دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > العقيدة الواسطية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 9 ذو الحجة 1429هـ/7-12-2008م, 06:46 PM
فاطمة فاطمة غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 758
افتراضي التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد

وقوله سُبْحَانَهُ: {وأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنينَ}.( 47)
وَقَوْلُهُ {وأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ}.( 48)
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقْيِموا لَهُم إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ}، وَقَوْلُهُ {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِيْنَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرينَ}.( 49)
وقولُه: {قَلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُوني يَحْبِبْكُمُ اللهُ ويغفر لكم ذنوبكم}، وقَوْلُهُ: {من يرتد منكم عن دينه فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ أذلة على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين يجاهدون فى سبيل الله ولا يخافون لومةَ لائم}.( 50)
{ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ …}.( 51)
وقولُهُ سبحانه وتعالى {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذينَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}، وقَوْلُهُ: {وَهُوَ الغَفُورُ الوَدُودُ} ( 52)



(47) قولـُه: {وأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنينَ}: لمـَّا حثَّ على الصـَّدقةِ والإنفاقِ في وجوهِ الخيرِ أمرَ بالإحسانِ، وهو أعلى مقاماتِ الطَّاعةِ، وهو الإتيانُ بالعملِ على أحسنِ أحوالِهِ وأكملِها، وهذا أمرٌ عامٌّ بالإحسانِ في معاملةِ اللهِ، وفي معاملةِ خلقِه، إذ حَذْفُ المعمولِ يُؤْذِنُ بالعمومِ.
عن شدَّادِ بنِ أوسٍ أنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلى كُلِّ شَيءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وإذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ)) رواه مُسلمٌ. فهذا الحديثُ كالآيةِ فيهما دليلٌ على وجوبِ الإحسانِ في كلِّ شيءٍ من الأعمالِ، لكنَّ إحسانَ كلِّ شيءٍ بحسَبِهِ، وفي هذه الآيةِ وأمثالِها دليلٌ على أنَّ اللهَ موصوفٌ بالمحبَّةِ، وأنَّه يحبُّ حقيقةً, ومحبَّتـُه -سُبْحَانَهُ- كما يليقُ بجلالِه، وفيها دليلٌ على أنَّه يُحبُّ مقتضى أسمائِه وصفاتِه وما يوافقُها، فهو مُحْسِنٌ يُحِبُّ المحْسِنين، ومُؤمِنٌ يُحبُّ المؤمنينَ، وفي هذه الآيةِ وأمثالِها دليلٌ على أنَّ محبَّتـَه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- تتفاضلُ، فيحبُّ بعضَ المؤمنين أكثرَ من بعضٍ، وفيها إشارةٌ إلى أنَّ الجزاءَ من جنسِ العملِ، وأنَّ الإحسانَ أَعظَمُ سَبَبٍ لمحبَّةِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- للعبدِ، وفيها أدلَّةٌ واضحةٌ على إثباتِ فِعلِ العبدِ وكسبِه، وأنه يُثَابُ على حَسَنِه ويُعاقَبُ على سيِّئِه، فتضمَّنتْ هذه الآيةُ الرَّدَّ على القدريَّةِ والجبريَّةِ، وفيها إثباتُ العلَّةِ والحكمةِ.

(48)
قولُه: {وأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ}: أي اعدلُوا في معاملاتِكم، وأحكامِكم مع القريبِ والبعيدِ، يقالُ: أَقْسَطَ بمعنى عدلَ، وقَسَطَ بمعنى جارَ، قال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} ومن أسمائِه سُبْحَانَهُ: المُقْسِطُ أي العادلُ، ففي هذه الآيةِ الحثُّ على العدلِ وفضلِه، وأنَّه سببٌ لمحبَّةِ اللهِ، وأنَّ العدلَ في الرَّعيَّةِ من أفضلِ القُرَبِ، سواءٌ كانتْ رعيَّةً عامَّةً كالحاكمِ، أوِ خاصَّةً كعدلِ آحادِ النَّاسِ في بيتِه وولدِهِ، كما في الحديثِ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رعيَّتِه)) وفي صحيحِ مُسلمٍ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه قال: ((إِنَّ المُقْسِطِينَ عَلى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمينِ الرَّحْمنِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا)) وفي التِّرمذيِّ عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِي اللهُ عَنْهُ عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّ أَحَبَّ العِبَادِ إِلى اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَأَدْنَاهُمْ إِليْهِ مَجْلِسًا إِمَامٌ عَادِلٌ)).

