قولُه: (وَتَفْسيرُ ابْنِ عَطِيَّةَ وَأَمْثَالِهِ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَسْلَمُ مِن البِدْعَةِ مِن تَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَلَوْ ذَكَرَ كَلاَمَ السَّلَفِ الْمَوْجُودَ فِي التَّفَاسِيرِ الْمَأْثُورَةِ عَنْهُم عَلَى وَجْهِهِ لَكَانَ أحسَنَ وَأَجْمَلَ، فَإنَّهُ كثيرًا مَا يَنْقُلُ مِن تَفْسِيرِ مُحَمَّدِ بنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَهُوَ مِن أَجَلِّ التَّفاسيرِ الْمَأْثُورَةِ وَأَعْظَمِهَا قَدْرًا، ثُمَّ إِنَّهُ يَدَعُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَن السَّلفِ لاَ يَحْكِيهِ بِحَالٍ، وَيَذْكُرُ مَا يَزْعُمُ أنَّهُ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ، وَإنَّمَا يَعْنِي بِِهِم طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الكَلاَمِ الَّذِينَ قَرَّرُوا أُصُولَهُم بِطُرُقٍ مِنْ جِنْسِ مَا قَرَّرَتْ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ أُصُولََهمْ، وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَى السُّنَّةِ مِن الْمُعْتَزِلةِ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْطَى كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَيُعْرَفَ أَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ التَّفْسِيرِ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَالأَئِمَّةَ إِذَا كَانَ لَهُمْ فِي تَفْسِيرِ الآيةِ قَوْلٌ، وَجَاءَ قَوْمٌ وَفَسَّرُوا الآيَةَ بِقَوْلٍ آخَرَ لأَجْلِ مَذْهَبٍ اعْتَقَدُوه - وَذَلِكَ الْمَذْهَبُ لَيْسَ مِنْ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ - صَارُوا مُشَارِكِينَ لِلْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِم مِنْ أَهْلِ البِدَعِ مِنْ مِثْلِ هَذَا .
وَفِي الْجُمْلَةِ مَنْ عَدَلَ عَنْ مَذَاهِبِِ الصَّحَابةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَفْسِيرِهِم إِلَى مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ؛ كانَ مُخْطِِئًا فِي ذَلِكَ بَلْ مُبْتَدِعًا، وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِِدًا مَغْفُورًا لَهُ خَطَؤُهُ).
انتقل شيخُ الإسلامِ في هذا الموضعِ إلى الحديثِ عن تفسيرِ ابنِ عطيَّةَ وأمثالِه، وهو مثالٌ لتفسيرِ الأشاعرةِ، فقد ذكرَ قبلَه أمثلةً لتفسيرِ الرافضةِ وأمثلةً لتفسيرِ المعتزلةِ، ثم ذكر مثالًا لتفسيرِ الأشاعرةِ، ولكنَّه رَحِمَهُ اللَّهُ لم ينُصَّ على أنهم أشاعرةٌ وإنما نسَبَه إلى أهلِ الكلامِ.
وذكرَ أنَّ تفسيرَ ابنِ عطيةَ وأمثالِه أَتبَعُ للسُّنةِ والجماعةِ، وهذا بلا شكٍّ صحيحٌ؛ لأنَّ الأشاعرةَ أَقْرَبُ لأهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ من المعتزلةِ، ولهذا كان تفسيرُ ابنِ عطيةَ الأشعريِّ أَسْلَمَ من البدعةِ من تفسيرِ الزمخشريِّ.
قال شيخُ الإسلامِ: " ولو ذكَرَ كلامَ السَّلفِ الموجودَ في التفاسيرِ المأثورةِ عنهم على وَجهِه لكانَ أحسَنَ وأجْمَلَ، فإنه كثيرًا ما يَنقُلُ من تفسيرِ محمدِ بنِ جريرٍ الطَّبريِّ؛ لأنه أحدُ مصادِره , وهو – أي: تفسيرُ ابنِ جريرٍ – من أجلِّ التفاسيرِ المأثورةِ وأعظَمِها قَدْرًا، ثم إنه يَدَعُ ما نقلَه ابنُ جريرٍ عن السَّلفِ لا يَحكِيه بحالٍ ويَذكرُ ما يَزعُمُ أنه قولُ المحقِّقينَ " الذين هم علماءُ الأشاعرةِ مِثلِ الجُوَيْنِيِّ وابنِ فوركٍ الذين كثيرًا ما يَنقُلُ عنهما، فهذا من التفسيرِ على المذهبِ؛ لأنه ممَّن اعتقدوا رأيًا, وحَملَ ألفاظَ القرآنِ عليه، فإذا جاءت تفسيراتُ السَّلفِ لا تتناسَبُ مع معتقَدِه أعْرَضَ عنها.
قال: " إنما يعني بهم طائفةً من أهلِ الكلامِ - الذين هم على مذهبِ الأشاعرةِ – الذين قرَّرُوا أصولَهم بطُرُقٍ من جنسِ ما قرَّرتْ به المعتزلةُ أصولَها؛ لأن كُلًّا منها يَعتْمِدُ على العقلِ.
ولهذا تَجِدُ الرازيَّ قد بيَّنَ في كتابِه (أساسُ التقديسِ) أنَّ مذهبَهُ الاعتمادُ على العَقلِ فيما لو تعارَضَ العقلُ والنَّقْلُ.
والأصلُ أنه لا يتعارضُ العقلُ الصريحُ مع النقْلِ الصحيحِ لكنهم أوجدوا هذا التعارُضَ فقدَّموا العَقلَ، ولكن ليس في كلِّ شيءٍ يقدِّمون العقلَ، بل إنَّ الأشاعرةَ دائمًا يعارِضون المعتزلةَ، فإذا قال المعتزلةُ قولًا قالوا بضدِّه، فمرَّةً يجعلون الشَّرعَ مقدَّمًا، ومرَّةً يجعلون العقلَ مقدَّمًا , وليست هناك قاعدةٌ مطَّرِدةٌ، ولكنهم في الجملةِ يجعلون الأصولَ الكلاميةَ عندَهم من جهةِ الاعتمادِ على العقلِ هي الأصولَ الكلاميةَ الموجودةَ عندَ المعتزلةِ.
ثم قال المصنِّفُ: " وإن كانوا – يعني: هؤلاءِ أهلَ الكلامِ الذين هم الأشاعرةُ – أقربَ إلى السُّنةِ من المعتزلةِ، لكن ينبغي أن يُعطَى كلُّ ذي حقٍّ حقَّهُ، ويُعرفَ أنَّ هذا – يعني عَملَ أهلِ الكلامِ وكذلك المعتزلةِ- من جُملةِ التفسيرِ على مذهبٍ، يعني إنسانًا اعتقدَ رأيًا ثم فسَّرَ القرآنَ بِناءً على ذلك الرأيِ.
وأذكُرُ هنا مثالًا من تفسيرِ ابنِ عطيةَ لقضيةِ التفسيرِ على المذهَبِ، وهو قولُه تعالى: {فَلَمَّا تَجلَّى رَبُّهُ للجَبَلِ} فعندَ تفسيرِ هذه الآيةِ قال: قال المتأوِّلون كالقاضي الباقِلاَّنيِّ – وهو طبعًا من الأشاعرةِ – وغيرِه: إنَّ اللَّهَ ـ عزَّ وجلَّ ـ خلقَ للجبلِ حياةً وحِسًّا وإدراكًا يَرى بها، ثم تجلَّى له، أي: ظَهرَ وبدا سُلطانُه، قال: فاندكَّ الجبلُ من شدَّةِ المُطَّلَعِ، فلما رأى موسى ما حلَّ بالجَبلِ صَعِقَ، قالوا: هذا المعنى هو المرويُّ عن ابنِ عباسٍ، وأسْنَدَ الطبريُّ، عن حمادِ بنِ زيدٍ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ أنه قرأَ: {فَلَمَّا تَجلَّى رَبُّهُ للجَبَلِ جعَلَهُ دَكًّا} قال: فوضَعَ الإبهامَ قريبًا من خِنْصَرِه وقال: ((فسَاخَ الجَبلُ)) فقال حميدٌ لثابتٍ: تقولُ هذا؟ فرَفعَ ثابتٌ يدَه فضَربَ صدْرَه وقال: يقولُ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ ويقولُ أنسٌ وأَكْتُمُه أنا؟! وقالت فِرقةٌ: المعنى: فلما تجلَّى اللَّهُ للجَبلِ بقُدرَتِه وسُلطانِه اندكَّ الجَبلُ يكونُ مخالِفًا لما وَردَ في الأثَرِ، قال القاضي أبو محمدٍ: وهذا التأويلُ يَتَمَسَّكُ به المعتزلةُ تمسُّكًا شديدًا؛ لقولِهم: إنَّ رؤيةَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ غيرُ جائزةٍ، وقائِلُه من أهلِ السُّنةِ إنما يقولُه مع اعتقادِه جوازَ الرُّؤيةِ، ولكنه يقولُ: إنه أَلْيَقُ بألفاظِ الآيةِ مِن أن تُحملَ الآيةُ أنَّ الجَبلَ خُلِقَ له إدراكٌ وحياةٌ، وقال الزجَّاجُ: مَن قال: إنَّ تقديرَه فلمَّا تجلَّى أمْرُ ربِّهِ فقد أخطأَ – يعني أهلَ الكلامِ من المعتزلَةِ وتَبِعَهم كذلك بعضُ الأشاعرةِ – قال: ولا يَعرِفُ أهلُ اللغةِ ذلك، ولأجْلِ أنَّ أبا عليٍّ الفارسيَّ معتزلِيٌّ، فإنه في كتابِه " الأغفالُ فيما أغْفَلُه الزجَّاجُ في معانِيه " قد رَدَّ ما قرَّره الزجَّاجُ .
