قولُهُ:
واللهُ سُبْحَانَهُ بَعَثَ رُسُلَهُ (بإثباتٍ مُفَصَّلٍ، وَنَفْيٍ مُجْمَلٍ) فَأَثْبَتُوا للهِ الصفاتِ على وجهِ التفصيلِ، وَنَفَوْا عنهُ ما لا يَصْلُحُ لهُ مِن التشبيهِ والتمثيلِ، كما قالَ تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}.
قالَ أهلُ اللُّغَةِ: هلْ تَعْلَمُ لهُ سَمِيًّا؟ أي: نظيراً يَسْتَحِقُّ مِثْلَ اسْمِهِ، ويقالُ: مُسَامِياً يُسَامِيهِ، وهذا معنى ما يُرْوَى عن ابنِ عبَّاسٍ: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} مَثِيلًا أو شَبِيهاً. وقالَ تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}، وقالَ تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقالَ تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَآمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}، وقالَ تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، وقالَ تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىَ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} وقالَ تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلاَئِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلاَ إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَىَ الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبَاً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} إلى قولِهِ: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فَسَبَّحَ نفسَهُ عَمَّا يَصِفُهُ المُفْتَرُونَ المُشْرِكُونَ، وَسَلَّمَ على المُرْسَلينَ لسلامةِ ما قَالُوهُ مِن الإفكِ والشركِ، وحَمِدَ نفسَهُ؛ إذْ هوَ سبحانَهُ المُسْتَحِقُّ للحمدِ, بما لهُ من الأسماءِ والصفاتِ،وبديعِ المخلوقاتِ.
الشرحُ:
المعنى أنَّ ما جاءَ في الكتابِ والسنَّةِ من إثباتِ الصفاتِ جاءَ على طريقةِ التفصيلِ: مِثْلَ وَصْفِهِ بالاستواءِ، والعلمِ، والقُدْرَةِ، والمَحَبَّةِ والرضا، وما جاءَ في الكتابِ والسُّنَّةِ مِن نَفْيِ مُمَاثَلَةِ أَحَدٍ من الخلقِ للباري سبحانَهُ جاءَ على طريقِ النَّفْيِ الإجماليِّ، كقولِهِ تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} وقولِهِ سبحانَهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ونحوِ ذلكَ، فَنَفَى المُمَاثَلَةَ مُطْلَقاً، والمُشَابَهَةَ والمُسَامَاةَ مُطْلَقاً، ولم يَنْفِ المُمَاثَلَةَ في شيءٍ مُعَيَّنٍ, كَأَنْ يَقُولَ:لاَ سَمِيَّ لَهُ فِي عِلْمِهِ، أو في اسْتِوَائِهِ، أو لا مِثْلَ لَهُ فِي مَحَبَّتِهِ، أو كَلاَمِهِ, ونحوَ ذلكَ.
والواوُ في قولِهِ:" فَأَثْبَتُوا وَنَفَوْا " مَرْجِعُهُ الرُّسُلُ، ثم أَتْبَاعُهُمْ مِن أَئِمَّةِ الدِّينِ وأهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، وقد سَبَقَ معنى هذا.
