دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم اللغة > متون علوم اللغة العربية > الأدب > لامية العرب

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 10 محرم 1430هـ/6-01-2009م, 05:17 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي شرح لامية العرب (5/10) [وأغدو إلى القوت الزهيد كما غدا ... أزل تهاداه التنائف أطحل]


26- وأغْدُو إلى القُوتِ الزهيدِ كما غَدَا = أَزَلُّ تَهَادَاهُ التَّنَائِفُ أطْحَلُ
27- غَدَا طاوِياً يُعَارِضُ الريحَ حافِياً = يَخُوتُ بأذْنَابِ الشِّعَابِ ويَعْسِلُ
28- فلمَّا لَوَاهُ القُوتُ منْ حيثُ أَمَّهُ = دَعَا فأجابَتْهُ نظائرُ نُحَّلُ
29- مُهَلَّلَةٌ شِيبُ الوُجُوهِ كأنَّهَا = قِدَاحٌ بِكَفَّيْ ياسرٍ تتَقَلْقَلُ
30- أو الخَشْرَمُ المَبْعُوثُ حَثْحَثَ دَبْرَهُ = مَحَابِيضُ أَرْسَاهُنَّ سَامٍ مُعَسِّلُ
31- مُهَرَّتَةٌ فُوهٌ كأنَّ شِدَاقَهَا = شُقُوقُ العِصِيِّ كَالِحَاتٌ وَبُسَّلُ
32- فَضَجَّ وضَجَّتْ بالبَرَاحِ كأنَّها = وإيَّاهُ نُوحٌ فوقَ عَلْيَاءَ ثُكَّلُ
33- فَأَغْضَى وأَغْضَتْ وابْتَسَى وابْتَسَتْ بهِ = مَرَامِلُ عَزَّاهَا وَعَزَّتْهُ مُرْمِلُ
34- شَكَا وشَكَتْ ثمَّ ارْعَوَى بعدُ وَارْعَوَتْ = ولَلصبرُ إنْ لمْ ينْفَعِ الشَّكْوُ أجمَلُ
35- وفَاءَ وفاءَتْ بادِرَاتٍ وكُلُّها = على نَكَظٍ مِمَّا يُكَاتِمُ مُجْمِلُ


  #2  
قديم 10 محرم 1430هـ/6-01-2009م, 10:36 PM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 6,511
افتراضي شرح أبي فيد مؤرج بن عمرو السدوسي


28 - وأَغدُو إلى القُوتِ الزَّهِيدِ كما = غَدَا أزَلُّ تَهاداهُ التنائِفُ أَطْحَلُ

القُوتُ: ما يُمْسِكُ الرَّمَقَ مِن الرزْقِ.
والزَّهيدُ: القليلُ الطُّعْمِ.
وأزَلُّ: ذِئبٌ، سُمِّيَ بذلك لأنه خالِي الْمُؤَخَّرِ مِن اللحْمِ, يُقالُ: امرأةٌ زَلاَّءُ.
والتَّنائفُ: الْمَفاوِزُ، واحدُها تَنُوفَةٌ.
وأَطْحَلُ: في لَوْنِه شِبْهُ الرَّمادِ.
قالَ غيرُه: الزَّهيدُ: القليلُ، أَطْحَلُ: لَونُ الدُّخَانِ، قالَ: وكُلُّ سَبُعٍ أَزَلُّ.

29 - غَدَا طاويًا يُعارِضُ الريحَ حافيًا = يَخوتُ بأذنابِ الشِّعابِ ويَعْسِلُ

ويُرْوَى: هَافِيًا.
يَخُوتُ: يُسْرِعُ، يُقالُ: عُقابٌ خَائِتَةٌ إذا جَدَّتْ في طَيَرَانِها فسَمِعْتَ حَفيفَ جَنَاحِها، خاتَتْ تَخُوتُ خَوْتًا وخواتًا.
وواحدُ الشِّعابِ: شُعبةٌ, وعَسَلانُ الذئْبِ: عَدْوٌ فيه اضطرابٌ.
وأَنْشَدَ: (السريع)
تَعْسِلُ تَحتِي عَسَلانًا كما يَعْسِلُ نحوَ الغَنَمِ الذيبُ
قالَ غيرُه: الشِّعابُ: مَسايِلُ الوَادي، والأَذنابُ مِن كلِّ شيءٍ: الأسافِلُ.

30 - فلمَّا لواه القُوتُ من حيثُ أَمَّهُ = دَعَا فأجابَتْهُ نَظائِرُ نُحَّلُ

أصْلُ لَوَيْتُه: مَطَلْتُه، أيْ: لم يُصِبْ ما يَأكُلُ، وتَطَاوَلَ عليه مِن حيثُ قَصَدَه فلم يَجِدْ طعامًا، دعا: استَعْوَى الذئابَ فأَجابَتْهُ، نَظائِرُ, أيْ: أَشباهٌ, كلُّ واحدٍ منها نَظيرُ صاحبِه في الْجُوعِ والْخِلْقَةِ، والنُّحَّلُ: القَليلةُ اللحومِ والْمَهازِيلُ.
وأَمَّهُ: قَصَدَ نَحوَه.

31 - مُهَلَّلةٌ شِيبُ الوُجوهِ كأنها = قِداحٌ بأَيْدِي ياسرٍ تَتَقَلْقَلُ

مُهَلَّلَةٌ: مُخَفَّفَةُ اللحومِ كأنها أَهِلَّةٌ مِن ضُمْرِها وهُزَالِها، شِيبُ الوُجوهِ, أيْ: تَغيَّرَتْ ألوانُها فكأنها مِن ضُمْرِها شِيبٌ. والياسِرُ: الْمُفِيضُ بالْقِدَاحِ الضارِبُ بها، واسْمُه الْحُرْضَةُ في الجاهليَّةِ، وهو الذي لم يَأكلِ اللحْمَ بثَمَنٍ قطُّ، ولا يَحِلُّ له عندَهم إلاَّ أنْ يَضْرِبَ بينَ الياسِرَيْنِ بالْقِداحِ, فيَأكُلُ مِن الْجَزورِ التي يَيْسِرُ عليها القومُ.
قالَ غيرُه: يقولُ: هذا الذئْبُ في دِقَّتِه مِثلُ الهلالِ أوَّلَ ما يَبْدُرُ.
شِيبٌ: بِيضٌ.
يَتقَلْقَلُ: يَجيءُ ويَذهَبُ في كَفِّهِ.

32 - أو الْخَشْرَمُ المبعوثُ حَثْحَثَ دُبْرَه = مَحابيضُ أَرْسَاهُنَّ سامٍ مُعَسِّلُ
33 - مُهَرَّتَةٌ فُوهٌ كأنَّ شُدوقَها = شُقوقُ العِصِيِّ كالحاتٌ وبُسَّلُ
مُهَرَّتَةٌ: يَعنِي الذئابَ، وهي واسعةُ الأشداقِ، واحدُها أَهْرَتُ, والاسمُ: الْهَرَتُ، ويقالُ: شِدْقٌ وشَدْقٌ وأشداقٌ وشُدوقٌ، وقولُه: شُقوقُ العِصِيِّ.
شَبَّهَ أَفواهَهَا بِمَشَقِّ العِصِيِّ.
والبُسَّلُ: الكريهةُ الْمَرْأَى الشِّدَادُ, واحدُها باسِلٌ.

34 - فَضَجَّ وضَجَّتْ بالبَراحِ كأنها = وإِيَّاه نَوْحٌ فوقَ عَلياءَ ثُكَّلُ

الْبَرَاحُ: الْمُتَّسِعُ مِن الأرضِ.
يقولُ: لَمَّا اسْتَعْوَى هذه ولم يَجِدْ طَعَامًا ضَجَّ هذا الذئْبُ وضَجَّتْ معه بالعُواءِ كأنها نَوْحٌ.
والنَّوْحُ: النِّساءُ يَبْكِينَ في الْمُصيبَةِ.
وأَنْشَدَ: (الرمل)
هاجَكَ النَّوْحُ قِيَامًاإذ يُجَاوِبْنَ النَّدَامَى
والعَلياءُ: الْمَكانُ العالِي.
وثُكَّلُ: جَمْعُ ثَاكِلٍ.
قالَ غيرُه: البَرَاحُ: الفَضاءُ مِن الأرضِ، ونَوْحٌ: جَمْعُ نائحةٍ، وثُكَّلُ: قد فُجِعَتْ بأَقَارِبِها.

35 - فأَغْضَى وأَغْضَتْ وابْتَسَى وابْتَسَتْ به = مَراميلُ عَزَّاها وعَزَّتْه مُرْمِلُ

يقولُ: أَغْضَى وأَغْضَتْ على ما بها مِن جُوعٍ.
ويُقالُ: قد بَسَأْتُ به وبَسِئْتُ له إذا أَنِسْتَ به.
وأَنْشَدَ لتَأَبَّطَ شَرًّا: (الطويل)
يَبِيتُ بِمَرْعَى الوَحْشِ حتى ابْتَسَتْ به
أيْ: أَنِسَتْ به.
ومَراميلُ, أيْ: جَمْعُ مُرْمِلٍ، وهو الذي نَفِدَ زادُه.
وعَزَّاهَا: صَبَّرَها وصَبَّرَتْهُ.
قالَ غيرُه: الإغضاءُ: الغُمْضُ, ويُرْوَى: واتَّسَى واتَّسَتْ به، وهو مِن الأَسَى وهو الْحُزْنُ، يُقالُ: أَسِيَ يَأْسَى أَسًى، ويُرْوَى: واتَّسَتْ واتَّسَى به.

36 - شكا وشَكَتْ ثم ارْعَوى بعدُ وارْعَوَتْ = ولَلصبرُ إن لم يَنفعِ الصَّبْرُ أَجْمَلُ
37 - وفاءَ وفَاءَتْ بادراتٍ وَكُلُّها = على نَكَظٍ مِمَّا يُكاتِمُ مُجْمِلُ
شَكَا, يَعنِي: هذا الذئْبُ إلى الذئابِ التي اسْتَعْوَاها وشَكَتْ إليه.
ثم ارْعَوَى وارْعَوَتْ عن العُواءِ أيْ: كَفَّتْ وكَلَّتْ.
وقولُه: ولَلصبْرُ إن لم يَنفعِ الصبْرُ أَجْمَلُ: وإنْ لم يَنفعِ الصبْرُ.
ويُرْوَى: إنْ لم يَنْفَعِ الشَّكْوُ.
ويُرْوَى: وفَاءَتْ بَادِيَاتٍ، وفاءَ وفَاءَتْ, أيْ: رَجَعَ ورَجَعَتْ, النَّكَظُ: العَجَلَةُ، ويُقالُ: الاغتمامُ والْجَهْدُ, ومُكاتَمَتُه مِن الْجُوعِ والْجَهْدِ.


