4. الإشارة إلى بعض أسباب ومظاهر الإعراض عن القرآن في عصرنا الحالي.
بالنظر للأسباب السابق ذكرها لا يخفى عليكم مناسبتها لمعنى كلمة (مسرفين) وأن فيها جميعًا تجاوز للحد إما بكفر النعمة وعدم شكرها أو التعلق بالمخلوقات من دون الله عز وجل أو التعلق بالحياة الدنيا وزينتها والمعاصي أو مجاوزة الحد بالحسد أو الجدال بالباطل
فعلى سبيل المشاكلة، يأتي بعض المسلمين بدرجة من هذه الأعمال، مثل التعلق الأصغر بالحياة الدنيا والإسراف في المعاصي والجدال بالباطل، والغفلة عن شكر نعم الله عز وجل، درجة لا تخرجهم من دين الله عز وجل لكنها تحرمهم بركة القرآن والانتفاع به ونعيم الطمأنينة بذكر الله عز وجل، وعزة الركون إليه سبحانه.
ومعلومٌ أن دين الإسلام على مراتب؛ الإسلام والإيمان والإحسان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن من حقق أصل الإسلام لله عز وجل والإيمان به موعود بالجنة والنجاة من الخلود في النار
كما في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ثم يقول الله تعالى، أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردلٍ من إيمان …)) الحديث، رواه البخاري.
فإذا ركن المسلم لهذه الحقيقة واطمأن إليها فلا يمكنه إنكار أنه بإعراضه عن القرآن يحرم نفسه من جنة الدنيا، لإعراضه عن أسباب سعادته التي شرعها الله له، وأما الآخرة فالله عز وجل يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، هذا مع خسارته لكثير من فضل القرآن في الآخرة يطول ذكرها وليس هذا مقامها؛ وإنما أردتُ الإشارة لهذا المعنى لئلا يحتج أحد بأن آيات سورة الزخرف في المشركين بالأصل، فإن من تشبه بقوم نال من عقابهم، بمقدار تشبهه بهم.
قال الله عز وجل: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار}
وتأملوا المناسبة بين (ولا تركنوا) وجواب النهي (فتمسكم)!
قال ابن جرير الطبري: (يقول تعالى ذكره: ولا تميلوا، أيها الناس، إلى قول هؤلاء الذين كفروا بالله، فتقبلوا منهم وترضوا أعمالهم (فتمسكم النار) ، بفعلكم ذلك) اهـ
وأما مظاهر الإعراض عن القرآن فقد أجملها ابن القيم رحمه الله في الفوائد في خمسة أنواع:
(هجر القرآن أنواع:
أحدها هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه
والثاني هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به
والثالث هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم
والرابع هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه
والخامس هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلب وأدوائها فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به
وكل هذا داخل في قوله {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} وإن كان بعض الهجر أهون من بعض) اهـ.
وسأركز حديثي على ثلاثة مظاهر من مظاهر الإعراض عن القرآن تعظم فاقة الأمة بها، ويعظم حاجة الناس إلى بيان هدي القرآن في هذه المسائل:
الأولى: الإعراض عن القرآن في الاستشفاء من أدواء القلوب وعلل النفوس، والإقبال على شتى مدارس العلاج النفسي المستوحاة من الشرق أو الغرب !
قال الله عز وجل: {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظةٌ من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين}
والموصوف بهذه الصفات العظيمة هو القرآن
فإن كان الله عز وجل هو من وصفه بأنه شفاء لما في الصدور، لماذا تُعرض عنه وتقبل على كل زخرف من القول؟!
في القرآن حديث عن الحزن والخوف والغضب والأسف والأسى واليأس والقنوط وغيرها، وفيه حديث عن الفرح والسعادة والطمأنينة والأمن والرضا والصبر والشكر والهدى وغيرها، ما لو تأملنا الآيات التي وردت في سياقها وأمر الله عز وجل فيها، لعلمنا سبيل التعافي من علل النفوس وأدواء القلوب فإذا عملنا به وجدنا الشفاء بإذنه تعالى.
فأيهما خير؟!
منهج اللطيف الخبير العليم بذات الصدور، أم منهج الشرق المشرك المستوحى من البوذية والغرب الملحد الذي يقدس المادية ويؤله النفس من دون الله؛ ما لكم كيف تحكمون!
الثانية: الإعراض عن حجج القرآن وبراهينه في الدعوة إلى الله عز وجل:
تتنوع الحجج التي يستعملها الدعاة إلى الله عز وجل في دعوة غير المسلمين، أو الرد على الشبهات التي يُقصد بها فتنة المسلمين، ولا شك أن إحداث التكامل بين أنواع الحجج أفضل، لكن حديثي هنا عن الإسراف في تناول الحجج المنطقية والفلسفية، والإعراض عن حجج القرآن وفيها من الجمع بين مخاطبة الفكر والوجدان ما هو أكثر تأثيرًا من أي حجة أخرى، وسبق الإشارة لقصة إسلام جبير بن مطعم رضي الله عنه.
وقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فلا تطع الكافرين وجاهدهم بهِ جهادًا كبيرًا}
ومرجع الضمير في (بهِ) إلى القرآن
وكم سمعنا من قصص إسلام غير العرب بعد قراءتهم ترجمة معاني القرآن وكيف تأثر كل منهم بآية مختلفة أزالت عنه شكوكه وأقامت عليه الحجة
تأثر أحدهم بقصة آدم عليه السلام في سورة البقرة وبيّن كيف أرشدته إلى الغاية من الخلق وأنقذته من الإلحاد
وتأثر آخر بسورة الإخلاص، ولو سمعت ما فهمه من معانيها، وكيف أزالت شبهات الشرك كلها وأقامت عليه حجة وحدانية الله عز وجل، حتى قال عند قراءته للسورة - ما ترجمته - (هذه غيّرت حياتي)
بل إن أحدهم أسلم لمّا تعلم قول الله عز وجل: (واقتلوهم حيث ثقفتموهم …) الآيات.
لما رأى فيها من عزة الإسلام وعدله وأن دعوته للحرب ليست إلا لإقامة الحق لا لمجرد إراقة الدماء.
فلماذا نعرض عن هذا الحق المبين، وننشغل بإثبات مقدمات ونتائج منطقية معقدة وما في القرآن من حجج أهدى وأوضح وأقوى دلالة على الحق !
قال تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء}
الثالثة: الإعراض عن تعليم الأبناء معاني القرآن فضلا عن ظاهرة الإعراض عن تعليمهم القرآن أساسًا:
حُدِثت ممن أثق بها من المعلمات، أنها كان لديها حصة فارغة ليس بها أي نشاط تعليمي، فأرادت استغلالها في تعليم الأولاد سورة الفاتحة وهم ما بين سن خمس إلى سبع سنوات؛ فاستُدعيت من إدارة المدرسة - وهي ليست مَدرسة دولية بل مَدرسة عادية - وأنذرت، ونُبه عليها ألا تكرر هذا الفعل !
أما المدارس الدولية في بلادنا المسلمة، فحُدثت أنه ينبه على المدرسين المسلمين ألا يتكلموا بكلمة واحدة تشير إلى الدين ولو كان جميع من في الفصل من أبناء المسلمين !
والظاهرة الشائعة من الأسر التي تعتني بتعليم أبنائهم القرآن، أنهم يحرصون على تحفيظهم القرآن دون الحرص على بيان معانيه لهم، كما يغفلون عن تنشئتهم على حب تعلم كلام الله عز وجل، والإخلاص فيه، وإنما سبيلهم التباهي بمقدار ما حفظ، فتتخرج أجيال من حفظة القرآن لكن كم منهم عمل به؟ وكم منهم حمل هم الدعوة إليه والدعوة به؟!
ومنهج الصحابة رضوان الله عليهم كان التريث في تعليم القرآن للصبيان
روى البخاري في صحيحه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: (جمعتُ المحكم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم) قلت: وما المحكم، قال: (المفصل).
وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعُمرُ ابن عباس عشر سنين.
والمفصل من سورة ق إلى سورة الناس، فكانوا يحرصون على تعلم الصبيان قصار السور أولا.
قال ابن كثير في مقدمة تفسيره: (وقد استحب بعض السلف أن يترك الصبي في ابتداء عمره قليلا للعب، ثم توفر همته على القراءة، لئلا يلزم أولا بالقراءة فيملها ويعدل عنها إلى اللعب، وكره بعضهم تعليمهم القرآن وهو لا يعقل ما يقال له، ولكن يترك حتى إذا عقل وميز علم قليلا قليلا بحسب همته ونهمته وحفظه وجودة ذهنه، واستحب عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن يلقن خمس آيات خمس آيات، رويناه عنه بسند جيد)
وروى الطحاوي في مشكل الآثار والبيهقي في السنن الكبرى والحاكم في مستدركه عن زيد بن أبي أنيسة ، عن القاسم بن عوف ، قال: سمعت عبد الله بن عمر ، يقول: " لقد عشنا برهة من دهر وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يوقف عنده منها كما تعلمون أنتم اليوم القرآن ثم لقد رأيت اليوم رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ، ولا يدري ما آمره ، ولا زاجره ، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه وينتثره نثر الدقل "
والدقل تمر رديء، إذا نُثِر تفرق ولا يتلاصق.
وعبد الله بن عمر من صغار الصحابة، أسلم مع أبيه وهاجر معه، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وعُمرُه أربع وعشرون سنة أي أنه ابتدأ تعلم القرآن تقريبًا قبل سنة أربعة عشر سنة، ولم يكن قد ختم حفظه مع وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
فتأملوا الفرق البيّن بين طريقتنا في تعليم أبنائنا القرآن وطريقة الصحابة رضوان الله عليهم، تعلموا من أين أُتِينا!
أختم بهذا، وما كان من توفيق فمن الله وحده وما كان من خطإ فمني ومن الشيطان.
والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به.