دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > الفقه > متون الفقه > زاد المستقنع > كتاب الإقرار

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #5  
قديم 14 ربيع الثاني 1432هـ/19-03-2011م, 02:38 PM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 6,511
افتراضي الشرح الممتع على زاد المستقنع / للشيخ ابن عثيمين رحمه الله

فَصْلٌ
إِذَا وَصَلَ بِإِقْرَارِهِ مَا يُسْقِطُهُ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ لاَ تَلْزَمُنِي وَنَحْوُهُ لَزِمَهُ الأَلْفُ، وَإِنْ قَالَ: كَانَ لَهُ عَلَيَّ وَقَضَيْتُهُ فَقَوْلُهُ بِيَمِينِهِ مَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، أَوْ يَعْتَرِفُ بِسَبَبِ الْحَقِّ، وإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ ثُمَّ سَكَتَ سُكُوتاً يُمْكِنُهُ الْكَلاَمُ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ زُيُوفاً أَوْ مؤجَّلَةً لَزِمَهُ مِائَةٌ جيِّدَةٌ حالَّةٌ،......
قوله: «إِذَا وَصَلَ بِإِقْرَارِهِ مَا يُسْقِطُهُ» «إذا وصل» يعني ضم إلى إقراره ما يسقطه من الوصل، وهو وصل الشيء بالشيء وليس من الوصول، يعني إذا قرن بإقراره ما يسقطه، فهل يقبل أو لا يقبل؟
قال: «مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ لا تَلْزَمُنِي وَنحوه لزمه الألف» لأن قوله: «له علي» إقرار، وقوله: «ولا تلزمني» رفع لهذا الإقرار، ولا يقبل أن يرفع ما أقر به، فلهذا نقول: يلزمه الألف.
ولكن لو أضاف الألف إلى شيء لا يثبت له عوض، مثل أن يقول: له علي ألف، ثمن ميتة، أو ثمن خمر، أو ثمن آلة لهو، وما أشبه ذلك، فهل هو كقوله: لا يلزمني، أو نقول: إن هذا ليس كقوله: لا يلزمني، لكن لا يلزم؛ لأن المعوض ليس له قيمة شرعاً؟
الجواب: الثاني، وهذا هو الأقرب أن يقال: إنه ليس كقوله: لا تلزمني؛ لإمكانه أن يبيع عليه خمراً، ثم يتوب ويقر قبل أن يسلم الثمن، وعليه فلو أضافه إلى خمر باعه عليه وهو ذمي فإنه يلزمه الألف؛ لأن هذا عوض عن شيء يصح التعويض عنه حيث كان في زمن الكفر.
فإن أقام بينة على أنه له عليه ألف، وأنه أوفاه إياه أو ما أشبه ذلك، بحيث يصح قوله: «لا تلزمني» ويكون قوله: «له علي ألف» باعتبار أول الأمر، وقوله: «لا تلزمني» باعتبار ثاني الحال فإذا أقام بينة بهذا فإنه يقبل.
قوله: «وَإِنْ قَالَ: كَانَ لَهُ عَلَيَّ وَقَضَيْتُهُ» فهذا إقرار ودعوى، فالإقرار «كان له علي» والدعوى «وقضيته» فهل نقول: إن الرجل ثبت عليه الألف بإقراره ولم يثبت القضاء؛ لأنه ادعاه وعلى المدعي البينة؟ المؤلف يقول: لا يلزمه الألف؛ لأن هذا لا يتناقض فقد يكون له عليه وقضاه، فلما لم يكن قوله متناقضاً أخذنا بقوله.
قوله: «فقوله: بيمينه» أي: يحلف أنه قضاه ويبرأ، وهل يطالب بالبينة أنه قضى؟ لا يطالب؛ لأنه لم يلزم هذا الحق إلا بإقراره فوجب أن يكون على صفة ما أقر به، وهذا هو المذهب وهو الصحيح.