  #3  
قديم 10 محرم 1430هـ/6-01-2009م, 10:38 PM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 6,511
افتراضي تفريج الكرب للشيخ: محمد بن القاسم ابن زاكور الفاسي


26- وأغْدُو إلى القُوتِ الزهيدِ كما غَدَا = أَزَلُّ تَهَادَاهُ التَّنَائِفُ أطْحَلُ
الُقوتُ: ما يُمْسِكُ الرمَقَ. والزهيدُ: القليلُ والضيِّقُ، أو المرغوبُ عنهُ، بمعنى المزهودِ فيهِ، المُحْتَقَرِ، فهذا يناسبُ قوْلَهُ: وأسْتَفُّ تُرْبَ الأرضِ... البيتَ.
والأزَلُّ: الذئبُ القليلُ لحمِ الأَلْيَةِ، وخَصَّهُ؛ لأنَّ ذلكَ أشدُّ لوثُوبِهِ وسُرعةِ سيرِهِ. والأَطْحَلُ: ذُو الطُّحْلَةِ ـ بالضمِّ ـ وهيَ لونٌ بينَ الغُبْرَةِ والبياضِ. والتَّنَائِفُ: جمعَ تَنُوفَةٍ، وهيَ المفازةُ. وهلْ وزنُ التَّنُوفَةِ فعُولَةٌ أو تَفْعِلَةٌ خلافٌ ذَكَرْنَاهُ في فرائدِ التبيانِ في شرحِ قلائدِ العِقْيانِ، وتهَادَاهُ أصْلُهُ تتهَادَاهُ بتاءَيْنِ، مُضَارعُ تَهَادَتْهُ؛ أي: أَهْدَاهُ بعضُها إلى البعضِ، وهوَ استعارةٌ لخروجِهِ منْ بعضِها إلى ما يليهِ في سيرِهِ لطلبِ قُوتِهِ. وهذهِ الاستعارةُ تُسَمَّى تبعِيَّةً؛ لأنَّها في الفعلِ، وسُمِّيَتْ بذلكَ لكَوْنِها بالتَّبَعِ لمصدرِ الفعلِ، بمعنى أنَّ المصدرَ مَحَلُّ التشبيهِ الذي انْبَنَتْ عليهِ الاستعارةُ، فجَرَى أوَّلاً ذلكَ في المصدرِ ثمَّ تَبِعَهُ في الفعلِ.
ومعنى البيتِ: وأَسِيرُ غُدْوَةً مثلاً إلى محلِّ القوتِ المزهودِ فيهِ فِرَاراً من الذمِّ سَيْراً حثيثاً شبيهاً بسيرِ الذئبِ القليلِ لحمِ العَجُزِ، المُغَبَّرِ اللونِ إلى قُوتِهِ في ذلكَ الوقتِ في حالِ كونِهِ تتهَادَاهُ المفاوزُ، وتدفَعُهُ أُولاها إلى ما يلِيهِ، وهكذا.
وغُدوُّ ( 8 / أ ) الذئبِ في طلبِ قُوتِهِ بالغُ الغايَةِ في الإبعادِ والسرعةِ، لا سيَّما إذا كانَ أزَلَّ، فتشبيهُ غُدُوِّهِ بغدوِّ الذئبِ لبيانِ حالِهِ في الغدوِّ في طلبِ القوتِ الذي يُنْجِيهِ من المقتِ المُحَقَّقِ لشِدَّةِ اجتنابِهِ من الذمِّ، فمضمونُ هذا البيتِ والذي قبلَهُ الاحتجاجُ على ما ادَّعَاهُ فيما قبْلَهُما من اجتنابِ المذَمَّاتِ وأنَفَتِهِ من الدنِيَّاتِ.
ثمَّ أخذَ يشرحُ أحوالَ الذئبِ في سيرِهِ إلى القوتِ؛ لِتَعْلَمَ منها حالَهُ هوَ في الطلبِ لكَوْنِهَا مثلَهَا، فقالَ:

27- غَدَا طاوِياً يُعَارِضُ الريحَ حافِياً = يَخُوتُ بأذْنَابِ الشِّعَابِ ويَعْسِلُ

الطَّاوِي: الذي طَوَى يَطْوِي, أيْ: لمْ يأْكُلْ شيئاً متعَمِّداً لذلكَ. والمُعَارَضَةُ المُبَارَاةُ. ويَخُوتُ، بالخاءِ المعجمةِ: يُسْرِعُ هنا، منْ خَوْتِ البازيِّ والعُقابِ, أي: انقِضَاضِهِمَا، وهوَ أسرعُ ما يكونُ. وأذنابُ الشِّعَابِ: أسَافِلُها، وعَسَلانُ الذئبِ، كعَسَلِهِ: خَبَبُهُ في مِشْيَتِهِ.
فجُمْلَةُ (غَدَا) استئنافِيَّةٌ لا محلَّ لها ـ لأَجْلِ ذلكَ ـ من الإعرابِ، ويجبُ فصلُها عن التي قبلَها المُقتضيَةِ سؤالاً يُجَابُ عنهُ بالثانيَةِ. وبيانُ ذلكَ أنَّ قولَهُ: كما غَدَا، اقتضى أنْ يقالَ: كيفَ غدا؟ فيقالُ: غدا طاوِياً، ولوْ تحَقَقَّ السؤالُ لوَجَبَ فصلُ الجوابِ عنهُ، فكذلكَ يجبُ فصلُ الجوابِ عمَّا يتضمَّنُ ذلكَ السؤالَ، ويُسَمَّى الفصلُ استئنافِيًّا كالجملةِ المُسْتَأْنَفِ بها.
والمعنى: غدا الذئبُ لِطَلَبِ القوتِ في حالِ كونِهِ جائعاً، وهذهِ الحالةُ لازمةٌ لهُ؛ ولذلكَ يقولونَ: رماهُ اللَّهُ بداءِ الذئبِ، أي: الجوعِ. وغدا أيضاً حالةَ كونِهِ يُبَارِي الريحَ في السرعةِ وفي حالِ كونِهِ ينْحَدِرُ في أسفلِ الشِّعَابِ مُسرعاً كما ينقضُّ البَازِيُّ، وفي حال كونِهِ يضْطَرِبُ في مِشيتِهِ منْ شدَّةِ السرعةِ، وواحدُ الشِّعَابِ، شَعْبَةٌ: وهيَ مَسِيلُ الماءِ إلى الوادي.

28- فلمَّا لَوَاهُ القُوتُ منْ حيثُ أَمَّهُ = دَعَا فأجابَتْهُ نظائرُ نُحَّلُ

لَوَيْتُ فُلاناً: مَطَلْتُهُ بحَقِّهِ، وهوَ هنا استعارةٌ لعدَمِ وِجْدَانِ الذئبِ القوتَ في المحلِّ الذي أمَّهُ؛ أيْ: قَصَدَهُ.
ولمَّا لمْ يجِدْ ذلكَ عوَى منْ خيبتِهِ في مطلبِهِ فأجابتْهُ ( 8 / ب ) نظائرُ: أيْ: أشْبَاهٌ لهُ في حالةٍ من الجوعِ ومنْ طلبِ القوتِ على الحالِ الذي وصفَ، ناحلةٌ مهزولةً منْ أجلِ ذلكَ.

29- مُهَلَّلَةٌ شِيبُ الوُجُوهِ كأنَّهَا = قِدَاحٌ بِكَفَّيْ ياسرٍ تتَقَلْقَلُ

المُهلَّلَةُ: التي تُشْبِهُ الهلالَ. وهذا استعمالٌ غريبٌ مُخِلٌّ بفصاحةِ الكلمةِ؛ إذْ لمْ يُعْهَد استعمالُ فَعَّلَ بالتشديدِ في التشبيهِ، ونظيرُ مُهَلَّلَةٍ هنا مُسَرَّجٌ في قولِ العَجَّاجِ: [ الرجز ]
وَفَاحِماً وَمَرْسِناً مُسَرَّجاً
أيْ: كالسيفِ السَّرِيجِيِّ في الدقَّةِ والاستواءِ، أوْ كالسراجِ في البريقِ واللمعانِ. والشِّيبُ: جمعُ أَشْيَبَ، وهوَ ها هنا المُتَغَيِّرُ لونَ الوَجْهِ على سبيلِ الاستعارةِ والقِدَاحُ: جمعُ قِدْحٍ بالكسرِ، وهوَ السهمُ قبلْ أنْ يُرَاشَ. وتَقَلْقُلُ القداحِ: تحرِيكُها واضطرابُها, ومِنْ لازمِ ذلكَ تصويتُهَا. واليَاسِرُ: الذي يُجِيلُهَا ويُفَرِّقُها، فِعْلُهُ يَسَرَ بالفتحِ، يَيْسِرُ بالكسرِ.
والمعنى على تشبيهِ الذئابِ العاويَةِ الضامرةِ من الجوعِ بقداحِ الميسرِ المُصَوَّتَةِ عندَ اضطرابِها في كفِّ المُفِيضِ: وهوَ اليَاسِرُ، فقولُهُ: تتقَلْقَلُ لا يتِمُّ المعنى بدُونِهِ. ومُهَلَّلَةٌ بالرفعِ منْ صفاتِ النظائرِ.

30- أو الخَشْرَمُ المَبْعُوثُ حثَّحْثَ دَبْرَهُ = مَحَابِيضُ أَرْسَاهُنَّ سَامٍ مُعَسِّلُ

الخَشْرَمُ، بالخاءِ والشينِ المُعجمتَيْنِ: النحلُ والزَّنَابِيرُ، وَاحِدَتُهُ بهاءٍ. والمبعوثُ: الذي هُيِّجَ مِنْ مَحَلِّهِ. والدَّبْرُ بالفتحِ: جماعةُ النحلِ والزنابيرِ، وبكسرِ الدالِ أيضاً فِيهما.
والأَلْيَقُ بالنظرِ إلى الدَّبْرِ أنْ يُفَسَّرَ الخَشْرَمُ بمأوى النحلِ هنا، أوْ بأميرِها، وهُما منْ معاني الخشرمِ أيضاً.
وحَثْحَثَةُ الدبرِ: تحريكُهُ بالمحابيضِ، بالضادِ المعجمةِ جمعُ مِحْبَضٍ بزِنَةِ مِنْبَرٍ، وهوَ عمودٌ يُشَارُ بهِ العسلَ ويُطْرَدُ بهِ الدبرُ. وإِرْسَاءُ المحابيضِ: إثباتُها. والسَّامِي المُعَسَّلُ المُرْتَقِي لطلبِ العَسَلِ كالمُسْتَعْسِلِ. فَـ (الخشرمُ) معطوفٌ على قداحٍ.
والمعنى على تشبيهِ الذئابِ النُّحَّلِ في حالةِ عُوَائِهَا بأميرِ النحلِ الذي حَرَّكَ دَبْرَهُ بالأعوادِ المُسَمَّاةِ بالمَحَابِيضِ مُرِيدُ عسَلِها، وصَوْتُ النحلِ إذْ ذَاكَ مُتوفِّرٌ مُتواترٌ، وتشْبِيهُها بالنحلِ المبعوثِ أدَلُّ على شدَّةِ صوْتِها منْ تشْبِيهِها ( 9 / أ ) بالقِدَاحِ المُضْطَرِبَةِ في كَفَّي الياسرِ.

31- مُهَرَّتَةٌ فُوهٌ كأنَّ شِدَاقَهَا = شُقُوقُ العِصِيِّ كَالِحَاتٌ وَبُسَّلُ

المُهَرَّتَةُ: الواسعةُ الأشداقِ. والفُوهُ: جمعُ أَفْوَهَ وفَوْهَاءَ، للواسعِ الفمِ، ومَنْ تخرجُ أسنانُهُ منْ شَفَتَيْهِ منْ طُولِهَا. وصفةُ ذلكَ: الفَوَهُ بالتحريكِ. والكَالِحَاتُ: المُتَكَشِّرَاتُ في عُبُوسٍ، والبُسَّلُ جمعُ بَاسِلٍ: وهوَ الكَرِيهُ المَنْظَرِ هنا.
وصَفَ الذئابَ بسَعةِ الأشداقِ، وببروزِ أنيابِها لطُولِها منْ شفتَيْهَا، وبالعُبُوسِ وكراهةِ المنظرِ منْ أجْلِ سَعةِ أفمامِها حتَّى أشْبَهَتْ أشدْاقُها شُقُوقَ العِصِيِّ في الطولِ معَ التزاقِ أحدِ الشقَّيْنِ بالآخرِ.

32- فَضَجَّ وضَجَّتْ بالبَرَاحِ كأنَّها = وإيَّاهُ نُوحٌ فوقَ عَلْيَاءَ ثُكَّلُ

الضَّجِيجُ: صِيَاحُ الجازعِ والمغلوبِ، والبَرَاحُ: الفضاءُ. والنُّوحُ: جمعُ نائحةٍ. والعلياءُ: المكانُ العالي. والثُّكَّلُ: جمعُ ثَاكِلٍ، وهيَ الفَاقِدُ لولَدِهَا.
يقولُ: فَصَاحَ الذئبُ صِياحَ مَحْزُونٍ، وصَاحَتْ معَهُ النظائرُ النُّحَّلُ في الفضاءِ في حالِ كونِها وإيَّاهُ تُشْبِهُ نساءً فاقداتٍ لأولادِهِنَّ نائحاتٍ عليها فوقَ مكانٍ مُشْرِفٍ. وهذا الضجيجُ غيرُ دُعائِهِ وإجابَتِها؛ لأنَّ ذلكَ إجابةٌ للصوتِ منْ بعيدٍ. وهذا بعدَ الاجتماعِ، ولذلكَ رَتَّبَهُ على ما تقدَّمَ بالفاءِ التي تقتضي التَّسْبِيبَ.

34- فَأَغْضَى وأَغْضَتْ وابْتَسَى وابْتَسَتْ بهِ = مَرَامِلُ عَزَّاهَا وَعَزَّتْهُ مُرْمِلُ

أغْضَى، بالغينِ والضادِ المُعجمتَيْنِ: أدْنَى الجَفْنَ من الجَفْنِ, وأغْضَى الشيءَ: سَكَتَ عنهُ. وابْتَسَى، بالمُوَحَّدَةِ التحتِيَّةِ قبلَ المُثَنَّاةِ الفوقِيَّةِ: أَنِسَ، كَبَسَأَ بزِنَةِ: جَعَلَ وفَرِحَ، وهوَ في الأصلِ مهموزٌ، فسَهَّلَ الهمزةَ أَلِفاً هنا ضَرُورَةً. والمَرَامِلُ: التي نَفِدَ زَادُهَا، واحِدُها مُرْمِلٌ، فَـ(مَرَامِلُ) فاعلُ (ابتَسَمَتْ)، و(مُرْمِلٌ) فاعلُ (عزَّاها).
يقولُ: فَأَغْضَى الذِّئْبُ، وأغْضَت الذئابُ معهُ: أيْ: سَكَتَتْ بعدَ صياحٍ مُدْنِيَةً لجُفُونِهَا، وأَنِسَ هوَ بها وأَنِسَتْ بهِ مُقْفِرَاتٍ من الطعامِ، صَبَّرَهَا مُقْفِرٌ مثْلُها وصَبَّرَتْهُ هيَ.
ويصحُّ أنْ يكونَ (مَرَامِلُ) خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ؛ أيْ: هيَ مَرَامِلُ، وهوَ أولى لسَلامَتِهِ منْ وضعِ الظاهرِ موضعَ المُضْمَرِ، واللَّهُ ( 9 / ب ) أعلمُ سُبحانَهُ.
وأَوْلَى من التقديرَيْنِ أنْ يكونَ منصوباً على الحالِ منْ فاعلِ (ابْتَسَتْ)، وهوَ ضميرُ الذئابِ.

34- شَكَا وشَكَتْ ثمَّ ارْعَوَى بعدُ وَارْعَوَتْ = وللصبرِ إنْ لمْ ينْفَعِ الشَّكْوُ أجمَلُ

الارْعِوَاءُ: النُّزُوعُ عن الجَهْلِ، وحُسْنُ الرجوعِ عنهُ.
يقولُ: شَكَا الذئبُ للذئَابِ عندَ اجتمَاعِهِم ما يجِدُهُ من الجوعِ والخَيْبَةِ في الطلبِ، وشَكَتْ هيَ لهُ ذلكَ. ثمَّ نَزَعَ عنْ ذلكَ بعدُ، وكفَّ وكفَّتْ هيَ أيضاً عن الشَّكْوَى، صابرةً على تلكَ البلوى، ولَلصَّبْرُ أكثرُ جمالاً من الشكوى إنْ لمْ يكُنْ لها نفعٌ. والمُشَارَكَةُ بينَ الصبرِ والشكوى في الجمالِ بحسَبِ اعتقادِ الشاكي على ما يقتضيهِ الطبعُ، وإلاَّ فلا جمالَ للجزَعِ والشكوى بالنسبةِ للصبرِ، حتَّى يكونَ الصبرُ زائداً عليهِ بعدَ المشاركةِ. نَعَمْ قدْ يكونُ الجزَعُ في بعضِ المواطنِ هوَ الجميلَ دونَ الصبرِ كفقدِ الدِّينِ ومَنْ جاءَ بالدِّينِ خاتَمِ النبيِّينَ، وإمامِ المُرسلِينَ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وعليهم أجمعينَ، فإنَّهُ كما قالَ شاعِرُهُ حسَّانُ بنُ ثابتٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ: [ الكامل ]

والصَّبْرُ يُحْمَدُ في المواطنِ كُلِّها = إلاَّ عليكَ فإنَّهُ مذْمُومُ


35- وفَاءَ وفاءَتْ بادِرَاتٍ وكُلُّها = على نَكَظٍ مِمَّا يُكَاتِمُ مُجْمِلُ

الفَيْئَةُ: الرجوعُ، والبَادِرُ: الذي بَدَرَ غيرَهُ إلى الأمرِ، سَبَقَهُ إليهِ وعاجَلَهُ. والنَّكَظُ، بالنونِ والكافِ والظاءِ المُشَالَةِ مُحرَّكةً: الجَهدُ والمشقَّةُ هنا. والمُكاتَمَةُ: الكَتْمُ والكِتْمانُ؛ أي: الإخفاءُ. والإجمالُ: التُّؤَدَةُ والاعتدالُ في الطلبِ منْ غيرِ إفراطٍ.
و (بَادِرَاتٍ) منصوبٌ على الحالِ منْ فاعلِ (فاءَتْ). و(كلُّها) مبتدأٌ خبرُهُ (مُجْمِلُ) بسكونِ الجيمِ وكسرِ الميمِ. و(على نَكَظٍ) حالٌ من الضميرِ المُسْتَتِرِ في الخبَرِ، و(علَى) فيهِ بمعنى (مَعَ). و(ما) في (مِمَّا يُكَاتِمُ) موصولٌ اسمِيٌّ، و(يُكَاتِمُ) صِلَتُهُ، والعائدُ محذوفٌ؛ لأنَّهُ منصوبٌ بالفعلِ.
وتقديرُ البيتِ: ثمَّ ارعَوَى وارعَوَتْ ورَجَعَ عَوْدُهُ على بدْئِهِ، ورجعَتْ هيَ أيضاً في حالِ كونِهَا سابقاتٍ إلى الفيئةِ، وكلُّ واحدةٍ منها مُتَّئِدٌ في طلبِ القوتِ معتدلٌ فيهِ، ليسَ معهُ شيءٌ من الإفراطِ المُؤْذِنِ بشدَّةِ الحرصِ معَ جهدٍ ومشقَّةٍ كائنٍ من الذي يُخْفِيهِ من ( 10 / أ ) الجوعِ الشديدِ الذي لا يُشْبِهُ الجوعَ، وقدْ قدَّمْنَا المَثَلَ الذي يُضْرَبُ في جوعِ الذئبِ، وهوَ قوْلُهُم: رماهُ اللَّهُ بدَاءِ الذئبِ، ويقولونَ أيضاً: هوَ كالذِّئْبِ يُغْبِطُ بذِي بطْنِهِ وهوَ جائعٌ، وإذا كانَ الذئبُ ـ وهوَ حيوانٌ أعجمُ منْ أحقرِ الحيواناتِ على ما يُكَابِدُهُ من التعبِ المُفْرِطِ من الجوعِ والحاجةِ الشديدةِ ـ ليسَ بشديدِ الحرصِ على القوتِ فينبغي للإنسانِ وهوَ فاهمٌ عاقلٌ ألاَّ يكونَ شرًّا من الذئبِ في ذلكَ.


  #4  
قديم 11 محرم 1430هـ/7-01-2009م, 12:53 AM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 6,511
افتراضي أعجب العجب لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري


وأَغْدُو على القُوتِ الزهيدِ كما غَدَا = أَزَلُّ تَهاداهُ التَّنَائِفُ أَطْحَلُ

الزهيدُ: القَليلُ, يُقالُ: رجُلٌ زَهيدُ الأَكْلِ، أيْ قَليلُه، ووَادٍ زَهيدٌ, إذا كانَ قليلَ الأخْذِ للماءِ، والأزَلُّ الخفيفُ الوَرِكَيْنِ، والسِّمْعُ الأَزَلُّ هو الذئْبُ الأَرْسَحُ, يتَوَلَّدُ مِن الضَّبُعِ والذئْبِ, وهذه الصفةُ لازمةٌ له، كما يُقالُ: الضَّبُعُ العَرجاءُ، وفي الْمَثَلِ: (أَسْمَعُ مِن الذئبِ الأَزَلِّ) والتنائِفُ جمْعُ تَنُّوفَةٍ وهي الْمَفازَةُ، ومعنى "تَهاداهُ" أنه كُلَّما خَرَجَ مِن تَنُّوفَةٍ دخَلَ إلى أُخرى، والأطحَلُ هو الذي لونُه بينَ الغُبرةِ والبياضِ، وشرابٌ أطْحَلُ إذا لم يكنْ صَافِياً.
وأَغْدُو معطوفٌ على ما قَبْلَه، وعلى القُوتِ خبرُ أَغْدُو، أيْ أَغْدُو قليلَ الزادِ، والكافُ نعْتٌ لمصدَرٍ محذوفٍ، أيْ غُدُوًّا كغُدُوِّ أزَلَّ، ومعنى هذه الكافِ التشبيهُ، وتَقَعُ في الكلامِ على أنواعٍ:
في موْضِعِ حرْفٍ فقط، وذلك إذا كانتْ صِلَةً، تَقولُ: الذي كزيدٍ بكْرٌ، ولو كانَتِ اسْمًا لَمَا اسْتَقَلَّتِ الصفةُ بها.
وفي مَوْضِعِ اسمٍ فقط كقولِ الشاعرِ:

أتَنْتَهُونَ ولنْ يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ = كالطعْنِ يَهْلِكُ فيه الزيتُ والفُتُلُ

فهنا هي فاعلٌ، فيَتعيَّنُ أنْ تكونَ اسماً مفْرَداً، وكذلك إذا دَخَلَ عليها حرْفُ الْجَرِّ مِثلُ:
يَضحكنَ عن كالْبَرَدِ الْمُنْهَمِ
تَقَعُ مُحْتَمِلَةً للأمرينِ، كقولِك: زيدٌ كعمرٍو، وإنما فُتِحَتْ وكُسِرَتِ اللامُ والباءُ؛ لأنَّ الأصْلَ في الحروفِ الأُحَادِيَّةِ الفتْحُ، لأنها مَبْدَأُها، والابتداءُ بالساكنِ الذي هو الأصْلُ متعَذِّرٌ، فاضْطَرُّوا إلى الحركةِ، والضرورةُ لا تَدعُو إلى تَعيينِ حركةٍ، وقد انْدَفَعَتْ بأَخَفِّها وهي الفتْحُ، فلا يُعْدَلُ إلى غيرِه، وقد امتازَتِ الكافُ بأنْ وَقعتِ اسماً، فبَعُدَتْ عن اللامِ والباءِ، فرُدَّتْ إلى الأصلِ، و"ما" في "كما" مَصدريَّةٌ، وأزَلُّ غيرُ منصَرِفٍ للصفةِ ووزْنِ الفعلِ، وتَهادَاهُ صِفةٌ للأزَلِّ، أيْ مُتهادٍ، وأطحَلُ نعْتٌ للأَزَلِّ.