(49) قولـُه: {فَمَا استقامُوا}: ((ما)) شرطيـَّةٌ، أي ما استقامَ لكم المُشركونَ على العهدِ ولم ينقضُوه فاستقِيموا لهم على الوفاءِ به.
قولُه: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ}: أي المتـَّقين للذِّنوبِ والمعاصِي، والتَّقوى: هي التَّحرُّزُ بطاعةِ اللهِ عن معصيتِه، فهي كلمةٌ جامعةٌ لفعلِ المأموراتِ، وتركِ المنهِيَّاتِ. قالَ طلقُ بنُ حبيبٍ: التَّقوى: أنْ تَعبُدَ اللهَ، على نورٍ من اللهِ، ترجُو ثوابَ اللهِ، وأنْ تَتركَ معصيةَ اللهِ، على نورٍ من اللهِ، تخافُ عِقابَ اللهِ. في هذه الآيةِ الحَثُّ على الوفاءِ بالعهدِ وتحريمُ الغدرِ، وفيها فضلُ التَّقوى والحثُّ عليها، وفيها إثباتُ محبَّةِ اللهِ.
قولُه: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ}: أي من الذُّنوبِ والمعاصي، والتَّوَّابُ: هو الَّذي كُلَّما أَذْنَبَ تَابَ، يُقالُ: تابَ يتوبُ أي: رجعَ، وتَوَّابٌ كثيرُ التَّوبةِ، وتوَّابٌ من أسماءِ اللهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى، أي كثيرُ التَّوبةِ على عبادهِ، وتابَ على العبدِ ألهمه التَّوبةَ وقَبِلَ توبَتهُ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ: والعبدُ توَّابٌ واللهُ تَوَّابٌ، فتوبةُ العبدِ رجوعُه إلى سيِّدِه بعد إباقٍ، وتوبةُ اللهِ نوعانِ: إذنٌ وتوفيقٌ، وقبولٌ واعتدادٌ. ا هـ.
فالتَّوبةُ لغةً: الرُّجوعُ. يُقالُ: تابَ وآبَ وأنابَ وثابَ، كلُّها بمَعْنى رجعَ.
وشرعًا: الرُّجوعُ عن الذَّنبِ، وهي واجبةٌ من جميعِ الذُّنوبِ على الفورِ، قالَ اللهُ تعالى: {وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} والآياتُ والأحاديثُ في الأمرِ بالتَّوبةِ والحثِّ عليها كثيرةٌ جدًّا، وتصحُّ التَّوبةُ من بعضِ الذُّنوبِ دونَ بعضٍ، وللتَّوبةِ ثلاثةُ شروطٍ:

