دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > الرسالة التدمرية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م, 07:19 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي أصل الإسلام الذي يتميز به أهل الإيمان من أهل الكفر هو تحقيق الشهادتين

فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ، عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَ، فَإِنَّهُ أَصْلُ الْإِسْلاَمِ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ: شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.
وَقَدْ وَقَعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي الْإِخْلاَلِ بِحَقِيقَةِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ أَوْ أَحَدِهمَا، مَعَ ظَنِّهِ أَنَّهُ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَإِقْرَارُ الْمَرْءِ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُه وَخَالِقُه لاَ يُنْجِيه مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ إِقْرَارُهُ بِأَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَلاَ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ أَحَدٌ إِلاَّ هُوَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ، فِيمَا أَخْبَرَ، وَطَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، فَلاَ بُدَّ مِنَ الكَلاَمِ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ.
الْأَصْلُ الْأَوَّلُ: تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ، فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَخْبَرَ عَنِ المُشْرِكِينَ - كَمَا تَقَدَّمَ - بِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا وَسَائِطَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ، يَدْعُونَهُمْ وَيَتَّخِذُونَهُمْ شُفَعَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ )، (فَأَخْبَرَ أَنَّ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا هَؤُلاَءِ الشُّفَعَاءَ مُشْرِكُونَ)، وَقَالَ تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِ يس: ( وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهمْ شَيْئًا وَلاَ يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ )، وَقَالَ تَعَالَى: ( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ شُفَعَائِهِمْ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ فِيهِمْ شُرَكَاءُ وَقَالَ تَعَالَى: ( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، وَقَالَ تَعَالَى: ( مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ )، وَقَالَ تَعَالَى: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ).
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشَفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ)، وَقَالَ تَعَالَى: ( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكَرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)، وَقَالَ تَعَالَى: ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهمْ شيئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى)، وَقَالَ تَعَالَى: ( قَالَ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ).
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا)، قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ: كَانَ أَقْوَامٌ يَدَّعُونَ عُزَيْرًا وَالْمَسِيحَ وَالْمَلاَئِكَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ بَيَّنَ فِيهَا أَنَّ الْمَلاَئِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ.
وَمِنْ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ لَهُ حَقًّا لاَ يُشْرِكُهُ فِيهِ مَخْلُوقٌ، كَالْعِبَادَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ وَالتَّقْوَى، قَالَ تَعَالَى: ( لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا)، وَقَالَ تَعَالَى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ)، وَقَالَ تَعَالَى: (قُلْ إِنِّي أَُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ)، وَقَالَ تَعَالَى: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) وَكُلُّ مَنْ أُرْسِلَ مِنَ الرُّسُلِ يَقُولُ لِقَوْمِهِ: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكَمَ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي التَّوَكُّلِ: ( وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) وَقَالَ تَعَالَى: (قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ)، وَقَالَ تَعَالَى: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ)، فَقَالَ فِي الْإِيتَاءِ: (مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ)، وَقَالَ فِي التَّوَكُّلِ: ( وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ) وَلَمْ يَقُلْ: وَرَسُولُهُ؛ لِأَنَّ الْإِيتَاءَ هُوَ الْإِعْطَاءُ الشَّرْعِيُّ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْإِبَاحَةَ وَالْإِحْلاَلَ الَّذِي بَلَّغَهُ الرَّسُولُ، فَإِنَّ الْحَلاَلَ مَا أَحَلَّهُ، وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَهُ، وَالِدِّينَ مَا شَرَعَهُ، قَالَ تَعَالَى: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ). وَأَمَّا الْحَسْبُ فَهُوَ الْكَافِي، وَاللَّهُ وَحْدَهُ كَافٍ عَبْدَه، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيْمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، فَهُوَ وَحْدَهُ حَسْبُهُمْ كُلِّهمْ.
وَقَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ) أَيْ: حَسْبُك وَحَسْبُ مَنِ اتَّبَعَك مِنَ المُؤْمِنِينَ هُوَ اللَّهُ، فَهُوَ كَافِيكُمْ كُلَّكُمْ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ وَالْمُؤْمِنِينَ حَسْبُك، كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الغَالِطينَ، إِذْ هُوَ وَحْدَهُ كَافٍ نَبِيَّه وَهُوَ حَسْبُهُ، لَيْسَ مَعَهُ مَنْ يَكُونُ هُوَ وَإِيَّاهُ حَسْبًا لِلرَّسُولِ. وَهَذَا فِي اللُّغَةِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَحَسْبُك وَالضِّحَاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدٌ
وَتَقُولُ الْعَرَبُ: حَسْبُك وَزَيْدًا دِرْهَمٌ، أَيْ يَكْفِيك وَزَيْدًا جميعًا دِرْهَمٌ.
وَقَالَ فِي الْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ وَالتَّقْوَى: ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) فَأَثْبَتَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، وَأَثْبَتَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ، كَمَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: ( إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) فَجَعَلَ الْعِبَادَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَجَعَلَ الطَّاعَةَ لِلرَّسُولِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ.
وَقَالَ تَعَالَى: (فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) وَقَالَ تَعَالَى: (فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: ( وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ).
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ: ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، وَقَالَ تَعَالَى: ( وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)، (وَإِيَّايَ فَاتَّقَوْنِ).
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّ إِلاَّ نَفْسَهُ وَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا)، وَقَالَ: لاَ تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ، وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ.
فَفِي الطَّاعَةِ قَرَنَ اسْمَ الرَّسُولِ بِاسْمِهِ بِحَرْفِ " الْوَاوِ "، وَفِي الْمَشِيئَةِ أَمَرَ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ بِحَرْفِ "ثُمَّ"، وَذَلِكَ لِأَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ طَاعَةٌ لِلَّهِ، فَمَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَطَاعَةُ اللَّهِ طَاعَةٌ لِلرَّسُولِ. بِخِلاَفِ الْمَشِيئَةِ، فَلَيْسَتْ مَشِيئَةُ أَحَدٍ مِنَ العِبَادِ مَشِيئَةً لِلَّهِ، وَلاَ مَشِيئَةُ اللَّهِ مُسْتَلْزَمَةً لِمَشِيئَةِ الْعِبَادِ، بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَشَأِ النَّاسُ، وَمَا شَاءَ النَّاسُ لَمْ يَكُنْ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ.
الْأَصْلُ الثَّانِي: حَقُّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ وَنُطِيعَهُ، وَنَتَّبِعَهُ، وَنُرْضِيَهُ، وَنُحِبَّهُ، وَنُسَلِّمَ لِحُكْمِهِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، وَقَالَ تَعَالَى: ( وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ) وَقَالَ تَعَالَى: ( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)، وَقَالَ تَعَالَى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، وَقَالَ تَعَالَى: ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.

  #2  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 06:51 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التحفة المهدية للشيخ: فالح بن مهدي الدوسري


قولُه:
وأما المعتزِلةُ، فهم يَنفون الصفاتِ، ويُقاربون قولَ جهْمٍ لكنهم يَنفون القدَرَ: فهم وإن عظَّموا الأمْرَ والنهْيَ، والوعدَ والوعيدَ وغَلَوْا فيه - مكذِّبون بالقدَرِ ففيهم نوعٌ من الشرْكِ من هذا البابِ والإقرارُ بالوعدِ والوعيدِ، مع إنكارِ القدَرِ خيرٌ من الإقرارِ بالقدَرِ مع إنكارِ الأمْرِ والنهيِ والوعدِ والوعيدِ، ولهذا لم يكن في زمَنِ الصحابةِ والتابعين من يَنفي الأمْرَ والنهيَ والوعدَ والوعيدَ، ولكن نَبغَ فيهم القدَريَّةُ، كما نَبغَ فيهم الخوارجُ والحروريَّةُ، وإنما يَظهرُ من البدَعِ أوَّلاً ما كان أَخفى وكلَّما ضَعُفَ من يَقُومُ بنورِ النبوَّةِ قَويِتَ البدعةُ.

فهؤلاءِ المتصوِّفون الَّذِينَ يَشهدون الحقيقةَ الكونيَّةَ مع إعراضِهم عن الأمرِ والنهيِ شرٌّ من القدَريَّةِ المعتزِلةِ ونحوِهم. أُولَئِكَ يُشبِهون المجوسَ، وهؤلاءِ يُشبِهون المشرِكين الَّذِينَ قالوا: {لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} والمشرِكون شرٌّ من المجوسِ، فهذا أصلٌ عظيمٌ، على المسلِمِ أن يَعرِفَه؛ فإنه أصْلُ الإسلامِ الذي يتميَّزُ به أهلُ الإيمانِ من أهلِ الكفْرِ، وهو الإيمانُ بالوحدانيَّةِ والرسالةِ: (شَهادةُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأن محمَّداً رسولُ اللهِ) وقد وَقعَ كثيرٌ من الناسِ في الإخلالِ بحقيقةِ هذين الأصلَيْن أو أحدِهما مع ظنِّه أنه في غايةِ التحقيقِ والتوحيدِ، والعلْمِ والمعرفةِ، فإقرارُ المرءِ بأن اللهَ ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكُه وخالقُه لا يُنجيه من عذابِ اللهِ إن لم يَقترنْ به إقرارُه بأنه لا إلهَ إلا اللهُ فلا يَستَحِقُّ العبادةَ أحدٌ إلا هو، وأن محمَّداً رسولُ اللهِ فيَجبُ تصديقُه فيما أَخبرَ، وطاعتُه فيما أَمَرَ فلابدَّ من الكلامِ في هذين الأصلَيْن.

الشرْحُ:
بعدَ أن بيَّنَ المؤلِّفُ رأْيَ الجهْمِيَّةِ القائلين بالتعطيلِ والجبْرِ والإرجاءِ شرَعَ في بيانِ مذهبِ المعتزِلةِ كعمرِو بنِ عُبيدٍ وواصلِ بنِ عطاءٍ الغزَّالِ وأضرابِهما فذَكرَ أن القدَريَّةَ وإن قارَبوا جهْماً في التعطيلِ إلا أنهم يقولون إنه لا يُغفرُ لمرتكبِ الكبيرةِ إلا بالتوبةِ وإن أهلَ الكبائرِ مخلَّدون في النارِ ويُخرجونهم من الإيمانِ بالكلِّيَّةِ ويُكذِّبون بشفاعةِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيرِه زعْماً منهم أنه إذا أَوعدَ عبيدَه فلا يَجوزُ أن لا يُعذِّبَهم ويُخلِفَ وعيدَه، كما يَغْلُون في الأمْرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكَرِ ويُدخلون تحتَ ستارِ ذلك الخروجَ على الأئمَّةِ، بينما الجهْمِيَّةُ المرجِئَةُ لا يَجزِمُون بشيءٍ من الوعدِ والوعيدِ، بل يَغْلُون في إرجاءِ كلِّ أمْرٍ فلا يَجزمون بثوابِ من تابَ كما لا يَجزِمون بعقوبةِ من لم يَتُبْ، وبذلك يَضْعُفُ جانبُ إثباتِهم للأمْرِ والنهيِ والجزاءِ على الأعمالِ، غيرَ أن المعتزِلةَ وإن عظَّمُوا جانبَ الأمْرِ والنهيِ فهم مكذِّبون بقدَرِ اللهِ السابِقِ ومعتقدون بأن العبدَ يَخلُقُ فعْلَ نفسِه، ومن هذه الجِهةِ فهم مشرِكون في الربوبيَّةِ، وإنكارُهم للقدَرِ وغُلُوُّهم في الوعدِ والوعيدِ وإن كان باطلاً إلا أنه خيرٌ من إثباتِ القدَرِ مع الغُلُوِّ فيه؛ وحينئذٍ فأهْلُ الكلامِ وأربابُ التصوُّفِ الْمُجَبِّرَةُ شرٌّ من المعتزِلةِ ونحوِهم كالشيعةِ القدَريَّةِ فإن هؤلاءِ يعظِّمون الأمْرَ والنهيَ، والوعدَ والوعيدَ، وطاعةَ اللهِ ورسولِه، ويَأمرون بالمعروفِ، ويَنهَوْن عن المنكَرِ، لكن ضَلُّوا في القدَرِ واعتَقَدوا أنهم إذا أَثبَتوا مشيئةً عامَّةً وقدْرةً شاملةً وخلْقاً متناوِلاً لكلِّ شيءٍ لزِمَ من ذلك القدْحُ في عدْلِ الربِّ وحكمتِه، وقد غَلَطوا في ذلك.

أما أهلُ الكلامِ والتصوُّفِ، فأَثبَتوا القدَرَ وآمَنوا بأن اللهَ ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكُه وأن ما شاءَ كان وما لم يَشأْ لم يكنْ، وأنه خالقُ كلِّ شيءٍ، وهذا حسَنٌ وصوابٌ لكنهم قَصَّرُوا في الأمرِ والنهيِ والوعدِ والوعيدِ وأَفْرطوا حتى أَفْضَى بهم ذلك إلى الإلحادِ فصاروا في جنْسِ المشرِكين الَّذِينَ قالوا: {لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} والقدَريَّةُ يُشبِهون المجوسَ، وهؤلاءِ المتصوِّفةُ الْمُجَبِّرَةُ يُشبهون المشرِكين فأُولَئِكَ القدَريَّةُ وإن كانوا يُشبِهون المجوسَ من حيث إنهم أَثبَتوا فاعلاً غيرَ اللهِ سبحانَه فهؤلاءِ شابَهوا المشرِكين. والمشرِكون شرٌّ من المجوسِ، فإن المجوسَ يُقرَّون بالجِزْيَةِ باتِّفاقِ المسلِمين، وذهبَ بعضُ العلْماءِ إلى حِلِّ نسائِهم وطعامِهم، وأما المشرِكون فاتَّفَقَت الأمَّةُ على تحريمِ نكاحِ نسائِهم. أما إقرارُهم على الجِزْيَةِ فجمهورُ العلْماءِ على أن مُشركي العربِ لا يُقَرُّون بها وإن أُقِرَّت المجوسُ، فإن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَقبلِ الجِزْيَةَ من المشرِكين بل قالَ: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَه إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ) وبما ذُكرَ من تقريرِ توحيدِ الشرْعِ وبيانِ ارتباطِه بالقدَرَ اتَّضحَ أن هذا الأصلَ هو العُمدةُ الذي يُميَّزُ بينَ الأبرارِ والفجَّارِ والمسلِمين والكفَّارِ، فهذا حقيقةُ التوحيدِ، شُهوداً بوحدانيَّةِ اللهِ وبرسالةِ رسولِ اللهِ علْماً وعَملاً، خِلافاً لأربابِ الكلامِ وأهلِ التصوُّفِ الَّذِينَ يَعتقدون أن مشاهدةَ الربوبيَّةِ العامَّةِ والفناءَ في معرفتِها هو الغايةُ في التوحيدِ، وأن معنى الإلهِ هو القادرُ على الاختراعِ. وحينئذٍ فلابدَّ من تحقيقِ شهادةِ أن لا إلهَ إلا اللهُ بأن لا يُعبدَ إلهٌ غيرُ اللهِ، وشَهادةُ أن محمَّداً رسولُ اللهِ بأن لا يُعبدَ اللهُ إلا بما شرَعَه رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وقولُه: (ولهذا لم يكنْ في زمنِ الصحابةِ والتابعين من يَنفي الأمْرَ والنهيَ والوعدَ والوعيدَ ولكن نَبغَ فيهم القدَريَّةُ كما نَبغَ فيهم الخوارجُ والحَروريَّةُ وإنما يَظهرُ من البدَعِ أوَّلاً ما كان أَخفى وكلَّما ضعُفَ من يقومُ بنورِ النبوَّةِ قَوِيَت البدعةُ). يعني ومن أجْلِ أن مقالَةَ الْمُجَبِّرَةِ شرٌّ من مقالَةِ نُفاةِ القدَرِ نَجدُ أن الصحابةَ رِضوانُ اللهِ عليهم لم يُوجدْ في عَهدِهم من يُنكِرُ الأمرَ والنهيَ والوعدَ والوعيدَ، أما إنكارُ القدَرِ فقد وُجِدَ من يقولُ به في أواخرِ عهدِ الصحابةِ، كما رَوى مسلِمٌ وأبو داودَ وغيرُهما عن يَحيى بنِ يَعمُرَ، قالَ: (كان أوَّلَ من تكلَّمَ في القدَرِ بالبصرةِ مَعبدٌ الجُهَنِيُّ، فانطلقْتُ أنا وحُميدُ بنُ عبدِ الرحمنِ الحِمْيَرِيُّ حاجَّيْنِ أو معتمِرَيْن فقلنا: لو لَقِينا أحداً من أصحابِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسَألناه عمَّا يقولُ هؤلاءِ في القدَرِ فوفَّقَ اللهُ تعالى لنا عبدَ اللهِ بنَ عمرَ داخِلاً في المسجدِ فاكتَنفتُه أنا وصاحبي فظنَنتُ أن صاحبي سيَكِلُ الكلامَ إليَّ فقلتُ: أبا عبدِ الرحمنِ إنه قد ظَهرَ قِبلَنا أُناسٌ يَقرأُون القرآنَ ويَتَقَفَّرُونَ العلْمَ يَزعمون أن لا قدَرَ وأن الأمرَ أُنُفٌ فقالَ: (إذا لقيتَ أُولَئِكَ فأَخْبِرْهم أني منهم بريءٌ وأنهم مني بُرآءُ والذي يَحلفُ به عبدُ اللهِ بنُ عمرَ لو أن لأحدِهم مثلَ أُحدٍ ذهباً فأَنفَقَه في سبيلِ اللهِ ما قَبلَه اللهُ منه حتى يُؤمِنَ بالقدَرِ) وروى أحمدُ وأبو داودَ عن عُبادةَ بنِ الوليدِ بنِ عُبادةَ بنِ الصامتِ قالَ: حدَّثني أبي قالَ: دخلْتُ على عُبادةَ وهو مريضٌ أتخايلُ فيه الموتَ فقلتُ: يا أبتاهُ أوصِني واجتَهِدْ لي فقالَ أَجْلِسوني قالَ: يا بُنَيَّ إنك لن تَجدَ طعْمَ الإيمانِ ولن تَبلغَ حقيقةَ العلْمِ باللهِ حتى تُؤمِنَ بالقدَرِ خيرِه وشرِّه قلتُ: يا أبتاه فكيفَ لي أن أعلَمَ ما خيرُ القدَرِ وشرُّه؟ قالَ: تَعْلمُ أن ما أَخطاكَ لم يكن ليُصيبَكَ وما أَصابكَ لم يكن ليُخطئَكَ، يا بُنَيَّ سمِعتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: (إِنَّ أوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمُ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) يا بُنَيَّ إنك إن مِتَّ ولستَ على ذلك دخلْتَ النارَ) وهذا يَدلُّ على بشاعةِ الاحتجاجِ بالقدَرِ وإنكارِ الأمْرِ والنهيِ والوعدِ والوعيدِ.

