فمَا لِذِي غَيْبَةٍ اوْ حُضُورِ = كأَنْتَ وَهْوَ سَمِّ بالضميرِ(1)
يُشِيرُ إلى أنَّ الضميرَ ما دَلَّ على غَيْبَةٍ؛ كهُوَ، أو حضورٍ، وهو قِسمانِ:
أحدُهما: ضميرُ المخاطَبِ، نحوُ: أنتَ.
والثاني: ضميرُ المتكلِّمِ، نحوُ: أنا.
وذُو اتِّصَالٍ مِنْهُ ما لا يُبْتَدَا = ولا يَلِي إلاَّ اخْتِيَاراً أَبَدَا (2)
كالياءِ والكافِ مِن (ابْنِي أَكْرَمَكْ) = والياءِ والْهَا مِن (سَلِيهِ مَا مَلَكْ)(3)
الضميرُ البارِزُ يَنْقَسِمُ إلى مُتَّصِلٍ ومُنْفَصِلٍ:
فالمُتَّصِلُ: هو الذي لا يُبْتَدَأُ به؛ كالكافِ مِن (أَكْرَمَكَ) ونحوِه، ولا يَقَعُ بعدَ (إلاَّ) في الاختيارِ(4)؛ فلا يُقالُ: (ما أَكْرَمْتُ إلاَّكَ)، وقد جاءَ شُذُوذاً في الشعرِ؛ كقولِهِ:
13- أَعُوذُ بِرَبِّ العَرْشِ مِن فِئَةٍ بَغَتْ = عليَّ فمَا لِي عَوْضُ إلاَّهُ نَاصِرُ(5)
وقولِهِ:
14- وَمَا عَلَيْنَا إِذَا مَا كُنْتِ جَارَتَنَا = أَنْ لاَ يُجَاوِرَنَا إِلاَّكِ دَيَّارُ(6)
([1]) (فما) اسمٌ موصولٌ مفعولٌ به أَوَّلُ لسَمِّ، مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ نصبٍ، (لِذِي) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفِ صِلَةِ ما، وذِي مضافٌ و(غَيْبَةٍ) مضافٌ إليه.
(أو) عاطفةٌ (حُضُورِ) معطوفٌ على غَيْبَةٍ، (كَأَنْتَ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفِ خبرٍ لمبتدأٍ محذوفٍ، أو مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ حالٍ مِن ما، (وَهْوَ) معطوفٌ على (أنتَ).
(سَمِّ) فعلُ أمرٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباَ تقديرُه أنتَ، (بالضميرِ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بسَمِّ، وهو المفعولُ الثاني لسَمِّ.
([2]) (وذُو) مبتدأٌ، وذو مضافٌ و(اتِّصَالٍ) مضافٌ إليه، (مِنْهُ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ نعتٍ لذي اتِّصَالٍ، (مَا) اسمٌ موصولٌ خبرُ المبتدأِ، مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعٍ، (لاَ) نافيةٌ، (يُبْتَدَا) فعلٌ مضارعٌ مبنيٌّ للمجهولِ، ونائبُ الفاعلِ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو، والجملةُ لا محَلَّ لها من الإعرابِ؛ صِلَةُ الموصولِ، والعائدُ محذوفٌ؛ أي: لا يُبْتَدَأُ به، كذا قالَ الشيخُ خالدٌ، وهو عجيبٌ غايةَ العَجَبِ؛ لأنَّ نائبَ الفاعلِ إذا كانَ راجعاً إلى (ما) كانَ هو العائدَ، وإنْ كانَ راجعاً إلى شيءٍ آخرَ غيرِ مذكورٍ فَسَدَ الكلامُ، ولَزِمَ حذفُ العائدِ المجرورِ بحرفِ جرٍّ، معَ أنَّ الموصولَ غيرُ مجرورٍ بمِثْلِه، وذلكَ غيرُ جائزٍ.
