شرح كتاب (لمعة الاعتقاد) لابن قدامة, للشيخ عبد الرزاق البدر الدرس (4)
وقوله "يعجب ربك من الشاب ليست له صبوة": هذا الحديث فيه إثبات صفة العجب، وهذه الصفة ثبتت في القرآن "بل عجبت ويسخرون" وثبتت في السنة في أحاديث صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما هذا الحديث الذي ساقه المصنّف وهو في المسند للإمام أحمد وغيره، فإنه ضعيف الإسناد, لأن فيه عبدالله بن لهيعة صدوق قد اختلط, وضعّف الحديث جماعة من أهل العلم, فالحديث ضعيف الإسناد, ولكن الصفة ثابتة, ثبتت في أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعنى قوله "من الشاب ليست له صبوة" أي من شاب نشأ من أوّل أمره على الاستقامة, لم تكن له صبوة في شبابه, فغالب الشباب في ثورة الشباب واندفاع وهيجان الشباب تجد له صبوة, وتجد له أشياء إذا كبر لا يرضاها عن نفسه ويتمنى أن لو لم يكن فعلها في شبابه, لكن في ثورة الشباب وقع فيها ومارسها, وإذا كبر لا يرضاها ويأسف لفعله لتلك الأفعال ويندم على أنه وقع فيها, هذه تسمّى صبوة الشباب.
"من الشاب ليست له صبوة": أي من أول الأمر وهو على الاستقامة, بعض الشباب من نشأته من توفيق الله وهو على الجادّة وعلى الاستقامة لا يُعرف بانحراف ولا يُعرف بجنوح, وفي السبعة الذين يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه شاب نشأ في طاعة الله, أي من أوّل الأمر وهو على الطّاعة والاستقامة.
وقوله "يضحك الله إلى رجلين قتل أحدهما الآخر ثم يدخلان الجنّة" وهذا فيه إثبات الضحك صفة لله سبحانه وتعالى, ويكون المقتول أولا قتله الآخر في الجهاد, ويكون الآخر كافرا بالله فيقتل المسلم ثمّ يكتب الله سبحانه وتعالى لذلك القاتل الإسلام, ويهديه لهذا الدين, فيدخل هو ومن قتله إلى الجنّة, وكثير ممن قاتلوا الصحابة -رضي الله عنهم- وقتلوا بعض الصحابة هداهم الله سبحانه وتعالى للإسلام وأكرمهم الله سبحانه بذلك فكانوا من أهل الجنّة هم ومن كانوا قد قتلوهم في المعارك التي دارت بين المسلمين والكفّار.
وفي حديث أبي رزين لمّا سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يضحك ربنا, قال أبو رزين: أو يضحك ربّنا, قال: نعم, قال: لا عدمنا الخير من ربّ يضحك.
هذا وأمثاله من النصوص المأثورة عن السلف رحمهم الله تدلّ دلالة واضحة على أنهم فهموا المعاني, فهموا معاني الصفات خلافا لما عليه أو ما يدّعيه المفوّضة أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقرءون نصوص الصفات ولا يفهمون معناها, وإنّما كانوا يقرءونها قراءة مجرّدة بمنزلة الأميين الذين يتلون الكتاب ولا يفهمون معناه, ومن قال إن السلف كانوا كذلك, فقد جهل مذهبهم, وجهّلهم, وكذب عليهم, هذه ثلاثة أمور يقع فيها من يدّعي أن الصحابة ومن اتبعهم بإحسان كان مذهبهم في الصفات التفويض, تفويض المعاني, فهو في الحقيقة جهل مذهبهم, وجهّلهم, رماهم بالجهل في أعظم الأمور وهو باب الصفات, صفات الله سبحانه وتعالى, وكذب عليهم, لأنه نسب إليهم ما لا يعتقدونه, ونسب إليهم ما لم يكونوا عليه, فيكون كذب عليهم.
قال "فهذا وما أشبهه ممّا صحّ سنده وعدّلت روايته نؤمن به ولا نردّه": هنا يوضّح الجادّة التي كان عليها السلف تجاه أحاديث الصفات.
"ممّا صحّ سنده وعدّلت روايته" يعني إذا كان الحديث صحيحا ثابتا عن الرسول صلى الله عليه وسلم فإننا نؤمن به ولا نرده, فنتلقّاه بالقبول, فمن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا القبول والتسليم, نؤمن به ولا نردّه.
"ولا نجحده" كما هي طريقة المعطّلة.
"ولا نتأوّله بتأويل يخالف ظاهره" كما هي طريقة المحرّفة, محرّفة نصوص الصفات, فحذّر أولا من مسلك التعطيل ثم حذّر ثانيا من مسلك التحريف, ثم حذر ثالثا من مسلك التشبيه والتمثيل قال:
"ولا نشبهه بصفات المخلوقين ولا بسمات المحدثين" فحذّر من مسلك التمثيل, "ونعلم أن الله سبحانه وتعالى لا شبيه له ولا نظير (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير).
ثمّ حذّر رابعا من مسلك التكييف, قال "وكل ما يخيّل في الذهن أو خطر بالبال, فإن الله تعالى بخلافه" وهذا فيه يبطل مسلك التكييف.
فهي أمور أربعة يجب الحذر منها في باب الصفات:
1-التعطيل, وحذّر منه بقوله "لا نردّه ولا نجحده"
2التحريف, وحذّر منه بقوله "ولا نتأوّله بتأويل يخالف ظاهره
3-التشبيه, وحذّر منه بقوله "ولا نشبهه بصفات المخلوقين"
4-التكييف, وحذّر منه بقوله "وكل يخيّل في الذهن أو خطر بالبال, فإن الله تعالى بخلافه", أي أن المكيّف مهما قدّر في ذهنه من الجمال والكمال والعظمة وظنّ ذلك هو وصف الله, فالله سبحانه أعظم من ذلك, لأن صفاته سبحانه لا يبلغ كنهها الواصفون مهما أوتي الإنسان من حدّة الذهن والذكاء وحسن الوصف والبيان, فالله سبحانه أعظم من ذلك.
وقوله هنا "الله تعالى بخلافه" الأدق أن يقال: فإن الله أعظم من ذلك, كل ما يخيّل في الذهن أو خطر بالبال فإن الله سبحانه أعظم من ذلك, بمعنى ما توصّل إليه المكيّف بذهنه وقدّر أن هذا هو صفة الرب سبحانه, فالله سبحانه أعظم من ذلك, كما في الذكر العظيم الحبيب إلى الله تعالى "الله أكبر", ففي الحديث قال صلى الله عليه وسلم "أحبّ الكلام إلى الله سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر".
وهذه الكلمة: الله أكبر, وحدها كافية في إبطال التكييف, فيقال لمن كيّف مهما بلغ به ذهنه من تقدير لأمر يدّعي أنه وصف الله, يقال له: الله أكبر, فلا يبلغ كنه صفاته وكيفيّة صفاته الواصفون مهما قدّروا, فالله سبحانه أكبر من ذلك, والإنسان عاجز عن أن يبلغ كنه المخلوقات وحقيقة وكيفيّة صفاتها,عاجز عن ذلك.
عبد الرحمن بن مهدي لقي غلاما خاض في التكييف, فقال له: يا غلام دعنا ننظر في كيفيّة بعض المخلوقات, فإن استطعت أن تعرف كيفيتها ننتقل للكلام في كيفيّة خالق المخلوقات, وإن عجزت عن معرفة كيفيّتها فأنت عن معرفة كيفيّة خالقها أعجز, هذا معنى كلامه, فوافق الغلام.
قال له: إن الله عزوجل خلق الملائكة ولها أجنحة "جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء", وإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل وقد سدّ الأفق وله ستمائة جناح, أخبرني هذه الأجنحة التي عليها هذا الملك كيف تتركّب وكيف يطير بها.
ستمائة جناح!! والمعروف أن الطيران بجناحين في حدود فهم الإنسان وما يراه ويشاهد.
ففتح فمه ولم يحر جوابا, قال: لا أنا أهوّن عليك, من الملائكة من له ثلاث أجنحة, جناح عن يمينه وجناح عن يساره والجناح الثالث هذا أين؟! كيف يطير إذا كان له ثلاث أجنحة, فقال الغلام: انتهيت.
لأنه وجد نفسه عاجز عن معرفة كيفيّة مخلوق من المخلوقات فكيف يجرؤ على الخوض في كيفيّة خالق المخلوقات.
إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أذن لي أن أحدّثكم عن ملك من الملائكة ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه تخفق فيه الطير سبعمائة سنة" يعني لو طار طير من عاتق الملك متّجه إلى شحمة الأذن يحتاج إلى سبعمائة سنة طيران حتى يصل إلى شحمة الأذن, هذا مخلوق والله أكبر, هذا مخلوق من مخلوقات الله سبحانه وتعالى.
تأمّل أيضا في حديث أبي ذر "لمّا لقي النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن آية الكرسي –وخرج الحديث مخرج التفسير للآية- قال عليه الصلاة والسلام: ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت في فلاة –أي قطعة صغيرة من حديد ألقيت في صحراء, ماذا تشكّل الحلقة من الحديد بالنسبة إلى الصحراء- وما السموات السبع في الكرسي إلا مثل ذلك"
فانظر إلى هذه النسب,السموات بالنسبة للكرسي كحلقة من حديد ألقيت في صحراء, والكرسي بالنسبة للعرش كحلقة من حديد ألقيت في صحراء, والله سبحانه فوق العرش, جلّ وعلا مستو عليه استواء يليق بجلاله, فكيف يجرؤ عاقل ويقول: إذا أثبتنا لله الصفات لزم أن تكون كصفاتنا, هذا ما عنده عقل... فعلى كل التكييف باطل والتشبيه باطل والتحريف الذي هو التأويل, كتأويل المبطلة باطل, والتعطيل باطل, كل هذه أمور باطلة وضلالات, والحق في إمرار الصفات كما جاءت, وإثباتها كما وردت على جادّة أهل السنّة وطريقتهم.
المتن:
{ ومن ذلك: قوله تعالى "الرحمن على العرش استوى"
وقوله تعالى "ءأمنتم من في السماء"
وقول النبي صلى الله عليه وسلم "ربنا الله الذي في السماء تقدّس اسمك"
وقال للجارية: "أين الله؟" قالت: في السماء. قال: "أعتقها, فإنها مؤمنة". رواه مالك بن أنس, ومسلم, وغيرهما من الأئمة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين: "كم إلـها تعبد؟" قال: سبعة, ستة في الأرض, وواحدا في السماء. قال: "من لرغبتك ورهبتك؟" قال: الذي في السماء. قال: "فاترك الستة واعبد الذي في السماء, وأنا أعلمك دعوتين" فأسلم وعلّمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: "اللهم ألهمني رشدي, وقني شرّ نفسي"
وفيما نقل من علامات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الكتب المتقدمة أنهم يسجدون بالأرض ويزعمون أن إلـههم في السماء.
وروى أبوداود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن ما بين سماء إلى سماء مسيرة كذا وكذا" وذكر الخبر إلى قوله: "وفوق ذلك العرش, والله سبحانه فوق ذلك".
فهذا وما أشبهه ممّا أجمع السلف رحمهم الله على نقله وقبوله, ولم يتعرّضوا لردّه ولا تأويله, ولا تشبيهه ولا تمثيله.
سئل مالك بن أنس رحمه الله فقيل: يا أبا عبدالله "الرحمن على العرش استوى" كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول, والكيف غير معقول, والإيمان به واجب, والسؤال عنه بدعة, ثم أمر بالرجل فًأخرج.}
الشرح:
فصّل هنا المؤلف رحمه الله بعض الشيء بذكر أدلة صفة العلو لله, وأفرد في هذا كتابا وهو مطبوع "إثبات العلو لابن قدامة" لإثبات هذه الصفة, صفة العلو, وتوسّع فيه, في نقل الأدلة على إثبات هذه الصفة من القرآن ومن السنة ومن النقول المأثورة عن السلف الصالح رحمهم الله.
وفي هذه الرسالة اختصر على ذكر بعض الأدلة الدالّة على هذه الصفة العظيمة, بدأها؛
بقوله تعالى "الرحمن على العرش استوى" ومعنى استوى: علا وارتفع, لأن هذا هو معنى الاستواء, العلو والارتفاع, ومعنى استوى على العرش: أي علا وارتفع عليه علوّا وارتفاعا يليق بجلاله وكماله وعظمته, وقد جاء إثبات هذه الصفة في سبعة مواضع من القرآن منها هذا الموضع "الرحمن على العرش استوى" وفي ستة مواضع قال تعالى "ثم استوى على العرش".
وقوله تعالى "ءأمنتم من في السماء" أي الله جل وعلا, ومعنى قوله في السماء: أي العلو, وهذا فيه إثبات علو الله على خلقه, لأن المراد بالسماء أي العلو.
فقوله "ءأمنتم من في السماء" أي ءأمنتم من في العلو, الذي له العلو المطلق جل وعلا ذاتا وقدرا وقهرا, وأيضا يحتمل أن المراد بالسماء: أي المبنيّة وتكون في بمعنى على, بمثل ما جاء في الحديث "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" المراد بـ ارحموا من في الأرض: أي من على الأرض, يرحمكم من في السماء: أي يرحمكم من على السماء.
فإذا أريد بالسماء في الآية المبنية, فإن في بمعنى على, في القرآن آيات كثيرة جدا تأتي فيها في بمعنى على "لأصلبنكم في جذوع النخل" "فسيحوا في الأرض" هذه كلّها بمعنى على, وإذا كانت في على بابها فإن المراد بالسماء العلو, وبكلا المعنيين, في الآية إثبات العلو صفة لله سبحانه وتعالى.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ربنا الله الذي في السماء تقدّس اسمك" الحديث رواه أبوداود وغيره وإسناده ضعيف, فيه زيادة بن محمد الأنصاري وهو منكر الحديث, لكن المقرّر في الحديث ثابت في الآية المتقدّمة وثابت في أحاديث كثيرة جدّا صحّت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حديث الجارية الآتي بعده عند المصنّف.
وقال للجارية: "أين الله؟" قالت: في السماء. قال: "أعتقها, فإنها مؤمنة". رواه مالك بن أنس, ومسلم, وغيرهما من الأئمة, وهذا فيه إثبات أن الله في السماء على المعنى الذي سبق إيضاحه في قوله "ءأمنتم من في السماء".
وقوله عليه الصلاة والسلام للجارية: أين الله؟ فيه صحّة هذا السؤال واستقامته, خلافا لما عليه أهل البدع في كتب الكلام حين يقولون: لا يُسأل عنه بأين, ويقولون لا يشار إليه بإصبع, مع أن النبي عليه الصلاة والسلام سأل الجارية بهذا الحديث الصحيح الثابت أين الله, وفي حجّة الوداع حين خطب الناس رفع إصبعه عليه الصلاة والسلام إلى السماء وقال "اللهم فاشهد", قال: "هل بلّغت" قالوا: نعم, فرفع إصبعه إلى السماء قال: "اللهم فاشهد".