وقَوْلُهُ: (كلُّ مَنْ عليْهَا فانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ).( 64)
وقوله: ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ ).( 65)
(64) قَولُهُ: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ): أي كلُّ مَن على الأرضِ يُعْدَمُ ويَمُوتُ، ويبقى وجهُه سُبْحَانَهُ،
قال الشَّعبيُّ رحمه اللهُ: إذا قرأتَ قَولَهُ: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) فلا تسكتْ حتَّى تقرأَ قَولَهُ: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ) وهذا مِن فقهِهِم في القرآنِ، وكمالِ علمِهِم؛ إذ المقصودُ الإخبارُ بفناءِ مَنْ عليها مع بقاءِ وجههِ، فإنَّ الآيةَ سِيقتْ لبيانِ تَمَدُّحِهِ -سُبْحَانَهُ- بالبقاءِ وحدَه، ومجرَّدُ فناءِ الخليقةِ ليسَ فيه مدحٌ، إنَّما المدحُ في بقائِه -سُبْحَانَهُ- بعد فناءِ خلقهِ، فهي نظيرُ قَولِهِ سُبْحَانَهُ: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ). انتهى. مِن كلامِ ابنِ القيِّمِ.
قَولُهُ: (وَجْهُ رَبِّكَ): فيه إثباتُ صفاتِ الوجهِ للهِ، وهو مِن الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ كالسَّمْعِ والبصرِ واليدينِ وغيِرِ ذلك من الصِّفاتِ، فعلى العبادِ الإيمانُ بها، والتَّسليمُ واعتقادُ أنَّها حقيقةٌ تليقُ بجلالِ اللِه وعظمتِه، وعلى هذا مَضَى الصَّحابةُ والتَّابعونَ والأئمَّةُ.
قَولُهُ: (ذُو الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ): أي ذو العظمةِ والكبرياءِ.
قَولُهُ: (وَالإِكْرَامِ): أي المُكرِّمِ لأنبيائِه وعبادِه الصَّالحين، وقيلَ: ذو الجلالِ أيْ: هو المستحِقُّ لأنْ يُجَّلَ ولأنْ يُكَرَمَ، والإجلالُ يتضمَّنُ التَّعظيمَ، والإكرامُ يتضمَّنُ الحمدَ والمحبَّةَ، وقد قالَ بعضُ السَّلفِ: لا يَهديَّنَّ أحدُكُم للهِ ما يستحي أحدُكُم أنْ يهديَهُ لكريمِه، فإنَّ اللهَ أكرمُ الكُرماءِ، أي هو أحقُّ مِن كلِّ شيءٍ بالإكرامِ، إذ كانَ أكرمَ مِن كلِّ شيءٍ، وقالَ أيضًا: وإذا كان مستحقًّا للإجلالِ والإكرامِ لَزِم أنْ يكونَ متَّصفًا في نفسِه بما يوجبُ ذلك، كما إذا قالَ الإلهُ: هو المستحِقُّ لأنَّه يؤلَّهُ أي يُعبدُ، كان هو في نفسِه مستَحِقًّا لما يوجبُ ذلك، والإجلالُ من جنسِ التَّعظيمِ، والإكرامُ من جنسِ الحُبِّ والحمدِ، وهذا كقَولِهِ: (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) فله الإجلالُ وله الإكرامُ والحمدُ. انتهى. مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ.
(65) قَولُهُ: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ): أي أَنَّ جميعَ أهلِ الأرضِ وأهلِ السَّماء سيموتونَ ويذهَبُون إلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ، ولا يبقى إلاَّ وجهُه -سُبْحَانَهُ وتعالى-، والمُسْتثنى من الهلاكِ والفناءِ ثمانيةٌ، نَظمها السُّيوطيُّ بقَولِهِ: ثمانيةٌ حُكْمُ البقاءِ يَعُمُّهَـــا مِنَ الخلْقِ والبَاقونَ في حيِّزِ العَدَمِ
هي العَرشُ و الكرسِيُّ نارٌ وجنَّةٌ وعجبٌ وأرواحٌ كذا اللَّوحُ والقلمُ
وأمَّا قَولُهُ:(كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ)، وقَولُهُ: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) فإنَّ المُرادَ كلُّ شيءٍ كُتِبَ عليه الفناءُ والهلاكُ هالكٌ، والجنَّةُ والنَّارُ خُلقتَا للبقاءِ لا للفناءِ، وكذا العرشُ فإنَّهُ سقفُ الجنَّةِ والكرسيُّ إلى آخرِها، فإنَّ عمومَ (كُلُّ) في كلِّ مقامٍ بحسبهِ، ويُعرَفُ ذلكَ بالقرائِن كقَولِهِ: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ ) ومساكنهُم شيءٌ لم تدخلْ في عمومِ كلِّ شيءٍ؛ لأنَّ المُرادَ تدمِّرُ كلَّ شيءٍ يقبلُ التَّدميرَ بالرِّيحِ عادةً، وكقَولِهِ عن بلقيسَ: (وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ) فالمرادُ من كلِّ شيءٍ يحتاجُ إليه الملوكُ، وهذا القيدُ يُفهَمُ من قرائنِ الكلامِ، إذ المرادُ أَنَّها مَلِكةٌ تامَّةُ المُلكِ.
ففي هذه الآياتِ كغيرِها من أدلَّةِ الكتابِ والسُّنـَّةِ إثباتُ صفةِ الوجهِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى-، كما يليقُ بجلالِهِ وعظمتِهِ، وإثباتُ أنَّهُ وجهٌ حقيقةً لا يُشبِهُ وجوهَ خلقِه، ليسَ كمثلِهِ شيءٌ، وهذا هو الَّذي عليه أهلُ السُّنـَّةِ والجمَاعةِ،
خلافًا للمُبْتَدعةِ من الجهميَّةِ وأشباهِهم، ممَّن نَفى الوجهَ وعطَّـلَه، وزعمَ أنَّه مجازٌ عن الذَّاتِ، أو الثَّوابِ أو الجهةِ أو غيِرِ ذلك، وهذه تأويلاتٌ باطلةٌ من وجوهٍ عديدةٍ، منها أنَّه فرَّقَ بين الذَّاتِ والوجهِ، وعطفُ أحدِهِما على الآخرِ يَقْتضِي المُغايرةَ، كما في حديثِ: ((إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المسْجِدَ قَالَ أَعُوذُ باللهِ الْعظِيمِ وبِوجْهِهِ الكرِيْمِ))،
ومنها أنَّه أضافَ الوجهَ إلى الذَّاتِ، وأضافَ النَّعتَ إلى الوجهِ، ولو كانَ ذِكْرُ الوجهِ صلةً ولم يكن صفةً للذَّاتِ لقالَ ذي الجلالِ، فلمَّا قالَ ذو الجلالِ تبيَّنَ أنَّه نعتٌ للوجهِ، وأنَّ الوجهَ صفةٌ للذَّاتِ، كما ذكرَ معنى ذلك البَيْهقيُّ والخطَّابيُّ، وروى مسلمٌ في صحيحِه حديثَ: ((إنَّ اللهَ لا يَنَامُ ولا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبْحَاتُ وجهِهِ ما انْتَهَى إليهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ)).
ومنها أنَّ الوجهَ حيثُ وردَ فإنَّما وردَ مضافًا إلى الذَّاتِ في جميعِ مواردِه،
والمضافُ إلى الرَّبِّ نوعانِ:
أعيانٌ قائمةٌ بنفسِها، كبيتِ اللهِ وناقةِ اللهِ ورَوْحِ اللهِ وعبدِ اللهِ، فهذه إضافةُ تشريفٍ وتخصيصٍ، وهي إضافةُ مملوكٍ إلى مالكِهِ.
الثَّاني: صِفاتٌ لا تقومُ بنفسِها، كعلمِ اللهِ وحياتِه وقُدرتِه وسَمْعِه وبصرِه ونورِه، فهذه إضافتهُا إليه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- إضافةُ صفةٍ إلى موصوفٍ بها، إذا عُرِفَ ذلك فإضافةُ السَّمْعِ والبصرِ والوجهِ ونحوِ ذلك إضافةُ صفةٍ إلى موصوفٍ، لا إضافةُ مخلوقٍ إلى خالقِه , وفي سُننِ أبي داودَ عنه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه كان إذا دخلَ المسجدَ قال: ((أَعُوذُ باللهِ العَظيمِ وَبِوجْهِهِ الكَريمِ وبِسُلْطَانِهِ القَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ))، فتأمَّلْ كيفَ قرنَ بينَ الاستعاذةِ بالذَّاتِ والاستعاذةِ بوجهِهِ الكريمِ، وهذا صريحٌ في إبطالِ قولِ مَنْ قالَ: إنَّه الذَّاتُ نفسُها، وقولِ مَنْ قالَ: إنَّه مخلوقٌ، إذ الاستعاذةُ لا تجوزُ بمخلوقٍ، إلى غيرِ ذلك مِن الوجوهِ الَّتي ذكرها ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ بالصَّواعقِ في إثباتِ الوجهِ صفةً للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى-، وأنَّه وجهٌ حقيقيٌّ يليقُ بجلالِه وعظمتِهِ، وإبطالِ قولِ مَن زعَم غيرَ ذلك.