والصوابُ أنَّ في قَوْلِهِ: يُبْتَدَأُ ضميراً مُسْتَتِراً تقديرُه هو يعودُ إلى (ما) هو العائِدُ، وأنَّ أصلَ الكلامِ: ما لا يُبْتَدَأُ به، فالجارُّ والمجرورُ نائبُ فاعلٍ، فحَذَفَ الجارَّ وأَوْصَلَ الفعلَ إلى الضميرِ فاسْتَتَرَ فيه. فتَدَبَّرْ ذلك وتَفَهَّمْهُ .
(ولا) الواوُ عاطفةٌ، لا نافيةٌ، (يَلِي) فعلٌ مضارعٌ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ إلى ما، والجملةُ معطوفةٌ على جملةِ الصلةِ، (إِلاَّ) قُصِدَ لفظُه: مفعولٌ به لـ (يَلِي).
(اختياراً) منصوبٌ على نَزْعِ الخافضِ؛ أي: في الاختيارِ.
(أبدَا) ظرفُ زمانٍ مُتَعَلِّقٌ بـ (يَلِي).
([3]) (كالياءِ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرٍ لمبتدأٍ محذوفٍ؛ أي: وذلكَ كائنٌ كالياءِ.
(والكافِ) معطوفٌ على الياءِ، (مِن) حرفُ جرٍّ، ومجرورُه قولٌ محذوفٌ، والجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ حالٍ مِن الياءِ والكافِ.
(ابْنِي) مبتدأٌ ومضافٌ إليه.
(أَكْرَمَكْ) أَكْرَمَ: فعلٌ ماضٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جَوَازاً تقديرُه هو يعودُ إلى ابْنِي، والكافُ مفعولٌ به، والجملةُ في محَلِّ رفعِ خبرِ المبتدأِ وهو ابْنِي.
(والياءِ والْهَا): معطوفانِ على الياءِ السابقةِ.
(مِن) حرفٌ جارٌّ لقولٍ محذوفٍ، والجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ حالٍ؛ أي: والياءِ والهاءِ حالَ كَوْنِهِما مِن قَوْلِكَ ... إلخ، (سَلِيهِ) سَلِي: فعلُ أمرٍ، وياءُ المخاطَبَةِ فاعلٌ، والهاءُ مفعولٌ أوَّلُ.
(مَا) اسمٌ موصولٌ مفعولٌ ثانٍ لسَلِي.
(مَلَكْ) فعلٌ ماضٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو، والجملةُ لا محلَّ لها من الإعرابِ؛ صلةُ ما، والعائدُ إلى الموصولِ محذوفٌ؛ أي: سَلِيهِ الذي مَلَكَهُ.
([4]) أجازَ جماعةٌ ـ مِنهم ابنُ الأَنْبَارِيِّ ـ وُقُوعَه بعدَ (إلاَّ) اختياراً، وعلى هذا فلا شُذُوذَ في البيتيْنِ ونحوِهما.
([5]) هذا البيتُ مِن الشواهدِ التي لا يُعْرَفُ لها قائلٌ.
اللغةُ: (أَعُوذُ) أَلْتَجِئُ وأَتَحَصَّنُ، و(الفِئَةُ) الجماعةُ، و(البَغْيُ) العُدوانُ والظلمُ، و(عَوْضُ) ظرفٌ يَسْتَغْرِقُ الزمانَ المستقبَلَ مثلُ (أبداً)، إلاَّ أنه مُخْتَصٌّ بالنفيِ، وهو مبنيٌّ على الضمِّ كقَبْلُ وبعدُ.
المعنى: إني أَلْتَجِئُ إلى ربِّ العرشِ وأَتَحَصَّنُ بحِمَاهُ مِن جماعةٍ ظَلَمُوني وتَجَاوَزُوا مَعِي حدودَ النَّصَفَةِ، فليسَ لي مُعِينٌ ولا وَزَرٌ سِوَاهُ.
الإعرابُ: (أَعُوذُ) فعلٌ مضارعٌ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وجوباً تقديرُه أنا.
(بِرَبِّ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بأعوذُ، ورَبِّ مضافٌ و(العرشِ) مضافٌ إليه، (مِنْ فِئَةٍ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بأعوذُ، (بَغَتْ) بَغَى: فعلٌ ماضٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هي يعودُ إلى فِئَةٍ، والتاءُ للتأنيثِ، والجملةُ في محلِّ جرِّ صفةٍ لفِئَةٍ، (عَلَيَّ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ ببَغَى، (فَمَا) نافيةٌ، (لي) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرٍ مقدَّمٍ، (عَوْضُ) ظرفُ زمانٍ مبنيٌّ على الضمِّ في محلِّ نصبٍ مُتَعَلِّقٌ بناصِرُ الآتِي، (إِلاَّهُ) إلاَّ: حرفُ استثناءٍ، والهاءُ ضميرٌ وُضِعَ للغائبِ، وهو هنا عائدٌ إلى رَبِّ العرشِ، مُسْتَثْنًى مبنيٌّ على الضمِّ في محَلِّ نصبٍ، (نَاصِرُ) مبتدأٌ مؤخَّرٌ.
الشاهدُ فيه: قولُه: (إلاَّهُ) حيثُ وَقَعَ الضميرُ المتَّصِلُ بعدَ إلا،َّ وهو شاذٌّ لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةِ الشعرِ، إلا عندَ ابنِ الأنبارِيِّ ومَن ذهَبَ نحوَ مَذْهَبِه، فإنَّ ذلك عندَهم سائغٌ جائزٌ في سَعَةِ الكلامِ، ولكَ عندَهم أنْ تَحْذُوَ على مِثالِهِ.
وقدْ هَوَّنَ هذا الشذوذَ أنَّ الأصلَ في الضميرِ أنْ يكونَ متَّصِلاً؛ بدليلِ أنه لا يُعْدَلُ عن الضميرِ المتَّصِلِ إلاَّ إذا تَعَذَّرَ الإتيانُ به، وشيءٌ آخرُ يُسَهِّلُ هذا الشذوذَ، وهو أنَّ (إلا) بمعنى (غَيْرِ)، وأنتَ لو جِئْتَ بغَيْرِ هنا لوَجَبَ أنْ تقولَ: (غَيْرَهُ) فتَأْتِيَ بالضميرِ المتَّصِلِ، فقدْ حَمَلَ الشاعرُ إلاَّ على غيرِ لكونِهِما بمعنًى واحدٍ.
([6]) وهذا البيتُ أيضاًً من الشواهدِ التي لا يُعْرَفُ قائِلُها.
اللغةُ: (وَمَا عَلَيْنَا) يُرْوَى في مكانِه: (وما نُبَالِي) مِن المُبَالاةِ بمعنَى الاكتراثِ بالأمرِ والاهتمامِ له والعنايةِ به، وأكثرُ ما تُسْتَعْمَلُ هذه الكَلِمَةُ بعدَ النفيِ؛ كما رأيتَ في بيتِ الشاهدِ، وقد تُسْتَعْمَلُ في الإثباتِ إذا جاءَتْ معَها أُخْرَى منفيَّةٌ، وذلكَ كما في قولِ زُهَيْرِ بنِ أبي سُلْمَى المُزَنِيِّ:
لَقَدْ بَالَيْتُ مَظْعَنَ أُمِّ أَوْفَى = وَلَكِنْ أُمُّ أَوْفَى لاَ تُبَالِي
و(دَيَّارُ) معناهُ أحدٌ، ولا يُسْتَعْمَلُ إلاَّ في النفيِ العامِّ، تقولُ: ما في الدارِ مِن دَيَّارٍ، وما في الدارِ دَيُّورٌ، تُرِيدُ: ما فيها مِن أحدٍ، قالَ اللهُ تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} يُرِيدُ: لا تَذَرْ مِنهم أحداً، بلِ اسْتَأْصِلْهُم وأَفْنِهِم جَميعاً.
المعنى: إذا كُنْتِ جارَتَنَا فنحنُ لا نَكْتَرِثُ بعدمِ مجاورةِ أحدٍ غيرِكِ، يريدُ: أنها هي وحدَها التي يَرْغَبُ في جِوَارِها ويُسَرُّ له.
الإعرابُ: (وما) نافيةٌ.
(نُبَالِي) فعلٌ مضارعٌ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجوباً تقديرُه نحنُ.
(إِذَا) ظرفٌ مُتَضَمِّنٌ معنى الشرطِ.
(ما) زائدةٌ.
(كُنْتِ) كانَ الناقصةُ واسمُها.
(جَارَتَنَا) جارَةَ: خبرُ كانَ، وجارَةَ مضافٌ، ونَا: مضافٌ إليه، والجملةُ مِن كانَ واسمِها وخبرِها في محلِّ جرٍّ بإضافةِ إذَا إليها.
(أنْ) مَصْدَرِيَّةٌ، (لاَ) نافيةٌ.
(يُجَاوِرَنَا) يُجَاوِرَ: فعلٌ مضارعٌ منصوبٌ بأنْ، ونَا: مفعولٌ به ليُجَاوِرَ.
(إلاَّكِ) إلا: أداةُ استثناءٍ، والكافُ مُسْتَثْنًى مبنيٌّ على الكسرِ في محلِّ نصبٍ، والمستثنَى مِنه دَيَّارُ الآتِي.
(دَيَّارُ) فاعلُ يُجَاوِرَ، وأنْ وما دَخَلَتْ عليه في تأويلِ مصدرٍ مفعولٍ به لنُبَالِي؛ أي: وما نُبالِي عَدَمَ مجاورةِ أحدٍ سِوَاكِ.
ومَن رَوَاهُ (وما عَلَيْنَا) تكونُ ما نافيةً أيضاًً، وعلينا: جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرٍ مقدَّمٍ، وأنِ المصدريَّةُ وما دَخَلَتْ عليه في تأويلِ مصدرٍ مرفوعٍ يَقَعُ مبتدأً مؤخَّراً.
ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ (ما) استفهاميَّةً بمعنَى النفيِ مبتدأٌ، و(عَلَيْنَا): جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرٍ، والمصدرُ المؤوَّلُ مِن أنْ وما دَخَلَتْ عليه منصوبٌ على نَزْعِ الخافضِ، وكأنَّه قد قالَ: أيُّ شيءٍ كائنٌ علينا في عدمِ مُجَاوَرَةِ أحدٍ لنا إذا كُنْتِ أنتِ جارَتَنَا؟
ويَجُوزُ أنْ تكونَ (ما) نافيةً، و(علينا): مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرِ مبتدأٍ محذوفٍ، والمصدرُ منصوبٌ على نزعِ الخافضِ أيضاًً، والتقديرُ على هذا: وما علينا ضَرَرٌ في عدمِ مُجَاوَرَةِ أحدٍ لنا إذا كنتِ أنتِ جَارَتَنَا.
الشاهدُ فيه: قولُه: (إلاَّكِ) حيثُ وَقَعَ الضميرُ المتَّصِلُ بعدَ (إلاَّ) شُذُوذاً.
وقالَ المُبَرِّدُ: ليسَتِ الروايةُ كما أَنْشَدَهَا النُّحَاةُ، (إلاَّكِ) وإنما صِحَّةُ الروايةِ:
* ألاَّ يُجَاوِرَنَا سِوَاكِ دَيَّارُ *
وقالَ صاحبُ اللُّبِّ: روايةُ البَصْرِيِّينَ:
* أَلاَّ يُجَارِوَنَا حَاشَاكِ دَيَّارُ *
فلا شاهدَ فيه على هاتيْنِ الروايتيْنِ. فتَفَطَّنْ لذلكَ.