والمُشْتَرَكُ سِتَّةٌ: مَنْ، وَمَا، وأَيٌّ، وأَلْ، وذُو، وذَا.
فأمَّا (مَن) فإِنَّها تَكُونُ للعالِمِ، نحوَ: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}([1])، ولغيرِه في ثَلاثِ مَسَائِلَ:
إحداها: أنْ يُنَزَّلَ مَنْزِلَتَهُ نحوَ: {مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ}([2])، وقولِه:
48 - أَسِرْبُ القَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَنَاحَهُ
وقولِه:
49 - أَلاَ عِمْ صَبَاحاً أَيُّها الطَّلَلُ البَالِي = وَهَلْ يَعِمَنْ مَنْ كَانَ فِي العَصْرِ الخَالِي
فدُعاءُ الأصنامِ, ونِدَاءُ القَطَا والطَّلَلِ, سَوَّغَ ذلك.
الثانيةُ: أنْ يَجتمِعَ معَ العاقلِ فيما وَقَعَتْ عليهِ (مَن) نحوَ: {كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ}([3])؛ لشمولِه الآدَمِيِّينَ والمَلائِكَةَ والأَصْنَامَ، ونحوَ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ}([4])، ونحوَ: {مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ}([5])، فإنَّه يَشْمَلُ الآدَمِيَّ والطَّائِرَ.
الثالثةُ: أنْ يَقْتَرِنَ بهِ في عُمومٍ فُصِّلَ بـ(مَن)، نحوَ: {مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ}(3)، و: {مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ}(3)؛ لاقترانِهما بالعاقلِ في عُمومِ {كُلَّ دَابَّةٍ}(3).
وأمَّا (مَا), فإِنَّها لِمَا لا يَعْقِلُ وَحْدَه، نحوَ: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ}([6])، وله معَ العاقلِ، نحوَ: {سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}([7])، ولأنواعِ مَن يَعْقِلُ، نحوَ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ}([8])، وللمُبْهَمِ أَمْرُهُ؛ كقولِكَ وقد رَأَيْتَ شَبَحاً: انْظُرْ إلى ما ظَهَرَ.
والأربعةُ الباقيةُ للعاقلِ وغيرِه، فأَمَّا (أَيٌّ) فخَالَفَ في مَوْصولِيَّتِها ثَعْلَبٌ، ويَرُدُّه قولُه:
50 - فَسَلِّمْ عَلَى أَيُّهُمْ أَفْضَلُ
ولا تُضافُ لنَكِرَةٍ, خلافًا لابنِ عُصْفورٍ، ولا يعمَلُ فيها إلا مُستقبَلٌ مُتَقَدِّمٌ([9]) نحوَ: {لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ}([10]), خِلافًا للبَصْرِيِّينَ، وسُئِلَ الكِسائِيُّ: لِمَ لا يَجوزُ: أَعْجَبَنِي أَيُّهُم قَامَ؟ فقالَ: أَيٌّ كَذَا خُلِقَتْ([11])، وقد تُؤَنَّثُ وتُثَنَّى وتُجْمَعُ، وهي مُعْرَبَةٌ، فقِيلَ مُطْلقاً، وقالَ سِيبَوَيْهِ: تُبْنَى على الضَمِّ إذا أُضِيفَتْ لَفْظاً, وكانَ صَدْرُ صِلَتِها ضَمِيراً مَحْذوفاً، نحوَ: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ}([12])، وقولُه:
عَلَى أَيُّهُمْ أَفْضَلُ([13])
وقد تُعْرَبُ حينَئذٍ, كما رُوِيَتِ الآيةُ بالنصبِ, والبيتُ بالجَرِّ.
وأمَّا (ألْ)، فنحوُ: {إِنَّ المُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ}([14])، ونحوُ: {وَالسَّقْفِ المَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ المَسْجُورِ}([15])، وليستْ مَوْصولاً حَرْفِيًّا, خلافًا للمازِنِيِّ ومَن وَافَقَه، ولا حَرْفَ تَعْريفٍ, خلافًا لأبي الحَسَنِ.
* * *
وأمَّا (ذو) فخَاصَّةٌ بطَيِّئٍ، والمشهورُ بِنَاؤُها، وقد تُعْرَبُ؛ كقولِه:
فَحَسْبِي مِن ذِي عِنْدَهُمْ مَا كَفَانِيَا([16])
فيمَن رَواهُ بالياءِ، والمشهورُ أيضاً إفرادُها وتذكيرُها؛ كقولِه:
51 - وبِئْرِي ذُو حَفَرْتُ وذُو طَوَيْتُ
وقد تُؤَنَّثُ وتُثَنَّى وتُجْمَعُ، حَكاهُ ابنُ السَّرَّاجِ([17])، ونازَعَ في ثُبوتِ ذلك ابنُ مالِكٍ، وكُلُّهم حَكَى (ذاتُ) للمُفْرَدَةِ، و(ذَوَاتُ) لجَمْعِها، مَضْمُومتيْنِ؛ كقولِه: بالفَضْلِ ذُو فَضَّلَكُمُ اللهُ بهِ، والكرامةِ ذَاتُ أَكْرَمَكُمُ اللهُ بَهْ.(48) وقولِه:
52 - ذَوَاتُ يَنْهَضْنَ بِغَيْرِ سَائِقِ
وحُكِيَإعرابُهما إعرابَ ذاتِ وذَواتِ, بمعنَى: صَاحِبَةٍ وصَاحِبَاتٍ([18]).
وأمَّا (ذا) فشَرْطُ مَوْصولِيَّتِها ثَلاثةُ أُمورٍ:
أحَدُها: أنْ لا تَكُونَ للإشارةِ، نحوَ: (مَن ذَا الذَّاهِبُ؟) و: (ماذا التَّوانِي؟) ([19]).
والثاني: ألاَّ تَكُونَ مُلْغَاةً، وذلكَ بتقديرِها مُرَكَّبَةً معَ (مَا) في نحوِ: (مَاذَا صَنَعْتَ؟) ([20])، كما قَدَّرَها كذلك مَن قالَ: (عَمَّاذَا تَسْأَلُ؟) فأثْبَتَ الألِفَ؛ لتَوَسُّطِها، ويَجوزُ الإلغاءُ عندَ الكُوفِيِّينَ وابنِ مالكٍ على وجهٍ آخَرَ، وهو تَقْدِيرُها زائدةً([21]).
والثالِثُ: أنْ يَتَقَدَّمَها استفهامٌ بـ(ما) باتِّفاقٍ، أو بـ(مَن) على الأصَحِّ؛ كقولِ لَبِيدٍ:
53 - أَلاَ تَسْأَلاَنِ المَرْءَ مَاذَا يُحَاوِلُ
وقولِه:
54 - فَمَن ذَا يُعَزِّي الحَزِينَا
والكُوفِيُّ لا يَشترِطُ(مَا) ولا (مَنْ)، واحتَجَّ بقولِه:
55 - أَمِنْتِ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ
أي: والَّذِي تَحْمِلِينَه طَلِيقٌ، وعندَنا أَنَّ (هَذَا طَلِيقُ) جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ، و(تَحْمِلِينَ) حالٌ؛ أي: وهذا طَلِيقٌ مَحْمولاً.
([1]) سورة الرعد، الآية: 43.
([2]) سورة الأحقاف، الآية: 5.
48 - هذا صدرُ بيتٍ مِن الطويلِ، وهو مِن بيتٍ آخَرَ سابقٍ عليه هكذا:
بَكَيْتُ عَلَى سِرْبِ القَطَا إِذْ مَرَرْنَ بِي = فَقُلْتُ وَمِثْلِي بِالبُكَاءِ جَدِيرُ:
أَسِرْبَ القَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَنَاحَهُ = لَعَلِّي إِلَى مَنْ قَدْ هَوِيْتُ أَطِيرُ
والبيتَانِ للعَبَّاسِ بنِ الأَحْنَفِ، أحدِ الشعراءِ المُوَلِّدِينَ. وقد جَاءَ بهما المؤلِّفُ تمثيلاً لا استشهاداً، كما يَفْعَلُ المُحَقِّقُ الرَّضِيُّ ذلك كثيراً فيُمَثِّلُ بشِعْرِ المُتَنَبِّيِّ والبُحْتُرِيِّ وأَبِي تَمَّامٍ، وقيلَ: قَائِلُهما مَجْنُونُ لَيْلَى، وهو مِمَّن يُسْتَشْهَدُ بشِعْرِه، وقد وَجَدْتُ بيتَ الشاهدِ ثَابتاً في كُلِّ ديوانٍ مِن الديوانَيْن:ِ ديوانِ المجنونِ، وديوانِ العَبَّاسِ، وذلك مِن خَلْطِ الرواةِ.