والبدعةُ إنما تَقْوَى وتَنتشرُ كلَّما بعُدَ الناسُ عن نورِ الرسالةِ وضَعُفَ الدُّعاةُ إليها، ولما كان القدَرُ من المسائلِ الشائِكةِ ذاتِ الخفاءِ والإشكالِ وُجدَ من يُنكرُه حتى في العهدِ القريبِ من نورِ الرسالةِ. وقد أُنكِرَتْ هذه البدعةُ أشدَّ الإنكارِ، وحُورِبَتْ أعظمَ المحارَبةِ.
والمجوسُ هم عَبدةُ النيرانِ القائلونُ إن العالَمَ صادرٌ عن أصلَيْن هما النورُ والظُّلمةُ، والمجوسُ في الأصْلِ النُّجوسُ لتدَيُّنِهم باستعمالِ النجاساتِ والميمُ والنونُ يَتعاقبان. والمجوسُ أَقْدَمُ الطوائفِ وأصلُهم من بلادِ فارسَ، وقد نَبَغوا في علْمِ النجومِ، ومن جملتِهم المانَوِيَّةُ المنسوبون إلى أَحدِ زعمائِهم وهو مانئُ بنُ فاتكٍ الحكيمُ الذي ظهَرَ في زمانِ شابورَ بنِ أزدشيرَ وذلك بعدَ عيسى عليه السلامُ. وقد استَخرجَ مذهبَه من المجوسيَّةِ والنصرانيَّةِ فهو ثَنَوِيٌّ زِنديقٌ.

ومنهم المُزْدُكِيَّةُ المنسوبون إلى مُزدكَ الذي ظهَرَ في أيَّامِ قباذ والدِ أنو شُروانَ، وقولُ المُزْدُكِيَّةِ كقولِ المانَوِيَّةِ في الأصلَيْن إلا أن مُزْدُكَ كان يقولُ النورُ يَفعلُ بالقصْدِ والاختيارِ، والظُّلمةُ تَفعلُ على الخَبْطِ والاتِّفاقِ. قالَ الشَّهْرستانيُّ (وكان مزْدكُ يَنْهَى الناسَ عن المخالَفةِ والمباغَضةِ، والقتالِ، ولما كان أكْثرُ ذلك إنما يَقعُ بسببِ النساءِ والأموالِ أَحَلَّ النساءَ والأموالَ، وجَعلَ الناسَ شَرِكَةً فيها كاشتراكِهم في الماءِ والنارِ والكَلاَ) قالَ في حاشيةِ المِلَلِ نقلاً عن ابنِ خلدونَ: (مُزدكُ الزنديقُ كان إِباحيًّا وكان يقولُ باستباحةِ أموالِ الناسِ وأنها فَيْءٌ وأنه ليس لأحدٍ مِلْكُ شيءٍ ولا حجْزُه، والأشياءُ كلُّها مِلْكٌ للهِ مشاعٌ بينَ الناسِ لا يَختصُّ به أَحدٌ. وقد أَمرَ مُزدكُ أصحابَه بتناوُلِ اللذَّاتِ والعكوفِ على بُلوغِ الشهواتِ والأكلِ والشُّربِ والمواساةِ والاختلاطِ وترْكِ استبدادِ بعضِهم على بعضٍ. ولهم مشارَكةٌ في الحُرَمِ والأهلِ لا يَمتنِعُ الواحدُ منهم من حُرمةِ الآخَرِ ولا يَمنعُه، ولهم مذهَبٌ في الضيافاتِ ليس هو لأحدٍ من الأمَمِ إذا أَضافوا الإنسانَ لم يَمنعوه من شيءٍ يَلتمسُه كائناً ما كان) وإذاً فمذهبُ المُزْدُكِيَّةِ هو أصْلُ الشيوعيَّةِ الحمراءِ التي نادى بها كارل ماركس واحتَضنَها تلميذُه لينين مؤسسُ الدولةِ الماركسيَّةِ التي يُغَطِّي دخانُ جحيمِها في هذه الأزمانِ سماءَ عددٍ من الأقطارِ المفتونةِ بمعسولِ قولِها، والمخدوعةِ ببريقِ دعايتِها التي في ظاهرِها الرحمةُ وفي باطنِها العذابُ.

والخوارجُ هم الَّذِينَ خَرَجوا على أميرِ المؤمنين عليٍّ رضيَ اللهُ عنه حينَ جرى أمْرُ الحكَمَين واجْتَمَعوا بحرُوراءَ من ناحيةِ الكوفةِ، وفيهم قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَحْقِرُ صَلاَةَ أَحَدِكُمْ فِي جَنْبِ صَلاَتِهِمْ وَيَحْقِرُ صِيَامَ أَحَدِكُمْ فِي جَنْبِ صِيَامِهِ وَلَكِنْ لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ) وهم المارِقةُ الَّذِينَ قالَ فيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سَيَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئ هَذَا الرَّجُلِ قَوْمٌ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) ويُجمِعُ طوائفُهم القولَ بالتبرُّئِ من عثمانَ وعليٍّ، ويُقَدِّمون ذلك على كلِّ طاعةٍ، ولا يُصَحِّحون المناكَحَةَ إلا على ذلك. ويُكفِّرون أصحابَ الكبائرِ.

وقولُه: إنما يَظهرُ من البِدعِ أوَّلاً ما كان أَخفى يعني أن هؤلاءِ الْمُجَبِّرَةَ لم يكونوا موجودِين في عصْرِ الصحابةِ والتابعين لهم بإحسانٍ، فإن البدَعَ إنما يَظهرُ منها أوَّلاً فأوَّلاً الأَخْفَى فالأَخْفى، كما حَدثَ في آخِرِ عصْرِ الخلفاءِ الراشدين بدعةُ الخوارجِ والشيعةِ، ثم في آخِرِ عصْرِ الصحابةِ بدعةُ المرجِئَةِ والقدَريَّةِ، ثم في آخِرِ عصْرِ التابعين بدعةُ الجهْمِيَّةِ معطِّلةِ الصفاتِ. وأما هؤلاءِ المباحيَّةُ المسقِطون للأمْرِ والنهيِ محتجِّين على ذلك بالقدَرِ فهم شرٌّ من جميعِ هذه الطوائفِ. وإنما حَدَثوا بعدَ هؤلاءِ كلِّهم، وكان ظهورُ جهْمٍ ومقالتُه في تعطيلِ الصفاتِ، وفي الجبْرِ والإرجاءِ في أواخرِ دولةِ بني أميَّةَ بعد حدوثِ القدَريَّةِ والمعتزِلةِ وغيرِهم. فإن القدَريَّةَ حدَثوا قبلَ ذلك فلمَّا حَدثت المقالَةُ المقابِلةُ لمقالَةِ القدَريَّةِ أنكَرَها السلَفُ والأئمَّةُ كما أَنكَروا قولَ القدَريَّةِ من المعتزِلةِ ونحوِهم.


(والوعيدُ) التخويفُ والتهديدُ وضدُّه الوعدُ، فالوعيدُ والإيعادُ فيما يَحضُرُ ويُخافُ منه. والوعدُ والعِدَةُ فيما يُرغَبُ ويُشتاقُ إليه قالَ الشاعرُ:

وإني وإن أَوْعدتُه أو وَعَدتُه = لمُخلِفٌ إيعادي ومنجِزٌ موْعِدِي

ومذهبُ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ في نصوصِ الوعيدِ هو إمرارُها كما جاءَتْ وعدَمُ التعرُّضِ لها بالتأويلِ قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ بنُ حسنٍ في فتحِ المَجيدِ عند شرحِه لقولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديثِ أبي موسى: (ثَلاَثَةٌ لاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، مُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَمُصَدِّقٌ بِالسِّحْرِ، وَقَاطِعُ الرَّحِمِ) ما نصُّه: (هذا من نصوصِ الوعيدِ التي كرِهَ السلفُ تأويلَها وقالوا: أَمرُّوها كما جاءَت، ومن تأوَّلَها فهو على خطَرٍ من القولِ على اللهِ بلا علْمٍ، وأحسنُ ما يُقالُ: إن كلَّ عملٍ دونَ الشرْكِ والكفْرِ المخرِجِ عن ملَّةِ الإسلامِ فإنه يَرجعُ إلى مشيئةِ اللهِ، فإن عذَّبَه فقد استَوجبَ العذابَ، وإن غفَرَ له فبفضلِه وعفوِه ورحمتِه) انتهى. (مكرر)

قولُه:
الأصلُ الأوَّلُ توحيدُ الإلهيَّةِ، فإنه سبحانَه أَخبرَ عن المشرِكين كما تَقدَّمَ بأنهم أَثبَتوا وسائطَ بينَهم وبينَ اللهِ يَدعونهم ويَتَّخذونهم شُفعاءَ بدونِ إذْنِ اللهِ، قالَ تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وقالَ عن مؤمنِ يس: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} وقالَ تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} وقالَ تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَ لَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وقالَ تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ} وقالَ تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} وقالَ تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} وقالَ تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} وقالَ تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِركٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وقالَ تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يِمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} قالَ طائفةٌ من السلَفِ كان قومٌ يدْعُون العُزَيرَ والمسيحَ والملائكةَ فأَنزلَ اللهُ هذه الآيةَ يُبيِّنُ فيها أن الملائكةَ والأنبياءَ يَتقرَّبون إلى اللهِ، ويَرجون رحمتَه، ويَخافون عذابَه.

