بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فهذا الباب ترجم له إمام هذه الدعوة بقوله: (باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات) يعني: وما يلحقه من الذم؛ وأنَّ جحد شيءٍ من الأسماء والصفات، مُنافٍ لأصل التوحيد، ومن خصال الكفار والمشركين.
وقد ذكرنا لكم فيما سبق: أنَّ توحيد الإلهية عليه براهين، ومن براهينه:
توحيد المعرفة والإثبات:
-وهو توحيد الربوبية.
- وتوحيد الأسماء والصفات.
فمن أدلة توحيد الإلهية: توحيد الربوبية،؛ كما سبق أن مرَّ معنا في باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ}.
وكذلكتوحيد الأسماء والصفات: برهان على توحيد الإلهية؛ ومَنْ حصل عنده ضلال في توحيد الأسماء والصفات، فإن ذلك سيتبعه ضلال في توحيد الإلهية؛ ولهذا تجد أن المبتدعة الذين ألحدوا في أسماء الله، وفي صفاته من هذه الأمة، من:
-
الجهمية.
-
والمعتزلة.
-
والرافضة.
- والأشاعرة.
-
والماتريدية.
ونحو هؤلاء: تجد أنهم لما انحرفوا في
باب توحيد الأسماء والصفات، لم يعلموا حقيقةَ معنى توحيد الإلهية؛ ففسروا الإله بغير معناه؛ وفسّروا (لا إله إلا الله) بغير معناها الذي دلّت عليه اللغة، ودلّ عليه الشرع.
وكذلك:
لم يعلموا متعلّقات الأسماء والصفات، وآثار الأسماء والصفات في ملك الله
-جل وعلا- وسلطانه. لهذا عقد الشيخ -رحمه الله- هذا الباب؛ لأجل أن يبيّن لك أنَّ تعظيم الأسماء والصفات. مِنْ كمال التوحيد، وأنَّ جحد الأسماء والصفات منافٍ لأصل التوحيد؛ فالذي يجحد اسماً سمّى الله به نفسه، أو سمّاه به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وثبت ذلك عنه وتيقّنه: فإنه يكون كافراً بالله جل وعلا؛ كما قال سبحانه عن المشركين: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ}.
والواجب على العباد، على أهل هذه الملة: أن يؤمنوا بتوحيد الله -جل وعلا- في أسمائه وصفاته.
ومعنى الإيمان بالتوحيد هذا، يعني: بتوحيد الله في أسمائه وصفاته:أن يتيقن ويؤمن بأن الله
-جل وعلا- ليس له مثيل في أسمائه، وليس له مثيل في صفاته؛ كما قال جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فنفى وأثبت؛ فنفى أن يماثل الله شيء جل وعلا، وأثبت له صفتي السمع والبصر.
قال العلماء: (قدّم النفي قبل الإثبات على القاعدة العربية المعروفة أن التخلية تسبق التحلية، حتى يتخلى القلب من كل براثن التمثيل، ومن كل ما كان يعتقده المشركون الجاهلون من تشبيه الله بخلقه أو تشبيه خلق الله به؛ فإذا خلا القلب من كل ذلك، من براثن التشبيه والتمثيل، أثبت ما يستحقه الله -جل وعلا- من الصفات؛ فأثبت هنا صفتين، وهما: السمع، والبصر).
وسبب ذكر السمع والبصر هنا في مقام الإثبات
، دون ذكر غير السمع والبصر من الصفات، أو دون ذكر غير اسم السميع والبصير من الأسماء؛ لأن صفتي السمع والبصر مشترَكة بين أكثر المخلوقات الحية؛ وجُلّ المخلوقات الحية التي حياتها بالروح بالنفس، وليست حياتها بالنماء: فإن السمع والبصر موجود فيها جميعاً.
فالإنسان له سمع وبصر، وسائر أصناف الحيوانات: كلٌّ له سمع وبصر:
-
الذباب له سمع وبصر يناسبه.
-
والبعير له سمع وبصر يناسبه.
-
وسائر الطيور.
-
والسمك في الماء.
-
والدوابّ الصغيرة، والحشرات: كلٌّ له سمع وبصر يناسبه.
ومن المتقرر عند كل عاقل: أنَّ سمع هذه الحيوانات ليس متماثلاً، وأن بصرها ليس متماثلاً؛ وأن سمع الحيوان ليس مماثلاً لسمع الإنسان، فسمع الإنسان ربما كان أبلغ وأعظم من سمع كثير من الحيوانات؛ وكذلك البصر.
فإذا كان كذلك، كان اشتراك المخلوقات التي لها سمع وبصر في السمع والبصر: اشتراك في أصل المعنى؛ ولكلٍّ سمعٌ وبصر بما قدِّر له، وما يناسب ذاته.
فإذا كان كذلك، ولم يكن وجود السمع والبصر، في الحيوان وفي الإنسان، مقتضياً لتشبيه الحيوان بالإنسان؛ فكذلك إثبات السمع والبصر للمَلك الحيّ القيوم، ليس على وجه المماثلة للسمع والبصر في الإنسان، أو في المخلوقات.
فلله -جل وعلا- سمع وبصر يليق به،
كما أنَّ للمخلوق سمع وبصر يليق بذاته الحقيرة الوضيعة؛ فسمع الله كامل، مطلق، من جميع الوجوه، لا يعتريه نقص؛ وبصره كذلك.
واسم الله السميع: هو الذي استغرق كل الكمال في صفة السمع.
وكذلك اسم الله البصير:
هو الذي استغرق كل الكمال في صفة البصر.
فدلّ ذلك على أنَّ النفي مقدم على الإثبات، والنفي يكون مجملاً، والإثبات يكون مفصلاً.
فالواجب على العباد أنْ يعلموا أنَّ الله -جل جلاله- متصف بالأسماء الحسنى، وبالصفات العُلى؛ وأن لا يجحدوا شيئاً من أسمائه وصفاته؛ ومن جحد شيئاً من أسماء الله وصفاته فهو كافر؛ لأن ذلك صنيع الكفار والمشركين.
والإيمان بالأسماء والصفات يقوي اليقين بالله، وهو سببٌ لمعرفة الله والعلم به، بل إنَّ العلم بالله.
ومعرفة الله -جل وعلا- تكون:
-
بمعرفة أسمائه وصفاته.
- وبمعرفة آثار الأسماء والصفات في ملكوت الله جل وعلا.
وهذا باب عظيم، ربّما يأتي له زيادة إيضاح عند (باب قول الله تعالى:
{وَللَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}).
إذاً: تلخص هنا أنَّ قوله: (باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات) صلة ذلك (بكتاب التوحيد)من جهتين:
الجهة الأولى: أنَّ من براهين توحيد العبادة: توحيد الأسماء والصفات.
الجهة الثانية: أن جحد شيء من الأسماء والصفات: شركٌ وكفر مخرج من الملة؛ إذا ثبت الاسم، أو ثبتت الصفة، وعَلِمَ أن الله -جل وعلا- أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم جحدها أصلاً، يعني: نفاها أصلاً، فإن هذا كفر؛ لأنه تكذيب بالكتاب وبالسنة.
قال: (وقول الله تعالى: {وهم يكفرون بالرحمن} الآية) الرحمن: من أسماء الله جل وعلا، والمشركون والكفار في مكة، قالوا: (لا نعلم الرحمن؛ إلا رحمن اليمامة) فكفروا باسم الله الرحمن، وهذا كفر بنفسه؛ ولهذا قال جل وعلا: {وهم يكفرون بالرحمن}يعني: باسم الله الرحمن؛ وهذا اسم من أسماء الله الحسنى وهو مشتمل على صفة الرحمة؛ لأن الرحمن مشتق، أو فيه صفة الرحمة، ومبنيٌ على وجه المبالغة.
-
فالرحمن: أبلغ في اشتماله على صفة الرحمة من اسم الرحيم؛ ولهذا لم يتسمَّ به على الحقيقة إلا الله جل وعلا؛ فهو من أسماء الله العظيمة التي لا يَشْرَكه فيها أحد.
-
أما الرحيم: فقد أطلق الله -جل وعلا- على بعض عباده بأنهم رحماء، وأن نبيه -صلى الله عليه وسلم- رحيم؛ كما قال: {بالمؤمنين رؤوف رحيم}.
الاسم والصفة: بينهما ارتباط من جهة أنَّ كل اسمٍ لله -جل وعلا- مشتمل على صفة، أسماء الله ليست جامدة، ليست مشتملة على معانٍ، بل كل اسم من أسماء الله مشتمل على صفة؛ فالاسم من أسماء الله يدل على مجموع شيئين بالمطابقة، وهما: الذات والصفة التي اشتمل عليها الاسم.
ويدل على أحد هذين: الذات، أو الصفة، بالتضمن؛ ولهذا نقول: (كل اسمٍ من أسماء الله: متضمّنٌ لصفة من صفات الله) ومطابقة الاسم لمعناه بأنه دال على كلٍ من الذات، وعلى الصفة.
الذات المتصفة بالصفة، حتى اسم (الله) لفظ الجلالة (الله) الذي هو علَم على المعبود بحق جل وعلا: مشتق على الصحيح من قولي أهل العلم، مشتق لأن أصله الإله، ولكن أُطلق (الله) تخفيفاً؛ لكثرة دعائه وندائه بذلك في أصل العربية؛ فهو مأخوذ من الإلهة وهي العبادة؛ فالله هو المعبود، ليس اسماً جامداً، بل هو مشتق من ذلك.
وهكذا جميع الصفات التي تتضمنها الأسماء، كلها دالة على كمال الله -جل وعلا- وعلى عظمته؛ فالعبد المؤمن إذا أراد أن يُكمّل توحيده، فليُعْظِم العناية بالأسماء والصفات؛ لأنَّ معرفة الاسم والصفة يجعل العبد يراقب الله جل وعلا، وتؤثر هذه الأسماء والصفات في توحيده، وقلبه، وعلمه بالله، ومعرفته؛ كما سيأتي في تقاسيم الأسماء والصفات.
قال: (وفي (صحيح البخاري) قال: قالعليٌّ: (حدّثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله) هذا فيه دليل على أنَّ بعض العلم لا يصلح لكلِّ أحد؛ فإن من العلم ما هو خاص، ولو كان نافعاً في نفسه، ومن أمور التوحيد؛ لكن ربما لم يعرفه كثير من الناس.
وهذا من مثل بعض أفراد توحيد الأسماء والصفات، من مثل بعض مباحث الأسماء والصفات، وذكر بعض الصفات لله جل وعلا؛ فإنها لا تناسب كل أحد؛ حتى إنّ بعض المتجهين إلى العلم قد لا تطرح عليه بعض المسائل الدقيقة في الأسماء والصفات: ولكن يُؤمرون بالإيمان بذلك إجمالاً، والإيمان بالمعروف والمعلوم المشتهر في الكتاب والسنة.
أما دقائق البحث في الأسماء والصفات؛ فإنما هي للخاصة، ولا تناسب العامة، ولا تناسب المبتدئين في طلب العلم.
-
لأن منها ما يُشكل.
-
ومنها ما قد يؤول بقائله إلى أن يُكذب الله ورسوله؛ كما قال هنا علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله).
فمناسبة هذا الأثر لهذا الباب
:
أنَّ من أسباب جحد الأسماء والصفات:
- أن يُحدِّث المرء الناس بما لا يعقلونه من الأسماء والصفات.
الناس عندهم إيمان إجمالي بالأسماء والصفات يصح معه توحيدهم، وإيمانهم، وإسلامهم؛ فالدخول في تفاصيل ذلك غير مناسب، إلا إذا كان المخاطَب يعقل ذلك ويعيه، وهذه ليست بحالة أكثر الناس.
ولهذا الإمام مالك -رحمه الله- لمّا حُدِّث عنده بحديث الصورة فنهى المتحدث بذلك؛ لأن العامة لا يحسنون فهم مثل هذه المباحث.
وهكذا في بعض المسائل في الأسماء والصفات لا تناسب العامة، فقد يكون سبب الجحد: أنْ حدثت من لا يعقل البحث، فيؤول به ذلك ـ وهو أن البحث فوق عقله، وفوق مستواه، وفوق ما تقدمه من العلم - أن يؤدي به ذلك إلى أنْ يجحد شيئاً من العلم بالله جل وعلا، أو أن يجحد شيئاً من الأسماء والصفات.
فالواجب على المسلم، وخاصة طالب العلم: أنْ لا يجعل الناس يكذِّبون شيئاً مما قاله الله جل وعلا، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ووسيلة ذلك التكذيب:
-أن يحدث الناس بما لا يعرفون.
-
يحدث الناس بحديث لا تبلغه عقولهم؛ كما جاء في الحديث الآخر: ((ما أنت بمحدِّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة)).
وقد بوّب على ذلك
البخاري في (الصحيح) في كتاب العلم بقوله: (باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقْصُر فهم بعض الناس عنه، فيقعوا في أشدَّ منه).
وهذا من الأمر المهم الذي ينبغي:
- للمعلم.
-
وللمتحدث.
-
وللواعظ.
-
وللخطيب: أن يعيه، في أن يحدث الناس بما يعرفون.
وأن يجعل تقوية التوحيد، وإكمال توحيدهم، والزيادة في إيمانهم بما يعرفون لا بما ينكرون.
قال: (وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أنه رأى رجلاً انتفض لما سمع حديثاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصفات استنكاراً لذلك.
فقال: (ما فَرَقُ هؤلاء، يجدون رقةً عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه).
هذا لما لم يعرف هذه الصفة انتفض؛ لأنه فهم من هذه الصفة المماثلة أو التشبيه؛ فخاف من تلك الصفة.
والواجب على المسلم: أنه إذا سمع صفة من صفات الله، في كتاب الله، أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أن يجريها مجُرى جميع الصفات، وهو:
-
أن إثبات الصفات لله جل وعلا: إثبات بلا تكييف.
-
إثبات بلا تمثيل.
فإثباتنا للصفات على وجه تنـزيه الله -جل وعلا- عن المثيل والنظير، في صفاته وأسمائه؛ فله من كل اسمٍ وصفة أعلى وأعظم ما يشتمل عليه من المعنى.
ولهذا قال ابن عباس هنا: (ما فَرَقُ هؤلاء) يعني: ما سبب خوف هؤلاء؟
لماذا فرقوا؟
خافوا من هذه الصفة ومن إثباتها، (يجدون رقة عند محكمه) يعني: إذا خوطبوا بالمحكم الذي يعرفونه.
-
المحكم: هو ما يعلم، والذي يعلمه سامعه؛ هذا هو المحكم.
(يجدون رقة عند محكمه) يعني: إذا خوطبوا بما يعلمونه، وجدوا في قلوبهم رقة لذلك.
(ويهلكون عند متشابهه) فإذا سمعوا في الكتاب أو السنة شيئاً لا تعقله عقولهم، هلكوا عنده، وخافوا، وفرقوا، وأولوا، ونفوا أو جحدوا؛ وهذا من أسباب الضلال.
وهنا استعمل ابن عباس رحمه الله ورضي عنه، استعمل كلمة المحكم، وكلمة المتشابه؛ ويريد بها هنا، المحكم: الذي يُعلم؛ يعلمه سامعه.
والمتشابه:
الذي يشتبه علمه على سامعه
.
والقرآن والعلم جميعاً، والشريعة: كلها محكمة.
-
وكلها متشابهة.
- ومنها:
محكم.
- ومنها: متشابه.
فهذه ثلاثة أقسام:
فالأول: المحكم؛ كما قال جل وعلا: {الر، كتاب أُحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير، ألاّ تعبدوا إلا الله} فالقرآن كله محكم، بمعنى: أنَّ معناه واضح، وأن الله
-جل وعلا- أحكمه، فلا اختلاف فيه ولا تباين، وإنما بعضه يصدق بعضاً؛ كما قال جل وعلا: {ولو كان مِنْ عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}.
