الوصية لغة: مأخوذة من وصيت الشيء إذا وصلته، سميت بذلك لأنها وصل لما كان في الحياة بما بعد الموت؛ لأن الموصي بعض التصرف الجائز له في حياته ليستمر بعد موته.
والوصية في اصطلاح الفقهاء: هي الأمر بالتصرف بعد الموت، أو بعبارة أخرى: هي التبرع بالمال بعد الموت.
والدليل على مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع.
قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ}.
وقال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم)).
وأجمع العلماء على جوازها.
والوصية تارة تكون واجبة وتارة مستحبة:
تجب الوصية بما له وما عليه من الحقوق التي ليس فيها إثباتات لئلا تضيع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين؛ إلا ووصيته مكتوبة عنده))، فإذا كان عنده ودائع للناس أو في ذمته حقوق لهم؛ وجب عليه أن يكتبها ويبينها.
وتكون الوصية مستحبة بأن يوصي بشيء من ماله يصرف في سبل البر والإحسان ليصل إليه ثوابه بعد وفاته؛ فقد أذن له الشارع بالتصرف عند الموت بثلث المال، وهذا من لطف الله بعباده؛ لتكثير الأعمال الصالحة لهم.
وتصح الوصية حتى من الصبي العاقل كما تصح منه الصلاة، وتثبت بالإشهاد وبالكتابة المعروفة بخط الموصي.
ومن أحكام الوصية: أنها تجوز بحدود ثلث المال فأقل، وبعض العلماء يستحب أن لا تبلغ الثلث؛ فقد ورد عن أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم:
فقد قال أبو بكر رضي الله عنه: "رضيت بما رضي الله به لنفسه"، يعني: في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}.
وقال علي رضي الله عنه: " لأن أوصى بالخمس أحب إلى من أوصي بالربع".
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الثلث، والثلث كثير".
ولا تجوز الوصية بأكثر من الثلث لمن له وارث؛ إلا بإجازة الورثة؛ لأن ما زاد على الثلث حق لهم، فإذا أجازوا الزيادة عليه؛ صح ذلك، وتعتبر إجازتهم لها بعد الموت.
ومن أحكام الوصايا أنها لا تصح لأحد من الورثة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا وصية لوارث))، رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، وله شواهد، وقال الشيخ تقي الدين: "اتفقت الأمة عليه".
وذكر الشافعي أنه متواتر، فقال: "وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: ((لا وصية لوارث))، ويأثرونه عمن لقوه من أهل العلم؛ إلا إذا أجاز الورثة الوصية للوارث؛ فإنما تصح؛ لأن الحق لهم، وتعتبر صحة إجازتهم الوصية بالزيادة على الثلث لغير الوارث وإجازتهم الوصية للوارث إذا
كانت الإجازة صادرة منهم في مرض موت الموصي أو بعد وفاته..".
ومن أحكام الوصية: أنها إنما تستحب في حق من له مال كثير ووارثه غير محتاج؛ لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ}، والخير هو المال الكثير عرفا؛ فتكره وصية من ماله قليل ووارثه محتاج؛ لأنه يكون بذلك قد عدل عن أقاربه المحاويج إلى الأجانب، ولقوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: "إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس"، وقال الشعبي: "ما من مال أعظم أجرًا من مال يتركه الرجل لولده ويغنيهم به عن الناس"، وقال علي لرجل: "إنما تركت شيئا يسيرًا؛ فدعه لورثتك"، وكان كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يوصوا.
وإذا كان قصد المورث المُضارَّة بالوارث ومضايقته؛ فإن ذلك يحرم عليه ويأثم به؛ لقوله تعالى: {غَيْرَ مُضَار}.
وفي الحديث:((إن الرجل ليعمل بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضره الموت، فيُضارُّ في الوصية، فتجب له النار))،وقال ابن عباس: "الإضرار في
الوصية من الكبائر".
قال الإمام الشوكاني رحمه الله: "قوله {غَيْرَ مُضَار}؛ أي: يوصي حال كونه غير مضار لورثته بوجه من وجوه الضرار؛ كأن يقر بشيء ليس عليه، أو يوصي بوصية لا مقصد له فيها إلا الضرار بالورثة، أو يوصي لوارث مطلقا أو لغيره بزيادة على الثلث ولم تجزه الورثة، وهذا القيد أعني قوله: {غَيْرَ مُضَار} راجع إلى الوصية والدَّين المذكورين؛ فهو قيد لهما، فما صدر من الإقرارات بالديون أو الوصايا المنهي عنها أو التي لا مقصد لصاحبها إلا المضارة لورثته؛ فهو باطل مردود، لا ينفذ منه شيء، لا الثلث ولا دونه" انتهى كلام الشوكاني رحمه الله.
ومن أحكام الوصايا: جواز الوصية بكل المال لمن لا وارث له؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس))، وورد جواز ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه،
وقال به جمع من العلماء؛ لأن المنع من الوصية بما زاد عن الثلث لأجل حق الورثة، فإذا عدموا؛ زال المانع؛ لأنه لم يتعلق به حق وارث ولا غريم؛ فأشبه ما لو تصدق بماله في حال صحته.
