فصلٌ: وللحالِ معَ صاحبِها ثلاثُ حالاتٍ:
إحداها- وهي الأصلُ-: أنْ يَجوزَ فيها أنْ تَتأخَّرَ عنه وأنْ تَتقدَّمَ عليهِ؛ كـ "جاءَ زَيْدٌ ضَاحِكاً", و:"ضَرَبْتُ اللِّصَّ مَكْتُوفاً", فلكَ في: "ضَاحِكاً" و"مَكْتوفاً" أنْ تُقَدِّمَهما على المرفوعِ والمنصوبِ.
الثانيةُ: أنْ تتأخَّرَ عنه([1]) وجوباً, وذلك كأنْ تكونَ مَحْصورةً نحوَ: {وَمَا نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ}([2]) أو يَكونَ صاحبُها مجروراً([3]): إمَّا بحرفِ جَرٍّ غيرِ زائدٍ؛ كـ "مَرَرْتُ بهِنْدٍ جَالِسَةً" وخالَفَ في هذهِ الفارسيُّ وابنُ جِنِّي وابنُ كَيْسانَ, فأجازوا التقديمَ, قالَ الناظِمُ: وهو الصحيحُ؛ لورودِه, كقولِه تعالى:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً للنَّاسِ}([4]) وقولِ الشاعرِ:
273- تَسَلَّيْتُ طُرًّا عَنْكُمُ بَعْدَ بَيْنِكُمْ([5]) والحَقُّ أنَّ البيتَ ضَرورةٌ, وأنَّ {كَافَّةً} حالٌ من الكافِ([6])،والتاءَ للمبالغةِ, لا للتأنيثِ([7])،ويَلْزَمُه تقديمُ الحالِ المحصورةِ وتَعَدِّي "أرْسَلَ" باللامِ, والأولُ مُمتنِعٌ, والثاني خلافُ الأكثرِ([8]).
وإمَّا بإضافةٍ([9]) كـ "أعْجَبَنِي وَجْهُها مُسْفِرَةً".
وإنَّما تَجِيءُ الحالُ من المضافِ إليهِ إذا كانَ المضافُ بعضَه كهذا المثالِ؛ وكقولِه تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً}([10])،{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً}([11]) أو كبعضِه نحوَ: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً}([12])،أو عَامِلاً في الحالِ نحوَ: {إِلَيْهِ مَرجِعُكُمْ جَمِيعاً}([13])،و"أعْجَبَنِي انْطِلاقُكَ مُنْفَرِداً", و:"هذا شاربُ السَّوِيقِ مَلْتُوتاً"([14]).
الثالثةُ: أنْ تَتقدَّمَ عليهِ وُجوباً كما إذا كانَ صاحبُها محصوراً نحوَ: "ما جاءَ رَاكِباً إِلاَّ زيدٌ".
فصلٌ: وللحالِ معَ عَامِلِها ثلاثُ حالاتٍ أيضاً:
إحداها- وهي الأصلُ-: أنْ يَجوزُ فيها أنْ تَتأخَّرَ, عنه وأنْ تَتقدَّمَ عليهِ, وإنَّما يكونُ ذلك إذا كانَ العاملُ فعلاً مُتصَرِّفاً؛ كـ "جاءَ زيدٌ رَاكِباً" أو صفةً تُشْبِهُ الفعلَ المُتصَرِّفَ([15])؛كـ "زيدٌ مُنطلِقٌ مُسْرِعاً", فلكَ في "راكباً" و"مُسْرِعاً" أنْ تُقَدِّمَهما على "جاءَ" وعلى "مُنْطَلِقٌ"؛ كما قالَ اللهُ تعالى: {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ}([16])
وقالَتِ العَرَبُ: "شَتَّى تَؤُوبُ الحَلَبَةُ"([17]) أي: مُتفَرِّقِينَ يَرْجِعُ الحَالِبُونَ, وقالَ الشاعرُ:
* نَجَوْتِ وهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ*([18]) [55]
فـ (تَحْمِلينَ) في موضعِ نصبٍ على الحالِ, وعامِلُها: (طَلِيقُ) وهو صِفَةٌ مُشبَّهَةٌ.
الثانيةُ: أنْ تَتقدَّمَ عليهِ وُجوباً, كما إذا كانَ لها صَدْرُ الكلامِ نحوَ: "كيفَ جاءَ زَيْدٌ"؟.
الثالثةُ: أنْ تَتَأَخَّرَ عنه وُجوباً, وذلك في سِتِّ مَسَائِلَ([19]): وهي أنْ يكونَ العاملُ فِعلاً جَامداً نحوَ: "ما أحْسَنَهُ مُقْبِلاً" أو صِفةً تُشْبِهُ الفعلَ الجامدَ, وهو اسمُ التفضيلِ نحوَ: "هذا أفْصَحُ الناسِ خَطِيباً", أو مَصْدراً مُقدَّراً بالفعلِ وحرفٍ مَصْدريٍّنحوَ: "أعْجَبَنِي اعتكافُ أَخِيكَ صَائِماً", أو اسْمَ فِعْلٍ نحوَ: "نَزَالِ مُسْرِعاً", أو لفظاً مُضَمَّناً معنَى الفعلِ دونَ حروفِه نحوَ: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً}([20])،وقولِه:
274- كَأَنَّ قُلُوبَالطَّيْرِ رَطْباً ويَابِساً([21]) وقولِكَ: "لَيْتَ هِنْداً مُقِيمةً عِندَنا" أو عَامِلاً آخرَ عَرَضَ له مانعٌ([22]) نحوَ: "لأصْبِرُ مُحْتَسِباً", و"لأعْتَكِفِنَّ صَائِماً"؛ فإنَّ ما في حَيِّزِ لامِ الابتداءِ ولامِ القَسَمِ لا يَتقَدَّمُ عليهما.
ويُسْتَثْنَى من أفْعَلَ التفضيلِ ما كانَ عَامِلاً في حاليْنِ لاسميْنِ مُتَّحِدِي المعنَى أو مختلفيْنِ, وأحَدُهما مُفَضَّلٌ على الآخرِ؛ فإنَّه يَجِبُ تقديمُ حالِ الفاضلِ؛ كـ "هذا بُسْراً أطْيَبُ منه رُطَباً", وقولِكَ: "زَيْدٌ مُفرَداً أنْفَعُ مِن عَمْرٍو مُعاناً"([23]).
ويُسْتَثْنَى من المُضَمَّنِ معنَى الفعلِ دونَ حُروفِه: أنْ يكونَ ظَرْفاً أو مَجْروراً مُخْبَراً بهما, فيجوزُ بقِلَّةٍ توَسُّطُ الحالِ بينَ المُخْبَرِ عنه والمُخْبَرِ به؛ كقولِه:
275- بِنَا عَاذَ عَوْفٌ وَهْوَ بَادِيَ ذِلَّةٍ = لَدَيْكُمْ............([24]) وكقراءةِ بعضِهم: (مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةً لِذُكُورِنَا)([25]) وكقراءةِ الحسنِ(وَالسَّمَاوَاتِ مَطْوِيَّاتٍ بيَمِينِهِ)([26]) وهو قولُ الأخْفَشِ, وتَبِعَه الناظِمُ.
والحَقُّ أنَّ البيتَ ضَرورةٌ وأنَّ: (خَالِصَةً)([27]) و(مَطْوِيَّاتٍ) معمولانِ لصِلَةِ: (مَا) ولـ "قَبْضَتُه", وأنَّ (السماواتِ) عَطْفٌ على ضميرٍ مستترٍ في: (قَبْضَتُه)؛ لأنَّها بمعنى مَقْبوضَتِه, لا مبتدأٌ, و(بيَمِينِهِ) معمولُ الحالِ, لا عَامِلُها([28]).
