25/634 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: ((وَمَا أَهْلَكَكَ؟)) قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ. فَقَالَ: ((هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً؟)) قَالَ: لا. قَالَ: ((فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟)). قَالَ: لا. قَالَ: ((فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِيناً؟)). قَالَ: لا. ثُمَّ جَلَسَ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَالَ: ((تَصَدَّقْ بِهَذَا)). فَقَالَ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنَّا؟ فَمَا بَيْنَ لابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إلَيْهِ مِنَّا! فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ, ثُمَّ قَالَ: ((اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ)). رَوَاهُ السَّبْعَةُ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ) هُوَ سَلَمَةُ أَوْ سَلْمَانُ بْنُ صَخْرٍ البَيَاضِيُّ (إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: وَمَا أَهْلَكَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ. قَالَ: هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً؟) بِالنَّصْبِ بَدَلٌ مِنْ "مَا"(قَالَ: لا. قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لا. قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِيناً؟)
الجُمْهُورُ أَنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ طَعَامٍ رُبُعَ صَاعٍ (قَالَ: لا. ثُمَّ جَلَسَ فَأُتِيَ) بِضَمِّ الهَمْزَةِ مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ (النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ) وهو المَلِيلُ الضَّخْمُ, بِفَتْحِ العَيْنِ المُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ ثُمَّ قَافٍ (فِيهِ تَمْرٌ).
وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ فِي غَيْرِ الصَّحِيحَيْنِ: فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعاً, وَفِي أُخْرَى: عِشْرُونَ.
(فَقَالَ: تَصَدَّقْ بِهَذَا. فَقَالَ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنَّا؟ فَمَا بَيْنَ لابَتَيْهَا) تَثْنِيَةُ لابَةٍ وَهِيَ الحَرَّةُ, وَيُقَالُ فِيهَا: لُوبَةٌ وَنُوبَةٌ بِالنُّونِ وَهِيَ غَيْرُ مَهْمُوزَةٍ (أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إلَيْهِ مِنَّا! فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ, ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ. رَوَاهُ السَّبْعَةُ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ).
الحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ جَامَعَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَامِداً!وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ إجْمَاعٌ مُعْسِراً كَانَ أَوْ مُوسِراً, فَالمُعْسِرُ تَثْبُتُ الكَفَّارَةُ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ, ثَانِيهِمَا: لا تَسْتَقِرُّ فِي ذِمَّتِهِ؛ لأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ.
وَاخْتُلِفَ فِي الرَّقَبَةِ فَإِنَّهَا هُنَا مُطْلَقَةٌ؛ فَالجُمْهُورُ قَيَّدُوهَا بِالمُؤْمِنَةِ حَمْلاً لِلْمُطْلَقِ هُنَا عَلَى المُقَيَّدِ فِي كَفَّارَةِ القَتْلِ قَالُوا: لأَنَّ كَلامَ اللَّهِ فِي حُكْمِ الخِطَابِ الوَاحِدِ فَيَتَرَتَّبُ فِيهِ المُطْلَقُ عَلَى المُقَيَّدِ.
وَقَالَتِ الحَنَفِيَّةُ: لا يُحْمَلُ المُطْلَقُ عَلَى المُقَيَّدِ مُطْلَقاً,فَتُجْزِئُ الرَّقَبَةُ الكَافِرَةُ. وَقِيلَ: يُفَصَّلُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ يُقَيَّدُ المُطْلَقُ إذَا اقْتَضَى القِيَاسُ التَّقْيِيدَ فَيَكُونُ تَقْيِيداً بِالقِيَاسِ كَالتَّخْصِيصِ بِالقِيَاسِ وَهُوَ مَذْهَبُ الجُمْهُورِ, وَالعِلَّةُ الجَامِعَةُ هُنَا هُوَ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ كَفَّارَةٌ عَنْ ذَنْبٍ مُكَفِّرٍ لِلْخَطِيئَةِ, وَالمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ فِي الأُصُولِ.
ثُمَّ إنَّ الحَدِيثَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الكَفَّارَةَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الحَدِيثِ, فَلا يُجْزِئُ العُدُولُ إلَى الثَّانِي مَعَ إمْكَانِ الأَوَّلِ وَلا إلَى الثَّالِثِ مَعَ إمْكَانِ الثَّانِي؛ لِوُقُوعِهِ مُرَتَّباً فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ,وَرَوَى الزُّهْرِيُّ التَّرْتِيبَ عَنْ ثَلاثِينَ نَفْساً أَوْ أَكْثَرَ. وَرِوَايَةُ التَّخْيِيرِ مَرْجُوحَةٌ مَعَ ثُبُوتِ التَّرْتِيبِ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَيُؤَيِّدُ رِوَايَةَ التَّرْتِيبِ أَنَّهُ الوَاقِعُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَهَذِهِ الكَفَّارَةُ شَبِيهَةٌ بِهَا, وَقَوْلُهُ: {سِتِّينَ مِسْكِيناً} ظَاهِرُ مَفْهُومِهِ أَنَّهُ لا يُجْزِئُ إلاَّ إطْعَامُ هَذَا العَدَدِ فَلا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَتِ الحَنَفِيَّةُ: يُجْزِئُ الصَّرْفُ فِي وَاحِدٍ فَفِي القَدُورِيِّ مِنْ كُتُبِهِمْ: فَإِنْ أَطْعَمَ مِسْكِيناً وَاحِداً سِتِّينَ يَوْماً أَجْزَاهُ عِنْدَنَا وَإِنْ أَعْطَاهُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَمْ يُجْزِهِ إلاَّ عَنْ يَوْمِهِ.
وَقَوْلُهُ: ((اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ)). فِيهِ قَوْلانِ لِلْعُلَمَاءِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ كَفَّارَةٌ وَمِنْ قَاعِدَةِ الكَفَّارَاتِ أَنْ لا تُصْرَفَ فِي النَّفْسِ, لَكِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّهُ بِذَلِكَ. وَرُدَّ بِأَنَّ الأَصْلَ عَدَمُ الخُصُوصِيَّةِ.
الثَّانِي: أَنَّ الكَفَّارَةَ سَاقِطَةٌ عَنْهُ لِإِعْسَارِهِ,وَيَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ: كُلْهُ أَنْتَ وَعِيَالُكَ فَقَدْ كَفَّرَ اللَّهُ عَنْكَ. إلاَّ أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ أَوْ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي ذِمَّتِهِ وَالَّذِي أَعْطَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ؛ لِمَا عَرَفَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَاجَتِهِمْ.
وَقَالَتِ الهَادَوِيَّةُ وَجَمَاعَةٌ: إنَّ الكَفَّارَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ أَصْلاً لا عَلَى مُوسِرٍ وَلا مُعْسِرٍ. قَالُوا: لأَنَّهُ أَبَاحَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا, وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمَا جَازَ ذَلِكَ. وَهُوَ اسْتِدْلالٌ غَيْرُ نَاهِضٍ؛ لأَنَّ المُرَادَ ظَاهِرٌ فِي الوُجُوبِ, وَإِبَاحَةُ الأَكْلِ لا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَفَّارَةٌ بَلْ فِيهَا الِاحْتِمَالاتُ الَّتِي سَلَفَتْ.
وَاسْتَدَلَّ المَهْدِيُّ فِي البَحْرِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الكَفَّارَةِ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْمُجَامِعِ: ((اسْتَغْفِر اللَّهَ وَصُمْ يَوْماً مَكَانَهُ)) وَلَمْ يَذْكُرْهَا.وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَتْ رِوَايَةُ الأَمْرِ بِهَا عِنْدَ السَّبْعَةِ بِهَذَا الحَدِيثِ المَذْكُورِ هُنَا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِقَضَاءِ اليَوْمِ الَّذِي جَامَعَ فِيهِ إلاَّ أَنَّهُ وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: ((كُلْهُ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ وَصُمْ يَوْماً وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ)).
وَإِلَى وُجُوبِ القَضَاءِ ذَهَبَتِ الهَادَوِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ؛لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ: إنَّهُ لا قَضَاءَ؛ لأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْهُ إلاَّ بِالكَفَّارَةِ لا غَيْرُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ اتَّكَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا عُلِمَ مِن الآيَةِ. هَذَا حُكْمُ ما يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ. وَأَمَّا المَرْأَةُ الَّتِي جَامَعَهَا فَقَد اسْتُدِلَّ بِهَذَا الحَدِيثِ أَنَّهُ لا يَلْزَمُ إلاَّ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَأَنَّهَا لا تَجِبُ عَلَى الزَّوْجَةِ,وَهُوَ الأَصَحُّ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ الأَوْزَاعِيُّ.
وَذَهَبَ الجُمْهُورُ إلَى وُجُوبِهَا عَلَى المَرْأَةِ أَيْضاً, قَالُوا: وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الزَّوْجِ؛ لأَنَّهَا لَمْ تَعْتَرِفْ وَاعْتِرَافُ الزَّوْجِ لا يُوجِبُ عَلَيْهَا الحُكْمَ؛ أَوْ لِاحْتِمَالِ أَنَّ المَرْأَةَ لَمْ تَكُنْ صَائِمَةً, بِأَنْ تَكُونَ طَاهِرَةً مِن الحَيْضِ بَعْدَ طُلُوعِ الفَجْرِ، أَوْ أَنَّ بَيَانَ الحُكْمِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ يُثْبِتُ الحُكْمَ فِي حَقِّ المَرْأَةِ أَيْضاً؛ لِمَا عُلِمَ مِنْ تَعْمِيمِ الأَحْكَامِ, أَوْ أَنَّهُ عَرَفَ فَقْرَهَا كَمَا ظَهَرَ مِنْ حَالِ زَوْجِهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا حَدِيثٌ جَلِيلٌ كَثِيرُ الفَوَائِدِ.
قَالَ المُصَنِّفُ فِي فَتْحِ البَارِي: إنَّهُ قَد اعْتَنَى بَعْضُ المُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ أَدْرَكَ شُيُوخَنَا بِهَذَا الحَدِيثِ فَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ فِي مُجَلَّدَيْنِ جَمَعَ فِيهما أَلْفَ فَائِدَةٍ وَفَائِدَةً. انْتَهَى.
وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِيهِ كِفَايَةٌ لِمَا فِيهِ مِن الأَحْكَامِ وَقَدْ طَوَّلَ الشَّارِحُ فِيهِ نَاقِلاً مِنْ فَتْحِ البَارِي.