قال الإمام ابن القيم: "الصحيح أن ذلك له؛ لأنه إنما منعه الشارع فيما زاد على الثلث إذا كان له ورثة، فمن لا وارث له لا يعترض عليه فيما صنع في ماله.." انتهى كلام ابن القيم.
ومن أحكام الوصايا: أنه إذا لم يف ثلث مال الموصي بها، ولم تُجِز الورثة الزيادة على الثلث؛ فإن النقص يدخل على الجميع بالقسط فيتحاصَّون، ولا فرق بين متقدمها ومتأخرها؛ لأنها كلها تبرع بعد الموت، فوجبت دفعة واحدة، تساوى أصحابها في الأصل وتفاوتوا في المقدار، فوجبت المحُاصَّة؛ كمسائل العول في الفرائض إذا زادت على أصل المسألة.
مثال ذلك: أو أوصى لشخص بمئة ريال، ولآخر بمئة ريال، ولثالث بخمسين ريالاً، ولرابع بثلاثين ريالاً، ولخامس بعشرين ريالا، وثلث ماله مئة ريال فقط، ومجموع الوصايا ثلاث مئة ريال، فإذا نسبت مبلغ الثلث إلى مبلغ مجموع الوصايا؛ بلغ ثلثه، فيعطي كل واحد ثلث ما أوصى له به فقط.
ومن أحكام الوصايا: أن الاعتبار بصحتها وعدم صحتها بحالة الموت، فلو أوصى لوارث، فصار عند الموت غير وارث؛ كأخ حجب بابن تجدَّد؛ صحت الوصية اعتبارًا بحال الموت؛ لأنه الحال الذي يحصل
به الانتقال إلى الوارث والموصى له، وبعكس ذلك، لو أوصى لغير وارث، فصار عند الموت وارثا؛ فإنها لا تصح الوصية؛ كما لو أوصى لأخيه مع وجود ابنه حال الوصية، ثم مات ابنه؛ فإنها تبطل الوصية إن لم تجزها الورثة؛ لأن أخاه صار عند الموت وارثا.
ويترتب على هذا الحكم أيضا أنه لا يصح قبول الوصية ولا يملك الموصى له العين الموصى بها إلا بعد موت الموصي؛ لأن ذلك وقت ثبوت حقه، ولا يصح القبول قبل موت الموصي.
قال الموفق: "لا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن اعتبار الوصية بالموت، وإن كانت الوصية لغير معين كالفقراء كالمساكين أو من لا يمكن حصرهم كبني تميم أو على مصلحة كالمساجد؛ لم تفتقر إلى قبول، ولزمت بمجرد الموت، أما إذا كانت على معين؛ فإنها تلزم بالقبول بعد الموت".
ومن أحكام الوصية: أنه يجوز للموصي الرجوع فيها ونقضها أو الرجوع في بعضها؛ لقول عمر: "يغير الرجل ما شاء في وصيته"، وهذا متفق عليه بين أهل العلم، فإذا قال: رجعت في وصيتي، أو: أبطلتها.. ونحو ذلك؛ بطلت؛ لما سبق من أن الاعتبار بحالة موت الموصي من حيث القبول ولزوم الوصية؛ فكذلك للموصي أن يرجع عنها في حياته، فلو قال: إن قدم زيد؛ فله ما وصيت به لعمرو.
فقدم زيد في حياة الموصي؛ فالوصية له، ويكون الموصي بذلك قد رجع عن الوصية لعمرو، وإن لم يقدم زيد إلا بعد وفاة الموصي؛ فالوصية لعمرو؛ لأنه لما مات الموصي قبل قدومه استقرت الوصية للأول وهو عمرو.
ومن أحكام الوصية: أنه يخرج الواجب في تركة الميت من الديون والواجبات الشرعية كالزكاة والحج والنذور والكفارات أولاً، وإن لم يوص به؛ لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ}.
ولقول علي رضي الله عنه: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدين قبل الوصية" رواه الترمذي وأحمد وغيره، فدل على تقديم الدين على الوصية، وفي "الصحيح": ((اقضوا الله؛ فالله أحق بالوفاء))، فيبدأ بالدين ثم الوصية، ثم الإرث؛ بالإجماع.
والحكمة في تقديم ذكر الوصية على الدين في الآية الكريمة، وإن كانت تتأخر عنه في التنفيذ: أنها لما أشبهت الميراث في كونها بلا عوض؛ كان في إخراجها مشقة على الوارث، فقدمت في الذكر؛ حثا على إخراجها، واهتماما بها، وجيء بكلمة "أو" التي للتسوية، فيستويان في الاهتمام، وإن كان الدين مقدما عليها.
ومن هنا؛ فإن أمر الوصية مهم، حيث نوه الله بشأنها في كتابه
الكريم، وقدمها في الذكر على غيرها؛ اهتماما بها، وحثا على تنفيذها، ما دامت تتمشى على الوجه المشروع، وقد توعد الله من تساهل بشأنها أو غيَّر فيها وبدل من غير مسوٍّغ شرعي، فقال سبحانه: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
قال الإمام الشوكاني في تفسيره: "والتبديل التغيير، وهذا وعيد لمن غير الوصية المطابقة للحق التي لا جنف فيها ولا مضارة، وأنه يبوء بالإثم، وليس على الموصي من ذلك شيء؛ فقد تخلص مما كان عليه بالوصية به.." انتهى.
[الملخص الفقهي:2/216-223]