- والقرآن والشريعة أيضاً متشابه كله، بمعنى: أن بعضه يشبه بعضاً؛ فهذا الحكم وهذه المسألة: تشبه تلك؛ لأنها تجري معها في قاعدةٍ واحدة؛ فنصوص الشريعة يصدق بعضها بعضاً، ويؤول بعضها إلى بعض؛ وقد قال جل وعلا: {الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثانيَ تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم}.
قال: {كتاباً متشابهاً} فالقرآن متشابه، يعني: بعضه يشبه بعضاً؛ هذا خبر في الجنة، وهذا خبر في الجنة؛ بعض الأخبار يفصل بعضاً؛ وهذه قصة وهذه قصة، هذه تصدق هذه وتزيدها تفصيلاً؛ وهكذا في كل ما في القرآن.
-
والقرآن أيضاً، والشريعة، والعلم: منه محكم، ومنه متشابه باعتبار ثالث؛ فالمحكم والمتشابه هنا: هو الذي جاء في آية آل عمران:{هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هُنَّ أم الكتاب وأخر متشابهات} فمنه محكم: وهو الذي اتضح لك علمه.
ومنه متشابه: وهو الذي اشتبه عليك علمه؛ وبهذا نعلم أنه ليس عندنا في عقيدة أهل السنة والجماعة؛ أتباع السلف الصالح، ليس عندهم شيء من المتشابه المطلق الذي لا يعلمه أحد؛ بمعنى: أن ثمة مسألة من مسائل التوحيد، أو من مسائل العمل: يشتبه علمها على كل الأمة؛ هذا لا يوجد.
بل ربما اشتبه على بعض الناس، وبعضهم يعلم المعنى؛ كما قال جل وعلا: {وما يعلم تأويله إلا اللهُ والراسخون في العلم} على أحد وجهي الوقف.
فهذا المتشابه الموجود الذي هو قسيمٌ للمحكم
، هذا يشتبه على بعض الناس؛ فإذا اشتبه عليك علم شيءٍ من التوحيد، أو مِن الشريعة، فإنَّ الواجب: ألاّ تفرق عنده، وألاّ تخاف، وألا تتهم الشرع، أو يقع في قلبك شيء من الزيغ؛ لأن الذين يتبعون المتشابه، بمعنى: لا يؤمنون به، فإن هؤلاء هم الذين في قلوبهم زيغ.
وهذا هو الذي عناه
ابن عباس -رضي الله عنهما- حين قال: (يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه) يريد به هذا الوجه من أن الذين يهلكون عند المتشابه، هم أهل الزيغ الذين قال الله جل وعلا فيهم: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} فأهل الزيغ يستعملون في المتشابه هاتين الطريقتين:
-
إما أن يبتغوا بالمتشابه الفتنة.
-
وإما أن يبتغوا بالمتشابه التأويل.
والواجب أن يُرَدَّ المتشابه إلى المحكم؛ فنعلم أن الشريعة يصدق بعضها بعضاً، وأن التوحيد بعضه يدل على بعض؛ وكالقاعدة المعروفة في الصفات التي ذكرها عدد من الأئمة:
كالخطابي، وكشيخ الإسلام في (التدمرية): (أن القول في بعض الصفات كالقول في بعض، وأن القول في الصفات كالقول في الذات: يُحتذى فيه حذوه؛ ويُنهج فيه على منواله).
قال
: (ولما سمعت قريش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكر الرحمن، أنكروا ذلك فأنزل الله فيهم:
{وهم يكفرون بالرحمن}) فإنكار الصفة، أو إنكار الاسم، بمعنى: عدم التصديق بذلك، هذا جحدٌ.
وهذا يختلف عن التأويل؛ فالتأويل والإلحاد له مراتب يأتي بيانها إن شاء الله تعالى.