الأوَّلِ: النَّدمُ على ما فاتَ،
والثَّاني: العزمُ على أَنْ لا يعودَ،
والثَّالثِ: الإقلاعُ عن الذَّنبِ،
فإن كانتِ التَّوبةُ من حقوقِ الآدميِّين اشتُرِطَ شرطٌ رابعٌ: وهو الخروجُ عن تلك المظلِمةِ واستحلالُه إنْ كانتْ غيبةً،
وللتَّوبةِ أيضًا شرطٌ خامسٌ: وهو أنْ يتوبَ قبلَ الغرغرةِ، كما في الحديثِ الصَّحيحِ: ((إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لمْ يُغَرْغِرْ)). وأمَّا في حالةِ الغرغرةِ وهي حالةُ النَّزعِ فلا يقبلُ توبتَهُ، وأمَّا التَّوبةُ النَّصوحُ فهي الخالصةُ الَّتي لا يختصُّ بها ذنبٌ دونَ ذنبٍ، وقيلَ إنَّ التَّوبةَ النَّصوحَ هي أَنْ يتركَ الذَّنبَ ثمَّ لا يعودُ إليه، كما لا يعودُ اللبنُ في الضَّرْعِ.
قولُه: {ويُحِبُّ المُتَطَهِّرينَ} أي عن الذُّنوبِ والمعاصي، وعن الأحداثِ والنَّجاساتِ.
فالطَّهارةُ لغةً: النَّزاهةُ والنَّظافةُ عن الأقذارِ حِسِّيـَّةً كانت أو معنويَّةً، فالحسِّيَّةُ كالطَّهارةِ عن الأحداثِ والنَّجاساتِ، والمعنويَّةُ كالطَّهارةِ عن الذُّنوبِ والمعاصي، والآيةُ شاملةٌ عامَّةٌ حاثَّةٌ على الطَّهارتينِ، وفي حديثِ أبي مالكٍ الأشعريِّ الَّذي رواه مسلمٌ: ((الطُّهورُ شَطْرُ الإِيمَانِ)) الحديثَ. وتقديمُ التَّوابينَ على المتطهِّرينَ من بابِ تقديمِ السَّببِ على المسبَّبِ؛ لأنَّ التَّوبةَ سَبَبُ الطَّهارةِ. أفاده ابنُ القيِّمِ في (بدائعِ الفوائدِ).
ففي هذه الآياتِ المتقدِّمةِ إثباتُ محبَّتِهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما يليقُ بجلالِه وعظمتِه، خلافًا للمبتدعَةِ من جهميَّةٍ ومعتزلةٍ, الَّذين أنْكروا محبَّـتَه سُبْحَانَهُ، وهم في الحقيقةِ مُنكرون للإلهيَّةِ، فإنَّ الإلهَ هو المألوهُ الَّذي تألهُهُ القلوبُ محبَّةً وإجلالاً وخوفًا وتعظيمًا.
قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ: في هذه الآياتِ إثباتُ محبَّةِ اللهِ، وهي على حقيقتِها عند سلفِ الأمَّةِ ومشائِخِها. وأوَّلُ مَن أنكرَ حقيقتَها شيخُ الجهميَّةِ الجعدُ بنُ درهمٍ، فهو أوَّلُ مَن ابتدعَ هذا في الإسلامِ، في أوائلِ المائةِ الثَّانيةِ، فضحَّى به خالدُ بنُ عبدِ الله القسريُّ أميرُ العراقِ والمشرقِ بواسطَ. خطبَ النَّاسَ يومَ الأضحى فقالَ: يا أيُّها النَّاسُ ضَحُّوا تقبَّلَ اللهُ ضحاياكم، فإنَّي مُضحٍّ بالجعدِ بنِ درهمَ، فإنَّه زعمَ أنَّه لم يتَّخذْ إبراهيمَ خليلاً ولا كلَّمَ موسى تكليمًا، ثمَّ نزلَ وذبحَه، وكان ذلك بِفَتوى أهلِ زمانِه من عُلماءِ التَّابعين رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وأخذَ هذا المذهبَ عن الجعدِ بنِ درهمٍ: الجهمُ بنُ صفوانَ، فأظهرَه وناظرَ عليه، وإليه أُضيفَ قولُ الجهميَّةِِ فقتلهُ سلمُ بنُ أجوزَ أميرُ خُراسانَ بها، ثمَّ انتقلَ ذلك إلى المعتزلةِ أتباعِ عمرِو بنِ عبيدٍ، وظهَرَ قولُهم في أثناءِ خلافةِ المأمونِ، حتَّى امتحنَ أئمَّةَ الإسلامِ ودَعوهم إلى الموافقةِ على ذلك؛ وأصلُ ذلك مأخوذٌ عن المشركينَ والصَّابئةِ وهم يُنكرون أنْ يكونَ إبراهيمُ خليلاً، لأنَّ الخُلَّةَ هي: كمالُ المحبَّةِ المستغرقةِ للمحبِّ كما قيل:
قد تخلَّلتَ مسلكَ الرَّوحِ مِنِّي = وبذا سُمِّيَ الخليلُ خليلاً

ولكنَّ محبَّتَه وخُلَّتـَه كما يليقُ به كسائرِ صفاتِه. اهـ.
والَّذي يُوصفُ به -سُبْحَانَهُ وتعالَى- من أنواعِ المحبَّةِ: الإرادةُ والودُّ والمحبَّةُ والخُلَّةُ كما ورَد النَّصُّ. من (شرحِ الطَّحاويَّةِ).

(50) قولـُه -سُبْحَانَهُ- وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}. قالَ الحسنُ: ادَّعى قومٌ أنَّهم يُحِبِّون اللهَ فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ مِحْنَةً لهم، فهذه الآيةُ فيها دليلٌ على أنَّ مَن ادَّعى ولايةَ اللهِ ومحبَّتَه وهو لم يَتَّبِعْ ما جاءَ به رسولُه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فليسَ من أولياءِ اللهِ، بل من أولياءِ الشـَّيطانِ، وفيها أنَّ علامةَ ودليلَ محبَّةِ الله هو اتِّباعُ رسولِهِ، وأنَّ مَن اتَّبعَ الرَّسولَ حصلَتْ له محبَّةُ اللهِ، قال بعضُ السَّلفِ: ليس الشَّأنُ أنْ تُحِبَّ، إنَّما الشَّأنُ أن تُحَبَّ، وفيها إثباتُ المحبَّةِ من الجانبينِ، فمحبَّةُ اللهِ لأنبيائِه ورسلِه وعبادِه الصَّالحين صفةٌ زائدةٌ على رحمتِه وإحسانِه وإعطائِه، فإنَّ ذلك أثرُ المحبَّة وموجبُها، فإنَّ اللهَ لمَّا أَحَبَّهم كان نصيبُهم من رحمتِه وإحسانِه أَتَمَّ نصيبٍ.
هذا قولُ أهلِ السُّنـَّةِ والجماعةِ، وأمَّا الجهميَّةُ والمعتزلةُ فعكسُ هؤلاءِ، فإنَّه عندَهم لا يُحِبُّ ولا يُحَبُّ، ولم يمكنْهم تكذيبُ النُّصوصِ المتكاثرةِ في إثباتِ المحبَّةِ من الجانبينِ، فَأَوَّلُوا نصوصَ محبَّةِ العبادِ له على محبَّةِ طاعتِه وعبادتِه، وأوَّلوا نصوصَ محبَّتِه لهم بإحسانِه إليهم، وإعطائِهم الثَّوابَ، ونحوِ ذلك من التَّأويلاتِ الفاسدةِ، المصادمةِ لأدلَّةِ الكتابِ والسُّنـَّةِ الكثيرةِ في إثباتِ المحبَّةِ من الجانبينِ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ: وجميعُ طرقِ الأدلَّةِ عقلاً ونَقْلا وفطرةً وقياسًا وذوقًا واعتبارًا ووجدانًا تدلُّ على إثباتِ محبَّةِ العبدِ لربِّه، والرَّبِّ لعبدِهِ، وقد ذَكَرنا لذلك قريبًا من مائةِ دليلٍ في كتابِنا الكبيِرِ في المحبَّةِ. اهـ.
قولُه: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ}: أي يرجعُ، والرَّدُّ لغةً: الرُّجوعُ.
وشرعًا: هو الَّذي يكفرُ بعدَ إسلامهِ نُطقًا أو اعتقادًا أو شكًّا أو فِعلاً.
قولُه: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}: أي مَنْ تولَّى عن نُصرةِ دينِه وإقامةِ شريعتِهِ فإنَّ اللهَ يستبدلُ به مَنْ هو خيرٌ منه وأَقومُ سبيلاً، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم} الآيةَ، والقومُ: الجماعةُ من النَّاسِ.
قولُه: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}: أي: أهلِ رقَّةٍ وتواضعٍ للمؤمنينَ، قال عطاءٌ: للمؤمنينَ كالولدِ لوالدِه، والعبدِ لسيِّدِه، وعلى الكافرين كالأسدِ على فريستِه.
قولُه: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}: أي أهلِ غلظةٍ وشدَّةٍ على الكافرين، وهذه من صفاتِ المؤمنينَ، كما قالَ سُبْحَانَهُ: {مَّحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} وفي صفةِ رسولِ اللهِ: أنَّه الضَّحوكُ القتَّالُ، فهو ضحوكٌ لأوليائِه، قتَّالٌ لأعدائِه.
قولُه: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: أي بأموالِهم، وأنفسِهِم، وألسنتِهم، وذلك تحقيقُ دعْوى المحبَّةِ، والجهادُ لغةً: بَذْلُ الطَّاقةِ والوُسْعِ. وشرعًا: قتالُ الكفَّارِ، وقد تَكاثَرتِ الأدلَّةُ على فضلِ الجهادِ والحثِّ عليه.
قوله: {وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ}: أي لا تَأْخُذهم في اللهِ لومةُ لائمٍ، وهذا علامةُ صِحَّةِ المحبَّةِ، أي لا يَرُدُّهم عن مَا هُمْ فيه من طاعةِ اللهِ ورسولِه رَادٌّ، ولا يَصُدُّهم عنهم صَادٌّ، ولا يَخافونَ في ذلك لومةَ لائمٍ، ولا عَذْلَ عَاذِلٍ، كما روى الإمامُ أحمدُ من حديثِ أبي ذرٍّ قال: أَمَرَنِي خَلِيلِي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بِسَبْعٍ: أَمَرَنِي بِحُبِّ الْمَسَاكِيِن وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، وَأَمَرَنِي أَنْ أنْظُرَ إِلى مَنْ هُوَ دُونِي وَلاَ أَنْظُرَ إِلى مَنْ هُوَ فَوْقِي، وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ، وَأَمَرَنِي أَنْ لاَ أَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ الحقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا، وَأَمَرَنِي أَنْ لاَ أَخَافَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ لاحَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ فَإِنَّهُنَّ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ العَرْشِ.

(51) قولُه: {ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}: أي مَن اتَّصفَ بهذه الصِّفاتِ فإنَّما هو مِنْ فضلِ اللهِ عليه وتَوْفيقِه له.
قولُه: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}: أي واسعُ الفضلِ، عليمٌ بمَن يَستحقُّ ذلك مِمَّنْ يَحْرِمُهُ إيَّاه، أفادت هذه الآيةُ: إثباتَ المحبَّةِ حقيقةً من الجانبَينِ، خلافًا للمبتدعةِ من الجهميَّةِ والمعتزلةِ، ومَن سلكَ سبيلَهم، وأفادتْ هذه الآيةُ التَّحذيرَ عن معصيةِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وأنَّ الكافرَ والعاصيَ لم يضرَّ إلا نفسَه، وأفادت عظيمَ قُدرتِه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- في أنَّ مَن تَوَلَّى عن دينِه وأَعْرَضَ عنه فإنه يَسْتَبدِلُ به غيرَه، وأفادتْ أنَّ هذه الأربعَ من صفاتِ المؤمنينَ، وهي: الحبُّ في اللهِ، والبغضُ في اللهِ، والجهادُ في سبيلِ اللهِ، والقيامُ بأمرِه على الكبيرِ والصَّغيرِ والقريبِ والبعيدِ، وأفادتْ أيضًا إثباتَ فعلِ العبدِ حقيقةً، كما أفادت أنَّ الأعمالَ الصَّالحةَ سببٌ للسَّعادةِ، كما قال تعالى {جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وأنَّ ذلك من فضْلِه -سُبْحَانَهُ- وتوفيقِه، كما في الصَّحيحِ: ((لَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ)) قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَارَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بِرَحْمَتِهِ)). وفيها أيضًا وجوبُ إفرادِه -سُبْحَانَهُ- بالمحبَّةِ، فإنَّ محبَّـتَه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- هي أصلُ دينِ الإسلامِ، فَبِكَمَالها يكملُ دينُ العبدِ وبنقِصهَا ينقصُ.
قال ابنُ رجبٍ رحمه اللهُ تعالى: وقد عُلِمَ أنَّ العبادةَ إنما تَنْبَني على ثلاثةِ أصولٍ: الخوفِ والرَّجاءِ والمحبَّةِ، وكلُّ منها فرضٌ لازمٌ، والجمعُ بين الثَّلاثةِ حتمٌ واجبٌ، ولهذا كانَ السَّلفُ يَذُمُّونَ مَن تَعَبَّدَ بواحدٍ منها دونَ الآخرِ. انتهى.

