دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > الفتوى الحموية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30 ذو القعدة 1429هـ/28-11-2008م, 08:14 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي اعتراف بعض المتكلمين بأن الطرق الكلامية لا تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً

ثُمَّ هَذَا القَوْلُ إِذَا تَدَبَّرَهُ الإِنْسَانُ وَجَدَهُ فِي غَايَةِ الجَهَالَةِ، بَلْ فِي غَايَةِ الضَّلالَةِ. كَيْفَ يَكُونُ هَؤُلاءِ المُتَأَخِّرُونَ، لاَ سِيَّمَا وَالإِشَارَةُ بِالْخَلَفِ إِلَى ضَرْبٍ مِنَ المُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ كَثُرَ فِي بَابِ الدِّينِ اضْطِرَابُهُمْ، وَغَلُظَ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ حِجَابُهُمْ، وَأَخْبَرَ الوَاقِفُ عَلَى نِهَايَاتِ إِقْدَامِهِمْ بِمَا انْتَهَى إِلَيْهِ مِنْ أَمرِهمْ حَيْثُ يَقُولُ:


لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ المَعَاهِدَ كُلَّهَا = وسَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ المَعَالِمِ
فَلَمْ أَرَ إِلاَّ وَاضِعًا كَفَّ نـادِمٍ = عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِمِ
وَأَقَرُّوا عَلَى نُفُوسِهِمْ بِمَا قَالُوهُ مُتَمَثِّلِينَ بِهِ أَوْ مُنْشِئِينَ لَهُ فِيمَا صَنَّفُوهُ مِنْ كُتُبِهِمْ كَقَوْلِ بَعْضِ رُؤَسَائِهِمْ:
(

نِهَـايَةُ إِقْـدَامِ العُقُـولِ عِـقَالُ = وَأَكْثَرُ سَعْيِ العَالَمِينَ ضَـلاَلُ
وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَا = وَغَايَةُ دُنْيَانَا أَذَىً وَوَبـَـالُ
وَلَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا = سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلَ وَقَالُوا
لَقَدْ تَأَمَّلْتُ الطُّرُقَ الكَلامِيَّةَ، وَالْمَنَاهِجَ الفَلْسَفِيَّةَ، فَمَا رَأَيْتُهَا تَشْفِي عَلِيلاً، وَلا تُرْوِي غَلِيلاً، وَرَأَيْتُ أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ القُرْآنِ، أَقْرَأُ فِي الإِثْبَاتِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فَاطِر: 10] وَأَقْرَأُ فِي النَّفْيِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشُّورَى:11] {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طهَ:110] وَمَنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتَي). اهـ.
وَيَقُولُ الآخَرُ مِنْهُمْ: (لَقَدْ خُضْتُ البحرَ الخِضَمَّ وتَركتُ أهلَ الإسلامِ وعلومَهم، وخضتُ في الذي نهونِي عنْهُ والآنَ إن لم يتداركني ربِّي برحمتِه فالويلُ لفلانِ، وها أنا أموتُ على عقيدةِ أمِّي).
ويقول الآخر منهم: (أَكْثَرُ النَّاسِ شَكًّا عِنْدَ المَوْتِ أَصْحَابُ الكَلام).


  #2  
قديم 30 ذو القعدة 1429هـ/28-11-2008م, 08:15 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي شرح سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله ابن باز

المقصودُ من هذا أنَّ هؤلاءِ الذين ابْتُلوا بالكلامِ وكَثَّرُوا البَحْثَ في هذهِ الأمورِ، ونَقَلُوا عن أصحابِ الكلامِ وأهلِ الحَيرةِ مانَقَلُوا، في الحقيقةِ أنَّهم ما اسْتَفَادوا شيئاً، ونَدِمَ كثيرٌ منهم على ما فَعَلَ، وكانَ آخِرُ كلامِهم ما ذَكَرَه المُؤَلِّفُ.
وهذا كلُّه يُبَيِّنُ لنا أنَّ الواجبَ على أهلِ العِلْمِ التمَسُّكُ بما كانَ عليه السلَفُ الصالحُ مِن تعظيمِ كتابِ اللَّهِ والأَخْذِ به، والأخذِ بالسنَّةِ والثَّبَاتِ عليها، ونَبْذِ ما خَالَفَ ذلك، وعَدَمِ الخَوْضِ في آياتِ الصفاتِ وأحاديثِها بما يَقُولُه أصحابُ الكلامِ، الذين كَثُرَ في بابِ أسماءِ اللَّهِ وصِفاتِه اضْطِرَابُهم، وغَلُظَ عن معرفةِ اللَّهِ حِجَابُهم، بسَبَبِ إعراضِهم عن كتابِ اللَّهِ وسنَّةِ رسولِه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، فلم يَسْتَفِيدُوا مِن بَحْثِهم إلا قِيلَ وقَالَ، ومِن الخوضِ الباطلِ الذي لا نَفْعَ فيه، فيَكْفِي في الإثباتِ ما جاءَ مِن نصوصِ الإثباتِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، ويَكْفِي في النفيِ نصوصُ النفْيِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، {وَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ}، {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} وأشباهُها، وهذه كافيةٌ في الإثباتِ والنفيِ، كافيةٌ في إثباتِ أسماءِ اللَّهِ وصفاتِه على الوجهِ اللائقِ باللَّهِ، مِن غيرِ تحريفٍ , ولا تَعْطِيلٍ , ولا تَكْيِيفٍ, ولا تَمْثِيلٍ.
فمَن قالَ: إنَّ هؤلاءِ المُتَأَخِّرِينَ أعْلَمُ وأحْكَمُ فقد غَلِطَ غَلَطاً عظيماً، وقد فَقَدَ صَوَابَه، وقد أُصِيبَ في عَقْلِه وفي عِلْمِه؛ فإنَّ أهلَ السنَّةِ والجماعةِ الذين سَبَقُوا إلى هذا الأمرِ، هم الذين كانُوا أعْلَمَ باللَّهِ وأحْكَمَ في أقوالِهم وأفعالِهم، وهم الذين سَلَكُوا طَرِيقَ السلامةِ، وهي طريقُ الحِكْمَةِ والعلمِ، وطريقُ الفِقْهِ في الدينِ، وطريقُ التأَدُّبِ معَ اللَّهِ ومعَ رسولِه، فهم أولى باللَّهِ وأولى برسولِه مِن هؤلاءِ المُتَأَخِّرِينَ، فمَن قالَ: إنَّ الخَلَفَ أعْلَمُ وأحْكَمُ والسلفَ أسلمُ، فقد قالَ الباطِلَ وغَلِطَ غلطاً عظيماً، لا وَجْهَ له، بل السلَفُ الصالحُ هم أعلمُ وأحكمُ وأسلمُ، والمُتَأَخِّرونَ هم أقلُّ علماً وأكثرُ تَكَلُّفاً وأقلُّ حِكْمَةً وأقلُّ بَصِيرةً. نَسْأَلُ اللَّهَ السلامةَ.


  #3  
قديم 6 شعبان 1433هـ/25-06-2012م, 11:41 PM
سليم سيدهوم سليم سيدهوم غير متواجد حالياً
برنامج الإعداد العلمي - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2011
الدولة: ليون، فرنسا
المشاركات: 1,087
افتراضي شرح الفتوى الحموية للشيخ يوسف الغفيص

[كيف يكون هؤلاء المتأخرون لا سيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهاية إقدامهم بما انتهى إليه أمرهم حيث يقول: لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم].
يقول المصنف: كيف يقال هذا القول مع أننا نجد أن أئمة الخلف هؤلاء -يعني: أئمة الأشاعرة- صرحوا في كتبهم بأن طريقتهم لم توصلهم إلى حق؟
فـالشهرستاني قال في مقدمة كتابه: نهاية الإقدام: وقد طلب مني من طاعته غنم وإجابته حتم أن أكتب له ما تحصل عندنا في هذا الباب، ولعمري لقد استسمن ذا ورم.
ثم قال كلاماً وأنشأ بعده أو تقلد هذين البيتين في مقدمة كتاب نهاية الإقدام، فقال: لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم وقد رد عليه من رد من أصحاب السنة، فقال: لعلك يا أستاذ ما زرت أحمداً رسول الهدى المبعوث من آل هاشم أي: لو أنه أتى لمعين مذهب السلف لأصابه.
فإن الشهرستاني قطعاً لم يفهم مذهب السلف؛ لأنه شرح مذهب السلف في كتابه الملل والنحل شرحاً غلطاً، بل من العجب أنه خالف جمهور أصحابه وقال: إن السلف كان منهم مشبهة! وهذا القول لا يقوله جمهور الأشاعرة، ولهذا وإن كان كتابه الملل والنحل من أكبر كتب المقالات وأوسعها، لكنه من أجهل الكتب بتحصيل مذهب السلف.
[وأقروا على أنفسهم بما قالوه متمثلين به أو منشدين له فيما صنفوه من كتبهم كقول بعض رؤسائهم: نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذىً ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5].
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي].
هذا الكلام لـ محمد بن عمر الرازي، وهو عمدة المتأخرين من الأشاعرة.
وهو في كتابه أقسام اللذات وهو مخطوط لم يطبع.
وهذه النتيجة وقعت لخلق من الأشعرية وغيرهم -وبخاصة الأشاعرة- حيث يتبين لهم أن المسلك الكلامي الذي سلكوه ليس صواباً، فيميلون إلى تعظيم الطريقة المأثورة عن سلف الأمة، وإن كانوا في الجملة لا يهتدون إليها -أي: إلى تفاصيلها- عند التحقيق، وهذا الذي وقع فيه أبو المعالي الجويني في رسالته النظامية، ويقع في كلام محمد بن عمر الرازي في مثل هذا السياق، وكذلك في كلام أبي حامد الغزالي؛ فإنه رجع إلى مذهب أهل السنة باعتبار أنه تبين له أن الحق في طريقة السلف، وإن كان لم يصب التعريف، وربما قصد مقاصد في مسائل الأحوال والتصوف وأضافها إلى مقامات الأئمة، ولا سيما من عرفوا بالعبادة من متقدمي أئمة السلف واشتهروا بها.
فهذا لا يحصل به أن هؤلاء رجعوا إلى مذهب أهل السنة رجوعاً متحققاً من جهة تقرير المسائل، وإن كانوا يذكرون رجوعهم ويتبين لهم أن ما سلكوه غلطاً، لأنهم لا يهتدون إلى مذهب السلف على التفصيل، بل يهتدون إليه مجملاً، وربما اهتدوا إلى مذهب يفارق المذهب الذي كانوا عليه يظنون أنه مذهب السلف، مثل ما وقع لـ أبي المعالي الجويني في الرسالة النظامية؛ فإنه ذكر أن التأويل محرم وأن الصواب ما عليه سلف الأمة، والتزم مذهب السلف لكن ظن أن مذهب السلف هو التفويض.
[ويقول الآخر منهم: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لفلان، وها أنا أموت على عقيدة أمي].
هذا النقل لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وهو من كبار أئمة الأشعرية، وقد تقدم أنه ممن مال بالمذهب الأشعري عن طريقة المتقدمين لكثرة عناية الأشاعرة في زمنه بمسألة الرد على أصناف المخالفين، بما في ذلك بعض الطوائف الفقهية وبخاصة الحنابلة، وقد صنف كتباً من أخصها كتاب الشامل، وكتاب اللمع، وكتاب: الإرشاد إلى قواطع الأدلة وكما يظهر من وسم هذا الكتاب أن الجويني يقرر في هذا الكتاب قواطع من الأدلة، ولهذا استعمل الجزم الصريح في هذا الكتاب.
ثم في الرسالة النظامية رجع عن أكثر ما قرره في هذا.
ففي الرسالة النظامية رجع في مسألة الصفات عن التأويل إلى التفويض، وفي مسألة القدر رجع عن مسلك الأشعرية في مسألة الكسب، وأن العبد له إرادة مسلوبة التأثير، إلى قول مركب من قول أهل السنة وقول المعتزلة ونزعة فلسفية، فصار قوله في الجملة قولاً مركباً، ليس سلفياً محضاً وليس معتزلياً محضاً وليس فلسفياً محضاً، إنما فيه تركيب من أوجه كثيرة، مع بقية بقيت عليه من قول أصحابه.
[ويقول الآخر منهم: أكثر الناس شكاً عند الموت أصحاب الكلام].
هذه الجملة نسبت لـ أبي حامد الغزالي صاحب الإحياء، وهو من تلاميذ أبي المعالي الجويني.
وغرض المصنف من هذه النقولات أن يبين أن هذه المذاهب الكلامية قد شهد أصحابها على فسادها.
والملاحظ أن هذه النقولات هي عن متأخري الأشعرية، والموجب لهذا أن مقصود المصنف بالرد كان هذا الصنف من المتكلمين، ولكن هذا لا يعني أنه لا يوجد في كلام غيرهم ممن هم أشد منهم غلطاً في هذا الباب كالمعتزلة وغيرهم ما هو من جنس هذا.
من الدلائل على بطلان مذاهب المخالفين: أن الطائفة الواحدة من المتكلمين تقع في إبطال مقالة الطائفة ودلائلها المقابلة لها، مع أن مذهبهم مبني على قاعدة واحدة، هي القاعدة الكلامية.
بمعنى أن الأشاعرة يحكمون على مذهب المعتزلة بالفساد، والمعتزلة يحكمون على مذهب الأشاعرة بالفساد، مع أن المادة الكلامية واحدة! بل أخص من هذا أن البغداديين من المعتزلة يفارقون البصريين من المعتزلة في تقرير كثير من الدلائل والمسائل، وبين هذين الطائفتين تنازع كثير، ومن ذلك ما صنفه أبو رشيد النيسابوري في مسائل الخلاف بين البصريين والبغداديين من المعتزلة.
وكذلك نجد ما هو أخص من هذا: وهو أن أعيان أئمة البصريين من المعتزلة أو أعيان أئمة البغداديين من المعتزلة يقع التعارض بين الشيخ وتلميذه، فمثلاً: أبو الهذيل العلاف منظر مدرسة المعتزلة، كان من أصحابه أبو إسحاق النظام - إبراهيم بن سيار النظام - ومع ذلك وقع بين أبي الهذيل العلاف وأبي إسحاق النظام نزاع شديد في طريقة تحصيل المذهب على طريقتين متناقضتين.
بل ما هو أخص من هذا، وهو: أنه في كلام الواحد من أعيان أئمة المتكلمين الكبار اضطراب كبير في كثير من المسائل، كما تقدم في حال أبي المعالي الجويني، فإنه يقرر في كتب مقامات ويقرر في بعض الكتب الأخرى ما يناقض هذه المقامات، وكما تقدم معنا في كلام أبي الحسن الأشعري أيضاً مع قربه من أهل السنة والجماعة، وكذلك ما يقع في كلام بعض أعيان المعتزلة وهلم جرا.
وفي المتفلسفة الأمر أشد؛ ولهذا نجد أن أبا الوليد بن رشد يتناقض كثيراً، وكذلك ابن سينا في كتبه يتناقض كثيراً، فهو مرة يمتدح الطريقة العقلية ويصححها، ومرة يشير إلى الطعن عليها ويصحح طريقة التصوف والعرفان وهلم جرا.
إذاً: الناظر في مقالات هؤلاء باعتبار طوائفهم أو باعتبار الطائفة الواحدة بين أصحابها، أو باعتبار الواحد منهم، يجد أن في كلامهم تناقضاً كثيراً، ولا شك أن التناقض دليل على الفساد، ولهذا كان من الدلائل على أن القرآن من عند الله أنه ليس فيه اختلاف: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] ولا يرى شيء من ذلك فيما يتعلق بمذهب السلف.
وهنا تظهر النتيجة من هذا، وهو أنه ليس هناك طائفة من طوائف المخالفين للسلف إلا وبين أصحابها نزاع كثير في تقرير الدلائل والمسائل.
وهذا قدر واسع جداً، ولا يرى شيء من ذلك يقع في كلام أئمة السلف، فإنهم متفقون في الدلائل ومتفقون في المسائل، وإذا قيل: إنهم متفقون في الدلائل فهذا لا يعني أن كل دليل يستدل به إمام يلزم أن يكون هذا الدليل مستعملاً عند سائر الأئمة، ولكن الذي يلزم أنه ما من مسألة من مسائل أصول الدين إلا وفيها أدلة أجمع السلف على الاستدلال بها، ويكون ثبوت المسألة وتحققها بهذه الأدلة المجمع عليها.
وبعض الأئمة يجمعون مع الاستدلال بالنصوص الصريحة الاستدلال بشيء من الظواهر التي قد لا يسلم بها بعض الأئمة، فهذا الاختلاف ليس من باب الاختلاف في الدلائل عند السلف؛ لأن هذا الاختلاف إنما يكون اختلافاً من جنس اختلاف المتكلمين لو كانت المسائل لا تثبت إلا بهذه الأدلة التي يقع فيها شيء -أحياناً- من النزاع.
إذاً السلف مذهبهم مذهب متفق من جهة دلائله ومسائله، أما المخالفون فمذهبهم ليس متفقاً لا من جهة دلائله ولا من جهة مسائله؛ وبهذا يعلم أن دلائل المعتزلة التي يذكرها بعض أعيانهم يمكن أن يذكر الرد عليها من كلام بعض أعيان المعتزلة الآخرين، فضلاً عن كلام الأشاعرة على المعتزلة، فضلاً عن كلام السلف على المعتزلة.
وكذلك بعض كلام الأشاعرة يمكن رده بكلام بعض أعيانهم، وإن كان هذا المقام إذا ذكر لا يلزم بالضرورة أن يكون مطرداً، فإنك قد ترى بعض الأدلة التي تتفق عليها طائفة من الطوائف فتحصل بها مذهباً، وترى بعض المسائل تتفق عليها الطائفة وتحصل بهذه النتيجة اتفاقاً يضافون وينتسبون إليه، كالأصول الخمسة التي التزمها المعتزلة في الجملة، ولكن لهم في طرق تقريرها طرق مختلفة.
فالقصد: أن هذه الدلائل يدخلها التعارض كثيراً، وهذا هو مقصود المصنف رحمه الله من ذكر هذا المقام، وهو: تقرير أن المخالفين للسلف هم في قول مختلف يؤفك عنه من أفك، أي: أنهم مختلفون فيما بينهم متناقضون في تقرير أقوالهم، وإن كانوا أحياناً يطلقون في كتبهم كثيراً من الإجماع، بل تجد بعضهم يقول: أجمع المسلمون على كذا.
ولا يكون هذا صحيحاً في نفس الأمر.
ومن الأمثلة على ذلك: أن الجويني كثيراً ما يقول في كتبه: والدليل على ذلك إجماع المسلمين.
مع أن القول الذي حكى فيه الإجماع ليس إجماعاً للمسلمين، بل ولا إجماعاً لأهل السنة والمنتسبين إليها، بل ولا إجماعاً للأشعرية وحدها.
ومن أمثلة نقله للإجماع قوله: أن وجوب النظر على المكلفين إجماع عند المسلمين.
مع أن هذا لم توجبه طائفة بعينها بإجماعها، حتى مَنْ هم أخص من تكلم بمسألة النظر وهم المعتزلة، وعن المعتزلة دخل القول بمسألة وجوب النظر على الأشاعرة، حتى قال أبو جعفر السمناني: القول في إيجاب النظر في مذهبنا -يعني مذهب الأشعرية- بقية بقيت فيه من مذهب المعتزلة.
فأصلاً القول بإيجاب النظر هو مبني على أصول القدرية نفاة القدر، ولهذا لا يمكن إثباته على أصول الكسبية الأشعرية مثبتة القدر الغالية في إثباته، ولكن حتى المعتزلة أصحاب النظر طائفة من أئمتهم لا يوجبونه، ويرون أن المعرفة تقع ضرورية، ومن هؤلاء الجاحظ الكاتب المعتزلي المعروف، وثمامة بن الأشرس، وأبو إسحاق البلخي وجماعة من أكابر علماء المعتزلة؛ والخلاف بين الأشعرية في عدم إيجاب النظر مشهور.
فالقصد: أن ما يقع في بعض كتب المتكلمين من دعوى الإجماع هذا لا يلتفت إليه، فإنهم من أجهل الناس بالإجماع.


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
اعتراف, بعض

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:57 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir