وهُو سُبْحَانَهُ قَدْ جَمَعَ فِيما وَصَفَ وسَمَّى بِه نَفْسَهُ بينَ النَّفْيِ والإِثْباتِ.( 25)
فَلا عُدُولَ لأهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ عَمَّا جَاءَ بِهِ المُرْسَلُونَ؛ فإِنَّهُ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ( 26)
صِرَاطُ الَّذينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحينَ.( 27)
(25) قوله: (جَمَعَ): الجَمْعُ في اللغةِ: الضَّمُّ، والاجتماعُ: الانْضِمَامُ، والتَّفْرِيقُ ضِدُّه.
قولُه: (وَصَفَ): الوصفُ لغةً: نعتُه بما فِيهِ. وَصَفَ الشَّيءَ نعتَهُ بما فيه وحلاَّه, والصِّفةُ النَّعتُ، والصِّفةُ ما يَقُومُ بالموصوفِ كالعلمِ والجمالِ، وأسماؤه -سُبْحَانَهُ- تنقسمُ إلى قِسمين: أعلامٍ وأوصافٍ، والوَصْفِيَّةُ فيها لا تُنافي العَلَمِيَّةَ، بخلافِ أوصافِ العبادِ، وصفاتُه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- دَالَّةٌ على مَعَانٍ قائمةٍ بذاتهِ، فيجبُ الإيمانُ بها، والتَّصديقُ، وإثباتُها للهِ حقيقةً على ما يليقُ بجلالِ اللهِ وعظمتِه، وهي بالنَّظرِ إلى الذَّاتِ من قَبِيلِ المُتَرَادِفِ، و بالنَّظرِ إلى الصِّفاتِ من قَبِيلِ المُتَبايِنِ، وهي تنقسمُ كما مضى إلى قسمينِ: صِفَاتِ ذاتٍ وصِفَاتِ فِعْلٍ.
قولُه: (بين النَّفيِ والإثباتِ): فالنَّفيُ كقولِه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وقولِه: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) وقولِه: (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ) وقولِه: (وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا).
والإثباتُ كقولِه: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وقولِه: (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) وقولِه: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ).
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ رحمَه اللهُ: ومعاني التَّنـزيهِ تَرْجِعُ إلى هذين الأصْلين: إثباتِ الكمالِ، ونفيِ التَّشبيهِ والمثالِ، وقد دَلَّ عليهما سورةُ الإخلاصِ، فاسمُه الصَّمَدُ: يجمعُ معانيَ صفاتِ الكمالِ، والأَحَدُ: يَتَضمَّنُ أنَّه لا مِثلَ له ولا نَظيرَ. مِن المنهاجِ بتصرُّفٍ.
والنَّفيُ ليس مقصودًا لذاتِه، وإنَّما هو مقصودٌ لغيرِهِ، إذ النَّفيُ المحضُ ليس بمدحٍ ولا ثناءٍ، بل هو عَدَمٌ مَحْضٌ ولا مَدْحَ في ذلك.
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ رحمَه اللهُ في كتابِه ((التَّدْمُرِيَّةِ)): ويَنبغي أن يُعْلَمَ أنَّ النَّفيَ ليسَ فيه كمالٌ ولا مدحٌ، إلا إذا تضمَّنَ إثباتًا، وكلُّ ما نَفى اللهُ عن نفسِه من النَّقائصِ ومُشَاركةِ أحدٍ له في خصائصِه فإنَّها تدلُّ على إثباتِ ضدِّها مِنْ أنواعِ الكمالاتِ. انتهى.
وطريقةُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ في النَّفيِ الإِجْمَالُ، وفي الإثباتِ التَّفْصِيلُ، كما جاء في الكتابِ والسُّنَّةِ: فَأثْبتوا له -سُبْحَانَهُ- الأسماءَ والصِّفاتِ ونفَوا عنه مماثلةَ المخلوقاتِ، ومَن خالفَهم من المُعَطِّلَةِ والمُتَفَلْسِفَةِ وغيرِهم عَكَسُوا القضيَّةَ فجاؤوا بنفيٍ مُفَصَّلٍ وإثباتٍ مُجْمَلٍ، فيقولون: ليسَ كذا ليسَ كذا. ذكر معناه في ((التَّدْمُرِيَّةِِ)) وغيرِها.
(26) قولُه: (فلا عُدولَ): أي فلا مَيْلَ ولا انحرافَ لأهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ عمَّا جاءَ به المُرسلون، بل هم مقتفون آثارَهُم، مستضِيئون بأنوارِهم، مؤمنونَ بجميعِهم، مُصَدِّقُون لهم في كلِّ ما أَخْبَروا به من الغيبِ، إذ هو الحقُّ والصِّدقُ الَّذي يجِبُ اعتقادُه واتِّباعهُ، ولا تجوزُ مخالفتُهُ، وأعظمُ ما جاءَ به المرسلونَ: هو الدَّعوةُ إلى توحيدِ اللهِ وعبادتهِ وحدَه لا شريكَ له، ومعرفتِه بأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه، وأَنَّه لا شبيهَ له، ولا نظيرَ، فهذا دينُهم من أوَّلِهم إلى آخرِهم قالَ تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ) أي إنَّ الدِّينَ الَّذي جاءَ به محمَّدٌ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- هو دِينُ الأنبياءِ من أوَّلِهم إلى آخرِهم، ليسَ للهِ دِينٌ سِواه، فالإسلامُ دينُ أهلِ السَّماواتِ، ودينُ أهلِ التَّوحيدِ من الأرضِ، لا يَقْبلُ اللهُ من أحدٍ دِينًا سواه.
قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ رحمهُ اللهُ: فأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ المتِّبعُون لمحمَّدٍ وإبراهيمَ وموسى وعيسى وغيرِهم من رسلِ اللهِ، يُثْبِتُون ما أَثْبَتُوه من تَكْلِيمِ اللهِ ومَحَبَّتِهِ ورَحْمَتِهِ وسائِرِ ما له من الأسماءِ والصِّفاتِ، ويُنَزِّهُونَهُ عن مُشَابَهَةِ الأَجسادِ الَّتي لا حياةَ فيها، وأمَّا أهلُ البدعِ من الجهميَّةِ ونحوِهِم فإنَّهم سَلَكُوا سبيلَ أعداءِ الرُّسلِ إبراهيمَ وموسى ومحمَّدٍ الَّذين أنكَروا أنَّ اللهَ كلَّمَ موسى تكليمًا، واتَّخذَ إبراهيمَ خليلاً، وقد كلَّم اللهُ محمَّدًا واتَّخذهُ خليلاً ورفعهُ فوقَ ذلك درجاتٍ، وتَابَعُوا فِرْعَوْنَ الَّذي قال: (يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَـلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَـهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا) وتَابَعُوا المُشركين الَّذين (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـنِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَـنُ) الآيةَ. واتَّبَعُوا الَّذين أَلْحَدُوا في أسماءِ اللهِ, فهم يجحدون حقيقةَ الرَّحمنِ، أو أنَّه يَرْحَمُ، أو يُكَلِّمُ، وزعموا أنَّ مَن أَثْبَتَ له هذه الصِّفاتِ فقد شبَّههُ بالأَجْسامِ الميتةِ، وأنَّ هذا تشبيهٌ للهِ بخلقِه، تعالى اللهُ عن قولِهم عُلُوًّا كبيرًا.