(52) قولـُه: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذينَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِهِ}: أي يُجاهدون في سبيلِ اللهِ بأموالهِم وأنْفُسهِم في إعلاءِ كلمةِ اللهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى.
قولُه: {صَفًّا}: أي يَصُفُّون أنفسهَم عندَ القتالِ صفًّا، ولا يَزُولُون عن أماكِنهم، كأنـَّهم بُنيانٌ مَرْصُوصٌ قد رُصَّ بعضُه ببعضٍ، أي أُلزِقَ بعضُه ببعضٍ وأُحْكِمَ، فليس فيه فرْجةٌ ولا خللٌ. روى الإمامُ أحمدُ من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي اللهُ عَنْهُ قال: قال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((ثلاثةٌ يَضْحَكُ اللهُ إِليْهِمْ: الرَّجُلُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ، وَالْقَوْمُ إِذَا صَفُّوا لِلصَّلاَةِ، والقَوْمُ إِذَا صَفُّوا لِلقِتَالِ)) رواه ابنُ ماجةَ.
أفادتْ هذه الآيةُ: فضلَ الجهادِ في سبيلِ اللهِ والحثَّ عليه، وأفادَت النَّدبَ إلى الصُّفوفِ في القتالِ، وأفادتْ إثباتَ المحبَّةِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وهو قولُ جميعِ السَّلفِ، وأنكرتِ الجهميَّـةُ حقيقةَ المحبَّةِ من الجانِبينِ، زعمًا منهم أنَّ المحبَّةَ لا تكونُ إلا لمُناسبةٍ بين المُحِبِّ والمحبوبِ، وأنَّه لا مُناسبةَ بينَ القديمِ والمُحْدَثِ تُوجِبُ المحبَّةَ، وهذا القولُ باطلٌ تَرُدُّه أدلَّةُ الكتابِ والسُّنَّةِ المُتكاثرةُ.
قولُه: {الغَفُورُ}: من أَبْنِيَةِ المبالغةِ، أي كثيرُ المغفرةِ، وأصلُ الغَفْرِ السَّـترُ، ومنه المِغْفرُ فهو -سُبْحَانَهُ وتعالَى- يَغفرُ لمَن تابَ إليه، أي يَسترُ ذنوبَه ويتجاوزُ عن خطاياه.
قال ابنُ رجبٍ رحمهُ اللهُ تعالى: المغفرةُ مَحْوُ الذَّنبِ وإزالةُ أثرهِ ووقايةُ شرِّهِ، ومنه المِغْفرُ لِما يَقي الرَّأسَ من الأذَى، لا كما ظنَّه بعضُهُم السَّترُ، فالعِمامةُ لا تُسمَّى مِغْفَرًا مع سترِها، فلا بُدَّ في لفظِ المغفرِِ من الوقايةِ. انتهى.
والغَفُورُ أبلغُ من الغَافِرِ، لأن فَعولَ موضوعٌ للمبالغةِ، والغَفَّارُ، أي السَّـتَّارُ لذنوبِ عبادهِ أبلغُ من الغفورِ، لأنَّه للتَّكثيِرِ من غيرِ حَصْرٍ، وقد جاءَ في التَّـنزيلِ: الغَفورُ والغَفَّارُ والغَافِرُ.
قولُه: {الوَدُودُ}: من الوُدِّ: وهو خالصُ الحبِّ وألطفُه وأرقـُّه، والودودُ من صفاتِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- أصلُه من المودَّةِ، أي المُتَوَدِّدُ إلى عبادهِ بنعمِهِ، الَّذي يودُّ مَن تابَ إليه وأَقْبَلَ عليه، وهو أيضًا الوَدودُ، أي المحبوبُ. قال البخاريُّ في صحيحِه: الودودُ الحبيبُ، والتَّحقيقُ: أنَّ اللفظَ يدلُّ على الأمريْنِ، على كونِه وادًّا لأوليائِه، ومودودًا لهم. انتهى. مِن كلامِ ابنِ القيِّم باختصارٍ.


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الإيمان, بصفة

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:04 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir