النَّوْعُ السَّابِعُ وَالعِشْرُونَ : آدَابُ المُحَدِّثِ
وَقَدْ أَلَّفَ الخَطِيبُ البَغْدَادِيُّ فِي ذَلِكَ كِتَابًا سَمَّاهُ: (الجَامِعُ لِآدَابِ الشَّيْخِ وَالسَّامِعِ).
وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ ذَلِكَ مُهِمَّاتٌ فِي عُيُونِ الأَنْوَاعِ المَذْكُورَةِ.
قَالَ ابْنُ خَلَّادٍ وَغَيْرُهُ: يَنْبَغِي لِلشَّيْخِ أَنْ لَا يَتَصَدَّى لِلحَدِيثِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِكْمَالِ خَمْسِينَ سَنَةً, وَقَالَ غَيْرُهُ: أَرْبَعِينَ سَنَةً, وَقَدْ أَنْكَرَ القَاضِي عِيَاضٌ ذَلِكَ, بِأَنَّ أَقْوَامًا حَدَّثُوا قَبْلَ الأَرْبَعِينَ, بَل قَبْلَ الثَّلَاثِينَ. مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ, ازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ, وَكَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِهِ أَحْيَاءٌ.
قَالَ ابْنُ خَلَّادٍ فَإِذَا بَلَغَ الثَّمَانِينَ أَحْبَبْتُ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اخْتَلَطَ.
وَقَدِ اسْتَدْرَكُوا عَلَيْهِ بِأَنْ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ حَدَّثُوا بَعْدَ هَذَا السِّنِّ, مِنْهُمْ: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ, وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ, وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى, وَخَلقٌ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ, وَقَدْ حَدَّثَ آخَرُونَ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ مِائَةِ سَنَةٍ, مِنْهُمْ: الحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ, وَأَبُو القَاسِمِ البَغَوِيُّ, وَأَبُو إِسْحَاقَ الهُجَيْمِيُّ, وَالقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ -أَحَدُ الأَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ-, وَجَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ.
لَكِنْ إِذَا كَانَ الاعْتِمَادُ عَلَى حِفْظِ الشَّيْخِ الرَّاوِي, فَيَنْبَغِي الاحْتِرَازُ مِنِ اخْتِلَاطِهِ إِذَا طَعَنَ فِي السِّنِّ.
وأَمَّا إذا كانَ الاعتِمادُ على حِفظِ غَيْرِه وخَطِّهِ وضَبْطِه، فهَهُنا كُلَّمَا كانَ السِّنُّ عَاليًا كانَ الناسُ أَرْغَبَ في السَّماعِ عَلَيْهِ، كما اتَّفَقَ لشَيْخِنا أبي العَبَّاسِ أَحْمَدَ بنِ أَبِي طَالِبٍ العَبْسِيِّ الحَجَّارِ، فإنه جَاوَزَ المائَةَ مُحَقِّقًا، سَمِعَ على الزُّبَيْدِيِّ سَنَةَ ثَلاثِينَ وسِتِّمِائةٍ صَحِيحَ البُخَارِيِّ، وأَسمَعَهُ في سَنَةِ ثَلاثِينَ وسَبْعِمِائةٍ، وكانَ شَيْخًا كَبِيرًا عَامِّيًّا لا يَضْبِطُ شَيئًا، ولا يَتَعَقَّلُ كَثِيرًا مِنَ المعانِي الظاهِرَةِ، ومعَ هذا تَدَاعَى الناسُ إلى السَّمَاعِ مِنهُ عِندَ تَفَرُّدِه عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، فَسَمِعَ منه نَحْوٌ مِن مِائةِ أَلفٍ، أو يَزِيدُونَ. قالوا: وينبغِي أَنْ يَكُونَ المُحَدِّثُ جَمِيلَ الأخلاقِ حَسَنَ الطَّرِيقَةِ صَحِيحَ النِّيَّةِ، فإن عَزَبَتْ نِيَّتُهُ عنِ الخَيْرِ، فليَسْمَعْ، فإنَّ العِلمَ يُرْشِدُ إليه، قال بَعضُ السَّلَفِ: طَلَبْنَا العِلمَ لِغَيْرِ اللهِ، فأَبَى أَنْ يَكُونَ إلا للهِ. وقالُوا: لا يَنْبَغِي أَنْ يُحَدِّثَ بحَضْرَةِ مَن هُو أَوْلَى سِنًّا أو سَماعًا، بل كَرِهَ بَعْضُهُمُ التحديثَ لِمَنْ في البلَدِ أَحَقُّ منه، ويَنْبَغِي له أن يَدُلَّ عليه، ويُرْشِدَ إليه، فإن الدينَ النصيحةُ.
قالوا: لا يَنْبَغِي عَقْدُ مَجْلِسِ التحديثِ، وليَكُنِ المُسْمِعُ علَى أَكْمَلِ الهَيْئَاتِ، كمَا كانَ مالكٌ -رَحِمَهُ اللهُ- إذا حَضَرَ مَجْلِسَ التَّحْدِيثِ تَوَضَّأَ، ورُبَّمَا اغْتَسَلَ، وتَطَيَّبَ، ولَبِسَ أَحْسَنَ ثِيابِهِ، وعَلاهُ الوَقَارُ والهَيْبَةُ، وتَمَكَّنَ فِي جُلُوسِهِ وزَبَرَ مَن يَرْفَعُ صَوْتَهُ.
ويَنْبَغِي افتِتاحُ ذَلِكَ بقِرَاءَةِ شَيْءٍ مِنَ القُرآنِ تَبَرُّكًا وتَيَمُّنًا بتِلاوَتِهِ، ثم بَعْدَهُ التَّحْمِيدُ الحَسَنُ التامُّ، والصلاةُ علَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
قال الخطيبُ: ويَرْفَعُ صَوْتَهُ بذَلِكَ، قالَ الخَطِيبُ: وإذا مَرَّ بصَحَابِيٍّ تَرَضَّى عَنْهُ.
وحَسُنَ أن يُثْنِيَ علَى شَيْخِه كما كانَ عَطَاءٌ يقُولُ: حَدَّثَنِي الحَبْرُ البَحْرُ ابنُ عَبَّاسٍ، وكانَ وَكِيعٌ يَقُولُ: حَدَّثَنِي سُفيانُ الثَّوْرِيُّ أَمِيرُ المؤمنينَ في الحديثِ، ويَنْبَغِي أَلَّا يَذْكُرَ أَحَدًا بلَقَبٍ يَكْرَهُهُ، فأما لَقَبٌ يَتَمَيَّزُ به فلا بَأْسَ.