وقال بعض أهل العلم: بل إنه يكون مقراً مدعياً، فيلزمه ما أقر به ويطالب بالبينة بما ادعاه، يكون مقراً بالألف ومدعياً للقضاء، فيقال: أنت الآن لزمك الألف بإقرارك، هاتِ بينة على أنك قضيته، وهذا قول أبي الخطاب من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله، ولكن المذهب في هذا أصح، وحجتهم ما سبق؛ ولهذا قال المؤلف:
«مَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ» فحينئذٍ يكون مدعياً للقضاء، فإن أتى ببينة عليه وإلا لزمه الألف؛ لأن الألف هنا ثبت ببينة، كما لو جاء شهود يشهدون بأن فلاناً استقرض من زيد ألف ريال، ثم قال زيد: كان له علي وقضيته، نقول: الآن لا نقبل قولك؛ لأن الأصل ثبت ببينة، فعليك البينة أنك قضيته، أما في الصورة الأولى فلم يثبت الأمر إلا من قِبَلك فلا يلزمك إلا ما أقررت به.
قوله: «أَوْ يَعْتَرِفُ بِسَبَبِ الحَقِّ» فيقول: كان له علي ألف قرضاً، فنقول: إذا قلت: وقضيته، يلزمك الألف؛ لأنك أقررت بشيء يوجب الدين، وهو القرض، أو ثمن البيع، أو أجرة البيت أو ما أشبه ذلك، فصارت هذه المسألة لها ثلاث صور:
الأولى: أن يقول: كان له علي ألف فقضيته، ولا يثبت ببينة ولا يعزوه إلى سبب، فهنا القول قوله بيمينه أنه قضاه.
الثانية: أن يثبت أصل الألف ببينة ثم يدعي القضاء فلا يقبل إلا ببينة؛ لأن الأصل ثبت بغير إقراره.
الثالثة: ألا يثبت ببينة، ولكن يعزوه إلى سبب، فيقول: له علي ألف قرضاً، أو ثمن مبيع، أو أجرة أو ما أشبه ذلك، فلما اعترف بسبب الحق اعترف أن في ذمته شيئاً لم يؤخذ عنه عوض، فالألف لزمته بإقراره بسبب الحق، وهو عوض عن شيء أخذه من المُقَرِّ له، بخلاف الذي هو مجرد إقرار فقط، فنقول في هذه الصورة: لا تقبل دعواه أنه قضى إلا ببينة، لأنه اعترف بسبب الحق، والسبب موجب بذاته كالبينة موجبة بذاتها، وحينئذٍ يلزمك أن تقيم بينة، أما في الأولى فإنه لم يعترف أن شيئاً دخل عليه، فقد يكون هذا هبة منه أو عدة أو غير ذلك.
قوله: «وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ ثُمَّ سَكَتَ سُكُوتاً يُمْكِنُهُ الكَلاَمُ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: زُيُوفاً أَوْ مُؤَجَّلَةً لَزِمَهُ مِائَةٌ جَيِّدَةٌ حَالَّةٌ» «زيوفاً» أي: معيبة؛ لأنها تقابل «جيدة» ، هذا رجل قال: له علي مائة درهم، وسكت سكوتاً يمكنه أن يتكلم، ثم قال: مؤجلة، أو قال: له علي مائة ثم سكت، ثم قال: زيوفاً، يلزمه في المسألة الأولى مائة حالة، وفي المسألة الثانية مائة جيدة، فإن قال: له علي مائة ثم سكت، ثم قال: مؤجلة زيوفاً، يلزمه حالة جيدة، وكيف نلزمه بمائة حالة جيدة، والرجل وصف كلامه بضد ذلك، والمسألة لم تثبت إلا بإقراره، فلماذا لا نقول: إنه لا يلزمه إلا ما أقر به؟
فالجواب: أن يقال: إن الصفة يشترط لتخصيصها الموصوف أن تكون متصلة وهنا لم تتصل.
