* إثبات صفة اليدين *
وقَوْلُهُ : ({ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، { وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } ) .
صفةُ اليدَيْنِ لِلَّهِ قد دلَّ عليها الكِتابُ والسُّنَّةُ ، وإجماعُ سلفِ الأُمَّةِ . خلافاً للجهميَّةِ والمعتزِلةِ ، قَالَ عبدُ اللَّهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ : إنَّ اللَّهَ لم يخْلُقْ بيدِه إلا ثلاثاً : خَلَقَ آدمَ بيدِه ، وغرَسَ جنَّةَ عَدْنٍ بيدِه ، وكتَبَ التَّوراةَ بيدِه .
وفي مُحاجَّةِ آدمَ لمُوسَى قَالَ مُوسَى : أنتَ الَّذِي خلَقَكَ اللَّهُ بيدِه ، ونفَخَ فيكَ مِن رُوحِه ، وأسْجَدَ لكَ ملائكِتَه ، وعلَّمَكَ أسماءَ كلِّ شيءٍ .
وزعَمَ نُفاةُ الصِّفَاتِ : أنَّ المرادَ باليدَيْنِ النِّعْمَةُ والقُدرةُ ، وهي دعوى باطِلةٌ . فإنه لا يَصِحُّ في عقلٍ أو نقْلٍ أنْ يُقالَ : لم يَخْلُقْ بنعمَتِه أو بقُدْرتِه إلا ثلاثاً ، ولا يَصِحُّ استعمالُ المَجازِ في هذا بلفظِ التَّثنيةِ . فلا يُستعمَلُ إلا مُفرَداً أو مَجموعاً كقولِكَ له : عندي يدٌ يَجْزِيهِ اللَّهُ بها ، وله عندي أَيادٍ ، وأما إذا جَاءَ بلفظِ التَّثْنيةِ فلا يُعْرَفُ استِعمالُه قطُّ إلا في اليدِ الحقيقيَّةِ ، ولَيْسَ مِن المعهودِ أنْ يُطلِقَ اللَّهُ على نَفْسِه معنى القُدرةِ والنِّعْمَةِ بلفظِ التَّثنيةِ، بل بلفظِ الإفرادِ الشَّامِلِ لجميعِ الحقيقةِ . كقولِه :{أَنَّ الْقُوَّةَ للَّهِ جَمِيعاً} وقد يَجْمَعُ النِّعمَ مِثلَ :{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} وأمَّا أنْ يَقولَ : خلَقْتُكَ بقُدرتَيْنِ أو بنِعمتَيْنِ . فهذا لم يَقَعْ في كلامِه ، ولا في كلامِ رَسُولِه ، ولو ثَبَتَ استعمالُ ذلك بلفظِ التَّثنيةِ لم يَجُزْ أنْ يكونَ المرادُ به ههنا القُدرةَ ، فإنه يُبطِلُ فائدةَ تخصيصِ آدمَ . فإنه وجميعَ المخلوقاتِ حَتَّى إبْلِيسَ مَخلوقٌ بقُدرتِه سُبْحَانَهُ . فأيُّ مَزِيَّةٍ لآدَمَ على إبْلِيسَ في ذلك ، وأيضاً فيه النِّعمةُ والقدرةُ لا يُتجاوَزُ بها لفظُ اليدِ . فلا يُتَصَرَّفُ فيها بما يُتَصَرَّفُ في اليدِ الحقيقيَّةِ . فلا يُقالُ فيها كفٌّ ، ولا أصبعٌ ، ولا أصبعانِ ، ولا يمينٌ ، ولا شِمالٌ ، وهذا كلُّه يَنفِي أنْ تكونَ اليدُ يدَ نعمةٍ أو يدَ قُدرةٍ ، وقد قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ " .
وفي حديثِ الشَّفاعةِ : " فَأَقُومُ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ مَقَاماً لاَ يَقُومُه غَيْرِي " وإذا ضمَمْتَ قولَه :{ وَالأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } إلى قولِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"يأخُذُ الجبَّارُ سماواتِه وأرْضَه بيدِه يَهُزُّهُنَّ" ، وجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبِضُ يدَه ويَبْسُطُها ، وفي "صحيحِ مسلمٍ" : يَحْكِي رَبَّهُ بهذا اللَّفْظِ . وقَالَ : " مَا مِنْ قَلْبٍ إِلاَّ وَهُوَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصابِعِ الرَّحْمَنِ ، إِنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ ، وَإنْ شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ " وفي حديث الشَّفَاعَةِ :ِ" وَعَدَنِي رَبِّي أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ " فَقَالَ أبو بكرٍ : زِدْنَا يا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : " وَثَلاثُ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ رَبِّي " فَقَالَ عُمَرُ : حسبُك يا أبا بكرٍ ، إنْ شاءَ أَدْخَلَ خلْقَه الجَنَّةَ بكَفٍّ واحدةٍ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " صَدَقَ عُمَرُ " فهذا القبضُ والبَسْطُ والطَيُّ باليمينِ : والأخذُ : والوقوفُ عن يمينِ الرَّحْمَنِ ، والكفُّ ، وتقليبُ القلوبِ بأصابِعه ، ووَضْعُ السَّمَاواتِ على أُصْبُعٍ ، والجبالِ على أُصْبُعٍ . فذَكَرَ إحدى اليدَيْنِ . ثم قولُه : وبيدِه الأُخْرى مُمْتَنِعٌ فيه اليدُ المجازيَّةُ ، سواءٌ كانتْ بمعنى القدرةِ أو بمعنى النِّعْمَةِ ، فإنَّها لا يُتَصَرَّفُ فيها هذا التَّصَرُّفُ ، وقد أنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى على اليهـودِ نِسْبَةَ يَدِهِ إلى النقـصِ والعيبِ ، ولم يُنْكِـرْ عليهم إثباتَ يدِه وقَـدَّرَ إثبـاتَها له زيادةً على ما قالـوا بأنهما ((مَبْسُوطَتانِ)) وأيضاً قَيْدُ القدرةِ والنِّعْمَةِ لا يُعرَفُ استِعمالُها ألبتَّةَ إلاَّ في حقِّ مَن له يدٌ حقيقةً . فهذه موارِدُ استعمالِها مِن أوَّلِها إلى آخِرِها ، مُطَّرِدَةٌ في ذلك فلا يَعرِفُ العربيُّ خلافَ ذلك . فاليدُ المضافةُ إلى الحيِّ إمَّا أنْ تكونَ يداً حقيقةً أو مستلْزِمَةً للحقيقةِ ، وإمَّا أنْ تُضافَ إلى مَن لَيْسَ لديه حقيقةً ، وهو حيٌّ متَّصِفٌ بصفاتِ الأحياءِ .
فهذا لا يُعْرفُ ألبتَّةَ ، وسِرُّ هذا أنَّ الأعمالَ والأخذَ والعطاءَ والتَّصَرُّفَ لمَّا كان باليدِ ، وهي الَّتِي تُباشِرُ . عَبَّرُوا بها عن الغايةِ الحاصِلةِ بها ، وهذا يستلْزِمُ ثُبوتَ أصْلِ اليدِ حَتَّى يَصِحَّ استعمالُها في مُجرَّدِ القُوَّةِ والنِّعْمَةِ والإعطاءِ ، فإذا انتفَتْ حقيقةُ اليدِ امتنَعَ استعمالُها فيها فيما يكونُ باليدِ . فثُبوتُ هذا الاستعمالِ المَجازيِّ مِن أَدَلِّ الأشياءِ على ثُبوتِ الحقيقةِ . فقولُه تَعَالَى في حقِّ اليهودِ :{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} هو دعاءٌ عليهم بغَلِّ اليدِ المتضمِّنِ للجُبْنِ والبُخْلِ ، وذلك لا يَنفِي ثُبوتَ أيديهم حقيقةً .
وأمَّا الإضافةُ في مِثلِ يدِ الشمالِ ، ويدِ الحائطِ ويدِ الليلِ . فقد بيَّنْتُ أنَّ المضافَ مِن جنسِ المضافِ إليه ، وكلُّ ذلك حقيقةٌ، وكذلك إضافةُ اليدينِ إلى الرَّحْمَةِ في قولِهِ :{ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } .
فيَتنوَّعُ المُضافُ بتنوُّعِ المُضافِ إليه ، وإنِ اختلفَتْ ماهيَّةُ الحقيقةِ وَصِفَتُها وتنوَّعَتْ بتَنَوُّعِ المُضافِ إليه .
وقد وردَ لفظُ اليدِ في القرآنِ والسُّنَّةِ وكلامِ الصَّحَابَةِ والتَّابِعينَ في أكثرَ مِن مائةِ موضعٍ وُروداً متنوِّعاً ، متَصرَّفاً فيه ، مَقروناً بما يدُلُّ على أنها يدٌ حقيقةً مِن الإمساكِ ، والطَّيِّ ، والقبضِ ، والبَسْطِ ، والمصافَحةِ ، والحَثْياتِ ، والنضْحِ باليدِ ، والخَلْقِ باليدَينِ ، والمباشَرةِ بهما ، وكَتْبِ التَّوراةِ بيدِهِ ، وغرْسِ جنةِ عدْنٍ بيدِه ، وتخميرِ طِينةِ آدمَ ، ووقوفِ العبدِ بين يديه ، وكونِ المُقْسطِينَ عن يمينِه ، وقيامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ القيامةِ عن يمينِه ، وتخييرِ آدمَ بين ما في يدَيْه . فَقَالَ : اخْتَرْتُ يمينَ ربِّي ، وأخذِ الصَّدَقةِ بيمينِه ، يُرَبِّيها لصاحِبها ، وكتابَتِه بيدِه على نَفْسِه : إنَّ رحمتَه تغلِبُ غضَبَه ، وأنه مَسَحَ ظَهرَ آدمَ بيدِه ، ثم قَالَ له : ويداه مَفْتُوحَتانِ : اختَرْ . فَقَالَ : اخترتُ يمينَ ربِّي ، وكِلْتا يديْه يمينٌ مبارَكةٌ ، وأنَّ يمينَه مَلْأَى لاَ يَغِيضُها نفقةٌ ، سحَّاءُ الليلَ والنَّهارَ ، وبيدِه الأُخْرى القِسْطُ يَرْفَعُ ويَخْفِضُ ، وأنه خلَقَ آدمَ مِن قبضةٍ قبَضَها مِن جميعِ الأرضِ، وأنه يطْوِي السَّمَاواتِ يومَ القيامةِ . ثم يأخُذُهُنَّ بيده اليُمْنَى . ثم يطْوِي الأرضَ باليدِ الأخرى ، وأنه خَطَّ الألواحَ الَّتِي كتَبَها لمُوسَى بيدِه، وتأمَّلْ قولَه :{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} فلمَّا كانوا يُبايِعونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأيدِيهم ، ويَضْرِبُ بيدِه على أيدِيهم ، وكان رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو السفيرَ بينَه وبينهم، كانت مبايعَتُهم له مبايعةً لِلَّهِ تَعَالَى ، ولمَّا كان سُبْحَانَهُ فوقَ سماواتِه على عَرْشِه وفوقَ الخلائِقِ كلِّهم كانت يدُه فوقَ أيديهم . كما أنه سُبْحَانَهُ فوْقَهم . فهل يَصِحُّ هذا لمَن لَيْسَ له يدٌ حقيقةً ؟
ولفظُ اليدِ جَاءَ في القرآنِ على ثلاثةِ أنواعٍ : مفرداً ومُثَنًّى ومجموعاً . فالمُفرَدُ كقولِه :{ بِيَدِهِ الْمُلْكُ } والمُثَنَّى كقولِه : { خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } والمَجموعُ { عَمِلَتْ أَيْدِينَا } فحَيْثُ ذَكَرَ اليدَ مُثَنَّاةً أضافَ الفِعلَ إلى نَفْسِه بضميرِ الإفرادِ ، وعَدَّى الفِعلَ بالباءِ إليهما ، فَقَالَ :{ خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } وحَيْثُ ذَكَرَها مجموعةً أضافَ العَمَلَ إليها ، ولم يُعَدِّ الفِعلَ بالباءِ . فهذه ثلاثةُ فُروقٍ فلا يَحْتَمِلُ :{ خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } مِن المجازِ ما يَحْتمِلُه { عَمِلَتْ أَيْدِينَا } فإنَّ كلَّ أَحدٍ يَفْهَمُ مِن قولِه :{ عَمِلَتْ أَيْدِينَا } ما يُفْهَمُ مِن قولِه عَمِلْنَا وخَلَقْنَا ، كما يُفْهَمُ ذلك مِن قولِه :{ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } وأمَّا قـولُه :{ خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } فلو كان المرادُ منه مجرَّدَ الفِعلِ لم يكُنْ لِذِكْرِ اليدِ بعدَ نسبةِ الفعلِ إلى الفاعِلِ معنىً ، فَكَيْفَ وقد دخلَتْ عليها الباءُ ؟ فَكَيْفَ إذا ثُنِّيَتْ ؟ وَسِرُّ الفَرْقِ أنَّ الفِعلَ قد يُضافُ إلى يدِ ذي اليدِ ، والمُرادُ الإضافةُ إليه كقولِه :{ بِمَا قدَّمَتْ يَدَاكَ } { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } وأمَّا إذا أُضِيفَ إليه الفِعلُ ثم عُدِّيَ بالباءِ إلى يدِه مُفرَدةً أو مُثناةً فهو مما باشَرَتْهُ يدُه .