المقصودُ من هذا أنَّ هؤلاءِ الذين ابْتُلوا بالكلامِ وكَثَّرُوا البَحْثَ في هذهِ الأمورِ، ونَقَلُوا عن أصحابِ الكلامِ وأهلِ الحَيرةِ مانَقَلُوا، في الحقيقةِ أنَّهم ما اسْتَفَادوا شيئاً، ونَدِمَ كثيرٌ منهم على ما فَعَلَ، وكانَ آخِرُ كلامِهم ما ذَكَرَه المُؤَلِّفُ.
وهذا كلُّه يُبَيِّنُ لنا أنَّ الواجبَ على أهلِ العِلْمِ التمَسُّكُ بما كانَ عليه السلَفُ الصالحُ مِن تعظيمِ كتابِ اللَّهِ والأَخْذِ به، والأخذِ بالسنَّةِ والثَّبَاتِ عليها، ونَبْذِ ما خَالَفَ ذلك، وعَدَمِ الخَوْضِ في آياتِ الصفاتِ وأحاديثِها بما يَقُولُه أصحابُ الكلامِ، الذين كَثُرَ في بابِ أسماءِ اللَّهِ وصِفاتِه اضْطِرَابُهم، وغَلُظَ عن معرفةِ اللَّهِ حِجَابُهم، بسَبَبِ إعراضِهم عن كتابِ اللَّهِ وسنَّةِ رسولِه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، فلم يَسْتَفِيدُوا مِن بَحْثِهم إلا قِيلَ وقَالَ، ومِن الخوضِ الباطلِ الذي لا نَفْعَ فيه، فيَكْفِي في الإثباتِ ما جاءَ مِن نصوصِ الإثباتِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، ويَكْفِي في النفيِ نصوصُ النفْيِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، {وَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ}، {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} وأشباهُها، وهذه كافيةٌ في الإثباتِ والنفيِ، كافيةٌ في إثباتِ أسماءِ اللَّهِ وصفاتِه على الوجهِ اللائقِ باللَّهِ، مِن غيرِ تحريفٍ , ولا تَعْطِيلٍ , ولا تَكْيِيفٍ, ولا تَمْثِيلٍ.
فمَن قالَ: إنَّ هؤلاءِ المُتَأَخِّرِينَ أعْلَمُ وأحْكَمُ فقد غَلِطَ غَلَطاً عظيماً، وقد فَقَدَ صَوَابَه، وقد أُصِيبَ في عَقْلِه وفي عِلْمِه؛ فإنَّ أهلَ السنَّةِ والجماعةِ الذين سَبَقُوا إلى هذا الأمرِ، هم الذين كانُوا أعْلَمَ باللَّهِ وأحْكَمَ في أقوالِهم وأفعالِهم، وهم الذين سَلَكُوا طَرِيقَ السلامةِ، وهي طريقُ الحِكْمَةِ والعلمِ، وطريقُ الفِقْهِ في الدينِ، وطريقُ التأَدُّبِ معَ اللَّهِ ومعَ رسولِه، فهم أولى باللَّهِ وأولى برسولِه مِن هؤلاءِ المُتَأَخِّرِينَ، فمَن قالَ: إنَّ الخَلَفَ أعْلَمُ وأحْكَمُ والسلفَ أسلمُ، فقد قالَ الباطِلَ وغَلِطَ غلطاً عظيماً، لا وَجْهَ له، بل السلَفُ الصالحُ هم أعلمُ وأحكمُ وأسلمُ، والمُتَأَخِّرونَ هم أقلُّ علماً وأكثرُ تَكَلُّفاً وأقلُّ حِكْمَةً وأقلُّ بَصِيرةً. نَسْأَلُ اللَّهَ السلامةَ.