كذلك لو قال: له علي مائة، والمُقَرُّ له فقيه، ويعرف أنها مائة زيوف ومؤجلة لكن لما قال: له علي مائة، تكلم معه بكلام أجنبي، ثم قال: زيوف أو مؤجلة، فهل نقول هنا: إن الرجل تحيل عليه حتى جعله يفصل بين الموصوف والصفة؟ نقول: إذا علمنا أن الرجل تحيَّل عليه وتكلم معه بكلام أجنبي بهذا القصد، فإن هذه الصفة معتبرة وتخصص الموصوف.
ولو فرضنا أن الرجل عَيِيٌّ، إما تمتام، أو فأفاء، أو ما أشبه ذلك، وسكت، ونحن نشاهد أنه يريد أن يتكلم لكنه عجز فهنا الصفة معتبرة، لا يضرها هذا السكوت، ولهذا قال المؤلف: «يمكنه الكلام فيه» فعلم أنه إن لم يمكن فإن الصفة تقبل.
وهل إذا قال: «مائة مؤجلة أو مائة زيوف» ، هل هذا رافع لأصل المُقَرِّ به أو لوصفه؟
الجواب: لوصفه، ورفع الوصف ليس كإسقاط الأصل، ولهذا في المسألة الأولى في أول الفصل قلنا: لا يقبل قوله: «لا تلزمني» ؛ لأن ذلك رفع للأصل، أما هذا فهو رفع للوصف، ويسمى تخصيصاً لا رفعاً.

وَإِنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ، فَأَنْكَرَ الْمُقَرُّ لَهُ الأَجَلَ فَقَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَهَبَ أَوْ رَهَنَ وَأَقْبَضَ، أَوْ أَقَرَّ بِقَبْضِ ثَمَنٍ أَوْ غَيْرِهِ، ثُمَّ أَنْكَرَ الْقَبْضَ، وَلَمْ يَجْحَدِ الإِقْرَارَ، وَسَأَلَ إِحْلاَفَ خَصْمِهِ فَلَهُ ذَلِكَ،..............
قوله: «وَإِنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ فَأَنْكَرَ الْمُقَرُّ لَهُ الأَْجَلَ فَقَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ» إذا أقر مُقِرٌّ بدين مؤجل فأنكر المُقَر له الأجل، فعندنا أصلان متعارضان: أحدهما: أن الأصل الحلول دون التأجيل، والرجل أقر بدين وادعى أنه مؤجل، الثاني: أن المقِر غارم، والغارم قوله مقبول؛ لأنه مدعى عليه، فأي الأصلين نقدم؟ نقدم الثاني، وهو أن المُقِرَّ غارم، ويدل لصدقه أنه أقر، ولو شاء لأنكر؛ لأن المدعي ليس عنده بينة، فلو أن رجلاً قال: لي عند هذا الرجل مائة ريال، وقال: نعم، عندي لك مائة مؤجلة سنة أو إلى شهر، فهنا القول قول المُقِرِّ؛ لأن ذلك لم يثبت إلا بإقراره، وهو لم يقر إلا على هذه الصفة، فلم يلزمه أكثر مما أقر به، ثم هو في الواقع غارم، والغارم قوله مقبول، أما لو قال: بعت عليك شيئاً بمائة فقال: نعم، بعتنيه بمائة، ولكن الثمن مؤجل، فالقول قول البائع؛ لأن الأصل عدم التأجيل، وهذا الرجل أقر بأنه باعه عليه، ولكنه ادعى أن الثمن مؤجل فلا يقبل.
وقوله: «فقول المقر مع يمينه» كل من قلنا: القول قوله فقوله بيمينه، لعموم الحديث: «البينة على المدعي واليمين على ما أنكر»[(277)].
قوله: «وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَهَبَ، أَوْ رَهَنَ وَأَقْبَضَ، أَوْ أَقَرَّ بِقَبْضِ ثَمَنٍ أَوْ غَيْرِهِ، ثُمَّ أَنْكَرَ الْقَبْضَ، وَلَمْ يَجْحَدِ الإِْقْرَارَ، وَسَأَلَ إِحْلاَفَ خَصْمِهِ فَلَهُ ذَلِكَ» هنا عدة مسائل:
الأولى: إن أقر أنه وهب وأقبض، قال: إني وهبت هذا الكتاب زيداً وأقبضته إياه، وإنما أردف قوله: وأقبضته إياه؛ من أجل أن تكون الهبة لازمة؛ لأن الهبة لا تلزم إلا بالقبض، ولو قال: وهبته ولم يقل: وأقبضته، ما لزمت الهبة؛ لأن الواهب إذا لم يُقْبِض الهبة فله أن يرجع، فلو قال: يا فلان أنا وهبتك هذا الكتاب، ولكن ما أقبضه إياه فله أن يمنع الهبة، ولا يُقْبِضَها، ولكن إذا أقبضها صارت لازمة، فهذا الرجل أقر أنه وهب وأقبض، ثم بعد ذلك قال: ما أقبضت، وقال: حَلِّفوا الموهوب له أنه قبض؛ لأن الموهوب له يدعي أنه قابض من أجل أن تلزم الهبة، والمُقِر يدعي أنه لم يُقبض من أجل ألا تلزم، فقال المقِر: حلفوه أني أقبضته حتى تكون الهبة لازمة، يقول المؤلف: له ذلك، فإن قال الخصم: لا أحلف، كيف أحلف على شيء هو أقر به؟ ألم يقر أنه وهب وأقبض، إذن فلماذا تحلفونني على شيء أَقر به خصمي؟! فنقول: إن كان صادقاً أنه لم يُقْبضك فأنت حلفت واستحققت الموهوب له، وإن كنت صادقاً في أنه وهب وأقبض فاليمين لا يضرك؛ بل هو نافع لك على كل حال، فلماذا لا تحلف؟!
والمسألة فيها خلاف لكن الكلام على المذهب يقولون: لأن العادة جرت بمثل هذا الأمر أن يقال: نكتب أنك وهبت وأقبضت؛ لئلا يبقى في المسألة تعلقات، فيقول: نعم اكتب أنني وهبت، وأقبضت، وهو ما أقبض، ولنفرض أنه وهبه بيته وهو ساكن فيه، وقال: أَقِرْ بأنك وهبت وأقبضت، فأقر أنه وهب وأقبض؛ لأجل أن تنتهي المسألة، ولا يكون فيها تعلقات، وهذه دائماً تقع، وتقع أيضاً في مسألة ثانية سيذكرها المؤلف إذا أقر أنه باع وقبض الثمن.
على كل حال يقول المؤلف: «إذا سأل إحلاف خصمه فله ذلك» ويحلفه القاضي، وإذا لم يحلف فقال بعض الأصحاب: يُقضى عليه بالنكول من غير رد اليمين على المُقِر، فيقال: ما دام أنك ما حلفت فليس لك شيء، ويحكم عليه بالنكول، ويقال للواهب: خذ ما وهبت ولا يلزمك شيء.
القول الثاني: أنها ترد اليمين على المُقِر، فيقال للمُقر: احلف أنك لم تُقْبِضه، وهذا القول أقيس، وقد سبق لنا أن القول الراجح: أنه إذا نكل من عليه اليمين ردت على خصمه، وهذا من باب أولى؛ لأن خصمه ادعى أنه أقبض، ولا ترفع هذه الدعوى إلا إذا حلف الواهب بأنه لم يُقبض، ولا يضره شيء إذا حلف على شيء هو صادق فيه. فإن كان صادقاً فهو بار، وإن كان كاذباً فلن يحلف، فعلى كل حال: إذا حلف استحق، وإذا نكل فإنه لا يستحق الموهوب، أما رد اليمين على الواهب ففيها الخلاف المذكور، والراجح أن اليمين ترد على الواهب إذا تكل الموهوب له عن اليمين.
