بَابُ فَضْلِ الجَمَاعَةِ وَوُجُوبِهَا
58 - الحَديثُ الأَوَّلُ: عَن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: (( صَلاةُ الجَماعةِ أفْضَلُ مِن صَلاةِ الفَذِّ بسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً )).
الكَلامُ عليهِ مِن وُجوهٍ :
أحَدُهُا: اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ صَلاةِ الفَذِّ، وَأنَّ الجَمَاعةَ لَيسَتْ بِشَرْطٍ. وَوَجْهُ الدَّليلِ مِنْهُ: أنَّ لَفْظَةَ ((أَفْعَلَ)) تَقْتَضِي وُجودَ الاشْتِرَاكِ فِي الأَصْلِ معَ التَّفاضُلِ فِي أَحَدِ الجَانِبَينِ. وَذَلِكَ يقتَضِي وُجودَ فَضِيلَةٍ فِي صَلاةِ الفَذِّ. وَمَا لا يَصِحُّ فَلا فَضِيلَةَ فِيهِ. وَلا يُقَالُ: إِنَّهُ قَد وَرَدَتْ صِيغَةُ ((أَفْعَلَ)) مِن غَيرِ اشتراكٍ فِي الأصْلِ. لأنَّ هَذَا إِنَّما يَكُونُ عِندَ الإِطْلاقِ.
وَأَمَّا التَّفَاضُلُ بِزِيادَةِ عَددٍ فَيَقْتَضِي بياناً. وَلابُدَّ أنْ يكونَ ثَمَّةَ جُزْءٌ مَعْدُودٌ يَزِيدُ عَليهِ أجْزَاءٌ أُخَرُ. كَمَا إِذَا قُلْنَا: هَذَا العَددُ يَزِيدُ عَلَى ذَاكَ بِكَذَا وَكَذَا مِن الآحَادِ. فَلاَبُدَّ مِن وُجُودِ أَصْلِ العَدَدِ، وَجُزْءٍ مَعْلُومٍ فِي الآخَرِ، وَمِثْلُ هَذَا. وَلَعَلَّهُ أَظْهَرُ مِنْهُ: مَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الأُخْرَى ((تَزِيدُ عَلَى صَلاتِهِ وَحدَهُ، أَو تُضَاعَفُ)) فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي ثُبُوتَ شَيءٍ يُزَادُ عَلَيْهِ، وَعَدَداً يُضَاعَفُ. نَعَمْ يُمْكِنُ مَن قَالَ بِأنَّ صَلاةَ الفَذِّ مِن غَيْرِ عُذْرٍ لا تَصِحُّ - وَهُوَ دَاوُدُ عَلَى ما نُقِلَ عَنْهُ - أنْ يَقُولَ: التَّفَاضُلُ يَقَعُ بَينَ صَلاةِ المَعْذُورِ فَذّّاً وَالصَّلاةُ فِي جَمَاعَةٍ. وَلَيسَ يَلْزمُ إذَا وَجَدْنَا مَحْمَلاً صَحِيحاً لِلحَدِيثِ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ.
وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ ((الفَذَّ)) مُعرَّفٌ بِالألِفِ واللاَّمِ. فإذا قُلْنا بِالعُمُومِ دَلَّ ذَلكَ عَلَى فَضِيلَةِ صَلاةِ الجماعةِ عَلَى صلاةِ كُلِّ فَذٍّ. فَيدخلُ تَحْتَهُ الفَذُّ المُصَلِّي مِن غَيرِ عُذْرٍ.
الثَّانِي: قَد وَرَدَ فِي هَذَا الحَدِيثِ التَّفْضِيلُ ((بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً))، وَفِي غَيْرِهِ التَّفْضِيلُ ((بِخَمْسٍ وَعِشْرينَ جُزْءاً)) فَقِيلَ فِي طَرِيقِ الجَمْعِ: إِنَّ الدَّرَجَةَ أَقَلُّ مِن الجُزْءِ، فَتَكُونُ الخَمْسُ وَالعِشْرُونَ جُزْءاً سَبْعاً وَعِشْرِينَ دَرَجَةً. وَقِيلَ: بَل هِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ الجَمَاعَاتِ، وَأَوْصَافِ الصَّلاةِ. فَمَا كَثُرَتْ فَضِيلَتُهُ عَظُمَ أَجْرُهُ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَخْتَلِفَ بِاخْتِلافِ الصَّلَواتِ. فَمَا عَظُمَ فَضْلُهُ مِنْهَا عَظُمَ أجْرُهُ. وَمَا نَقَصَ عَن غَيْرِهِ نَقَصَ أَجْرُهُ. ثُمَّ قِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ: الزِّيَادَةُ لِلصُّبْحِ وَالعَصْرِ. وَقِيلَ: لِلصُّبْحِ وَالعِشَاءِ. وقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَخْتِلَفَ بِاخْتِلاَفِ الأَمَاكِنِ كَالمَسْجِدِ مَعَ غَيْرِهِ.
الثَّالِثُ: قَد وَقَعَ بَحْثٌ فِي أَنَّ هَذِهِ ((الدَّرَجَاتِ)) هَلْ هِيَ بِمَعْنَى الصَّلَوَاتِ؟ فَتَكُونُ صَلاةُ الجَمَاعَةِ بِمَثَابَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ صَلاةً، أَو سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ يُقالُ: إِنَّ لَفْظَ ((الدَّرَجَةِ)) وَ ((الجُزْءِ)) لا يَلْزَمُ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ بِمِقْدَارِ الصَّلاةِ؟ وَالأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ؛ لأَنَّهُ وَرَدَ مُبَيَّناً فِي بَعْضِ الرِّوايَاتِ وَكَذَلِكَ لَفْظُهُ ((تُضَاعَفُ)) مُشْعِرٌ بِذَلكَ.
الرَّابِعُ: اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى تَسَاوِي الجَمَاعَاتِ فِي الفَضْلِ. وُهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ. قِيلَ: وَجْهُ الاسْتِدْلالِ بِهِ: أنَّهُ لا مَدْخَلَ لِلقِياسِ فِي الفَضْلِ. وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الحَدِيثَ إِذَا دَلَّ عَلَى الفَضْلِ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، مَعَ امْتِنَاعِ القِيَاسِ، اقْتَضَى ذَلِكَ الاسْتِوَاءَ فِي العَدَدِ المَخْصُوصِ. وَلَوْ قُرِّرَ هَذَا بِأَنْ يُقَالَ: دَلَّ الحَدِيثُ عَلَى فَضِيلَةِ صَلاةِ الجَمَاعَةِ بِالعَدَدِ المُعَيَّنِ، فَتَدْخُلُ تَحْتَهُ كُلُّ جَمَاعَةٍ، وَمِن جُمْلَتِهَا: الجَمَاعَةُ الكُبْرَى وَالجَمَاعَةُ الصُّغْرَى. وَالتَّقْدِيرُ فِيهِمَا وَاحِدٌ بِمُقْتضَى العُمُومِ - كَانَ لَهُ وَجْهٌ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: زِيَادَةُ الفَضِيلَةِ بِزِيَادَةِ الجَمَاعَةِ , وَفيهِ حديثٌ مُصَرِّحٌ بِذلكَ ذَكَرهُ أَبُو دَاوُدَ (( صَلاةُ الرَّجلِ معَ الرَّجُلِ أَفْضَلُ مِن صَلاتِهِ وَحْدَهُ. وَصَلاتُهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَفْضَلُ مِن صَلاتِهِ مَع الرَّجُلِ )) الحَدِيثُ. فَإنْ صَحَّ مِن غَيْرِ عِلَّةٍ فَهُو مُعْتَمدٌ.
59 - الحَدِيثُ الثَّانِي: عَن أبِي هُرَيْرَةَ َرَضِيَ اللهُ عَنْهَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( صَلاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تُضَعَّفُ عَلَى صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفي سُوقِهِ خَمْساً وَعِشْرِينَ ضِعْفاً، وَذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ، فأَحْسَنَ الوضُوءَ. ثُمَّ خَرَجَ إلى المَسْجِدِ لا يُخْرِجُهُ إِلاَّ الصَّلاةُ لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إِلاَّ رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وحُطَّ عَنْهُ خَطِيْئَةٌ. فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلِ المَلاَئِكَةُ تُّصَلِّي عَلَيْهِ، مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، وَلاَ يَزَالُ فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلاةَ)).
الكَلامُ عَلَيْهِ مِن وُجُوهٍ.
أحَدُهَا: أنَّ لِقَائِلٍ أنْ يَقُولَ: هَذَا الثَّوَابُ المُقَدَّرُ لا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ صَلاةِ الجَمَاعَةِ فِي البَيْتِ. وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى ثَلاثِ قَوَاعِدَ.
الأُولَى: أنَّ اللَّفْظَ - أَعْنِي قَولَهُ ((وَذَلِكَ)) - أنَّهُ يَقْتَضِي تَعْلِيلَ الحُكْمِ السَّابِقِ. وَهَذَا ظَاهِرٌ، لأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَذَلِكَ لأنَّهُ. وَهُوَ مُقْتَضٍ للتَّعْليلِ. وَسِيَاقُ هَذَا اللَّفْظِ فِي نَظَائِرِ هَذَا اللَّفْظِ يَقْتَضِي ذَلِكِ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ مَحَلَّ الحُكْمِ لابُدَّ أَنْ تَكُونَ عِلَّتُهُ مَوْجُودَةً فِيهِ. وَهَذَا أَيْضاً مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهُو ظَاهِرٌ أَيضاً؛ لأَنَّ العِلَّةَ لَو لَم تَكْن مَوْجُودَةً فِي مَحَلِّ الحُكْمِ لَكَانَتْ أَجْنَبِيَّةً عَنْهُ. فَلا يَحْصُلُ التَّعلِيلُ بِهَا.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَا رُتِّبَ عَلَى مَجْمُوعٍ لَمْ يَلْزَمْ حُصُولُهُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ المَجْمُوعِ , إِلاَّ إِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى إِلْغَاءِ بَعْضِ ذَلِكَ المَجْمُوعِ، وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِ. فَيَكُونُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ وَيَبْقَى مَا عَدَاهُ مُعْتَبَراً. لا يَلْزَمُ أَنْ يَتَرَتَّبَ الحُكْمُ عَلَى بَعْضِِهِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ القَوَاعِدُ فاللَّفْظُ يَقْتَضِي أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِمُضَاعَفَةِ صَلاةِ الرَّجُلِ فِي الجَمَاعَةِ عَلَى صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَسُوقِهِ بِهَذَا القَدْرِ المُعَيَّنِ. وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِاجْتِمَاعِ أُمُورٍ :
مِنْهَا: الوُضُوءُ فِي البَيْتِ، وَالإحْسَانُ فِيهِ، وَالمَشْيُ إِلى الصَّلاةِ لِرَفْعِ الدَّرجاتِ. وَصَلاةُ المَلائِكَةِ عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ. وَإِذَا عُلِّلَ هَذَا الحُكْمُ بِاجْتِمَاعِ هَذِهِ الأُمُورِ، فَلابُدَّ أَنْ يَكونَ المُعْتَبَرُ مِن هَذِهِ الأمُورِ مَوجُوداً فِي مَحَلِّ الحُكْمِ. وَإذا كَانَ مَوْجُوداً فَكُلُّ مَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبراً مِنْهَا .
فَالأَصْلُ: أَنْ لا يَتَرَتَّبَ الحُكْمُ بِدُونِهِ. فَمَن صَلَّى فِي بَيْتِِهِ فِي جَمَاعَةٍ لَم يَحْصُلْ فِي صَلاتِهِ بَعْضُ هَذَا المَجْموعِ، وَهُو المَشْيُ الَّذِي بِهِ تُرْفَعُ لَهُ الدَّرَجَاتُ وَتُحَطُّ عَنْهُ الخَطِيئاتُ. فَمقْتَضَى القِياسِ: أنْ لا يَحْصُلَ هَذَا القَدْرُ مِن المُضَاعَفَةِ لَهُ. لأنَّ هَذَا الوَصْفَ - أَعْنِي المَشْيَ إِلَى المَسْجِدِ، مَعَ كَونِهِ رَافِعاً للدَّرَجَاتِ، حَاطّاً لِلخَطِيئاتِ - لا يُمْكِنُ إِلْغَاؤهُ. وَهَذَا مُقْتَضَى القِياسِ فِي هَذَا اللَّفْظِ، إِلاَّ أنَّ الحَدِيثَ الآخَرَ - وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِي تَرْتِيبَ هَذَا الحُكْمِ عَلَى مُطْلَقِ صَلاةِ الجَمَاعةِ -: يَقْتَضِي خِلافَ مَا قُلْنَاهُ، وَهُو حُصُولُ هَذَا المِقْدَارِ مِن الثَّوابِ لِمَن صَلَّى جَمَاعةً فِي بيتِهِ. فَيَتَصَدَّى النَّظَرُ فِي مَدْلُولِ كُلِّ وَاحِدٍ مِن الحَدِيثَينِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى العُمُومِ وَالخُصُوصِ. وَرُوِيَ عَن أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ رِوَايةٌ: أَنَّهُ لَيْسَ يَتَأَدَّى الفَرْضُ فِي الجَمَاعَةِ بِإِقَامَتِهَا فِي البُيُوتِ، أوْ مَعْنى ذَلِكَ. وَلَعَلَّ هَذَا نَظراً إلى ما ذَكَرْنَاهُ.
البَحْثُ الثَّانِي: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ: أمْرٌ يَرْجِعُ إلى المُفاضَلَةِ بينَ صَلاةِ الجماعةِ فِي المَسَاجِدِ والانْفِرادِ. وهلْ يَحْصُلُ للمُصَلِّي فِي البُيُوتِ جَمَاعةً هَذَا المِقدارُ مِن المُضَاعَفَةِ أمْ لا؟ وَالَّذِي يَظْهَرُ مِن إطْلاقِهِمْ: حُصُولُهُ. وَلَسْتُ أَعْنِي أَنَّهُ لا تَفْضُلُ صَلاةُ الجَمَاعَةِ فِي البَيْتِ عَلَى الانْفِرَادِ فِيهِ. فَإِنَّ ذَلِكَ لا شَكَّ فِيهِ. إنَّمَا النَّظَرُ: فِي أَنَّهُ هَل يَتَفَاضَلُ بِهَذَا القَدْرِ المَخْصُوصُ أم لا؟ ولا يَلْزَمُ مِن عَدَمِ هَذَا القَدْرِ المَخصُوصِ مِن الفَضِيلَةِ: عَدَمُ حُصُولِ مُطْلَقِ الفَضِيلَةِ. وَإنَّما تَرَدَّدَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ إِقَامَةَ الجَمَاعَةِ فِي غَيرِ المَسَاجِدِ هَل يتَأدَّى بِهَا المَطْلُوبُ؟ فَعَنْ بَعْضِهِم: أنَّهُ لا يَكْفِي إقَامَةُ الجمَاعةِ فِي البُيُوتِ فِي إقَامَةِ الفَرْضِ، أَعْنِي إذا قُلْنَا: إنَّ صَلاةَ الجَمَاعَةِ فَرْضٌ عَلَى الكِفَايةِ. وَقالَ بَعْضُهُم: يَكْفِي إذَا اشْتَهَرَ، كَمَا إِذَا صَلَّى صَلاةَ الجَمَاعةِ فِي السُّوقِ مَثَلاً. وَالأوَّلُ عِنْدِي أصَحُّ. لأنَّ أَصْلَ المَشْرُوعِيَّةِ إنَّما كَانَ فِي جَمَاعَةِ المَسَاجِدِ. هَذَا وَصْفٌ مُعْتَبَرٌ لا يَتَأتَّى إلغَاؤُهُ. وَلَيْسَت هَذه المَسْأَلَةُ هِيَ الَّتِي صَدَّرْنَا بِهَا هَذَا البَحْثَ أَوَّلاً. لأنَّ هذه نَظْرةٌ فِي أنَّ إِقَامةَ الشِّعارِ هلْ تَتَأدَّى بِصَلاةِ الجَمَاعَةِ فِي البُيُوتِ أم لا؟ وَالَّذِى بَحَثْنَاهُ أوَّلاً: هُوَ أَنَّ صَلاةَ الجَمَاعَةِ فِي البَيْتِ هَل تَتَضَاعَفُ بِالقَدْرِ المَخْصُوصِ أم لا؟
البَحْثُ الثَّالِثُ: قَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: (( صَلاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعةٍ تُضَعَّفُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ ))، يتَصَدَّى النَّظرُ هُنا: هلْ صلاتُهُ فِي جَماعةٍ فِي المَسْجِدِ تَفْضُلُ عَلَى صَلاتِهِ فِي بَيتِهِ وَسُوقِهِ جَمَاعَةً، أو تَفْضُلُ عَلَيهَا مُنْفَرِداً؟. أَمَّا الحَدِيثُ: فَمُقْتضَاهُ أنَّ صَلاتَهُ فِي المَسْجدِ جَمَاعةً تَفْضُلُ عَلَى صَلاتِهِ فِي بَيْتِه وَسُوقِهِ جَمَاعَةً وَفُرَادَى بِهَذَا القَدْرِ. لأنَّ قَولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: (( صَلاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ)) مَحْمُولٌ عَلَى الصَّلاةِ فِي المَسْجِد. لأنَّهُ قُوبِلَ بِالصَّلاةِ فِي بَيْتِهِ وَسُوقِهِ. وَلو جَريْنَا عَلَى إطْلاقِ اللَّفظِ: لَم تَحصُلِ الْمُقابلةُ. لأنَّهُ يكونُ قَسمَ الشَّيءَ قِسْماً مِنْهُ. وهوَ بَاطِلٌ. وَإذَا حُمِلَ عَلَى صَلاتِهِ فِي المَسْجِدِ، فَقَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: ((صَلاتُهُ فِي بَيْتِهِ وَسُوقِهِ)) عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الأفْرَادَ وَالجَمَاعَةَ. وَقَد أَشَارَ بَعْضُهمْ إِلى هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلى الانْفِرَادِ فِي المَسْجِدِ وَالسُّوقِ مِن جِهَةِ مَا وَرَدَ أَنَّ ((الأسْوَاقَ مَوضِعُ الشَّيَاطِينِ))، فَتَكُونُ الصَّلاةُ فِيهَا نَاقِصَةُ الرُّتْبةِ، كَالصَّلاةِ فِي المَواضِعِ المَكْرُوهَةِ لأَجْلِ الشَّياطِينِ، كالحَمَّامِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ - وَإنْ أَمْكَنَ فِي السَّوقِ - لَيسَ يَطَّرِدُ فِي البَيتِ. فَلا يَنْبَغِي أَنْ تَتَساوَى فَضِيلَةُ الصَّلاةِ فِي البَيتِ جَمَاعَةً مَع فَضِيلَةِ الصَّلاةِ فِي السُّوقِ جَمَاعةً، فِي مِقْدَارِ الفَضِيلَةِ الَّتِي لا تُوجَدُ إِلاَّ بِالتَّوقِيفِ. فَإِنَّ الأَصْلَ: أَنْ لا يَتَسَاوَى مَا وُجِدَ فِيهِ مَفْسَدةٌ مُعيَّنَةٌ مَعَ مَا لَم تُوجَدْ فِيهِ تِلكَ المَفْسَدَةُ.
هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِمُقْتَضى اللَّفظِ وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ مِمَّا يَقْتَضِيهِ السِّياقُ: أنَّ المُرَادَ تَفْضِيلُ صَلاةِ الجَمَاعَةِ فِي المَسجدِ عَلَى صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَسُوقِهِ مُنْفِرداً: فكأنَّهُ خَرجَ مخْرجَ الغالبِ فِي أنَّ مَن لمْ يحْضُر الجماعةَ فِي المسجدِ صَلَّى مُنفرِداً.
وَبِهَذَا يرتَفِعُ الإشْكالُ الَّذِي قدَّمناهُ من استبْعادِ تَساوِي صلاتِهِ فِي البيتِ معَ صلاتِهِ فِي السُّوقِ جماعةً فيهما، وذلكَ لأنَّ مَن اعتَبَرَ مَعْنَى السُّوقِ، معَ إقامةِ الجماعةِ فِيهِ. وجَعَلَهُ سَبباً لنُقْصانِ الجماعةِ فيهِ عن الجماعةِ فِي المسجدِ. يَلْزَمُهُ تساوي ما وُجِدَتْ فِيهِ مَفْسَدةٌ مُعتبَرةٌ معَ ما لمْ تُوجَدْ فيهِ تلكَ المَفْسَدةُ فِي مِقدارِ التَّفاضلِ. أمَّا إذا جَعَلنَا التَّفَاضُلَ بينَ صلاةِ الجماعةِ فِي المسجدِ وَصلاتِهَا فِي البيتِ والسُّوقِ مُنْفَرداً، فَوَصْفُ ((السُّوقِ)) هَهُنا مُلْغَىً، غيرُ مُعْتَبرٍ. فلا يلزمُ تساوي ما فيهِ مفسدةٌ معَ ما لا مفْسدةَ فيهِ فِي مِقدارِ التَّفاضُلِ. والَّذِي يُؤيِّدُ هَذَا: أَنَّهُم لَم يَذْكُروا السُّوقَ فِي الأماكنِ المَكْرُوهَةِ للصَّلاةِ. وَبِهَذَا فَارقَ الحَمَّامُ المُسْتَشْهَدُ بِهَا.
البَحْثُ الرَّابعُ: قَد قدَّمنا أنَّ الأَوْصافَ الَّتِي يُمْكِنُ اعتبارُها لا تُلْغَى. فَلْيُنْظَر الأوصافَ المَذْكُورَةَ فِي الحديثِ، وما يمكنُ أنْ يُجْعَلَ مُعتبَراً مِنْهَا ومَا لا.
أمَّا وَصْفُ الرُّجُولِيَّةِ: فَحَيْثُ يُنْدَبُ لِلمَرْأةِ الخُرُوجُ إلى المسجدِ، يَنْبَغي أنْ تَتسَاوى معَ الرَّجلِ، لأنَّ وصْفَ الرُّجُولِيَّةِ بالنِّسبةِ إلى ثَوابِ الأَعْمَالِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعاً.
وَأمَّا الوُضُوءُ فِي البيتِ: فَوصْفُ كَونِهِ فِي البيتِ غَيرَ دَاخِلٍ فِي التَّعلِيلِ.
وأمَّا الوُضُوءُ: فمُعْتَبَرٌ للْمنَاسَبةِ، لَكِنْ هل المقْصودُ منهُ مُجرَّدُ كَونهِ طاهِراً، أوْ فِعْلُ الطَّهَارةِ؟ فِيهِ نَظَرٌ. وَيَتَرَجَّحُ الثَّاني بِأنَّ تجْدِيدَ الوضوءِ مُسْتَحبٌ، لَكِنَّ الأَظْهَرَ: أنَّ قولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إذا تَوضَّأَ )) لا يَتَقيَّدُ بِالفِعلِ. وإنَّمَا خَرَجَ مَخْرَجَ الغَلَبَةِ، أو ضَرْبِ المِثالِ.
وَأمَّا إِحْسانُ الوُضُوءِ: فَلا بُدَّ مِن اعْتِبَارِهِ. وَبِهِ يُسْتدلُّ عَلَى أنَّ المُرادَ فِعْلُ الطَّهارةِ. لَكِنْ يبْقى مَا قُلْناهُ: من خُرُوجِهِ مَخْرجَ الغَالِبِ، أو ضَرْبِ المِثَالِ. وأما خُرُوجُهُ إلى الصَّلاةِ: فَيُشْعِرُ بأنَّ الخروجَ لأجلِهَا. وقدْ وردَ مُصَرَّحاً بهِ فِي حديثٍ آخرَ ((لا يَنْهَزُهُ إِلاَّ الصَّلاةُ)) وهَذَا وصْفٌ مُعْتَبرٌ. وأما صَلاتُهُ معَ الجماعةِ: فبِالضَّرورةِ لابُدَّ مِن اعْتِبارِها. فإنَّها مَحَلُّ الحُكْمِ.
البَحْثُ الخَامسُ: الخُطْوةُ - بِضَمِّ الخاءِ - مَا بينَ قَدَمَيِ المَاشِي، وبِفَتْحِهَا: الْفَعْلَةُ. وفي هَذَا المَوْضِعِِ هِيَ مَفْتُوحةٌ، لأنَّ المُرَادَ فِعْلُ الْمَاشي.
60 - الحَديثُ الثالِثُ: عن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( أثْقَلُ الصَّلاَةِ عَلَى المنافِقِينَ: صَلاَةُ الْعِشَاءِ، وَصَلاَةُ الْفَجْرِ. وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً. وَلَقَد همَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَتُقَامَ، ثمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثمَّ أَنْطَلِقَ مَعِيَ بِرِجالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إلى قَوْمٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلاَةَ، فأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ )).
الكلامُ عَلَيهِ مِن وجُوهٍ :
أحدُهَا: قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَثْقَلُ الصَّلاةِ))، مَحْمولٌ عَلَى الصلاةِ فِي جماعةٍ، وإنْ كانَ غيرَ مَذْكورٍ فِي اللَّفْظِ. لِدلالةِ السِّياقِ عليهِ. وقولُهُ عَلَيهِ السَّلامُ: ((لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً)) وَقَولُهُ: ((وَلَقد هَمَمْتُ)) إِلَى قَولِهِ: ((لا يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ)) كُلُّ ذلكَ مُشْعِرٌ بأنَّ المَقْصُودَ: حُضُورُهمْ إلى جماعةِ المَسْجِدِ.
الثَّانِي: إنَّمَا كانتْ هَاتَانِ الصَّلاتَانِ أثْقلَ عَلَى المنافِقينَ. لقُوَّةِ الدَّاعِي إلى تَرْكِ حُضُورِ الجَمَاعةِ فيهِمَا، وَقُوَّةِ الصَّارِفِ عَن الحُضورِ. أَمَّا العِشاءُ: فَلأَنَّهَا وقتُ الإيواءِ إلى البُيوتِ والاجتماعِ معَ الأهْلِ، واجتماعِ ظُلْمةِ الْلَيلِ، وطَلبِ الرَّاحةِ مِن مَتاعبِ السَّعْي بالنَّهارِ.
وأمَّا الصُّبْحُ: فَلأنَّهَا فِي وقْتِ لَذَّةِ النَّومِ. فَإِنْ كَانت فِي زَمنِ البَرْدِ فَفِي وَقْتِ شِدَّتهِ، لِبُعدِ العَهْدِ بالشَّمسِ، لِطُولِ الْلَيلِ، وَإنْ كَانَتْ فِي زَمَنِ الحَرِّ: فهوَ وقْتُ البَرْدِ والرَّاحةِ مِن أثَرِ حَرِّ الشَّمْسِ لبُعدِ العَهْدِ بِهَا. فَلَمَّا قَوِيَ الصَّارفُ عَن الفِعْلِ ثَقُلتْ عَلَى المُنافقينَ. وأمَّا المُؤمِنُ الكَامِلُ الإيمانِ: فهوَ عالِمٌ بِزِيادَةِ الأجْرِ لزِيادةِ المَشقَّةِ. فتكونُ هذهِ الأمورُ داعيةً لَهُ إِلَى هَذَا الفِعْلِ، كَمَا كَانت صَارِفَةً للمُنَافقينَ. وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهمَا)) أَي مِن الأجْرِ وَالثَّوابِ ((لأَتَوهُمَا وَلَوْ حَبْواً)) وَهَذَا كَمَا قُلْنا: إنَّ هذهِ المشقَّاتِ تَكُونُ دَاعِيَةً للمُؤْمنِ إلى الفِعْلِ.
الثَّالِثُ: اخْتلفَ العُلماءُ فِي الجَمَاعةِ فِي غيْرِ الجُمُعةِ. فَقِيلَ: سُنَّةٌ. وَهُو قَوْلُ الأكثرينَ. وقِيلَ: فَرْضُ كِفَايةٍ , وَهُوَ قَولٌ فِي مَذْهبِ الشَّافِعِيِّ وَمالِكٍ. وقِيلَ: فَرْضٌ عَلَى الأعْيانِ.
قَد اختَلَفُوا بعد ذلكَ. فقِيلَ: شرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلاةِ. وهوَ مَرْويٌّ عن دَاوُدَ. وقِيلَ: إِنَّهُ رِوَايَةٌ عَن أحَمْدَ. وَالمَعْرُوفُ عَنْهُ: أنَّها فَرْضٌ عَلَى الأعْيانِ. وَلَكِنَّها لَيسَت بِشَرْطٍ. فمَنْ قَالَ بِأنَّها واجبةٌ عَلَى الأعيانِ: قَد يُحْتَجُّ بهَذَا الحديثِ , فإنَّهُ إنْ قِيلَ بأنَّهَا فرْضُ كفايةٍ، فَقد كانَ هَذَا الفَرْضُ قَائماً بِفِعْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومَنْ مَعَهُ. وَإنْ قِيلَ: إنَّها سُنَّةٌ، فَلا يُقْتَلُ تَارِكُ السُّنَنِ. فَيَتعَيَّنُ أنْ تكونَ فَرضاً عَلَى الأعْيَانِ.
وَقَد اخْتُلِفَ فِي الجَوابِ عَن هَذَا عَلَى وُجُوهٍ فقِيلَ: إنَّ هَذَا فِي المُنَافِقينَ، ويَشْهدُ لَهُ ما جاءَ فِي الحديثِ الصَّحيحِ ((لو يَعلمُ أحدُهُم أنْ يَجِدَ عَظْماً سَمِيناً، أَوْ مِرَماتَيْن حَسَنَتَيْنِ لَشهِدَ العِشاءَ)). وَهَذهِ ليستْ صفةَ المُؤمِنينَ، لاسِيَّما أكَابِرُهُم وهُم الصَّحَابَةُ. وَإِذَا كَانتْ فِي المُنَافِقينَ: كَان التَّحرِيقُ للنِّفاقِ، لا لِتَرْكِ الجَماعةِ. فلا يَتمُّ الدَّليلُ. قَالَ القَاضي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللهُ: وَقد قِيلَ: إنَّ هَذَا فِي المُؤمنينَ.
وَأمَّا المُنافِقُونَ: فقَد كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِِ وَسَلَّمَ مُعْرِضاً عنْهُمْ؛ عَالماً بِطَوِياتِهِمْ. كَمَا أنَّهُ لَم يَعْتَرِضْهُمْ فِي التَّخَلُّفِ، وَلا عَاتَبَهُمْ مُعَاتبَةَ كَعْبٍ وَأَصْحابِهِ مِن المُؤمِنينَ.
وَأَقولُ: هَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ إِذَا كَانَ تَرْكُ مُعَاقَبَةِ المُنَافِقيِنَ وَاجِباً عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَحِينئذٍ يَمْتَنِعُ أنْ يُعَاقِبَهُمْ بهَذَا التَّحْريقِ، فيجبُ أنْ يكونَ الكلامُ فِي المؤمنينَ، وَلَنَا أنْ نَقُولَ: إنَّ تَرْكَ عِقَابِ المُنَافِقينَ وَعِقَابَهُمْ كانَ مُبَاحاً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَيَّراً فيهِ. فَعَلى هَذَا: لا يَتَعَيَّنُ أنْ يُحْمَلَ هَذَا الكلامُ عَلَى المُؤمِنينَ، إِذْ يَجُوزُ أنْ يَكونَ فِي المُنَافِقينَ، لِجَوازِ مُعَاقَبةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ، وَلَيسَ فِي إِعْراضِهِ عَنْهُمْ بِمُجَرَّدِهِ ما يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ ذلِكَ عَلَيهِ. وَلَعَلَّ قَولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَما طُلِبَ مِنْهُ قَتْلُ بَعْضِهمْ - ((لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّداً يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ)) يُشْعِرُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي التَّخْيِيرِ، لأنَّهُ لو كانَ يجبُ عليهِ تَرْكُ قَتْلِهمْ لكانَ الجوابُ بِذِكْرِ المَانِعِ الشَّرْعِيِّ، وَهو أنَّهُ لا يَحِلُّ قَتْلُهُمْ. وَمِمَّا يَشْهَدُ لِمَن قَالَ: إِنَّ ذلك فِي المُنافِقينَ. عِنْدِي سِياقُ الحَديثِ مِن أَوَّلِهِ. وهو قَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( أَثْقَلُ الصَّلاةِ عَلَى الْمُنَافِقينَ )).
وَجْهٌ آخَرُ فِي تَقْديرِ كَونِهِ فِي المُنَافقينَ: أنْ يَقُولَ القَائِلُ: هَمُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتَّحرِيقِ يَدلُّ عَلَى جَوَازِهِ، وَتَرْكُهُ التَّحرِيقَ يَدُلُّ عَلَى جوازِ هَذَا التَّرْكِ. فَإذا اجْتمعَ جوازُ التَّحْرِيقِ وَجَوازُ تَرْكِهِ فِي حَقِّ هَؤلاءِ القَوْمِ. وهَذَا المَجْمُوعُ لا يَكُونُ فِي المُؤمنينَ فيما هُوَ حقُّ اللهِ تَعَالَى.
وَمِمَّا أُجِيبَ بِهِ عن حُجَّةِ أصْحَابِ الوُجُوبِ عَلَى الأَعْيانِ: مَا قَالَهُ القَاضِي عِياضٌ رَحِمَهُ اللهُ. وَالحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى دَاوُدَ، لا لَهُ. لأنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَمَّ، وَلَم يَفْعَلْ. وَلأنَّهُ يُخْبِرُهُمْ أَنَّ مَن تَخَلَّفَ عن الجماعةِ فَصَلاتُهُ غَيْرُ مُجْزِئَةٍ , وَهُو مَوضِعُ البَيانِ.
وَأقُولُ: أمَّا الأَوَّلُ فَضَعِيفٌ جِدّاً، إنْ سَلَّمَ القَاضي أنَّ الحَديثَ فِي المُؤمِنينَ؛ لأنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يهُمُّ إِلاَّ بِمَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ لَوْ فَعَلَهُ.
وَأمَّا الثَّانِي - وَهو قَولُهُ: وَلأنَّهُ لَم يُخْبِرْهُمْ أَنَّ مَن تَخَلََّفَ عَن الجَمَاعَةِ فَصَلاتُهُ غَيْرُ مُجْزِئَةٍ , وَهُوَ مَوضعُ البَيَانِ - فَلِقائلٍ أنْ يَقُولَ: البَيَانُ قَد يَكُونُ بالتَّنْصِيصِ وَقَد يَكُونُ بالدَّلالَةِ، وَلَمَّا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَلَقَدْ هَمَمْتُ)) إِلَى آخِرِهِ: دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الحُضُورِ عَلَيْهِمْ لِلجَماعةِ. فَإِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أنَّ ما وَجَبَ فِي العِبَادةِ كَان شرْطاً فِيهَا غَالباً، كَانْ ذِكْرُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهَذَا الهَمِّ دَليلاً عَلَى لازِمَهِ وهُو وُجوبُ الحُضُورِ. وَهُو دَلِيلٌ عَلَى الشَّرْطِيةِ. فَيَكُونُ ذِكْرُ هَذَا الهَمِّ دليلاً عَلَى لازِمِهِ. وهو وجوبُ الحُضُورِ. وَوجُوبُ الحُضُورِ دليلاً عَلَى لازِمِهِ، وَهُو اشْتِرَاطُ الحُضورِ. فَذِكْرُ هَذَا الهَمِّ بَيَانٌ للاشْتِرَاطِ بِهَذِه الوَسِيلَةِ، وَلا يُشْتَرَطُ فِي البَيَانِ أنْ يَكُونَ نَصّاً، كَمَا قُلْنَا. إِلاَّ أنَّهُ لا يتمُّ هَذَا إِلاَّ بِبَيَانِ أنَّ مَا وَجَبَ فِي العِبَادَةِ كَان شَرْطاً فِيهَا، وقد قِيلَ: إنَّهُ الغَالِبُ. وَلَمَّا كَانَ الوُجُوبُ قَد يَنْفَكُّ عَن الشَّرْطِيةِ قَالَ أحْمَدُ - فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ: إنَّ الجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الأعْيَانِ، غَيْرُ شَرْطٍ.
وَمِمَّا أُجِيبَ بِهِ عن اسْتِدْلالِ المُوْجِبِينَ لِصَلاةِ الجماعةِ عَلَى الأَعيْانِ أنَّهُ اخْتُلِفَ فِي هَذِه الصَّلاةِ الَّتِي هَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالمُعَاقَبَةِ عَلَيْهَا. فقِيلَ: العِشَاءُ. وقِيلَ: الجُمُعَةُ. وقد وَرَدَتْ المُعَاقَبَةُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُفَسَّرَةٌ فِي الحَديثِ. وَفي بَعْضِ الرِّواياتِ ((العِشاءُ، أو الفَجْرُ)) فَإذَا كَانَت هِي الجُمُعَةَ - وَالجَمَاعَةُ شَرْطٌ فيها - لَم يَتِمَّ الدَّليلُ عَلَى وُجُوبِ الجَمَاعَةِ مُطْلَقاً فِي غَيْرِ الجُمُعَةِ، وَهَذَا يَحْتَاجُ أنْ يُنْظَرَ فِي تِلكَ الأحَادِيثِ الَّتِي بُيِّنَتْ فِيهَا تِلكَ الصَّلاةُ أَهِي الجُمُعةُ، أو العِشاءُ، أو الفَجْرُ؟ فَإنْ كانَتْ أحَادِيثَ مُخْتَلِفَةً، قِيلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا. وَإنْ كَانَ حَديثاً وَاحِدًا اخْتََلفَتْ فِيهِ الطُّرُقُ، فَقَد يَتِمُ هَذَا الجَوابُ، إِنْ عُدِمَ التَّرْجِيحُ بَينَ بَعْضِ تِلكَ الرِّوَايَاتِ وَبعْضٍ، وَعُدِمَ إمْكانُ أنْ يكونَ الجَميعُ مَذْكُوراً. فَتَرَكَ بَعْضُ الرُّوَاةِ بَعْضَهُ ظَاهِراً بِأنْ يُقالَ: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ إِحْدَى الصَّلاتَيْنِ. أَعْنِي الجُمُعَةَ، أو العِشاءَ - مثَلاً - فَعَلَى تَقْدِيرِ أنْ تَكُونَ هِي الجُمُعَةَ: لا يَتِمُّ الدَّلِيلُ. وَعَلى تَقْديرِ أَنْ تَكُونَ هِي العِشَاءَ: يَتِمُّ. وَإذَا تَرَدَّدَ الحَالُ وقَفَ الاسْتِدْلالُ.
ومِمَّا يُنَبَّهُ عَلَيْهِ هُنَا: أنَّ هَذَا الوَعِيدَ بالتَّحْرِيقِ إذَا وَرَدَ فِي صَلاةٍ مُعَيَّنَةٍ - وَهِيَ العِشاءُ، أو الجُمُعَةُ، أو الفَجْرُ - فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الجَمَاعَةِ فِي هَذِه الصَّلَوَاتِ. فَمُقْتَضَى مذهبِ الظَّاهِرِيَّةِ: أنْ لا يَدُلَّ عَلَى وُجُوبِهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الصَّلَواتِ، عَمَلاً بِالظَّاهِرِ، وَتَرْكِ اتِّبَاعِ المَعْنَى. اللَهُمَّ إِلاَّ أنْ يُؤخَذَ قَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((أَنْ آمُرَ بالصَّلاةِ فَتُقَامَ)) عَلَى عُمومِ الصَّلاةِ. فَحِينَئذٍ يُحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلى اعْتِبَارِ لَفْظِ ذَلِكَ الحَدِيثِ وَسِِياقِهِ، وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. فَيُحْمَلُ لَفْظُ ((الصَّلاةِ)) عَلَيهِ إِنْ أُرِيدَ التَّحْقِيقُ وطلَبُ الحَقِّ. وَاللهُ أَعْلمُ.
الرَّابِعُ: قَولُهُ عَلَيْهِ الصلاَةُ والسَّلاَمُ: ((وَلَقَدْ هَمَمْتُ)) إلخ. أُخِذَ منْهُ تَقْدِيمُ الوَعِيدِ وَالتَّهديدِ عَلَى العُقُوبَةِ. وَسِرُّهُ: أنَّ المَفْسَدَةَ إِذَا ارتَفَعَتْ بِالأَهْوَنِ مِن الزَّوَاجِرِ اكْتُفِيَ بِهِ مِنَ الأَعْلَى.
61 - الحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَن عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَر َرَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( إذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمُ امْرَأَتُهُ إِلى المَسْجِدِ فَلاَ يَمْنَعُهَا)). قَالَ: فقَالَ بِلاَلُ بنُ عَبدِ اللهِ: واللهِ لَنَمْنَعَهُنَّ. قَالَ: فأَقْبَلَ عَلَيهِ عَبْدُ اللهِ، فَسَبَّهُ سَبّاً سَيِّئاً، مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَقَالَ: أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقُولُ: وَاللهِ لَنَمْنَعَهُنَّ؟.
وَفِي لَفْظٍ: ((لا تَمْنعُوا إمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ)).
الحَديثُ صَرِيحٌ فِي النَّهْي عَن المَنْعِ للنِّسَاءِ عَن المَسَاجِدِ عِنْدَ الاسْتِئْذَانِ.
وَقَولُهُ فِي الرِّوَايَةِ الأُخْرَى: ((لا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ)) يُشْعِرُ أيضاً بِطَلَبِهِنَّ لِلخُرُوجِ فَإِنَّ المَانِعَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ وُجُودِ المُقْتَضِي. وَيَلْزَمُ مِن النَّهْي عَن مَنْعِهِنَّ من الخُرُوجِ إِبَاحَتُهُ لَهُنَّ. لأنَّهُ لو كَانَ مُمْتَنِعاً لَم يَنْهَ الرِّجَالَ عَن مَنْعِهِنَّ مِنْهُ. وَالحَديثُ عَامٌّ فِي النِّسَاءِ، وَلَكنَّ الفُقَهَاءَ قَد خَصُّوهُ بِشُرُوطٍ وَحَالاتٍ. مِنْهَا: أَنْ لا يَتَطَيَّبْنَ. وَهَذَا الشَّرْطُ مَذْكُورٌ فِي الحَدِيثِ. فَفِي بَعْضِ الرِّوَاياتِ ((ولْيَخْرُجُنَّ تَفِلاتٍ)) وَفِي بَعْضِِهَا ((إذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ المَسْجِدَ فَلا تَمَسَّ طِيباً)) وَفِي بَعْضِهَا ((إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ العِشـاءَ فَلا تَطَيَّبُ تِلْكَ الْلَيلةَ)) فَيُلْحَقُ بِالطِّيبِ مَا فِي مَعْنَاهُ. فَإنَّ الطِّيبَ إِنَّمَا مُنِعَ مِنهُ لِمَا فِيهِ مِن تَحْـرِيكِ دَاعِيَةِ الرِّجَالِ وَشَهْوتِهِمْ. وَرُبَّمَا يكونُ سَبباً لِتَحْريكِ شَهْوَةِ المَرْأةِ أَيْضاً. فَمَا أَوْجَبَ هَذَا المَعْنَى التَحَقَ بِهِ.
وَقَد صَحَّ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( أَيُّمَا امْرَأةٍ أَصَابَتْ بُخُوراً فَلا تَشْهَدْ مَعَنَا العِشَاءَ الآخِرَةَ )) ويُلْحَقُ بِهِ أَيْضاً: حُسْنُ المَلابِسِ، ولُبْسُ الحُلِيِّ الَّذِي يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الزِّينَةِ. وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ قَولَ عَائِشَة َ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فِي الصَّحِيحِ: لو أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ بَعْدَهُ: لَمَنَعَهُنَّ المَسَاجِدَ، كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائيلَ. عَلَى هَذَا، تَعْنِي إِحْدَاثَ حُسْنِ المَلابِسِ وَالطِّيبِ وَالزِّينَةِ.
وَمِمَّا خَصَّ بِهِ بَعْضُهمْ هَذَا الحَديثَ أنَّ مَنْعَ الخُرُوجِ إِلَى المَسْجِدِ للمَرْأَةِ الجَمِيلَةِ المَشْهُورَةِ. وَمِمَّا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِمَّا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ: أَنْ يَكُونَ بِالْلَيلِ. وَقَد وَرَدَ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ مَا يُشِعرُ بهَذَا المَعْنَى. فَفي بَعْضِ طُرُقِهِ: ((لا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ مِن الخُرُوجِ إلى المَسَاجِدِ بالْلَيلِ)). فَالتَّقييدُ بالْلَيلِ قَد يُشْعِرُ بِمَا قَالَ.
وَمِمَّا قِيلَ أيْضًا فِي تَخْصِيصِ هَذَا الحَدِيثِ: أَنْ لا يُزَاحِمْنَ الرِّجَالَ.
وَبِالجُمْلَةِ: فَمَدَارُ هَذَا كُلِّهِ النَّظَرُ إِلَى المَعْنَى. فَمَا اقْتَضَاهُ المَعْنَى مِن المَنْعِ جُعِلَ خَارِجاً عَن الحَدِيثِ. وَخُصَّ العُمومُ بِهِ. وَفِي هَذَا زِيَادَةٌ. وَهُوَ أنَّ النَّصَّ وَقَعَ عَلَى بَعْضِ مَا اقْتَضَاهُ التَّخْصِيصُ، وَهُو عَدَمُ الطِّيبِ.
وَقِيلَ: إنَّ فِي الحَدِيثِ دَلِيلاً عَلَى أنَّ لِلرَّجُلِ أنْ يَمْنَعَ امْرَأَتَهُ مِن الخُرُوجِ إِلاَّ بِإذْنِهِ. وَهَذَا إِنْ أُخِذَ مِن تَخْصِيصِ النَّهْيِ بِالخُرُوجِ إِلى المَسَاجِدِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي بِطَرِيقِ المَفْهُومِ جَوَازَ المَنْعِ فِي غَيْرِ المَسَاجِدِ، فَقَد يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ: بِأنَّ هَذَا تَخْصِيصُ الحُكْمِ بِاللَّقَبِ. وَمَفْهومُ اللَّقبِ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الأُصُولِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا: إِنَّ مَنْعَ الرِّجَالِ للنِّسَاءِ مِن الخُرُوجِ مَشْهُورٌ مُعْتَادٌ. وَقَد قُرِّرُوا عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا عُلَِّقَ الحُكْمُ بِالمَسَاجِدِ لِبَيَانِ مَحَلِّ الجَوَازِ، وَإِخْرَاجِهِ عَن المَنْعِ المُسْتَمِرِ المَعْلُومِ. فَيَبْقَى مَا عَدَاهُ عَلَى المَنْعِ. وَعَلَى هَذَا: فَلا يَكُونُ مَنْعُ الرَّجُلِ لِخُرُوجِ امْرَأَتِهِ لِغَيْرِ المَسْجِدِ مَأْخُوذاً مِن تَقْييدِ الحُكْمِ بِالمَسْجِدِ فَقَطْ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيْهِ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أنَّ فِي قَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( لا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ)) مُنَاسَبَةً تَقتَضِي الإبَاحَةَ. أَعْنِي كَوْنَهُنَّ ((إِمَاءَ اللهِ)) بِالنِّسَبةِ إِلى خُرُوجِهِنَّ إِلَى مَسَاجِدِ اللهِ. وَلهَذَا كَانَ التَّعْبِيرُ بِإِمَاءِ اللهِ أَوْقَعَ فِي النَّفْسِ مِن التَّعْبِيرِ بِالنِّسَاءِ لَوْ قِيلَ. وَإِذَا كَانَ مُناسِباً أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْجوازِ، وَإِذَا انْتفَى انْتفَى الحُكْمُ لأنَّ الحُكْمَ يَزُولُ بِزَوالِ عِلَّتِهِ. وَالمُرَادُ بِالانْتِفَاءِ هَهُنَا: انْتِفَاءُ الخُرُوجِ إِلَى المَسَاجِدِ، أَي للصَّلاةِ.
وَأُخِذَ مِن إِنْكَارِ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ عَلَى وَلَدِهِ وَسَبِّهِ إِيَّاهُ: تَأَدِيبُ المُعْتَرِضِ عَلَى السُّنَنِ بِرَأيِهِ العَامِلِ بِهَواهُ، وَتَأدِيبُ الرَّجُلِ وَلَدَهُ، وَإِنْ كانَ كَبِيراً فِي تَغْيِيرِ المُنْكَرِ، وَتَأْدِيبُ العَالِمِ مَن يَتَعَلَّمُ عِنْدَهُ إِذَا تَكَلَّمَ بِمَا لا يَنْبغِي.
وقولُهُ: فَقَالَ بِلالُ بنُ عَبدِ اللهِ, هَذِهِ رِوَايَةُ ابنِ شِهَابٍ عَن سَالِمِ بنِ عَبْدِ اللهِ. وَفِي رِوَايَةِ وَرْقَاءَ بنِ عُمَرَ عَن مُجَاهِدٍ عن ابنِ عُمَرَ ((فَقَالَ ابنٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ وَاقِدٌ)) وَلِعَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ أبْنَاءٌ. مِنْهُمْ بِلالٌ. وَمِنْهُمْ وَقَّادٌ.
62 - الحَدِيثُ الخَامِسُ: عَن عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بعْدَ الْعِشَاءِ)).
وَفِي لَفْظٍ (( فَأَمَّا المَغْرِبُ وَالعِشاءُ والجُمُعةُ فَفِي بَيْتِهِ )).
وَفِي لَفْظٍٍ. أنَّ ابنَ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يُصلِّي سَجْدتَيْنِ خَفِيفَتَينِ بَعْدَما يَطْلُعُ الفَجْرُ. وَكَانَتْ سَاعةً لا أَدْخُلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا.
هَذَا الحَدِيثُ: يَتَعَلَّقُ بِالسُّنَنِ الرَّواتِبِ الَّتِي قَبْلَ الفَرَائِضِ وَبَعْدَهَا. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا العَدَدِ مِنْهَا. وَفِي تَقْدِيمِ السُّنَنِ عَلَى الفَرَائضِ وَتَأخِيرِهَا عَنْهَا: مَعْنَىً لَطِيفٌ مُنَاسِبٌ.
أمَّا فِي التَّقْدِيمِ: فَلأَنَّ الإِنْسَانَ يَشْتَغِلُ بِأُمُورِ الدُّنْيا وَأَسْبَابِهَا. فَتَتَكَيَّفُ النَّفْسُ مِن ذَلِكَ بِحَالَةٍ بَعِيدةٍ عَن حُضُورِ القَلْبِ فِي العِبَادَةِ، وَالخُشُوعِ فِيهَا، الَّذِي هُوَ رُوحُهَا. فَإِذَا قُدِّمَت السُّنَنُ عَلَى الفَرِيضَةِ تَأَنَّسَتِ النَّفْسُ بِالعِبَادَةِ، وَتَكَيَّفَتْ بِحَالَةٍ تُقَرِّبُ مِن الخُشُوعِ. فَيَدْخُلُ فِي الفَرَائضِ عَلَى حَالَةٍ حَسَنَةٍ لَم تَكُنْ تَحْصُلُ لَهُ لَو لَمْ تُقَدَّم السُّنَّةُ. فَإِنَّ النَّفْسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى التَّكَيُّفِ بِمَا هِيَ فِيهِ، لاسِيَّمَا إِذَا كَثُرَ أَو طَالَ. وَوُرُودُ الحَالَةِ المُنَافِيَةِ لِمَا قَبْلَهَا قَد يَمْحُو أثَرَ الحَالَةِ السَّابِقَةِ أَو يُضْعِفُهُ. وَأمَّا السُّنَنُ المُتَأَخِّرَةُ: فَلَمَّا وَرَدَ أَنَّ النَّوَافِلَ جَابِرةٌ لنُقصَانِ الفَرَائضِ. فَإِذا وَقَعَ الفَرْضُ نَاسَبَ أَنْ يَكَونَ بَعْدَهُ مَا يُجْبِرُ خَلَلاً فِيهِ إِنْ وَقَعَ.
وقَد اخْتَلَفْت الأحَادِيثُ فِي أَعْدَادِ رَكَعَاتِ الرَّواتِبِ فِعْلاً وَقَولاً. وَاخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُ الفُقَهَاءِ فِي الاخْتِيَار لتِلْكَ الأعْدَادِ وَالرَّواتِبِ. وَالمَرْوِيُّ عَن مَالِكٍ: أنَّهُ لا تَوْقِيتَ فِي ذَلكَ. قَالَ ابنُ القَاسِمِ صَاحِبُهُ: وَإِنَّمَا يُوقِّتُ فِي هَذَا أهْلُ العِرَاقِ.
وَالحَقُّ - وَاللهُ أعلمُ - فِي هَذَا البابِ - أَعْني مَا وردَ فيهِ أحاديثُ بِالنِّسْبَةِ إلى التَّطَوُّعَاتِ وَالنَّوافِلِ المُرْسَلَةِ - أنَّ كُلَّ حَديثٍ صَحيحٍ دَلَّ عَلَى اسْتِحْبابِ عَدَدٍ مِن هَذه الأعدادِ، أَو هَيْئةٍ مِن الهَيْئاتِ، أَو نَافِلَةٍ مِن النَّوافِلِ. يُعْمَلُ بِهِ فِي اسْتِحْبَابِهِ. ثُمَّ تَخْتَلِفُ مَرَاتِبُ ذَلِكَ المُستَحَبِّ. فَمَا كَانَ الدَّليلُ دَالاّ عَلَى تَأَكُّدِِِهِ - إمَّا بِمُلازَمَتِهِ فِعْلاً، أو بِكَثْرَةِ فِعْلِهِ، وَإِمَّا بِقُوَّةِ دَلالَةِ اللَّفْظِ عَلَى تَأَكُّدِ حُكْمِهِ، وَإمَّا بمُعَاضَدَةِ حَديثٍ آخَرَ لَهُ، أَوْ أحَادِيثَ فِيهِ - تَعْلُو مَرْتَبَتُهُ فِي الاسْتِحْبابِ.
وَما يَقْصُرُ عن ذلكَ كانَ بعْدَهُ فِي المَرْتَبَةِ، وَمَا وردَ فيهِ حَديثٌ لا يَنْتَهِي إلى الصِّحَّةِ، فَإنْ كانَ حَسَناً عُمِلَ بِهِ إْن لَم يُعَارِضْهُ صحيحٌ أقْوى منهُ. وَكانتْ مَرتبتُهُ نَاقصِةً عَن هذهِ المَرْتبةِ الثَّانيةِ، أَعني الصَّحيحَ الَّذِي لم يَدُمْ عَلَيهِ، أَو لَم يُؤكِّدِ اللَّفْظَ فِي طَلَبِهِ. ومَا كَان ضَعِيفاً لا يَدخُلُ فِي حَيِّزِ المَوضُوعِ، فَإنْ أَحْدَثَ شِعَاراً فِي الدِّينِ: مُنِعَ مِنْهُ. وَإِنْ لَم يُحدِثْ فَهوَ مَحَلُّ نَظَرٍ. يُحْتَمَلُ أنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مُستَحَبٌّ لِدُخُولِهِ تَحتَ العُمُومَاتِ المُقْتَضِيَةِ لِفِعْلِ الخَيْرِ، وَاسْتِحْبَابِ الصَّلاةِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: إنَّ هَذِهِ الخُصُوصِيَّاتِ بِالوقتِ أو بِالحَالِ، وَالهيْئَةِ وَالفِعْلِ المَخْصُوصِ: يَحْتَاجُ إِلَى دَليلٍ خَاصٍّ يَقْتَضِي اسْتِحْبَابَهُ بِخُصُوصِهِ. وَهَذَا أَقْرَبُ. واللهُ أعلمُ.
وَهَهُنا تَنْبِيهَاتٌ :
الأُولَى: أنَّا حيثُ قُلْنَا فِي الحَديثِ الضَّعَيفِ: إنَّهُ يُحتَمَلُ أنْ يُعْمَلَ بهِ لِدُخولِهِ تَحْتَ العُمُومَاتِ، فَشَرْطُهُ: أَنْ لا يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى المَنْعِ مِنْهُ أَخَصُّ مِن تِلكَ العُمُومَاتِ مِثَالُهُ: الصَّلاةُ المَذْكُورَةُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِن رَجَبٌ: لَمْ يَصِحَّ فِيهِ الحَديثُ، وَلا حَسُنٌ. فَمَن أرادَ فِعْلَهَا - إِدْرَاجاً لَهَا تَحتَ العُمُومَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضْلِ الصَّلاةِ وَالتَّسْبِيحَاتِ - لَم يَسْتَقِمْ، لأنَّهُ قَد صَحَّ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (( نَهَى أَنْ تُخَصَّ لَيلَةُ الجُمُعَةِ بِقِيَامٍ )) وَهَذَا أَخَصُّ مِن العُمُومِيَّاتِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضِيلَةِ مُطْلَقِ الصَّلاةِ.
الثَّانِي: أنَّ هَذَا الاحْتِمالَ الَّذِي قُلْنَاهُ - مِن جَوَازِ إدْرَاجِهِ تَحتَ العُمُومَاتِ - نُريدُ بِهِ فِي الفِعْلِ، لا فِي الحُكْمِ باستحْبابِ ذَلكَ الشَّيءِ المَخْصُوصِ بِهَيْئَتِهِ الخَاصَّةِ. لأنَّ الحُكْمَ بِاستِحْبَابِهِ عَلَى تِلكَ الهَيْئَةِ الخَاصَّةِ: يَحْتَاجُ دَليلاً شَرعِيّاً عَليهِ وَلابُدَّ، بِخِلافِ مَا إِذَا فُعِلَ بِنَاءً عَلَى أنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الخَيْرَاتِ الَّتِي لا تَخْتَصُّ بِذلكَ الوَقتِ، وَلابِتِلكَ الهَيئَةِ. فَهَذَا هُوَ الَّذِي قُلنَا بِاحْتِمَالِهِ.
الثَّالثُ: قَد مَنعْنَا إحْداثَ مَا هُوَ شِعَارٌ فِي الدِّينِ. وَمِثالُهُ: مَا أَحْدَثَتْهُ الرَّوافِضُ مِن عِيدٍ ثَالِثٍ، سَمَّوهُ عِيدَ الغَدِيرِ. وَكذلكَ الاجْتِمَاعُ وَإقامةُ شِعَارِهِ فِي وقتٍ مَخْصوصٍ عَلَى شَيءٍ مَخصوصٍ، لَم يَثْبُتْ شَرْعاً. وَقَرِيبٌ مِن ذَلِكَ: أنْ تَكُونَ العِبَادَةُ مِن جِهَةِ الشَّرْعِ مُرَتَّبةً عَلَى وَجْهٍ مَخْصوصٍ. فَيُرِيدُ بَعضُ النَّاسِ: أَنْ يُحْدِثَ فيها أمْراً آخَرَ لَم يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ، زَاعِماً أَنَّهُ يُدْرِجُهُ تَحتَ عُمُومٍ. فَهَذَا لا يَسْتَقِيمُ. لأنَّ الغَالِبَ عَلَى العِبَادَاتِ التَّعَبُّدُ، وَمَأْخَذُهَا التَّوقِيفُ. وَهَذِهِ الصُّورَةُ: حَيثُ لا يَدُلُّ دَليلٌ عَلَى كَرَاهةِ ذلكَ المُحْدَثِ أو مَنْعِهِ. فَأَمَّا إِذَا دَلَّ فَهو أقْوى فِي المَنْعِ وَأظْهَرُ مِن الأَوَّلِ. وَلَعَلَّ مِثَالَ ذلكَ، مَا وَردَ فِي رَفْعِ اليَدَيْنِ فِي القُنُوتِ. فَإنَّهُ قَد صَحَّ رَفْعُ اليَدِ فِي الدُّعَاءِ مُطلَقاً. فَقَالَ بَعْضُ الفُقَهاءِ. تُرْفَعُ اليَدُ فِي القُنُوتِ لأنَّهُ دُعَاءٌ. فَيَنْدَرِجُ تَحتَ الدَّليلِ المُقْتَضِي لاسْتِحْبابِ رَفْعِ اليَدِ فِي الدُّعاءِ. وَقالَ غيرُهُ: يُكْرَهُ؛ لأنَّ الغَالِبَ عَلَى هَيئَةِ العِبَادةِ التَّعَبُّدُ وَالتَّوقِيفُ. وَالصَّلاةُ تُصَانُ عَن زِيَادَةِ عَمَلٍ غَيرِ مَشرُوعٍ فِيهَا. فإذا لم يَثْبُتِ الحَدِيثُ فِي رَفْعِ اليَدِ فِي القُنُوتِ: كَانَ الدَّلِيلُ الدَّالُ عَلَى صِيَانَةِ الصَّلاةِ عَن العَمَلِ الَّذِي لَم يُشْرَعْ: أَخَصَّ مِن الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى رَفعِ اليَدِ فِي الدُّعَاءِ.
الرَّابِعُ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِن المَنْعِ: فَتَارَةً يَكونُ مَنْعَ تَحْريمٍ، وَتَارَةً مَنْعَ كَرَاهَةٍ. وَلَعَلَّ ذلكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ ما يُفْهَمُ مِن نَفْسِ الشَّرْعِ مِن التَّشْدِيدِ فِي الابتِدَاعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الجِنْسِ أو التَّخْفِيفِ. أَلا تَرى أَنَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلى البِدَعِ المُتَعَلِّقَةِ بِأُمُورِ الدُّنيا: لَم تُسَاوِ البِدَعَ المُتَعَلِّقَةَ بِأُمُورِ الأحْكَامِ الفَرْعِيَّةِ. وَلَعَلَّهَا - أعْنِي البِدَعَ المُتَعَلِّقَةَ بِأُمورِ الدُّنْيا - لا تُكْرَهُ أصْلاً. بَل كَثِيرٌ مِنْها يُجْزَمُ فِيهِ بِعَدمِ الكَرَاهَةِ. وَإذا نَظَرْنَا إِلى البِدَعِ المُتَعَلِّقَةِ بِالأحْكَامِ الفَرْعِيَّةِ: لَم تَكُنْ مُسَاوِيَةً لِلْبِِدَعِ المُتَعَلِّقَةِ بِأُصولِ العَقَائدِ.
فَهَذَا مَا أَمْكَنَ ذِكْرُهُ فِي هَذَا المَوضِعِ، مَع كَونِهِ مِن المُشْكِلاتِ القَوِيَّةِ، لِعَدَمِ الضَّبْطِ فِيهِ بِقَوانِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا لِلسَّابِقِينَ. وَقَد تَبَايَنَ النَّاسُ فِي هَذَا البَابِ تَبايُناً شَدِيداً، حَتَّى بَلَغَنِي: أنَّ بَعْضَ المَالِكِيَّةِ مَرَّ فِي لَيلَةٍ مِن إِحْدَى لَيْلَتَي الرَّغَائِب - أَعْنِي الَّتِي فِي رَجَبٍ أوْ الَّتِي فِي شَعْبَانَ - بِقَومٍ يُصَلُّونَهَا، وَقَومٍ عَاكِفِينَ عَلَى مُحَرَّمٍ، أَوْ مَا يُشْبِهُهُ، أو ما يُقَارِبُهُ. فَحَسَّنَ حَالَ العَاكِفِينَ عَلَى المُحَرَّمِ عَلَى حَالِ المُصَلِّينَ لِتِلكَ الصَّلاةِ. وَعلَّلَ ذَلِكَ بِأنَّ العَاكِفِينَ عَلَى المُحَرَّمِ عَالِمُونَ بِارْتِكَابِ المَعْصِيَةِ، فَيُرجَى لَهُم الاسْتِغْفَارُ وَالتَّوبَةُ، وَالمُصَلُّونَ لِتِلكَ الصَّلاةِ - مَع امْتِنَاعِهَا عِنْدَهُ - مُعْتَقِدُونَ أنَّهُم فِي طَاعةٍ. فَلا يَتُوبُونَ، ولا يَسْتَغْفِرونَ.
وَالتَّبَاينُ فِي هَذَا يَرْجِعُ إِلَى الحَرْفِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَهَوُ إِدْرَاجُ الشِّيءِ المَخْصُوصِ تَحْتَ العُمُومَاتِ، أَو طَلَبُ دَلِيلٍ خَاصٍّ عَلَى ذَلكَ الشَّيءِ الخاصِّ. وَمَيْلُ المَالِكِيَّةِ إِلَى هَذَا الثَّانِي. وَقَد وَرَدَ عَن السَّلَفِ الصَّالحِ مَا يُؤيِّدُه فِي مَواضِعَ أَلا تَرَى أَنَّ ابنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ فِي صَلاةِ الضُّحَى: إنَّهَا بِدْعَةٌ؛ لأنَّهُ لَم يَثْبُتْ عِنْدَهُ فِيهَا دَلِيلٌ. وَلَم يَرَ إِدْرَاجَهَا تَحْتَ عُمُومَاتِ الصَّلاةِ لِتَخْصِيصِهَا بِالوقْتِ المَخْصُوصِ. وَكَذَلكَ قَالَ فِي القُنُوتِ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ النَّاسُ فِي عَصْرِهِ: إِنَّهُ بِدْعَةٌ , وَلَمْ يَرَ إِدْرَاجَهُ تَحْتَ عُمُومَاتِ الدُّعاءِ. وَكَذَلكَ مَا رَوى التِّرْمِذِيُّ مِن قَولِ عَبدِ اللهِ بنِ مُغَفَّلٍ لابْنِهِ فِي الجَهرِ بِالبَسْمَلَةِ: إِيَّاكَ وَالحَدَثَ. وَلَم يَرَ إِدْارَجَهُ تَحْتَ دَلِيلٍ عَامٍّ , وَكَذلكَ مَا جَاءَ عَن ابنِ مَسْعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَ فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ بِسَنَدِهِ عَن قَيسِ بنِ أبِي حَازمٍ قَالَ: ذُكِرَ لابنِ مَسعودٍ قَاصٌّ يَجْلِسُ بِالْلَيلِ، وَيَقولُ للنَّاسِ: قُولُوا كَذَا، وَقولُوا كَذا. فقالَ: إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأخْبِرُونِي. قَال: فَأَخْبَرُوهُ. فَأَتاهُ ابنُ مَسْعودٍ مُتقنِّعاً. فَقَالَ: مَن عَرَفَنِي فَقد عَرَفَنِي. وَمَن لَم يَعْرِفْنِي فَأَنا عَبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ. تَعلَمُونَ أَنَّكُم لأهْدى مِن مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأصْحَابِهِ، يَعْنِي أو إِنَّكُمْ لَمُتَعَلِّقُونَ بذَنَبِ ضَلالَةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: لَقَد جِئتُم بِبِدْعَةٍ ظَلْماءَ، أو لَقَد فَضَلْتُم أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْماً. فهَذَا ابنُ مَسعودٍ أَنْكَرَ هَذَا الفِعْلَ، مَعَ إِمْكَانِ إِدْارَجِهِ تَحْتَ عُمُومِ فَضِيلَةِ الذِّكْرِ. عَلَى أَنَّ مَا حَكَيْنَاهُ فِي القُنُوتِ وَالجَهْرِ بِالبَسْمَلةِ مِن بَابِ الزِّيَادَةِ فِي العِبَادَاتِ.
الخَامَسُ: ذَكَرَ المُصَنِّفُ حَدِيثَ ابنِ عُمَرَ فِي بَابِ صَلاةِ الجَمَاعَةِ. وَلا تَظْهَرُ لَه مُنَاسَبَةٌ، فَإِنْ كَانَ أَرَادَ: أَنَّ قَولَ ابنِ عُمَرَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , مَعْنَاهُ: أَنَّهُ اجْتَمَعَ مَعَهُ فِي الصَّلاةِ. فَلَيْسَت الدَّلالَةُ عَلَى ذلكَ قَوِيَّةً. فَإنَّ المَعِيَّةَ مُطْلقاً أَعَمُّ مِن المَعِيَّةِ فِي الصَّلاةِ. وَإنْ كَانَ مُحْتَمَلاً.
وَمِمَّا يَقْتَضي أنَّهُ لَم يُرِدْ ذَلكَ: أَنَّهُ أَوْرَدَ عَقِيبَهُ حَديثَ عَائشة َ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّهَا قَالَتْ: لَم يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيءٍ مِن النَّوَافِلِ أشدَّ تَعَاهُداً مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَي الفَجْرِ)) وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: ((رَكْعَتَا الفَجْرِ خَيْرٌ مِن الدُّنْيا وَمَا فِيهَا)) وَهَذَا لا تَعَلُّقَ لَهُ بِصَلاةِ الجَمَاعَةِ.
63 - الحَديثُ السَّادسُ: وهو حَدِيثُ عَائشة َ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، المُقَدَّمُ الذِّكْرِ.
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَأْكُّدِ رَكْعَتَي الفَجْرِ، وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِمَا فِي الفَضِيلَةِ. وَقَد اخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ. أَعْنِي فِي قولِهِ: ((إِنَّهُمَا سُنَّةٌ أَو فَضِيلَةٌ)) بَعْدَ اصْطِلاحِهِمْ عَلَى الفَرْقِ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالفَضِيلَةِ. وذَكَرَ بَعْضُ مُتأخِّرِيهِمْ قَانُوناً فِي ذلِكَ. وهو أَنَّ مَا وَاظَبَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، مُظْهِراً لَهُ فِي جَمَاعةٍ، فَهُوَ سُنَّةٌ وَمَا لَم يُوَاظِبْ عَلَيْهِ، وَعَدَّهُ فِي نَوافِلِِ الخَيْرِِ، فَهو فَضِيلَةٌ. وَما وَاظَبَ عَلَيْهِ، وَلَم يُظْهِرْهُ - وهَذَا مِثْلُ رَكْعَتَي الفَجْرِ - فَفِيهِ قَولانِ. أَحدُهُمَا. أنَّهُ سُنَّةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَضِيلَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا إنْ كَانَ رَاجعاً إلى الاصْطِلاحِ فالأمْرُ فِيهِ قَريبٌ. فَإنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَصْطَلِحَ فِي (التَّسْمِيَّاتِ) عَلَى وَضْعٍ يَرَاهُ. وَإِنْ كَانَ رَاجِعاً إِلى اخْتِلافٍ فِي مَعْنًى. فَقَد ثَبَتَ فِي هَذَا الحَدِيثِ تَأكُّدُ أَمْرِ رَكْعَتَي الفَجْرِ بَالمُواظَبَةِ عَلَيْهِمَا. وَمُقْتَضَاهُ: تَأكُّدُ اسْتِحْبَابِهِمَا. فَلْيُقَلْ بِهِ. وَلا حَرَجَ عَلَى مَن يُسَمِّيهَا سُنَّةً، وإنْ أرُيدَ أَنَّهُمَا مَع تَأكُّدِهِمَا أخْفَضُ رُتْبَةً مِمَّا وَاظَبَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُظْهِراً لَهُ فِي الجَمَاعَةِ، فَلا شَكَّ أنَّ رُتَبَ الفَضَائلِ تَختَلِفُ.
فَإِنْ قَالَ قَائلٌُ: إِنَّما سُمِّيَ بِالسُّنَّةِ أَعْلاهَا رُتْبَةً: رَجَعَ ذلكَ إِلى الاصْطِلاحِ واللهُ أعلمُ .