([1]) من المواضعِ التي يَجِبُ فيها تأخيرُ الحالِ عن صَاحِبِها أنْ تكُونَ الحالُ جملةً مُقترِنةً بالواوِ، نحوَ: (جاءَ زَيْدٌ والشَّمْسُ طَالِعَةٌ). فلا يَجوزُ أنْ تقولَ في هذا المثالِ: جاءَ والشمسُ طَالِعَةٌ زَيْدٌ، والسرُّ في ذلك أنَّ الأصلَ في الواوِ أنْ تكُونَ للعطفِ، ولا يَجوزُ عندَما تكونُ عاطفةً تقديمُها على المعطوفِ عليه، فَرَاعَوْا في واوِ الحالِ ما رَاعَوْهُ في واوِ العطفِ.
([2]) سورة الأنعامِ، الآية:48.
([3]) اختَلَفَ النحاةُ في جوازِ تقديمِ الحالِ على صاحبِها المجرورِ بحرفِ جَرٍّ أصْلِيٍّ، فذهَبَ ابنُ مَالِكٍ في عامَّةِ كُتُبِه وأبو عليٍّ الفارسيُّ وابنُ بُرْهانَ إلى أنَّ تَقدِيمَ الحالِ على صَاحِبِها المجرورِ بحرفِ جرٍّ أصْلِيٍّ جائزٌ مُطْلقاً.
وذهَبَ جمهورُ البصْرِيِّينَ إلى أنَّ ذلك لا يَجوزُ مُطْلقاً.
وفَصَّلَ الكُوفِيُّونَ، فأجازوا التقديمَ في ثلاثِ مَسائِلَ: أولاها: أنْ يكُونَ المجرورُ ضميراً نحوَ قولِكَ: "مَرَرْتُ بكِ ضَاحِكَةً". فإنّه يَجوزُ لك أنْ تَقولَ: "مَرَرْتُ ضَاحِكَةً بِكِ". وثانيها: أنْ يكُونَ المجرورُ أحدَ اسميْنِ, عُطِفَ ثانيهما على المجرورِ نحوُ قولِكَ: "مَرَرْتُ بزيدٍ وعَمْرٍو مُسرِعِينَ". فإنَّه يَجوزُ أنْ تقولَ: "مَرَرْتُ مُسرِعِينَ بزيدٍ وعَمْرٍو". وثالثَتُها: أنْ يكُونَ الحالُ جملةً فعليَّةً، نحوَ قولِكَ: "مَرَرْتُ بهِنْدٍ تَضْحَكُ". فإنَّه يَجوزُ لك أنْ تقولَ: "مَرَرْتُ تَضْحَكُ بهِنْدٍ" – ومَنعَوه فيما عدا ذلك.
وقولُنا في بيانِ موضعِ الخلافِ: (حرفُ جَرٍّ أصْلِيٌّ). احترازٌ عن المجرورِ بحرفِ جَرٍّ زَائِدٍ، فإنَّ جَمِيعَ النحاةِ مُتَّفِقونَ على جوازِ تقديمِ الحالِ على صاحبِها المجرورِ بحرفِ جَرٍّ زَائِدٍ، نحوُ قولِكَ:"مَا جَاءَنِي مِن أحَدٍ مُبَشِّراً". فإنه يجوزُ لك في هذا المثالِ أنْ تقولَ: ما جَاءَنِي مُبَشِّراً من أحَدٍ. ونحوُ: (ما رأيتُ مِن أحدٍ رَاكِباً). فإنَّه يجوزُ لك في هذا المثالِ أنْ تقولَ: ما رأيتُ رَاكِباً من أحَدٍ، وإنَّما كانَ هذا مما لا يختلِفُ فيه أحَدٌ؛ لأنَّ هذا المجرورَ بالحرفِ الزائدِ عندَ التحقيقِ فَاعِلٌ أو مفعولٌ.
أمَّا الذينَ أجازوا تقديمَ الحالِ على صاحبِها المجرورِ بحرفِ جرٍّ أصْلِيٍّ فقد اسْتَدَلُّوا على صِحَّةِ ما ذَهَبُوا إليهِ بالنصِّ وبالقياسِ، فأمَّا النصُّ فآياتٌ من الكتابِ الكريمِ وأبياتٌ من شعرِ العربِ، وسيأتي في كلامِ المُؤلِّفِ وكلامِنا عليه جملةٌ من ذلك، وأمَّا القياسُ فحاصلُه أنَّ المَجْرورَ بالحرفِ مفعولٌ في المعنَى، وقدْ جَوَّزَ العلماءُ كًُلُّهم أجمعونَ تَقْدِيمَ الحالِ على صاحبِها إذا كانَ مفعولاً به، فيَجِبُ أنْ يَجوزَ تقديمُ الحالِ على صاحبِها إذا كانَ مَفْعولاً معنًى؛ لأنَّه لا يخرُجُ عن كونِه مفعولاً.
وأمَّا المَانِعونَ فقَدْ التَزَموا رَدَّ أدلةِ القائلِينَ بالجوازِ، فأمَّا الأبياتُ فَقَالوا: إِنَّها شعرٌ، وما كانَ دِليلُه الشِّعْرَ وحْدَه، ولم يجِدْ في كلامِ العربِ المنثورِ مثلَه؛ فإنَّه لا يَثْبُتُ؛ لأنَّ ما سبيلُه الشعرُ وَحْدَه يُعْتَبَرُ ضرورةً، وأمَّا الآياتُ فَذَكَروا أنَّها تَحْتَمِلُ وجوهاً من الإعرابِ غيرَ الوَجْهِ الذي ذكَرَه المُجِيزُونَ، والدليلُ متى احتَمَلَ وَجْهاً أو وُجوهاً أخْرَى لم يَبْقَ مُستَنَداً صَالِحاً للاستدلالِ، وأمَّا قياسُ المجرورِ على المفعولِ فزَعَموا أنَّ بينَهما فَرْقاً، وحاصلُه اختلافُ العامليْنِ؛ لأنَّ الفعلَ المُتعدِّيَ بحرفِ الجرِّ ضعيفٌ، والعاملَ الضعيفَ لا يَقْوَى على العملِ معَ التغييرِ في ترتيبِ مَعْمولاتِه.
هذا، ومِمَّا هو جديرٌ بالذِّكْرِ هنا أمرانِ:
الأمْرُ الأوَّلُ: أنَّه يَلْحَقُ بحرفِ الجَرِّ الأصليِّ كلُّ حَرْفٍ زَائِدٍ تَجِبُ زيادتُه أو تَغلِبُ، فأمَّا الحرفُ الزائدُ الذي تجِبُ زيادتُه فنحوُ الباءِ التي تَجِبُ زيادتُها في فاعلِ أفْعَلِ التعَجُّبِ الذي على صورةِ الأمرِ، نحوُ قولِكَ: "أكْرِمْ بأَبِي بَكْرٍ مُشْفِقاً". وأمَّا الباءُ التي تَغْلِبُ زيادتُها فنحوُالباءِ الزائدةِ في فاعلِ كَفَى، نحوُ قولِكَ:"كَفَى بزَيْدٍ زَاِئراً" والخلافُ الذي تَقَدَّمَ إيضاحُه يَجْرِي في هذا النوعِ، فمَن جَوَّزَ التقديمَ على المجرورِ بالحرفِ الأصليِّ جَوَّزَ ههنا, ومَن لم يُجَوِّزِ التقديمَ على المجرورِ بالحرفِ الأصليِّ لم يُجَوِّزْ ذلك فيهما.
الأمرُ الثاني: أنَّ الأسبابَ التي تمنَعُ من تقديمِ الحالِ على صاحبِها تِسْعَةٌ, ذكَرَ المُؤلِّفُ منها ثلاثةً: أنْ يكُونَ صاحبُها مجروراً بحرفِ جَرٍّ أصليٍّ، على الإيضاحِ الذي بَيَّنَّاهُ، وأنْ يكُونَ صاحبُها مَجْروراً بإضافةِ غَيْرِه إليهِإضافةً مَحْضَةً، أو مُطْلقاً، وأنْ تكُونَ الحالُ مَحْصورةً– وقد بَقِيَ سِتَّةُ أسبابٍ لم يَتعرَّضِ المُؤلِّفُ لها، ونحن نذكُرُها لك هنا بإيجازٍ– معَ إفادتِنا إيَّاكَ أنَّ المُؤلِّفَ ذَكَرَ كلَّ هذهِ المسائلِ عندَ الكلامِ على امتناعِ تَقَدُّمِ الحالِ على العاملِ فيها, فنَقولُ:
الأولُ: أنْ يكُونَ العامِلُ في صاحبِ الحالِ (كأنَّ) الذي هو حَرْفُ تَشْبيهٍ، نحوُ قَولِكَ: "كأَنَّ زَيْداً أسَدً غَاضِباً". لا يَجوزُ لك أنْ تقولَ: "كأنَّ غَاضِباً زَيْداً أسَدٌ".
الثاني: أنْ يكُونَ العامِلُ (لَعَلَّ) الذي هو حَرْفُ تَرَجٍّ، نحوُ قَوْلِكَ: "لَعَلَّ محمداً مُقْبِلٌ علينا مُبَشِّراً". فلا يَجوزُ لكَ أنْ تقولَ: (لَعَلَّ مُبَشِّراً مُحمداً مُقْبِلٌ عَلَينا).
الثالثُ: أنْ يكُونَ العامِلُ (لَيْتَ) الذي هو حَرْفُ تَمَنٍّ، نحوُ قولِكَ: "ليتَ الأستاذَ حاضِرٌ مُشْفِقاً عَلَيْنَا". فلا يَجوزُ لك أنْ تقولَ: "ليتَ مُشْفِقاً علينا الأستاذُ حاضِرٌ".
ويجمَعُ هذه الثلاثةَ قولُنا: (أنْ يكُونَ العامِلُ مَعْنوِيًّا).
الموضِعُ الرابعُ:
أنْ يكُونَ العامِلُ في صاحبِ الحالِ فعلُ تَعَجُّبٍ، نحوُ قولِكَ: "ما أحْسَنَ هِنْداً مُسْفِرَةً". فلا يجوزُ لك أنْ تقولَ: "ما أحْسَنَ مُسْفِرَةً هِنْداً".
الخامِسُ: أنْ يكُونَ صاحبُ الحالِ ضَميراً مُتَّصِلاً بصلةِ أل، نحوُ قولِكَ: "القَاصِدُكَ مُعْطِياً زَيْدٌ". فمُعْطِياً: حالٌ من ضميرِ المخاطَبِ في "القاصدُكَ"، ولا يَجوزُ تقديمُه، فليسَ لكَ أنْ تقولَ: "مُعْطِياً القَاصِدُكَ زَيْدٌ".
السادِسُ: أنْ يكُونَ صاحِبُ الحالِ مَعْمولاً لحرفٍ مَصْدَرِيٍّ، مثلُ أنِ المَصْدريَّةِ، وذلك نحوُ قولِكَ: "يُعْجِبُنِي أنْ ضَرَبْتَ هِنْداً مُؤَدِّباً" فمُؤَدِّباً: حالٌ من تَاءِ المُخاطَبِ الواقعةِ فَاعِلاً في ضَرَبْتَ المعمولِلـ"أنْ"، فلا يَجوزُ لك أنْ تقولَ: "يُعْجِبُنِي مُؤَدِّباً أنْ ضَرَبْتَ هِنْداً".
وفي هذا القدرِ كفايةٌ، واللهُ المسؤولُ أنْ ينفَعَكَ به.
([4]) سورة سبأٍ، الآية: 28.
([5]) 273-لم أجِدْ أحداً نَسَبَ هذا الشاهدَ إلى قائلٍ مُعَيَّنٍ، وهذا الذي أنْشَدَه المُؤلِّفُصَدْرُ بيتٍ من الطويلِ، وعَجُزُه قولُه:
*بذِكْرَاكُمُ حَتَّى كَأَنَّكُمْ عِنْدِي*
اللغةُ: (تَسَلَّيْتُ) تَصَبَّرْتُ وتَكلَّفْتُ العزاءَ والجَلَدَ والسُّلوانَ، وكذلك كُلُّ فعلٍ على وِزانِ تَفَعَّلَ، يدُلُّ على أنَّ الفاعلَ يَتكَلَّفُ الفعلَ؛ ليُصْبِحَ من عَادَتِه وسَجَاياه، ونظيرُه: تَحَلَّمَ، وتَكَرَّمَ، وتَشَجَّعَ، وتَجَلَّدَ، وتَعَزَّى، وتَنَبَّلَ، وانظُرْ قولَ الشاعرِ:
تَحَلَّمْ عَنِ الأَذَنَيْنِ واسْتَبِقْ وُدَّهُمْ = ولَنْ تَسْتَطِيعَ الحِلْمَ حَتَّى تَحَلَّمَا
وإلى قولِ الآخرِ:
تَجَلَّدْتُ حَتَّى قِيلَ: لَمْ يَعْرُ قَلْبَهُ = مِن الوَجْدِ شَيْءٌ، قُلْتُ: بَلْ أعْظَمُ الوَجْدِ
(طُرًّا) بضَمِّ الطاءِ وتشديدِ الراءِ– معناه: جَمِيعاً، والأصلُ في هذهِ الكلمةِ ألا تُستعمَلَ إلاَّ حالاً، تقولُ: جاءَ القومُ طُرًّا. تُرِيدُ أنَّهم جاؤوا جميعاً, (بينَكم) البَيْنُ – بفتحِ الباءِ وسكونِ الياءِ المُثنَّاةِ– أصلُه الانفصالُ والبُعْدُ والفِراقُ، وتَقولُ: بانَ الشيءُ عن الشيءِ يَبِينُ بَيْناً وبَيْنُونَةً، إذا انفَصَلَ عنه بعدَ اتِّصالٍ (بذِكْرَاكُم) الذِّكْرَى – بكسرِ الذالِ المعجمةِ وسكونِ الكافِ– التَّذَكُّرُ.
الإعرابُ: (تَسَلَّيْتُ) تَسَلَّى: فعلٌ ماضٍ مَبنِيٌّ على فتحٍ مُقدَّرٍ على آخرِه لا مَحلَّ له من الإعرابِ، وتاءُ المتكلِّمِ فاعلُه مَبنِيٌّ على الضمِّ في مَحلِّ رفعٍ, (طُرًّا) حالٌ من ضميرِ المُخاطَبِينَ المجرورِ مَحَلاًّ بعَن, (عنكم) عن: حرفُ جرٍّ مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، وضميرُ المخاطَبِينَ في محلِّ جَرٍّ بعن، والجارُّ والمجرورُ مُتعلِّقٌ بتَسَلَّى, (بعدَ) ظرفُ زمانٍ مَنْصوبٌ بتَسَلَّيْتُ, منصوبٌ وعلامةُ نَصْبِه الفتحةُ الظاهرةُ، وبعدَ مضافٌ, وبَيْنَ من (بَيْنِكم) مضافٌ إليه مجرورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ، و"بَيْنِ" مضافٌ, وضَمِيرُ المُخَاطَبِينَ مضافٌ إليه مَبنِيٌّ على الضمِّ في مَحلِّ جرٍّ، والميمُ حرفُ عِمادٍ,"بذِكْرَاكُم" الباءُ حرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ على الكسرِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ وذِكْرَى: مَجْرورٌ بالباءِ وعلامةُ جَرِّه كسرةٌمُقدَّرَةٌ على الألفِ منَعَ من ظُهورِها التعَذُّرُ, والجارُّ والمجرورُ مُتعلِّقٌ بتَسَلَّى, وذِكْرَى مُضافٌ, وضميرُ المُخاطَبِين َمضافٌ إليه مَبنِيٌّ على الضمِّ في مَحَلِّ جَرٍّ والميمُ حَرْفُ عِمَادٍ, (حَتَّى) حرفُ ابتداءٍ مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ,"كأنَّكم" كأنَّ: حرفُ تَشْبيهٍ ونَصْبٍ مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، وضميرُ المُخاطَبينَ اسمُ كأنَّ مَبنِيٌّ على الضمِّ في مَحَلِّ نصبٍ,"عندي" عندَ: ظرفُ مكانٍ مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ خبَرُ كأنَّ، وعندَ مضافٌ وياءُ المُتكلِّمِ مضافٌ إليه مَبنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ جَرٍّ.
الشاهدُ فيه قولُه: (طُرًّا). فإِنَّه حالٌ، ومعناه: جَمِيعاً، وصاحِبُ هذا الحالِ الكافُ التي هي ضميرُ المخاطَبِ في قولِه: (عَنْكم). وهذه الكافُ مجرورةُ المحلِّ بعَنْ، وقدْ تَقدَّمَ الحالُ على صاحبِه، وقدْ ذَكَرَ المصنِّفُ أنَّ ذلك غيرُ جائزٍ إِلاَّ في ضرورةِ الشِّعْرِ، وحُكِيَ عن الفارسيِّ وابنِ جِنِّي وابنِ كَيْسَانَ تجويزُ ذلك في السَّعةِ، وشارَكَهم في القولِ بجوازِ التقديمِ ابنُ بُرْهانَ وابنُ مَلَكونَ وبعضُ الكُوفِيِّينَ.
وحُكِيَ عن ابنِ مَالِكٍ أنَّه صحَّحَ في هذهِ المسألةِ قولَهم، وذلك أنَّه قالَ في شرحِ التسهيلِ: (وجَوازُ التقديمِ هو الصحيحُ؛ لوُرودِه في الفصيحِ؛ كقولِه تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً للنَّاسِ} فكَافَّةً – على هذا – حالٌ من الناسِ، وصاحِبُ الحالِ مَجْرورٌ باللامِ، وقد تَقدَّمَ الحالُ على صاحبِه المجرورِ).
ومِمَّا ورَدَ فيه تقديمُ الحالِ على صاحبِها المجرورِ بحرفِ الجَرِّ قولُ عَبْدِ الرحمنِ بنِ حَسَّانَ– وهو من شِعْرِ الحماسةِ:
إِذَا المَرْءُ أعْيَتْهُ المُرُوءَةُ نَاشِئاً = فمَطْلَبُها كَهْلاً عَلَيْهِ شَدِيدُ
الشاهدُ فيه قولُه: "كَهْلاً". فإِنَّه حالٌ مِن الهاءِ المجرورةِ مَحَلاًّ بعلى في قولِه: "عليه".
وكذلك قولُ عروةَ بنِ حِزَامٍ، وقيلَ: كُثَيِّرُ عَزَّةَ. وقيلَ: قَائِلُه هو المَجنونُ:
لَئِنْ كَانَ بَرْدُ المَاءِ هَيْمَانَ صَادِياً = إلَيَّ حَبِيباً إِنَّها لَحَبِيبُ
الشاهدُ فيه قولُه: "هَيْمَانَ صَادِياً". فإِنَّهما حالانِ من الياءِ المجرورةِ مَحَلاًّ بإلى في قولِه: (إلَيَّ).
ومنه قولُ الآخرِ"ولم أعثُرْ على نسبتِه":
غَافِلاً تَعْرِضُ المَنِيَّةُ للمَرْ = ءِ فيُدْعَى وَلاتَ حِينَ إِبَاءِ
الشاهدُ فيه قولُه: "غَافِلاً". فإنه حالٌ من "المرءِ" المجرورِ باللامِ، وقدْ تَقدَّمَ عليه.
ومِمَّا حَمَلوه على هذا قولُه تعالى: {وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ}. فقد أعرَبوا {عَلَى قَمِيصِهِ} على أنَّه جارٌّ ومجرورٌ مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ حالٌ مِن (دَمٍ) المجرورِ بالباءِ، وقد تَقدَّمَ الحالُ كما ترَى، وجعَلَ الزَّمخشريُّ {عَلَى قَمِيصِهِ} في مَحلٍّ نصبٍ على الظرفيَّةِ، وكأنَّه قد قِيلَ: وجَاؤُوا فوقَ قَمِيصِه بدَمٍ كَذَبٍ. وإنما ذهَبَ إلى هذا؛ فِراراً من تقدُّمِ الحالِ على صاحبِها المجرورِ، ولم يُقِرَّه العلماءُ على ذلك؛ لأنَّ المَعْنَى لا يُساعِدُ عليه.
([6]) هذا التخريجُ مِمَّا ذكَرَه الزجَّاجُ، ولم يَرْتَضِه ابنُ مالكٍ، وعَلَّلَ ردَّه بأنْ مجيءَ التاءِ للمبالغةِ سَمَاعِيٌّ في أمثلةِ المبالغةِ مثلُ عَلاَّمَةٍ، وإنْ جَاءَتْ في بعضِ أمثلةِ اسمِ الفاعلِ, مِثْلُ راويةٍ فهو شَاذٌّ, لا يُقاسُ عليه، والمعروفُ أنَّه لا يَجوزُ حَمْلُ الفصيحِ على الشاذِّ، خُصوصاً إذا وُجِدَ له مَحْمَلٌ آخرُ لا شُذُوذَ فيه.
([7]) وجعَلَ الزَّمَخشريُّ {كَافَّةً} صفةَ موصوفٍ مَحْذوفٍ، وتقديرُ الكلامِ: وما أرْسَلناكَ إلا رِسالةً كَافَّةً، ورُدَّ هذا التخريجُ بوجهيْنِ: الأولُ: أنَّ كلمةَ {كَافَّةً} لا تُستعمَلُ في الكلامِ العَرَبِيِّ إلاَّ حَالاً، فجَعْلُها صِفةً يُنافِي ما ثبَتَ لها من ذلك، والوجهُ الثاني: أنَّ حذفَ الموصوفِ وإِقامةِ صفتِه مقامَه إِنَّما عُهِدَ في صفةِ اعْتِيدَ استعمالُها معَ هذا الموصوفِ، و{كَافَّةً} معَ رسالةٍ ليسَ من هذه البابةِ.
([8]) أمَّا ادِّعاءُ أنَّ تقديمَ الحالِ المحصورةِ مُمْتنِعٌ فغيرُ مُسَلَّمٍ، فقد صرَّحَ البصْرِيُّونَ والكِسائيُّ والفرَّاءُ وابنُ الأنباريِّ بجوازِ تقديمِ المفعولِ المحصورِ، ولا فرقَ بينَه وبينَ الحالِ، وأمَّا تَعدِّي (أرْسَلَ) باللامِ، فقد ورَدَ في قولِه تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً}.
([9]) إذا كانَتِ الإضافةُ مَحْضَةً فقَدْ أجمَعوا على لزومِ تأخيرِ الحالِ، وإنْ كانَتْ غيرَ مَحْضةٍ نحوَ: "هذا شَارِبُ السَّوِيقِ مَلْتُوتاً الآنَ أو غَداً"- جَازَ التقديمُ، ذكَرَه الناظِمُ في (التسهيلِ)، وأنكَرَه ابنُه عليه.
([10]) سورة الحِجْرِ، الآية: 47.
([11]) سورة الحُجراتِ، الآية: 12.
([12]) سورة النحلِ، الآية: 123.
([13]) سورة يونسَ،الآية: 4.
([14]) إنَّما لم يَجُزْ أنْ تَتقدَّمَ الحالُ على صاحبِها المجرورِ بالإضافةِ في نحوِ: "أعْجَبَنِي وَجْهُ هِنْدٍ مُسْفِرَةً"؛ لأنَّها لو تَقَدَّمَتْ على صاحبِها لَوقَعَتْ إِمَّا بينَ المضافِ والمضافِ إليهِ, فكنتَ تقولُ في هذا المثالِ: "أعْجَبَنِي وَجْهُ مُسْفَرَةً هِنْدٍ". فتفصِلُ بينَ المضافِ, الذي هو وَجْهُ, والمضافِ إليه الذي هو "هِنْدٍ"، بالحالِ الذي هو "مُسْفِرَةً"، وقد عَلِمْتَ أنَّ المضافَ والمضافَ إليه كالكلمةِ الواحدةِ، فالفصلُ بينَهما كالفصلِ بينَ أجزاءِ الكلمةِ الواحدةِ، وهو لا يَجوزُ، وإِمَّا أنْ تقَعَ قبلَ المضافِ, فكُنْتَ تَقولُ في المثالِ المذكورِ: "أعْجَبَنِي مُسْفِرَةً وَجْهُ هِنْدٍ" فكُنْتَ تُقَدِّمُ ما يَتعلَّقُ بالمضافِ إليه على المضافِ، وقَدْ عَلِمْنَا أنَّ منزلةَ المضافِ من المضافِ إليه كمنزلةِ الموصولِ من الصلةِ، فإِنَّ الموصولَ يَتعرَّفُ بالصلةِ, والمضافَ يَتعرَّفُ بالمضافِ إليه، فلَمَّا تَشابَهَتْ منزِلَتُهما, أخَذَ المضافُ والمضافُ إليه حكمَ الصلةِ والموصولِ، ومن حُكْمِ الصلةِ معَ الموصولِ ألاَّ يَتقدَّمَ بعضُ مَعْمولاتِها على الموصولِ، فكذلك لا يَتقدَّمُ ما يَتعلَّقُ بالمضافِ إليه على المضافِ.
هذا في الإضافةِ المَحْضةِ– كالمثالِ الذي صَدَّرْنا بهِ هذا الكلامَ, أمَّا المجرورُ بالإضافةِ غيرِ المَحْضةِ, وهي اللفظيَّةُ التي لا تُفِيدُ تَعريفاً ولا تخصيصاً، وإنَّما تُفِيدُ التخفيفَ أو رَفْعَ القُبْحِ – فقد قَدَّمْنا لك أنَّ ابنَ مالكٍ أجازَ في (شرحِ التسهيلِ) تقديمَ الحالِ على صاحبِها، مثالُ هذهِ الإضافةِ اللفظيَّةِ: "زَيْدٌ شَارِبُ السَّوِيقِ مَلْتُوتاً", يجوزُ أنْ تقولَ ذلك، وأنْ تقولَ: زَيْدٌ شَارِبُ مَلْتُوتاً السَّوِيقِ– بجَرِّ السويقِ، والفصلِ بينَ المضافِ والمضافِ إليه بالحالِ، وعلَّلَ ابنُ مالكٍ ذلك الجوازَ بأنَّ الإضافةَ اللفظيَّةَ على نِيَّةِ الانفصالِ, فلا يُعْتَدُّ بها، ولم يَرْتَضِ ابنُه بَدْرُ الدينِ هذا الكلامَ.
هذا، وقد اختَلَفَ النحاةُ: هل يَجوزُ أنْ يَجِيءَ الحالُ من المضافِ إليه في غيرِ هذه المسائلِ الثلاثِ التي ذكَرَها المُؤلِّفُ؟ فذهَبَ أبو عَلِيٍّ الفارسيُّ إلى الجوازِ، ونقَلَه عنه ابنُ الشجريِّ في أماليهِ، وادَّعَى ابنُ مالكٍ الإجماعَ على أنَّه لا يجوزُ مجيءُ الحالِ من المضافِ إليه في غيرِ المسائلِ الثلاثِ التي ذكَرَها المُؤلِّفُ تَابِعاً له فيها.
ومِمَّا جاءَ فيه الحالُ من المضافِ إليه وليسَ وَاحِداً منها قولُ تأبَّطَ شَرًّا:
سَلَبْتَ سِلاحِي بَائِساً وشَتَمْتَنِي = فَيَا خَيْرَ مَسْلُوبٍ ويَا شَرَّ سَالِبِ
الشاهدُ فيه قولُه: "بَائِساً". فإِنَّه حالٌ من ياءِ المُتكَلِّمِ في سلاحي.
ومثلُه قولُ زيدِ الفوارسِ:
عَوْذ وبُهْتَة حَاشِدُونَ عَلَيْهِمُ = حِلَقُ الحَدِيدِ مُضاعَفاً يَتَلَهَّبُ
([15]) هذا الذي ذكَرَه المُؤلِّفُ– من جوازِ تقديمِ الحالِ على عاملِها إذا كانَ فِعْلاً مُتَصَرِّفاً أو صِفَةً تُشْبِهُ الفعلَ المتصرِّفَ مطلقاً، واستدَلَّ له بالآيةِ الكريمةِ وبالمثلِ وببيتِ يَزِيدَ بنِ مفرغٍ الحِمْيريِّ – هو مذَهَبُ جمهورِ البصْرِيِّينَ، وذهَبَ الجَرْمِيُّ إلى أنه لا يجوزُ تقديمُ الحالِ على عاملِها مطلقاً، وذهَبَ الأخفشُ إلى أنَّه لا يجوزُ تقديمُ الحالِ على عاملِها إذا فُصِلَ بينَ العاملِ والحالِ بفاصلٍ نحوُ قولِكَ: "زيدٌ جاءَ رَاكِباً". لا يَجوزُ عندَهما أنْ تقولَ في هذا المثالِ: رَاكِباً زَيْدٌ جَاءَ. ومن هنا تَفَهَمُ السرَّ في استدلالِ المُؤلِّفِ بالآيةِ الكريمةِ التي تَرِدُ على الأخفشِ، وأمَّا المثلُ والبيتُ فيرُدَّانِ على الجَرْميِّ.
([16]) سورة القمرِ، الآية:7.
([17]) هذا مثلٌ من أمثالِ العربِ، يقولونَه عندَما يُرِيدونَ أن يُعَبِّروا عن اختلافِ الناسِ في الأخلاقِ معَ أنَّ أصلَهم واحدٌ، وقد أشارَ المُؤلِّفُ إلى معنى مُفرداتِه، فشَتَّى: جَمْعُ شَتِيتٍ، مثلُ جَرْحَى معَ جَرِيحٍ، ومعنَى شَتِيتٍ: مُتفَرِّقٌ، و"تَؤُوبُ" أي: تَرْجِعُ، تقولُ: آبَ يَؤُوبُ أَوْباً– مثلُ قالَ يَقُولُ قَوْلاً– ومآباً، والمعنَى: رجَعَ، والحَلَبَةُ: جَمْعُ حَالِبٍ – بوزنِ قَاتِلٍ وقَتَلَةٍ وفاجِرٍ وفَجَرَةٍ وفاسِقٍ وفَسَقَةٍ وكَاتِبٍ وكَتَبَةٍ – وأصلُ المثلِ أنَّ أصحابَ الإبلِ والبقرِ وسائرِ النَّعَمِ عندَما يُرِيدونَ أنْ يَرِدوا الماءَ ليَسْقُوا نَعَمَهم يَرِدُونَ مُجْتَمِعِينَ، وعندَما يُرِيدُونَأنْ يَحْلُبُوا مَاشِيَتَهم يَحْلُبُونها مُتفرِّقِينَ، فيَحْلُبُ كلُّ واحدٍ منهم ماشيتَه على حِدَةٍ، و"شَتَّى" حالٌ من الحَلَبَةِ الواقعِ فاعلاً لتَؤُوبُ، وقد تَقدَّمَ هذا الحالُ على صاحبِها وعلى العاملِ فيه أيضاً، وإنَّما ساغَ هذا التقَدُّمُ؛ لكونِ هذا العاملِ فِعْلاً مُتصرِّفاً، فهو من القُوَّةِ بحيثُ يَعْمَلُ متأخِّراً أو مُتقَدِّماً.
فلو لم يَكُنِ العاملُ فِعْلاً متصرِّفاً ولا صِفَةً تُشْبِهُ الفعلَ المتصرِّفَ – بأنْ كانَ فِعْلاً جَامِداً كفِعْلِ التعَجُّبِ في نحوِ:"مَا أَحْسَنَ زَيْداً مُقْبِلاً على مَا يَنْفَعُهُ", أو كانَ صِفَةً تُشْبِهُ الجامدَ كأفعلَ التفضيلِ في نحوِ: "محمدٌ أفصحُ الناسِ مُتحَدَّثاً" أو كانَ اسمَ فِعْلٍِ نحوَ قولِكَ: "نَزَالِ مُسْرِعاً". أو كانَ مَعنويًّا؛ كالحروفِ التي عَمِلَتْ بشَبَهِها في المعنَى بالفعلِ, وكالجارِّ والمجرورِ والظرفِ نحوَ قولِكَ:"لَيْتَ عَلِيًّا زَائِرُنا مُخْلِصاً، وإبراهيمُ في الدَّارِ جَالِساً، وخالِدٌ عندَكَ مُنْصِتاً" – فلا يَجوزُ تقديمُ الحالِ على عاملِها في شيءٍ من ذلك، ولا فيما أشْبَهَهُ.
([18]) قدْ سبَقَ الاستشهادُ بهذا الشاهدِ في بابِ الموصولِ (وهو الشاهدُرَقْمُ 55 السابقُ في الجزءِ الأولِ) وذكَرْنا هناكَ نسبتَه وتكملتَه، فارجِعْ إليه هناكَ.
والشاهدُ هنا قولُه: (تَحْمِلِينَ). فإنَّها جملةٌ من فعلٍ وفاعلٍ, موضعُها نصبٌ على الحالِ، وصاحِبُها هو الضميرُ المستترُ المرفوعُ في قولِه: (طَلِيقُ). الذي هو خَبَرٌ عن اسمِ الإشارةِ, ويَكُونُ العامِلُ في الحالِ هو قولُه: (طَلِيقُ). وهو صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ كما ذكَرَ المُؤلِّفُ، فيَكُونُ في الشاهدِ دَلِيلٌ على جوازِ تَقدُّمِ الحالِ على عَامِلِها معَ كونِ العاملِ صِفَةً مُشبَّهَةً، وتقديرُ الشاهدِ: وهذا طَلِيقٌ حالَ[مع؟؟] كونِه محمولاً لكِ، وفي الموضِعِ الذي أحَلْناكَ عليهِ إعرابٌ آخَرُ للكُوفِيِّينَ يَجْعَلونَ فيه (هَذَا) اسماً مَوْصولاً بمعنَى "الذي" مُبْتَدأٌ، وجملةُ (تَحْمِلِينَ) صِلَتُه، و(طَلِيقُ) خَبَرُه، وتقديرُه عندَهم: والذي تَحْمِلِينَه طَلِيقُ. وهو مردودٌ.
([19]) هذه المسائلُ الستُّ هي التي ذكَرْناها فيما سبَقَ (ص280) زيادةً على المُؤلِّفِ وقُلْنا: إنَّه لا يَجوزُ أنْ يَتقدَّمَ في كلِّ واحدةٍ منها الحالُ على صاحبِها، فلا تَغْفُلْ عن ذلك، واعرْفِ الآنَ– مِمَّا ذكَرَه المُؤلِّفُ– أن يَجِبَ في كلِّ واحدةٍ منها أيضاً أنْ يَتأخَّرَ الحالُ عن العاملِ فيها، فيَجتمِعَ فيها أمرانِ: أنْ تَتأخَّرَ عن صاحبِها، وأنْ تَتأخَّرَ عن العاملِ أيضاً.
([20]) سورة النملِ، الآية: 52.
([21]) 274-هذا الشاهدُ من كلامِ امْرِئِ القيسِ بنِ حُجْرٍ الكِنْدِيِّ، والذي ذكَرَه المُؤلِّفُ صَدْرُ بيتٍ من الطويلِ، وعَجُزُه قولُه:
*لَدَى وَكْرِهَا العُنَّابُ والحَشَفُ البَالِي*
وهذا البيتُ من قصيدةٍ له مُستجادَةٍ، ومَطْلِعُها قولُه:
ألا عِمْ صَباحاً أَيُّهَا الطَّلَلُ البَالِي = وهَلْ يَعِمْنَ مَن كَانَ في العُصُرِ الخَالِي
وهَلْ يَعِمْنَ مَن كَانَ أحْدَثُ عَهْدِهِ = ثَلاِثينَ شَهْراً فِي ثَلاثةِ أحوالِ
وقدْ تَقدَّمَ شاهدٌ من هذهِ القصيدةِ في بابِ المُعْرَبِ والمَبنِيِّ في مباحثِ الجمعِ بألفٍ وتاءٍ مَزِيدتيْنِ، وهو الشاهدُ رَقْمُ 18.
اللغةُ: "عِمْ صَباحاً" هذه إحْدَى تَحِيَّاتِ العربِ في جاهِلِيَّتِهم، كانوا يقولونَ: عِمْ صَبَاحاً, وعِمْ مَسَاءً، وانعَمْ صَباحاً، وانْعَمْ مَسَاءً، وعِمْ ظَلاماً، وانعَمْ ظَلاماً. ومن الأخيرِة قولُ الشاعرِ، وسيأتي في شواهدِ بابِ الحكايةِ:
أَتَوْا نَارِي فقُلْتُ: مَنُونَ أنْتُمْ؟ = فقَالُوا: الجِنُّ، قُلْتُ: عِمُوا ظَلاماً
وقد اختَلَفَ العلماءُ في "عِمْ" فمِنهم مَن قالَ: هو أمْرٌ, مَاضِيهِ وَعَمَ مثلُ وَعَدَ ووَصَفَ ووَسَمَ, فكما تقولُ: وَعَدَ يَعِدُ عِدْ، ووَصَفَ يَصِفُ صِفْ، ووَسَمَ يَسِمُ سِمْ. تَقولُ: وَعَمَ يَعِمُ عِمْ. وقالَ قومٌ: أصلُه انْعَمْ، فحُذِفَتِ النونُ اعتباطاً للتخفيفِ، فاستُغْنِيَ بعدَ ذلك عن همزةِ الوصلِ,"الطَّلَلُ" كلُّ ما شَخَصَ وظَهَرَ وارتفَعَ من آثارِ الديارِ,"العُصُرِ الخَالِي" الزَّمَنُ الماضي الذَّاهِبُ في القِدَمِ,"وهَلْ يَعِمْنَ مَن كانَ أحْدَثُ عَهْدِه ... البيتَ". قالَ البطليوسيُّ: ذهَبَ بعضُ الرواةِ إلى أنَّ الأحوالَ ههنا جَمْعُ حَوْلٍ بمعنَى السنةِ، والوجْهُ عندي أنَّ الأحوالَ جَمْعُ حَالٍ، لا جَمْعُ حَوْلٍ، وإنَّما أرادَ كيفَ يَنْعَمُ مَن كانَ أقرَبُ عهدِه بالنعيمِ ثلاثِينَ شَهْراً، وقد تَعاقَبَتْ عليهِ ثلاثةُ أحوالٍ، وهي: اختلافُ الرياحِ عليهِ، وملازمةُ الأمطارِ له، والقِدَمُ المُغَيِّرُ لرسومِه, (كأنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً ويَابِساً ... البيتَ) هذا البيتُ في وصفِ عُقَابٍ سَريعةِ الاختطافِ صَيُودٍ، والعُنَّابُ– بضَمِّ العينِ وتشديدِ النونِ مفتوحةً– ضَرْبٌ من الفاكهةِ تُشْبِهُ به أنَامِلَ الحِسَانِ المَخْضوبةِ بالحِنَّاءِ، وشَبَّهَ به ههنا القلوبَ الرَّطْبَةَ من الطيرِ الذي صَادَتْهُ العُقابُ، والحَشَفُ: ضَرْبٌ من رَدِيءِ التمْرِ، شَبَّه به الجافَّ من قُلوبِ الطيرِ، يُرِيدُ أنَّها كثيرةُ الاصطيادِ للطَّيْرِ، وأنَّكَ تجِدُ عندَ عُشِّها قُلوباً كثيرةً من قلوبِ الطيرِ، بعضُها لا يزالُ رَطْباً فهو كالعُنَّابِ، وبعضُها قد جفَّ فهو كالحَشَفِ البالي.
الإعرابُ: (كَأنَّ) حرفُ تَشْبيهٍ ونصبٍ, (قُلوبَ) اسمُ كأنَّ مَنْصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ، وهو مضافٌ, و(الطيرِ) مضافٌ إليه مجرورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ, (رَطْباً) حالٌ من اسمِ كأنَّ مَنْصوبٌ, وعلامةُ نَصْبِه الفتحةُ الظاهرةُ, (ويَابِساً) الواوُ حرفُ عطفٍ،يَابِساً: مَعْطوفٌ على قولِه: رَطْباً. منصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ, "لَدَى" ظرفُ مكانٍ مَنْصوبٌ بفتحةٍ مُقدَّرَةٍ على الألفِ منَعَ من ظُهورِها التعَذُّرُ، وهو مُتعَلِّقٌ بمحذوفٍ, حالٌ من قلوبِ الطَّيْرِ، وهو مضافٌ, و"وَكْرِ" من "وَكْرِها" مضافٌ إليه مجرورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ. و"وَكْرِ" مضافٌ وضميرُ الغائبةِ العائدُ إلى العُقابِ مضافٌ إليه مَبنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ جرٍّ,"العُنَّابُ" خَبَرُ كأنَّ مرفوعٌبالضمَّةِ الظاهرةِ,"والحَشَفُ" الواوُ حرفُ عطفٍ، الحَشَفُ: معطوفٌ على العُنَّابِ,"البالي" نعتٌ للحشَفِ مرفوعٌ بضمَّةٍ مُقدَّرَةٍ على الياءِ, منَعَ من ظهورِها الثِّقَلُ.
الشاهدُ فيه قولُه: (رَطْباً ويَابِساً). فإِنَّهما حالانِ من (قُلُوبَ الطَّيْرِ) والعامِلُ في الحاليْنِ وصاحبِهما هو قولُه: (كأنَّ). وهو حرفٌ مُتضمِّنٌ معنَى الفعلِ دونَ حروفِه، فإنَّ معناه أشْبَهُ، ولا يَجوزُ في مثلِ هذهِ الحالِ أنْ تَتقدَّمَ على عاملِها.
ولا يَخْفَى عليكَ أنَّ جَمْعَ التكسيرِ يَجوزُ في الضميرِ العَائِدِ إليه التذكيرُ والتأنيثُ، فلا اعتراضَ على قولِه: (رَطْباً ويَابِساً).
([22]) اللامُ التي في (لَأصْبِرُ مُحْتَسباً) هي لامُ الابتداءِ، واللامُ التي في (لَأعْتَكِفَنَّ صَائِماً) هي لامُ القَسَمِ، وكلٌّ من لامِ الابتداءِ ولامِ القسمِ له الصدارةُ، على معنَى أنَّه يَجِبُ أنْ يكُونَ كلٌّ منهما في أولِ الكلامِ، وعلى هذا لا يَجوزُ أنْ يَتقدَّمَ معمولُ ما اتَّصَلا به عليهما، وبعبارةٍ أخرَى لا يجوزُ أنْ يعمَلَ ما بعدَهما في شيءٍ قَبْلَهما، فأصْبِرُ وأَصُومُ كلُّ واحدٍ منهما فعلٌ مُتصرِّفٌ, كانَ يَصِحُّ أنْ يَتقدَّمَ الحالُ عليهما، لكنْ لَمَّا اتَّصَلَتْ بالأولِ لامُ الابتداءِ, وبالثاني لامُ القَسَمِ عَرَضَ لكلٍّ منهما عارِضٌ, هو اقترانُ الأولِ بلامِ الابتداءِ, واقترانُ الثاني بلامِ القَسَمِ، فمَنَعَه هذا العارِضُ من تقَدُّمِ أحدِ معمولاتِه عليه.
([23]) هذا التقديرُ الذي ذكَرَه المُؤلِّفُ هو تَقديرُ سِيبَوَيْهِ، وتوضيحُه في المثالِ الأولِ أنَّ قولَهم: (بُسْراً). حالٌ من الضميرِ المُستتِرِ في (أطْيَبُ) على أنَّه فاعِلٌ، وقولَهم: (رُطَباً). حالٌ من الضميرِ المجرورِ في (مِنه) وهذا الجارُّ والمجرورُ مُتعَلِّقٌ بـ"أطْيَبُ"، فيَكونُ صَاحِبَا الحاليْنِ من معمولاتِ أفعلَ التفضيلِ، وكأنَّ قائِلَ هذا الكلامِ قد قالَ: هذا في حالِ كونِه بُسْراً أطْيَبُ من نفسِه في حالِ كَوْنِه رُطَباً. وقد ارتَضَى هذا التقديرَ المازِنِيُّ وأبو عَلِيٍّ الفارسيُّ في التذكرةِ وابنُ كَيْسَانَ وابنُ جِنِّي.
وذهَبَ المُبرِّدُ والزجَّاجُ وابنُ السَّرَّاجِ وأبو سعيدٍ السِّيرافيُّ– ووافَقَهم أبو عليٍّ الفارسيُّ في الحلبياتِ– إلى أنَّ الناصبَ لهذيْنِ الحاليْنِ هو "كانَ" محذوفةٌ قبلَ كُلِّ حالٍ من الحاليْنِ، وهي تَامَّةٌ مسبوقةٌ بـ"إذْ" أو بـ"إِذَا"، وصاحِبُ الحاليْنِ هو الضميرانِ المستترانِ في "كانَ"، وتقديرُ الكلامِ: هذا إِذَا كانَ,"أي: وُجِدَ" بُسْراً أطْيَبُ منه إذا كانَ رُطَباً.
وذكَرَ أبو حَيَّانَ أنَّ بعضَ النحاةِ الذينَ جَرُوا على هذا التقديرِ جَعَلوا "كانَ" المُقدَّرَةَ ناقصةً، فيَكونُ الاسمانِ المنصوبانِ خبريْنِ لها، والتقديرُ هو التقديرُ.
([24]) 275-لم أقِفْ لهذا الشاهدِ على نسبةٍ إلى قَائِلٍ مُعَيَّنٍ، والذي ذكَرَه المُؤلِّفُ قطعةٌ من بيتٍ من الطويلِ، وهو بتمامِه:
بِنَا عَاذَ عَوْفٌ وَهْوَ بَادِيَ ذِلَّةٍ = لَدَيْكُمْ، فَلَمْ يَعْدَمْ وَلاءً وَلاَ نَصْرَا
اللغةُ: (عاذَ) بمعنَى التَجَأَ وتَحَصَّنَ، (وعَوْفٌ) اسمُ رجُلٍ، وقولُه: (وَهْوَ بَادِيَ ذِلَّةٍ) معناه: أنَّه ظَاهِرُ المَهانَةِ، والوَلاءُ: الموالاةُ والمناصرةُ، والنصْرُ: الإعانةُ، وقولُه: (وهْوَ) الواوُ فيه للحالِ.
الإعرابُ: (بِنَا) الباءُ حرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ على الكسرِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ, وضميرُ المُتكلِّمِ ومعَه غيرُه مَبنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ جرٍّ بالباءِ، والجارُّ والمجرورُ مُتعَلِّقٌ بعَاذَ, (عاذَ) فعلٌ ماضٍ مَبنِيٌّ عل الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ, (عوفٌ) فاعلُ عَاذَ مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ, (وهْوَ) الواوُ واوُ الحالِ حرفٌ مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، هو: ضميرٌ مُنفصِلٌ, مبتدأٌ مَبنِيٌّ على الفتحِ في مَحلِّ رفعٍ, (بَادِيَ) حالٌ من الضميرِ المُستقِرِّ في خَبَرِ المبتدأِ الذي هو قولُه: (لَدَيْكُمْ). الآتي، وبادِيَ مُضافٌ, و(ذِلَّةٍ) مضافٌ إليهِ مجرورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ,"لَدَيْكُمْ" لَدَى: ظرفُ مكانٍ متعلِّقٌ بمحذوفٍ خبرُ المبتدأِ, الذي هو الضميرُ المُنفصِلُ السابقُ، منصوبٌ بفتحةٍ مُقدَّرَةٍ على الألفِ المُنقلبَةِ ياءً, منَعَ من ظُهورِها التعَذُّرُ، ولَدَى مُضافٌ, وضميرُ المُخاطَبِينَ مضافٌ إليهِ,"فلَمْ" الفاءُ حَرْفُ عَطْفٍ مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، لم: حرفُ نَفْيٍ وجَزْمٍ وقلبٍ مَبنِيٌّ على السُّكونِ، لا مَحلَّ له من الإعرابِ,"يَعْدَمْ" فعلٌ مضارعٌ مجزومٌ بلَمْ, وعلامةُ جَزْمِه السكونُ، وفاعلُه ضميرٌ مُستتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه: هو, يعودُ إلى "عَوْفٌ","وَلاءً" مفعولٌ بهِ لـ"يَعْدَمْ" منصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ,"ولا" الواوُ حرفُ عطفٍ مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، لا: حرفٌ زائدٌ لتأكيدِ النفْيِ "نَصْراً" معطوفٌ على قولِه: ولاءً. منصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ.
الشاهدُ فيه قولُه: (بَادِيَ ذِلَّةٍ). فإِنَّه – على ما ذهَبَ إليه جماعةٌ من النحاةِ، منهم الفرَّاءُ والأخفشُ– حالٌ, صاحبُه الضميرُ المستقِرُّ في خبرِ المبتدأِ؛ وذلك أنَّ قولَه: (هو) ضميرٌ منفصلٌ مبتدأٌ, وخبرُه مُتعلِّقُ الظرفِ الذي هو قَوْلُه:"لَدَيْكُمْ". وفي هذا الظرفِ ضَمِيرٌ مُستقِرٌّ مُنتقِلٌ من مُتعلَّقِه إليهِ, على ما هو معلومٌ، وقولُه: (بَادِيَ ذِلَّةٍ). الروايةُ فيه بالنصْبِ على أنَّه حالٌ من الضميرِ المُستكِنِ في الظرفِ، وتقديرُ الكلامِ:عَاذَ بِنَا عوفٌ حالَ كونِه لَدَيْكُمْ بَادِيَ ذِلَّةٍ، فقَد تقدَّمَ الحالُ على العاملِ فيها, وهو (لَدَى), وذلك العاملُ ظَرْفٌ، وقد ذهَبَ الناظِمُ تَبَعاً للأخفشِ إلى جوازِ ذلك في سَعةِ الكلامِ، وخَرَّجا عليه ما ذكَرَه المُؤلِّفُ من الآياتِ، وهو عندَ الجمهورِ ضرورةٌ من ضروراتِ الشِّعْرِ، والآياتُ عندَهم على غيرِ التخريجِ الذي خَرَّجَاها عليه، ولا يَخْفَى عليكَ أنَّكَ لو جَعَلْتَ (بَادِيَ ذِلَّةٍ) حَالاً من (هو) على رأيِ سِيبَوَيْهِ الذي يُجِيزُ مَجِيءَ الحالِ من المبتدأِ- لم يَكُنْ في البيتِ شاهدٌ لهما على ما ذَهَبا إليه.
([25]) سورة الأنعامِ، الآية: 139، وهذه القراءةُ بنصْبِ (خَالِصَةً), وخَرَّجها الفَرَّاءُ والأخفشُ على أنَّ (خَالِصَةً) حالٌ, صاحبُه الضميرُ المُستتِرُ في الجارِّ والمجرورِ بعدَ حذفِ مُتعَلَّقِه، وهذا الجارُّ والمجرورُ خبرٌ عن ما الموصولةِ في قولِه: {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ}. وما الموصولةُ المرادُ بها الأجِنَّةُ – جمعُ جَنِينٍ– ولذلك جاءَ الحالُ منهما بلفظِ المؤنَّثِ؛ فإنَّ التاءَ في (خَالِصَةً) على هذا الإعرابِ– تاءُ التأنيثِ، وإذا كانَ الأمرُ على هذا فقَدْ تَقدَّمَ الحالُ وهو (خَالِصَةً) على العاملِ فيها, وهو الجارُّ والمجرورُ, وعلى صاحبِها وهو الضميرُ المُستكِنُ في هذا الجارِّ والمجرورِ، في أفصحِ كلامٍ، وأصْلُ ترتيبِ النظْمِ: ما فِي بُطونِ هذهِ الأنعامِ لذُكُورِنا حَالَ كَوْنِها – أي: الأجنَّةِ – خَالِصَةً.
([26]) سورة الزُّمَرِ، الآية: 67، والقراءةُ المنسوبةُ للحسنِ البصْرِيِّ بنَصْبِ (مَطْوِيَّاتٍ)، وخَرَّجَها الفَرَّاءُ والأخفشُ على أنَّ (مَطْوِيَّاتٍ) حالٌ, صاحبُه الضميرُ المستترُ في الجارِّ والمجرورِ, وهو (بيَمِينِه) وهذا الجارُّ والمجرورُ خَبَرُ المبتدأِ الذي هو (السَّمَاواتُ) والعامِلُ في الضميرِ المستترِ هو الجارُّ والمجرورُ، وقد تَقدَّمَ الحالُ على العاملِ فيه الذي هو الجارُّ والمجرورُ في أفصحِ كلامٍ، فدَلَّ ذلك على الجوازِ.
([27]) التلاوةُ في الآيةِ الأولى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لذُكُورِنَا}. وقد عَرَفْتَ أنه قد قُرِئَ في هذهِ الآيةِ بنصْبِ (خَالِصَةً) وأنَّ الفَرَّاءَ خرَّجَ هذهِ القراءةَ على أنَّ (خَالِصَةً) حالٌ من الضميرِ المستترِ في الجارِّ والمجرورِ الذي هو {لذُكُورِنَا} الواقِعُ خبراً للمبتدأِ, الذي هو الاسمُ الموصولُ في (مَا فِي البُطُونِ).
وجمهورُ البصْرِيِّينَ يَرُدُّونَ هذا الإعرابَ الذي لَزِمَ عليه تخريجُ الآيةِ على وَجْهٍ ضَعِيفٍ عندَهم، وقدْ جَعَلوا {مَا} اسماً مَوْصولاً مُبْتَدَأٌ، و{فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ} جَارًّا ومجروراً مُتَعَلِّقاً بمحذوفٍ, صِلَةُ الموصولِ، و{خَالِصَةٌ} جارٌّ ومجرورٌ مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ خَبَرٌ، فلم يَتقَدَّمِ الحالُ على صاحبِه المعمولِ للجَارِّ والمجرورِ.
([28]) التلاوةُ في الآيةِ الثانيةِ: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بيَمِينِهِ} وقدْ عَرَفْتَ إعرابَ الفرَّاءِ والأخفشِ الذي أقرَّه ابنُ مَالِكٍ للجملةِ الثانيةِ من هذهِ الآيةِ الكريمةِ، فأمَّا جمهورُ النحاةِ البصْرِيِّينَ فلم يَرْتَضُوا هذا الإعرابَ، بل جَعَلوا (الأرضُ) مُبتدأً، و(قَبْضَتُهُ) خَبَرُ هذا المبتدأِ، وفي (قَبْضَتُهُ) ضَمِيرٌ مُستتِرٌ على أنَّه نَائِبُ فاعِلٍ؛ لأنَّ (قَبْضَتُهُ) بمعنَى مَقْبُوضتِه، فهو اسمُ مفعولٍ، واسمُ المفعولِ يرفَعُ نائبَ فاعِلٍ، وقولُه: (والسماواتُ). معطوفٌ على هذا الضميرِ المستترِ، وسَاغَ العَطْفُ على الضميرِ المرفوعِ بدونِ تَوْكِيدٍ؛ لأنه قد فَصَلَ بينَ مُتحمِّلِ الضميرِ والاسمِ المعطوفِ بقولِه: (يَوْمَ القِيَامَةِ). وقولُه سبحانَه: (مَطْوِيَّاتٍ). حالٌ من السماواتِ، و(بيَمِينِهِ) جارٌّ ومجرورٌ مُتعلِّقٌ بمَطوِيَّاتٍ، وليسَ خَبَراً, كما زعَمَ الفرَّاءُ، وهذا معنَى قولِ المُؤلِّفِ: و (بيَمِينِهِ) معمولُ الحالِ، لا عَامِلُها).