الثانية: يقول: «رهن وأقبض» نقول فيها مثل الهبة، ولماذا أقر بالإقباض؟ لأن الرهن على المشهور من المذهب لا يلزم إلا بالقبض، يقبضه المرتهن، أو من يقوم مقامه، مثل لو اتفقا على أن يجعلاه عند رجل ـ وهو ما يعرف عند الفقهاء بالعدل ـ فالأمر ظاهر، المهم أقر بأنه رهن سيارته وأقبضها، إذن أقر برهن لازم، ثم إن المرتهن قال: أنا قابض السيارة والرهن لازم، فقال المقر: إنني لم أقبضك إياها، فقال: ألم تكن قد أقررت؟ قال: بلى، أقررت بأني رهنتك وأقبضتك، لكن الآن أنكرت الإقباض، فهل نقول: إن إنكاره غير مقبول؛ لأنه يرفع إقراره الأول، أو نقول: إنه مقبول؟ نقول: إنه مقبول؛ لأن الأمر ممكن، فقد يُقر بالرهن والإقباض من أجل أن يتم العقد، والإقباض لم يكن، وعلى كل حال، فالمرتهن يطالب بأن الرهن لازم؛ والراهن يقول: لم أقبضك فالرهن غير لازم، فإذا قال المقر: احلف أنني قد أقبضتك إياه فحلف، يلزم الرهن ويكون قابضاً، فإن أبى أن يحلف ترد اليمين على الراهن الذي ادعى أنه الذي أقر بأنه أقبض ثم أنكر، نقول: احلف أنك لم تقبضه فحلف، فلا يلزم الرهن؛ لأنه رهنٌ غير مقبوض، وقد سبق لنا أن القول الراجح: أن الرهن لا يشترط قبضه، وأنه يلزم بالتعيين، سواء قبض أم لم يقبض، وأن العمل عند القضاة منذ أزمنة على هذا، يرهن الإنسان سيارته لشخص وهو يستخدمها تحت يده، أو يرهن فلاحته وهو يشتغل فيها، أو يرهن بيته وهو ساكن فيه.
المسألة الثالثة: «أو أقر بقبض ثمن أو غيره» باع عليه بيته بعشرة آلاف ريال وذهب إلى كاتب العدل، وكان من عادة كاتب العدل ألا يكتب حتى يكون الثمن قد استلم؛ لئلا تبقى المسألة معلقة، فقال البائع: اكتب أنني بعت وقبضت الثمن كاملاً فكتب كاتب العدل، ثم بعد أسبوع أو عشرة أيام جاء البائع إلى المشتري وقال: أعطني القيمة، قال: انتظر، وبعد مدة جاء وقال: أعطني القيمة، قال: انتظر، ذهب وانتظر، وبعد مدة جاء قال: أعطني القيمة، فلما طالت المدة جاء إليه وقال: أعطني ثمن البيت عشرة آلاف، قال ـ أعوذ بالله ـ: ما تقول بهذا الصك، أتقدح بكاتب العدل؟! فبُهت الرجل؛ لأنه أقر بأنه استلم الثمن، ومن كاتب عدل ـ أي: من جهة مسؤولة ـ فسقط في يده، ماذا يصنع؟ قال: تعال أنا وأنت والقاضي، أو أحد الناس من أهل الخير والصلاح، احلف عندهم أنك أقبضتني، فله الحق أن يحلفه، فلما طلب تحليفه وقال: كيف أحلف على شيء وبيدي وثيقة من كاتب العدل أنك قابض الثمن، لو أحلف أنك قابض الثمن قالوا: هذا إنسان مجنون، يحلف على شيء ثابت لا يحتاج أن يحلف عليه!! قال: نعم، أنا أقررت بأنني قبضت الثمن ثقة بك، ولأجل أن ننهي المعاملة والإفراغ، والآن ما قبضت، فاحلف، فإذا أبى أن يحلف، فالقاضي يرد اليمين على البائع، ويقول: احلف أنك لم تقبض الثمن، فإذا حلف ألزم المشتري أن يدفع الثمن، وإن لم تحلف فإننا لا نحكم لك، ولولا أن العادة جرت بأن الإنسان يقر وهو ما قَبَضَ، لم نقبل رجوعك إطلاقاً؛ لأن هذا رجوع عن إقرار لآدمي، والرجوع عن الإقرار لآدمي غير مقبول.
وهذه المسألة التي ذكرتُها واقعة، فقد كتب أحد أئمة المساجد ـ قبل أن تأتي كتابات العدل ـ بين بائع وامرأة باعت بيتها على هذا الرجل، وحضر الرجل، وقال للكاتب: إن شاء الله يأتي ولدها لديَّ في الدكان وأعطيه الثمن، اُكْتُب أن الثمن مقبوض، ولم يبقَ للبائع حق ولا عُلقة بالمبيع، وقال للمرأة: ما تقولين؟ قالت: نعم، إن شاء الله يفي، فكتب أنها باعت بيتها على فلان ابن فلان وقَبضَت الثمن تاماً، ولم يبقَ لها علقة بوجه من الوجوه، وهذه المرأة سليمة القلب، فلما كان العصر أرسلت ولدها إلى الرجل، قال: يا ولدي اليوم ما عندي شيء، ثم جاء ثانياً وثالثاً، وبعد مضي عدة أيام، قال: هذا كتاب فلان ابن فلان بأنكم قابضون الثمن، أبداً ما لكم شيء، فذهب الولد إلى أمه وأخبرها بالخبر، فالمسكينة سُقِط في يدها، فلما ترافعوا إلى القاضي وكان قاضياً حازماً ذا فراسة وعرف أن المرأة ضعيفة، وأن الإنسان مهما بلغ قد يغويه الشيطان، فقال للرجل: أعطني المكتوب، وإذا كتابة فلان ابن فلان وهو ثقة، ففكر وقال لهم: انصرفوا وتعالوا بعد يومين، وأخذ المكتوب ودعا الكاتب، وقال له: هذا خطك؟ قال: نعم، قال: هل رأيت الثمن معدوداً بيدها؟ قال: لا، لكن أقرت عندي، فلما أقرت كتبت: الثمن واصلاً، فقال: لا تَعُدْ، ولا تكتب أنه قبض الثمن إلا إذا شاهدت البائع قد قبضه، أما مجرد إقرار فلا، فصار في هذا مصلحة عامة، ولما جاء الغد قال للمشتري مباشرة: أما تخاف الله؟! تأكل حق هذه المرأة لما وثقت بك وأمنتك، اتق الله وخف من الله، فخوفه من الله، فقال: يا شيخ، الله يجزاك خيراً وينقذك من النار، الحقيقة أني ما أعطيتها شيئاً، فأخذ القاضي الورقة وقطعها أمامهم، وقال: اذهب أعطها حقها ويكتب الكاتب وهو يراك تَعُدُّ لها الثمن.
المهم أن هذه مسألة يمكن أن تقع، أن الإنسان يبيع ويقر بقبض الثمن وهو ما قبض شيئاً، فإذا طلب إحلاف المشتري فله ذلك، فإن نكل ردت على المقر وأخذ الثمن.
وقوله: «أو غيره» كصداق أو أجرة، فكل إنسان أقر بقبض شيء ثم أنكر القبض دون الإقرار فله إحلاف خصمه، فإن حلف استحق وإن لم يحلف ردت على المقر المنكر يعني المقر بالقبض، ثم أنكره، ثم انتقل المؤلف إلى مسألة أخرى فقال:

وَإِنْ بَاعَ شَيْئاً، أَوْ وَهَبَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِغَيْرِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَلَمْ يَنْفَسِخِ الْبَيْعُ، وَلاَ غَيْرُهُ، وَلَزِمَتْهُ غَرَامَتُهُ،.....