قولُه: (فإنَّه الصِّراطُ المستقيمُ) أي أنَّ ما جاءَ به المرسلون هو الصِّراطُ المستقيمُ، المُوصِلُ إلى السَّعادةِ الأبديَّةِ، وهو الَّذي لا طريقَ إلى اللهِ ولا إلى جنَّتِه سواه، والصِّراطُ في اللغةِ: الطَّريقُ الواضحُ. قال الشَّاعرُ:
أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَى صِرَاطٍ إِذا اعْوَجَّ الْمَوارِدُ مُسْتَقِيمٌ
والمستقيمُ: الَّذي لا اعْوِجَاجَ فيه ولا انحرافَ، قال تعالى: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) وعن ابنِ مسعودٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ قال: خَطَّ رسولُ اللهِ خَطًّا بِيَدِهِ ثمَّ قال: ((هَذَا سَبِيلُ اللهِ مُسْتَقِيمًا) ثمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِ ذَلِكَ الْخَطِّ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: ((وَهَذِهِ السُّبُلُ لَيْسَ مِنْ سَبِيلٍ إلاَّ وَعَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ)) ثُمَّ قَرَأَ (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ) الآيةَ. رواه الإمامُ أحمدُ، والنَّسائيُّ، وابنُ أبي حاتمٍ، والحاكمُ. وصحَّحَه، والمرادُ بالصِّراطِ: قيل: الإسلامُ، وقيل: القرآنُ، وقيل: طريقُ السُّنَّةِ والجماعةِ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ تعالى: ولا ريبَ أنَّ ما كانَ عليه رسولُ اللهِ وأصحابُه عِلْمًا وَعَمَلاً وهو معرفةُ الحقِّ وتقديمُه وإيثارُه على غيِرِه، هو الصِّراطُ المستقيمُ، وكلُّ هذه الأقوالِ المتقدِّمةِ دَالَّةٌ عليه جَامِعَةٌ له. انتهى.
والصِّراطُ المذكورُ في الكتابِ والسُّنَّةِ ينقسمُ إلى قسمين: مَعْنَوِيٍّ وحِسِيٍّ، فالمعنويُّ: هو ما تقدَّمتِ الإشارةُ إليه، والحِسِّيُّ: هو الجسرُ الَّذي يُنْصَبُ على مَتْنِ جهنَّمَ يومَ القيامةِ، يمرُّ النَّاسُ عليه على قَدْرِ أعمالِهم، فَبحَسَبِ استقامةِ الإنسانِ على الصِّراطِ المعنويِّ الَّذي نَصَبَهُ اللهُ لعبادِه في هذه الدَّارِ تكونُ استقامتُه على ذلك الصِّراطِ الحِسِّيِّ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ (جَزَاءً وِفَاقًا)، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ).
قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ تعالى: أفردَ الصِّراطَ لأنَّ الحقَّ واحدٌ، وهو صراطُ اللهِ المستقيمُ الَّذي لا صراطَ يوصلُ إليه سواه، وهو عبادةُ اللهِ بما شرعَ على لسانِ رسولِهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وهذا بخلافِ طرقِ الباطلِ فإنَّها متعدِّدةٌ مُتَشَعِّبَةٌ، ولهذا يجمعُها، كقولِه -سُبْحَانَهُ- وتعالى: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ) الآيةَ، ولا يناقضُ هذا قولَه سُبْحَانَهُ: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ) فإنَّ تلك هي طُرُقُ مَرْضَاتِهِ الَّتي يَجْمَعُها سبيلُه الواحدُ.
(27) قولُه: (صراطُ): بَدَلٌ من الصـِّراطِ الأوَّلِ، أي طريقُ المُنْعَمِ عليهم، قال تعالى في سورةِ الفاتحةِ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) وهؤلاءِ هم المذكورون في قولِه -سُبْحَانَهُ وتعالى: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا) والنِّعْمةُ: بكسرِ النَّونِ الإحسانُ وبالضمِّ المَسَرَّةُ وبالفتحِ المتعةُ من العَيْشِ اللَّيِّنِ.
قوله: (أنعمَ اللهُ عليهِم): أي أنعمَ عليهِم الإنعامَ المطلقَ التَّامَّ، وهي النِّعمةُ المتِّصلةُ بسعادةِ الأبدِ، وهي نعمةُ الإسلامِ والسُّنَّةِ، وهي الَّتي أمرنَا اللهُ أنْ نسألَهُ أنْ يهديَنا صراطَ أهلِها، ومَن خَصَّهُمْ بها، وجعلَهُم أهلَ الرَّفيقِ الأعلى، كما قالَ تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ) الآيةَ، فهؤلاءِ الأصنافُ الأربعةُ هم أهلُ هذه النِّعمةِ المُطْلَقَةِ وأصحابُها هم المَعْنِيِّونَ بقولِه: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِِسْلاَمَ دِينًا) فأضافَ إليهم الدِّينَ، إذ هم المُخْتَصُّون بهذا الدِّينِ القيِّم دونَ سائرِ الأُممِ، وأمَّا مُطْلَقُ النِّعْمَةِ فعلى المؤمنِ والكافرِ، فكلُّ الخلقِ في نعمتِه، فالنِّعمةُ المطلقَةُ لأهلِ الإيمانِ، ومطلقُ النِّعمةِ يكونُ للمؤمنِ والكافرِ. انتهى، ذكره ابنُ القيِّمِ.
وفي قولِه: (الَّذِينَ أَنعَمَ اللهُ عَلَيهِم) تنبيهٌ على الرَّفيقِ في هذا الطَّريق، وأنَّهم هم الَّذين أنعمَ اللهُ عليهم من النَّبيِّين والصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ والصَّالحين، ليزولَ عن سَالِكِ هذا الطَّريقِ وَحْشَةُ التَّفَرُّدِ عن أهلِ زمانِه، وبَنِي جِنْسِهِ، إذا اسْتَشْعَر أنَّ رفيقَهُ في هذا الصِّراطِ هم الأنبياءُ والشُّهداءُ والصَّالحون.
قالَ بعضُ السَّلفِ: لاتستوحشْ من الحقِّ لِقِلَّةِ السَّالِكِينَ، ولاتَغْتَرَّ بالباطلِ لكثرةِ الهالكينَ، وقال تعالى: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ)، وقال: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).
قال الشَّيخُ محمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ في كتابِهِ ((في مَسَائِل التَّوْحِيدِ)): وفيه عمقُ عِلْمِ السَّلفِ وهو عدمُ الاغترارِ بالكثرةِ وعدمُ الزُّهدِ في القلَّةِ. انتهى.
والصِّراطُ تارةً يُضافُ إلى اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالى، إذ هو الَّذي شَرَعَهُ ونَصَبَهُ، كقولِه: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) وتارةً يُضافُ إلى العبادِ لكونِهِم أهلَ سلوكِه، أفادَه ابنُ القيِّمِ.
وفي قولِه: (الَّذين أنعمَ اللهُ عليهم) إشارةٌ إلى أنَّهم إنَّما استحقُّوا هذا الإنعامَ المطلقَ بسببِ سلوكِهم هذا الصِّراطَ، وفيه إشارةٌ إلى وجوبِ توحيدِ هذا الصِّراطِ بالسُّلوكِ، وأنْ لا صراطَ موصلٌ للسَّعادةِ سوى هذا الصِّراطِ.
قال ابنُ القيِّمِ في ((الكافيةِ الشَّافيةِ)):
فَلِواحِدٍ كنْ واحدًا في واحدٍ أعني سبيلَ الحقِّ والإيمانِ
قال ابنُ القيِّمِ رحمَه اللهُ تعالى في كتابِه ((مدارجِ السَّالكين)): والهدى التَّامُّ يتضمَّنُ توحيدَ المطلوبِ وتوحيدَ الطَّلبِ وتوحيدَ الطَّريقِ الموصلةِ، والانقطاعُ وتخلَّفُ الوصولِ يقعُ من الشِّركةِ في هذه الأمورِ أو في بعضِها، فالشِّركةُ في المطلوبِ تُنافي التَّوحيدَ والإخلاصَ، والشِّركةُ في الطَّلبِ تُنافي الصِّدقَ والعزيمةَ، والشِّركةُ في الطَّريقِ تنافي اتَّباعَ الأمرِ، فالأوَّلُ يوقعُ في الشِّركِ والرِّياءِ، والثَّاني يُوقِعُ في المعصيةِ والبطالةِ، والثَّالثُ يُوقِعُ في اتِّباعِ البدعةِ ومفارقةِ السُّنَّةِ. فتأمَّلْ، فتوحيدُ المطلوبِ يعصمُ من الشِّركِ والرِّياءِ، وتوحيدُ الطَّلبِ يعصِمُ من المعصيةِ، وتوحيدُ الطَّريقِ يعصِمُ من البدعةِ، والشَّيطانُ إنَّما يَنصبُ فَخَّه بهذه الطُّرقِ الثَّلاثةِ.
قولُه: (مِنَ النَّبِيِّينَ): الَّذين اختصَّهُم من خلقِه وشَرَّفَهم برسالتِه ونبوَّتِه، وقد تقدَّمَ الكلامُ على الأنبياءِ.
قولُه: (والصِّدِّيقينَ): الَّذين صدَّقوا أقوالَهم بأفعالِهم، فالصِّدِّيقُ المبالِغُ في الصِّدقِ كما في الحديثِ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتىَّ يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا) أو المبالغُ في التَّصديقِ كما سُمِّيَ أبو بكرٍ الصِّدِّيقَ.
قال ابنُ القيِّمِ: الصِّدِّيقُ أبلغُ من الصَّدُوق، والصَّدوقُ أبلغُ من الصَّادِقِ، فأعلى مراتبِ الصِّدقِ الصِّديقيَّةُ، وهي كمالُ الانقيادِ للرَّسولِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- معَ كمالِ الإخلاصِ للمُرسِلِ.
قولُه: (والشُّهداءِ): والشَّهيدُ هو المقتولُ في سبيلِ اللهِ، قيل سُمِّيَ بذلكَ لأنَّ اللهَ وملائكتَه شهدُوا له بالجنَّةِ، أو لأنَّ ملائكةَ الرَّحمةِ تشهدُه، أي تحضُره، قالَ العلماءُ: والشَّهيدُ ينقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
الأوَّلِ: شهيدٌ في الدُّنْيَا والآخرةِ، وهو المقتولُ في سبيلِ اللهِ في حربِ الكفَّارِ.
الثَّاني: شهيدٌ في الآخرةِ دونَ أحكامِ الدُّنْيَا، وهو الغريقُ، والحريقُ، والمطعونُ، والمبطونُ، ومن قُتِلَ دونَ مالِه أو دونَ نفسِه أو دون حُرمتِهِ.
الثَّالثِ: شهيدٌ في الدُّنْيَا دون الآخرةِ، وهو من غَلَّ من الغنيمةِ أو قُتِلَ مُدْبِرًا.
قولُه: (والصَّالحين): الصَّالحُ: هو القائمُ بحدودِ اللهِ وحقوقِ عبادِهِ.
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ في كتابِ ((الإيمانِ)): ولفظُ الصَّالحِ والشَّهيدِ يُذكرُ مفردًا فيتناولُ النَّبيِّين، والصِّدِّيقينَ، والشَّهداءَ، ويُذكرُ مع غيِرِهِ فيفُسَّرُ بِحسَبِهِ. اهـ.
وقدَّم النبِيِّين على الصِّدِّيقين لشرفِهِم، ولكونِ الصِّدِّيقِ تابعًا للنَّبيِّ، فاستحقَّ اسمَ الصِّدِّيقِ بكمالِ تصديقِه للنَّبيِّ، فهو تابعٌ محضٌ، وقدَّمَ الصِّدِّيقين على الشُّهداءِ لفضلِ الصِّدِّيقين عليهم، وقدَّمَ الشُّهداءَ على الصَّالحين لفضلِهِم عليهم. انتهى من ((البدائعِ)) بتصرُّفٍ
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ رحمهُ اللهُ تعالى: وأفضلُ الخلقِ: النَّبيُّونَ، ثمَّ الصِّدِّيقونَ، ثمَّ الشَُّهداءُ، ثمَّ الصَّالحون، وأفضلُ كلِّ صنفٍ أتقاهُم. انتهى.