والأصلَ هو ألاَّ يَتَقَدَّمَ المعمولُ إلاَّ حيثُ يجوزُ أنْ يَتَقَدَّمَ العامِلُ فيه، فلا يَضُرُّ أنْ يجوزَ تقديمُ المعمولِ في بعضِ الأبوابِ لنُكْتَةٍ خاصَّةٍ به حيثُ لا يَتَقَدَّمَ عاملُه، ولكلِّ موضعٍ من المواضعِ الأربعةِ نُكتةٌ لا تَتَّسِعُ هذه العُجَالَةُ لِشَرْحِها.