ومقصودُ المُؤَلِّفِ أنَّ السلفَ يُثْبِتُونَ إثباتاً مفصَّلاً، ويَنْفُونَ نَفْياً مُجْمَلًا، على طريقةِ الكتابِ والسُّنَّةِ، ثم شَرَعَ رَحِمَهُ اللهُ يُمَثِّلُ للنفيِ الإجماليِّ في القرآنِ الكريمِ، فَذَكَرَ آيةَ (مَرْيَمَ) وكلامُ اللُّغَوِيِّينَ في معنى السَّمِيِّ، والمعنى أنَّهُ ليسَ لَهُ مِثْلٌ, ولا نَظِيرٌ حتى يُشَارِكَهُ فِي العبادةِ، فَلَمَّا انْتَفَى المُشَارِكُ اسْتَحَقَّ اللهُ سبحانَهُ أنْ يَنْفَرِدَ بالعبادةِ وتَخْلُصَ لَهُ. هذا مَبْنِيٌّ على أنَّ المرادَ بالسَّمِيِّ هو الشَرِيكُ في المُسَمَّى، وقيلَ: المرادُ بهِ الشريكُ في الاسمِ, كما هو الظاهرُ مِن لُغَةِ العربِ، وقولُهُ:" وهذا ما يُرْوَى عن ابنِ عَبَّاسٍ " يَعْنِي: أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ فَسَّرَ السَّمِيَّ بالشبيهِ والنظيرِ؛ وإذا قيلَ في الآيةِ: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} يَسْتَحِقُّ مِثْلَ اسْمِهِ أَوْ مُسَامِياً يُضَارِعُهُ؟ فالمعنى: لا شبيهَ لهُ ولا نظيرَ، والاستفهامُ في الآيةِ مُرَادٌ بهِ النَّفْيُ، فالمعنى لا سَمِيَّ لهُ في الاسمِ, ولا المُسَمَّى.
قالَ أهلُ اللُّغَةِ: (المعنى أنَّهُ لمْ يُسَمَّ شَيْءٌ من الأصنامِ ولا غيرِهَا باللهِ قَطُّ)، يَعْنِي: بدخولِ الألفِ واللامِ التي عَوَّضَتْ عن الهمزةِ وَلَزِمَتْ، قالَ الزَّجَّاجُ: (تَأْوِيلُهُ واللهُ أعلمُ: هلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقَالَ لَهُ خَالِقٌ وَقَادِرٌ وَعَالِمٌ بِمَا كَانَ وَبِمَا يَكُونُ) وعلى هذا لا سَمِيَّ للهِ في جميعِ أسمائِهِ؛ لأنَّ غيرَهُ وإنْ سُمِّيَ بِشَيْءٍ من أسمائِهِ فللهِ سبحانَهُ حقيقةُ ذلكَ الوصفِ، والمرادُ بِنَفْيِ العلمِ المُسْتَفَادِ مِن الإنكارِ هنا نَفْيُ المَعْلُومِ على أَبْلَغِ وَجْهٍ وَأَكْمَلِهِ.
وَوَجْهُ الدلالةِ من الآيةِ الثانيةِ أنَّ اللهَ نَفَى أنْ يَكُونَ لهُ كُفْؤٌ، أيْ: شَبِيهٌ ونظيرٌ مُكَافِئٌ لهُ، فَنَفَى المُكَافَأَةَ وَالمُشَابَهَةَ عُمُوماً، وهذا نَفْيٌ مُجْمَلٌ، والشاهدُ قولُهُ: {وَلَمْ يَكُنْ لهُ كُفُواً أَحَدٌ}، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} فهي من بابِ النَّفْيِ المُفَصَّلِ لأنَّهُ نَفْيُ صِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وقدْ خَرَجَتْ هذهِ الآيةُ عن القاعدةِ والأَغْلَبِيَّةِ، وهي أنَّ طريقةَ القرآنِ في النَّفْيِ (الإجمالُ), وذلكَ لِسَبَبَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ اليهودَ والمشركِينَ نَسَبُوا الولدَ إلى اللهِ فَرَدَّ اللهُ عليهم, وَنَفَى هذهِ الصفةَ بِعَيْنِهَا.
والثاني: أنَّ الولدَ والوِلاَدَةَ صِفَةُ كمالٍ في المخلوقِ، فَنُفِيَتْ؛ لِئَلاَّ يُتَوَهَّمَ أنَّ اللهَ مُتَّصِفٌ بها، فَهِيَ وإنْ كانتْ وَصْفَ كمالٍ في المخلوقِ إلاَّ أنَّهُ كمالٌ مُقْتَرِنٌ بالنَّقْصِ، هذا هو السببُ في خروجِ هذهِ الآيةِ عن القاعدةِ، ولها نظائرُ قليلةٌ.
الآيةُ الثالثةُ والرابعةُ: (الأَنْدَادُ) جَمْعُ نِدٍّ وهو الشَّبِيهُ والنَّظِيرُ، فلا شَبِيهَ للهِ، ولا نظيرَ لهُ في ذاتِهِ، ولا في صفاتِهِ، ولا في أفعالِهِ، والشاهدُ من الآيتَيْنِ الدلالةُ على النَّفْيِ المُجْمَلِ، فإنَّهُ لم يَقُلْ: لاَ نِدَّ لهُ في عِلْمِهِ أو اسْتِوَائِهِ أو قُدْرَتِهِ ونحوَ ذلك.
الآيةُ الخامسةُ: (الجِنُّ ) الشياطينُ.
المعنى: جَعَلُوا الشياطينَ شركاءَ للهِ حيثُ أَطَاعُوهُمْ، (خَرَقُوا) اخْتَلَقُوا وَافْتَرَوْا،(بَدِيع) مُبْدِعُ وَمُخْتَرِعُ الأشياءِ على غيرِ مثالٍ سابقٍ، (أَنَّى يَكُونُ) كيفَ أو مِن أَيْنَ يكونُ، والشاهدُ من الآيةِ الدَّلالةُ على النَّفْيِ المُجْمَلِ، حيثُ نَزَّهَ نَفْسَهُ عمَّا يَصِفُهُ بهِ المُفْتَرُونَ المُشْرِكُونَ على وجهِ العمومِ.
الآيةُ السادسةُ: (تَبَارَكَ ) تَعَاظَمَ وَتَقَدَّسَ، (الفُرْقَانُ) القرآنُ، والشاهدُ مِن الآيةِ الدلالةُ على النَّفْيِ المُجْمَلِ حيثُ إنَّهُ لاَ مِثْلَ لَهُ لِاتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الكمالِ وانْفِرَادِهِ بالوحدانيَّةِ, فَنَفْيُ العيوبِ والنقائصِ يَسْتَلْزِمُ ثبوتَ الكمالِ، ونَفْيُ الشركاءِ يَقْتَضِي الوحدانيَّةَ، وهو تمامُ الكمالِ.
الآيةُ السابعةُ: (إِفْكِهِمْ) كَذِبِهِمْ، (اصْطَفَى ) اخْتَارَ، (سُلْطَانٌ) حُجَّةٌ وَبُرْهَانٌ، (الجِنَّةُ) الملائكةُ، والشاهدُ من الآيةِ الدلالةُ على النَّفْيِ المُجْمَلِ، حيثُ نَزَّهَ نفسَهُ عَمَّا يَصِفُهُ بهِ المُفْتَرُونَ تَنْزِيهًا عامًّا عن كلِّ ما يُنْسَبُ إليهِ مِمَّا لا يَلِيقُ بهِ سبحانَهُ وتعالى.
(وابنُ عَبَّاسٍ) هو عبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا – الإمامُ البَحْرُ عَالِمُ الأُمَّةِ، ابنُ عَمِّ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ماتَ رسولُ اللهِ, ولعبدِ اللهِ ثلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وقد دَعَا لهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يُفَقِّهَهُ اللهُ في الدينِ، ويُعَلِّمَهُ التأويلَ، رَوَى عِكْرِمَةُ عن ابنِ عَبَّاسٍ قالَ: دَخَلَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَخْرَجَ, ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا تَوْرٌ مُغَطًّى فقالَ: مَن صَنَعَ هذا؟ قالَ عبدُ اللهِ: فقلتُ: أَنَا. فقالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ تأويلَ القرآنِ!. وقالَ ابنُ مسعودٍ: (نِعْمَ تُرْجُمَانُ القرآنِ ابنُ عَبَّاسٍ, لوْ أَدْرَكَأَسْنَانَنَا مَا عَاشَرَهُ مِنَّا أَحَدٌ).
وَرَوَى مُطَرِّفٌ قالَ: سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاسٍ يقولُ: (مُذَاكَرَةُ العِلْمِ ساعةً خيرٌ مِن إحياءِ ليلةٍ) تُوُفِّيَ ابنُ عَبَّاسٍ بالطائفِ في سنةِ ثمانٍ وسِتِّينَ، فَصَلَّى عليهِ محمدُ ابنُ الحَنَفِيَّةِ وقالَ: اليومَ مَاتَ رَبَّانِيُّ هذهِ الأُمَّةِ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
قولُهُ:
(وأمَّا الإثباتُ المُفَصَّلُ) فَإِنَّهُ ذَكَر مِن أسمائِهِ وصفاتِهِ، مَا أَنْزَلَهُ في مُحْكَمِ آياتِهِ، كقولِهِ: {اللهُ لاَ إِلَهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ } الآيةَ بِكَمَالِهَا.
وقولِهِ:{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ} السورةَ.
وقولِهِ: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الحَكِيمُ}، {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ }، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، {وَهُوَ العَزِيزُ الْحَكِيمُ}،{وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ المَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}، {هُوَ الأوَّلُ والآخِرُ والظَّاهِرُ والْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى على الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الأرضِ وما يَخْرُجُ مِنْهَا وما يَنْزِلُ مِن السماءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
وقولِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}.
وقولِهِ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} الآيةَ.
وقولِهِ: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}.
وقولِهِ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ}.
وقولِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ}.
وقولِهِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ والْمَلاَئِكَةُ}.
وقولِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}.
وَقَوْلِهِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً}.
وَقَوْلِهِ: { وَنَادَيْنَاهُ مِنْجَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا }.
وقولِهِ: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}.
وقولِهِ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وقولِهِ: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ، هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
الشرحُ:
سَبَقَ الكلامُ على النَّفْيِ المُجْمَلِ، وهذا بيانُ الإثباتِ المُفَصَّلِ، وقد ذَكَر المُؤَلِّفُ أنَّ اللهَ قد ذَكَرَ مِن أسمائِهِ وصفاتِهِ ما هو واضِحٌ بَيِّنٌ مُفَصَّلٌ في القرآنِ تَفْصِيلًا، لا غُمُوضَ معهُ.
و(الصَّمَدُ): هو الذي يُقْصَدُ في الحوائِجِ دُونَ مَن سِوَاهُ، والصَّمَدُ الذي لا جَوْفَ لهُ، (الوَدُودُ): كثيرُ المَوَدَّةِ، وهيَ أَعْلَى درجاتِ المَحَبَّةِ، (المَجِيدُ): العَظِيمُ الجليلُ المُتَعَالِي، (سَبَّحَ): نَزَّهَ اللهَ ومَجَّدَهُ، (العزيزُ): القَوِيُّ العظيمُ الغالبُ، (الأوَّلُ): السابِقُ على جميعِ الموجوداتِ، الذي لَمْ يَسْبِقْهُ عَدَمٌ، (الآخِرُ): الباقِي بعدَ فنائِهَا، (الظاهِرُ): الذي ليسَ فوقَهُ شيْءٌ، (الباطِنُ): الذي ليس دونَهُ شيءٌ، (ما يَلِجُ): ما يَدْخُلُ، (تَعْرُجُ): تَصْعَدُ، (أَذِلَّةٍ): خَاضِعِينَ مُتَذَلِّلِينَ، (أَعِزَّةٍ): أشداءَ غَلِيظِينَ، (أَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ): أَبْطَلَهَا، (مَا أَسْخَطَ اللهَ): أَغْضَبَهُ غَضَباً شديداً (ظُلَلٍ): مَا يُسْتَظَلُّ بِهِ، جَمْعُ ظُلَّةٍ، (والغَمَامُ): السحابُ الأَبْيَضُ الرَّقِيقُ، (لَمَقْتُ اللهِ): غَضَبُهُ الشديدُ، (لَعَنَهُ): طَرَدَهُ وَأَبْعَدَهُ عَن رحمتِهِ، (اسْتَوَى): عَمَدَ وَقَصَدَ غَيْرَ اسْتَوَى التي بِمَعْنَى عَلاَ وارْتَفَعَ، فَتِلْكَ تَتَعَدَّى بِعَلَى، وهذه تَتَعَدَّى بإلى، (والدُّخَانُ) هو في اللُّغَةِ الكُدْرَةُ في سوادٍ، (المَلِكُ): المالِكُ لِكُلِّ شيْءٍ، (القُدُّوسُ): البليغُ في النَّزَاهَةِ عن النقائصِ، (السلامُ): ذو السلامَةِ مِن كُلِّ عَيْبٍ وتمثيلٍ، (المُؤْمِنُ): المُصَدِّقُ لِرُسُلِهِ بالمعجزاتِ، (المُهَيْمِنُ): الرَّقِيبُ على كُلِّ شيءٍ، (الْجَبَّارُ): القاهِرُ العظيمُ، وجَابِرُ الْكَسْرِ، (المُتَكَبِّرُ): البليغُ الكبرياءَ والعظمةَ، (البَارِئُ): المُبْدِعُ المُخْتَرِعُ، (الْمُصَوِّرُ): خالقُ الصُّوَرِ على ما يُرِيدُ، (وَنَادَيْنَاهُ) أي: نَادَيْنَا مُوسَى وَكَلَّمْنَاهُ بِقَوْلِنَا: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ}، والطُّورُ: هو اسمُ جَبَلٍ بينَ مِصْرَ وَمَدْيَنَ، وَ (الأَيْمَنِ) الذي يَلِي يَمِينَ مُوسَى حينَ أَقْبَلَ مِن مَدْيَنَ و (نَجِيًّا) مَعْنَاهُ مُنَاجِياً، والنداءُ: هو الصوتُ الرفيعُ، وَضِدُّهُ النَّجَاءُ، قال ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى:
إنَّ النِّدَا الصوتُ الرفيعُ وَضِدُّهُ فَهُوَ النَّجَاءُ كِلاَهُمَا صَوْتَانِ
قولُهُ:
إلى أمثالِ هذه الآياتِ والأحاديثِ الثابتةِ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أسماءِ الربِّ تعالى وصفاتِهِ؛ فإنَّ في ذلكَ مِن إثباتِ ذاتِهِ وصفاتِهِ على وجْهِ التفصيلِ، وإثباتِ وحدانِيَّتِهِ بِنَفْيِ التمثيلِ؛ ما هَدَى اللهُ بهِ عبادَهُ إلى سواءِ السبيلِ، فهذهِ طريقةُ الرُّسُلِ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم أَجْمَعِينَ.
الشرحُ:
يعني أنَّهُ لمْ يَحْصُرْ هنا كلَّ ما وَرَدَ في ذلكَ من الآياتِ, بلْ مَثَّلَ لذلكَ:
(وفي البعضِ تنبيهٌ لطيفٌ على الكُلِّ).
فقدْ تَطَابَقَتْ نصوصُ الكتابِ والسُّنَّةِ على إثباتِ الصفاتِ للهِ، وتَنَوَّعَتْ دَلاَلَتُهَا أنواعاً تُوجِبُ العِلْمَ الضروريَّ بِثُبُوتِهَا، وإرادةَ المُتَكَلِّمِ اعتقادَ ما دَلَّتْ عليهِ، فتارةً يَذْكُرُ الاسمَ الدَّالَّ على الصفةِ، كالسميعِ، البصيرِ، العليمِ، القديرِ، العزيزِ، الحكيمِ، وتارةً يَذْكُرُ المصدرَ وهو الأصلُ الذي اشْتُقَّتْ منهُ تلكَ الصفةُ، كقولِهِ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ}.
وقولِهِ: {إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}.
وقولِهِ: {إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وبِكَلاَمِي}.
وقولِهِ: {فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}.
وقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديثِ الصحيحِ: (حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لاَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ).
وقولِهِ في دعاءِ الاسْتِخَارَةِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ).
وقولِهِ: (أَسْأَلُكَ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وقدرتِكَ على الخَلْقِ).
وقولِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: (سُبْحَانَ الذيِ وَسِعَ سَمْعُهُ الأصواتَ) ونحوَهُ.
وَتَارَةً يَذْكُرُ حُكْمَ تِلْكَ الصفةِ، كقولِهِ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}.
وقولِهِ: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ}.
وقولِهِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً}.
وقولِهِ: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ}، ونظائرُ ذلكَ كثيرةٌ.
ويُصَرِّحُ في الفَوْقِيَّةِ بلفظِهَا الخاصِّ, وبلفظِ العُلُوِّ والاستواءِ، وأنَّهُ في السماءِ، وأنَّهُ ذو المَعَارِجِ، وأنَّهُ رفيعُ الدرجاتِ، وأنَّهُ تَعْرُجُ إليهِ الملائكةُ، وتُنَزَّلُ مِن عندِهِ، وأنَّهُ يُنَزِّلُ من عندِهِ، وأنَّهُ يَنْزِلُ إلى السماءِ الدنيا، وأنَّ المؤمنينَ يَرَوْنَهُ بِأَبْصَارِهِمْ عِيَاناً من فوقِهِم، إلى أضعافِ ذلكَ مِمَّا لو جُمِعَتِ النصوصُ والآثارُ فيهِ لم تَنْقُصْ عن نصوصِ الأحكامِ.
ومِن أبينِ المُحَالِ وأوضحِ الضلالِ حَمْلُ ذلكَ كُلِّهِ على خلافِ حقيقتِهِ وظاهرِهِ، وَدَعْوَى المجازِ فيهِ والاستعارةِ، وأنَّ الحقَّ في أقوالِ النُّفَاةِ المُعَطِّلِينَ، وأنَّ تَأْوِيلاَتِهِمْ هِيَ المُرَادَةُ من هذه النصوصِ؛ إذْ يَلْزَمُ مِن ذلكَ مَحَاذِيرُ ثلاثةٌ لاَ بُدَّ منها، وهي القَدْحُ في عِلْمِ المُتَكَلِّمِ بها, أو في بيانِهِ, أو في نُصْحِهِ، وكأَنَّ وَرَثَةَ الصابِئَةِ، وَأَفْرَاخَ الفلاسفةِ، وَأَوْقَاحَ المُعْتَزِلَةِ والْجَهْمِيَّةِ، وَتَلاَمِذَةَ المَلاَحِدَةِ أَفْصَحُ منهُ وَأَحْسَنُ بياناً وتعبيراً عن الحَقِّ، وهذا مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلاَنُهُ بالضرورةِ.
وَلَمْ يَذْكُرِ المُؤَلِّفُ هنا بعضَ الأحاديثِ المُثْبِتَةِ لشيءٍ من الصفاتِ, وإنْ كانَ قد ذَكَرَهُ في غيرِ هذا الموضعِ من هذهِ الرسالةِ.
والإشارةُ في قولِهِ: (فَإِنَّ في ذلكَ) رَاجِعَةٌ إلى النصوصِ الواردةِ في الكتابِ، والسُّنَّةِ، مِن إثباتِ صفاتِ الرَّبِّ، ونَفْيِ المُمَاثَلَةِ عنهُ، يَعْنِي: فيما ذَكَرَ من إثباتِ الصفاتِ، تَفْصِيلِيًّا لا إِجْمَالِيًّا ما هَدَى اللهُ بهِ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ، وهم الفِرْقَةُ الناجِيةُ الذين تَلَقَّوْا ما وَرَدَ في الكتابِ، والسُّنَّةِ، بالقبولِ وَرَضَوْا للهِ ما رَضِيَهُ لنفسِهِ. (فهذه) – يعني: الإثباتُ المُفَصَّلُ والنَّفْيُ المُجْمَلُ وإثباتُ ذلكَ للربِّ سبحانَهُ - هي طريقةُ الرُّسُلِ – عليهم الصلاةُ والسلامُ – إثباتاً بلا تَمْثِيلٍ، وَتَنْزِيهًا بلا تَعْطِيلٍ، وقولُهُ: (مِن إِثْبَاتِ الوحْدَانِيَّةِ) يُشِيرُ إلى أنَّ اللهَ سبحانَهُ كما أنَّهُ لا مِثْلَ لهُ, ولا شَبَهَ لهُ, فهو كذلكَ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لهُ في أُلُوهِيَّتِهِ.