ومن تحقيقِ التوحيـدِ أن يَعلمَ أن اللهَ تعالى أَثبتَ له حقًّا لا يُشرِكُه فيه مخلوقٌ كالعبادةِ والتوكُّلِ والخوفِ والتقوى، كما قالَ تعالى: {لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} وقالَ تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} وقالَ تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أيُّها الْجَاهِلُونَ} إلى قولِه: {الشَّاكِرِينَ} وكلُّ واحدٍ من الرسُلِ قالَ لقومِه: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وقالَ تعالى في التوكُّلِ: { وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ} وقالَ: {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وقالَ: {حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} وقالَ تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ} فقالَ في الإيتاءِ: { مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ} وقالَ في التوكُّلِ: { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ} ولم يَقلْ ورسولُه لأن الإيتاءَ هو الإعطاءُ الشرعيُّ، وذلك يَتضمَّنُ الإباحةَ والإحلالَ الذي بلَّغَه الرسولُ، فإن الحلالَ ما أَحلَّهُ اللهُ، والحرامُ ما حرَّمَه، والدِّينُ ما شَرَعَه، قالَ تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وأما الحسْبُ فهو الكافي واللهُ وحدَه هو كافٍ عبدَه، كما قالَ تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} فهو وحدَه حسبُهم كلُّهم، وقالَ تعالى: { يَا أيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي حسبُك وحسْبُ من اتَّبَعكَ من المؤمنين هو اللهُ، فهو كافيكم كلِّكم وليس المرادُ إن اللهَ والمؤمنين حسبُك كما يَظنُّه بعضُ المغالِطين، إذ هو وحدَه كافٍ نبيَّه، وهو حسبُه، ليس معه من يكونُ هو وإيَّاه حسْباً للرسولِ، وهذا في اللغةِ كقولِ الشاعرِ:
(فحسْبُك والضحَّاكَ سيفٌ مهنَّدٌ)

وتقولُ العربُ، حسبُك وزيداً درهمٌ، أي: يَكفيك وزيداً جميعاً درهمٌ، وقالَ في الخوفِ والخشيةِ والتقوى {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} فأَثبتَ الطاعةَ للهِ وللرسولِ وأَثبتَ الخشيةَ والتقوى للهِ وحدَه، كما قالَ نوحٌ عليه السلام: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} فجَعلَ العبادةَ والتقوى للهِ وحدَه وجَعلَ الطاعةَ له، فإنه من يُطِع الرسولَ فقد أَطاعَ اللهَ، وقد قالَ تعالى: {فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} وقالَ تعالى: { فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقالَ الخليلُ عليه السلامُ: { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، قالَ تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}.
وفي الصحيحين عن ابنِ مسعودٍ، أنه قالَ: (لما نَزلتْ هذه الآيةُ شَقَّ ذلك على أصحابِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا: وأَيُّنا لم يَظلمْ نفسَه؟ فقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ {إِنَّ الشِّرْكَ لظُلْمٌ عَظِيمٌ} وقالَ تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}، {وَإِيَّاي فَاتَّقُونِ} ومن هذا البابِ أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقولُ في خُطبتِه: (مَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّ إِلاَّ نَفْسَهُ، وَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) وقالَ: (لاَ تَقُولُوا مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ، وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ) ففي الطاعةِ قَرنَ اسمَ الرسولِ باسمِه بحرفِ الواوِ، وفي المشيئةِ أَمرَ أن يَجعلَ ذلك بحرفِ (ثُمَّ)، وذلك لأن طاعةَ الرسولِ طاعةٌ للهِ، فمن أطاعَ الرسولَ فقد أَطاعَ اللهَ، وطاعةُ اللهِ للرسولِ، بخلافِ المشيئةِ فليست مشيئةُ أحدٍ من العِبادِ مشيئةً للهِ ولا مشيئةُ اللهِ مستلزِمةً لمشيئةِ العِبادِ، بل ما شاءَ اللهُ كان وإن لم يَشأ الناسُ وما شاءَ الناسُ لم يكن إن لم يَشأ اللهُ.

الأصلُ الثاني: في حقِّ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعَلَيْنَا أن نُؤمِنَ به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونطيعَه، ونُرضِيَه، ونُحبَّه، ونسلِّمَ لحكْمِه، وأمثالُ ذلك، قالَ تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} وقالَ تعالى: {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} وقالَ تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} وقالَ تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وقالَ تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} وأمثالُ ذلك.

الشرْحُ:
هذا شروعٌ في بيانِ ما أَجمَلَه المؤلِّفُ في قولِه: (فلا بدَّ من الكلامِ على هذين الأصلَيْن) وتحقيقُهما هو كما قالَ المؤلِّفُ قبل ذلك (فإقرارُ المرءِ بأنَّ اللهَ ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكُه وخالقُه لا يُنجِيه من عذابِ اللهِ إن لم يَقترِنْ به إقرارُه بأنه لا إلهَ إلا اللهُ فلا يَستحِقُّ العِبادةَ أحدٌ إلا هو، وأن محمَّداً رسولُ اللهِ فيَجبُ تصديقُه فيما أَخبرَ، وطاعتُه فيما أَمرَ).

وقد شَرحَ الأوَّلَ بقولِه: (الأصلُ الأوَّلُ توحيدُ الإلهيَّةِ؛ فإنه سبحانَه أَخبرَ عن المشرِكين - كما تَقدَّمَ - بأنهم أَثبَتوا وسائطَ بينَهم وبينَ اللهِ يَدعونهم ويَتَّخذونهم شفعاءَ بدونِ إذنِ اللهِ) يعني فلابدَّ من تحقيقِ شهادةِ أن لا إلهَ إلا اللهُ فإن اللهَ سبحانَه قد كفَّرَ الَّذِينَ دَعَوْا معه آلهةً أُخرى، أو تَقرَّبوا بهم إليه واتَّخذوهم وُسطاءَ وشفعاءَ دونَ أن يَأذنَ اللهُ لهم بذلك، ثم استَشهدَ المؤلِّفُ بجملةِ آياتٍ تُصرِّحُ بشرْكِ وكفْرِ من دَعا غيرَ اللهِ، والْتَمَسَ منه الشفاعةَ،

وتُبيِّنُ الآياتُ أنهم لا يَملِكون لهم ضَرًّا ولا نفْعاً، وأنهم لا يَشفعون إلا لمن ارْتَضَى، وأنه لا شفاعةَ عندَ الله إلا بإذنِه، وأن هؤلاءِ المدْعُوِّينَ من ملائكةٍ وأنبياءَ وصالحين لا يَملِكون لأنفسِهم ضرًّا ولا نفْعاً فضْلاً عن أن يَملكوا ذلك لغيرِهم وليس لهم من شرْكٍ في السمواتِ ولا في الأرضِ ولا يَملِكون مِثقالَ ذرَّةٍ فيهما، وليس للهِ منهم عَوينٌ ولا نصيرٌ، بل الكونُ كلُّه بأسرِه مِلكُه وتحتَ تصرُّفِه،

ثم بيَّنَ المؤلِّفُ أن من تَحقيقِ هذا الأصلِ أن يُفرَدَ اللهُ جلَّ وَعَلا بكلِّ أنواعِ العِبادةِ من خوفٍ ورجاءٍ وتوكُّلٍ ورغبةٍ وخشيةٍ. وقد استَشهدَ بعدَّةِ آياتٍ فيها التصريحُ باستحقاقِ اللهِ وحدَه سائرَ أنواعِ العِباداتِ وإفرادِه بها دونَ من سِواه،

وأشارَ إلى بعضِ الأسرارِ التي تُؤخذُ من تَعبيرِ الآياتِ الكريماتِ كما في قولِه سبحانَه:{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ} وكما في قولِه: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقِهِ فأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} وقولِه عن نوحٍ عليه السلامُ: {أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ}.

وقد بيَّنَ الثاني بقولِه: ( الأصلُ الثاني في حقِّ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلينا أن نؤمنَ به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونطيعَه ونُرضيَه ونُحبَّه ونُسلِّمَ لحكْمِه وأمثالُ ذلك) يعني ولا بدَّ من تحقيقِ شهادةِ أن محمَّداً رسولُ اللهِ بأن يُطاعَ في كلِّ ما أَمرَ، ويُجتنبَ ما عنه نَهى وزَجرَ، وأن لا يُعبدَ اللهُ إلا بما شرَعَ، وذلك يَتضمَّنُ تقديمَ طاعتِه على طاعةِ كلِّ أحدٍ ومحبَّتِه وارضائِه باتِّباعِه، وقد استَشهدَ الشيخُ على وجوبِ تحقيقِ هذا الأصلِ بجملةِ آياتٍ تُبَيِّنُ أن طاعةَ الرسولِ طاعةٌ للهِ وأن محبَّتَه ورضاه مقرونٌ برضاه.

قالَ الشيخُ وبالجملةِ فمعنا أصلان عظيمان: أحدُهما: أن لا نَعبدَ إلا اللهَ والثاني: أن لا نَعبدَه إلا بما شَرعَ فلا نَعبدُه بعبادةٍ مبتدَعةٍ. وهذان الأصلان هما تحقيقُ شهادةِ أن لا إلهَ إلا اللهُ وأن محمَّداً رسولُ اللهِ، وذلك تحقيقُ قولِه تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} وفي الصحيحين عن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قالَ: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ) وفي لفظٍ في الصحيحِ: (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ) وفي الصحيحِ وغيرِه أيضاً: يقولُ اللهُ تعالى: {أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ وَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَشْرَكَ} وقد سَبقَ إيضاحُ أنه ما من رسولٍ إلا وقد أُمِرَ بأن يقولَ لقومِه: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وقولُه: قالَ طائفةٌ من السلفِ يعني كمجاهدٍ وابنِ عبَّاسٍ.

وقولُه: (وقالَ تعالى: {يَا أيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي حسْبُك وحسْبُ من اتَّبَعَكَ من المؤمنين هو اللهُ) إلى آخرِه. المعنى: أن اللهَ وحدَه كافيكَ وكافي أَتبَاعِك فلا تَحتاجون معه إلى أَحدٍ، وهذا اختيارُ المحقِّقين؛ كالشيخِ رحِمَه اللهُ، وقيلَ المعنى حسبُك اللهُ وحسبُك المؤمنون،
قالَ ابنُ القيِّمِ رحِمَه اللهُ: (وهذا خطأٌ مَحْضٌ لا يَجوزُ حَمْلُ الآيةِ عليه فإن الحسْبَ والكفايةَ للهِ وحدَه كالتوكُّلِ والتقوى والعِبادةِ، قالَ اللهُ تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} ففَرَّقَ بينَ الحسْبِ والتأييدِ، فجَعلَ الحسْبَ له وحدَه، وجَعلَ التأييدَ له بنصرِه وبعبادِه، وأَثْنَى على أهلِ التوحيدِ من عبادِه حيث أَفردوه بالحسْبِ فقالَ تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ولم يقولوا حسبُنا اللهُ ورسولُه،
ونظيرُ هذا قولُه سبحانَه: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ}
فتأمَّلْ كيف جَعلَ الإيتاءَ للهِ ورسولِه وجَعلَ الحسْبَ له وحدَه فلم يَقُلْ وقالوا حسبُنا اللهُ ورسولُه بل جَعلَه خالصَ حقِّه كما قالَ: {إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ} فجَعلَ الرغبةَ إليه وحدَه كما قالَ: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} فالرغبةُ والتوكُّلُ والإنابةُ والحسْبُ للهِ وحدَه، كما أن العِبادةَ والتقوى والسجودَ والنذرَ والخشيةَ لا يكونُ إلا له سبحانَه وتعالى وتقريرُ الشيخِ لهذا المعنى هو الموافقُ لما جاءَ في اللغةِ العربيَّةِ، كما في قولِ الشاعرِ:

إذا كانت الهيجاءُ وانشقَّت العَصَا = فحسْبُك والضحَّاكَ سيفٌ مُهَنَّدُ

فإن المعنى يَكفيك سيفٌ مُهَنَّدٌ مع الضحَّاكِ، ومعنى حسبُك وزيداً درهمٌ أي: يَكفيك أنتَ وزيداً مجتمِعَيْن درهمٌ واحدٌ.

وقولُه: (وقالَ الخليلُ عليه السلامُ: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قالَ تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}) إلى آخرِه.

المعنى هو كما قالَ ابنُ جريرٍ عن الربيعِ بنِ أنسٍ قالَ: الإيمانُ الإخلاصُ للهِ وحدَه، وقالَ ابنُ كثيرٍ في الآيةِ: أي هؤلاءِ الَّذِينَ أَخلَصوا العِبادةَ للهِ وحدَه ولم يُشركوا به شيئاً هم الآمنون يومَ القيامةِ، المهتدون في الدنيا والآخرةِ.

قالَ الشيخُ في معنى حديثِ ابنِ مسعودٍ: (والذي شَقَّ عليهم أنهم ظَنُّوا أن الظلْمَ المشروطَ عدَمُه هو ظلمُ العبدِ نفسَه وأنه لا أمْنَ ولا اهتداءَ إلا لمن لم يَظلمْ نفسَه فبيَّنَ لهم النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما دلَّهمْ على أن الشرْكَ ظلْمٌ في كتابِ اللهِ فلا يَحصُلُ الأمْنُ والاهتداءُ إلا لمن لم يَلبسْ إيمانَه بهذا الظلْمِ فكان من أهْلِ الأمْنِ والاهتداءِ كما كان من أهلِ الاصطفاءِ في قولِه تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عَبَادِنَا فَمِنْهُم ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} وهذا لا يَنفي أن يُؤاخذَ أحدُهم بظلْمِه لنفسِه بذنبٍ إذا لم يَتُبْ كما قالَ تعالى: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
فمن سَلِمَ من أجناسِ الظلْمِ الثلاثةِ: الشرْكُ، وظلْمُ العِبادِ، وظلمُه لنفسِه بما دونَ الشرْكِ كان له الأمْنُ التامُّ والاهتداءُ التامُّ ومَن لم يَسلمْ من ظُلمِه لنفسِه كان له مُطلَقُ الأمْنِ والاهتداءِ بمعنى أنه لا بدَّ أن يَدخلَ الجنةَ كما وُعدَ بذلك في النصوصِ الأخرى وقد هداه اللهُ إلى الصراطِ المستقيمِ الذي تكونُ عاقِبتُه فيه إلى الجنةِ، ويَحصُـلُ له من نقْصِ الأمْنِ والاهتداءِ بحسَبِ ما نَقَصَ من إيمانِه بظلْمِه لنفسِه.
وليس مرادُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقولِه: (إِنَّهُ الشِّرْكُ) أن من لم يُشرِكِ الشرْكَ الأكبرَ يكونُ له الأمْنُ التامُّ والاهتداءُ التامُّ فإن أحاديثَه الكثيرةَ مع نصوصِ القرآنِ تُبيِّنُ أن أهلَ الكبائرِ مُعرَّضون للخوفِ وحينئذٍ فمن لم يُفْرِد اللهَ سبحانَه بجميعِ أنواعِ العِبادةِ فإنه لم يُحقِّقْ هذا الأصلَ.

ثم بيَّنَ المؤلِّفُ في معْرِضِ ذِكرِه لبعضِ أسرارِ التعبيرِ أن مِن هذا القبيلِ قولَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خُطبتِه: (مَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) بينما قالَ في المشيئةِ: (لاَ تَقُولُوا مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ، بَلْ قُولُوا مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ) ففرَّقَ بينَ الطاعةِ والمشيئةِ، وقولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَمَنْ يَعْصِهِمَا) هو مثلُ قولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديثِ أنسٍ رضيَ اللهُ عنه قالَ: (لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَمَرَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا طَلْحَةَ فَنَادَى إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَإِنَّهَا رِجْسٌ) متَّفقٌ عليه بتثنيةِ الضميرِ للهِ تعالى ولرسولِه،
وقد ثَبتَ أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ للخطيبِ الذي قالَ في خُطبتِه من يُطعِ اللهَ ورسولَه فقد رَشَدَ، ومَن يَعصِهِمَا. الحديث: (بِئْسَ خَطِيبُ الْقَوْمِ أَنْتَ) لجمْعِه بينَ ضميرِ اللهِ تعالى وضميرِ رسولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالَ قل: (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهَ) وقد أُجيبَ عن هذا الأشكالِ بجوابَيْن:

أحدُهما: أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى الخطيبَ عن ذلك لأن مَقامَ الخطابةِ يَقتضي البسْطَ والإيضاحَ فأَرشدَه إلى أن يأتيَ بالاسمِ الظاهرِ لا بالضميرِ وأنه ليسَ العَتَبُ عليه من حيثُ جمْعُه بينَ ضميرِ اللهِ وضميرِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

والثاني: أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له أن يَجمعَ بينَ الضميرَيْن وليس ذلك لغيرِه؛ لعلْمِه بجلالِ ربِّه وعظمتِه، وقولُه: (ومن هذا البابِ أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقولُ في خُطبتِه) الخ، يشيرُ إلى ما رواه أبو داودَ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه: (أن رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا تَشهَّدَ قالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا. مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّ إِلاَّ نَفْسَهُ وَلاَ يَضُرُّ اللهَ شَيْئاً).
وقولُه: (وقالَ لاَ تَقُولُوا مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ) يشيرُ إلى ما رواه النسائيُّ من حديثِ قتيلةَ بنتِ صَيْفِيٍّ الأنصاريةِ رضيَ اللهُ عنها (أن يهوديًّا أتى النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ إنكم تُشرِكون تقولون: ما شاءَ اللهُ وشِئتَ، وتقولون والكعبةِ، فأَمرَهم النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أَرادوا أن يَحلِفوا أن يقولوا وربِّ الكعبةِ، وأن يقولوا: ما شاءَ اللهُ ثم شئْتَ) وقولُه: (بل ما شاءَ اللهُ كان وإن لم يَشَأ الناسُ وما شاءَ الناسُ لم يكنْ إن لم يَشَأ اللهُ) يعني كما جاءَ في الأثَرِ أن رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: (كُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، لاَ بُعْدَ لِمَا هُوَ آتٍ، وَلاَ يَعْجَلُ اللهُ لِعَجَلَةِ أَحَدٍ، وَلاَ يَخِفَّ لِأَمْرِ النَّاسِ) ما شاءَ اللهُ لا ما شاءَ الناسُ، يريدُ اللهُ شيئاً ويريدُ الناسُ شيئاً، وما شاءَ اللهُ كان ولو كرِهَ الناسُ ولا مُبعِّدَ لما قرَّبَ اللهُ، ولا مقرِّبَ لما بَعَّدَ ولا يكونُ شيءٌ إلا بإذنِ اللهِ).
وما أَحسنَ قولَ الإمامِ الشافعيِّ:

فما شِئتَ كان وإن لم أَشأْ = وما شِئتُ إن لم تَشأْ لم يكنْ
خَلَقتَ العِبادَ على ما علِمْتَ = ففي العلْمِ يَجري الفَتى والمُسِنْ
على ذا مَنَنْتَ وهذا خذَلْتَ = وهذا أَعَنْتَ وذا لم تُعِنْ
فمنهم شقيٌّ ومنهم سعيدٌ = ومنهم قبيحٌ ومنهم حسَنْ

وعشيرتُكم: قبيلتُكم وهم بنو أبٍ واحدٍ.
واقْتَرَفْتُمُوها: اكتَسبْتُموها. وكسادُ التجارةِ: بَوارُها.
والتربُّصُ: الانتظارُ.

  #3  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 06:53 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التوضيحات الأثرية للشيخ: فخر الدين بن الزبير المحسِّي


أصْلُ الإسلامِ الشهادتانِ
قولُه: ( فهذا أَصْلٌ عظيمٌ على الْمُسْلِمِ أن يَعْرِفَه فإنه أصْلُ الإسلامِ الذي يَتَمَيَّزُ به أهلُ الإيمانِ من أهْلِ الكُفْرِ، وهو الإيمانُ بالوحدانيَّةِ والرسالةِ ( شهادةُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللهِ ) وقد وَقَعَ كثيرٌ من الناسِ في الإخلالِ بحقيقةِ هذين الأصلَيْنِ، أو أحدِهما مع ظَنِّه أنه في غايةِ التحقيقِ والتوحيدِ، والعلْمِ والْمَعْرِفَةِ. فإقرارُ المرءِ بأنَّ اللهَ ربُّ كلِّ شيءٍ ومَلِيكُه وخالِقُه لا يُنْجِيه من عذابِ اللهِ، إن لم يَقْتَرِنْ به إقرارُه بأنه لا إلهَ إلا اللهُ فلا يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ أحدٌ إلا هو. وأنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللهِ فيَجِبُ تصديقُه فيما أَخْبَرَ، وطاعتُه فيما أَمَرَ، فلا بُدَّ من الكلامِ في هذينِ الأصلَيْنِ ).

التوضيحُ
بعدَ أن بَيَّنَ أنَّ الضَّلالَ في الأمْرِ والنهيِ والوَعْدِ والوعيدِ-وهو الشرْعُ-أعْظَمُ من الضلالِ في القدَرِ، أرادَ أن يُبَيِّنَ أنَّ أَصْلَ الشرْعِ مَبْنِيٌّ على الشهادةِ فشَهادةُ أن لا إلهَ إلا اللهُ تَعْنِي وَحدانيَّةَ اللهِ في عُبوديَّتِه، وشهادةُ أنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللهِ تَعْنِي مُتابَعَةَ الرسولِ في تحقيقِ تلك العُبودِيَّةِ، فالوحدانيَّةُ والرسالةُ هما حقيقةُ الشرْعِ، وهما اللذان يُفَرَّقُ بهما بينَ المسلمينَ وغيرِهم، لا مُجَرَّدُ الربوبيَّةِ.

وقد لَخَّصَ العُلَماءُ ( شَهادةَ أنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللهِ ) بما يَلِي:
تصديقُه فيما أَخْبَرَ.
طاعتُه فيما أَمَرَ.
اجتنابُ ما نَهَى عنه وزَجَرَ.
أن لا يُعْبَدَ اللهُ إلا بما شَرَعَ.

وسَيُفَصِّلُ شيخُ الإسلامِ في هذينِ الأصلينِ، وهما الوحدانيَّةُ، أي:توحيدُ الأُلوهيَّةِ والرسالةِ كما يَلِي:

الأصْلُ الأوَّلُ: توحيدُ الأُلُوهِيَّةِ
قولُه: ( الأصْلُ الأوَّلُ: توحيدُ الأُلوهِيَّةِ فإنه سبحانَه أخْبَرَ عن الْمُشركينَ - كما تَقَدَّمَ - بأنهم أَثْبَتُوا وسائِطَ بينَهم وبينَ اللهِ يَدْعُونَهم ويَتَّخِذُونَهم شُفعاءَ بدونِ إذنِ اللهِ. قالَ تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ * وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }.
وقالَ عن مؤمِنِ يس: { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِي عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينِ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } وقالَ تعالى: { وَلَقَدْ جَئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ * وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَراَءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ } وقالَ تعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَ لَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }.

وقالَ تعالى: { مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ } وقالَ أيضًا: { وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ } وقالَ تعالى: { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } وقالَ تعالى: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } وقالَ تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللهِ * لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ }.

وقالَ تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهُمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا }.

قالَ طائفةٌ من السلَفِ: كان قومٌ يَدْعُون العُزَيْرَ والمسيحَ والملائكةَ فأَنْزَلَ اللهُ هذه الآيةَ،يُبَيِّنُ فيها أنَّ الملائكةَ والأنبياءَ يَتَقَرَّبون إلى اللهِ ويَرْجُون رَحْمَتَه ويَخافون عَذَابَه ).

التوضيحُ

هذه الفِقرةُ غيرُ مُحتاجَةٍ لإيضاحٍ،ولكن نَتَنَاوَلُها من خلالِ مسائلَ أربعٍ كما يَلِي:

أوَّلاً: إنَّ شِرْكَ العَرَبِ كان في توحيدِ الألوهيَّةِ كما سَبَقَ، وذلك باتِّخاذِهِم وسائطَ يَعْبُدُونَهم ويَزْعُمون أنها شفعاؤُهم عندَ اللهِ كما قالَ تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ * وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. وغيرُها من الآياتِ المذكورةِ في الرسالةِ.

ثانيًا: إن الشفاعةَ جميعَها مَرَدُّها إلى اللهِ تعالى وَحْدَه فلا يَسأَلُ الشفاعةَ أحدٌ إلا من اللهِ،كما قالَ تعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَ لَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }.

ثالثًا: إنَّ للشفاعةِ شَرْطَيْنِ هما:
الإذنُ للشافِعِ أن يَشْفَعَ.
الرِّضَا عن المشفوعِ له.
ودليلُ هذينِ الشرْطَيْنِ قولُه تعالى: { وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى } وفي هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ من أنَّ الشَّفاعةَ للهِ وَحْدَه.

رابعًا: في قولِه تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا }.

قالَ شيخُ الإسلامِ: ( قالَتْ طائفةٌ من السلَفِ: كان قومٌ يَدْعونَ الْعُزَيْرَ والمسيحَ والملائكةَ فأَنْزَلَ اللهُ هذه الآيةَ؛ يُبَيِّنُ فيها أنَّ الملائكةَ والأنبياءَ يَتَقَرَّبُونَ إلى اللهِ ويَرجونَ رحمتَه ويَخافون عَذابَه ) أقولُ: هذا القولُ في سببِ النزولِ مَنْقُولٌ عن ابنِ عبَّاسٍ، ومُجاهِدٍ والحسَنِ، وهناك قولٌ ثانٍ ثابتٌ عن ابنِ مسعودٍ في صحيحِ مسلِمٍ وفيه أنها نَزَلَتْ في نَفَرٍ من العَرَبِ كانوا يَعْبُدُونَ نَفَرًا من الْجِنِّ، فأَسْلَمَ الْجِنِّيُّونَ، والإنسُ الذين يَعْبُدُونَهم لا يَشْعُرونَ، واختارَ هذا السببَ ابنُ جريرٍ، وَرَدَّ السببَ الأوَّلَ. وهناك سببٌ ثالثٌ وهو أنه أصابَ المشرِكينَ قَحْطٌ حتى أَكَلُوا الكِلابَ والْجِيَفَ، فاستغاثوا بالنبيِّ عليه الصلاةُ والسلامُ لِيَدْعُوَ لهم،فنَزَلَتْ هذه الآيةُ، وهذا ذَكَرَه بعضُ الْمُفَسِّرِينَ ولم يُسْنِدُوه، واللهُ أَعْلَمُ.

وقالَ ابنُ القَيِّمِ في معنى الآيةِ: " والمعنى أنَّ الذين تَدْعُونَهُم من دونِ اللهِ من الملائكةِ والأنبياءِ والصالحينَ يَتَقَرَّبُون إلى ربِّهم ويَخافونَه ويَرجونَه فهم عَبيدُه،كما أنكم عَبيدُه فلماذا تَعْبُدونَهم من دونِ اللهِ، وأنتم وهم عَبيدٌ له ".

تحقيقُ الشهادةِ بإفرادِه بجميعِ العِباداتِ
قولُه: ( ومن تحقيقِ التوحيدِ أن يُعْلَمَ أنَّ اللهَ تعالى أَثْبَتَ له حقًّا لا يَشْرَكُه فيه مخلوقٌ كالعِبادةِ والتوكُّلِ والخوفِ والتقوى، كما قالَ تعالى: { لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً } وقالَ تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } وقالَ تعالى: { قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } إلى قولِه:{ الشَّاكِرِينَ } وكلُّ واحدٍ من الرُّسُلِ قالَ لقومِه { اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ }.
وقد قالَ تعالى في التوكُّلِ { وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} وقالَ:{ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } وقالَ: { قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ }.

التوضيحُ

سَبَقَ بيانُ العِبادةِ وأنها كُلُّ ما يُحِبُّه اللهُ ويَرضاه من الأقوالِ والأعمالِ الظاهرةِ والباطِنَةِ، وأَرادَ شيخُ الإسلامِ أن يُبَيِّنَ أنَّ حقيقةَ التوحيدِ هي إفرادُ اللهِ بجميعِ العِباداتِ الظاهرةِ منها كالصلاةِ والصيامِ والْحَجِّ وغيرِها، والباطنَةِ كالتوكُّلِ والخوفِ والتَّقْوَى والْمَحَبَّةِ وغيرِها، فذَكَرَ هنا الأدلَّةَ على إخلاصِ العِبادَةِ للهِ إِجمالاً، وهي:
قولُه: { لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ }.
وقولُه: { فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ }.
وقولُه: { قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ }.
وقولُه: { اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ }. ثم ذَكَرَ أدلَّةَ التوَكُّلِ، وسيأتي بعدَ ذلك بأدلَّةِ الخوْفِ والْخَشْيَةِ والتَّقْوَى.
وَقْفَةٌ مع قولِه تعالى: { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ }.
قولُه: ( وقالَ تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ * سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ * إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ } فقالَ في الإيتاءِ: { مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ} وقالَ في التوكُّلِ: { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ } ولم يَقُلْ: ورسولُه؛ لأنَّ الإيتاءَ هو الإعطاءُ الشرْعيُّ، وذلك يَتَضَمَّنُ الإباحةَ والإحلالَ الذي بَلَّغَهُ الرسولُ، فإنَّ الْحَلالَ ما أَحَلَّه، والحرامَ ما حَرَّمَهُ، والدِّينَ ما شَرَعَهُ، قالَ تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا }.

وأمَّا الْحَسْبُ فهو الكافي، واللهُ وَحْدَه هو كافٍ عبدَه، كما قالَ تعالى: { الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ * فَاْخَشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا * وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } فَهُوَ وَحْدَهُ حَسْبُهُمْ كُلِّهِمْ ).

التوضيحُ

هنا قالَ تعالى في التوكُّلِ حَسْبُنا اللهُ أي:كافينا، ولم يَقُلْ ورسولُه، بينَما قالَ في الإيتاءِ: { سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } وقبلَ ذلك قالَ: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ }.
والسببُ في ذلك أنَّ الإيتاءَ هو الإعطاءُ الشرْعيُّ من الإباحةِ والتحريمِ الذي شَرَعَه النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لذلك قالَ تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا }.
وأمَّا الْحَسْبُ فهو الكافي واللهُ تعالى وَحْدَه كافٍ عِبادَه،كما قالَ تعالى: { أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } وقالَ: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } قالَ ابنُ كثيرٍ: ( فتَضَمَّنَتْ هذه الآيةُ الكريمةُ أَدَبًا عظيمًا وسِرًّا شريفًا، حيث جَعَلَ الرِّضَا بما آتاه اللهُ ورسولُه، والتوكُّلَ على اللهِ وَحْدَه، وهو قولُه: { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ } ).

وَقْفَةٌ مع قولِه تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }.
قولُه: ( وقالَ تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أي:حَسْبُكَ وحَسْبُ مَن اتَّبَعَكَ من المؤمنينَ هو اللهُ، فهو كافيكم كلِّكم، وليس المرادُ: أنَّ اللهَ والمؤمنينَ حَسْبُكَ، كما يَظُنُّه بعضُ الغالِطِينَ، إذ هو وَحْدَه كافٍ نبيَّهُ، وهو حَسْبُه، ليس معه مَن يكونُ هو وإيَّاه حَسْبًا للرسولِ، وهذا في اللغةِ كقولِ الشاعِرِ " فحَسْبُكَ والضَّحَّاكَ سيفٌ مُهَنَّدٌ " وتقولُ العرَبُ: حسْبُكَ وزيدًا دِرْهَمٌ، أي:يَكفيكَ وزَيْدًا جميعًا دِرْهَمٌ ).

التوضيحُ

اختُلِفَ في معنى هذه الآيةِ على ثلاثةِ أقوالٍ:

الأوَّلُ: حَسْبُكَ وحَسْبُ مَن اتَّبَعَكَ من المؤمنينَ هو اللهُ، وهذا قولُ جمهورِ المفسِّرينَ اختارَه ابنُ جَريرٍ وابنُ كثيرٍ وهو مَنقولٌ عن عبدِ الرحمنِ بنِ زيدٍ وعَطاءٍ، فيكونُ المعنى كافِيَكَ اللهُ وكافِيَ مَن اتَّبَعَكَ من المؤمنينَ، ( فمَنْ ) في مَحَلِّ جَرٍّ بالعَطْفِ على الكافِ في حَسْبُكَ.

الثاني: حَسْبُكَ اللهُ والمؤمنون، فتكونُ ( مَن ) في مَحَلِّ رَفْعٍ عَطْفًا على اسمِ اللهِ تعالى، وهذا الذي غَلَّطَه شيخُ الإسلامِ هنا، وقد نُقِلَ عن الْحَسَنِ، وعَزاه القُرطبيُّ إلى النَّحَّاسِ.

الثالثُ: يَكفيكَ اللهُ ويَكْفِي مَن اتَّبَعَكَ من المؤمنينَ، فتكونُ ( مَن ) في مَحَلِّ نصْبِ مفعولٍ معه، وهذا المعنى موافِقٌ للمعنى الأوَّلِ، وإنما الاختلافُ في الإعرابِ فقط، وقد نَسَبَه الشوكانيُّ إلى النَّحَّاسِ أيضًا،حيث قالَ " واختارَ النصْبَ على المفعولِ معه النحَّاسُ ".
ولا يَصِحُّ القولُ بأنَّ المعنى " حَسْبُكَ اللهُ وحَسْبُكَ المؤمنونَ " لأنَّ الحسْبَ والكِفايةَ والتوكُّلَ للهِ تعالى وَحْدَه، ولا يُوجَدُ آيةٌ في كِتابِ اللهِ أَسْنَدَت الْحَسْبَ إلى غيرِه،وقد سَبَقَت الآياتُ في ذلك، وأمَّا قولُه: { وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ } فهنا فَرَّقَ بينَ الْحَسْبِ فجَعَلَه للهِ وَحْدَه وبينَ التأييدِ بالنصْرِ وبالمؤمنينَ.
فإن قيلَ في قولِه: { حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ } لا يَصِحُّ تقديرُ الجَرِّ؛لأنَّ العَطْفَ على الضميرِ المجرورِ من غيرِ إعادةِ الجارِّ ضَعَّفَهُ عُلماءُ اللغةِ كما قالَ ابنُ مالِكٍ:

" وعَوْدُ خافِضٍ لَدَى عَطْفٍ على = ضميرِ خَفْضٍ لازِمًا قد جُعِلاَ "

فالجوابُ: أنَّ هذا صَحَّحَه جماعةٌ من العُلَماءِ، وشواهدُه كثيرةٌ في الشعْرِ والنثْرِ، لذلك قالَ ابنُ مالِكٍ:

وليس عندي لازِمًا إذا قد أَتَى = في النظْمِ والنَّثْرِ الصحيحِ مُثْبَتًا

والصحيحُ في هذا، جَوازُ التقديراتِ الثلاثةِ؛الْجَرِّ والنصْبِ والرفْعِ، فالجَرُّ كما سَبَقَ عَطْفًا على الكافِ، والنصْبُ بكونِ ( من ) مفعولاً معه كما قالَ الشاعِرُ:

" إذا كانت الْهَيْجَاءُ وانْشَقَّتِ الْعَصَا = فحَسْبُكَ والضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ "

والرفْعُ ( بِجَعْلِ مَن ) مبتدأً خبَرُه محذوفٌ، والتقديرُ: حَسْبُكَ اللهُ، ومَن اتَّبَعَكَ من المؤمنين حَسْبُهُم اللهُ أيضًا. واللهُ أَعْلَمُ.
وفَضَّلَ ابنُ القيِّمِ النصْبَ كما تقولُ: حَسْبُكَ وزيدًا دِرْهَمٌ، وهو مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرَه شيخُ الإسلامِ.

متابَعَةُ الأدلَّةِ على وُجوبِ إفرادِ اللهِ بجميعِ العِباداتِ
قولُه: ( وقالَ في الخوفِ والْخَشيَةِ والتَّقْوَى:{ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } فأَثْبَتَ الطاعةَ للهِ وللرسولِ، وأَثْبَتَ الْخَشيةَ والتقوى للهِ وَحْدَه، كما قالَ نوحٌ عليه السلامُ { إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ }. فجعلَ العِبادةَ والتَّقْوَى للهِ وَحْدَه، وجَعَلَ الطاعةَ له، فإنه مَن يُطِعِ الرسولَ فقد أَطاعَ اللهَ، وقد قالَ تعالى: { فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } وقالَ تعالى: { فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } وقالَ الخليلُ عليه السلامُ: { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } وقالَ تعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ }.

وفي الصحيحينِ عن ابنِ مَسعودٍ أنه قالَ:" لَمَّا نَزَلَتْ هذه الآيةُ شَقَّ على أصحابِ رسولِ اللهِ صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا: وأَيُّنَا لم يَظْلِمْ نَفْسَه؟ فقالَ النبيُّ صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما هو الشرْكُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا إلى قولِ العبْدِ الصالِحِ:{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } وقالَ تعالى: { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ }، { وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ } ).

التوضيحُ

ذَكَرَ شيخُ الإسلامِ هنا بعضَ العِباداتِ الباطِنةِ التي يَجِبُ إفرادُ اللهِ تعالى بها، ومنها الخوفُ والْخَشيةُ والتقوى، ولم يُرِدْ هنا بيانَ جميعِها ولا أعْظَمِها، وإنما المقصودُ بيانُ وجوبِ إفرادِ اللهِ بها، ففي قولِه تعالى: { مَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقِهِ } فجَعَلَ الطاعةَله تعالى ولرسولِه، وأَمَّا الْخَشيةُ والتقوى فخَصَّها له وَحْدَه، والفرْقُ بينَ الخوفِ والْخَشيةِ - كما قالَ ابنُ القيِّمِ - أنَّ الْخَشيةَ أخَصُّ من الخوفِ فهي خوفٌ مَقرونٌ بمعرِفَةٍ، ولذلك قَرَنَها اللهُ تعالى بالعُلَماءِ، كما في قولِه تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ }.

وأُصولُ العِبادةِ هي الْمَحَبَّةُ والخوفُ والرجاءُ، وقد جَمَعَهَا اللهُ تعالى في قولِه: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } فابتغاءُ القُرْبِ إشارةٌ إلى الْمَحَبَّةِ، ثم الرجاءُ، وبَعدَه الخوفُ، وجَعَلَ ابنُ القيِّمِ مَنزِلَةَ الْمَحَبَّةِ أرْفَعَ من مَنْزِلَةِ الخوفِ، وذلك لسببينِ:

أحدُهما: أنَّ الْمَحَبَّةَ مقصودةٌ لذاتِها، وأمَّا الخوفُ فمقصودٌ لغيرِه، ولذلك يَزولُ بزوالِ الْمَخُوفِ، فأَهْلُ الجنَّةِ لا خوفٌ عليهم، ولا هم يَحْزَنُون.

ثانيهما: أنَّ الخوفَ يَتَعَلَّقُ بأفعالِ اللهِ، والْمَحَبَّةَ تَتَعَلَّقُ بذاتِه وصِفاتِه؛ ولهذا تَتَضَاعَفُ مَحَبَّةُ المؤمنينَ لرَبِّهِم إذا دَخَلوا الْجَنَّةَ.

فائدةٌ في حَديثينِ

قولُه: ( ومِن هذا البابِ أنَّ النبيَّ صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقولُ في خُطْبَتِه:" مَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّ إِلاَّ نَفْسَهُ، وَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا " وقالَ:" لاَ تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ " ففي الطَّاعةِ قَرَنَ اسمَ الرسولِ باسمِه بحرْفِ الواوِ، وفي المشيئةِ أمَرَ أن يُجْعَلَ ذلك بحرفِ " ثم "؛وذلك لأنَّ طاعةَ الرسولِ طاعةٌ للهِ، فمَن أطاعَ الرسولَ فقد أَطاعَ اللهَ، وطاعةَ اللهِ طاعةُ الرسولِ بخِلافِ المشيئةِ، فليست مشيئةُ أحدٍ من العِبادِ مشيئةً للهِ، ولا مَشيئةُ اللهِ مُستلزِمَةً لمشيئةِ العِبادِ، بل ما شاءَ اللهُ كان، وإن لم يَشَأ الناسُ، وما شاءَ الناسُ لم يكنْ، إن لم يَشَأ اللهُ ).

التوضيحُ

بعدَ أنْ ذَكَرَ شيخُ الإسلامِ بعضَ الدقائِقِ القُرآنِيَّةِ والأسرارِ البَلاغيَّةِ قالَ هنا: إنَّ من هذه الدقائِقِ كثيرًا في السنَّةِ أَيْضًا، ومنها حَديثان نُوَضِّحُهما كما يَلِي:

الحديثُ الأوَّلُ: " مَنْ يُطِعِ اللهَ ورسولَه فقد رَشَدَ ومَن يَعْصِهِما فلا يَضُرُّ إلا نفسَه.... " والحديثُ روايةٌ من رواياتِ خُطْبَةِ الحاجَةِ،ضَعَّفَ هذه الروايةَ الْمُنْذِرِيُّ والشوكانيُّ والألبانيُّ، وصَحَّحَها النوويُّ، ولا يَضُرُّ تضعيفُها بما أَرادَه شيخُ الإسلامِ هنا، فإنَّ ما أَرادَه لا يَتَوَقَّفُ على هذه الروايةِ فقط بل شواهِدُه في القرآنِ والسُّنَّةِ كثيرةٌ، ومنها قولُه تعالى: { وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }.

الحديثُ الثاني " لاَ تَقُولُوا مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ فُلاَنٌ وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ مَا شَاءَ فُلاَنٌ ".
فلاحِظْ أنه صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الطاعَةِ قَرَنَ اسمَهُ باسمِ اللهِ تعالى بحرْفِ " الواوِ "، وفي المشيئةِ أَمَرَ أن يُقْرَنَ بـ" ثم "؛ وذلك لأنَّ طاعةَ الرسولِ طاعةٌ للهِ تعالى، بخِلافِ المشيئةِ فليست مشيئةُ أحَدٍ من العِبادِ مَشيئةً للهِ، بل ما شاءَ اللهُ كان، وإن لم يَشَأ الناسُ، وما شاءَ الناسُ لم يكنْ إلا أن يَشاءَ اللهُ، وما أَحْسَنَ قولَ الإمامِ الشافعيِّ:

فما شِئْتَ كان وإن لم أَشَـأْ = وما شئتُ إن لم تَشَأْ لم يَكُنْ
خَلَقْتَ العِبادَ على ما عَلِمْتَ = ففي العلْمِ يَجري الفَتَى والْمُسِنّْ
على ذا مَنَنْتَ وهذا خَـذَلْتَ = وهـذا أَعَـنْتَ وذا لم تُعِـنْ
فمِنهم شَقِـٌّي ومنهم سَعيـدٌ = ومنهم قَبيـحٌ ومنهم حَسَـنْ

قولُه: " ومَن يَعْصِهِما " قلنا:إنَّ الحديثَ ضعيفٌ، لكن وَرَدَ الجمْعُ بينَ ضميرِ اللهِ تعالى وضميرِ رسولِه صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في حديثِ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ خَيْبَرٍ أمَرَ مُناديًا، فنادَى في الناسِ: " إنَّ اللهَ ورسولَه يَنْهَيَانِكُمْ عن لُحومِ الْحُمُرِ الأهليَّةِ.. " وأيضًا قالَ رسولُ اللهِ صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا... ".

وقد ثَبَتَ أنَّ رَجُلاً خَطَبَ عندَ النبيِّ صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: مَن يُطِعِ اللهَ ورسولَه فقد رَشَدَ ومَن يَعْصِهِما فقد غَوَى. فقالَ رسولُ اللهِ صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:بِئْسَ الخطيبُ أنتَ، قلُ: " وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ " فنهاهُ عن الجمْعِ بينَ ضميرِ اللهِ تعالى وضَميرِ رسولِه صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكيفَ يُجْمَعُ بينَ نَهْيِه وقولِه مع إِقرارِه؟

أجابَ العُلَماءُ عن هذا الإشكالِ بأَجْوِبَةٍ كثيرةٍ منها:
الجوابُ الأوَّلُ: أنَّ الْمُرادَ في الْخُطَبِ الإيضاحُ، وأمَّا في تلك الأحاديثِ فالْمُرادُ الإيجازُ في اللفظِ ليُحْفَظَ.
الجوابُ الثاني: أنَّ ذلك خاصٌّ بالنبيِّ صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛لأنَّ إطلاقَ غيرِه قد يُوهِمُ التسويةَ بخِلافِه صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتعظيمِه لربِّه تعالى.
الجوابُ الثالثُ: في قولِه صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا " جَمَعَ بينَهما للتَّلاَزُمِ بينَ الْمَحَبَّتَيْنِ، وفي المعصِيَةِ فَرَّقَ بينَ الضميرينِ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ من العِصْيَانَيْنِ مُسْتَقِلٌّ في استلزامِ الغِوايةِ، واستحْسَنَ الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ هذا الجوابَ.

الأصلُ الثاني: الرسالةُ
قولُه: ( الأصلُ الثاني في حقِّ الرسولِ صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعَلَيْنَا أن نُؤْمِنَ به صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونُطِيعَه، ونُرْضِيَه ونُحِبَّهُ، ونُسَلِّمَ لِحُكْمِه، وأمثالُ ذلك: قالَ تعالى: { مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ } وقالَ تعالى: { وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ } وقالَ تعالى: { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا، وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ } وقالَ تعالى: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وقالَ تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ } وأمثالُ ذلك ).

التوضيحُ

قد سَبَقَت الإشارةُ إلى حَقِّ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذَكَرَ هنا بعضًا من ذلك كما يَلِي:
أن نُؤمِنَ به لقولِه تعالى: { آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ}.
ونُطيعَه لقولِه تعالى: { وَمَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهُ } وغيرُها كثيرٌ.
ونَتَّبِعَه لقولِه تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ }.
ونُرْضِيَهُ لقولِه تعالى: { وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ }.
ونُحِبَّه لقولِه تعالى: { إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا * وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ } اقْتَرَفْتُمُوها أي: اكْتَسَبْتُمُوها.
ونُسَلِّمَ لِحُكْمِه لقولِه تعالى: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وأمثالِ ذلك.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
أصل, الإسلام

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:11 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir