دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > الرسالة التدمرية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م, 06:33 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي فساد مسلك النفاة في التنزيه

فـصــــلٌ
وَأَفْسَدُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَسْلُكُهُ نُفاةُ الصِّفَاتِ أَوْ بَعْضِهَا، إِذَا أَرَادُوا أَنْ يُنَزِّهُوهُ عَمَّا يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْهُ مِمَّا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ، مِثْلَ أَنْ يُرِيدُوا تَنْزِيهَهُ عَنِ الحُزْنِ وَالْبُكَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيُرِيدُونَ الرَّدَّ عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ بَكَى عَلَى الطُّوفَانِ حَتَّى رَمَدَ وَعَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ بِإِلَهِيَّةِ بَعْضِ الْبَشَرِ، وَأَنَّهُ اللَّهُ.
فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَحْتَجُّ عَلَى هَؤُلاَءِ بِنَفْيِ التَّجْسِيمِ أَوِ التَّحَيُّزِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيَقُولُونَ: لَو اتَّصَفَ بِهَذِهِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ لَكَانَ جِسْمًا أَوْ مُتَحَيِّزًا، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ.
وَبِسُلُوكِهِمْ مِثْلَ هَذِهِ الطَّرِيقِ اسْتَظْهَرَ عَلَيْهِمُ الْمَلاَحِدَةُ، نُفاةُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، فَإِنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَ لاَ يَحْصلُُ بِهَا الْمَقْصُودُ لِوُجُوهٍ:
أَحُدُّهَا: أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذِهِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ أَظْهَرُ فَسَادًا فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ مِنْ نَفْيِ التَّحَيُّزِ وَالتَّجْسِيمِ، فَإِنَّ هَذَا فِيهِ مِنَ الاشْتِبَاهِ وَالنِّزَاعِ وَالْخَفَاءِ مَا لَيْسَ فِي ذَلِكَ، وَكُفْرُ صَاحِبِ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلاَمِ، وَالدَّلِيلُ مُعَرِّفٌ لِلْمَدْلُولِ، وَمُبَيِّنٌ لَهُ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى الْأَظْهَرِ الْأَبْيَنِ بِالْأَخْفَى، كَمَا لاَ يُفْعَلُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْحُدُودِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَصِفُونَهُ بِهَذِهِ الْآفَاتِ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا: نَحْنُ لاَ نَقُولُ بِالتَّجْسِيمِ وَالتَّحَيُّزِ، كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يُثْبِتُ الصِّفَاتِ وَيَنْفِي التَّجْسِيمَ، فَيَصِيرُ نِزَاعُهمْ مِثْلَ نِزَاعِ مُثْبِتَةِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، فَيَصِيرُ كَلاَمُ مَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَصِفَاتِ النَّقْصِ وَاحِدًا، وَيَبْقَى رَدُّ النُّفاةِ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ هَؤُلاَءِ يَنْفُونَ صِفَاتِ الْكَمَالِ بِمِثْلِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَاتِّصَافُه بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَاجِبٌ، ثَابِتٌ بِالْعَقْلِ وَالسَّمْعِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ سَالِكِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مُتَنَاقِضُونَ، فَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا مِنْهُمْ أَلْزَمَهُ الْآخَرُ بِمَا يُوَافِقُهُ فِيهِ مِنَ الإِثْبَاتِ، كَمَا أَنَّ كُلَّ مَنْ نَفَى شَيْئًا مِنْهُمْ أَلْزَمَهُ الْآخَرُ بِمَا يُوَافِقُهُ فِيهِ مِنَ النَّفْيِ، فَمُثْبِتَةُ الصِّفَاتِ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلاَمِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، إِذَا قَالَتْ لَهُمُ النُّفاةُ كَالْمُعْتَزِلَةِ: هَذَا تَجْسِيمٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ أَعْرَاضٌ، وَالْعَرَضُ لاَ يَقُومُ إِلاَّ بِالْجِسْمِ، فَإِنَّا لاَ نَعْرِفُ مَوْصُوفًا بِالصِّفَاتِ إِلاَّ جِسْمًا - قَالَتْ لَهُمُ الْمُثْبِتَةُ: وَأَنْتُمْ قَدْ قُلْتُمْ: إِنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ، وَقُلْتُمْ: لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَوْجُودًا حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا إِلاَّ جِسْمًا، فَقَدْ أَثْبَتُّمُوهُ عَلَى خِلاَفِ مَا عَلِمْتُمْ، فَكَذَلِكَ نَحْنُ، وَقَالُوا لَهُمْ: أَنْتُمْ أَثْبَتُّمْ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا، بِلاَ حَيَاةٍ وَلاَ عِلْمٍ وَلاَ قُدْرَةٍ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ يُعْلَمُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ.
ثُمَّ هَؤُلاَءِ الْمُثْبِتَةُ إِذَا قَالُوا لِمَنْ أَثْبَتَ أَنَّهُ يَرْضَى وَيَغْضَبُ وَيُحِبُّ وَيُبْغِضُ، أَوْ مَنْ وَصَفَهُ بِالِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ، أَوْ بِالْوَجْهِ وَالْيَدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - إِذَا قَالُوا: هَذَا يَقْتَضِي التَّجْسِيمَ؛ لِأَنَّا لاَ نَعْرِفُ مَا يُوصَفُ بِذَلِكَ إِلاَّ مَا هُوَ جِسْمٌ، قَالَتْ لَهُمُ الْمُثْبِتَةُ: فَأَنْتُمْ قَدْ وَصَفْتُمُوهُ بِالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلاَمِ، وَهَذَا هَكَذَا، فَإِنْ كَانَ هَذَا لاَ يُوصَفُ بِهِ إِلاَّ الْجِسْمُ فَالْآخَرُ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُوصَفَ بِأَحَدِهِمَا مَا لَيْسَ بِجِسْمٍ فَالْآخَرُ كَذَلِكَ، فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ.
وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الرَّدُّ عَلَى مَنْ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِالنَّقَائِصِ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ طَرِيقًا فَاسِدًا - لَمْ يَسْلُكْهُ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ، فَلَمْ يَنْطِقْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِالْجِسْمِ لاَ نَفْيًا وَلاَ إِثْبَاتًا، وَلاَ بِالْجَوْهَرِ وَالتَّحَيُّز وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا عِبَارَاتٌ مُجْمَلَةٌ لاَ تُحِقُّ حَقًّا وَلاَ تُبْطِلُ بَاطِلًا، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فِيمَا أَنْكَرَ عَلَى الْيَهُودِ وَغَيْرِهمْ مِنَ الكُفَّارِ مَا هُوَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، بَلْ هَذَا هُوَ مِنَ الكَلاَمِ الْمُبْتَدَعِ الَّذِي أَنْكَرَهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ.

  #2  
قديم 7 ذو الحجة 1429هـ/5-12-2008م, 03:06 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي تقريب التدمرية للشيخ: محمد بن صالح العثيمين

فَصْلٌ

فإذَا تَبَيَّنَ أنَّهُ لاَ يصِحُّ الاعْتمادُ في ضابطِ النَّفْيِ على مجرَّدِ نفي التَّشْبيهِ وأَنَّهُ طريقٌ فاسدٌ، فإنَّ أفسَدَ منْهُ مَا يَسلُكُهُ بعضُ النَّاسِ حيثُ يَعتمدُونَ فيمَا يُنْفَى عنِ اللهِ تعالى على نفيِ التَّجْسِيمِ والتَّحَيُّزِ ونحوِ ذلكَ، فتَجدُهُمْ إِذَا أَرادُوا أنْ يَحتجُّوا على من وَصَفَ اللهَ تعالى بالنَّقَائِصِ مِنَ الحُزْنِ، والبكاءِ، والمَرَضِ، والوِلادةِ ونحوِهَا يقولونَ لهُ لَوِ اتَّصَفَ اللهُ بذلكَ لكانَ جِسْماً، أوْ مُتَحَيِّزاً، وهذَا ممتنِعٌ هذِهِ حُجَّتُهُمْ عَلَيْهِ.
وهذِهِ طريقةٌ فاسدةٌ لاَ يَحْصُلُ بِهَا المقْصُودُ لوُجوهٍ:
الأوَّلُ: أَنَّ لفْظَ "الجِسْمِ" و "الجَوْهَرِ" و " التَّحَيُّزِ" ونحوِهَا عباراتٌ مُجْمَلَةٌ مُشْتَبِهَةٌ لاَ تُحِقُّ حَقًّا، ولاَ تُبْطِلُ بَاطِلاً، ولذلكَ لمْ تُذْكَرْ فيمَا وَصَفَ اللهُ وسَمَّى بهِ نَفْسَهُ لا نفياً ولا إثْباتاً، لا في كتابِ اللهِ تعالى، ولاَ في سنَّةِ رسولِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولمْ يَسْلُكْهُ أحدٌ منْ سَلَفِ الأمَّةِ وأئمَّتِهَا، وإنَّمَا هيَ عباراتٌ مُبْتَدَعَةٌ أَنْكَرَهَا السَّلَفُ والأئمَّةُ.
الثَّانِي: أنَّ وصْفَ اللهِ تعالى بهذِهِ النَّقَائِصِ أَظْهَرُ فَسَاداً في العقْلِ والدِّينِ مِنْ وَصْفِهِ بالتَّحَيُّزِ والتَّجْسِيمِ، فإنَّ كُفْرَ منْ وَصَفَهُ بهذِهِ النَّقَائِصِ معلومٌ بالضَّرُورَةِ مِنَ الدِّينِ، بِخلافِ التَّحَيُّزِ والتَّجْسِيمِ لِمَا فيهِمَا مِنَ الاشْتِبَاهِ والخَفَاءِ.
وَإِذَا كَانَ وصْفُ اللهِ تعالى بهذِهِ النَّقَائِصِ أَظْهَرُ فَسَاداً منْ وَصْفِهِ بالحيِّزِ والجِسْمِ، فإنَّهُ لاَ يَصِحُّ الاسْتِدْلاَلُ بالأخْفى على الأظهَرِ، لأنَّ الدَّليلَ مبيِّنٌ للمدْلولِ ومُثْبِتٌ لَهُ، فلاَ بُدَّ أنْ يكونَ أبْيَنَ وأَظْهَرَ مِنْهُ.
الثَّالِثُ: أنَّ مَنْ وَصَفُوهُ بهذِهِ النَّقَائِصِ يُمْكِنُهُمْ أنْ يَقُولُوا نَحْنُ نَصِفُهُ بذلكَ وَلاَ نقولُ بالتَّجْسِيمِ وَالتَّحَيُّزِ كمَا يقولُهُ مَنْ يُثْبِتُ للهِ صِفاتِ الكمالِ مَعَ نفيِ القَوْلِ بالتَّجْسيمِ والتَّحيُّزِ فيكونُ كلامُ منْ يَصفُ اللهَ بصفاتِ الكمالِ ومنْ يَصفُهُ بصفاتِ النَّقْصِ واحداً، ويَبقى الرَّدُّ عليْهِمَا بطريقٍ واحدٍ وهوَ أنَّ الإثباتَ مستلزِمٌ للتَّجْسِيمِ والتَّحَيُّزِ وهذَا في غايةِ الفَسَادِ والبُطْلانِ.
الرَّابِعُ: أنَّ الَّذينَ اعْتَمَدُوا في ضابِطِ مَا يُنْفَى عنِ اللهِ على نفيِ التَّجْسِيمِ والتحيُّزِ نَفَوْا عَنِ اللهِ تعالى صفاتِ الكمالِ بهذِهِ الطَّريقةِ.
واتِّصَافُ اللهِ تعالى بِصِفاتِ الكمالِ وَاجبٌ ثابتٌ بالسَّمْعِ، والعقلِ فيكونُ كلُّ مَا اقتضى نفيَهُ باطلاً بالسَّمْعِ والعَقْلِ، وبِهِ يَتبيَّنُ فسادُ تلكِ الطَّرِيقَةِ وبُطْلانِها.
الخَامِسُ: أنَّ سالِكِي هذِهِ الطَّريقَةِ متناقضُونَ فكلُّ منْ أَثبتَ شَيْئاً ونَفَى غيْرَهُ أَلزَمَهُ الآخَرُ بِمَا يُوافِقُهُ فيهِ منَ الإِثباتِ، وكلُّ منْ نَفَى شيْئاً وأَثْبَتَ غيرَهُ أَلزَمَهُ الآخَرُ بمَا يُوافِقُهُ فيهِ منَ النَّفْيِ.
مثالُ ذلكَ: أنَّ مَنْ أَثْبَتُوا للهِ تعالى الحياةَ، والعِلْمَ، والقدرةَ، والإِرادةَ، والسَّمْعَ، والبصرَ، والكلامَ دونَ غيرِهَا منَ الصِّفَاتِ قالَ لهمْ نُفاةُ ذلكَ كالمعتزِلةِ إثباتُ هذِهِ تَجْسيمٌ لأنَّ هذِهِ الصِّفاتِ أَعراضٌ، والعَرَضُ لاَ يَقومُ إلاَّ بِجِسمٍ.
فيَرُدُّ عليهِمْ أولئِكَ بأنَّكُمْ أنْتُمْ أَثْبَتُّمْ أنَّهُ حيٌّ، عليمٌ، قديرٌ، وَقُلْتُمْ ليسَ بجسمْ معَ أنَّكُمْ لاَ تَعْرِفُونَ حَيًّا، عَالماً قَادراً إلا جِسْماً فأَثبتُّمُوهُ على خلافِ مَا عرفْتُمْ فكذلكَ نحنُ نُثْبِتُ هذهِ الصِّفاتِ ولاَ نقولُ إنَّهُ جِسْمٌ فهذَا تناقُضُ المُعْتَزِلَةِ، أما تَناقُضُ خُصُومِهِمُ الَّذِينَ أَثْبَتُوا الصِّفاتِ السَّبْعِ السَّابِقَةِ دونَ غيرِهَا فقدْ قالُوا لمنْ أَثْبَتَ صفةَ الرِّضَا، والغَضَبِ، ونحوِهَا: إثباتُ الرِّضَا والغَضَبِ، والاسْتِواءِ، والنُّزُولِ، والوجْهِ، واليَدَيْنِ ونحوِهَا تجْسِيمٌ لأنَّنَا لاَ نَعرِفُ ما يُوْصَفُ بذلكَ إلا مَا هُوَ جِسْمٌ.
فَيَرُدُّ عليْهِمُ المُثْبِتَةُ بأنَّكُمْ أنتمْ وَصَفتُموهُ بالحياةِ، والعلْمِ، والقدرةِ، والإِرادةِ، والسَّمعِ، والبصرِ، والكلامِ ولاَ يُعْرَفُ مَا يُوْصَفُ بذلكَ إلا مَا هوَ جسمٌ، فإنْ لَزِمَنَا التَّجْسِيمُ فيمَا أثْبَتْنَاهُ لَزِمَكُمْ فيمَا أثبتُّمُوهُ، وإنْ لمْ يَلزَمْكمْ فيمَا أثبتُّمُوهُ لمْ يَلْزَمْنا فيمَا أَثبتْناهُ وإنْ أَلزمْتُمُونَا بهِ، لأنَّهُ لاَ فَرْقَ بيْنَ الأمْرَيْنِ وتَفريقُكُمْ بينَهُمَا تَناقُضٌ مِنْكُمْ.

  #3  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 05:23 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التحفة المهدية للشيخ: فالح بن مهدي الدوسري


فصـــلٌ

قولُه:
وأَفْسَدَ من ذلك ما يَسلكُه نُفاةُ الصفاتِ أو بعضِها إذا أرادوا أن يُنزِّهُوه عما يَجبُ تنزيهُه عنه، مما هو من أعظمِ الكفْرِ، مثلُ أن يريدوا تنزيهَه عن الحُزْنِ والبكاءِ ونحوِ ذلك، ويريدون الردَّ على اليهودِ الذين يقولون: إنه بكى على الطوفانِ حتى رَمَدَ، وعادَتْهُ الملائكةُ، والذين يقولون (بإلهيَّةِ) بعضِ البشرِ، وأنه اللهُ. فإن كثيراً من الناسِ يَحتجُّ على هؤلاءِ بنفيِ التجسيمِ والتحيُّزِ ونحوِ ذلك، ويقولون لو اتَّصفَ بهذه النقائصِ والآفاتِ لكان جسماً أو متحيِّزاً وذلك ممتَنِعٌ، وبسلوكِهم مثلَ هذه الطريقِ استَظْهَرَ عليهم الملاحِدةُ نُفاةُ الأسماءِ والصفاتِ.

الشرْحُ:
يقولُ الشيخُ: وأَفسَدُ من الطريقِ السابقِ وهو الاعتمادُ في تنزيهِ اللهِ على مجرَّدِ النفيِ - أفسدُ من ذلك: الطريقُ الذي يعتمدون عليه في تنزيهِ اللهِ عن النقائصِ والعيوبِ؛ كالحُزْنِ والبكاءِ واللَّغُوبِ، والقوْلِ بأنه استراحَ بعد خلقِه السمواتِ والأرضَ، والقولِ بأن يدَه مغلولةٌ، وأشباهِ هذه الأقوالِ التي هي من أَعظمِ الكفْرِ وأَشنعِ الضلالِ - إذا أرادَ نُفاةُ الصفاتِ أو نُفاةُ بعضِها أن ينزِّهوا اللهَ سبحانَه عن هذه النقائصِ، وأن يردُّوا على أصحابِها اعتمدوا في ردِّهِم على نفيِ الجسميَّةِ والتحيُّزِ ونحوِ ذلك كالتركيبِ. فمَثلاً: إذا أرادوا أن يردُّوا على اليهودِ القائلين بأن اللهَ بَكَى على طُوفانِ نوحٍ حتى رَمَدَتْ عيناه ثم عادَتْه الملائكةُ إلى غيرِ ذلك من أوصافِ النقصِ التي وَصفوا اللهَ بها، أو على النَّصارَى القائلين بإلهيَّة عيسَى، أو على غُلاةِ الشيعةِ القائلين بإلهيَّةٍ عليٍّ قالوا: لو كان اللهُ متَّصِفاً بهذهِ الصفاتِ التي ذَكرتُم لكانَ جِسماً أو مُتحيِّزاً واللهُ مُنَزَّهٌ عن أن يكونَ جسْماً أو متحيِّزاً. وبسلوكِهم هذا المسلَكَ الفاسدَ تَطاولَ عليهم الفلاسفةُ ونحوُهم من الملاحدةِ. قالَ الشيخُ: ومن هنا دخَلَت الملاحدةُ الباطنيَّةُ على المسلمين حتى رَدُّوا عن الإسلامِ خلْقاً عظيماً فصاروا يقولون لمن نَفَى شيئاً عن الربِّ مِثلِ مَن يَنفي بعضَ الصفاتِ، أو جميعَها أو الأسماءَ: لِمَ نَفَيتَ هذا؟ فيقولُ: لأن ذلك يَستلزمُ التشبيهَ والتجسيمَ فيقولون: وهذا اللازم يَلزمُك فيما أثبَتَّهُ فيحتاجُ أن يوافقَهم على النفيِ شيئاً بعد شيءٍ حتى يَنتهيَ أمرُه إلى أن لا يَعرفَ اللهَ بقلبِه ولا يذكرَه بلسانِه ولا يَعبدَه ولا يدعوَه، فالملاحدةُ أَلزَموهم في النصوصِ - نصوصِ المعادِ - نظيرَ ما ادَّعَوْه في نصوصِ الصفاتِ فقالوا لهم: نحن نعلمُ بالاضطرارِ أن الرسولَ جاءَ بمعادِ الأبدانِ وقد علِمنا فسادَ الشبهةِ المانِعةِ منه فكيفَ يَجوزُ أن يكونَ ما أَخبرَ به من الصفاتِ ليس كما أَخبرَ به من المعادِ وما أَخبرَ به من المَعادِ هو على ما أَخبرَ به؟

قالَ الشيخُ: (ولهذا كان ابنُ النَّفِيسِ المتَطَبِّبُ الفاضلُ يقولُ: ليس إلا مذهبان: مذهبُ أهلِ السنَّةِ أو مذهبُ الفلاسفةِ. فأما هؤلاءِ المتكلِّمون فقولُهم ظاهرُ التناقضِ والاختلافِ. يعني أن أهلَ السنَّةِ أَثبَتوا كلَّ ما جاءَ به الرسولُ وأولئك جَعلوا الجميعَ تَخْييلاً وتوهيماً. ومعلومٌ بالأدلَّةِ الكثيرةِ السمْعيَّةِ والعقليَّةِ فسادُ مذهبِ هؤلاءِ الملاحدةِ. فتعيَّنَ أن يكونَ الحقُّ مذهبَ السلفِ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ.

قولُه:
فإن هذه الطريقةَ لا يَحصلُ بها المقصودُ لوجوهٍ:

أحدُها: أن وصْفَ اللهِ تعالى بهذه النقائصِ والآفاتِ أظهَرُ فساداً في العقلِ والدِّينِ من نفيِ التحيُّزِ والتجسيمِ، فإن هذا فيه من الاشتباهِ والنزاعِ والخفاءِ ما ليس في ذلك، وكُفرُ صاحبِ ذلك معلومٌ بالضرورةِ من دينِ الإسلامِ والدليلُ معرفةٌ للمدلولِ ومبيِّنٌ له، فلا يَجوزُ أن يُستدَلَّ على الأظهرِ الأبيَنِ بالأخْفَى، كما لا يُفعلُ مثلُ ذلك في الحدودِ.

الوجْهُ الثاني: أن هؤلاءِ الذين يَصفونه بهذه الصفاتِ يُمكنُهم أن يقولوا: نحن لا نقولُ بالتجسيمِ والتحيُّزِ، كما يقولُه من يُثبتُ الصفاتِ ويَنفي التجسيمَ فيصيرُ نزاعُهم مثلَ نزاعِ مثْبتةِ الكلامِ وصفاتِ الكمالِ، فيصيرُ كلامُ مَن وَصفَ اللهَ بصفاتِ الكمالِ ومن وَصفَه بصفاتِ النقصِ واحداً ويبقَى ردُّ النُّفاةِ على الطائفتين بطريقٍ واحدٍ وهذا في غايةِ الفسادِ.

الثالثُ: أن هؤلاءِ يَنفون صفاتِ الكمالِ بمثلِ هذه الطريقةِ. واتِّصافُه بصفاتِ الكمالِ واجبٌ ثابتٌ بالعقلِ والسمْعِ، فيكون ذلك دليلاً على فسادِ هذه الطريقةِ.

الشرْحُ:
يعني أن الاعتمادَ في تنزيهِ اللهِ على نفيِ التجسيمِ والتحيُّزِ ونحوِ ذلك لا يَحصلُ به المرادُ لأمورٍ:

أحدُها: أن وصْفَ الربِّ بهذه الآفاتِ والعيوبِ أظهرُ فساداً في المعقولِ الصريحِ والمنقولِ الصحيحِ مِن وصْفهِ بالتجسيمِ والتحيُّزِ فإنَّ وصْفَه بهذه النقائصِ أمرٌ واضحُ الفسادِ وبيِّنُ البطلانِ لكلِّ ذي عقلٍ سليمٍ وفطرةٍ مستقيمةٍ. وكفْرُ صاحبِه واضحٌ لا إشكالَ فيه. بينما التجسيمُ والتحيُّزُ والتركيبُ ألفاظٌ مجمَلةٌ تَحتملُ الحقَّ والباطلَ لِمَا فيها مِن الاشتباهِ وخفاءِ المرَادِ، وحينئذٍ لا يَجوزُ الاستدلالُ بما فيه اشتباهٌ وخفاءٌ على ما هو واضحٌ بيِّنٌ، فشأنُ الدليلِ إيضاحُ المدلولِ وتعريفُه؛ فهو كالحدِّ الذي يَشرحُ المحدودَ ويُعرِّفُه تعريفاً واضحاً.

ثانيها: أن الذين يَصفون اللهَ بهذه النقائصِ والعيوبِ يستطيعون أن يقولوا: نحن نَصِفُ اللهَ بهذه الأوصافِ دونَ أن نَصِفَه بالجسميَّةِ والتحيُّزِ، وإذا أجابوا بهذا الجوابِ كان النزاعُ مع من يُثبتُ أوصافَ النقصِ كالنِّزاعِ مع من يُثبتُ أوصافَ الكمالِ من كلامٍ وعلْمٍ وقدْرةٍ إلى غيرِ ذلك من الصفاتِ ويكونُ ردُّ المعطِّلةِ على الجميعِ واحداً بأن يقولوا: لا نَصِفُ اللهَ بالصفاتِ الواردةِ في الكتابِ والسنَّةِ كما لا نَصِفُه بأوصافِ النقصِ؛ لأنه لا يَتَّصفُ بهذه أو تلك إلا جسمٌ متحيِّزٌ وهذا ممتنِعٌ في حقِّ اللهِ، فتبيَّنَ بهذا فسادُ الطريقِ الذي سَلكوه في ردِّهم على من يَصفُ اللهَ بأوصافِ النقصِ.

ثالثها: أن هؤلاءِ المعطِّلةَ يَنفون عن اللهِ أوصافَ الكمالِ بهذا الطريقِ الفاسدِ في حينِ أن الربَّ سبحانَه متَّصِفٌ بأوصافِ الكمالِ ونعوتِ الجلالِ؛ كما وَرَدَتْ بذلك النصوصُ، وكما هو مقتَضَى العقلِ السليمِ والفطرةِ المستقيمةِ؛ فيكون نفيُهم هذا دليلاً على فسادِ طريقتِهم، وأنهم لم يَستفيدوا بها إحقاقَ حقٍّ وإنما استفادوا إبطالَ ما هو حقٌّ ثابتٌ بالعقلِ والشرعِ.
قولُه:
الرابعُ: أن سالِكِي هذه الطريقةِ متناقضون؛ فكلُّ من أَثبتَ شيئاً منهم أَلزمَه الآخَرُ بما يُوافقُه فيه من الإثباتِ. كما أن كلَّ من نَفَى شيئاً منهم أَلزمَه الآخَرُ بما يُوافقُه فيه من النفيِ؛ فمُثبِتةُ الصفاتِ كالحياةِ والعلْمِ والقدرةِ والكلامِ والسمْعِ والبصرِ إذا قالَ لهم النُّفاةُ كالمعتزِلةِ: هذا تجسيمٌ؛ لأن هذه الصفاتِ أعراضٌ والعَرَضُ لا يقومُ إلا بالجسمِ، أو لأنَّا لا نَعرفُ موصوفاً بالصفاتِ إلا جِسماً - قالتْ لهم المُثبِتَةُ: وأنتم قد قُلتم إنه حيٌّ عليمٌ قديرٌ، وقُلتم ليس بجسْمٍ. وأنتم لا تعلمون موجوداً حيًّا عالماً قادراً إلا جسماً فقد أَثبتُّموه على خلافِ ما علِمتم. فكذلك نحن وقالوا لهم: أنتم أَثبتُّم حيًّا عالماً قادراً بلا حياةٍ ولا علْمٍ ولا قدرَةٍ، وهذا تناقُضٌ يُعلمُ بضرورةِ العقلِ.

ثم هؤلاءِ المثبِتون إذا قالوا لمن أَثبَتَ أنه يرضَى ويَغضبُ ويُحبُّ ويُبغضُ أو من وَصَفَه بالاستواءِ والنزولِ والإتيانِ والمجيءِ، وبالوجهِ واليدِ ونحوِ ذلك إذا قالوا: هذا يَقتضي التجسيمَ؛ لأنَّا لا نَعرفُ ما يُوصفُ بذلك إلا ما هو جِسمٌ قالت المُثبِتةُ: فأنتم قد وَصَفْتموه بالحياةِ والعلْمِ والقدرةِ والسمْعِ والبصرِ والكلامِ وهذا كهذا. فإذا كان هذا يُوصفُ به الجسْمٍ فالآخَرُ كذلك، وإن أمكن أن يُوصفَ بأحدِهما ما ليس بجسْمٍ فالآخَرُ كذلك فالتفريقُ بينهما تفريقٌ بينَ المتماثلَيْن.

الشرْحُ:
يقولُ المؤلِّفُ: الرابعُ من الأمورِ التي يتَّضِحُ بها فسادُ المسلَكِ المذكورِ: هو أن هؤلاءِ المبتدِعين الرادِّين عَلَى مَن يَصفُ اللهَ بأوصافِ النقْصِ بنفيِ التجسيمِ والتحيُّزِ متناقضون، ومتضاربِةٌ أقوالُهم؛ فمن يُثبتُ شيئاً من الصفاتِ يَرُدُّ على من يُنازعُه في إثباتِها قائلاً: أنت تُوافقني على إثباتِ الأسماءِ. ومن يَنفي شيئاً من الصفاتِ يقول له من يَنفي الصفاتِ كلَّها أنت تُوافقني في نفيِ شيءٍ من الصفاتِ، ثم شَرحَ الشيخُ هذه القضيَّةَ بمناقشةِ الأشعريِّ مع المعتزلِيِّ بقولِه: (فمُثبِتةُ الصفاتِ كالحياةِ والعلْمِ والقُدرةِ والكلامِ والسمْعِ والبصرِ) - إلى آخِرِه - وخُلاصةُ ذلك أن المعتزِلةَ إذا قالوا للأشاعرةِ أنتم تُثبتون الصفاتِ السبْعَ وهي أعراضٌ، والأعراضُ حادثةٌ فهي لا تقومُ إلا بجسمٍ حادثٍ، لا يُعلمُ في المشاهَدِ متَّصِفاً بالصفاتِ إلا ما هو جِسمٌ حادثٌ. قالت الأشاعرةُ وأنتم أيُّها المعتزِلةُ تثبِتون الأسماءَ للهِ مع أنه لا يُعلمُ في المُشاهَدِ مسمًّى حيًّا عليماً قديراً إلا ما هو جِسمٌ، فقد أثبتُّم ذلك على خلافِ ما تعلمونه في المُشاهَدِ فنحن إذاً نُثبتُ الصفاتِ السبْعَ للهِ على خلافِ ما هو معلومٌ في المُشاهَدِ. ويقولون أيضا: أنتم أيُّها المعتزِلةُ تثبِتون أسماءً محضَةً لا تتضمَّنُ صفاتٍ وهذا معلومُ الفسادِ بالضرورةِ، فإن الحيَّ هو المتَّصِفُ بالحياةِ، والعليمُ هو المتَّصِفُ بالعلْمِ وهكذا سائرُ الأسماءِ. ثم إن هؤلاءِ المثْبِتين للصفاتِ السبْعِ إذا قالوا لمن يُثبتُ الصفاتِ الذاتيَّةِ والفعليَّةِ والاختياريَّةِ والخبريَّةِ نحن لا نَجدُ في الشاهدِ متَّصِفاً بهذه الصفاتِ إلا ما هو جِسمٌ، والأجسامُ متماثلةٌ فمن أثْبَتَها للهِ فقد مَثَّلَه بخلقِه إذا قالوا هذه المقالَةَ قالَ لهم سائرُ أهلِ الإثباتِ: أنتم قد أَثبتُّم الصفاتِ السبْعَ فما نَفَيْتُم هو مِثلُ ما أثبتُّم فإن كان الذي أَثبتُّموه يَقتضي الجسميَّةَ والمماثَلَةَ فالذي نَفَيتُموه مثلُه وإلا فلا، وحينئذٍ فتفريقُكم بينَ الصفاتِ السبْعِ وبينَ ما عَدَاها تفريقٌ بينَ مُتَماثلَيْن، وهذا خلافُ ما تَقتضيه المعقولاتُ بل هو خلافُ المعقولِ والمنقولِ وقد سَبقت الإشارةُ إلى ذلك.

قولُه:
ولهذا لما كان الردُّ على من وَصفَ اللهَ تعالى بالنقائصِ بهذه الطريقِ طريقاً فاسداً لم يَسلكْه أحدٌ من السلفِ ولا الأئمَّةِ، فلم يَنطقْ أحدٌ منهم في وَصْفِ اللهِ بالجِسْمِ، لا نفياً ولا إثباتاً، ولا بالجوهرِ والتحيُّزِ ونحوِ ذلك؛ لأنها عباراتٌ مجمَلَةٌ لا تُحِقُّ حقًّا ولا تُبطلُ باطلاً، ولهذا لم يَذكر اللهُ في كتابِه فيما أَنكرَه على اليهودِ وغيرِهم من الكفَّارِ ما هو من هذا النوعِ، بل هذا هو من الكلامِ المبتدَعِ الذي أَنكرَه السلَفُ والأئمَّةُ.

الشرْحُ:
يقولُ الشيخُ: ومن أجْلِ أن رَدَّ المبتدِعةِ على من يَصفُ اللهَ بالبكاءِ والحُزْنِ ونحوِ ذلك من صفاتِ النقصِ بأن هذه الأوصافِ لا تقومُ إلا بجسمٍ متحيِّزٍ، من أجْلِ أن هذا الطريقَ طريقٌ غيرُ صحيحٍ لم يَسلكْه أحدٌ من سلَفِ الأمَّةِ من الصحابةِ والتابعين وأئمَّةِ السنَّةِ، فلم يقولوا بأن اللهَ جسْمٌ أو ليس بجسمٍ، وهكذا بالنسبةِ للجوْهَرِ والتحيُّزِ ونحوِه كالتركيبِ والعَرَضِ؛ وذلك أن هذه ألفاظٌ مستحدثَةٌ مجمَلَةٌ لا يَحصلُ بواسطتِها بيانُ حقٍّ ولا دَحْضُ باطلٍ، لذلك لم تَرِدْ في القرآنِ العزيزِ في رَدِّ اللهِ سبحانَه على اليهودِ والنصارى والمشركين الذين نَسبوا إليه النقائصَ والعيوبَ التي يَتقدَّسُ عنها. وسلَفُ الأمَّةِ وأئمَّةُ السنَّةِ قد أَنكروا على المبتدِعين هذه الألفاظَ المجمَلَةَ وبيَّنُوا ما تحتَها من المعاني التي يَقصدونها وقد تقدَّمَ ذلك.

  #4  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 05:25 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التوضيحات الأثرية للشيخ: فخر الدين بن الزبير المحسِّي


الطريقُ الثاني : الاعتمادُ في التنزيهِ على نَفْيِ التجسيمِ
قولُه : ( فصلٌ وأَفْسَدُ من ذلك : ما يَسْلُكُه نُفَاةُ الصِّفاتِ أو بعضِها إذا أَرَادُوا أن يُنَزِّهُوهُ عما يَجِبُ تنزيهُه عنه ، مِمَّا هو مِن أَعْظَمِ الكُفْرِ . مِثلُ أن يُريدوا تنزيهَه عن الْحُزْنِ والبُكاءِ ونحوَ ذلك ، ويريدون الردَّ على اليهودِ الذين يقولون إنه بَكَى على الطُّوفَانِ حتى رَمِدَ وعادَتْهُ الملائكةُ ، والذين يقولون بإلهيَّةِ بعضِ البَشَرِ وأنه اللهُ ، فإنَّ كثيرًا من الناسِ يَحْتَجُّ على هؤلاءِ بنَفْيِ التجسيمِ والتحيُّزِ ونحوَ ذلك ، ويقولون: لو اتَّصَفَ بهذه النقائصِ والآفاتِ لكان جِسْمًا أو مُتَحَيِّزًا وذلك مُمْتَنِعٌ ، وبسلوكِهم مِثْلَ هذه الطريقِ اسْتَظْهَرَ عليهم الْمَلاَحِدَةُ نُفَاةُ الأسماءِ والصِّفاتِ ) .

التوضيحُ

أي: اعتمادُهم في التنزيهِ على مُجَرَّدِ نفيِ التجسيمِ أَفْسَدُ من اعتمادِهم على نَفْيِ التشبيهِ ، وقد أشارَ إلى ذلك في الرَّدِّ الخامسِ على شُبْهَةِ التجسيمِ .

فإذا قالَت اليهودُ : إنَّ اللهَ بَكَى على الطُّوفَانِ حتى رَمِدَ, وعادَتْهُ الملائكةُ, أو قالَتْ بعضُ الطوائفِ بإلهيَّةِ بعضِ البشَرِ, يَحْتَجُّ كثيرٌ من هؤلاءِ المُتَكَلِّمِينَ بأنَّ هذا باطلٌ؛ لأنه يَسْتَلْزِمُ التجسيمَ ، واعتمادُهم في نفيِ هذه النقائصِ عن اللهِ بمُجَرَّدِ نفيِ التجسيمِ باطلٌ, بل هو أَبْطَلُ من اعتمادِهم السابقِ, وهو نَفْيُ التشبيهِ, ولا يَحْصُلُ به المقصودُ ، ومِن هنا اسْتَظْهَرَ الملاحِدَةُ نُفَاةُ الأسماءِ والصِّفاتِ على مَن يَسْلُكُ هذا الْمَسْلَكَ فإنهم قالوا : كما نَفَيْتُمْ عن اللهِ الاستواءَ والنزولَ وغيرَهما؛ لأنَّ ذلك يَسْتَلْزِمُ التجسيمَ ، فكذلك الشأنُ في جميعِ الصِّفاتِ والأسماءِ ، لأنَّ إثباتَها يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ فوَجَبَ نفيُ الجميعِ .
وُجوهُ عَدَمِ حصولِ التنزيهِ بمُجَرَّدِ نَفْيِ التشبيهِ
قولُه : ( فإنَّ هذه الطريقةَ لا يَحْصُلُ بها المقصودُ لوجوهٍ أحدُها : أنَّ وَصْفَ اللهِ تعالى بهذه النقائصِ والآفاتِ أَظْهَرُ فَسادًا في العَقْلِ والدِّينِ من نَفْيِ التَّحييزِ والتجسيمِ ، فإن هذا فيه من الاشتباهِ والنزاعِ والْخَفَاءِ ما ليس في ذلك ، وكُفْرُ صاحبِ ذلك معلومٌ بالضرورةِ من دِينِ الإسلامِ, والدليلُ مُعَرِّفٌ للمدلولِ ومُبَيِّنٌ له فلا يَجُوزُ أن يُسْتَدَلَّ على الأظْهَرِ الأبْيَنِ بالأخْفَى كما لا يُفْعَلُ مثلُ ذلك في الحدودِ .

الوجهُ الثاني : أنَّ هؤلاءِ الذين يَصِفُونه بهذه الصِّفاتِ يُمْكِنُهم أن يقولوا : نحن لا نقولُ بالتجسيمِ والتحيُّزِ كما يقولُه مَن يُثْبِتُ الصِّفاتِ ويَنْفِي التجسيمَ فيَصِيرُ نِزاعُهم مثلَ نِزاعِ مُثْبِتَةِ صفاتِ الكمالِ فيَصيرُ كلامُ مَن وَصَفَ اللهِ بصفاتِ الكمالِ ومَن وَصَفَه بصفاتِ النقْصِ واحدًا ويَبْقَى رَدُّ النُّفَاةِ على الطائفتينِ بطريقٍ واحدٍ وهذا في غايةِ الفَسادِ .

الثالثُ : أنَّ هؤلاءِ يَنْفُونَ صفاتِ الكمالِ بِمِثْلِ هذه الطريقةِ ، واتِّصافُه بصفاتِ الكمالِ واجبٌ ثابتٌ بالعَقْلِ والسمْعِ فيكونُ ذلك دليلاً على فَسادِ مِثلِ هذه الطريقةِ .

الرابعُ : أنَّ سالِكِي مِثْلِ هذه الطريقةِ متَناقُضونَ فكُلُّ مَن أَثْبَتَ شيئًا منهم أَلْزَمَهُ الآخَرُ بما يُوافِقُه فيه من الإثباتِ, كما أنَّ كلَّ مَن نَفَى شيئًا منهم أَلْزَمَهُ الآخَرُ بما يُوافِقُه من النفْيِ, فمُثْبِتَةُ الصِّفاتِ كالحياةِ والعلْمِ والقُدرةِ والكلامِ والسمْعِ والبصَرِ إذا قالَ لهم النُّفَاةُ كالمُعْتَزِلَةِ : هذا تجسيمٌ؛ لأنَّ هذه الصِّفاتِ أعراضٌ, والعَرَضُ لا يقومُ إلا بالجسْمِ ، فإنا لا نَعْرِفُ موصوفًا إلا جِسْمًا قالَت لهم المُثْبِتَةُ : وأنتم قد قُلْتُم: إنه حيٌّ عليمٌ قديرٌ. وقلْتُم: ليس بجسْمٍ, وأنتم لا تَعْلَمون مَوْجودًا حَيًّا عالمًا قادرًا إلا جِسْمًا ، فقد أَثْبَتُّمُوه على خِلافِ ما عَلِمْتُمْ فكذلك نحن ، وقالوا لهم : أنتم أَثْبَتُّمُ حيًّا عالمًا قادرًا بلا حياةٍ ولا علْمٍ ولا قُدْرَةٍ وهذا تَناقُضٌ يُعْلَمُ بضرورةِ العقْلِ ، ثم إنَّ هؤلاءِ الْمُثْبِتُون إذا قالوا لِمَن أَثْبَتَ أنه يَرْضَى ويَغْضَبُ ويُحِبُّ ويَبْغَضُ ، أو مَن وَصَفَه بالاستواءِ والنزولِ والإتيانِ والمجيءِ أو بالوجهِ واليدِ ونحوَ ذلك إذا قالوا : هذا يَقْتَضِي التجسيمَ؛ لأننا لا نَعْرِفُ ما يُوصَفُ بهذا إلا ما هو جِسْمٌ ، قالَتْ لهم المُثْبِتَةُ : فأنتم قد وَصَفْتُمُوه بالحياةِ والعلْمِ والقدْرةِ والسمْعِ والبصَرِ والكلامِ وهذا كهذا ، فإذا كان هذا لا يُوصَفُ به إلا الجسْمُ فالآخَرُ كذلك, وإن أَمْكَنَ أن يُوصَفَ بأحدِهما ما ليس بجسْمٍ فالآخَرُ كذلك ، فالتفريقُ بينَهما تفريقٌ ما بينَ المُتَمَاثِلينِ ولهذا لَمَّا كان الردُّ على مَن وَصَفَ اللهَ تعالى بالنقائِصِ بهذه الطريقِ طريقًا فاسدًا لم يَسْلُكْه أحدٌ من السلَفِ أو الأَئِمَّةِ فلم يَنْطِقْ منهم في حَقِّ اللهِ بالجسمِ لا نَفْيًا ولا إِثباتًا ولا بالجوْهَرِ والتَّحيُّزِ ونحوَ ذلك ، لأنها عباراتٌ مُجْمَلَةٌ لا تُحِقُّ حَقًّا ولا تُبْطِلُ باطلاً ، ولهذا لم يَذْكُر اللهُ في كتابِه فيما أَنْكَرَه على اليهودِ وغيرِهم من الكُفَّارِ مَن هو من هذا النوعِ بل هذا هو من الكلامِ الْمُبْتَدَعِ الذي أَنْكَرَه السلَفُ والأَئِمَّةُ ) .

التوضيحُ

خُلاصَةُ هذه الوجوهِ خمسةٌ كما يَلِي :

أوَّلاً : إنَّ وَصْفَ اللهِ بهذه النقائصِ أَظْهَرُ فَسَادًا من نفيِ التجسيمِ؛ فإنَّ فيه اشتباهًا ونِزَاعًا ، وكُفْرُ القائلِ بهذه النقائصِ أَظْهَرُ, ولا يكونُ الدليلُ, وهو نفيُ التجسيمِ, أَخْفَى من المدلولِ وهو نَفْيُ النقائصِ عن اللهِ ، والأَدِلَّةُ مثلَ الحدودِ –أي: التعريفاتِ- فلا يَصِحُّ أن يكونَ التعريفُ أَخْفَى من الْمُعَرَّفِ, كمَن يُعَرِّفُ الخمْرَ بأنها العَقَارُ فإنه أَخْفَى من الْخَمْرِ .

ثانيًا: إنَّ هذا الذي يَصِفُه بالبكاءِ والرَّمَدِ وغيرِه من النقائصِ يُمْكِنُه أن يقولَ نحن لا نقولُ بالتجسيمِ مِثلَ مَن يُثْبِتُ الصِّفاتِ دونَ تجسيمٍ فيُصْبِحُ نِزاعُ هؤلاءِ الكفَّارِ مِثْلَ نِزاعِ مُثْبِتَةِ الكمالِ ، ويَبْقَى رَدُّ نُفَاةِ التجسيمِ على مَن وَصَفَ اللهَ بالنقْصِ ومَن وَصَفَه بالكمالِ بطريقٍ واحدٍ, وهذا في غايةِ الفَسادِ فإنَّ الطريقَ الذي يُسَوِّي بينَ الحقِّ والباطلِ من أفْسَدِ طُرُقِ الرَّدِّ .

ثالثًا: إنَّ مَن يَنْفِي التجسيمَ يَنْفِي صفاتِ الكمالِ بهذه الطريقةِ وهي عَدَمُ التجسيمِ فيقولُ : لا أُثْبِتُ الصِّفاتِ لعَدَمِ التجسيمِ واتِّصافُه بصفاتِ الكمالِ واجِبٌ عَقْلاً ونَقْلاً, وقد عارَضَها بنفيِ التجسيمِ, فيكونُ ذلك دليلاً على فَسادِ طريقتِه هذه.

رابعًا : إنَّ مَن يَسْلُكُ هذه الطريقةَ متَناقِضُون فكُلُّ مَن أَثْبَتَ أو نَفَى شيئًا من الصِّفاتِ أَلْزَمَه الآخَرُ بما يَتَّفِقُون عليه من النفيِ أو الإثباتِ فمَثَلاً إذا قالَت الأشاعرةُ نُثْبِتُ الحياةَ والعلْمَ والقُدرةَ وغيرَها فتَرُدُّ عليهم المُعْتَزِلَةُ بأنَّ هذا يَسْتَلْزِمُ التجسيمَ ، فتقولُ الأَشَاعِرَةُ : وأنتم تُثْبِتُون الأسماءَ مع عَدَمِ التجسيمِ فكذلك نحن. فيأتي أهلُ السُّنَّةِ فيُثْبِتُون الاستواءَ والنزولَ والرِّضَا والغضَبَ وغيرَها فتقولُ الأَشَاعِرَةُ : هذا يَسْتَلْزِمُ التجسيمَ فعندئذٍ يَرُدُّ عليهم أهْلُ السنَّةِ بنَفْسِ ردِّهِمْ على المُعْتَزِلَةِ ، وهو أنكم أَثْبَتُّمُ العلْمَ والقدْرَةَ والحياةَ وغيرَها, ولم يكنْ تَجسيمًا وكذلك نحن .

خامسًا: ومِمَّا يُبَيِّنُ بُطلانَ هذه الطريقةِ في النفيِ أنها لم يَسْلُكْهَا السلَفُ ولم يَنْطِقْ أحدٌ منهم بالجسْمِ نَفْيًا ولا إثباتًا, ولا الجوهَرِ, ولا التحيُّزِ؛ لأنها عباراتٌ مُجْمَلَةٌ لا تُحِقُّ حقًّا ولا تُبْطِلُ باطلاً, ولم يَذْكُرْها اللهُ في كتابِه في إنكارِه على اليهودِ والكفَّارِ, بل هو من الكلامِ الْمُبْتَدَعِ الذي أَنْكَرَه السلَفُ .

كما قالَ الإمامُ أبو حنيفةَ لَمَّا سُئِلَ عمَّا أَحْدَثَه الناسُ من الكلامِ في الأعراضِ والأجسامِ ":
مَقالاتُ الفَلاسِفَةِ عليك بالأثَرِ وطريقةِ السلَفِ, وإيَّاكَ وكلَّ مُحْدَثَةٍ فإنها بِدْعَةٌ .
قالَ صاحبُ الكِفايةِ :

( والجسْمُ والجوهَرُ ثم العَرَضُ = تَحَيُّزٌ أسلافُنا لم يَرْتَضُوا )

وقُلْتُ في جميعِ هذه الألفاظِ الْمُحْدَثَةِ في الدُّرَّةِ الأثريَّةِ :

ولا تَخُضْ في هذه الكلماتِ = الحَدُّ والمكانُ والجهاتْ
كذاك تَحْيِيزٌ ولَفْظُ الْجِسْمِ = وجوهَرٌ وعَرَضٌ فافْتِهِمْ
فلم يَرِدْ شرْعٌ بذِكْرِ ذَاكَا = فقِفْ ودَوْمًا خَالِفَنْ هَوَاكَا

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
مسلك, فساد

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:28 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir