[وسبب ذلك: اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة].
قوله: اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر، أي: اعتقادهم أن الله لا يتصف بالصفات الفعلية، فلما اعتقدوا بالشبهات التي تلقوها عن المعتزلة وأمثالهم أن الله لا يتصف بالصفات الفعلية قرروا أن مذهب السلف فيها هو التفويض، ومذهب الخلف فيها هو التأويل.
[التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر -وكان مع ذلك لابد للنصوص من معنى- بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى، وهي التي يسمونها طريقة السلف، وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف، وهي التي يسمونها طريقة الخلف، فصار هذا الباطل مركباً من فساد العقل والكفر بالسمع].
أما فساد العقل فلأن الدلائل التي استعملها هؤلاء لنفي الصفات دلائل فاسدة بالعقل كما أنها فاسدة بالشرع؛ ولهذا من قواعد شيخ الإسلام : أن كل دليل عقلي يستدل به مبتدع على قول؛ فإن الدلائل العقلية نفسها تدل على بطلان هذا الدليل فضلاً عن الدلائل الشرعية. ولهذا من الخطأ القول بأن الدليل العقلي يرد بالدليل السمعي وحده، بل يرد بالدليل العقلي الصحيح والدليل السمعي؛ لأن العقل لا يعارض السمع. ......
من المعلوم أن من استدل بدليل سمعي على بدعة فإن الدليل السمعي -وهذه حقيقة بدهية- لا يدل على بدعته؛ لكن شيخ الإسلام يقول: وقد تأملت عند التحقيق واطرد الأمر عندنا في ذلك أن كل من استدل بدليل سمعي على بدعة؛ فإن هذا الدليل السمعي نفسه يدل على نقيض بدعته.. وهذا ما يسمى بقلب الدليل . مثال ذلك: أن من أخص أدلة المعتزلة على نفي الرؤية: قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } [الأنعام:103] فهنا طريقتان للرد عليهم: إما أن يقال: إن الدليل لا يدل على نفي الرؤية.. وهذا بدهي وواضح. وإما أن يقال -وهذا الذي يستعمله شيخ الإسلام وبعض المحققين من أهل العلم-: إن الدليل نفسه يدل على إثبات الرؤية؛ لأن الله نفى الإدراك ولم ينف الرؤية، والإدراك قدر زائد على الرؤية، فإن من يرى الشيء لا يلزم أن يدركه. فلما نفى القدر الزائد دل على ثبوت ما دونه؛ لأنه لو كان المعنى من أصله منتفياً لما احتيج إلى نفي القدر الزائد. وقد قال رجل لـابن عباس: إن الله يقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة:23] ويقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } [الأنعام:103] قال له ابن عباس: يا هذا! ألست ترى السماء؟ قال: بلى. قال: أتدركها كلها؟ قال: لا. قال: فالله أعظم. فكل من يبصر من بني آدم اليوم يرون السماء حقيقةً، لكن لا أحد من بني آدم يقول: إنه يدرك كل السماء على ماهيتها. وكذلك يرون الشمس لكن لا يدركونها إدراكاً حقيقياً، ففي هذه الآية قال الله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ }[الأنعام:103] لأن الله يرى ولا يدرك، وهذا من كماله، بخلاف المخلوقات؛ فإنها ترى وتدرك. وقد يقال: الشمس لا ندركها. فنقول: لكنها تقبل الإدراك، فأنت ترى البعيد فلا تدرك أهو امرأة أو رجل، لكن هذا البعيد الذي تراه الآن ولا تدركه يقبل الإدراك، بخلاف الباري سبحانه فإنه يرى ولا يدرك، كما أنه يُعلم ولا يحاط به علماً. ......