«وَإِنْ بَاعَ شَيْئاً، أَوْ وَهَبَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِغَيْرِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَلَمْ يَنْفَسِخ الْبَيْعُ، وَلاَ غَيْرُهُ وَلَزِمَتْهُ غَرَامَتُهُ» هذه ثلاث مسائل أيضاً:
الأولى: البيع: إذا باع شيئاً ثم قال: إن هذا ليس ملكاً لي، فلا يقبل قوله؛ لأن كل إنسان يستطيع أن يتحيل بعدما يبيع ملكه، ثم يقول: ليس ملكاً لي.
مثال ذلك: بعت على شخص سيارة وبعد أن بعت عليه، قلت: إن السيارة ليست ملكاً لي، وإنما قلت: هذا من أجل أن يبطل البيع؛ لأن من باع ملك غيره لم يصح البيع، فتعلق بالسيارة حقان: حق المشتري، وحق المُقَر له، فلو أننا قبلنا الإقرار وَفَيْنَا بحق المقَر له، لكن على حساب المشتري، ولو أننا أمضينا حق المشتري فإن حق المقَر له لا يضيع، ولهذا قال المؤلف: «ولم ينفسخ البيع» فيبقى البيع على ما هو عليه، ولكن يلزمني قيمة السيارة للمُقَر له؛ لأنني أقررت أن هذه السيارة له، وأنى تصرفت فيها، وليست ملكاً لي، فيلزمني ضمانها.
فإذا قال قائل: لماذا لا يفسخ البيع؟ فالجواب: لأنه إقرار على حق الغير، فإن المشتري ملك السيارة ظاهراً فلا يقبل إقراره عليه.
لكن إذا صدق المشتري البائعَ فحينئذٍ ينفسخ البيع؛ لأن المشتري أقر بأنه ليس له حق في السيارة، إذ إن البائع باع عليه ما لا يملك، وهذه الصورة الأولى التي ينفسخ فيها البيع.
والصورة الثانية: إذا أتى البائع ببينة قال: أنا آتي ببينة أنها ذلك اليوم الذي بعتها فيه عليك كانت لفلان فإنه ينفسخ البيع.
فصار الرجل إذا باع على غيره شيئاً ثم ادعى أنه كان ملكاً لغيره، فإن أتى ببينة قبلت البينة، وانفسخ البيع، وإن لم يأت ببينة فإن صدقه المشتري انفسخ البيع، وإن لم يصدقه لم ينفسخ، وبقي البيع على ما هو عليه، ولزم المُقِرَّ الضمانُ للمُقَرِّ له، وهذا لا شك أنه عين المصلحة؛ لأن بعض من لا يخاف الله ـ عزّ وجل ـ إذا باع شيئاً، وندم على بيعه، وعرف أنه لا طريق له إلى فسخ البيع، أتى برجل وقال: أريد أن أقر بأن المبيع لك؛ من أجل أن ينفسخ البيع، أو يقول له أكثر من هذا، يقول: ادَّعِ عليَّ أن السيارة التي بعتُها لك، وأتخاصم أنا وإياك أمام الناس وتذهب للقاضي، والقاضي إذا وَجَّهْتَ الدعوى إليَّ سوف يقول: ما جوابك؟ سأقول: جوابي: أن السيارة له، وأني معتدٍ، وبعتها على فلان، ولهذا نقول: لا يمكن أن نبطل حق هذا الرجل المشتري الذي سلم الثمن، وأنهى كل شيء لمجرد إقرار هذا الرجل، لكن إذا أتى ببينة قبلت وانفسخ البيع، وإذا صدق المشتري كذلك انفسخ البيع؛ مؤاخذة له بإقراره؛ لأنه هو الذي اعترف بأن البيع غير صحيح.
المسألة الثانية: الهبة: بعد أن وهب هذا الشيء وأقبض كأنه ندم على الهبة، وقال: إن رجعت في هبتي ما أتمكن؛ لأن الهبة مقبوضة، ولكن سأقر بأن هذه العين ملك لغيري، نقول: لا يقبل قولك إلا ببينة أو تصديق من الموهوب له.
المسألة الثالثة: العتق: كذلك بعد أن أعتق عبداً وكتب وثيقة بعتقه، قال: العبد ليس لي، العبد لفلان، فإن صَدَّقَ العبدُ فالعتق لا ينفذ، وإن كذَّب نفذ العتق، ولزمته غرامتُه للمُقَرِّ له، وإذا ثبت ببينة أنه ليس له كذلك لا ينفذ العتق بل يبطل العتق؛ لأنه ثبت أنه ليس ملكه.

وَإِنْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ مُلْكِي ثُمَّ مَلَكْتُهُ بَعْدُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً قُبِلَتْ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ مُلْكُهُ، أَوْ أَنَّهُ قَبَضَ ثَمَنَ مُلْكِهِ لَمْ يُقْبَلْ.
قوله: «وَإِنْ قَالَ لَمْ يَكُنْ مُلْكِي ثُمَّ مَلَكْتُهُ بَعْدُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً قُبِلَتْ» لأنه يمكن أن يكون حين البيع ليس ملكاً له، ثم اشتراه من صاحبه بعد، فإذا أقام بينة بذلك قبلت.
قوله: «إلاَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ أَنَّهَ مُلْكُهُ أَوْ أَنَّهُ قَبَضَ ثَمَنَ مُلْكِهِ لَمْ يُقْبَلْ» يعني ولو ببينة، فهذا رجل باع هذا الشيء، وبعد أن باعه قال: لم يكن ملكي حين البيع، وأقام بينة على ذلك فإنه يقبل، والبيع ينفسخ، إلا إذا كان قد أضافها لنفسه وقال للمشتري: أتشتري سيارتي؟ أو قال للناس: بعت على فلان سيارتي، أو قال: هذه ملك لي يا فلان أتشتريها؟ فهنا لا يقبل قوله أنها لغيره ولو أقام بينة؛ لأن قوله: «ملكي» يكذب البينة، فالبينة تقول: ليس ملكه، وهو يقول: هو ملكي، والبينة إنما تؤيد المدعي وليست تكذبه، فالآن هو نفسه يكذب البينة فلهذا لا تقبل، ولذلك إذا أراد أن يبيعها فإنه يقول للمشتري: تشتري هذه السيارة ولا يقول: سيارتي.
إذن حصراً لهذه المسألة نقول:
أولاً: الشيء الذي ينفسخ به البيع مطلقاً إذا صدق المشتري البائع؛ لأن المشتري يقر بأنه لا حق له في هذا المبيع.
ثانياً: لا يقبل مطلقاً إذا أضاف البائع المبيع لنفسه، بأن قال: هذا ملكي، أو هذه سيارتي، أو ما أشبه ذلك، فهذا لا يقبل ولو ببينة؛ لأنه هو نفسه يكذب البينة، هاتان حالان متقابلتان.
ثالثاً: إذا لم يضفه إلى نفسه، وأتى ببينة فالبينة مقبولة، ولكن كيف لا يضيفه إلى نفسه؟ يقول في عرضه للبيع: أتشتري هذه السيارة؟ من يشتري هذه السيارة؟ وما أشبه ذلك، فلا يقول: سيارتي أو ملكي، فحينئذٍ إذا ادعى أنها ملك غيره، فإن أقام بينة قبلت وانفسخ البيع، وإن لم يقم بينة لم يقبل قوله ولم ينفسخ البيع، لكن بقينا في المُقَرِّ له فيلزمه له غرامة هذا الشيء الذي باعه؛ لأنه فوَّته عليه.


[277] سبق تخريجه ص(318).

 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
إذا, نزل

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:07 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir