سورة البلد
قال محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ): (سورة البلد
قوله تعالى: {لا أقسم بهذا البلد} [البلد: 1].
هذه الآية الكريمة يتبادر من ظاهرها أنه تعالى أخبر بأنه لا يقسم بهذا البلد -الذي هو مكّة المكرّمة-، مع أنه تعالى أقسم به في قوله: {وهذا البلد الأمين} [التين: 3].
والجواب من أربعة وجوه:
الأول: وعليه الجمهور: أنّ «لا» هنا صلةٌ على عادة العرب؛ فإنها ربّما لفظت بلفظة (لا) من غير قصد معناها الأصليّ، بل لمجرّد تقوية الكلام وتوكيده، كقوله: {ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا * ألاّ تتّبعن} [طه: 92-93] يعني: أن تتّبعني، وقوله: {ما منعك ألاّ تسجد} [الأعراف: 12] أي: أن تسجد على أحد القولين، ويدلّ له قوله في سورة (ص): {ما منعك أن تسجد لما خلقت} الآية [ص: 75]، وقوله: {لئلاّ يعلم أهل الكتاب} [الحديد: 29]. أي: ليعلم أهل الكتاب، وقوله: {فلا وربّك لا يؤمنون} [النساء: 65] أي: فوربّك، وقوله: {ولا تستوي الحسنة ولا السّيّئة} [فصلت: 34] أي: والسيئة، وقوله: {وحرامٌ على قريةٍ أهلكناها أنّهم لا يرجعون} [الأنبياء: 95] على أحد القولين، وقوله: {وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون} [الأنعام: 109] على أحد القولين، وقوله: {قل تعالوا أتل ما حرّم ربّكم عليكم ألاّ تشركوا} [الأنعام: 151] على أحد الأقوال الماضية.
وكقول أبي النّجم:
فما ألوم البيض إلاّ تسخرا ... لمّا رأين الشّمط القفندرا
يعني: أن تسخر.
وكقول الشاعر:
وتلحينني في اللهو أن لا أحبّه ... وللّهو داعٍ دائبٌ غير غافل
يعني: أن أحبّه. و(لا) زائدةٌ.
وقول الآخر:
أبى جوده لا البخل واستعجلت به ... نعم من فتًى لا يمنع الجود قاتله
يعني: أبى جوده البخل. و(لا) زائدةٌ، على خلاف في زيادتها في هذا البيت الأخير، ولا سيّما على رواية البخل بالجرّ؛ لأنّ (لا) عليها مضافٌ بمعنى لفظة (لا)، فليست زائدةً على رواية الجرّ.
وقول امرئ القيس:
فلا وأبيك ابنة العامري ... لا يدّعي القوم أنّي أفرّ
يعني: وأبيك.
وأنشد الفرّاء لزيادة (لا) في الكلام الذي فيه معنى الجحد.
وقول الشاعر:
ما كان يرضى رسول الله دينهم ... والأطيبان أبو بكرٍ ولا عمر
يعني: وعمر. و(لا) صلةٌ.
وأنشد الجوهريّ لزيادتها قول العجّاج:
في بئر لا حورٍ سرى وما شعر ... بإفكه حتّى رأى الصّبح جشر
فالحور: الهلكة. يعني: في بئر هلكةٍ. و (لا) صلةٌ. قاله أبو عبيدة وغيره.
وأنشد الأصمعيّ لزيادتها قول ساعدة الهذليّ:
أفعنك لا برقٌ كأنّ وميضه ... غاب تسنّمه ضرامٌ مثقّب
ويروى: «أفمنك»، و: «تشيّمه» بدل: «أفعنك»، و«تسنّمه».
يعني: أعنك برقٌ. و(لا) صلةٌ.
ومن شواهد زيادتها قول الشاعر:
تذكّرت ليلى فاعترتني صبابةٌ ... وكاد صميم القلب لا يتقطّع
يعني: كاد يتقطّع.
وأما استدلال أبي عبيدة لزيادتها بقول الشّمّاخ:
أعائش ما لقومك لا أراهم ... يضيّعون الهجان مع المضيّع
فغلطٌ منه؛ لأنّ (لا) في بيت الشّمّاخ هذا نافيةٌ لا زائدةٌ، ومقصوده أنها تنهاه عن حفظ ماله مع أنّ أهلها يحفظون مالهم، أي: لا أرى قومك يضيّعون مالهم، وأنت تعاتبينني في حفظ مالي.
وما ذكره الفرّاء من أنّ لفظة (لا) لا تكون صلةً إلاّ في الكلام الذي فيه معنى الجحد، فهو أغلبي لا يصحّ على الإطلاق؛ بدليل بعض الأمثلة المتقدّمة التي لا جحد فيها، كهذه الآية على القول بأنّ (لا) فيه صلةٌ، وكبيت ساعدة الهذليّ.
وما ذكره الزّمخشريّ من زيادة (لا) في أول الكلام دون غيره، فلا دليل عليه.
الوجه الثاني: أنّ (لا) نفيٌ لكلام المشركين المكذّبين للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقوله: {أقسم} إثباتٌ مستأنفٌ.
وهذا القول وإن قال به كثيرٌ من العلماء، فليس بوجيهٍ عندي؛ لقوله تعالى في سورة القيامة: {ولا أقسم بالنّفس اللّوّامة}؛ لأن قوله تعالى: {ولا أقسم بالنّفس اللّوّامة} يدلّ على أنه لم يرد الإثبات المؤتنف بعد النفي بقوله: {أقسم}، والله تعالى أعلم.
الوجه الثالث: أنها حرف نفيٍ أيضاً، ووجهه: أنّ إنشاء القسم يتضمّن الإخبار عن تعظيم المقسم به، فهو نفيٌ لذلك الخبر الضّمنيّ على سبيل الكناية، والمراد: أنه لا يعظّم بالقسم، بل هو في نفسه عظيمٌ أقسم به أو لا.
وهذا القول ذكره صاحب الكشّاف وصاحب روح المعاني، ولا يخلو عندي من بعدٍ.
الوجه الرابع: أنّ اللام لام الابتداء أشبعت فتحتها، والعرب ربّما أشبعت الفتحة بألفٍ والكسرة بياءٍ والضّمّة بواوٍ.
فمثاله في الفتحة قول عبد يغوث بن وقّاصٍ الحارثيّ:
وتضحك منّي شيخةٌ عبشميّة ... كأنّ لم ترى قبلي أسيراً يمانيّا
فالأصل: كأن لم تر. ولكنّ الفتحة أشبعت.
وقول الراجز:
إذا العجوز غضبت فطلّق ... ولا ترضاها ولا تملّق
فالأصل: ترضها؛ لأنّ الفعل مجزومٌ بلا الناهية.
وقول عنترة في معلّقته:
ينباع من ذفرى غضوبٍ جسرةٍ ... زيّافةٍ مثل الفنيق المكدم
فالأصل: ينبع. يعني: أنّ العرق ينبع من عظم الذّفرى من ناقته، فأشبع الفتحة فصار ينباع، على الصحيح.
وقول الراجز:
قلت وقد خرّت على الكلكال ... يا ناقتي ما جلت من مجالي
فقوله: (الكلكال) يعني: الكلكل.
وليس إشباع الفتحة في هذه الشواهد من ضرورة الشّعر؛ لتصريح علماء العربية بأنّ إشباع الحركة بحرفٍ يناسبها أسلوبٌ من أساليب اللغة العربية؛ ولأنّه مسموعٌ في النّثر، كقولهم: كلكالٌ، وخاتامٌ، وداناقٌ. يعنون: كلكلاً وخاتماً ودانقاً.
ومثاله في إشباع الضمّة بالواو، وقولهم: برقوعٌ ومعلوقٌ. يعنون: برقعاً ومعلّقاً.
ومثال إشباع الكسرة بالياء قول قيس بن زهيرٍ:
ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد
فالأصل: يأتك؛ لمكان الجازم.
وأنشد له الفرّاء:
لا عهد لي بنيضال ... أصبحت كالشّنّ البال
ومنه قول امرئ القيس:
كأني بفتخاء الجناحين لقوّةٍ ... على عجلٍ منّي أطأطئ شيمالي
ويروى: صيودٌ من العقبان طأطأت شيمالي.
ويروى: دفوفٌ من العقبان ... إلخ.
ويروى: شملالٌ بدل شيمالٍ. وعليه فلا شاهد في البيت، إلاّ أنّ رواية الياء مشهورةٌ.
ومثال إشباع الضّمّة بالواو قول الشاعر:
هجوت زبّان ثمّ جئت معتذراً ... من هجو زبّان لم تهجو ولم تدع
وقول الآخر:
الله أعلم أنّا في تلفّتنا ... يوم الفراق إلى إخواننا صور
وإنّني حيثما يثني الهوى بصري ... من حيثما سلكوا أدنوا فأنظور
يعني: فأنظر.
وقول الراجز:
لو أنّ عمراً همّ أن يرقودا ... فانهض فشدّ المئزر المعقود
يعني: يرقد.
ويدلّ لهذا الوجه قراءة قنبلٍ (لأقسم بهذا البلد) بلام الابتداء. هو مرويٌّ عن البزّيّ والحسن. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {أو مسكيناً ذا متربةٍ} [البلد: 16].
يدلّ ظاهره على أنّ المسكين لاصقٌ بالتّراب ليس عنده شيءٌ، فهو أشدّ فقراً من مطلق الفقير، كما ذهب إليه مالكٌ وكثيرٌ من العلماء.
وقوله تعالى: {أمّا السّفينة فكانت لمساكين يعملون} الآية [الكهف: 79] يدلّ على خلاف ذلك؛ لأنه سمّاهم مساكين مع أنّ لهم سفينةً عاملةً للإيجار.
والجواب عن هذا محتاجٌ إليه على كلا القولين.
أمّا على قول من قال: إن المسكين من عنده ما لا يكفيه، كالشافعيّ؛ فالذي يظهر لي أنّ الجواب أنه يقول: المسكين عند الإطلاق ينصرف إلى من عنده شيءٌ لا يكفيه، فإذا قيّد بما يقتضي أنه لا شيء عنده فذلك يعلم من القيد الزائد لا من مطلق لفظ المسكين.
وعليه، فالله في هذه الآية قيّد المسكين بكونه ذا متربةٍ، فلو لم يقيّده لانصرف إلى من عنده ما لا يكفيه، فمدلول اللفظ حالة الإطلاق لا يعارض بمدلوله حالة التّقييد.
وأمّا على قول من قال: بأنّ المسكين أحوج من مطلق الفقير، وأنه لا شيء عنده، فيجاب عن آية الكهف بأجوبةٍ:
منها: أنّ المراد بقوله: {مساكين} أنهم قومٌ ضعافٌ لا يقدرون على مدافعة الظّلمة، ويزعمون أنّهم عشرةٌ، خمسةٌ منهم زمنى.
ومنها: أنّ السفينة لم تكن ملكاً لهم، بل كانوا أجراء فيها، أو أنها عاريةٌ، واللام للاختصاص.
ومنها: أنّ اسم المساكين أطلق عليهم ترحّماً؛ لضعفهم.
والذي يظهر لمقيّده عفا الله عنه: أنّ هذه الأجوبة لا دليل على شيءٍ منها؛ فليس فيها حجّةٌ يجب الرّجوع إليها.
وما احتجّ به بعضهم من قراءة عليٍّ رضي الله عنه: (لمسّاكين) بتشديد السين، جمع تصحيحٍ لمسّاكٍ بمعنى الملاح، أو دابّة المسّوك التي هي الجلود فلا يخفى سقوطه؛ لضعف هذه القراءة وشذوذها.
والذي يتبادر إلى ذهن المنصف أنّ مجموع الآيتين دلّ على أنّ لفظ (المسكين) مشكّكٌ؛ لتفاوت أفراده، فيصدق بمن عنده ما لا يكفيه بدليل آية الكهف، ومن هو لاصقٌ بالتّراب لا شيء عنده بدليل آية البلد، كاشتراك الشّمس والسراج في النّور مع تفاوتهما، واشتراك الثّلج والعاج في البياض مع تفاوتهما.
والمشكّك إذا أطلق ولم يقيّد بوصف الأشدّيّة انصرف إلى مطلقه.
هذا ما ظهر: والعلم عند الله تعالى.
والفقير أيضاً قد تطلقه العرب على من عنده بعض المال، كقول مالكٍ.
ومن شواهده قول راعي نميرٍ:
أمّا الفقير الّذي كانت حلوبته ... وفق العيال فلم يترك له سبد
فسمّاه فقيراً مع أنّ عنده حلوبةً قدر عياله). [دفع إيهام الاضطراب: 355-363]