اللغةُ: (سِرْبَ) السِّرْبُ جماعةُ الظباءِ والقَطَا ونحوِهما، و(القَطَا) طائرٌ. (جَدِيرُ) لائِقٌ وحَقِيقٌ. (هَوِيتُ) - بكسرِ الواوِ -؛ أي: أَحْبَبْتُ.
الإعرابُ: (بَكَيْتُ) فعلٌ وفاعلٌ. (عَلَى سِرْبِ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ ببَكَيْتُ، وسِرْبُ مُضافٌ، و(القَطَا) مُضافٌ إليه. (إِذْ) ظرفُ زمانٍ مُتَعَلِّقٌ ببَكْيَتُ مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ نصبٍ. (مَرَرْنَ) فعلٌ وفاعلٌ. (بِي) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمَرَّ. (فَقُلْتُ) فعلٌ وفاعلٌ. (وَمِثْلِي) الواوُ للحالِ، مثلُ مبتدأٌ، وياءُ المُتَكَلِّمِ مضافٌ إليه. (بالبُكَاءِ) جارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بقَوْلِه: (جديرُ) الآتِي. (جَدِيرُ) خبرُ المُبْتَدَأِ. (أسربُ) الهَمْزَةُ حرفُ نداءٍ، وسِرْبُ مُنَادًى مَنْصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ، وسِرْبُ مضافٌ، و(القَطَا) مضافٌ إليه. (هَلْ) حَرْفُ استفهامٍ. (مَنْ) مُبتدأٌ (يُعِيرُ) فعلٌ مضارعٌ، وفاعلُه ضميرٌ مستترٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يَعُودُ إلى مَن، والجملةُ في مَحَلِّ رفعٍ خَبَرُ المبتدأِ. (جَنَاحَهُ) جَنَاحَ مَفعولٌ به ليُعِيرُ، والضميرُ مضافٌ إليه. (لَعَلِّي) لَعَلَّ حرفُ تَرَجٍّ ونصبٍ، والياءُ اسمُها. (إِلَى) حرفُ جَرٍّ. (مَنْ) اسمٌ موصولً مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ جَرٍّ بإلى، والجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بقَوْلِه: (أَطِيرُ) الآتِي. (قَدْ) حَرْفُ تحقيقٍ. (هَوِيتُ) فعلٌ وفاعلٌ، والجملةُ لا مَحَلَّ لها صلةُ الموصولِ، والعائدُ ضميرٌ مستترٌ فيه وجوباً تقديرُه أنا، والجملةُ في مَحَلِّ رفعٍ خَبَرُ (لَعَلَّ).
الشاهدُ فيه: قولهُ: (مَن يُعِيرُ) حيثُ استَعْمَلَ (مَن) في غيرِ العاقِلِ، فأَطْلَقَه على القَطَا؛ لأنَّه نادَاهُ أوَّلَ الأمرِ بقَوْلِه: (أَسِرْبَ القَطَا) والنداءُ مَعْنَاه طَلَبُ إقبالِ مَن تُنَادِيهِ عليك، ولا يُتَصَوَّرُ أن تَطْلُبَ الإقبالَ إلا مِن العاقِلِ الذي يَفْهَمُ الطلَبَ ويَفْهَمُ الإقبالَ ويَصْنَعُه، فلَمَّا تَقَدَّمَ بنِدَائِه استَسَاغَ أن يُطْلِقَ عليه اللفظَ الذي لا يُسْتَعْمَلُ إلا في العقلاءِ بحَسَبِ وَضْعِه. ومثلُ ذلك الشاهدُ الذي يَلِي هذا، وهو قولُ امْرِئِ القَيْسِ بنِ حُجْرٍ الكِنْدِيِّ:
أَلاَ عِمْ صَبَاحاً أَيُّهَا الطَّلَلُ البَالِي = وَهَلْ يَعِمَنْ مَنْ كَانَ فِي العُصُرِ الخَالِي
49 - هذا بيتٌ مِن الطويلِ، وهو مَطْلَعُ قصيدةٍ لامْرِئِ القَيْسِ بنِ حُجْرٍ الكِنْدِيِّ:
اللغةُ: (عِمْ صَباحاً) هذه إحدَى تحِيَّاتِ العربِ في الجاهِلِيَّةِ، كانُوا يقُولُونَ: عِمْ صَبَاحاً، وعِمْ مساءً، وعِمْ ظلاماً، ويقُولُونَ: انْعِمْ صَباحاً، وانْعِمْ مساءً. وقد اختَلَفُوا في (عِمْ) فقالَ بعضُ أهلِ اللغةِ: هو فعلُ أمرٍ مِن المِثَالِ الواوِيِّ وماضِيهِ وَعَمَ، وقالَ بعضُهم: بل هو مُقْتَطَعٌ مِن (انْعِمْ) بحذفِ همزةِ الوصلِ والنونِ الساكنةِ بعدَها. (الطَّلَلُ) كُلُّ ما بَقِيَ شَاخِصاً مُرتفِعاً مِن آثارِ ديارِ الأحِبَّةِ، وأمَّا ما بَقِيَ فيها لاصِقاً بالأرضِ، فهو الرَّسْمُ. (البَالِي) اسمُ فاعلٍ مِن بَلِيَ الشيءُ يَبْلَى - على مثالِ رَضِيَ يَرْضَى - إذا أصابَه البَلَى. (العُصُرِ) - بضَمَّتَيْنِ - لغةٌ في العَصْرِ بفتحٍ فسكونٍ. (الخالِي) الماضِي.
الإعرابُ: (ألا) أداةُ استفتاحٍ. (عِمْ) فعلُ أمرٍ، وفاعلُه ضميرٌ مستترٌ فيه وجوباً تقديرُه أنت. (صَباحاً) ظرفُ زمانٍ منصوبٌ بعِمْ. (أَيُّها) أَيُّ مُنَادًى بحرفِ نداءٍ محذوفٍ مبنيٌّ على الضمِّ في مَحَلِّ نصبٍ، وها حرفُ تنبيهٍ. (الطَّلَلُ) نعتٌ لأيِّ. (البَالِي) نعتٌ للطَّلَلِ. (وَهَلْ) حرفُ استفهامٍ. (يَعِمَنْ) فِعْلٌ مضارعٌ مبنيٌّ على الفتحِ لاتِّصَالِه بنونِ التوكيدِ الخفيفةِ، ونونُ التوكيدِ الخفيفةُ حرفٌ مبنيٌّ على السكونِ لا مَحَلَّ له. (مَنْ) اسمٌ موصولٌ فاعلُ (يَعِمَ) مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ رفعٍِ. (كانَ) فِعْلٌ ماضٍ ناقصٌ، واسمُه ضميرٌ مستترٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعُودُ على الاسمِ الموصولِ. (في العُصُرِ) جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بمحذوفٍ خَبَرُ كانَ. (الخَالِي) نعتٌ للعُصُرِ، والجملةُ مِن كانَ ومَعْمُولَيْهَا لا مَحَلَّ لها صِلَةُ (مَنْ).
الشاهدُ فيه: قولُه: (يَعِمَنْ مَنْ - إلخ) حيثُ استَعْمَلَ (مَن) الموصولةَ في مَعْنَى المفردِ المُذَكَّرِ غيرِ العاقلِ؛ لأنَّ المُرادَ بها ههنا الطَّلَلُ البالِي، والأصلُ في (مَنْ) أن يَكُونَ استعمالُها في العاقلِ، وإنَّما استُعْمِلَت هنا في غيرِه مَجَازاً، والذي مَهَّدَ لهذا التَجَوُّزِ نداءُ الطَّلَلِ مِن قبلُ في قولِه: (أَيُّها الطَّلَلُ) فإنَّ نداءَه جَعَلَه حينئذٍ بمنزلةِ العقلاءِ؛ إذ لا يُنَادَى ولا يُدْعَى إلا العَاقِلُ؛ لأنَّ الغَرَضَ مِن النداءِ إقبالُ مَن تُنَادِيه عليك، والغرضَ مِن الدعاءِ إجابةُ مَن تَدْعُوه، فتَفَهَّمْ ذلك واحْفَظْه.
([4]) سورة الحج، الآية: 18.
([5]) سورة النور، الآية: 45.
([6]) سورة النحل، الآية: 96.
([7]) سورة الحشر، الآية: 1.
([8]) سورة النساء، الآية: 3.
50 - هذاْ عجُزُ بيتٍ مِن المُتقارِبِ، وصَدْرُه قولُه:
إِذَا مَا لَقِيتَ بَنِي مَالِكٍ
والبيتُ لغَسَّانَ بنِ وَعْلَةَ أحدِ الشعراءِ المُخَضْرَمِينَ مِن بَنِي مُرَّةَ بنِ عَبَّادٍ، وأَنْشَدَه أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ في كتاب (الحروفِ)، وابنُ الأَنْبَارِيِّ في كتابِه (الإنصَافِ)، وقالَ قبلَ إنشادِه: حَكَى أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ، عن غَسَّانَ، وهو أحدُ مَن تُؤْخَذُ عنهم اللغةُ مِن العربِ أنَّه أَنْشَدَ وذَكَرَ البَيْتَ.
الإعرابُ: (إِذَا) ظرفٌ تَضَمَّنَ مَعْنَى الشرطِ. (مَا) زائدةٌ. (لَقِيتَ) فعلٌ وفاعلٌ والجملةُ في مَحَلِّ جرٍّ بإضافةِ (إذا) إليها، وهي جملةُ الشرطِ. (بَنِي) مفعولٌ به للَقِيَ، وبَنِي مضافٌ و(مَالِكٍ) مضافٌ إليه. (فَسَلِّمْ) الفاءُ داخلةٌ على جوابِ الشرطِ، وسَلِّمْ فعلُ أمرٍ، وفاعلُه ضميرٌ مستترٌ فيه وجوباً تقديرُه أنت. (عَلَى) حرفُ جَرٍّ. (أَيُّهُمْ) يُرْوَى بضَمِّ (أَيُّ) وبجَرِّه، وهو اسمٌ موصولٌ على الحالتَيْنِ، فعلَى الضمِّ هو مبنيٌّ، وهو الأكثرُ في مِثْلِ هذه الحالةِ، وعلى الجَرِّ هو مُعْرَبٌ مجرورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ، والضميرُ مضافٌ إليه. (أَفْضَلُ) خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ، والتقديرُ: (هو أَفْضَلُ) وجملةُ المبتدأِ وخبرِه لا مَحَلَّ لها صلةُ الموصولِ.
الشاهدُ فيه: قولهُ: (أَيُّهُمْ أَفْضَلُ) حيثُ أتَى بأَيُّ مبنيَّةً على الضمِّ - في الروايةِ المشهورةِ الكثيرةِ - فدَلَّ على أنَّها موصولةٌ؛ لأنَّ غيرَ الموصولةِ مُعربةٌ لا مَبنِيَّةٌ، وإنَّما بُنِيَت هنا لكَوْنِها مضافةً، وقد حُذِفَ صدرُ صِلَتِها وهو المبتدأُ الذي قَدَّرْنَاه في إعرابِ البيتِ، وهذا هو مَذْهَبُ سِيْبَوَيْهِ وجماعةٌ مِن البَصْرِيِّينَ في هذه الكلمةِ: أنَّها تَأْتِي موصولةً وتَكُونُ مَبْنِيَّةً إذا اجتَمَعَ فيها أَمْرَانِ:
أحدُهما: أن تَكُونَ مُضافةً لفظاً.
والثانِي: أن يَكُونَ صَدْرُ صلتِها محذوفاً. وذَهَبَ الخليلُ بنُ أَحْمَدَ ويُونُسُ بنُ حَبِيبٍ - وهما شَيْخَانِ مِن شُيوخِ سِيبَوَيْهِ - إلى أنَّ (أَيًّا) لا تَجِيءُ مَوْصولةً، وهي إمَّا شرطيَّةٌ، وإمَّا استفهامِيَّةٌ. وذَهَبَ جماعةُ الكوفِيِّينَ إلى أنَّها قد تَأْتِي موصولةً، ولكنَّها مُعربةً في جميعِ الأحوالِ أُضِيفَت أو لم تُضَفْ، حُذِفَ صَدْرُ صلتِها أو ذُكِرَ.
وزَعَمَ يُونُسُ بنُ حَبِيبٍ والخَلِيلُ بنُ أَحْمَدَ أنَّ (أَيُّهُم) في هذا البيتِ اسمُ استفهامٍ مَرفوعٌ على أنَّه مبتدأٌ خبرُه أَفْضَلُ، والجملةُ عندَ الخليلِ مَقُولٌ لقولٍ محذوفٍ يَقَعُ صِفةً لموصوفٍ محذوفٍ، وهذا الموصوفُ هو مجرورُ حرفِ الجَرِّ، وتقديرُ الكلامِ عندَه: فسَلِّمْ على شَخْصٍ مَقُولٍ فيه أَيُّهُم أَفْضَلُ، وفي هذا التقديرِ مِن التكَلُّفِ ما يَبْعَثُنَا على عدمِ الأخذِ بالقولِ الذي استَوْجَبَه.
([9]) اشتَرَطُوا في العاملِ في (أَيِّ) الموصولةِ شرطَيْنِ:
الأوَّلُ: أن يَكُونَ مدلولُه الزمانَ المُستقبَلَ.
والثانِي: أن يُقَدَّمَ عليها في الكلامِ. أمَّا شرطُ الاستقبالِ، فسنَتَكَلَّمُ على تعليلِه في الكلامِ على عبارَةِ الكِسَائِيِّ المشهورةِ: (أَيٌّ كذا خُلِقَتْ)، وأمَّا وجوبُ تقديمِ العامِلِ فيها، فإنَّما أرادُوا به أنْ يَظْهَرَ مِن أوَّلِ الأمرِ فَرْقٌ ما بين الموصولةِ هذه وبينَ الشرطِيَّةِ في نحوِ قولِه تعَالَى: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى}، والاستفهامِيَّةِ في نحوِ قولِه سُبْحَانَه: {فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ}، فإنَّك تَعْلَمُ أنَّ أسماءَ الاستفهامِ وأسماءَ الشرطِ لا يَعْمَلُ فيها ما قَبْلَها؛ لأنَّ لها صدرُ الكلامِ، فلو عَمِلَ فيها ما قَبْلَها لصَارَت حَشْواً؛ أي: في وَسَطِ الكلامِ، وذلك يُخَالِفُ وَضْعَها، ولهذا لمَّا كانَ مَذْهبُ الخليلِ (أي) لا تكُونُ مَوصولةً وأنَّها في الآيةِ الكريمةِ: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ} استفهاميَّةٌ اضطَرَّ إلى أن يُقَدِّرَها مقطوعةً عَمَّا قَبْلَها، وأن يَجْعَلَها مبتدأً، وأن يُقَدِّرَ لِمَا قبلَها معمولاً مَحْذُوفاً، على ما شَرَحْنَاه لك في شرحِ الشاهدِ 5.
([10]) سورة مريم، الآية: 69.
([11]) (خُلِقَتْ) أرادَ أنَّ وَضْعَها على هذا، ووَجَّه ذلك ابنُ السرَّاجِ بأنَّ (أيًّا) وُضِعَت على أنْ تُسْتَعَمَل في مُبهَمٍ، وأنت لو قُلْتَ: (يُعْجِبُنِي أَيُّهُم يَقُومُ) كُنْتَ كأنَّكَ قد قُلْتَ: يُعْجِبُنِي الشخصُ الذي يَقَعُ منه القيامُ المُسْتَقْبَلُ كائِناً مَن كانَ، أمَّا لو قُلْتَ: (يُعْجِبُنِي أَيُّهُمْ قَامَ)، والفعلُ الماضِي يَدُلُّ على حُصُولِ حَدَثِه قبلَ زَمَنِ التكَلُّمِ - فإنَّ المَعْنَى حينئذٍ: يُعْجِبُنِي الشخصُ المُعَيَّنُ الذي وَقَعَ القيامُ منه، فيَكُونُ ذلك مُخَالِفاً لِمَا وُضِعَت أيٌّ على أنْ تُسْتَعْمَلَ فيه، ووَجَّهَ ذلك ابنُ البَاذِشِ بمَا تَوضِيحُه أنَّ الزَّمَانَ المُستقبَلَ لا يُدْرَى مَقْطَعُه -؛ أي: مُنْتَهَاه- ولا مَبْدَؤُه، فهو مُبْهَمٌ تامُّ الإبهامِ، وأمَّا الماضِي والحالُ فإنَّهُما مَحْصُورَانِ لانقطاعِ الماضِي ولحُضورِ الحالِ، والفعلُ الذي لا يَصْلُحُ للدَّلالَةِ على المُستقبَلِ المُبهَمِ هو الفعلُ المضارعُ، فلَمَّا كانَت (أَيٌّ) مَوضُوعةً على أن تَكُونَ مُبْهَمَةً في استعمالِها لم يَصْلُحْ لها المَاضِي وصَلَحَ لها المُضارعُ، وإن اختَلَفَ إبهامُ المضارعِ فإنَّ ذلك لا يَضُرُّنَا؛ لأنَّا لم نَدَّعِ أنَّ إبهامَهُما واحدٌ، وإنَّما ادَّعَيْنَا أنَّ الإبهامَ يُنَاسِبُ الإبهامَ ولا يُنَاسِبُ التعيينِ.
([12]) سورة مريم، الآية: 69.
([13]) قد مَضَى قريباً ذِكْرُ هذا الشاهدِ وبيانُ وجهِ الاستشهادِ به. (وهو الشاهدُ رَقْمُ 50).
([14]) سورة الحديد، الآية: 18.
([15]) سورة الطور، الآية: 5.
([16]) هذا عَجُزُ بيتٍ مِن الطويلِ، وصدرُه قولُه:
فَإِمَّا كِرَامٌ مُوسِرُونَ لَقِيتَهُمْ
وقد تَقَدَّمَ ذِكْرُ هذا البيتِ مَشرُوحاً في بابِ المُعربِ والمبنيِّ مِن هذا الكتابِ. (وهو الشاهدُ رَقْمُ 7)، وقدَّمْنَا ذِكْرَ قائِلِه والأبْيَاتَ التي تَرْتَبِطُ به في المَعْنَى. ومَكَانُ الاستشهادِ فيه قولُه: (مِنْ ذِي) فيمَن رَوَاهُ بالياءِ، فإنَّهُ يَدُلُّ على أنَّ (ذو) الموصولَةَ قد تَكُونُ مُعْرَبةً إعرابَ (ذي) بمَعْنَى صاحبٍ؛ بالواوِ رَفْعاً، وبالياءِ جَرًّا، وبالألفِ نَصْباً. والذي رَوَاهُ بالياءِ هو أَبُو الفَتْحِ بنُ جِنِّيٍّ في كتابِه (المُحْتَسَبِ)، وهذه الروايةُ التي تَقْتَضِي الإعرابَ مُشْكِلَةٌ؛ لأنَّ سببَ البناءِ - وهو شَبَهُها بالحرفِ شَبَهاً افتقارِيًّا – موجودةٌ= في هذه الكَلِمَةِ ولم يُعَارِضْهُ شَيْءٌ مِمَّا يَخْتَصُّ بالاسمِ حَتَّى يُرَاعَى هذا المُعَارِضُ فتُعْرَبُ.
51 - هذا عَجُزُ بيتٍ مِن الوافرِ، وصدرُه قَوْلُه:
فَإِنَّ المَاءَ مَاءُ أَبِي وَجَدِّي
وهذا البيتُ مِن كَلِمَةٍ لسِنَانِ بنِ الفَحْلِ الطائِيِّ، أَوْرَدَها أَبُو تَمَّامٍ حَبِيبُ بنُ أَوْسٍ الطَائِيُّ في ديوانِ (الحَمَاسَةِ)، وكانَ بَنُو جَرْمٍ مِن طَيِّئٍ وبَنُو هِرَمِ بنِ العَشْرَاءِ مِن فَزَارَةَ قَدْ لَجَّ بهم الخِصامُ في شأنِ ماءٍ مِن مِياهِهم، فتَرَافَعُوا إلى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ الضَّحَّاكِ وَالِي المدينةِ، وكانَ صِهْراً للفَزَارِيِّينَ، فخَشِيَ الطائِيُّونَ أن يَمِيلَ في حُكُومَتِه إلى أَصْهَارِه، فبَرَكَ سِنَانُ بنُ الفَحْلِ أَمامَه وأَنْشَدَ بينَ يدَيْهِ الكَلِمَةَ التي منها بيتُ الشاهِدِ.
اللُّغَةُ: (ذُو حَفَرْتُ) أرادَ التي حَفَرْتُها. (وذُو طَوَيْتُ) أرَادَ التي طَوَيْتُها، وطَيُّ البئرِ: بنَاؤُه بالحجارَةِ.
الإعرابُ: (إِنَّ) حرفُ توكيدٍ ونصبٍ. (المَاءَ) اسمُ إِنَّ. (مَاءُ) خبرُ إِنَّ، وهو مضافٌ، وأبِ مِن (أَبِي) مضافٌ إليه، وأَبٌ مُضافٌ وياءُ المتكلِّمِ مضافٌ إليه. (وَجَدِّي) الواوُ عاطفةٌ، وجَدِّ معطوفٌ على أَبِي، وياءُ المتكَلِّمِ مضافٌ إليه. (وَبِئْرِي) الواوُ للاستئنافِ، بِئْرٌ مُبْتَدَأٌ، وهو مضافٌ وياءُ المتكَلِّمِ مضافٌ إليه. (ذُو) خَبَرُ المبتدأِ. (حَفَرْتُ) فعلٌ وفاعلٌ، والجملةُ لا مَحَلَّ لها صِلَةُ (ذو) الموصولةِ. (وَذُو) الواوُ عاطفةٌ، ذُو معطوفٌ على ذو السابقةِ. (طَوَيْتُ) فعلٌ وفاعلٌ، والجملةُ لا مَحَلَّ لها صلةٌ، وقد حَذَفَ العائِدَ على الموصُولَيْنِ مِن جُمْلَتَيِ الصلةِ، وأصلُ الكلامِ: وَبِئْرِي ذُو حَفَرْتُها وذُو طَوَيْتُهَا، ويجُوزُ أن تكُونَ الواوُ في (وبِئْرِي) عاطفةً، وقد عَطَفَت جُملةَ المبتدأِ والخَبَرِ على جملةِ إِنَّ واسمِها وخبرِها، كما يجُوزُ أن تكُونَ عاطفةً، وقد عَطَفَت (بِئْرِي) على اسمِ إِنَّ، و(ذو حَفَرْتُ) على خَبَرِ إِنَّ، فيَكُونُ مِن العَطْفِ على معمُولَي عَامِلٍ واحدٍ، وهو مِمَّا لا نِزَاعَ في جَوَازِه.
الشاهدُ فيه: قولهُ: (ذُو حَفَرْتُ وذُو طَوَيْتُ) حيثُ استَعْمَلَ (ذو) في الجملتَيْنِ اسماً موصولاً بمَعْنَى التي، وأَجْرَاهُ على غيرِ العاقلِ؛ لأنَّ المَعْنَى والمقصودَ بذُو في الموضِعَيْنِ البئرُ، والبئرُ مُؤَنَّثَةٌ بغيرِ علامةِ تأنيثٍ، وهي غيرُ عاقلةٍ، وذلك واضحٌ، ومِن استعمالِ ذو في المُفردِ المُذَكَّرِ العَاقِلِ قَوْلُ قَوَّالٍ الطَّائِيِّ:
فَقُولاَ لِهَذَا المَرْءِ ذُو جَاءَ سَاعِياً = هَلُمَّ فَإِنَّ المَشْرَفِيَّ الفَرَائِضُ
يُرِيدُ: فَقُولاَ لهذا المَرْءِ الذي جاءَ ساعياً، ومِن استعمالِ ذو في المُفردِ المُذَكَّرِ غيرِ العاقلِ قَوْلُ قَوَّالٍ هذا أيضاً:
أَظُنُّكَ دُونَ المَالِ ذُو جِئْتَ طَالِباً = سَتَلْقَاكَ بِيضٌ لِلنُّفُوسِ قَوَابِضُ
أرادَ دُونَ المالِ الذي جِئْتَ طَالِبَهُ، ومنه الشاهدُ السابقُ، فإنَّ المُرَادَ: حَسْبِي مِن المالِ الذي عندَهم مَا كَفَانِيَا.
([17]) هذه لغةُ جماعةٍ مِن طَيِّئٍ، يقُولُون في المُفردِ المُذَكَّرِ: (ذو قام)، وفي مُثَنَّاه: (ذَوَا قَامَا)، وفي جَمْعِه: (ذَوُو قامُوا)، وفي المُفْرَدَةِ المُؤَنَّثَةِ: (ذَاتُ قَامَت)، وفي مُثَنَّاها: (ذَوَاتَا قَامَتَا)، وفي جَمْعِها: (ذَوَاتُ قُمْنَ). وقد حَكَى ابنُ السرَّاجِ ذلك عَن جميعِ طَيِّئٍ، ذَكَرَ ذلك في كتابِه (الأُصُولِ)، وتَبِعَه في هذا ابنُ عُصْفُورٍ في كتابِه (المُقَرِّبِ)، ونَازَعَهُما العَلاَّمَةُ ابنُ مَالِكٍ في (شَرْحِ التَّسْهِيلِ) فأَنْكَرَ أنْ تَكُونَ هذه لُغَةَ جميعِ طَيِّئٍ، ولكنَّهُ لا يُنْكِرُ أنَّ بَعْضَ طَيِّئٍ يَقُولُونَ ذلك، ولمَّا كانَت عبارةُ ابنِ هِشَامٍ لا تَنُصُّ على مَوضعِ النزاعِ آثَرْنَا أن نُبَيِّنَه لك.
52 - هذا بيتُ مِن الرَّجَزِ المشطورِ، وقد أَنْشَدَ الفَرَّاءُ هذا البيتَ، ولم يَنْسُبْهُ إلى قائلٍ مُعَيَّنٍ، وحَكَاهُ عنه في (اللِّسَانِ) غيرَ منسوبٍ، ونَسَبَه قومٌ مِنهم العَيْنِيُّ إلى رُؤْبَةَ بنِ العَجَّاجِ، والبيتُ موجودٌ في زياداتِ دِيوانِ (أَرَاجِيزِ رُؤْبَةَ)، وقبلَه في روايةِ الجميعِ:
جَمَعْتُهَا مِنْ أَيْنُقٍ مَوَارِقِ
اللغَةُ: (أَيْنُقٍ) جمعُ ناقةٍ، ولسِيبَوَيْهِ في هذه الكَلِمَةِ مَذْهَبانِ:
أحدُهما: أَصْلُها أَنْوُقٌ - بضَمِّ الواوِ - فقُدِّمَت الواوُ على النونِ فصارَت أَوْنُقاً - بسكُونِ الواوِ - ثُمَّ قُلِبَت الواوُ ياءً للتخفيفِ فصَارَت أَيْنُقاً - على وِزَانِ أَعْفُلٍ - ففي الكَلِمَةِ على هذا الوَجْهِ قلبٌ مَكَانِيٌّ وإعلالٌ بالقلبِ.
والمَذْهَبُ الثانِي: أنَّ أصلَها أَنْوُقٌ - بضَمِّ الواوِ كالأوَّلِ - فحُذِفَت هذه الواوُ، ثُمَّ عُوِّضَ عنها ياءٌ قبلَ الفاءِ التي هي النُّونُ فصَارَت الكَلِمَةُ أَيْنُقاً - على وِزَانِ أَيْفُلٍ -.
ففي الكَلِمَةِ على هذا الوجهِ إعلالٌ بالحذفِ وزيادةُ حرفِ التعويضِ في غيرِ موضعِ المُعَوَّضِ مِن الكَلِمَةِ.
(مَوَارِقِ) أرادَ سَرِيعَاتِ السيرِ، وأصلُ هذه الكَلِمَةِ قولُهم: مَرَقَ السهمُ مِن الرَّمِيَّةِ يَمْرُقُ مُرُوقاً، إذا نَفَذَ وأَسْرَعَ، ويُرْوَى في مكانِه (سَوَابِقِ) جمعُ سابقةٍ. (ذَوَاتُ)؛ أي: اللاتي. (يَنْهَضْنَ) يَقُمْنَ أو يُسْرِعْنَ. (سَائِقِ) اسمُ فاعلٍ مِن السَّوْقِ بفَتْحِ السينِ.
المَعْنَى: يَصِفُ إِبِلاً له بأنَّها مُخْتَارةٌ مُنْتَقَاةٌ، وأنَّه جَمَعَها مِن نُوقٍ سَرِيعاتِ السيرِ لا يَحْتَجْنَ إلى سائِقٍ.
الإعرابُ: (جَمَعْتُها) جَمَعَ فِعْلٌ ماضٍ، وتاءُ المتكَلِّمِ فَاعِلُه، وضميرُ الغائباتِ مفعولٌ به. (مِنْ أَيْنُقٍ) جارٌّ ومجرورٌ متعَلِّقٌ بجَمَعَ. (مَوَارِقِ) صفةٌ لأيْنُقٍ. (ذَوَاتُ) صفةٌ ثانيةٌ لأَيْنُقٍ معَ أنَّ (أَيْنُقٍ) نَكِرَةٌ و(ذَوَاتُ) اسمٌ موصولٌ معرفةٌ، وهذا الإعرابُ جَارٍ على مَذْهَبِ الكوفِيِّينَ الذين يُجَوِّزُونَ تَخَالُفَ النعتِ والمنعوتِ في التعريفِ والتنكيرِ إذا كانَ النعتُ للمَدْحِ أو الذمِّ، وعلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ الذين لا يُجِيزُونَ ذلك يَحْتَمِلُ وُجُوهاً مِن الإعرابِ؛ فإنَّهُ يَجُوزُ أن يكُونَ (ذَوَاتُ) بَدَلاً مِن أَيْنُقٍ، ويَجُوزُ أن يكُونَ خبراً لمبتدأٍ محذوفٍ كأنَّه قالَ: هُنَّ اللواتِي. (يَنْهَضْنَ) فعلٌ مضارعٌ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصَالِه بنونِ النسوةِ، ونُونُ النسوةِ فاعِلُه، والجملةُ مِن الفعلِ وفاعلِه لا مَحَلَّ لها مِن الإعرابِ صلةُ الاسمِ الموصولِ. (بغَيْرِ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بيَنْهَضْنَ، وغيرِ مضافٌ، و(سَائِقِ) مُضافٌ إليه.
الشاهدُ فيه: قولهُ: (ذَوَاتُ يَنْهَضْنَ) حيثُ أَتَى فيه بذَوَاتُ بمَعْنَى اللوَاتِي، وبنَاه على الضمِّ، وصِلَتُه جملةُ (يَنْهَضْنَ بِغَيْرِ سَائِقِ).
هذا وقد أَنْكَرَ بعضُ النحاةِ أن يكُونَ (ذَوَاتُ) في هذا الشاهدِ بمَعْنَى اللوَاتِي، وقالَ: هي بمَعْنَى صَاحِبَاتِ، وأُضِيفَت إلى الفعلِ بتأويلِه بالمصدرِ، وكأنَّه قد قالَ: ذَوَاتُ نُهُوضٍ بغَيْرِ سَائقٍ، كما قالُوا: (اذْهَبْ بذِي تَسْلَمْ) وهم يُرِيدُونَ اذْهَبْ بذِي سَلامَةٍ، وذَوَاتُ على هذا وعلى تسليمِ روايةِ الرفعِ خبرُ مُبتدأٍ محذوفٍ، وتقديرُ الكلامِ: هُنَّ ذَوَاتُ نُهوضٍ بغَيْرِ سائقٍ، ومعنَاه هُنَّ صاحباتُ سَبْقٍ.
([18]) أمَّا ذاتُ فحَكَى إعرابَها بالحركَاتِ أَبُو حَيَّانَ في (الارتِشَافِ)، وعليه تُرْفَعُ بالضمَّةِ، وتُنْصَبُ بالفتحَةِ، وتُجَرُّ بالكسرَةِ، معَ التنوينِ في الأحوالِ الثلاثةِ؛ إذ لا إِضَافَةَ، وأمَّا ذَوَاتُ فحَكَى إِعْرَابَها بالحرَكاتِ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ الحَلَبِيُّ، وعليه تُرْفَعُ بالضمَّةِ، وتُجَرُّ بالكَسْرَةِ، وتُنْصَبُ بالكسرةِ نِيَابةً عَن الفتحةِ كجمعِ المُؤَنَّثِ، وتُنَوَّنُ في الأحوالِ الثلاثةِ أَيْضاً.
([19]) إنَّما كانَت (ذا) في هذَيْنِ المثالَيْنِ غيرُ موصولةٍ؛ لأنَّ ما بعدَها فيهِمَا اسمٌ مُفردٌ، والاسمُ المُفردُ لا يَصْلُحُ أن يكُونَ صِلةً لغيرِ أل، ومتى لم تَصْلُحْ لأنْ تكُونَ مَوصولةً كَانَت اسمَ إشارةٍ؛ إذ هي لا تكُونُ إلا على أحدِ هذَيْنِ الوجهَيْنِ، فإذا انتَفَى أَحدُهما ثَبَتَ الآخَرُ.
([20]) ههنا فائدةٌ وحاصِلُها: أنَّ (ماذا) التي تَرَكَّبَت فيها (ما) معَ (ذا) وصَارَتَا كَلِمةً واحدةً دَالَّةً على الاستفهامِ؛ هل يَجِبُ لها الصدارَةُ كبقِيَّةِ أسماءِ الاستفهامِ فلا يَعْمَلُ فيها ما قبلَها؟ أم تَمَيَّزَتْ بالتركيبِ عَن بقِيَّةِ أخَوَاتِها وصَارَت بحيثُ يَجُوزُ أن تَتَأَخَّرَ عَن العامِلِ فيها؟
مِن العلماءِ مَن ذَهَبَ إلى أنَّها كبَقِيَّةِ أَخَوَاتِها، وكما كَانَت قبلَ التركيبِ لا يَجُوزُ أن يَعْمَلَ فيها ما قَبْلَها فهي كذلك بعدَ التركيبِ، فكما لا تقُولُ: (صَنَعْتُ ما) لا يجُوزُ أن تقُولَ: (صَنَعْتُ مَاذَا). ومِن العلماءِ مَن قالَ: تَخْتَصُّ (ماذا) مِن بينِ أدَوَاتِ الاستفهامِ بجوَازِ تقديمِ العاملِ فيها عليها، وهو الذي نُرَجِّحُه، ونَسْتَدِلُّ عليه بحديثٍ روَاهُ البَغَوِيُّ في (مَصَابِيحِ السُّنَّةِ). (1/5 بولاق) في إسلامِ عَمْرِو بنِ العَاصِ، وفيه أنَّ عَمْراً قالَ للنبِيِّ صلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ: أُرِيدُ أَنْ أَشْتَرِطَ، فقَالَ له النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ: ((تَشْتَرِطُ مَاذَا؟))، وبمَا رُوِيَ في حديثِ الإِفْكِ أنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها كانَت تقُولُ: (أَقُولُ مَاذَا؟) و(أَفْعَلُ مَاذَا؟)، فاعْرِفْ هذا واحْرِصْ عليه.
([21]) ههنا أَرْبَعَةُ أمورٍ أُحِبُّ أن أُنَبِّهَكَ إليها:
الأوَّلُ: أنَّ المُؤلِّفَ ذَكَرَ لإلغاءِ (ذا) مَعْنَيَيْنِ؛ أحدَهما أن تُرَكَّبَ مع (ما) بحيثُ يَصِيرَانِ كلمةً واحدةً دَالَّةً على الاستفهامِ، والثانِيَ أن تُعْتَبَر (ذا) زَائدةً، و(ما) اسمَ استفهامٍ.
الأمرُ الثانِي: أنَّكَ إذا قُلْتَ: (مَا صَنَعْتَ) واعتَبَرْتَ (ذا) مَوصولةً كَانَت (ما) اسمَ استفهامٍ مبتدأً، و(ذا) اسمٌ موصولٌ خبرُ المبتدأِ، وجملةُ (صَنَعْتَ) لا مَحَلَّ لها مِن الإعرابِ صِلَةٌ، والعائدُ محذوفٌ، وتقديرُ الكلامِ: أَيُّ شَيْءٍ الذي صَنَعْتَه، فإن اعتَبَرْتَ (ذا) مُلْغَاةً بالمَعْنَى الأوَّلِ كان (ماذا) اسمَ استفهامٍ مبنيًّا= على السكونِ في مَحَلِّ نصبِ مفعولٍ مُقَدَّمٍ، وصَنَعْتَ فِعْلٌ وفاعلٌ، وكأنَّكَ قُلْتَ: أَيُّ شَيْءٍ صَنَعْتَ، وإن اعتَبَرْتَ (ذا) مُلْغَاةً بالمَعْنَى الثانِي كانَ (ما) وَحْدَهُ اسمَ استفهامٍ مبنيًّا= على السكونِ في مَحَلِّ نصبِ مَفعولٍ مُقَدَّمٍ، و(ذا) زَائِدٌ - والأظهَرُ أنَّه لا يَدُلُّ على شيءٍ ولا مَعْنَى له؛ لأنَّ هذا حُكْمَ الزائدِ.
الأمرُ الثالثُ: أنَّ المؤلِّفَ ذَكَرَ تَرَكُّبَ (ذا) معَ (ما) وزِيَادَةَ (ذا) معَ (ما)، ولم يُصَرِّحْ بأنَّ (ذا) تَرَكَّبَ معَ مَن، كما لم يُصَرِّحْ بأنَّ (ذا) تُزَادُ معَ (مَن)، والذي وَجَدْنَاهُ أنَّ أَبَا البَقَاءِ وأَحْمَدَ بنَ يَحْيَى ثَعْلَباً لا يُجِيزَانِ تَركِيبَ (ذا) معَ مَن، ونَقَلَ عنهما أنَّ التركيبَ خَاصٌّ بذا معَ (ما)، وعَلَّلاَ هذا الحُكْمَ بأنَّ (ما) أَكْثَرُ إِبْهاماً مِن (مَنْ) فيَحْسُنُ فيها أن تُجْعَلَ معَ غيرِها كاسمٍ واحدٍ ليَكُونَ ذلك أَظْهَرَ لمَعْنَاها، هذا مِن جِهَةِ التركيبِ، فأمَّا مِن جِهَةِ الزيادَةِ، فإنَّ الكوفِيِّينَ لا يَأْبَوْنَ القولَ بزِيَادَةِ الأسماءِ، والبَصْرِيِّينَ لا يُجِيزُونَ زيادةَ الأسماءِ، فلو أَنَّنَا اتَّخَذْنَا ذلك أَصْلاً لجَازَ لنا أن نَقُولَ: إنَّ الكُوفِيِّينَ يُجِيزُونَ أن تَكُونَ (ذا) زَائِدَةً معَ (مَن)، وإن لم يُنْقَلْ لنا نَقْلٌ صريحٌ يَدُلُّ على ذلك، ويُقَوِّي ذلك أنَّهُم صَرَّحُوا بزيادةِ (ذا) مع (ما)، كما نَقُولُ: إنَّ البَصْرِيِّينَ لا يُجِيزُونَ ذلك، كما لم يُجِيزُوا زيادَةَ (ذا) معَ (ما).
الأمرُ الرابعُ: أنَّهُ يَدُلُّ على اعتبارِ (ذا) موصولةً أو مُلْغَاةً مَجِيءُ البدلِ بعدَها، فإنْ كانَ البدلُ مَرْفُوعاً كما في بيتِ لَبِيدٍ (الشاهِدُ 53) دَلَّ على أَنَّ (ذا) مَوصولةٌ، وسنُبَيِّنُ لك وَجْهَه في شَرْحِ البيتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وإنْ كانَ البدلُ مَنْصُوباً دَلَّ على إلغاءِ (ذا) واعتبارِ الاستفهامِ مَفْعُولاً مُقَدَّماً.
53 - هذا صدرُ بيتٍ مِن الطويلِ للَبِيدِ بنِ رَبِيعَةَ العَامِرِيِّ، وعَجُزُه قولُه:
أَنَحْبٌ فَيُقْضَى أَمْ ضَلالٌ وَبَاطِلُ
اللغةُ: (يُحَاوِلُ) مِن المُحاوَلَةِ، وهي استعمالُ الحِيلَةِ، وهي الحَذْقُ في تَدْبيرِ الأمورِ وتَقْلِيبِ الفِكْرِ حتَّى يُهْتَدَى إلى المقصودِ. (أَنَحْبٌ) يُطْلَقُ النَّحْبُ - بفَتْحِ النونِ وسكونِ الحاءِ - على عِدَّةِ مَعَانٍ، منها النَّذْرُ، وهو ما يُوجِبُه الإنسانُ على نَفْسِه، فإنْ أُرِيدَ به هنا هذا المَعْنَى كانَ مُرادُه مِن البيتِ أن يَقُولَ: اسْأَلُوا هذا الحَرِيصَ على الدنيَا المُهْتَمَّ بها الذي لا يَدَعُ طَرِيقاً إلا سَلَكَه لبُلُوغِ مَآرِبِه منها عَن هذا الذي هو سَادِرٌ فيه، أهو نَذْرٌ أَوْجَبَه على نَفْسِه فهو دَائِبٌ على العملِ لإنفَاذِه أم هو ضَلالٌ وبَاطِلٌ مِن أَمْرِه؟
الإعرابُ: (ألاَ) أداةُ استفتاحٍ. (تَسْأَلانِ) فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ بثبوتِ النونِ، وألفُ الاثنَيْنِ فاعلٌ. (المَرْءَ) مفعولٌ به. (ما) اسمُ استفهامٍ مبتدأٌ. (ذَا) اسمٌ موصولٌ بمَعْنَى الذي خَبَرُ المبتدأِ. (يُحَاوِلُ) فعلٌ مضارعٌ، وفاعِلُه ضميرٌ مُستترٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يَعُودُ إلى المَرْءِ، والجملةُ مِن الفِعْلِ وفاعِلِه لا مَحَلَّ لها صِلَةُ (ذا) الموصولةِ، والعائدُ ضميرٌ منصوبٌ بيُحَاوِلُ محذوفٌ؛ أي: ما الذي يُحَاوِلُه. (أَنَحْبٌ) الهمزةُ حرفُ استفهامٍ، نَحْبٌ بدلٌ مِن ما الاستفهامِيَّةِ الواقعةِ مبتدأً، وبَدَلُ المرفوعِ مرفوعٌ. (فَيُقْضَى) الفاءُ حرفُ عطفٍ، يُقْضَى فعلٌ مضارعٌ مَبْنِيٌّ للمجهولِ، ونائبُ الفاعلِ مستترٌ فيه. (أم) حرفُ عطفٍ. (ضَلالٌ) معطوفٌ على نَحْبٍ. (وباطِلُ) معطوفٌ على ضلالٍ.
الشاهدُ فيه: قولُه: (مَاذَا يُحَاوِلُ) حيثُ استَعْمَلَ (ذا) مَوصولةً بمَعْنَى الذي، وأَخْبَرَ بها عَن (ما) الاستفهامِيَّةِ، وأَتَى لها بصِلَةٍ هي جملةُ (يُحَاوِلُ) على ما بَيَّنَّاهُ في إعرابِ البيتِ.
فإنْ قُلْتَ: فَلِمَ لا يكُونُ (ماذا) اسمَ استفهامٍ، وتكُونُ (ذا) قد أُلْغِيَت لتَرْكِها معَ (ما) حتَّى صَارَتَا كَلِمَةً وَاحدةً؟
قُلْنَا في الجوابِ عن هذا: لو كَانَ الشاعرُ قد رَكَّبَ (ذا) معَ (ما) وصَيَّرَهُما كلمةً واحدةً لكانَ موقِعُ هذه الكَلِمَةِ مِن الإعرابِ مفعولاً به مُقَدَّماً ليُحَاوِلُ، فتَكُونُ منصوبةَ المَحَلِّ، وإنَّهُ ليَمْنَعُ مِن ذلك أنَّه جاءَ بالبدلِ مرفوعاً، فإنَّ رَفْعَ البدلِ يَدُلُّ على أنَّ المُبْدَلَ منه مَرْفُوعٌ، فاتَّضَحَ أنَّ هذا الوَجْهَ لا يَجُوزُ في هذا البيتِ، وكذلك كُلُّ ما جَاءَ على نَهْجِه.
فإنْ قُلْتَ: فلماذا تَلْتَزِمُونَ أن يَكُونَ (ماذا) مَفْعُولاً به مُقَدَّماً ليُحَاوِلُ؟ وهَلاَّ جَعَلْتُمْ (ماذا) مُبتدأً، وجُمْلَةَ (يُحَاوِلُ) خَبَرَه؟ وعلى هذا يَكُونُ البدلُ مُطَابقاً للمُبْدَلِ منه؟.
قُلْنَا في الجوابِ عن هذا: إنَّا لو جَعَلْنَا (مَاذَا) مبتدأً، وجملةَ (يُحَاوِلُ) خَبَرَه لكانَ الرابطُ بين جملةِ الخبرِ والمبتدأِ مَحْذُوفاً، وحَذْفُ الرابطِ في مثلِ ذلك ضَعيفٌ حتَّى أَبَاهُ سِيْبَوَيْهِ ولم يُجَوِّزْهُ، فلَمَّا لَزِمَ - إذا سِرْنَا على ما أَرَدْتَ أن تَسِيرَ عليه - ارتِكَابُ هذا الوَجْهِ الضعيفِ الذي أَبَاهُ شَيْخُ النحاةِ - لم نَرْتَضِ هذا الوَجْهَ مِن الإعرابِ.
وإذا لم يَصِحَّ هذا الوَجْهُ لهذه العِلَّةِ، ولم يَصِحَّ الوَجْهُ الذي قبلَه للعِلَّةِ التي بَيَّنَّا تَعَيُّنَ أن يكُونَ (ما) غيرَ مُرَكَّبٍ معَ (ذا) وأنَّهُما كَلِمَتَانِ، لا كَلِمَةٌ واحدةٌ، على ما أَوْضَحْنَاهُ في إعرابِ البيتِ.
نَعَمْ لو كانَ ما بعدَ الاستفهامِ منصوباً كما جاءَ في قولِه تعَالَى: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً} لكَانَ (ذا) مُرَكَّباً معَ (ما) وكانَ مَجْمُوعُهما مَفْعُولاً مُقَدَّماً. ولو كانَ الفِعْلُ الواقعُ بعدَ (ذا) قد نَصَبَ مفعولَه فقُلْتَ: (مَاذَا يُحَاوِلُه أَنَحْبٌ) لجَازَ أن يكُونَ (ذا) قد رُكِّبَ معَ (ما)، وأنَّهما جميعاً كَلِمَةٌ وَاحدةٌ مُبتدأٌ، والجملةُ بعدَها خبرٌ في مَحَلِّ رفعٍ، فأمَّا والبدلُ مرفوعٌ، والفعلُ غيرُ ناصبٍ للضميرِ، والأصلُ عدمُ التقديرِ، فليسَ إلا ما ذَكَرْنَا.
ومِثلُه قولُ العَلاَءِ بنِ حُذَيْفَةَ الغَنَوِيِّ:
وَمَاذَا عَلَيْكُمْ إِنْ أَطَافَ بِأَرْضِكُمْ = مُطَالِبُ دَيْنٍ أَوْ نَفَتْهُ حُرُوبُ
54 - هذه قطعةٌ مِن عَجُزِ بيتٍ مِن المُتَقَارِبِ، وهو بتَمَامِه:
أَلاَ إِنَّ قَلْبِي لَدَى الظَّاعِنِينَ = حَزِينٌ، فَمَنْ ذَا يُعَزِّي الحَزِينَا؟
وقَد نَسَبَ ابنُ مَالِكٍ هذا البيتَ إلى أُمَيَّةَ بنِ أَبِي عَائِذٍ الهُذَلِيِّ، ونَسَبَه العَيْنِيُّ إلى أُمَيَّةَ بنِ أَبِي الصَّلْتِ، والصوابُ ما قالَه ابنُ مَالِكٍ، فإنَّ البيتَ مَطْلَعُ قصيدةٍ عِدَّتُها 51 بيتاً لأُمَيَّةَ بنِ أَبِي عَائِذٍ الهُذَلِيِّ يَمْدَحُ فيها عَبْدَ العَزِيزِ بنَ مَرْوَانَ، وهي موجودةٌ في (شَرْحِ أشعارِ الهُذَلِيِّينَ) صَنْعَةُ أَبِي سَعِيدٍ السُّكَّرِيِّ. (ص515).
اللغةُ: (الظَّاعِنِينَ) جمعُ ظاعنٍ، وهو اسمُ فاعلٍ مِن ظَعَنَ بمَعْنَى سَارَ، ضِدُّ أَقَامَ، وأَرَادَ بهم أَحْبَابَه الذين فَارَقُوه. (حَزِينٌ) وَصْفٌ مِن الحُزْنِ، وهو انقباضُ النَّفْسِ وانصرافُها عَمَّا يَسُرُّ. (يُعَزِّي) يُسَلِّي ويَبْعَثُ الصبرَ إلى نفسِه، ويقُولُ: عَزَّيْتُه أُعَزِّيهِ تَعْزِيَةً، مثلُ سَلَّيْتُه أُسَلِّيهِ تَسْلِيَةً وَزْناً ومَعْنًى.
المَعْنَى: يَصِفُ نفسَه وما فَعَلَ به فِرَاقُ أحبابِه حيثُ غَادَرُوه كَئِيباً بلا قلبٍ، ثُمَّ سَأَلَ عَمَّنْ يُعَزِّيهِ، فيَقُولُ: إِنَّ قَلْبِي أَسِيرٌ قد استَلَبَه أحبابُنا المُرتَحِلُونَ عَنَّا المُفَارِقُونَ لمَآلِفِنَا ومَرَاتِعِ أُنْسِنا بهم، وإنَّ هذا القلبَ لحزينٌ، فهل له مَن يُسَلِّيهِ عَن أحبابِه؟ والأحْسَنُ أن يَكُونَ الاستفهامُ هنا إِنكارِيًّا بمَعْنَى النفيِ، وكأنَّه قالَ: ليسَ له مَن يُعَزِّيهِ.
الإعرابُ: (ألاَ) أداةُ استفتاحٍ. (إِنَّ) حرفُ توكيدٍ ونصبٍ. (قَلْبِي) قَلْبِ اسمُ إنَّ منصوبٌ بفتحةٍ مُقَدَّرَةٍ على ما قبلَ ياءِ المتكَلِّمِ، وقلبِ مُضافٌ وياءُ= مضافٌ=. و(الظاعنِينَ)= مضافٌ إليه. (حَزِينٌ) خبرٌ ثانٍ لإنَّ. (فمَنْ) اسمُ استفهامٍ مُبتدأٌ. (ذا) اسمٌ موصولٌ بمَعْنَى الذي خَبَرُ المبتدأِ. (يُعَزِّي) فعلٌ مضارعٌ، وفاعلُه ضميرٌ مستترٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يَعُودُ إلى ذا. (الحَزِينَا) مفعولٌ به ليُعَزِّي، والألفُ للإطلاقِ، والجملةُ مِن الفعلِ وفاعِلِه لا مَحَلَّ لها صِلَةُ ذا.
الشاهدُ فيه: قولُهُ: (فَمَنْ ذَا يُعَزِّي) حيثُ أَتَى بذا اسماً موصولاً بمَعْنَى الذي بعدَ مَن الاستفهامِيَّةِ، وجاءَ لذا بصِلَةٍ هي جُمْلَةُ (يُعَزِّي الحَزِينَ).
55 - هذا عَجُزُ بيتٍ مِن الطويلِ، وصدرُه قولُه:
عَدَسْ، مَا لِعَبَّادٍ عَلَيْكِ إِمَارَةٌ
والبيتُ ليَزِيدَ بنِ رَبِيعَةَ بنِ مُفَرَّغٍ الحِمْيَرِيِّ، ويُقَالُ: إِنَّ رَبِيعَةَ هو مُفَرَّغٌ نفسُه، وكانَ يَزِيدُ حَلِيفَ قُرَيْشٍ، ولَمَّا وَلِيَ سَعِيدُ بنُ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ خُرَاسَانَ طَلَبَ إلى يَزِيدَ أن يَصْحَبَه، فأَبَى ورَغِبَ في صُحْبَةِ زِيَادِ بنِ أَبِي سُفْيَانَ، ولكنَّه ما عَتَّمَ أن كَرِهَ البقاءَ معَه، فأَتَى عَبَّادَ بنَ زِيَادٍ في سِجِسْتَانَ فأَقَامَ معَه، ثُمَّ ما لَبِثَ أن هَجَاهُ، فأَخَذَه عُبَيْدُ اللَّهِ بنُ زِيَادٍ أَخُو عَبَّادٍ فحَبَسَهُ وعَذَّبَه وبَلَغَ ذلك مُعَاوِيَةَ بنَ أَبِي سُفْيَانَ فأَمَرَ بإطلاقِه، وفي ذلك يقُولُ قَصِيدةً مِنها بيتُ الشاهدِ، وبعدَه قولُه:
طَلِيقُ الَّذِي نَجَّى مِنَ الحَبْسِ بَعْدَمَا = تَلاَحَمَ فِي دَرْبٍ عَلَيْكِ مَضِيقُ
ذَرِي أَوْ تَنَاسَيْ مَا لَقِيتُِ فَإِنَّهُ = لِكُلِّ أُنَاسٍ خَبْطَةٌ وَخَرِيقُ
اللغةُ: (عَدَسْ) اسمُ زَجْرٍ للبَغْلِ ليُسْرِعَ، وهو مبنيٌّ على السكونِ، ورُبَّمَا أَعْرَبَه الشاعرُ إذا اضْطُرَّ، ورُبَّمَا سَمَّوا البغلَ نفسَه عَدَساً. (إِمَارَةٌ) حُكْمٌ ووِلايةٌ. (طَلِيقُ) فَعِيلٌ بمَعْنَى مفعولٍ، يُرِيدُ أنَّه قد أُطْلِقَ مِن الأسرِ وأُفْرِجَ عنه فصَارَ حُرًّا، وإذا لم يَكُنْ لعَبَّادٍ حُكْمٌ على البغلِ فلأَنْ لا يكُونَ له حُكمٌ على صاحبِ البغلِ ورَاكِبِه أَوْلَى. (دَرْبٍ) - بفَتْحٍ فسكونٍ - هو بابُ الطريقِ الواسعِ. (مَضِيقُ) هو فاعِلُ تَلاَحَمَ قبلَه. (خَبْطَةٌ) بفَتْحِ الخاءِ وسكونِ الباءِ - هو شيءٌ كالزُّكْمَةِ يَأْخُذُ قبلَ الشتاءِ، وفِعْلُه خُبِطَ - بالبناءِ للمجهولِ -. (خَرِيقُ) هي الريحُ الباردةُ الهَبَّابَةُ الشديدةُ، ويُقَالُ لها: خَرُوقُ - بزِنَةِ صَبُورٍ - أيضاً.
الإعرابُ: (عَدَسْ) اسمُ صوتٍ مبنيٌّ على السكونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ. (مَا) حرفُ نفيٍ مبنيٌّ على السكونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ. (لِعَبَّادٍ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرٌ مُقَدَّمٌ. (عَلَيْكِ) جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ به الجارُّ والمجرورُ السابقُ. (إِمَارَةٌ) مبتدأٌ مُؤَخَّرٌ. (أَمِنْتِ) فِعْلٌ ماضٍ، وتاءُ المخاطَبَةِ فاعلُه. (وهذا) الواوُ واوُ الحالِ، واسمُ الإشارةِ مبتدأٌ. (تَحْمِلِينَ) فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ بثُبُوتِ النونِ، وياءُ المُؤَنَّثَةِ المُخَاطَبَةِ فاعلٌ، والجملةُ مِن الفعلِ وفاعِلِه في مَحَلِّ نصبٍ حالٌ مِن اسمِ الإشارةِ على رَأْيِ سِيْبَوَيْهِ الذي يُجَوِّزُ مَجِيءَ الحالِ مِن المبتدأِ، أو حالٌ مِن الضميرِ المُسْتَكِنِّ في خَبَرِه عند الجمهورِ. (طَلِيقُ) خبرُ المبتدأِ الذي هو اسمُ الإشارةِ، هذا إعرابُ البَصْرِيِّينَ وهو الذي ارْتَضَاهُ جَمْهَرَةُ النحاةِ المتأخِّرِينَ، وتقديرُ الكلامِ عليه: أَمِنْتُ والحالُ أنَّ هذا طَلِيقٌ حالَ كَوْنِه مَحْمُولاً لك، وستَعْرِفُ في بيانِ الاستشهادِ بالبيتِ إعرابَ الكُوفِيِّينَ له.
الشاهدُ فيه: قولُه: (وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ)؛ فإنَّ الكُوفِيِّينَ ذَهَبُوا إلى أنَّ (ذا) اسمٌ موصولٌ وَقَعَ مُبْتَدَأً، ولم يَمْنَعْهُم اتِّصَالُ حرفِ التنبيهِ به مِن أَنْ يَلْتَزِمُوا مَوصُولِيَّتَه، كما لمْ يَمْنَعْهُم عَدَمُ تقدُّمِ (مَا) أو (مَن) الاستِفْهَامِيَّتَيْنِ مِن التِزَامِ مَوصُولِيَّتِه، وعندَهم أنَّ التقديرَ: والذي تَحْمِلِينَهُ طَلِيقٌ، فذا اسمٌ موصولٌ مبتدأٌ، وجملةُ (تَحْمِلِينَ) لا مَحَلَّ لها صِلةٌ، والعائِدُ ضميرٌ منصوبٌ محذوفٌ، وطليقٌ خبرُ المبتدأِ، وعندَ الكوفِيِّينَ أنَّ جميعَ ما يكُونُ اسمَ إشارةٍ قد يَكُونُ اسمَ موصولٍ، وخَرَّجُوا على ذلك قولَه تعَالَى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} قالُوا: (مَا) اسمُ استفهامٍ مبتدأٌ، و(تِلْكَ) اسمٌ موصولٌ بمَعْنَى التي خَبَرُه. و(بيَمِينِكَ) جَارٌّ ومجرورٌ مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ صلةٌ. وخَرَّجُوا عليه أَيْضاً قولَ اللَّهِ جَلَّ شَأْنُه: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ}، وقَوْلَه تَبَارَكَت آلاؤُه: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا}، وتقديرُ الآيةِ الأُولَى عندَهم: ثُمَّ أنتُم الذينَ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُم، وتقديرُ الثانيةِ عندَهم: هَا أَنْتُم الذينَ جَادَلْتُم عنهم فِي الحياةِ الدُّنْيَا، وكُلُّ ذلك غيرُ مُسَلَّمٍ لهم.