المَجازُ العَقليُّ(1)
هو إسنادُ(2) الفعلِ(3) أو(4) ما في معناه(5) إلى غيرِ ما هو(6) له (7) عندَ المتكَلِّمِ(8) في الظاهرِ(1) لعَلاقةٍ(2)، نحوُ قولِه(1):
أَشَابَ الصغيرَ وأَفْنَى الكبيـ ..... رَ كَرُّ الغَداةِ ومَرُّ العَشِيْ(2)
فإنَّ إسنادَ الإشابةِ والإفناءِ إلى كَرِّ الغداةِ ومُرورِ العَشِىِّ إسنادٌ إلى غيرِ ما هو له(3)؛ إذ الْمُشيبُ والْمُفْنِي في الحقيقةِ(4) هو اللهُ
تعالى(5).
ومن المَجازِ العقليِّ إسنادُ ما بُنِيَ للفاعلِ إلى المفعولِ(6)، نحوُ: {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}(7).
وعكسُه(1)، نحوُ: سيْلٌ مُفْعَمٌ(2). والإسنادُ(3) إلى المصدرِ، نحوُ: جَدَّ جِدُّه(4). و إلى الزمانِ، نحوُ: نهارُه صائمٌ(5). و(6) إلى المكانِ(7)، نحوُ: نهرٌ جارٍ(8). و(9) إلى السببِ(10)، نحوُ: بَنَى الأميرُ المدينةَ(11).
يُعلَمُ مما سَبقَ أن المَجازَ اللغوِيَّ يكونُ في اللفظِ(12)، والمَجازَ العقليَّ يكونُ في الإسنادِ(13).
_____________________
(1) المَجازُ العقليُّ
هو قسيمُ المَجازِ اللُّغويِّ و.
(2) (هو إسنادُ) لفظِ.
(3) (الفعْلِ) الاصطلاحيِّ.
(4) (أو) إسنادُ.
(5) (ما في معناه) أي: لفظٍ دالٍ على معنى الفعلِ التَّضَمُّنِيِّ وهو الحدَثُ؛ لأنه الذي دَلَّ عليه جوهرُ لفظِ الفعلِ دونَ الزمانِ كاسمِ الفعْلِ والمصدرِ واسْمَي الفاعلِ والمفعولِ والصِّفَةِ المُشبَّهةِ واسمِ المنسوبِ وأمثلَةِ المبالَغةِ واسمِ التفضيلِ والظرْفِ والجارِّ والمجرورِ إذا كانا مُستَقرَّيْن لاستقرارِ معنى العامِلِ فيهما, لا إذا كانا لغْواً.
(6) (إلى غيرِ ما هو ) استَقرَّ.
(7) (له) أي: إلى شيءٍ مُغايِرٍ للشيءِ الذي حقُّ ذلك الفعلِ أو ما في معناه أن يُسنَدَ له. هذا قيْدٌ خرَجَ به الحقيقةُ العقليَّةُ فإنها إسنادُ الفعلِ أو ما في معناه إلى ما هو له يعني: أنَّ الفعلَ المبنيَّ للمعلومِ وما في حكْمِه كاسمِ الفاعلِ حقُّه أن يُسنَدَ إلى الفاعلِ لكونِ النسبةِ بطريقِ القيامِ مأخوذةً في مفهومِه, والفعلُ المبنيُّ للمجهولِ وما في حكمِه كاسمِ المفعولِ حقُّه أن يُسنَدَ إلى المفعولِ به لكونِ النسبةِ بطريقِ الوقوعِ عليه مأخوذةً في مفهومِه, فإذا أُسنِدَ الفعلُ في الأوَّلِ إلى فاعلِه, وفي الثاني إلى مفعولِه كان الإسنادُ إسناداً إلى ما هو له, ويُقالُ له: حقيقةٌ عقليَّةٌ. وأما إذا أُسنِدَ الفعلُ في الأوَّلِ غيرَ الفاعلِ من مفعولٍ ومصدرٍ وزمانٍ ومكانٍ وسببٍ لكونِه مُلابِساً له فصارَ ذلك الغيرُ في تَلبُّسِه به كالفاعلِ في مطلَقِ التلَبُّسِ يكونُ إسنادُ ذلك الفعلِ لذلك الغيرِ للملابَسةِ إسناداً إلى غيرِ ما هو له, ويُسَمَّى مَجازاً عقليًّا, وكذا الفعلُ في الثاني إذا أُسنِدَ إلى غيرِ المفعولِ به من فاعلٍ ومصدرٍ وأمثالِهما لشَبَهِه به في الملابَسةِ يكونُ إسنادُه إليه إسناداً إلى غيرِ ما هو له, ويُسَمَّى مَجازاً عقليًّا.
(8) (عندَ المتكلِّمِ) متعلِّقٌ بعامِلِ له المستَتِرِ الذي هو استَقرَّ, وكذا يَتعلَّقُ به قولُه.
(1) (في الظاهرِ) أي: ظاهرِ حالِ المتكلِّمِ أي: فيما يُفهَمُ من ظاهرِ حالِه، هذان القَيْدان زِيدَا لإفادةِ أنَّ المعتَبرَ في المَجازِ العقليِّ كونُ المسنَدِ إليه فيه غيرَ ما هو له عندَ المتكلِّمِ في الظاهرِ سواءٌ كان غيراً في الواقعِ أم لا، فشَمِلَ التعريفُ أقساماً أربعةً: الأوَّلُ: ما طابقَ الواقعَ والاعتقادَ معاً, كقولِ المؤمنِ: أنْبَتَ اللهُ البَقْلَ لمخاطِبٍ يَعتقدُ أن المتكلِّمَ يُضِيفُ الإنباتَ للربيعِ, وعَلِمَ المتكلِّمُ بذلك الاعتقادِ فيكونُ مَجازاً؛ لأن علْمَه باعتقادِ المخاطَبِ قرينةٌ صارفةٌ للإسنادِ عن ظاهرِه, والثاني: ما طابَقَ الواقعَ فقط كقولِ المعتزِليِّ: خلَقَ اللهُ الأفعالَ كلَّها لمن يَعْرِفُ حالَه, وهو يَعتقدُ أنَّ المخاطَبَ عالِمٌ بحالِه فيكونُ مَجازاً؛ لأن اعتقادَه أنَّ المخاطَبَ عالِمٌ بحالِه قرينةٌ صارفةٌ للإسنادِ عن ظاهرِه، والثالثُ ما طابَقَ الاعتقادَ فقط كقولِ الجاهلِ: أنْبَتَ الربيعُ البَقْلَ, والمخاطَبُ يَعتقدُ أن المتكلِّمَ يُضيفُ الإنباتَ للهِ, وعَلِمَ ذلك المتكلِّمُ باعتقادِه, فيكونُ مَجازاً؛ لأن علْمَه باعتقادِ المخاطَبِ قرينةٌ صارفةٌ للإسنادِ عن ظاهرِه, والرابعُ: ما لم يُطابِقْ واحداً منهما كقولِك: جاءَ زيدٌ وأنت تَعلمُ أنه لم يَجِئْ وأظْهَرْتَ للمخاطَبِ الكَذِبَ, ونَصبْتَ قرينةً على إرادةِ الكَذِبِ.
(2) (لعَلاقةٍ) أي: لملاحظةِ مناسَبةٍ مخصوصةٍ, وهي المشابَهةُ بينَ المسنَدِ إليه الحقيقيِّ والمسنَدِ إليه المَجازيِّ في الملابَسةِ, أي: في تَعلُّقِ الفعْلِ, أو في معناه بكلٍّ منهما وإن كانت جهةُ التعلُّقِ مختلِفةً, فالعَلاقةُ التي هي الملابَسةُ معتَبَرةٌ لابدَّ منها في كلِّ مَجازٍ عقليٍّ من حيث إنها جُعِلَتْ عِلَّةً دونَ غيرِها بدليلِ الاقتصارِ عليها في مقامِ البيانِ, ولكن هل يَكْفِي في جميعِ أفرادِ هذا المَجازِ كونُ العَلاقةِ مُطْلَقَ الملابَسةِ, أو لابدَّ أن تُبيَّنَ جهتُها بأن يقالَ: العَلاقةُ ملابَسةُ الفعلِ للفاعلِ المَجازيِّ من جهةِ وقوعِه عليه, أو فيه, أو به, وهذا هو الأقربُ كما قالوا في المَجازِ اللغويِّ: إنه لا يَكْفي أن يَجْعَلَ اللزومَ أو التعلُّقَ عَلاقةً, بل فرْداً منه, وكذا لابدَّ من قرينةٍ صارفةٍ عن أن يكونَ الإسنادُ لما هو له, وهي إما لفظيَّةٌ، كقولِ أبي النَّجْمِ:
مَيَّزَ عنه قُنْزُعاً عن قُنْزُعِ ..... جَذْبُ الليالي أَبْطئِي أو أَسْرِعِي
فإنَّ إسنادَ مَيَّزَ إلى جذْبِ الليالي مَجازٌ عقليٌّ, والقرينةُ عليه قولُه بعدَ أفناه قِيلُ اللهِ للشمسِ: اطْلُعِي, أي: إرادتُه تعالى, فإسنادُ الإفناءِ إلى إرادتِه تعالى يَدُلُّ على أن التمييزَ فعلُه تعالى، أو معنويَّةٌ كاستحالةِ قيامِ المسنَدِ بالمسنَدِ إليه المذكورِ في عبارةِ المتكلِّمِ على وجهِ البَداهةِ عقْلاً، نحوُ قولِك: محبَّتُكَ جاءتْ بي إليك. أصْلُه نفسي جاءتْ بي إليك لأجلِ المحبَّةِ فالمحبَّةُ سببٌ داعٍ إلى المجيءِ, لا فاعلَ له فإسنادُ المجيءِ إلى المحبَّةِ مَجازٌ لعَلاقةِ المشابَهةِ بينَ المحبَّةِ والنفسِ من حيث تَعلُّقُ المجيءِ بكلٍّ منهما, والقرينةُ استحالةُ قيامِه بها, أو عادةٌ نحوُ: هزَمَ الأميرُ الْجُندَ فإسنادُ هَزْمِ الجُنْدِ إلى الأميرِ مَجازٌ, والقرينةُ استحالةُ صدورِ الهزْمِ عنه وحدَه عادةً, وكصدورِ الإسنادِ من الموحِّدِ الذي يَعتقدُ أنَّ اللهَ واحدٌ.
(1) (نحوُ قولِه) أي: الصَّلَتَانُ العَبْدِيُّ الْحَمَاسيُّ.
(2) (أَشابَ الصغيرَ وأَفنَى الكبيرَ كَرُّ الغداةِ ومَرُّ العَشِيِّ) أي: كُرورُ الأيامِ ومرورُ الليالي تَجْعَلُ الصغيرَ كبيراً, والطفلَ شابًّا والشيخَ فانياً.
(3) (فإن إسنادَ الإشابةِ والإفناءِ إلى كَرِّ الغداةِ ومرورِ العَشيِّ إسنادٌ إلى غيرِ ما هو له) فيكونُ مَجازاً عقليًّا, هذا على فرْضِ علْمِ حالِ قائلِه, وأنه مؤمنٌ.
(4) (إذ الْمُشِيبُ والْمُفْنِي في الحقيقةِ) عندَ المؤمنِ.
(5) (هو اللهُ تعالى) لا غيرُه, والقرينةُ على ذلك صدورُه من المؤمنِ الموحِّدِ.
(6) (ومن المَجازِ العقليِّ إسنادُ ما بُنِيَ للفاعلِ إلى المفعولِ) به لكونِه واقعاً عليه.
(7) (نحوُ عيشةٍ راضيةٍ) فإسنادُ راضيةٍ وهو مَبْنِيٌّ للفاعلِ إلى الضميرِ المستترِ, أعني: ضميرَ العِيشةِ, وهو مفعولٌ به, مَجازٌ عقليٌّ ملابستُه المفعوليَّةُ, والقرينةُ الاستحالةُ العقليَّةُ، وأصلُ هذا التركيبِ عيشةٌ راضٍ صاحبُها, فالرضا كان بحسَبِ الأصلِ مسنَداً للفاعلِ الحقيقيِّ, وهو الصاحبُ, ثم حُذِفَ الفاعلُ وأُسْنِدَ الرضا إلى ضميرِ العيشةِ, وقيل: عيشةٌ رُضِيَتْ. لما بينَ الصاحبِ والعيشةِ من المشابَهةِ في تعلُّقِ الرضا بكلٍّ, وإن اختلَفَتْ جهةُ التعلُّقِ؛ لأن تعلُّقَه بالصاحبِ من حيث الحصولُ منه وبالعيشةِ من حيث وقوعُه عليها, فصارَ ضميرُ العيشةِ فاعلاً ثم اشتُقَّتْ من رُضِيَتْ راضيةٌ وأُسنِدتْ إلى المفعولِ.
(1) (وعكسُه) أي: إسنادُ ما بُنِيَ للمفعولِ إلى الفاعلِ لكونِه واقعاً منه.
(2) (نحوُ: سيلٌ مُفْعَمٌ) أي: مملوءٌ فإسنادُ مُفْعَمٍ, وهو مبْنِيٌّ للمفعولِ إلى ضميرِ السيْلِ, وهو فاعلٌ, مَجازٌ عقليٌّ مُلابَستُه الفاعليَّةُ, والقرينةُ الاستحالةُ العقليَّةُ, وأصلُ التركيبِ أفعَمَ السيلُ الواديَ, أي: مَلأَه, فالإفعامُ كان بحسَبِ الأصلِ مُسْنَداً للفاعلِ الحقيقيِّ, وهو السيلُ ثم بُنِيَ أَفْعَمَ للمفعولِ واشتُقَّ منه اسمُ المفعولِ, وأُسنِدَ لضميرِ الفاعلِ الحقيقيِّ وهو السيْلُ بعدَ تقديمِه.
(3) (والإسنادُ) أي: إسنادُ ما بُنِيَ للفاعلِ.
(4) (إلى المصدرِ نحوُ: جَدَّ جِدُّه) أي: اجتهادُه وأصلُ التركيبِ جدَّ الجادُّ جِدًّا أي: اجتَهدَ اجتهاداً؛ لأن حقَّ الفعْلِ, وهو جَدَّ أن يُسنَدَ للفاعلِ الحقيقيِّ, وهو الشخصُ, لا للجِدِّ نفسِه, وإسنادُ ما بُنِيَ للفاعلِ إلى الزمانِ لكونِه واقعاً فيه, فأَشبَهَ الفاعلَ الحقيقيَّ في مُلابسةِ الفعلِ لكلٍّ منهما.
(5) (نحوُ: نهارُه صائمٌ) فإن النهارَ مَصُومٌ فيه, والصائمُ فيه هو الإنسانُ.
(6) (و) إسنادُ ما بُنِيَ للفاعلِ.
(7) (إلى المكانِ) لكونِه واقعاً فيه.
(8) نحوُ: (نهرٌ جارٍ) فإن الجاريَ هو الماءُ, لا النهرُ الذي هو مكانُ جَرْيِه.
(9) (و) إسنادُ ما بُنِيَ للفاعلِ.
(10) (إلى السببِ) الآمِرِ.
(11) (نحوُ: بَنَى الأميرُ المدينةَ) فإن البانيَ حقيقةً هو العُمَّالُ, لا الأميرُ الذي هو سببٌ آمِرٌ, وكذا السببُ الغائيُّ يُسنَدُ إليه أيضًا مَجازاً نحوُ: ضرَبَ التأديبَ ونحوُ قولِه تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} فإن القيامَ في الحقيقةِ لأهلِ الحسابِ, ولكن لأجلِه فكانَ الحسابُ عِلَّةً غائيَّةً وسبباً مآلِيًّا.
(12) (ويُعلَمُ مما سَبقَ أن المَجازَ اللغويَّ يكونُ في اللفظِ) فهو اللفظُ المستعمَلُ في غيرِ ما وُضِعَ له إلخ.
(13) (والمَجازُ العقليُّ يكونُ في الإسنادِ) فهو إسنادُ الفعلِ أو ما في معناه إلى غيرِ ما هو له إلخ.