فهذا الكلامُ كلُّه نقاشٌ متَّجِهٌ إلى الاعتقادِ، فهو رأَى رأْيًا ثم حَملَ القرآنَ عليه، ولو ذَكرَ كلامَ أهلِ السُّنةِ صِرفًا ما وقعَ في هذه الآراءِ الأُخرى، فتفسيرُ أهلِ السُّنةِ لهذه الآيةِ هو: {فَلَمَّا تَجلَّى رَبُّهُ للجَبَلِ} أي: ظَهرَ وبانَ، ولكن صفاتُ اللَّهِ تعالى يُرجَعُ فيها إلى القاعدةِ الأصليةِ أنَّ الكيفَ مجهولٌ، ولكن المعنى معروفٌ، وهو أن (تجلَّى) معناها بانَ وظهَرَ، وأما قولُهم: ظَهرَ أمرُه أو ظَهرَ سلطانُه فهذا من بابِ التحريفِ.
مثالٌ آخَرُ من تفسيرِ ابنِ عطيةَ يتعلَّقُ بزيادةِ الإيمانِ ونقصانِه، فقد نصَّتْ آياتُ الكتابِ على أنَّ الإيمانَ يزيدُ كما في قولِه تعالى: {زَادَتْهُمْ إيمَانًا} وقولِه في سورةِ الأنفالِ: {إنَّمَا المؤمِنون الَّذين إذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهم وإذا تُلِيَتْ عليهم آياتُه زَادَتْهُم إيمانًا}.
ولما تكلَّمَ ابنُ عطيةَ عن زيادةِ الإيمانِ، قال: وزيادةُ الإيمانِ على وجوهٍ كلُّها خارجٌ عن نفسِ التصديقِ، ثم ذَكرَ ما يدلُّ على أنَّ الإيمانَ لا يَزيدُ؛ لأنَّ الإيمانَ عندَه التصديقُ، والتصديقُ عندَه لا يَزيدُ، ذكَر ذلك في تفسيرِ قولِه تعالى: {وجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} فهو لا يَرى كُفرَ الجحودِ؛ لأنَّ الإيمانَ عندَه التصديقُ، والتصديقُ يخالِفُ الكُفرَ، فلا يمكنُ عندَه أن يكونَ مُصدِّقًا ثم يَكفرَ؛ لأن مَن دخلَ التصديقُ قَلبَه انتفى عنه الكفرُ، وهذا مخالِفٌ لظاهرِ الآيةِ: {وجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ}، ويُعلِّلُ مذهبَه هذا بحُجَجٍ ضعيفةٍ جدًّا.
وهناك أمثلةٌ كثيرةٌ في الكتابِ كلُّها من بابِ التفسيرِ على المَذهبِ؛ لأنَّ كتابَه يُعتبرُ من كتبِ الأشاعرةِ.
بعدَ ذلك ذَكرَ المصنِّفُ أنَّ مَن خالَفَ مذهبَ الصحابةِ والتابِعينَ وفسَّرَ على المذهبِ – أيًّا كان – فإنه يكونُ مشارِكًا للمعتزلةِ وغيرِهم من أهلِ البدَعِ، وهذه قاعدةٌ عامَّةٌ، فكلُّ مَن كان يعتمدُ في التفسيرِ على أصولٍ غيرِ الأصولِ التي كانت عندَ السَّلفِ فإنه يكونُ مشارِكًا للمعتزلةِ وأهلِ البدعِ.
فالقرآنُ يُحْتَكَمُ إليه ولا يُحْكَمُ عليه، وهذه قاعدةٌ، ولهذا فإنَّ أصولَ النحوِ مَثلًا قد يخالِفُ بعضُها تفسيراتِ السَّلفِ وقد يخالِفُ الواردَ في القرآنِ، فينبغي أن نأخُذَ النَّحوَ من آياتِ القرآنِ، ولا ينبغي أن تُخْضَعَ ألفاظُ القرآنِ للمصطلحاتِ والقواعدِ النحويةِ، وهذا شبيهٌ بما فَعلَ المعتزلةُ، فإنهم وضَعُوا قواعِدَ؛ زعَموا أنها عقليَّةٌ.
وقد اتَّفقَ الفريقانِ في منهجِ مناقشةِ الآياتِ، فالنُّحاةُ حكَّموا قواعِدَهم النحويةَ في آياتِ القرآنِ، فقالوا هذا شاذٌّ، وهذه القراءةُ ضعيفةٌ؛ لأنها تخالِفُ القاعدةَ الفلانيةَ ... إلخ، وهذا المنهجُ قريبٌ من تفسيرِ القرآنِ على المَذهبِ.
والمعتزلةُ وضعوا قواعِدَ عقليَّةً حكَّمُوها على النصوصِ، فما وافَق قواعِدَهم قالوا به، وما خالفَها أوَّلُوه وحرَّفوه إلى ما يَرَوْن العقلَ يدلُّ عليه .