غَدَا طَاوِياً يُعارِضُ الريحَ هافِياً = يَخوتُ بأذنابِ الشِّعابِ ويَعْسِلُ

الطاوِي الجائعُ، وكذلك الطَّيَّانُ، وهافِيًا يَحْتَمِلُ أنْ يُرادَ به الجائعُ, يُقالُ: رجُلٌ هَافٍ, وسَبُعٌ هافٍ, إذا كان جائعاً، ويَحْتَمِلُ أنْ يُرادَ به السرعةُ في العَدْوِ، يُقالُ: مَرَّ الصبيُّ والذئبُ يَهْفُو، إذا خَفَّ على الأرضِ واشتَدَّ عَدْوُه، ويَخوتُ يَنْقَضُّ يُقالُ: خَاتَ البازِي، إذا انقَضَّ ليَأْخُذَ الصيْدَ، وقيلَ: يَخوتُ يَخْطِفُ، يقالُ: فُلانٌ يَختاتُ حديثَ القوْمِ ويَتَخَوَّتُ, إذا أَخَذَ منه وتَخَطَّفَه، والشِّعْبُ بكسْرِ الشينِ، الطريقُ في الجبَلِ, والجمْعُ الشِّعابُ، وقيلَ: مَسايِلُ صِغارٌ، وأذنابُها أَوَاخِرُها، ويَعْسِلُ أيْ يَمْشِي خَبَباً، يُقالُ: عَسَلَ الذئبُ يَعْسِلُ عَسَلاً وعَسَلاناً إذا أَعْنَقَ وأسرَعَ قالَ النابغةُ:

عَسَلانُ الذئبِ أَمْسَى قارباً = بَرَدَ الليلُ عليه فنَسَلْ

ونَسَلَ أَسْرَعَ.
وغَدَا يَجوزُ أنْ يكونَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ على الحالِ، والعامِلُ تَهادَاهُ، والضميرُ فيه هو صاحبُ الحالِ "وقد", مُرادُه أيْ. قد غَدَا، وإنما قُدِّرَتْ مع الفعلِ الماضي لأنَّ الحالَ وَصْفُ هيئةِ الفاعلِ، أو المفعولِ به، وقتَ وُقوعِ الفعلِ منه أو به، والماضي غيرُ موجودٍ, فلا يَصِحُّ أنْ يكونَ حالاً، ولأنَّ الحالَ إمَّا مقارِنَةٌ أو مُنْتَظَرَةٌ، ولا يَصِحُّ ذلك في الماضي، "وقد" وَضْعُها تَقريبُ الماضي في الحالِ، فإنْ قِيلَ: قد أَجَزْتُمْ أنْ يكونَ الماضي حالاً مع قد، وقد لا تُصَيِّرُهُ حالاً، فهو مَعدومٌ حقيقةً والفعلُ المستقْبَلُ أيضاًَ يكونُ حالاً وإنْ كان مَعدوماً في الحالِ. فالجوابُ: أنَّ "قدْ" تُقَرِّبُه مِن الحالِ، وما كان قريباً مِن الشيءِ كان مُجاوِراً له، والمجاوِرُ يُعْطَى حكْمَ المجاوِرِ له، وهذا ظاهِرٌ في عُرْفِهم، وأمَّا المستقبَلُ وإنْ كانَ مَعدوماً في الحالِ، ولكنْ هو مارٌّ إلى الوُقوعِ، فلِقُرْبِ وُقوعِه عُدَّ واقعاً في الحالِ، ألاَ تَرى أنك إذا أَوْقَعْتَ اسمَ الفاعلِ مَوْقِعَ المضارِعِ، عَطفتَ عليه المضارِعَ، تقولُ: الطائرُ الذبابُ فيَغْضَبُ زيدٌ، فتَعْطِفُ يَغضَبُ على الطائرِ، نَظَراً إلى أنَّ أصْلَه يَطيرُ، وليس كذلك الماضي، فإنَّ عَوْدَ عَيْنِه مُتَعَذَّرٌ. ويَجوزُ أنْ يكونَ غَدَا صِفةً لأَزَلَّ، أيْ أزَلُّ غَادٍ، ويَجوزُ أنْ يكونَ مُستأنَفاً لا مَوْضِعَ له مِن الإعرابِ، وطاوِياً حالٌ مِن الضميرِ في غَدَا، أيْ دَخَلَ في الغَداةِ طاوِياً. وطَاوِياً مِن طَوَى الْمُتَعَدِّيَةِ، كما تقولُ: طَوَى زيدٌ ثَوْبَه. فيكونُ التقديرُ هنا: طاوياً أحشاءَه على الجوعِ، ويُقَوِّي هذا المعنى مَجيءُ الاسمِ منه على فاعلٍ، والاسمُ مِن طَوَى إذا جاعَ: طَوٍ. مِثلَ: عَمٍ وشَجٍ، ومَصدرُ المتعَدِّيَةِ الطَّيُّ، أيْ طَوَى يَطْوِي طَيًّا، ومَصدَرُ الأُخْرَى الطَّوَى، أيْ: طَوَى يَطْوَى طَوًى، ويُعارِضُ الريحَ، يَجوزُ أنْ يكونَ صفةً لـ "طَاوِياً"، وأنْ يكونَ حالاً مِن الضميرِ في "طَاوِياً", أو مِن الضميرِ في غَدَا، إنْ جُوِّزَ وُقوعُ حالين مِن اسمٍ واحدٍ.
و"هافياً" حالٌ مِن الضميرِ في يُعَارِضُ، ويَخوتُ يَجوزُ أنْ يكونَ حالاً مِن الضميرِ في "هَافِياً"، وبأذنابِ الشعابِ ظرْفٌ لـ "يَخوتُ"، أيْ يَخوتُ في أذنابِ الشِّعابِ.

فلَمَّا لَوَاهُ القُوتُ مِن حيثُ أَمَّهُ = دَعَا فأَجَابَتْهُ نظائِرُ نُحَّلُ

اللَّيُّ الْمَطْلُ والدفْعُ قال ذُو الرُّمَّةِ:

تُطِيلِينَ لَيَّاتِي وأنتِ مَلِيَّةٌ = وأحْسَنُ يا ذاتَ الوِشاحِ التَّقَاضِيَا

وأمَّه قَصَدَه، ومَعناه أنه لَمَّا طَلَبَ القُوتَ في مكانٍ دَفَعَهُ القُوتُ عنه، وتَعَذَّرَ عليه حُصولُه مِن ذلك المكانِ، وقد تَجَوَّزَ بقولِه لَوَاهُ القُوتُ، والنظائرُ الأشباهُ والأمثالُ، والنُّحَّلُ الْمَهَازِيلُ.
يُريدُ أنه لَمَّا عَزَّ عليه القُوتُ طَلَبَه عندَ غيرِه، فوَجَدَ حالَه كحالِه في الْهُزالِ مِن الْجُوعِ.
و"لَمَّا" هي الْمَزيدةُ عليها ما، وعندَ التركيبِ حَدَثَ لها معنى لم يَكنْ عندَ الإفرادِ، وهذا أصْلٌ في كلِّ شَيئينِ يَنفرِدُ أحَدُهما بمعنًى يُغايِرُ معنى الآخَرِ عندَ الانفرادِ، فإذا رُكِّبَا حَصَلَ، أيْ حدَثَ, للمُرَكَّبِ معنًى لم يَكنْ، فإذا وَلِيَها المستقْبَلُ جَزَمَتْهُ وكانتْ حَرفاً، وإنْ تَعَقَّبَها الماضي كانتْ ظَرْفاً واقتَضَتْ جَواباً؛ كقولِه عَزَّ مِن قائلٍ: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً} {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} ونظائرُه كثيرةٌ في الكتابِ العزيزِ، ولَوَاهُ في موضِعِ جَرٍّ بإضافةِ لَمَّا إليه، ومِن لابتداءِ غايةِ المكانِ، أيْ ذلك المكانُ ابتداءُ غايةِ الْمَطْلِ والدفْعِ منه، وهي مُتَعَلِّقَةٌ بـ "لَوَاهُ"، وأمَّا حيثُ فيكونُ ظرْفَ مكانٍ وظرْفَ زَمانٍ، كقولِ طَرَفَةَ بنِ العَبْدِ:
لِلْفَتَى عَقْلٌ يَعيشُ بِهِ حيث تَهْدِي ساقَه قَدَمُهْ
يُريدُ مُدَّةَ حياتِه، وهي مُبْهَمَةٌ يُبَيِّنُها ما بعدَها، ولتَوَغُّلِها في الإبهامِ لم يَقعْ بعدَها مفرَدٌ غالباً؛ لأنَّ المفرَدَ لا يُبَيِّنُها، ألا تَرَى أنك لو قلتَ: قمتُ حيثُ قِيامٌ، أو جَلستُ حيثُ الجلوسُ، لم يَنكشفْ معناها، فلذلك أَوْقَعُوا بعدَها الجملةَ؛ لأنَّ الجملةَ واضحةٌ بنَفْسِها غيرُ مفْتَقِرَةٍ إلى مُوَضِّحٍ، فأَوْضَحَتْ معنَى حيثُ، فتقولُ على هذا: قُمتُ حيثُ زيدٌ قائمٌ، وجلسْتُ حيثُ جلسَ زَيدٌ. وبُنِيَتْ على الضمِّ في أَجْوَدِ لُغاتِها لنُقصانِها؛ لأنها لا تكونُ لها جُملةٌ تُوَضِّحُها، فإذن أَشْبَهَتِ الذي، وحُرِّكَ آخِرُها لئلا يَلتقِيَ ساكنانِ، وضُمَّتْ لشَبَهِها بـ "قَبْلُ"، و"بعدُ" في وُقُوعِها على كلِّ الْجِهاتِ وأبعاضِها، فأُلْحِقَتْ بهما، وقيلَ لَمَّا استُعْمِلَتْ في
الزمانِ والمكانِ عُوِّضَتْ بالضمِّ تَنبيهاً على قُوَّتِها، فإنَّ حقَّها الإعرابُ، وأَمَّهُ في مَوْضِعِ جَرٍّ بإضافتِه إلى حيث. وهي هنا ظَرْفُ مكانٍ، ودعا جوابُ لَمَّا، وهو الناصِبُ لها، ونظائرُ فاعلُ أَجابَتْهُ، والواحدةُ نَظيرةٌ، ونُحَّلُ صفةٌ لنظائرَ، وهو جَمْعُ ناحِلٍ. والفعْلُ منه نَحَلَ بفتْحِ الحاءِ، وفيه لغةٌ بكَسْرِها، والأَوْلَى أفْصَحُ، ونظائرُ غيرُ مُنصَرِفَةٍ، لكونِها جَمْعاً, ولا نَظيرَ له في الآحادِ قائمٌ مقامَ عِلَّةٍ.

مُهَلْهَلَةٌ شِيبُ الوُجوهِ كأنها = قِداحٌ بِكَفَّيْ ياسرٍ تَتَقَلْقَلُ

مُهلْهَلَةٌ رَقيقةُ اللحْمِ، يُقالُ: هَلْهَلَ النَّسَّاجُ الثوبَ، إذا أَرَقَّ نَسْجَه وخَفَّفَه، وشِعْرٌ هَلْهَلٌ أيْ رَقيقٌ، وقِيلَ: إنما سُمِّيَ امرؤُ القَيْسِ بنُ رَبيعةَ، أخُو كُليبِ بنِ وائلٍ، مُهَلْهَلاً؛ لأنه أوَّلُ مَن أرَقَّ الشعْرَ. والهاءُ الثانيةُ فيه زائدةٌ، وكلُّ ذلك تَشبيهٌ بالهلالِ، لرِقَّتِه وضَمْرِه، والشِّيبُ جَمْعُ أشْيَبَ وشَيباءَ, مأخوذٌ مِن: شابَ, إذا ابْيَضَّ.
والقِدَاحُ جَمْعُ قَدَحٍ، وهو السهْمُ قبلَ أنْ يُراشَ ويُرَكَّبَ عليه نَصْلُه، والياسِرُ المقامِرُ بالأزلامِ, والْمَيْسِرُ قِمارُ العرَبِ، وتَتقلقلُ تَتحرَّكُ وتَضْطَرِبُ.
والمعنى أنه لَمَّا دَعا أجابَتْهُ النظائرُ على هذا الحالِ، فلِشِدَّةِ حالِها تَمْشِي مُضطَرِبَةً.
ومُهلهَلَةٌ صفةٌ لنظائرَ. وشِيبٌ لها نَعْتٌ، والإضافةُ هنا غيرُ مَحْضَةٍ، وهي مِن بابِ الْحَسَنِ الوجهِ، والتقديرُ شِيبٌ وُجوهُها، و"كأنها" يَجوزُ أنْ يَكونَ صفةً أيضاً لِمَا قَبْلَها، وبِكَفَّيْ ياسِرٍ يَجوزُ أنْ يكونَ صِفةً لقِداحٍ، أيْ ثابتةٌ له، ويَجوزُ أنْ يَتعلَّقَ بـ "تَتَقَلقلُ"، أي: تَتحرَّكُ بكَفَّيْ ياسِرٍ، وتَتقلقلُ إنْ جَعلتَه بالتاءِ كانَ نَعْتاً للقِداحِ، ويَجوزُ أنْ يكونَ حالاً مِن قِداحٍ. لأنها قد وُصِفَتْ بقولِه: بِكَفَّيْ، وإنْ جَعلتَه بالياءِ كانَ صِفةً لـ "ياسِرٍ"، أيْ ياسِرٌ مضْطَرِبٌ.
فصْلٌ في مَسألةِ حَسَنِ الوَجْهِ
اعْلَمْ ـ حَرَسَكَ اللهُ مِن الآفاتِ ـ أنَّ هذه المسألةَ وما يَتفرَّعُ عنها، أَشْبَهَتِ اسمَ الفاعلِ في مَعمولِها، وليستْ جاريةً على الفعْلِ، ولا معدولةً عن الجارِي، ولا كاسمِ الفاعلِ فيما له مِن معنى الفعْلِ وفي جَريانِه عليه، ألاَ تَرَى أنك إذا قُلتَ: هذا ضارِبٌ زَيداً. فإنَّ "ضارِبٌ" في معنى يَضرِبُ وجارٍ عليه، وليس كذلك حَسُنَ الوجْهِ، وليس معناه حسَنٌ وجْهُه، لا حالاً ولا مَآلاً، كما كانَ معنى "ضارِبٌ" يَضْرِبُ، ولا هو جارٍ عليه، إلا أَنَّه حصَلَ له شَبَهٌ باسمِ الفاعلِ مِن أَوْجُهٍ, منها:
أنه يُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ، تَقولُ: مَرَرْتُ برجُلٍ كريمٍ، وامرأةٍ كريمةٍ، وصَعْبٍ وصعبةٍ، ويُثَنَّى ويُجْمَعُ، تَقولُ: مَررْتُ برَجُلينِ حَسَنَيْنِ، وبرِجالٍ حَسَنِينَ، وبامرأةٍ حَسَنَةٍ، وحَسَنَتَيْنِ، وحَسَناتٍ، كما تَقولُ: بقائمٍ, وقائمةٍ، وقائماتٍ، وقائمينَ، وضاربٍ، وضاربةٍ، وضارباتٍ، وضاربينَ، فعَمِلَ لذلك، فكلُّ ما جازَ في هذا جازَ أنْ يَرفعَ الظاهِرَ والمضْمَرَ، ويَنْصِبَ السَّبَبِيَّ، مِثالُه: زيدٌ حسَنٌ وَجهُه، وحَسَنٌ وَجْهاً، وما لم يَحْصُلْ له هذا الشبَهُ مما لا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ، فإنه يَرْفَعُ المضمَرَ دونَ الْمُظْهَرِ، وهو خيرٌ وشرٌّ، وتَنْقُصُ هذه الصفاتُ عن اسمِ الفاعلِ بأربعةِ أشياءَ، منها:
أنْ تَعملَ في السَّبَبِيِّ دونَ الأَجْنَبِيِّ الذي لا عَلَقَةَ بينَه وبينَ ما اتَّصَفَ بها، ولا سببَ، وتَعملُ أيضاً فيما فيه ضميرٌ يَعودُ إلى ما اتَّصَفَ به، مثالُ ذلكَ: مَرَرْتُ برجُلٍ حسَنٌ وَجْهُهُ، وكريمٌ أَبوه، وشديدٌ بَطْشُه، فتُرْفَعُ بها على نحوِ ارتفاعِ الذي اسمُ الفاعلِ به، كقولِك: زيدٌ قائمٌ غُلامُه، فلَمَّا حصَلَ لهذه الصفاتِ شَبَهٌ باسمِ الفاعلِ بالرفْعِ، شُبِّهَتْ به في النصْبِ، فقلتَ: هذا الرجلُ الحسَنُ الوجهَ. بنَصْبِ الوجهِ كما تقولُ: هذا الضاربُ الوجهَ، وكذلك في الجرِّ تقولُ: هذا الحسَنُ الوجهِ، بالجرِّ، كما تقولُ: هذا الضاربُ الرجلِ, بالجرِّ.
ومنها: أنها تَعملُ في الحالِ دونَ الاستقبالِ.
ومنها: أنَّ مَعمولَها لا يَتقدَّمُ عليها.
ومنها: عدَمُ جَريانِها على الأفعالِ، وكلُّ ذلك مما يَتبيَّنُ به ضَعْفُها عن اسمِ الفاعلِ.
وأمَّا الأوْجُهُ التي تَجوزُ في هذا البابِ فتَترتَّبُ مَسائلُ.
المسألةُ الأُولَى:
مَرَرْتُ برجُلٍ حسَنِ الوجه، ففي هذه المسألةِ أوجهٌ ثلاثةٌ:
جَرُّ الوَجْهِ على الإضافةِ، وهو أَقْوَاهَا، لأنه لا يُحتاجُ معه إلى تَكَلُّفِ إضمارٍ، ولا تَشبيهٍ بمفعولٍ، وهو أَخَفُّ مِن الرفْعِ والنصْبِ، لأنَّ النصْبَ مُشَبَّهٌ بالمفعولِ، وليس مَفعولاً حقيقةً؛ لأنَّ حَسَن لا يَتَعَدَّى، والرفْعُ فيه تَكَلُّفٌ، لأنه إمَّا أنْ يكونَ مَحمولاً على البدَلِ مِن الضميرِ في "حَسَن"، بدَلَ البعضِ مِن الكلِّ، أو مُرْتَفِعاً بـ "حَسَنٍ"، على أنه فاعلٌ، وتُضْمِرُ عائداً على الرجلِ يكونُ رابِطاً بينَ الصفةِ والموصوفِ، ولا يُحتاجُ في الإضافةِ إلى شيءٍ مِن ذلك، وعلى هذا الوجهِ، قد أَضَفْتَ "حَسَن" إلى الوجْهِ، وفي "حسَنٍ" ضميرٌ هو فاعلٌ، وبَطَلَ رفْعُ الوجهِ بـ "حَسَنٍ"، بأنَّ الفعلَ لا يكونُ له فاعلانِ، وكان الوجهُ أنْ تَقولَ: مَررتُ برجُلٍ حسَنٌ وجْهُه، فيكونُ الوجهُ مُضافاً إلى الضميرِ العائدِ على الرجُلِ ومُعَرَّفاً به، فلمَّا أَسْقَطْتَ الضميرَ، وجئتَ بالألِفِ واللامِ في الوجهِ، أَبْدَلْتَ التعريفَ بالإضافةِ، بالتعريفِ بالألِفِ واللامِ.
الوجهُ الثاني مِن وُجوهِ هذه المسألةِ: مَررتُ برجُلٍ حسَنٍ الوجهَ: تُنَوِّنُ الصفةَ وتَنْصِبُ الوجهَ على أنه مُشَبَّهٌ بالمفعولِ، وقيلَ على التمييزِ، واحتَجَّ سِيبويهِ على النصْبِ، بقولِ النابغةِ:

فإنْ يَهْلِكْ أبو قَابوسَ يَهْلِكْ = ربيعُ الناسِ والشهرُ الحرامُ
ويُمْسِكْ بعدَه بذِنابِ عِيسٍ = أَجَبَّ الظهرَ ليس له سَنامُ
فنَصَبَ الظَّهْرَ بـ "أجَبَّ", ولم يُنَوِّنْ لأنه غيرُ منْصَرِفٍ، ويَجوزُ في "يُمْسِكُ" الْجَزْمُ عَطْفاً على "يَهْلِكْ" الثانيةِ، والرفْعُ على الاستئنافِ, والنصْبُ على الجمْعِ، أيْ تَجتمِعُ لنا هذه الْخِصالُ، والواوُ واوُ الجمْعِ.
الوجهُ الثالثُ مِن وُجوهِ هذه المسألةِ: تَنوينُ حسَنٍ، ورَفْعُ الوجهِ, وفيه مَذاهبُ ثلاثةٌ:
أحدُها: أنَّ الوجهَ فاعلٌ، والعائدُ محذوفٌ، والتقديرُ برَجُلٍ حسُنَ الوجْهُ منه، وحَذَفْتَه للعلْمِ به، كما حُذِفَ في قوله تعالى: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} أيْ له، ومِثلُ هذا حذفُ العائدِ مِن الصلةِ، ونظائرُه كثيرةٌ، وعلى هذا يُرفَعُ الظهرُ في البيتِ المتقَدِّمِ، وقالَ الفَرَّاءُ: الكلامُ في الوجهِ، بدَلٌ مِن الإضافةِ.
يعني الهاءَ. لأنَّ الأصْلَ وَجْهُهُ، فاللامُ بدَلٌ مِن هذه الهاءِ، فاستغنَى عن تقديرِ عائدٍ، عن الموصوفِ، وعليه حَمَلَ قولَه عزَّ مِن قائلٍ: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ} أيْ أبوابُها، أو منها، فالألِفُ واللامُ بَدَلٌ مِن الهاءِ، ولا تُقَدِّرُ عائداً على الموصوفِ، وكذلك قولُه تعالى: {هِيَ الْمَأْوَى} أيْ مَأواهُ، قالَ: وكذلك قولُ الشَّاعِرِ:

ما وَلَدَتْنِي حَيَّةُ بنتُ مالِكٍ = سِفاحًا وما قَوْلِي أحاديثَ كاذِبِ
وإنَّا نَرَى أقْدَامَنا في نِعَالِهم = وأنْفُسَنَا بينَ اللِّحَى والْحَوَاجِبِ
والتقديرُ بينَ لِحَاهُمْ وحَوَاجِبِهم، ولا يَصِحُّ ما ذَهَبَ إليه الفَرَّاءُ بقولِه: إنَّ الألِفَ واللامَ بدَلٌ مِن الإضافةِ، ولا يَستقيمُ، إذ لو كان كذلك لكان الألِفُ واللامُ في معنى الأَفْضَلِ، لأنَّ البدَلَ ما كان في معنى الْمُبْدَلِ، والهاءُ والألفُ واللامُ مختلِفانِ، ولأنهما لو كانا بدَلاً لاستَمَرَّ ذلك، إذ لا تَجِدُ فَرْقاً بينَ هذا الموضِعِ وغيرِه، وليس كذلك ألاَ تَرَى أنك لو قُلْتَ: زيدٌ الغلامُ حسَنٌ، وأنتَ تريدُ الغلامَ، لم يَجُزْ، وأمَّا قولُه تعالى: {مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ} فتقديرُه منها، وكذلك: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} أيْ لهم. وكذلك التقديرُ في الشعْرِ، أيْ بينَ اللِّحَى والْحَوَاجِبِ منهم، قالَ أبو عَلِيٍّ: لم يَستحسِنُوا: مَررتُ برجُلٍ حسَنِ الوجهِ، ولا بامرأةٍ حسنَةِ الوجهِ، لاحتياجِهم إلى تقديرِ منه أو منها، إذا الصفةُ تَفتقِرُ إلى مذكورٍ يَعودُ إلى الموصوفِ منها، ومعنى كلامِه أنَّ الحذْفَ مِن الصفةِ مُستقْبَحٌ، بخِلافِ الحذْفِ مِن الصلةِ؛ لأنَّ الكلامَ طالَ بالصلةِ والموصولِ، وهما كاسمٍ واحدٍ. وليس كذلك الموصوفُ مع الصفةِ؛ لأنَّ الموصوفَ قد يُحْذَفُ ويُستغنَى بالصفةِ، بخِلافِ الصلةِ مع الموصولِ، وأمَّا: {مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} فليس على تقديرِ "منها"، ولا على ما ذهَبَ إليه الفَرَّاءُ، بل على أنَّ الأبوابَ بدَلٌ مِن الضميرِ في {مفَتَّحَةً} وهذا الكلامُ فيما إذا كانَ الوجهُ مُنْفَرِداً معَرَّفاً بالألِفِ واللامِ، فأمَّا إذا كانَتِ الصفةُ والوجهُ منْفَرِدَيْنِ غيرَ مُعَرَّفَيْنِ، ففيه ثلاثةُ أَوْجُهٍ:
الوجهُ الأوَّلُ: وهو: مَرَرْتُ برجلٍ حَسَنُ وجْهٍ، حُذِفَ التنوينُ مِن "حَسَنُ"، وجُرَّ ما بعدَه على الإضافةِ، قالَ سِيبويهِ: وإدخالُ الألِفِ واللامِ على الوجهِ أَوْلَى؛ لأنَّ معناه: حسَنٌ وَجْهُه. فكما أنَّ وجْهَه مَعرفةٌ، كان الأحسَنُ هناك أنْ يكونَ معرفةً، ومثلُه: حديثُ عَهْدٍ بالوضْعِ، وكلٌّ عربيٌّ، أَعْنِي التنوينَ في الوجهِ، وإدخالَ الألِفِ واللامِ عليه، والإضافةُ في حسَنُ وجْهِهِ، مثلُ الإضافةِ عندَ إدخالِ الألفِ واللامِ على الوجهِ، لأنها لا تُفيدُ تَعريفاً لأنها ليستْ مَحْضَةً.
والوجهُ الثاني مِن وُجوهِ هذه المسألةِ: مَررتُ برجُلٍ حسَنٌ وَجْهاً. بتنوينِ "حسنٌ"، ونَصْبِ الوجهِ، والعائدُ محذوفٌ، وهو الضميرُ الذي في الوجهِ، الذي تَقديرُه وَجهُه، ولم يُعَوَّضْ عن تعريفِ الإضافةِ تعريفُ الألِفِ واللامِ، لأنه معلومٌ أَنك لم تُرِدْ إلاَّ وجْهَ المذكورِ, ونَصبُه على التشبيهِ بالمفعولِ، كما تقولُ: مَررتُ برجُلٍ مادِحٌ زَيْداً، وقيلَ على التمييزِ، وهو أَوْلَى، قالَ الشاعرُ:
شنباءُ أنياباً
والشَّنَبُ عُذوبةُ الأسنانِ, وتقديرُه: عَذبةٌ أنياباً، وإنما لم يُنَوِّنْ شَنباءَ؛ لأنه غيرُ منْصَرِفٍ.
الوجهُ الثالثُ مِن وُجوهِ هذه المسألةِ: مَررتُ برَجلٍ حسَنٌ وجْهٌ. برفْعِ "وجهٌ" وتنوينِ حسَنٍ، ووَجهُه مع بُعْدِه مِن حيثُ إنه لا عائدَ فيه، ولا ما يَسِدُّ مَسَدَّ العائدِ، أنه بدَلٌ مِن الضميرِ في "حَسنٌ"، والنكرةُ قد تُبْدَلُ مِن المعرفةِ.
المسألةُ الثانيةُ والثالثةُ.
إذا كان حَسنٌ نكرةً، والوجهُ مضافاً إلى ضميرِ الموصوفِ، كقولِك: مَررتُ برجلٍ حسنٌ وجهُهُ، ففيه المذاهبُ الثلاثةُ:
الأوَّلُ: جَرُّ الوجهِ، ونَصْبُه, ورَفعُهُ، فالجرُّ على الإضافةِ عندَ سيبويهِ، واحتَجَّ بقولِ الشَّمَّاخِ:

أَمِنْ دِمنتينِ عَرَّسَ الركْبُ فيهما = بحقْلِ الرَّخَامَى قد عَفَا طَلَلاَهُمَا
أقامَتْ على رَبْعَيْهِما جَارَتَا صَفَا = كُمَيْتا الأعالِي جُونَتَا مُصطَلاَهُمَا
وموضِعُ الشاهدِ أنه وصَفَ جارَتَا صَفَا، بقولِه: كميتا الأعالي، ثم وصَفَه بقولِه: جُونَتَا مُصطلاها، وقد أضافَ الْجُونَتَيْنِ إلى الْمُصْطَلَى المضافِ إلى ضميرِ الجارتينِ، قالَ سِيبويهِ: هو مِثلُ: حَسنةٌ وجْهُها. لأنَّ جُونَتَا مُصطلاهما قد تَكَرَّرَ فيه الضميرُ في المثالينِ.
وحَسنةٌ فيه ضميرٌ وفي وَجْهِها أيضاً، وجارَتَا صَفَا، يُريدُ اثنتينِ أَسْنَدَتَا إلى جبلٍ لتَثْبُتَ القِدْرُ عليهما، فاسوَدَّ أسْفَلُهما مِن النارِ، وأَكْمَتَ أَعلاهما، وهو سوادٌ يَخْلِطُه حُمرةٌ، والْجُونُ الأسودُ، قالَ الخليلُ: وصُغِّرَ كُمَيْتٌ لأنه لم يَكْمُلْ له حُمرةٌ ولا سَوادٌ، قالَ أبو العباسِ وجماعةٌ مِن النُّحاةِ: الضميرُ راجعٌ إلى الأعالي، والأعالي بمعنى الأَعْلَيْنِ. قالوا: ولفْظُ الجمْعِ إذا أُريدَ به الاثنانِ، جازَ أنْ يَعودَ الضميرُ مُثَنًّى على المعنى. قالوا: ومِن ذلكَ قولُ عَنترةَ الشاعرِ:

متى ما تَلْفَنِي فَرْدَيْنِ تَرْجُفْ = رَوانِفُ ألْيَتَيْكَ وتُستطارَا
وتُستطارَا تَثنيةٌ، وحَذَفَ النونَ لأنه معطوفٌ على تَرْجُفُ، لأنه مَجزومٌ، كما تقولُ: لم يُستمالاَ. فرَدَّ الضميرَ في "تُستطارَا" إلى الروانِفِ، ومعلومٌ أنه ليس للإنسانِ إلا رَانِفتانِ. قالوا: وإنما وَضَعَ الجمْعَ مَوْضِعَ التثنيةِ للعلْمِ به، ومِثلُه ما ذَكَرَه أبو عُبيدةَ:

بُنَيْتَيْ عمِّكَ لا تَنْسَاهُمَا = جَاريتانِ زَعمَتْ أُمَّاهُمَا
مَليحتَا العَينانِ بَرْحَاوَاهُمَا = حَسَنَتَا الشُّعورِ جَعْدَتَاهُمَا
فرَدَّ ضميرَ الْجَعدتينِ إلى الشعورِ، وإنما هو شَعرانِ، ومِن حُجَّتِهم أيضاً، لأنه يُفضِي إلى إضافةِ الشيءِ إلى نفْسِه. وما ذَكَرُوه غيرُ مُستقيمٍ؛ لأنَّ عَوْدَ الضميرِ المثنَّى إلى التثنيةِ أَوْلَى مِن رَدِّه إلى الأعالِي التي هي جَمْعٌ، وتَأَوُّلُها بالتثنيةِ تكَلُّفٌ لا حاجةَ إليه، والإضافةُ ههنا في نِيَّةِ الانفصالِ، وليس هذا مِن إضافةِ الشيءِ إلى نفْسِه؛ لأنَّ الْحُسْنَ للوجهِ، والهاءُ ليستْ للوجهِ، وإنما هي مُحَصِّلَةٌ للتعريفِ، كتحصيلِ الألفِ واللامِ له، وأنشَدَ على جوازِه أبو حَيَّةَ قالَ:

على أنني مَطروفٌ عَيْنَيْهِ كلما = تَصَدَّى مِن البِيضِ الْحِسانِ قَبيلُ

فمَطروفٌ عَينيهِ مثلُ حسَنٌ وجْهِه، يقولُ إذا رأيتُ هذا القَبيلَ بَكيتُ كأَنَّ عَيْنَيَّ أصابَتْهُما طَرَفَةٌ، وأمَّا النصبُ فعلى التشبيهِ بالمفعولِ، كنصبِكَ له وفيه الألِفُ واللامُ، وحُكِيَ عن أبي عَلِيٍّ أنَّ نَصْبَه على التمييزِ، قالَ: هو بمنزلةِ: حسَنَةٌ وجْهَها. ولا يَمنَعُ التعريفُ مِن نَصبِه على التمييزِ؛ لأنَّ التعريفَ هنا لا يُفيدُ شيئاً, فهو بمنزلةِ تعريفِ الأجناسِ كالعسَلِ والماءِ والترابِ، ومِن شواهدِ هذا الوجهِ ما أَنشَدَه أبو عمرٍو الزاهدُ:

أنْعَتُها إني مِن نُعَّاتِها = مُدارةُ الأخفافِ مُجَمَّرَاتُها
غلَبَ الذَّفارَى وعَفْرَ نِيَّاتِها = كُومُ الذُّرَى وادفةٌ سُرَّاتُها
فقولُه: وادفةٌ سُرَّاتُها، مثلُ حَسنةٌ وجْهُها، قالَ أبو عليٍّ: ومعنى: وادفةٌ سُرَّاتُها، أنَّ بُطونَها قد انْدَلَقَتْ لكثرةِ شَحْمِها, أيْ دَنَتْ, لأنها عندَ سَمِنِها تَخْرُجُ سُرَّاتُها، وخُفٌّ مُجَمَّرٌ أي صَلْبٌ، والعَفْرَنِيَّاتُ شعْرُ العُرْفِ، وذَكَرَ الجوهريُّ، أنَّ العَفْرَنِيَّاتِ واحِدُها عَفْرَنَاةٍ، وهي الناقةُ القويَّةُ، وأمَّا الرفْعُ فهو أقْوَاها وأسَدُّها؛ لأنه لا حَذْفَ معه ولا تَكَلُّفَ، ولأنَّ الوجهَ الذي هو حَسَنٌ في المعنى، فنَسَبْتَ ذلك المعنى إليه ورَفَعْتَهُ.
المسألةُ الرابعةُ مِن أصْلِ البابِ.
إذا كانتِ الصفةُ والوجهُ مُعَرَّفَيْنِ بالألِفِ واللامِ، نحوَ مَررتُ بالحسَنِ الوجهِ، ففيه أيضاً المذاهبُ الثلاثةُ: الجرُّ، والنصبُ, والرفعُ. قالَ سيبويهِ: ليس في العربيَّةِ مضافٌ دخلَتِ الألِفُ واللامُ عليه إلا المضافَ إلى المعرفةِ في هذا البابِ. نحوَ قولِك الحسَنُ الوجْهِ، وإنما كان كذلك لأنَّ الإضافةَ هنا غيرُ مَعروفةٍ لأنها ليستْ مَحْضَةً, وإنما هي في تقديرِ الانفصالِ، ولَمَّا كان الموصوفُ مُعَرَّفاً، ويَلزَمُ أنْ تكونَ صِفتُه مثلَه، ولم تُكْسِبْه هذه الإضافةُ تَعريفاً، جازَ أنْ تُعَرَّفَ بالألفِ واللامِ، وهي إضافةٌ لَفْظِيَّةٌ، وصارَ بمنزِلَةِ قولِك: هذا الضارِبُ الرجلَ، فيمَن جَرَّ بالإضافةِ, وأمَّا النصْبُ فعلى التشبيهِ بالمفعولِ، مِن قولِك: الضارِبُ الرجُلَ، فيمَن نصَبَ بالضاربِ.
وقيلَ التقديرُ: بحَسَنِ الوجهِ، ثم أُدْخِلَتِ الأَلِفُ واللامُ، معاقِبَةً التنوينَ، فقلتَ: بالحسَنِ الوجهَ، بنصْبِ الوجهِ، فصارَ بِمَنْزِلَةِ الضاربِ الرجُلَ، بنصْبِ الرجُلِ، وإذا جَرَرْتَ بالإضافةِ هنا، كان مِثلَ الحسَنِ الوجهِ، بالإضافةِ, فلَمَّا تَمَاثَلاَ في الْجَرِّ، كان الحسَنُ الوجهَ مَنصوباً تَشبيهاً بالضاربِ الرجلَ، فإذا جَرَرْتَ بالحسنِ الوجهِ، جررْتَ على ما حَمَلْتَه على الضاربِ الرجلِ، في الجرِّ. فصارَ كجَرِّ الضاربِ الرجلِ، وأنشَدَ الحارثُ بنُ ظالمٍ في النصْبِ:

فما قَوْمِي بثَعلبةَ بنِ سَعْدٍ = ولا بفَزارةِ الشعْرِ الرِّقَابَا

نصَبَ الرقابَ بالشعرِ، وتقديرُ الشعرِ. رقابُهم، ثم نقَلَ الضميرَ إلى الشعْرِ، ونَصَبَ الرقابَ، وهكذا في: الحسَنُ الوجْهَ، تقديرُ: الحسَنُ وجْهُه، ثم نُقِلَ الضميرُ إلى الحسنِ، ونُصِبَ الوجهُ، وعلى هذا كلُّ مَوْضِعٍ رَفعتَ الاسمَ بالصفةِ، أَخليتَ الصفةَ عن ضميرٍ، لرفْعِها الظاهرِ. فلو ثَنَّيْتَ وجَمَعْتَ لأَفرَدْتَ الصفةَ، وكلُّ مَوْضِعٍ نَصبتَ أو جَررتَ، ففي الصفةِ ضميرٌ يَظهرُ دَليلُه في التثنيةِ، والجمْعُ مع المذَكَّرِ والمؤنَّثِ، وأمَّا الرفْعُ فعلى أنه فاعلٌ على ما تَقَدَّمَ.
المسألةُ الخامسةُ مِن أصْلِ البابِ
إذا كانت الصفةُ بالألِفِ واللامِ، والوجهُ مُعَرَّفاً بضميرِ الموصوفِ، كقولِك: مَررتُ بالرجُلِ الحسَنِ وجْهَه، فالرفعُ والنصْبُ جائزانِ، وتَوْجِيهُهما ظاهرٌ، قد ذُكِرَ في غيرِ مَوضعٍ، وأمَّا الجرُّ فمُمتنِعٌ، لأنَّ إضافةَ ما فيه الألِفُ واللامُ مُمتنِعَةٌ، إلا أنها جازَتْ في هذا البابِ إذا كانَ المضافُ إليه فيه الألِفُ واللامُ، لِمَا بينَ التعريفينِ مِن المشابَهَةِ، والتعريفانِ هنا مُختلِفانِ.
المسألةُ السادسةُ مِن أصْلِ البابِ
إذا كانتِ الصفةُ معرَّفَةً بالألِفِ واللامِ، والوجهُ نَكرةً، نحوَ: مَررتُ بالرجُلِ الْحَسَنِ وجْهٌ، فالرفعُ والنصبُ جائزانِ، والجرُّ ممتنعٌ، لأنَّ الاسمَ لا يكونُ في حالٍ واحدةٍ مَعرفةً مِن كلِّ وجهٍ، ومُنَكَّراً مِن كلِّ ذلك، وذلك أنَّ الألِفَ واللامَ لَمَّا دَخلتِ الصفةَ كانت مؤْذِنَةً بتعريفِها، فإذا أضَفْتَها إلى وجهٍ، وهو نَكرةٌ، فقد سَلبتَ الاسمَ تعريفَه، فتَحَقَّقَ الآنَ أنَّ جُملةَ ما تَشتمِلُ عليه هذه المسائلُ مِن الوُجوهِ الجائزةِ، ستَّةَ عشرَ وجهاً، والممتَنِعُ وجهانِ.

أوِ الْخَشْرَمُ الْمَبعوثُ حَثْحَثَ دَبْرَهُ = مَحَابِيضُ أَرْادَهُنَّ سَامٍ مُعَسِّلُ

الْخَشْرَمُ رئيسُ النحْلِ، والْخَشْرَمُ بيتُ الزنابيرِ، والْخَشْرَمُ النحلُ، فعلى هذا الوجهِ لا واحدَ له مِن لفْظِهِ، والمبعوثُ الذي انْبَعَثَ في السيْرِ، أي أَسْرَعَ، وحَثْحَثَ أيْ حَضَّ وطلَبَ منه الإسراعَ، والدَّبْرُ جماعةُ النحلِ، قالَ الأَصْمَعِيُّ: لا واحدَ له، ويُجمعُ على دَبُورٍ، ويُقالُ: للزنابيرِ ـ أيضاً ـ دَبْرٌ.
ومنه قِيلَ لعاصمِ بنِ ثابتٍ الأنصاريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنه ـ حَمِيَّ الدبْرِ، وذلك أنَّ الْمُشرِكينَ لَمَّا قَتَلُوهُ أرَادُوا أنْ يُمَثِّلُوا به، فسلَّطَ اللهُ عليهم الزنابيرَ الكِبارَ، تَأْبَرُ الدارِعَ، أيْ تَضْرِبُ الْمُتَدَرِّعَ بإِبْرَتِها، فارْتَدَعوا عنه، حتى أَخَذَه المسلِمونَ فدَفَنُوه.
والْمَحَابِضُ والْمَحَابِيضُ الْمَشَاوِرُ، وهي عِيدانُ مُشْتَارِ العَسَلِ، واحِدُها مِحْبَضٌ، وأَرْدَاهُنَّ بمعنى أنْزَلَهُنَّ، وسامٍ مرتفعٌ عالٍ، ومُعَسِّلُ أيْ طالبُ العَسَلِ.
والْخَشْرَمُ معطوفٌ على قِداحٍ، وعَطَفَ الْخَشْرَمَ وإنْ كانَ مَعرفةً على قِداحٍ؛ لأنَّ "قِداحَ" قد وُصِفَ إِمَّا بـ "كَفَّيْ"، أو بـ "تَتَقَلْقَلُ" وأَيضاً، فإنَّ عَطْفَ الجملةِ على الجملةِ، لا يُشترطُ فيه التساوي في التعريفِ والتنكيرِ، والمبعوثُ صِفةُ الْخَشْرَمِ، وحَثْحَثَ حالٌ مِن الضميرِ في المبعوثِ، وهي حالٌ مقارِنَةٌ.
وإنما جُعلَ حالاً مِن الضميرِ في المبعوثِ؛ لأنَّ الضميرَ معمولٌ للمَبعوثِ، ويَجبُ أنْ يكونَ العاملُ في الحالِ العاملَ في صاحبِها والمبعوثُ صالحٌ للعملِ، فإنْ جَعَلْتَه حالاً مِن الْخَشْرَمِ، كانَ العاملُ فيها كأنها في البيتِ قَبلَه، ومَحابيضُ فاعلُ حَثْحَثَ، وقيلَ واحدُ مَحابيضَ مِحْبَضٌ، فلما أَشْبَعَ الكسرةَ، وكانَ الأصلُ مَحَابِضَ، نَشأَ مِن كسرةِ الباءِ ياءٌ، فقيلَ مَحابيضُ، وأَرْدَاهُنَّ نَعْتٌ لِمَحابيضَ، وسامٍ فاعلُ أَرْدَاهُنَّ ومُعَسِّلُ صفةٌ له.

مُهَرَّتَةٌ فُوهٌ كأنَّ شُدُوقَها = شُقوقُ العِصِيِّ كالِحَاتٌ وبُسَّلُ

الْمُهَرَّتَةُ الواسعةُ الأشداقِ، وفُوهٌ مَفتوحةُ الفَمِ، واحِدُها أَفْوَهُ وفَوْهَاءُ، والشِّدْقُ جانِبُ الفَمِ، والكُلُوحُ تَكَشُّرٌ في عُبوسٍ، وبُسَّلُ أيْ كريهةُ الوُجوهِ.
مُهَرَّتَةٌ يَجوزُ أنْ يكونَ خَبرَ مُبتدأٍ محذوفٍ، تَقديرُه: هي مُهَرَّتَةٌ ويَجوزُ أنْ يَكونَ صِفةً للنظائرِ، وكذلك فُوهٌ، وكأنَّ وما عَمِلَتْ فيه حالٌ مِن الضميرِ في "فُوهٌ"؛ لأنَّ معناه واسعاتُ الفَمِ، ويَجوزُ جَعْلُه نَعْتاً لنظائرَ، كالحاتٌ وبُسَّلُ نعتٌ أيضاً، أو خبرُ مُبتدأٍ محذوفٍ.

فضَجَّ وضَجَّتْ بالْبَرَاحِ كأَنَّها = وإِيَّاهُ نَوْحٌ فوقَ عَلياءَ ثُكَّلُ

يُقالُ: أَضَجَّ القومُ اضِّجَاجاً، إذا جَلَبُوا وصاحُوا، فإذا جَزِعُوا مِن شيءٍ وغُلِبُوا قيلَ: ضَجُّوا يَضِجُّونَ، وسُمِعَتْ ضَجَّةُ القومِ, أيْ: جَلَبَتُهم فيَحْتَمِلُ أنْ يريدَ هنا أنهم لَمَّا غُلِبُوا على أمْرِهم، حيث تَعَذَّرَ عليهم القُوتُ صاحُوا، ويَحْتَمِلُ أنه لَمَّا دَعاها وأَجابَتْهُ سَمِعَ لها جَلبةً، والبَراحُ الأرضُ الواسعةُ التي لا زَرْعَ فيها ولا شَجَرَ، والنَّوْحُ النساءُ النوائحُ، وإنما سُمِّيَ النوائحُ بذلك لأنَّ بعضَهُنَّ يُقابِلُ بعضاً، والثُّكَّلُ اللاتِي فَقَدْنَ أزواجَهُنَّ وقيلَ أولادَهُنَّ، واحدُها ثَاكِلٌ، وثَكْلَى، والعَلياءُ المكانُ الرفيعُ.
فضَجَّ, الضميرُ فيه لأَزَلَّ، وفي ضَجَّتْ للنظائرِ، وبالبراحِ يَجوزُ أنْ يكونَ حالاً، أيْ حالةَ إقامتِها بالبَراحِ، ويَجوزُ أنْ يكونَ ظَرْفاً، أيْ في ذلك الْمَوْضِعِ، وكأنها وما عَمِلَتْ فيه حالٌ مِن الجميعِ أيْ مُشْبِهِينَ، وأما "إياه" فضميرٌ منصوبٌ منْفَصِلٌ، ولذلك يَقعُ مُقَدَّماً على العاملِ فيه، كقولِه عزَّ وجَلَّ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} والاسمُ إيَّا وما بعدَه مِن الحروفِ، مثلُ الياءِ والكافِ وغيرِهما، دالَّةٌ على الْخِطابِ والتكلُّمِ وغيرِهما، وذلك أنَّ إياه إمَّا أنْ يكونَ اسماً بمجموعِ حُروفِه أوْ لاَ.
فإنْ كانَ اسماً بمجموعِ حروفِه، فهو إمَّا ظاهرٌ أو مُضْمَرٌ, وليس بظاهرٍ، لأنَّ الظاهرَ لا يَختلِفُ لفْظُه، باختلافِ المتكلِّمِ والغائبِ والمخاطَبِ, وإنْ كان مُضْمَرًاً فإِمَّا أنْ يكونَ إيَّا مُضمَراً، وما بعدَه اسمٌ مُضمَرٌ، وهذا لا يَصِحُّ؛ لأنه يكونُ قد دَخَلَ مُضمَرٌ على مضمَرٍ، لأنه على هذا الوجهِ يكونُ مُضافاً ومُضافاً إليه، ولا يَصِحُّ؛ لأنَّ الْمُضْمَراتِ لا تُضافُ لكونِها في أَقْصَى غايةِ التعريفِ، وإنْ كانَ الأوَّلُ مظْهَراً والثاني مُضْمَراً لم يَصِحَّ؛ لأنَّ الاسمَ الظاهرَ يقومُ بنَفْسِه، وإيا لا يَقومُ بنَفْسِه، ويَمتنِعُ أنْ يكونَ بعدَه اسمٌ مضْمَرٌ؛ لأنَّ حكْمَ الْمُضْمَراتِ أنْ تكونَ متَّصِلَةً, وليستْ متصلَّةً ههنا، إذ الاتصالُ يكونُ بالفعْلِ والاسمِ الظاهرِ، وكِلاهما باطلٌ، فتَعَيَّنَ أنْ يكونَ الاسمُ المضمَرُ إيا, وما بعدَه حُروفٌ.
وإيا منصوبٌ معطوفٌ على الضميرِ في كأنها، ونَوْحٌ خبرُ كأنَّ, ويَجوزُ أنْ يكونَ مَصْدَراً وُصِفَ به، والتقديرُ نِساءٌ نَوْحٌ، كما يُقالٌ: قومٌ صَوْمٌ وفِطْرٌ، وفوقَ ظرْفُ مكانٍ، أيْ كأنها تَنُوحُ في ذلك الْمَوْضِعِ, وعلى قولِنا: له صِفةٌ. يَجوزُ أنْ يكونَ ظَرْفاً له، أيْ تَنوحُ في ذلك الْمَوْضِعِ، وعلياءُ غيرُ منْصَرِفَةٍ للتأنيثِ ولُزومِه؛ لأنَّ المرادَ به البُقعةُ، و"ثُكَّلُ" صفةٌ لنَوْحٍ.

وأَغْضَى وأَغْضَتْ واتَّسَى واتَّسَتْ به = مَراميلُ عَزَّاهَا وعَزَّتْهُ مُرْمِلُ

الإغضاءُ إدناءُ الْجُفونِ بعضَها مِن بعضٍ، ومعنى قولِه: اتَّسَى واتَّسَتْ به، أنَّ كُلاًّ منهما حالُه كحالِ الآخَرِ، والمرْمِلُ الذي نَفَدَ زَادُه, ومَراميلُ جَمْعُه.
وأَغْضَى وأَغْضَتْ مَعطوفٌ على "فَضَجَّ"، واتَّسَى بالتشديدِ افْتَعَلَ مِن الأُسوةِ، وهي الاقتداءُ، والأصلُ أنْ يكونَ مَهموزاً، فأَبْدَلُوا مِن الهمزةِ ياءً للسكونِ، وكُسِرَتْ همزةُ الوصْلِ قَبْلَها، ثم أَبْدَلُوا الياءَ تاءً، وأُدْغِمَتْ في تاءِ الافتعالِ, وقد رُوِيَ بالهمزةِ فيهما مِن غيرِ تَشديدٍ؛ لأنَّ همزةَ الوصْلِ حُذِفَتْ بحَرْفِ العطْفِ، فعادَتِ الهمزةُ الأصليَّةُ إلى مَوْضِعِها، ومَراميلُ فاعلُ "اتَّسَتْ"، وعَزَّاهَا صفةٌ لِمَراميلَ، كما قالَ: وعَزَّتْه، والأصْلُ في مَراميلَ مَرامِلُ، فأَشْبَعَ كسرةَ الميمِ فنَشأتِ الياءُ.

شَكَا وشَكَتْ ثم ارْعَوَى بعدُ وارْعَوَتْ = ولَلصَّبْرُ إنْ لم يَنفَعِ الشَّكْوُ أَجْمَلُ

بعدُ هنا مَبْنِيٌّ لأنها بِمنزلةِ بعضِ الكلمةِ إذ كان معناها لا يَتَّضِحُ بدونِ المضافِ إليه، فهي مع المضافِ إليه بمنزلةِ الكلمةِ: الواحدةِ، وبُنِيَتْ على الضمِّ جَبْراً لها مِن الوَهْن الداخِلِ عليها بقَطْعِها عن الإضافةِ. واللامُ في قولِه: ولَلصَّبْرُ. لامُ الابتداءِ، وأجملُ خبرُه، والشرْطُ مُعتَرِضٌ، و"إنْ" الشرطيَّةُ إذا تَعْقُبُها لم كان الجزْمُ بلم لا بها، وإنْ دَخلَتْ على لا، كان الجزْمُ بها لا بلا، وإنما كان كذلك لأنَّ لم عامِلٌ يَلزَمُه مَعمولُه، ولا يُفَرَّقُ بينَهما بشيءٍ، وأمَّا "إنْ" الشرطيَّةُ، فالتَّفْرِقَةُ بينَها وبينَ مَعمولِها بمعمولِ معمولِها جائزةٌ.
مثالُه: إنْ زَيداً تُكْرِمْ أُكْرِمْهُ، وتَدخلُ أيضاً على الماضي، فلا تَعملُ في لفْظِه، و"لم" تُلازِمُ العمَلَ، وأمَّا لا فغيرُ عامِلَةٍ، إذا كانت نافيةً، فلذلك أُسْنِدَ العاملُ إلى إنْ، فمِن الأوَّلِ قولُه تعالى: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ} ومِن الثاني قولُه تعالى: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي} فالجزْمُ هنا بإنْ، وفي الأوَّلِ بلَمْ، والشكْوُ فاعلُ يَنفعُ.

وفاءَ وفاءَتْ بادِرَاتٍ وكُلُّها = على نَكَظٍ مما يُكَاتِمُ مُجْمِلُ

فاءَ رَجَعَ, وبادِراتٌ مُسرِعاتٌ، ومِن هنا سُمِّيَ القمَرُ ليلةَ أربعةَ عشرَ بَدْراً؛ لأنه يُبادِرُ الشمسَ بطلوعِه، والنَّكَظُ العَجَلَةُ يُقالُ: جاءَ ناكِظاً أي مُسْتَعْجِلاً, ويُكَاتِمُ أيْ يَكتُمُ ما عندَه، إذا لم يُبْدِه، وقيلَ: النَّكَظُ الجوعُ، ومُجْمِلُ أيْ يعامِلُ صاحبَه بالجميلِ.
بادِرَاتٍ حالٌ، وكلُّها مُبتدأٌ وخبرُه مُجْمِلُ، وإنما أَفرَدَ الخبرَ وإنْ كان المبتدأُ جَمعاً؛ لأنَّ لفْظَ "كلّ" مُفردٌ، ومعناها الجمْعُ، فأَفْرَدَ الخبرَ حَمْلاً على لفْظِ "كلّ" وقد تَقَدَّمَ الكلامُ بما يُغنِي عن إعادتِه هنا، وهذا المبتدأُ وخبرُه في موضِعِ الحالِ، تقديرُه: مُجْمِلَةٌ مع كونِها جائعةً أو مسرعةً، وصاحبُ الحالِ الضميرُ في "فاءَتْ" أو في "بادِراتٍ" وعلى نَكَظٍ موْضِعُه حالٌ أي ناكِظاً، وصاحبُ الحالِ الضميرُ في "مُجْمِلُ"، أيْ وكُلُّهم مُجْمِلٌ مُسْرِعاً، ومِن لبيانِ الجنْسِ، والجارُّ والمجرورُ في مَوْضِعِ جَرٍّ نعتٌ لنَكَظٍ, و"ما" هنا يَجوزُ أنْ تكونُ بمعنى الذي, ومَصدريَّةً, ونكرةً مَوصوفةً، وهي أَجودُ الثلاثةِ.


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
لامية, شرح

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:09 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir